سورة النّمل

مكية

وآياتها ثلاث وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(طس) : هذا أحد الحروف المقطّعة ، يقرأ : طا. سين.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن.

(هُدىً وَبُشْرى) : أي أعلام هداية للصراط المستقيم ، وبشارة للمهتدين.

(زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) : أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء.

(فَهُمْ يَعْمَهُونَ) : في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهى.

(لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) : أي في الدنيا بالأسر والقتل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (طس) لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة : الله أعلم بمراده بذلك ، وهذه أسلم ، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من

الاشارة بتلك أو بذلك ، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به منزله عزوجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه.

وقوله (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) (١) أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن (وَكِتابٍ مُبِينٍ) (٢) أي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة.

وقوله : (هُدىً وَبُشْرى (٣) لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هاد إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين ، (وَبُشْرى) أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به ، (الَّذِينَ يُقِيمُونَ (٤) الصَّلاةَ) بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عند وجوبها عليهم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ) بوجودها والمصير إليها ، وبما فيها من حساب وجزاء.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد ، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث وأصبح لا يرهب حسابا ولا يخاف عقابا انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح (فَهُمْ) لذلك (يَعْمَهُونَ) في سلوكهم يتخبطون لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.

وقوله تعالى : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي في الدنيا بالأسر والقتل ، وهم في الآخرة (٥) هم الأكثر خسارا من سائر أهل النار أي أشد عذابا.

__________________

(١) عرّف الكتاب ونكّر القرآن وهما في معنى المعرفة كما يقال : فلان رجل عاقل ، وفلان الرجل العاقل ، والكتاب هو القرآن فجمع له صفتان تفخيما وتعظيما فهو قرآن وهو كتاب ، والكتاب : علم على القرآن بالغلبة ، والقرآن علم بالنقل.

(٢) (مُبِينٍ) إن كان من أبان اللازم فهو بمعنى بان أي : فهو ظاهر واضح بيّن في نفسه وفي هذا تنويه وتشريف له ، وإن كان من أبان المتعدي فهو مبيّن لما أريد منه من أركان العقيدة وأنواع العبادات وأحكام الشريعة وآدابها.

(٣) (هُدىً وَبُشْرى) : حال ، والاعراب مقدر اشار إلى القرآن حال كونه هاديا ومبشرا للمؤمنين به العاملين بما فيه من الشرائع والأحكام والآداب والآخلاق.

(٤) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الموصول وصلته وما عطف عليه نعت للمؤمنين وصف لهم بما تضمنه لفظ الهدى ، وجملة : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) معطوفة على صلة الموصول فهي نعت ثان للمؤمنين الذين هدوا بالقرآن.

(٥) قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة موقع جواب عن سؤال تقديره : إذا كان القرآن هاديا ومبشرا فما للذين لا يؤمنون بالآخرة لم يهتدوا؟ فالجواب : إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّن الله لهم أعمالهم لذا فهم لا يهتدون ، وتزيين الأعمال قائم على سنة من سنن الله تعالى وهي أنّ من رفض الحق وآثر الباطل عليه وأصرّ على اختيار الباطل يحرم الهداية فلا يقبلها ممن جاءه بها كالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس ، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله.

٢ ـ بيان كون القرآن ، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإيمان.

٣ ـ إنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالا من الكلاب والخنازير

٤ ـ وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسرا وقتلا حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى) : أي تلقنه وتحفظه وتعلمه.

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) : أي من عند حكيم عليم هو الله جل جلاله.

(آنَسْتُ ناراً) : أي أبصرت نارا من بعد حصل لي بها بعض الأنس.

(سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) : أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحراء.

(بِشِهابٍ قَبَسٍ) : أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) : أي تستدفئون.

(أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) : أي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه‌السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها.

(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات المحدثين.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) : أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك.

(تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) : أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة.

(وَلَمْ يُعَقِّبْ) : أي ولم يرجع إليها خوفا وفزعا منها.

(ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) : أي تاب فعمل صالحا بعد الذي حصل منه من السوء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى (١) الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) يخبر تعالى رسوله بأنّه يلقّن القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.

وقوله تعالى (إِذْ قالَ مُوسى) اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث ، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى. والجواب : لا إذا فأنت رسول الله حقا وصدقا (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) امرأته وأولاده (إِنِّي آنَسْتُ (٢) ناراً) أي أبصرتها مستأنسا بها. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ (٣) بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ (٤) تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم.

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية بسط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه وهو كما قال.

(٢) (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرتها من بعد قال الشاعر :

آنست نبأة وأفرز عنها

القناص عصرا وقد دنا الإمساء

(٣) قرأ عاصم (بِشِهابٍ قَبَسٍ) بتنوين شهاب ، وقرأ نافع بشهاب بلا تنوين مضاف إلى قبس ، والاضافة للنوع كثوب خزّ وخاتم فضة.

(٤) الاصطلاء : الاستدفاء من البرد ، قال الشاعر :

النار فاكهة الشتاء فمن يرد

أكل الفواكه شاتيا فليصطل

وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَها) أي النار (نُودِيَ) (١) أي ناداه ربه تعالى قائلا : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي تقدس من في النار التي هي نور الله جل جلاله. وهو موسى عليه‌السلام ومن حولها من أرض القدس والشام ، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم ، وقوله تعالى (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبير وتصريف ملكه بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه ، أمره أن يلقي العصا تمرينا له على استعمالها فقال (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فاهتزت كأنها جان أي حية خفيفة السرعة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى) (٢) (مُدْبِراً) أي رجع القهقرى فزعا وخوفا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع إليها خوفا منها فناداه ربه تعالى (يا مُوسى (٣) لا تَخَفْ) من حية ولا من غيرها (إِنِّي لا يَخافُ (٤) لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (إِلَّا (٥) مَنْ ظَلَمَ) أي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وارحمه. طمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعرا بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته ، وإن كان القتل خطأ إلا أنّه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء.

٣ ـ قيومية الرجل على النساء والأطفال.

__________________

(١) عن وهب بن منبّه قال : فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها : العليق فعجب منها ... (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها).

(٢) أي : خائفا على عادة البشر.

(٣) الاستثناء منقطع أي : لكن يخاف من ظلم ، ومن ظلم ثم تاب فلا يخاف أيضا فإن الله غفور رحيم.

(٤) هذا مقول قول أي : يا موسى لا تخف.

(٥) الجملة تعليل للنهي في قوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ).

٤ ـ تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد.

٥ ـ الظلم يسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

شرح الكلمات :

(فِي جَيْبِكَ) : أي جيب ثوبك.

(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي برص ونحوه بل هو (البياض) شعاع

(فِي تِسْعِ آياتٍ) : أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون.

(مُبْصِرَةً) : مضيئة واضحة مشرقة.

(وَجَحَدُوا بِها) : أي لم يقروا ولم يعترفوا بها.

(وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) : أي أيقنوا أنها من عند الله.

(ظُلْماً وَعُلُوًّا) : أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عزوجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبرا ولم يعقب خائفا فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال (وَأَدْخِلْ (١) يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في جيب القميص (تَخْرُجْ (٢) بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص بل هو

__________________

(١) هذا الكلام معطوف على قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) وما بينهما اعتراض.

(٢) هذه آية أخرى غير الأولى.

بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار في تسع (١) آيات أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون وقومه ، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ (٢) آياتُنا) يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته ، رفضوها فلم يؤمنوا بها ، (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، أي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلما وعلوا أي حملهم على التكذيب والإنكار مع العلم هو ظلمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون. وقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ (٣) كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر يا رسولنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه‌السلام دليلا على وجود الآيات التى كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر.

٢ ـ التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين.

٣ ـ الكبر والعلو في الأرض صاحبهما يجحد الحق ولا يقربه وهو يعلم أنه حق.

٤ ـ عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوءى ، والعياذ بالله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)

__________________

(١) التسع آيات هي : العصا ، واليد ، والطوفان والجراد والقمّل ، والضفادع والدم ، والقحط ، وانفلاق البحر ، وهو من أعظمها.

(٢) (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) الخ أوجز بقية القصة وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه بالآيات ليعتبر بذلك كفار قريش المكذبون بآيات الله ورسوله.

(٣) الخطاب لغير معيّن ويجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له وحملا له على الصبر من تكذيب قومه له وإصرارهم على الكفر به.

وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

شرح الكلمات :

(عِلْماً) : هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه.

(وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي شكرا له.

(عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) : أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده.

(عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) : أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت.

(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ) : أي جمع له جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له.

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام.

(لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) : أي لا يكسرنكم ويقتلنكم.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أي بكم.

(أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ) : أي ألهمني ووفقني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما‌السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمدا ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه‌السلام ثم ذكر دليلا آخر وهو قصة داوود وسليمان ، فقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا داوود وسليمان (عِلْماً) أي الوالد والولد علما خاصا كمعرفة منطق الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء (١) ، وقوله تعالى (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي شكرا ربهما بقولهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٥) وأما الآية الثانية (١٦) فقد أخبر تعالى فيها أنّ سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده (٢) وذلك في النبوة والملك ، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير ، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة (٣). كما أخبر أن سليمان قال في الناس (٤) (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ (٥) الطَّيْرِ) فما يصفر طير الا علم ما يقوله في صفيره ، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي فضل الله تعالى البين الظاهر. وقوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له جنوده (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي جنوده توزع تساق بانتظام. بحيث لا يتقدم بعضها بعضا فيرد دائما أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير ، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قالت هذا

__________________

(١) وآتى داود الزبور وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله وأن نعمة العلم من أجّل النعم وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من المؤمنين.

(٢) قيل : إنّ داود كان له تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوّته وملكه ولو كان وارثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء والزمن بين سليمان ونبينا كان قرابة ألف وثمانمائة سنة.

(٣) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة) حديث صحيح.

(٤) أي : في بني اسرائيل قال هذا على جهة الشكر لنعم الله تعالى.

(٥) مما يؤثر عن سليمان عليه‌السلام في معرفة منطق الطير : (لدوا للموت وابنوا للخراب) «لورشان» نوع من الحمام البري أكدر (ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لما ذا خلقوا) «لفاختة» نوع من الحمام البري له طوق (من لا يرحم لا يرحم) «لهدهد» (استغفروا الله يا مذنبين) «لصرد» (قدموا خيرا تجدوه) «لخطافة» (اللهم العن العشار) «للغراب» (كل شيء هالك إلا وجهه) «للحدأة» (من سكت سلم) «للقطاة» (ويل لمن الدنيا همه) «للقطاة» (سبحان ربي القدوس) «للضفدع» (اذكروا الله يا غافلين) «للديك».

رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانوا يعلمون ، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم. وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها (١) حتى تبسم ضاحكا من قولها (وَقالَ رَبِ) أي يا رب (أَوْزِعْنِي) (٢) ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ (٣) الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي ويسر لي عملا صالحا ترضاه مني ، (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي في جملتهم في دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الشكر على النعم.

٢ ـ وراثة سليمان لداوود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك.

٣ ـ آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له.

٤ ـ فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح النملة لأخواتها وشفقتها عليهن.

٥ ـ ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجبا منه.

٦ ـ وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عزوجل.

٧ ـ تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له إلا بالوحي الإلهي.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ

__________________

(١) قد اختلف في هل كان سليمان يعلم غير منطق الطير من سائر الحيوان ، والذي عليه الأكثر أنه كان يعلم أصوات سائر الحيوانات ومن ذلك النمل ، قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم ، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم من النبات فكان الشجر يقول له : أنا شجر كذا أنفع من كذا وأضر من كذا فما ظنك بالحيوان؟

(٢) الوزع : الكف عما لا يراد ، والوازع : الذي يكفّ غيره عما لا ينبغي ، وفعله : وزع يزع وزعا ، فإذا زيدت فيه همزة السلب فقيل : أوزع أي : أزال الوزع الذي هو الكف ، فقوله في الآية : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يكفون أفراد القوات عن التقدم والتأخر حتى يكون السير منتظما. وقوله : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي : أبعد عني ما يمنعني من شكرك على نعمك. فصار أوزعني كألهمني وأغرني.

(٣) قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وقال بعضهم : النعمة وحشيّة قيدوها بالشكر فإنها إذا شكرت قرّت وإذا كفرت فرّت ، وقال آخر : من لم يشكر النعمة فقد عرضها لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.

أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) : أي تعهدها ونظر فيها.

(ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) : أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) : أي بنتف ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام.

(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة واضحة على عذره في غيبته.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) : أي قليلا من الزمن وجاء سليمان متواضعا.

(أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) : أي اطلعت على ما لم تطلع عليه.

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) : سبأ قبيلة من قبائل اليمن.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) : هي بلقيس الملكة.

(وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) : أي سرير كبير.

(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : أي طريق الحق والهدى.

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) : أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون ان يسجدوا لله.

وزيدت فيها «لا» وأدغمت فيها النون فصارت ألّا نظيرها لئلا يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد.

(يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ) : أي المخبوء في السموات من الأمطار والأرض من النباتات والأرض

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه‌السلام قوله تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) (١) أي تفقد سليمان جنده من الطير طالبا الهدهد لأمر عنّ له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة ، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (٢) ألعارض عرض لي فلم أره ، (أَمْ (٣) كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي بل كان من الغائبين ، (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تأكله فلا يمتنع منها (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بقطع حلقومه ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة على سبب غيبته. قوله تعالى الآية (٢٢) (فَمَكَثَ) أي الهدهد (غَيْرَ (٤) بَعِيدٍ) أي زمنا قليلا ، وجاء فقال في تواضع رافعا عنقه مرخيا ذنبه وجناحيه (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه (وَجِئْتُكَ مِنْ (٥) سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وسبأ قبيلة من قبائل اليمن ، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه. وأخذ يبين محتوى الخبر فقال (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) هي بلقيس (تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من أسباب القوة ومظاهر الملك ، (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب ، وقوله (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أخبر أولا عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانيا عن أحوالهم الدينية وقوله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي الباطلة الشركية (فَصَدَّهُمْ) بذلك (عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا (٦) لله الذي يخرج الخبء (٧) أي المخبوء فهو

__________________

(١) (تَفَقَّدَ) بمعنى بحث عن الفقد أي : عدم الوجود أو بحث عن سبب عدم الوجود.

(٢) من خواص الهدهد أنه يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء ، ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله مع ثلاثة وهي : (الضفدع ، والنحل ، والصرد) أخرجه أبو داود وصححه. ونهى عن قتل النمل إلا أن يضرّ ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل.

(٣) (أَمْ) هي المنقطعة التي بمعنى : بل ، ولا تخلو من معنى الاستفهام إذ التقدير : بل أكان من الغائبين.

(٤) أي : مكث في غيابه زمنا غير بعيد أو في مكان غير بعيد.

(٥) اسم رجل هو : غبشمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، لقب بسبأ لأنه أول من سبى في غزوه ، وأطلق هنا سبأ على ديار قبيلة سبأ لأنّ من ابتدائية أي لابتداء الأمكنة غالبا.

(٦) (أَلَّا يَسْجُدُوا) أصلها أن لا يسجدوا فأدغمت أن في لا النافية فصارت ألا ، والمضارع منصوب بأن المدغمة في لا ، ولذا تعيّن تقدير لام جرّ يتعلق ب (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم لأجل أن لا يسجدوا. وما في التفسير من التقدير أوضح أيضا.

(٧) الخبء : مصدر خبأ الشيء : إذا أخفاه ، أطلق على اسم المفعول أي : المخبوء من أجل المبالغة في الإخفاء.

من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في السموات من أمطار والأرض من نباتات ، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفوسهم ، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله هو رب العرش العظيم. وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به ، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية.

٢ ـ مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي.

٣ ـ مشروعية اتخاذ طائرات الاستشكاف ودراسة جغرافية العالم.

٤ ـ تحقيق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان.

٥ ـ بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة.

٦ ـ بيان أن الأحق بالعبادة الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

٧ ـ مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) : أي بعد اختبارنا لك.

(فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) : أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم.

(ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي تنح جانبا متواريا مستترا عنهم.

(فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) : أي ما ذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) : أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها.

(أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) : أي ألقاه في حجرها الهدهد.

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) : أي لا تتكبروا انقيادا للنفس والهوى.

(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : أي منقادين خاضعين.

معنى الآيات :

(قالَ سَنَنْظُرُ) (١) أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته (٢) على غيبته سننظر باختبارنا لك (أَصَدَقْتَ) فيما ادعيت وقلت (أَمْ كُنْتَ (٣) مِنَ الْكاذِبِينَ) أي من جملتهم. وبدأ اختباره فكتب كتابا وختمه وقال له (اذْهَبْ بِكِتابِي) (٤) (هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح جانبا مختفيا عنهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه ، وفعلا ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) مخاطبة أشراف قومها (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة ، ولأنه مختوم وختم الكتاب كرمه ونصّ الكتاب كالتالي [من عبد الله سليمان بن داوود إلى

__________________

(١) من الجائز أن يكون سليمان قد خشي أن يكون الكلام الذي سمعه من الهدهد ألقى به الشيطان على الهدهد ليضلل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ، فلذا قال عليه‌السلام (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

(٢) في الآية دليل على أن الحاكم يجب عليه أن يقبل عذر المواطن ويدرأ العقوبة عنه بظاهر حاله وباطن عذره ، وفي الصحيح : (ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) وللحاكم أن يمتحن المواطن المعتذر حتى يعرف عذره.

(٣) (أَمْ كُنْتَ) بمعنى : أنت.

(٤) في الآية دليل على وجوب إرسال الكتب إلى المشركين ودعوتهم إلى الإسلام وتبليغهم دعوة الله عزوجل ، وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر وكسرى والمقوقس وغيرهم.

بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السّلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي واتوني مسلمين].

ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها : (إِنَّهُ مِنْ (١) سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه ألا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وائتوني مسلمين أي خاضعين منقادين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم.

٢ ـ مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم.

٣ ـ مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده.

٤ ـ مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات (٢) البال لدلالتها على توحيد الله تعالى وأنه رحمن رحيم ، وأنّ الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

__________________

(١) قال القرطبي : الأحسن اليوم بأن يقدّم في الكتاب اسم المكتوب إليه قبل اسم الكاتب لأن البداية باسمه تعد استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ، ومراده أن يكتب الكاتب هكذا إلى حضرة فلان ... من فلان ... وتقديم اسم الكاتب هو ما عليه السلف الصالح.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السّلام ولا يسقط إلّا من عذر لا سيما إذا سلّم صاحب الكتاب فإن رد السّلام واجب بلا خلاف.

شرح الكلمات :

(أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) : بينوا لي فيه وجه الصواب ، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه.

(ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) : أي قاضيته.

(حَتَّى تَشْهَدُونِ) : أي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه.

(وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أي أصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب بأس شديد في الحروب.

(إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) : أي مدينة وعاصمة ملك.

(أَفْسَدُوها) : أي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة.

(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) : أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي (١) فِي أَمْرِي) أي أشيروا علي بما ترونه صالحا (ما كُنْتُ قاطِعَةً (٢) أَمْراً) أي قاضية باتّة فيه (حَتَّى (٣) تَشْهَدُونِ) أي تحضرونى وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) عسكرية من سلاح وعتاد وخبرة (وَأُولُوا بَأْسٍ (٤) شَدِيدٍ) عند خوضنا المعارك (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي (٥) ما ذا تَأْمُرِينَ) به فأمري ننفّذ إنا طوع يديك.

فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي مدينة عنوة بدون صلح. (أَفْسَدُوها) أي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها ، (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم. (وَكَذلِكَ) أصحاب هذا الكتاب (يَفْعَلُونَ) (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ (٦) بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي الذين نرسلهم من

__________________

(١) الإفتاء : الإخبار بالفتوى وهي : إزالة مشكل يعرض ، والأمر : الحال المهم وإضافته إلى نفسها ، لأنها المخاطبة في كتاب سليمان ، ولأنها المضطلعة بشؤون الدولة ولذا يقال للحاكم وعالم الدين : وليّ الأمر.

(٢) (قاطِعَةً أَمْراً) عاملة عملا لا تردد فيه بالعزم على أن تجيب به سليمان.

(٣) حذفت ياء المتكلم منه تخفيفا ، وحذفت نون الرفع للناصب وبقيت نون الوقاية والمراد من شهودهم : موافقتهم لها على ما تعزم عليه إزاء الكتاب.

(٤) البأس : الشدة على العدو ، ومنه (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : في مواقع القتال في جوابهم هذا تصريح بأنهم مستعدون للحرب دفاعا عن مملكتهم.

(٥) فوّضوا الأمر إليها لثقتهم بأصالة رأيها وخبرتها السياسية.

(٦) دبرت أن تتفادى الحرب بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بالهدية مصحوبة بكتاب ووفد ، وعلى ضوء عودة الوفد تتصرف في الأمر.

قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم أصحاب دنيا ، وإن رفضوها فهم أصحاب دين ، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم ، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ الشورى في الحكم.

٢ ـ مشروعية إبداء الرأي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله.

٣ ـ مشروعية إعداد العدة وتوفير السلاح وتدرب الرجال على حمله واستعماله.

٤ ـ دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة.

٥ ـ بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

شرح الكلمات :

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) : أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه.

(فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) : إنه أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط.

(بِهَدِيَّتِكُمْ (١) تَفْرَحُونَ) : لحبكم للدنيا ورغبتكم في زخارفها.

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) : أي بما أتيت به من الهدية.

(بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) : أي لا طاقة لهم بقتالها.

(وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) : أي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ.

(أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) : أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين.

(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : فإنّ لي أخذه قبل مجئيهم مسلمين لا بعده.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) : أي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفريت.

(قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) : أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر.

(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) : أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) : أي سليمان عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع سليمان وملكة سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين ، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه‌السلام ، فلما جاء سليمان ، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (قالَ أَتُمِدُّونَنِ (٢) بِمالٍ؟ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ (٣) تَفْرَحُونَ) وذلك لحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها. وقال لرسول الملكة (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي بما أتيت به من الهدية ، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) (٤) أي لا قدرة لهم على قتالهم ، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي من مدينتهم سبأ (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أي خاضعون منقادون. ثم قال سليمان عليه‌السلام لأشراف دولته

__________________

(١) الهدية : منها ما هو حرام ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو مباح أو مندوب ، فالهدية الحرام : التي تهدى للحكام والقضاة ليحكموا لصاحبها والهدية المكروهة : هدية الكافر والهدية المباحة أو المندوب إليها : هدية المؤمن لأخيه المؤمن للمودة والحب ، لحديث مالك وفيه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) الشحناء العداوة والبغضاء.

(٢) أي : أتزيدونني إلى ما تشاهدونه من أموالي ، والاستفهام للإنكار وقرأ الجمهور : (أَتُمِدُّونَنِ) بنونين. وقرأ بعض بنون واحدة مشددة.

(٣) (بَلْ) للاضراب الانتقالي من الإنكار عليهم إلى ردّ هديتهم إليهم.

(٤) الضمير في (بِها) عائد على الجنود والضمير في (مِنْها) عائد إلى مدينتهم وهي مأرب أو سبأ على مراحل قليلة من صنعاء.

وأعيان بلاده (يا أَيُّهَا (١) الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإني لا آخذه إلا قبل مجئيهم مسلمين لا بعده. فنطق (عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) قائلا بما أخبر تعالى عنه به (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار ، (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قادر على حمله والإتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء. وهنا (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (٢) وهو سليمان عليه‌السلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فافتح عينيك وانظر فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك ، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا) بين يديه لهج قائلا (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي علي فلم يكن لي به يد أبدا (لِيَبْلُوَنِي) بذلك (أَأَشْكُرُ) نعمته علي (أَمْ أَكْفُرُ) ها (وَمَنْ شَكَرَ) (٣) فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ومن كفر أي النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) أي عن شكره وليس مفتقرا إليه ، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أهل الآخرة لا يفرحون بالدنيا ، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة.

٢ ـ استعمال أسلوب الإرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق.

٣ ـ تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في أصعب الأمور.

٤ ـ استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن إلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر.

٥ ـ وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة ، وأبطالنا البواسل.

٦ ـ وجوب الشكر ، وعائدته تعود على الشاكر فقط ، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها وذلك لحلمه تعالى وكرمه.

__________________

(١) هذا استئناف ابتدائي أي : كلام غير مرتبط بما سبقه بنوع من الارتباط قريب.

(٢) قال القرطبي : جمهور المفسرين : أن الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن بريخا وقيل : هو سليمان عليه‌السلام ، بقرينة قوله : هذا من فضل ربي ، قال ابن عطية وقالت فرقة وهو سليمان عليه‌السلام. والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وكأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على وجه التحقير أنا آتيك به ... الخ. قيل : يا حي يا قيوم : هو الاسم الأعظم.

(٣) الشكر : قيد النعمة الموجودة وبه تنال النعمة المفقودة.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) : أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة.

(أَتَهْتَدِي) : أي إلى معرفته

(أَهكَذا عَرْشُكِ) : شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشك لقالت نعم.

(قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) : فشبّهت عليه فقالت كأنه هو.

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله.

(ادْخُلِي الصَّرْحَ) : أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بركة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء.

(وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) : ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها.

(حَسِبَتْهُ لُجَّةً) : أي من ماء غمر يجري.

(صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) : أي مملّس من زجاج.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه‌السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيّما احتياط. إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب ، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف (١) فأمر رجاله أن يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف إلا بصعوبة كما قال عليه‌السلام (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفته (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) لضعف عقولهم. فلما جاءت قيل لها (أَهكَذا (٢) عَرْشُكِ) فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير ، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم (قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) إذ لو قالت : هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ (٣) مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التى قالها.

وقوله (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) اتباعا لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها ، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها أسماك كثيرة وللماء موج ، وسقف البركة مملس من زجاج ، ومع سليمان جنوده من الإنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح (٤) لأن سليمان الملك يدعوها (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء (وَكَشَفَتْ عَنْ (٥) ساقَيْها) فقال لها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئا

__________________

(١) قيل : إن الجن قالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل فلذا أمر بتنكير عرشها ليختبر عقلها ، وقالوا له : إن رجلها كرجل حمار فلذا امتحنها بدخول بهو الصرح لتكشف عن ساقها فيعرف ما قالت الجن عنها.

(٢) الاستفهام للتقرير مع الاختبار وهو المقصود.

(٣) اختلف هل قول : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من قول سليمان أو أحد رجالاته أو هو من قول بلقيس ، والراجح أنه من قول سليمان عليه‌السلام.

(٤) (الصرح) البناء العالي : تقدم أن الجن هم الذين قالوا لسليمان إن رجل بلقيس رجل حمار وطلبوا اختبارها وهم الذين صنعوا بركة الماء في بهو الصرح.

(٥) ذكر القرطبي هنا حكايات أكثرها منقول عن أهل الكتاب منها : أن الجن أول من صنعوا النورة لإزالة شعر الجسم ، وأن سليمان عليه‌السلام أول من صنع الحمامات ، وهذا يرفع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر قولين أحدهما أن سليمان تزوج بلقيس وآخر : لم يتزوجها.

فلنسكت عما سكت عنه القرآن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز اختبار الأفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية.

٢ ـ بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها (كَأَنَّهُ هُوَ).

٣ ـ مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكر للعقل والمنطق.

حرمة كشف المرأة ساقيها حتى ولو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة.

٥ ـ فضيلة الإئتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : أي بأن اعبدوا الله.

(فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) : أي طائفتان مؤمنة موحدة وكافرة مشركة يختصمون.

(تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي تطالبون بالعذاب قبل الرحمة.

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) : أي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بتوبتكم إليه.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ) : أي تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين.

(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) : أي تختبرون بالخير والشر.

(تِسْعَةُ رَهْطٍ) : أي تسعة رجال ظلمة.

(تَقاسَمُوا بِاللهِ) : أي تحالفوا بالله أي طلب كل واحد من الثاني أن يحلف له.

(لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) : أي لنقتلنه والمؤمنين به ليلا.

(ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) : أي ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) هذا بداية قصص صالح عليه‌السلام مع قومه ثمود لما ذكر تعالى قصص سليمان مع بلقيس ذكر قصص صالح مع ثمود وذلك تقريرا لنبوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضع المشركين من قريش أمام أحداث تاريخية تمثل حالهم مع نبيهم لعلهم يذكرون فيؤمنوا قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي قبيلة ثمود (أَخاهُمْ) أي في النسب (صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا) أي قال لهم اعبدوا الله أي وحدوه (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) موحدون ومشركون (يَخْتَصِمُونَ) (١) فريق يدعو إلى عبادة الله وحده وفريق يدعو إلى عبادة الأوثان مع الله وشأن التعارض أن يحدث التخاصم كل فريق يريد أن يخصم الفريق الآخر. وطالبوا صالحا بالآيات (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك رسول إلينا مثل الرسل فرد عليهم وقال (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ (٢) بِالسَّيِّئَةِ) أي تطالبونني بعذابكم (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) فالمفروض أن تطالبوا بالحسنة التي هي الرحمة لا السيئة التي هي العذاب. إن كفركم ومعاصيكم هي سبيل عذابكم ، كما أن إيمانكم وطاعتكم هي سبيل نجاتكم وسعادتكم فبادروا بالإيمان والطاعة طلبا لحسنة الدنيا والآخرة. إنكم بكفركم ومعاصيكم تستعجلون عذابكم (لَوْ لا) (٣) أي هلا

__________________

(١) من الخصومة ما قصه الله تعالى في سورة الأعراف في قوله : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

(٢) الاستفهام إنكاري ، و (السيئة كالحسنة) صفة لمحذوف ، والتقدير لم تستعجلون بالحال السيئة قبل الحال الحسنة؟

(٣) (هلا) أداة تحضيض حضهم نبيهم على التوبة بالاستغفار والاقلاع عن الشرك والمعاصي رجاء أن يرحمهم‌الله تعالى فلا يعذبهم في الدنيا ولا في الآخرة.

(تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) بترككم الشرك والمعاصي (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي كي ترحموا بعد هذا الوعظ والإرشاد. كان جواب القوم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا اطَّيَّرْنا (١) بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشاءمنا بك وبأتباعك المؤمنين لك ، فرد عليهم بقوله (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه وهو كائن لا محالة ، وليست القضية تشاؤما ولا تيامنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) وقوله تعالى (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي مدينة الحجر حجر ثمود تسعة رجال (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) (٢) بالكفر والمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) وهم الذين تمالؤوا على عقر الناقة ومن بينهم قدار بن سالف الذي تولى عقر الناقة. هؤلاء التسعة نفر قالوا لبعضهم بعضا في اجتماع خاص (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي ليقسم كل واحد منكم قائلا والله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي صالحا (وَأَهْلَهُ) أي أتباعه ، أي لنأتينهم ليلا فنقتلهم ، ثم في الصباح (لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي لولي دم صالح من أقربائه ، والله (ما شَهِدْنا (٣) مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ولا مهلكه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقسم عليه من أنا لم نشهد مهلك صالح ولا مهلك أصحابه.

هداية الآيات

هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل.

٣ ـ حرمة التشاؤم والتيامن كذلك ، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير.

٤ ـ العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض ، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض.

٥ ـ تقرير أن المشركين يؤمنون بالله ولذا يحلفون به ، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته.

__________________

(١) كانت العرب أكثر الناس تطيرا و (اطَّيَّرْنا) في الآية أصلها : تطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجها من الطاء وأدغمت في الطاء ، وجيء بهمزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ، والتطير معناه : التشاؤم وهو مأخود من الطير تطير يمينا أو شمالا فيتيمنون بذلك أو يتشاءمون.

(٢) الأرض : أرض ثمود وأل فيها : للعهد والرهط : العدد من الثلاثة إلى العشر كالنفر ومن بين هؤلاء : قدار بن سالف : عاقر الناقة.

(٣) قرأ الجمهور مهلك بضم الميم ، وقرأ حفص (مَهْلِكَ) بفتحها ، والمهلك : مصدر ميميّ من الرباعي أهلك ، أي : ما شهدنا إهلاك من أهلكهم والمراد من وليّه : ولىّ الدم من عصبته. قرأ الجمهور : لنبيّتنه وأهله ثم لنقولن ، وقرأ خلاف الجمهور : لتبيتنه ولتقولنّ بتاء الخطاب وهو قول الماكرين لبعضهم البعض ، والمعنى لا يختلف.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(وَمَكَرُوا مَكْراً) : أي دبروا طريقة خفية لقتل صالح والمؤمنين.

(وَمَكَرْنا مَكْراً) : أي ودبرنا طريقة خفية لنجاة صالح والمؤمنين وإهلاك الظالمين.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : بأنا ندبر لهم طريق هلاكهم.

(بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) : أي فارغة ليس فيها أحد.

(بِما ظَلَمُوا) : أي بسبب ظلمهم وهو الشرك والمعاصي.

(لَآيَةً) : أي عبرة.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي صالحا والمؤمنين.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَمَكَرُوا مَكْراً) (١) هذا نهاية قصص صالح مع ثمود تقدم أن تسعة رهط من قوم صالح تقاسموا على تبييت صالح والمؤمنين وقتلهم ليلا ليحولوا في نظرهم دون وقوع العذاب الذي واعدهم به صالح وأنه نازل بهم بعد ثلاثة أيام ، وهذا مكرهم وطريقة تنفيذه أنهم أتوا صالحا وهو يصلي في مسجد له تحت الجبل فسقطت عليهم صخرة من الجبل فأهلكتهم أجمعين وهكذا مكر الله بهم وهم لا يشعرون به ، ثم أهلك الله القوم كلهم

__________________

(١) أكد كلّ من مكر الله تعالى ومكرهم بالمصدر إشارة إلى تعظيم كل من المكرين والمكر : التبيّيت الخفي لإرادة السوء بالممكور به فعاملهم الله تعالى بما عزموا على فعله مع صالح وأهله.

بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهو معنى قوله تعالى (فَانْظُرْ (١) كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) أي انظر يا رسولنا كيف كانت نهاية ذلك المكر وعاقبته (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ (٢) وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ (٣) خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالشرك وظلمهم صالحا والمؤمنين. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الإهلاك للرهط التسعة ولثمود قاطبة (لَآيَةً) أي علامة على قدرة الله وعلمه وحسن تدبيره (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إذ هم الذين يرون الآية ويدركونها.

وقوله تعالى : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٤) يريد صالحا والمؤمنين الذين آمنوا بالله ربا وإلها وبصالح نبيا ورسولا. وكانوا طوال حياتهم يتقون عقاب الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

٢ ـ تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب فالظلم يذر الديار بلاقع.

٣ ـ تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة لأن ولاية الله للعبدتتم بهما.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

شرح الكلمات :

(وَلُوطاً) : أي واذكر لقومك لوطا إذ قال لقومه.

__________________

(١) النظر هنا : قلبي ليس بصريا لعدم وجود الهلكى بين يدي الناظر.

(٢) قرىء إنا بكسر الهمزة على الاستئناف البياني ، وقرىء : (أَنَّا) بفتح الهمزة ، فمن فتح الهمزة لا يحسن له الوقف على مكرهم ، ومن كسر الهمزة جاز له الوقف على مكرهم.

(٣) بيوتهم المنحوتة من الجبال ما زالت إلى اليوم ، وقد وقفنا عليها وهي عجب في فن البناء والنحت.

(٤) زيادة كان في قوله : (وَكانُوا يَتَّقُونَ) للدلالة على أنهم كانوا متمكّنين من التقوى التي هي فعل المأمور واجتناب الشرك والمنهي عنه من اعتقاد وقول وعمل وصفة.

(لِقَوْمِهِ) : هم سكان مدن عمورية وسدوم.

(الْفاحِشَةَ) : أي الخصلة القبيحة الشديدة القبح وهي اللواط.

(وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : إذ كانوا يأتونها في أنديتهم عيانا بلا ستر ولا حجاب.

(قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) : أي قبح ما تأتون وما يترتب عليه من خزي وعذاب.

معنى الآيتين :

هذا بداية قصص لوط عليه‌السلام مع قومه اللوطيين فقال تعالى (وَلُوطاً) (١) أي واذكر كما ذكرت صالحا وقومه اذكر لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) (٢) منكرا عليهم موبخا مؤنبا لهم على فعلتهم الشنعاء (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي قبحها وشناعتها ببصائركم وبأبصاركم حيث كانوا يأتونها علنا وعيانا وهم ينظرون وقوله (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ (٣) الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي لا للعفة والإحصان ولا للولد والإنجاب بل لقضاء الشهوة البهيمية فشأنكم شأن البهائم لا غير. وفي نفس الوقت آذيتم نساءكم حيث تركتم إتيانهن فهضمتم حقوقهن. وقوله تعالى (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٤) أي قال لهم لوط عليه‌السلام أي ما كان ذلك الشر والفساد منكم إلا لأنكم قوم سوء جهلة بما يجب عليكم لربكم من الإيمان والطاعة وما يترتب على الكفر والعصيان من العقاب والعذاب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه قوم لوط من الفساد والهبوط العقلي والخلقي.

٢ ـ تحريم فاحشة اللواط وأنها أقبح شيء وأن فاعلها أحط من البهائم.

٣ ـ بيان أن الجهل بالله تعالى وما يجب له من الطاعة ، وبما لديه من عذاب وما عنده من نعيم مقيم هو سبب كل شر في الأرض وفساد. ولذا كان الطريق إلى إصلاح البشر هو

__________________

(١) أي : اذكر لوطا أو : أرسلنا لوطا ، الكل محتمل وجائز.

(٢) هم أهل سدوم وعمورية.

(٣) أعاد ذكرها لفرط قبحها وشناعتها ، والاستفهام للإنكار والتقبيح لفعلتهم الشنعاء.

(٤) (تَجْهَلُونَ) : إمّا أمر التحريم أو العقوبة ، ووصفهم بالجهل ، وهو اسم جامع لأحوال أفن الرأي وقساوة القلب وعماه ، ووصفهم في الأعراف بالإسراف وذلك نظرا إلى تعدد مواقف الوعظ والإرشاد.

تعريفهم بالله تعالى حتى إذا عرفوه وآمنوا به أمكنهم أن يستقيموا في الحياة على منهج الإصلاح المهيء للسعادة والكمال.

الجزء العشرون

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي لم يكن لهم من جواب إلا قولهم أخرجوا.

(آلَ لُوطٍ) : هم لوط عليه‌السلام وامرأته المؤمنه وابنتاه.

(مِنْ قَرْيَتِكُمْ) : أي مدينتكم سدوم.

(يَتَطَهَّرُونَ) : أي يتنزهون عن الأقذار والأوساخ.

(قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) : أي حكمنا عليها أن تكون من الهالكين.

(فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) : أي قبح مطر المنذرين من أهل الجرائم أنه حجارة من سجيل.

معنى الآيات :

هذه بقية قصص لوط عليه‌السلام إنه بعد أن أنكر لوط عليه‌السلام على قومه فاحشة اللواط وأنّبهم عليها ، وقبّح فعلهم لها أجابوه مهددين له بالطرد والإبعاد من القرية كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله : فما كان جواب قومه أى لم يكن لهم من جواب يردون به على لوط عليه‌السلام (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي إلا قولهم (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ). وعللوا لقولهم هذا بقولهم (إِنَّهُمْ أُناسٌ (١) يَتَطَهَّرُونَ). أي يتنزهون عن الفواحش. قالوا هذا تهكما ، لا إقرارا منهم على أن الفاحشة قذر يجب التنزه عنه. ولما بلغ بهم الحد إلى تهديد نبي الله لوط عليه‌السلام بالطرد والسخرية منه أهلكهم الله تعالى وأنجى لوطا وأهله إلا إحدى امرأتيه وكانت عجوزا كافرة وهو معنى قوله تعالى في الآية (٥٧) (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢) حكمنا ببقائها مع الكافرين لتهلك معهم. وقوله تعالى في الآية (٥٨) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) هو بيان لكيفية إهلاك قوم لوط بأن

__________________

(١) أي : عن أدبار الرجال استهزاء منهم : قاله مجاهد ، وقال قتادة : عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء.

(٢) (مِنَ الْغابِرِينَ) قال ابن كثير : أي من الهالكين مع قومها لأنها كانت ردءا لهم على دينهم وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم.

أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود فأهلكهم. (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (١) أي قبح هذا المطر من مطر المنذرين الذين كذبوا بما أنذروا به وأصروا على الكفر والمعاصي. وهذا المطر كان بعد أن جعل الله عالي بلادهم سافلها ، أردف خسفها بمطر من حجارة لتصيب من كان بعيدا عن المدن.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة أن الظلمة إذا أعيتهم الحجج والبراهين يفزعون إلى القوة.

٢ ـ بيان سنة أن المرء إذا أدمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده.

٣ ـ سنة إنجاء الله أولياءه وإهلاكه أعداءه بعد إصرار المنذرين على الكفر والمعاصي.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ

__________________

(١) الذين قامت عليهم الحجة ووصل إليهم الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهمّوا بإخراجه من بينهم.

رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

شرح الكلمات :

(اصْطَفى) : أي اختارهم لحمل رسالته وإبلاغ دعوته.

(آللهُ خَيْرٌ) : أي لمن يعبده.

(حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) : أي بساتين ذات منظر حسن لخضرتها وأزهارها.

(يَعْدِلُونَ) : أي بربهم غيره من الأصنام والأوثان.

(جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) : أي قارة ثابتة لا تتحرك ولا تضطرب بسكانها.

(وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) : أي جعل الأنهار العذبة تتخللها للشرب والسقي.

(وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي جبالا أرساها بها حتى لا تتحرك ولا تميل.

(بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) : أي فاصلا لا يختلط أحدهما بالآخر.

(وَيَكْشِفُ السُّوءَ) : أي الضر ، المرض وغيره.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) : أي ما تتعظون إلا قليلا.

(بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : أي مبشرة بين يدي المطر إذ الرياح تتقدم ثم باقي المطر.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي يبدؤه في الأرحام ، ثم يعيده يوم القيامة.

(هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي حجتكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر فعل ما ذكر.

معنى الآيات :

لما أخبر الله تعالى رسوله بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين أمر تعالى رسوله أن يحمده على ذلك تعليما له ولأمته إذا تجددت لهم نعمة أن يحمدوا الله تعالى عليها ليكون ذلك من شكرها قال تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ (١) لِلَّهِ) أي الوصف بالجميل لله استحقاقا.

__________________

(١) قال بعضهم : المأمور بالحمد هنا : لوط عليه‌السلام ورد وهو الحق أن المأمور به هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَسَلامٌ (١) عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢) الله لرسالته وإبلاغ دعوته إلى عباده ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا على ذلك في الحياتين.

وقوله تعالى : (آللهُ (٣) خَيْرٌ أَمَّا (٤) يُشْرِكُونَ) أي آ الله الخالق الرازق المدبر القوى المنتقم من أعدائه المكرم لأوليائه ؛ عبادته خير لمن يعبده بها أم عبادة من يشركون. فقوله (أَمَّنْ (٥) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي لحاجتكم إليه غسلا وشربا وسقيا (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين محدقة بالجدران والحواجز (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي حسن وجمال ، (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي لم يكن فى استطاعتكم أن تنبتوا شجرها (أَ(٦) إِلهٌ مَعَ اللهِ) لا والله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يشركون بربهم أصناما ويسوّونها به في العبادات. وقوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (٧) أي قارة ثابتة لا تتحرك بسكانها ولا تضطرب بهم فيهلكوا. (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي فيما بينها. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا تثبتها ، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والملح (حاجِزاً) (٨) حتى لا يختلط الملح بالعذب فيفسده.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) والجواب : لا والله. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا لما أشركوا

__________________

(١) أصل السّلام : السلامة والأمن ثابتان لمن يسلم عليه عند ملاقاته إذ قد يكون بينهما إحن فكان لفظ السّلام كالعهد بالأمان ، وقيل : السّلام عليكم : كانت تحية البشر في عهد آدم عليه‌السلام.

(٢) قال بعضهم : الذين اصطفوا هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هم الصحابة وردّ هذا بما هو الحق وهو (أن الذين اصطفوا) هم : رسل الله عليهم‌السلام وفي الآية تعليم أدب رفيع وهو أن من افتتح كلامه مذكرا أو واعظا أو معلما دارسا يفتتح كلامه بحمد الله والصلاة والسّلام على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) (آللهُ) الاستفهام تقريري وهو إلجاء المخاطب إلى الإقرار ، وخير هنا : ليست بمعنى أفضل ، إذ لا خير البتة في آلهة المشركين وإنما من باب إيهام الخصم بأنه يعترف له بما يعتقده من خير في إلهه ، حتى يصغي ويسمع ويتأمل علّه يهتدي أو هو مثل قول الشاعر :

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

(٤) (أَمَّا) أصلها : أم المعادلة للهمزة وما : الموصولية أدغمت فيها أم فصارت أمّا والعائد محذوف تقديره : تشركونها ، أي آلهتهم بالله تعالى.

(٥) (أم) المنقطعة بمعنى بل للاضراب الانتقالي من الاستفهام التهكمي للاستفهام التقريري أي : الذي خلق السموات وما عطف عليها خير وأحق بالعبادة.

(٦) هذا استئناف كالنتيجة للكلام قبلها لأن إثبات الخلق والرزق لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه ، والاستفهام إنكاري أي : إنكار وجود إله مع الله الخالق الرازق والجواب : لا إله مع الله.

(٧) القرار : مصدر قرّ يقرّ قرارا الشيء : إذا سكن وثبت ، وصفت الأرض بالقرار مبالغة في سكونها وثباتها حيث لا تتحرك ولا تضطرب بأهلها على مدى الحياة في حين أنها سابحة في الفضاء متحركة فيه كل لحظة فسبحان الله العلي القدير العزيز الحكيم.

(٨) إنّ هذا الحاجز ليس جسما غير الماء إنما هو تفاوت الثقل النسبي لاختلاف أجزاء الماء المركب منها الماء المالح والماء العذب ، فالحاجز حاجز من طعميهما وليس جسما آخر فاصلا بينهما.

بالله مخلوقاته. وقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ (١) إِذا دَعاهُ) أي ليكشف ضره (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يبعده والسوء هو ما يسوء المرء من مرض وجوع وعطش وقحط وجدب. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) جعل جيلا يخلف جيلا وهكذا الموجود خلف لمن سلف وسيكون سلفا لمن خلف (أَإِلهٌ مَعَ (٢) اللهِ) والجواب لا إله مع الله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي ما تتعظون إلا قليلا بما تسمعون وترون من آيات الله.

وقوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في الليل بالنجوم وفي النهار بالعلامات الدالة والهادية إلى مقاصدكم (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي من يثير الرياح ويرسلها تتقدم المطر وتبشر به؟ لا أحد غير الله إذا ... أإله مع الله. والجواب : لا ، لا .. الله وحده الإله الحق وما عداه فباطل.

وقوله تعالى : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين أصناما لا تبدىء ولا تعيد ولا تخلق ولا ترزق ولا تعطي ولا تمنع. وقوله تعالى :(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي نطفا في الأرحام ، ثم بعد حياته يميته ، ثم يعيده وهو معنى (ثُمَّ يُعِيدُهُ).

(وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات. والجواب : الله إذا (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) والجواب : لا ، لا وإن قلتم هناك آلهة مع الله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حججكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن غير الله يفعل شيئا مما ذكر في هذا السياق الكريم.

هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله وشكره عند تجدد الشكر ، والحمد لله رأس الشكر.

٢ ـ مشروعية السّلام عند ذكر الأنبياء عليهم‌السلام فمن ذكر أحدهم قال عليه‌السلام.

٣ ـ التنديد بالشرك والمشركين.

٤ ـ تقرير التوحيد بأدلته الباهرة العديدة.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر وإثباتها بالاستنباط من الأدلة المذكورة.

٦ ـ لا تثبت الأحكام إلا بالأدلة النقلية والعقلية.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ

__________________

(١) قال ابن عباس : المضطر هو : ذو الضرورة المجهود ، والضرورة هي : الحال المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول كالجوع والمرض والخوف ونحوهما من العزوبة وقلّة ذات اليد.

(٢) الاستفهام توبيخي إنكاري أي : إنكار أن يكون مع الله إله آخر لما قام على ذلك من الأدلة والحجج المذكورة ، وإله مرفوع بما تعلّق به الظرف أو بإضمار يفعل ذلك أي : أإله مع الله يفعل ذلك.

فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩))

شرح الكلمات :

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : الملائكة والناس.

(الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) : أي ما غاب عنهم ومن ذلك متى قيام الساعة إلا الله فإنه يعلمه.

(أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي متى يبعثون.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) : أي تلاحق وهو ما منهم أحد إلا يظن فقط فلا علم لهم بالآخرة بالمرة.

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) : أي في عمى كامل لا يبصرون شيئا من حقائقها.

(أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) : أي أحياء من قبورنا.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا) : أي البعث أحياء من القبور.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي أكاذيبهم التي سطروها في كتبهم.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) : أي المكذبين بالبعث كانت دمارا وهلاكا وديارهم الخاوية شاهدة بذلك.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) لما سأل المشركون من قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة أمره تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب (قُلْ لا يَعْلَمُ) الخ .. والساعة من جملة الغيب بل هي أعظمه. (مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من الناس (إِلَّا (١) اللهُ) أي لكن

__________________

(١) أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قولها : من زعم أنّ محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وذكر القرطبي ما خلاصته : أنّ منجما أتى به إلى الحجاج فاعتقله ثم أخذ حصيات فعدّها وقال للمنجّم : كم من حصيات في يدي فأخبره بعددها ، ثم أخذ أخرى ولم يعدها وسأل المنجم عنها فلم يعرف عددها وكرر هذا ثلاث مرات فلم يعرف المنجم فسأله كيف عرفت في الأولى ولم تعرف في غيرها؟

قال : لأنك لما عددتها خرجت من الغيب فعلمتها أمّا الغيب فلا يعلمه إلا الله.

الله تعالى يعلم غيب السموات والأرض أما غيره فلا يعلم إلا ما علمه الله علام الغيوب. وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يشعر أهل السموات وأهل الأرض متى يبعث الأموات من قبورهم للحساب والجزاء وهذا كقوله تعالى في سورة الأعراف.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).

وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ (١) عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) قرىء بل أدرك علمهم في الآخرة أي بلغ حقيقته يوم القيامة إذ يصبح الإيمان بها الذي كان غيبا شهادة ولكن لا ينفع صاحبه يومئذ. وقرىء (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي علم المشركين بالآخرة. أي تلاحق وأدرك بعضه بعضا وهو أنه لا علم لهم بها بالمرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٢) أي لا يرون شيئا من دلائلها ، ولا حقائقها بالمرة ويدل على هذا ما أخبر به تعالى عنهم من أنهم لا يؤمنون بالساعة بالمرة في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا (٣) كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي من قبورنا أحياء. والاستفهام للانكار الشديد ويؤكدون إنكارهم هذا بقولهم :

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يعدنا محمد. (إِنْ هذا) أي الوعد بالبعث والجزاء (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيبهم وحكاياتهم التى يسطرونها فى الكتب ويقرأونها على الناس. وقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق (٦٩) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم يا رسولنا سيروا في الأرض جنوبا أو شمالا أو (٤) غربا (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي أهلكناهم لما كذبوا بالبعث كما كذبتم ، فالقادر على خلقهم ثم إماتتهم قادر قطعا على بعثهم وإحيائهم لمحاسبتهم وجزائهم بكسبهم. فالبعث إذا ضروري لا ينكره ذو عقل راجح أبدا.

__________________

(١) أصل : (ادَّارَكَ) : تدارك فسكنت التاء وأدغمت في الدال وجلبت همزة الوصل فصارت : ادّارك.

(٢) (عَمُونَ) أصلها : عميون : حذفت الياء وضمت الميم تخفيفا ، والمفرد عم.

(٣) قرأ نافع : إذا كنا بدون همزة استفهام ، وبتسهيل همزة أينا ، وقرأ حفص بهمزتين محققتين أإذا وأئنا.

(٤) جنوبا حيث ديار عاد ، وشمالا حيث ديار ثمود ، وغربا حيث مدين والمؤتفكات.

هداية الآيات :

من هدية الآيات :

١ ـ حصر علم الغيب في الرب تبارك وتعالى. فمن ادعى أنه يعلم ما في غد فقد كذب (١).

٢ ـ تساوي علم أهل السماء والأرض في الجهل بوقت قيام الساعة.

٣ ـ المكذبون بيوم القيامة سيوقنون به في الآخرة ولكن لا ينفعهم ذلك.

٤ ـ إهلاك الله الأمم المكذبة بالبعث بعد خلقهم ورزقهم دليل على قدرته تعالى على بعثهم لحسابهم وجزائهم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

شرح الكلمات :

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). الآية : المراد به تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِمَّا يَمْكُرُونَ) : أي بك إذ حاولوا قتله ولم يفلحوا.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي بعذابنا.

(بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) : وقد حصل لهم في بدر.

إن الله لذو فضل على الناس : أي في خلقهم ورزقهم وحفظهم وعدم إنزال العذاب بهم.

(ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) : أي ما تخفيه وتستره صدورهم.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ) : أي ما من حادثة غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ مدونة فيه مكتوبة.

__________________

(١) شاهده حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها وقد تقدم انفا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا ترد ، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق (١) صدره مما يمكرون (٢) ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٠) وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب. فقال تعالى : (٧١) (وَيَقُولُونَ مَتى) (٣) (هذَا الْوَعْدُ) ـ أي بالعذاب ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ فيما تقولون وتعدون ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي اقترب (٤) منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان (٧١ و ٧٢).

وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) (٥) مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فها هم أولاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون ، وهذا أعظم فضل. وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ (٦) صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي لا يخفى عليه من أمرهم شىء وسيحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفى هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى : (وَما مِنْ (٧) غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شىء ولا يعزب عنه شىء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي المستلزم للبعث والجزاء ، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضا لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم.

__________________

(١) الضيق : بفتح الضاد وكسرها قرأه الجمهور بالفتح ، وقرأ غيرهم بالكسر وحقيقة الضيق : عدم اتساع المكان أو الوعاء لما يراد إدخاله فيه ، والمراد به هنا الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس بضيق في صدره.

(٢) ومن أعظم مكرهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكمهم الجائر بقتله في مكة لو لا أنّ الله أنجاه منهم.

(٣) الاستفهام للإنكار والاستعباد ، والآية نزلت في المستهزئين الذين هلكوا ببدر.

(٤) هذا تفسير ل (رَدِفَ لَكُمْ) يقال : ردفه وأردفه : إذا تبعه كتبعه واتبعه وردفه وردف له بمعنى قال الشاعر :

عاد السواد بياضا في مفارقه

لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردف

والشاهد في ردف وأردف : إذا تبع ، وقال آخر :

إذا الجوزاء أردفت الثريّا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

(٥) في إدرار الرزق وتأخير العقوبة.

(٦) قرىء : تكن من كن الشيء يكنه إذا ستره ، وقرأ الجمهور (تكن) من أكنّ الشيء إذا ستره أيضا.

(٧) قال الحسن : الغائبة هنا : القيامة ، وهو حق ولكن اللفظ أعم إذ هو يشمل كل غيب وهو ما غاب عن الخلق في الأرض أو في السماء ، فالله تعالى يعلمه وكيف لا ، وقد كتبه في كتاب المقادير والغائبة : اسم للشيء الغائب ، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الأسمية كالتاء في الفاتحة ، والعاقبة ، والمراد ما غاب عن علم الناس ، واشتقاقه من الغيب ضدّ الحضور.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه يعانى شدة من ظلم المشركين وإعراضهم.

٢ ـ بيان تعنت المشركين وعنادهم.

٣ ـ تحقق وعد الله للمشركين حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون.

٤ ـ بيان فضل الله تعالى على الناس مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى.

٥ ـ بيان إحاطة علم الله بكل شىء.

٦ ـ إثبات وتقرير كتاب المقادير ، وهو اللوح المحفوظ.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

شرح الكلمات :

(يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي يذكر أثناء آياته كثيرا مما اختلف فيه بنو إسرائيل.

(لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي به تتم هداية المؤمنين ورحمتهم.

(يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) : أي يحكم بين بنى إسرائيل بحكمه العادل.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) : الغالب على أمره ، العليم بخلقه.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي ثق فيه وفوض أمرك إليه.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) : أي لو أردت أن تسمعهم لأنهم موتى.

(وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) : أي ولا تقدر على إسماع كلامك الصم الذين فقدوا حاسة السمع.

(إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : أي إذا رجعوا مدبرين عنك غير ملتفتين إليك.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) : أي ما تسمع إلا من يؤمن بآيات الله.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَ (١) هذَا الْقُرْآنَ) الكريم الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) المعاصرين لنزوله (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كاختلافهم في عيسى عليه‌السلام ووالدته ، إذ غلا فيهما البعض وأفرطوا فألّهوهما وفرط فيهما البعض فقالوا فى عيسى ساحر ، وفي مريم عاهرة لعنهم الله ، وكاختلافهم فى صفات الله تعالى وفي حقيقة المعاد ، وكاختلافهم في مسائل شرعية وأخرى تاريخية. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَهُدىً (٢) وَرَحْمَةٌ) أي وإن القرآن الكريم لهدى ، أي لهاد لمن آمن به إلى سبيل السّلام ورحمة شاملة (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) به ، العاملين بما فيه من الشرائع والآداب والأخلاق. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) أي أيها الرسول (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين الناس من وثنيين وأهل كتاب يوم القيامة بحكمه (٤) العادل الرحيم ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي ينفذ حكمه فيمن حكم له أو عليه (الْعَلِيمُ) بالمحقين من المبطلين من عباده فلذا يكون حكمه أعدل وأرحم ولذا (فَتَوَكَّلْ عَلَى (٥) اللهِ) أيها الرسول بالثقة فيه وتفويض أمرك إليه فإنه كافيك. وقوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي إنك يا رسولنا على الدين الحق الذي هو الإسلام وخصومك على الباطل فالعاقبة الحسنى لك ، لا محالة. وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) والكفار موتى بعدم وجود روح الإيمان في أجسامهم والميت

__________________

(١) هذا الكلام مستأنف استئنافا بيانيا إذ هو جواب لكل شاك في توحيد الله وفي البعث الآخر وفي نبوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن قال : كيف يكون لا إله إلا الله وكيف يكون البعث وكيف يكون محمد رسولا؟ فالجواب : أنّ هذا القرآن العظيم أكبر برهان وأعظم دليل على صدق تلك القضايا الثلاث : التوحيد ، والبعث ، والنبوة.

(٢) هذا التوكيد بأنّ في المواطن الثلاثة : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) و (إِنَّهُ لَهُدىً إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي) تطلبه الابتداء من جهة وشأن الاخبار من جهة أخرى. لأنّ عادة الإنسان إذا أخبر بخبر ذي شأن يتساءل في نفسه عن صحته وعدمها فيتعين التأكيد له.

(٣) خصّ المؤمنون بالذكر دون الكافرين لأنهم هم المنتفعون به.

(٤) جائز أن يكون المراد من الحكم : الحكمة ، أي : يحكم بينهم بالحكمة التي تضع كلّ شيء في موضعه فلا يحدث حيف ولا جور. وإطلاق الحكم على الحكمة كثير في القرآن منه : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ويجوز أن يكون الحكم على ظاهره أو يحكم بينهم بحكمه المعروف بالعدل والنزاهة من الحيف والجور والخطأ.

(٥) الفاء تفريعية أي : فبناء على عزّة الله وعلمه فتوكل عليه ولا تخف فإنه لعزته وعلمه لا يضيعك ولا يهمل شأنك.

لا يسمع فلذا لا تقدر على إسماع هؤلاء الكافرين الأموات (١) ، كما انك (لا تُسْمِعُ الصُّمَ) أي الفاقدين لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي دعاءك (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إذا رجعوا مدبرين غير ملتفتين إليك. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) التي يعيشون عليها فهوّن على نفسك ولا تكرب ولا تحزن (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما تسمع إسماع تفهم وقبول إلا المؤمنين بآيات الله ، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهم من أجل إيمانهم مسلمون أي منقادون خاضعون لشرع الله وأحكامه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ شرف القرآن وفضله.

٢ ـ لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام فإذا أسلموا اهتدوا للحق وانتهى كل خلاف بينهم.

٣ ـ كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين أهله يوم القيامة بحكمه العادل ويوفى كلا ماله أو عليه وهو العزيز العليم.

٤ ـ الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان فلذا هم لا يسمعون الهدى ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات.

فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم وليصبر على دعوتهم ودعاويهم.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

__________________

(١) احتجت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على عدم إسماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موتى بدر لما قيل لها في ذلك وردّ عليها قولها إذ استعملت القياس العقلي مع وجود النص ولا قياس مع النص فقد صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناداهم وهم في القليب وقال لهم (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا. فقيل : يا رسول الله : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما وقد خصصت هذه الآية بسماع أهل القبور. سلام من سلّم عليهم.

(٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

شرح الكلمات :

(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي حق عليهم العذاب.

(دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) : حيوان يدب على الأرض لم يرد وصفها في حديث صحيح يعول عليه ويقال به. (١)

تكلم الناس : بلسان يفهمونه لأنها آية من الآيات.

(أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) : أي بسبب أن الناس أصبحوا لا يؤمنون بآيات الله وشرائعه أي كفروا فيبلون بهذه الدابة.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ) : أي اذكر يوم نحشر أي نجمع.

(مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) : أي طائفة وهم الرؤساء المتبوعون في الدنيا.

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : أي يجمعون برد أولهم على آخرهم.

(حَتَّى إِذا جاؤُ) : أي الموقف مكان الحساب.

(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي حق عليهم العذاب.

(بِما ظَلَمُوا) : أي بسبب الظلم الذي هو شركهم بالله تعالى.

(فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) : أي لا حجة لهم.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي يبصر فيه من أجل التصرف في الأعمال.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي حق العذاب على الكافرين حيث لم يبق في

__________________

(١) مثل تلك الأحاديث : حديث حذافة ونصه : كما رواه أبو داود الطيالسي قال : (ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة فقال لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية ـ مكة ـ ثم تكمن زمانا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشوا ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بينا الناس في اعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعا وثبتت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إنّ الرجل ليعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق فتميّز الكافر من المؤمن).

الأرض من يأمر بمعروف ولا من ينهى عن منكر (أَخْرَجْنا لَهُمْ) لفتنتهم (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) حيوان أرضى ليس بسماوي (تُكَلِّمُهُمْ) أي بلسان يفهمونه ، (أَنَّ النَّاسَ (١) كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) هذه علة تكليمهم وهي بأن الناس كفروا وما أصبحوا يوقنون بآيات الله وشرائعه فيخرج الله تعالى هذه الدابة لحكم منها : أن بها يتميز المؤمن من الكافر. وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أي واذكر يا رسولنا (يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم البشرية (فَوْجاً) أي جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) بأن يرد أولهم على آخرهم لينتظم سيرهم (حَتَّى إِذا جاؤُ) الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) وما اشتملت عليه من أدلة وحجج وشرائع وأحكام (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ،) وهذا تقريع لهم وتوبيخ. إذ كون الانسان لم يحط علما بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه. وقوله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب. قال تعالى (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم (٢) (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ). أي بعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلمه مشركون.

وقوله تعالى : (أَلَمْ (٣) يَرَوْا) أي ألم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء أن الله تعالى جعل (اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه (وَالنَّهارَ) أي وجعل (النَّهارَ مُبْصِراً) أي يبصر فيه ليتصرفوا فيه بالعمل لحياتهم ، فنوم الليل شبيه بالموت وانبعاث النهار شبيه بالحياة ، فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر وله صورة متكررة طوال الحياة ، ولذا قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة (لَآياتٍ) أي براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة. وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويبصرون ويفكرون والكافرين أموات والميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفكر.

__________________

(١) قرأ نافع بكسر إنّ ، والجملة تعليلية لما قبلها ، وقرأ حفص بفتحها على تقدير حرف جرّ قبلها بأن أو لأن للسببية أو التعليل.

(٢) أي : بشركهم إذ الشرك أعظم أنواع الظلم وهو الموجب لدخول النار والخلود فيها.

(٣) الاستفهام هنا للتعجب من حالهم كيف لا يبصرون آيات الله في الكون فتهديهم إلى توحيد الله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تأكيد آية الدابة والتي تخرج من صدع من الصفا وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو وهي الأنفاق التي فتحت في جبل الصفا وأصبحت طرقا عظيمة للحجاج ، وعما قريب تخرج ، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف ولا من ينهى عن المنكر فيحق العذاب على الكافرين.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها.

٣ ـ ويل لرؤساء الضلالة والشر والشرك والباطل إذ يؤتى بهم ويسألون.

٤ ـ فى آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : أي يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة الفزع والفناء والقيام من القبور.

(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) : أي وكل من أهل السماء والأرض أتوا الله عزوجل داخرين أي أذلاء صاغرين.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) : أي تظنها في نظر العين جامدة.

(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) : وذلك لسرعة تسييرها.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : وهي الإيمان والتوحيد وسائر الصالحات.

(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي الجنة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي الشرك والمعاصي فله النار يكب وجهه فيها.

(وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) : أي أصحاب حسنات التوحيد والعمل الصالح آمنون من فزع هول يوم القيامة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ) : أي جاء بالسيئة كالشرك وأكل الربا ، وقتل النفس ، فكبت وجوههم في النار والعياذ بالله أي القوا فيها على وجوههم

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي ما تجزون إلا بعملكم ، ولا تجزون بعمل غيركم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة. فقال تعالى (وَيَوْمَ (١) يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق (فَفَزِعَ) (٢) (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهي نفخة الفزع فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى وهم الشهداء فلا يفزعون وهي نفخة الفناء أيضا إذ بها يفنى كل شىء ، وقوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) (٣) أي أتوا الله تعالى (داخِرِينَ) أي صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء وقوله (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) أي لا تتحرك وهي في نفس الواقع تسير (٤) سير السحاب (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أوثق صنعه (٥) وأحكمه (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) وسيجزيكم أيها الناس بحسب علمه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) وهي الايمان والعمل الصالح (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ألا وهي الجنة (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي الشرك والمعاصى (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) فذلك

__________________

(١) العامل في الظرف محذوف للعلم به أي : واذكر يوم ينفخ في الصور ، والنافخ هو اسرافيل عليه‌السلام.

(٢) للفزع معنيان ، وكلاهما صالح لدلالة هذا اللفظ عليه ، الأوّل : الفزع بمعنى الإسراع : لنداء الداعي ، والثاني الخوف والهلع.

(٣) قرأ حفص (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) بالفعل الماضي ، وقرأ نافع آتوه باسم الفاعل أي : آتون إليه جمع آت.

(٤) قيل : إنّ قوله تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة أطلعه فيه على سر من أسرار الكون ولم يبح به لعجز الناس عن إدراكه في ذلك الزمن وحقيقته : أن الأرض تدور حول الشمس دورة في كل يوم وليلة ، ودورتها هي تسير معها الجبال فيها قطعا فيرى المرء الجبال يحسبها جامدة وهي تمر مع الأرض مرّ السحاب والمرور غير السير فالسير يوم الفناء أما المرور يقال : مرّ بفلان يحمله معه ولا يقال سار به. ورشح هذا المعنى قوله بعد : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

(٥) الصنع مصدر صنع الشيء يصنعه صنعا.

جزاء من جاء بالسيئة.

وقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ (١) إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لا تجزون إلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك فقوم دخلوا الجنة وآخرون كبت وجوههم في النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها مفصلة.

٢ ـ بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان.

٣ ـ فضل الشهداء حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وهم آمنون.

٤ ـ تقرير مبدأ الجزاء وهو الحسنة والسيئة ، حسنة التوحيد وسيئة الشرك.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(هذِهِ الْبَلْدَةِ) : أي مكة المكرمة والاضافة للتشريف.

(الَّذِي حَرَّمَها) : أي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفّر صيدها ولا يقاتل فيها.

(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : المؤمنين المنقادين له ظاهرا وباطنا وهم أشرف الخلق.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) : أي أمرني أن أقرأ القرآن إنذارا وتعليما وتعبدا.

__________________

(١) الاستفهام للنفي كما في التفسير.

(سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي مدلول آيات الوعيد فيعرفون ذلك وقد أراهموه في بدر وسيرونه عند الموت.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أي وما ربك أيها الرسول بغافل عما يعمل الناس وسيجزيهم بعملهم.

معنى الآيات :

إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا غير ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي (١) حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن يعرفها ، وله كل شيء خلقا وملكا وتصرفا فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويّها وسفليّها وقوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرني ربي أن أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسلين. وقوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي وأمرني أن أتلو القرآن تلاوة إنذار وتعليم وتعبدا وتقربا إليه تعالى وبعد تلاوتي فمن اهتدى عليها فعرف طريق الهدى وسلكه فنتائج الهداية وعائدها عائد عليه هو الذى ينتفع بها. ومن ضل فلم يقبل الهدى وأقام على ضلالته فليس علي هدايته لأن ربي قال لي قل لمن ضل (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) لا من واهبى الإيمان والهداية انما يهب الهداية ويمن بها الله الذي بيده كل شيء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وأمرني أن أحمده على كل ما وهبني من نعم لا تعد ولا تحصى ومن أجلّها إكرامه لي بالرسالة التي شرفني بها على سائر الناس فالحمد لله والمنة له وقوله (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ (٢) فَتَعْرِفُونَها) أي وأعلم هؤلاء المشركين أن الله ربي سيريكم آياته في مستقبل أيامكم وقد أراهم أول آية في بدر وثاني آية في الفتح وآخر آية عند الموت يوم تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وتقول لهم «ذوقوا عذاب الحريق» وقوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٣) أي وما ربك الذي أكرمك وفضلك أيها الرسول (بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها الناس مؤمنين وكافرين وصالحين وفاسدين وسيجزى كلا بعمله وذلك يوم ترجعون إليه ففي الآية وعد ووعيد.

__________________

(١) قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : ربّ هذه البلدة التي حرّمها نعتا للبلدة. وقرأ الجمهور الذي وهو في موضع نصب نعت ل ربّ.

(٢) أي : في أنفسكم وفي غيركم كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من سورة فصلت.

(٣) قرأ نافع وحفص والجمهور بتاء الخطاب ، وقرأ غيرهم بباء الغيبة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها عبادة الله والإسلام له ، وتلاوة القرآن إنذارا وإعذارا وتعليما وتعبّدا به وتقربا إلى منزله عزوجل.

٢ ـ بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم.

٣ ـ الندب إلى حمد الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة ولا سيما عند تجدد النعمة وعند ذكرها.

٤ ـ بيان أن عوائد الكسب عائدة على الكاسب خيرا كانت أو شرا.

٥ ـ بيان معجزة القرآن الكريم إذ ما أعلم به المشركين أنهم سيرونها قد رأوه فعلا وهو غيب ، فظهر كما أخبر.

سورة القصص

مكية

واياتها ثمان وثمانون اية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥)

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

شرح الكلمات :

(طسم) : هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ : طا ، سين ، ميم.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هى آيات القرآن الكريم.

(نَتْلُوا عَلَيْكَ) : أي نقرأ عليك قاصين شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما.

(لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة.

(عَلا فِي الْأَرْضِ) : أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلما فظيعا.

(شِيَعاً) : أي طوائف بعضهم عدوّ لبعض من باب فرّق تسد.

(وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلا على ملكه منهم.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) : أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.

(ما كانُوا يَحْذَرُونَ) : من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم.

معنى الآيات :

(طسم) : هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه ، وقد أفاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.

والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارىء طسم وجد احدهم نفسه مضطرا إلى السماع ، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم.

وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين

للهدى من الضلال والخير من الشر والحق من الباطل ، وقوله (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ (١) نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) أي نقرأ قاصين عليك أيها الرسول شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبر موسى (٢) وفرعون وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم وقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ ..) إلى آخر الآية هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين ، يخبر تعالى فيقول :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ ...) إلى آخر الآية إن فرعون الحاكم المصري المسمى بالوليد بن الريان الطاغية المدعى الربوبية والألوهية (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي أرض البلاد المصرية ومعنى علا طغى وتكبر وتسلط (٤) وقوله (وَجَعَلَ أَهْلَها) أي أهل تلك البلاد المصرية (شِيَعاً) أي طوائف فرق بينها إبقاء على ملكه على قاعدة فرّق تسد المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم وقوله (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً) من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي بناتهم ليكبرن للخدمة وتذبيح الأولاد سببه ان كهانه وسياسييه أعلموه أن ملكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإناث منهم وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون.

وقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه (مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.

وقوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي من بعض خبرهما أنا نريد أي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل ، نمن عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادة في الخير (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله :

__________________

(١) مفعول (نَتْلُوا) محذوف تقديره نتلوا عليك كلاما من نبأ موسى.

(٢) وقارون أيضا حيث ذكر خبره في آخر هذه السورة.

(٣) اللام في (لِقَوْمٍ) للتعليل أي : نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون.

(٤) وحسبه أن ادعي الألوهية والربوبية وأنه ابن الشمس.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). وقوله (وَنُرِيَ (٢) فِرْعَوْنَ) أي من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن (نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما (٣) مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون وذلك بما سيذكر تعالى من أسباب وترتيبات هي عجب!

تبتدىء من قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ...).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقا.

٢ ـ تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الالهي.

٣ ـ التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض.

٤ ـ المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم.

٥ ـ تقرير قاعدة لا حذر مع القدر.

٦ ـ تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بان لا يزيد على عدد معين من الأطفال.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى

__________________

(١) المراد من الأرض أرض الشام حيث ورّثهم أرض الكنعانيين وهم الذين كانوا يعرفون بالجبابرة. أما أرض مصر فإن بني اسرائيل لم يرجعوا إليها بعد أن خرجوا منها هكذا يرى بعضهم وأكثر المفسرين أنّ بني اسرائيل عادوا إلى أرض مصر وملكوها وسادوا أهلها ، والله أعلم.

(٢) قرأ الجمهور (وَنُرِيَ) بنون العظمة والتكلم ، وقرأ بعض ويرى بياء الغيبة أي : ويرى فرعون وجنوده.

(٣) الجنود : جمع جند ، والجند لفظ دال على جمع ولا واحد له ومعناه : الجماعة من الناس تجتمع على أمر تتبعه.

أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) : أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم.

(فِي الْيَمِ) : أي في البحر وهو نهر النيل.

(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) : أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه ، إنا رادوه إليك.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) : أي أعوانه ورجاله.

(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) : أي في عاقبة الأمر ، فاللام للعاقبة والصيرورة.

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) : أي تقربه عيني وعينك فنفرح به ونسر.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) : أي من كل شىء إلا منه عليه‌السلام أي لا تفكر فى شيء إلا فيه.

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) : أي قاربت بأن تصرخ أنه ولدها وتظهر ذلك.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) : أي اتبعي أثره حتى تعرفي أين هو.

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) : أي لاحظته وهي مختفيه تتبعه من مكان بعيد.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين. بدأ تعالى بقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) (١) أي أعلمناها من طريق الإلقاء في القلب (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق

__________________

(١) اختلف هل كان هذا الوحي إلهاما أو كان مناما أو أتاها ملك؟ والأقرب أنها أتاها ملك مع الإجماع أنها لم تكن نبيّة وإنما أرسل إليها الملك فكلمها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في حديث الصحيحين ، ولم يعرف لها اسم على الصحيح ، وقال السهيلي اسمها يارخت.

خشب مطلي بالقار ، (وَلا تَخافِي) عليه الهلاك (وَلا تَحْزَنِي) على فراقك له (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (١) لترضعيه (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ونرسله إلى عدوكم فرعون وملائه. قال تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فعلت ما أمرها الله تعالى به بأن جعلته في تابوت وألقته في اليم أي النيل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) حيث وجدوه لقطة فأخذوه وأعطوه لآسية بنت مزاحم عليهاالسّلام امرأة فرعون. وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ (٢) عَدُوًّا وَحَزَناً) هذا باعتبار ما يؤول إليه الأمر فهم ما التقطوه لذلك ولكن شاء الله ذلك فكان لهم (عَدُوًّا وَحَزَناً) (٣) فعاداهم وأحزنهم.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدوا وحزنا. وقوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) قالت هذا حين هم فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها «عسى أن ينفعنا» في حياتنا بالخدمة ونحوها «أو نتخذه ولدا» وذلك بالتبني وهذا الذى حصل ، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بإبن فرعون وقوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده. وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي من أي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم.

وقوله (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي لتصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين.

وقوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٤) أي تتبعي أثره وذلك عند ما ألقته في اليم وقوله

__________________

(١) حكى الأصمعي أنه سمع جارية اعرابية تنشد وتقول :

استغفر الله لذنبي كله

قبلت إنسانا بغير حلّة

مثل الغزال ناعما في دلّه

فانتصف الليل ولم أصله

فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أو يعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) إلى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) أي : جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

(٢) هذه اللام تسمى لام العاقبة والصيرورة على حد قول الشاعر :

وللمنايا تربى كل مرضعة

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

(٣) الحزن : محرّك الوسط كالحزن بإسكانها وضم الحاء مثل الرشد والرشد والعدم والعدم والسقم والسقم لغات.

(٤) اسمها مريم بنت عمران فاتحدت معها مريم أم عيسى في اسمها واسم أبيها عليهم‌السلام وقيل اسمها كندم في رواية مرفوعة ضعيفة.

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) (١) أي رأته من بعد فكانت تمشي على شاطىء النهر وتلاحقه النظر من بعد حتى رأته انتهى إلى فرع الماء الذى دخل إلى قصر فرعون فعلمت أنه قد دخل القصر. وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أنها أخته لما كانت تلاحقه النظر وتتعرف إليه من بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك فى الوحي إلى أم موسى بارضاعه وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزا مكرما.

٢ ـ بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما.

٣ ـ فضيلة الرجاء تجلت فى قول آسية «قرة عين لي ولك» فقال فرعون : أمّالي فلا. فكان موسى قرة عين لآسية ولم يكن لفرعون.

٤ ـ بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا من موسى.

٥ ـ بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله تعالى كما أخبرها. والحمد له رب العالمين.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ

__________________

(١) (عَنْ جُنُبٍ) أي : من مكان جنب أي : جانب وناحية قال قتادة : تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده.

فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) : أي منعناه من قبول ثدى أيّة مرضعة.

(مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل رده إلى أمه.

(فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى) : أي قالت أخت موسى.

(أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) : يضمونه إليهم ، يرضعونه ويربونه لكم.

(وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) : أي لموسى ناصحون ، فلما قالوا لها إذا كنت أنت تعرفينه ، قالت لا ، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) : أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.

(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) : أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.

(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإسلامى الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) : مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنها مدة.

(عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) : لأن الوقت كان وقت القيلولة.

(هذا مِنْ شِيعَتِهِ) : أي على دينه الإسلامى.

(وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) : على دين فرعون والأقباط.

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) : أي ضربه بجمع كفه فقضى عليه أي قتله

(هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) : أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) : أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى ، مبين ظاهر الإضلال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون : إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى ، فاحتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية (١٢) (وَحَرَّمْنا (١) عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل رده إلى أمه. وقوله : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (٢) وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت : لا أعرفه ، إنما عنيت (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالوا لها : ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت : بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى (فَرَدَدْناهُ (٣) إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه ، (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) إذ وعدها بأنه راده إليها. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها. وقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ) أي موسى (أَشُدَّهُ) (٤) أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي حكمة وهي الإصابة في الأمور (وَعِلْماً) فقها في الدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل. وقوله تعالى (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا (٥) أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله

__________________

(١) هذا التحريم ليس التحريم الشرعي وإنما هو بمعنى المنع فقط لعدم تكليف الطفل وشاهده قول امرىء القيس :

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إني امرؤ صرعي عليك حرام

والمراضع : جمع مرضع بدون تاء إذ ليس في الذكور من يرضع فيفرّق بينهما بالتاء.

(٢) الجملة في محل نصب حالية.

(٣) الفاء للعطف والتفريع ، إذ قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) متفرع من قوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) إلى قوله (ناصِحُونَ).

(٤) قال مالك وربيعة شيخه : الأشد : الحلم لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وهو أوّل الأشد وأقصاه أربع وثلاثون سنة. واستوى : أي : بلغ أربعين سنة.

(٥) جزاها على استسلامها لأمر ربها وصبرها على فراق ولدها إذ ألقته في اليم وعلى تصديقها بوعد ربها ، ومما جزاها به رده ولدها إليها مصحوبا بالتحف والطرف وهي آمنة ووهب ولدها الحكمة والعلم والنبوة

تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي موسى دخل مدينة منف (١) التي هي مدينة فرعون وكان غائبا فترة. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) لأن الوقت كان وقت القيلولة. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) على دين موسى وبني إسرائيل وهو الإسلام (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) لأنه على دين فرعون والأقباط وهو الكفر. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أي طلب غوثه على الذي من عدوه (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمع كفه (فَقَضى عَلَيْهِ) أي فقتله ودفنه في الرمال. وقوله تعالى : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي هذا قول موسى عليه‌السلام اعترف بأن ضربه القبطى كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ) للانسان (مُضِلٌ) له عن طريق الخير والهدى (مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة للإنسان والإضلال.

وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي دعا موسى ربه معترفا بخطئه أولا فقال : (رَبِ) أي يا رب (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بقتلي القبطي (فَاغْفِرْ لِي) هذا الخطأ ، فاستجاب الله تعالى وغفر له ، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التائبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حسن تدبير الله تعالى فى منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.

٢ ـ بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله لها وتوفيقه.

٣ ـ تقرير أن وعد الله حق ، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.

٤ ـ بيان إنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.

٥ ـ مشروعية إغاثة الملهوف ونصرة (٢) المظلوم.

٦ ـ وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل ، وأول التوبة الاعتراف بالذنب.

__________________

(١) وقيل : منفيس : قاعدة مصر الشمالية ، وقوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) هذا عطف جزء القصة على جزئها السابق وهو من قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وأين كان موسى؟ قطعا كان غائبا عن المدينة لأمر من الأمور اقتضى غيابه.

(٢) لأن نصر المظلوم دين في الملل كلّها ، وفرض في جميع الشرائع.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

شرح الكلمات :

(بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) : بإنعامك على بمغفرة ذنبي.

(فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) : أي معينا لأهل الإجرام.

(خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : ما ذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل.

(اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) : أي طلب نصرته فنصره.

(يَسْتَصْرِخُهُ) : أي يستغيث به على قبطي آخر.

(إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) : أي لذو غواية وضلال ظاهر.

(أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) : أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معا.

(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) : أي ما تريد إلا أن تكون جبارا تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب.

(مِنَ الْمُصْلِحِينَ) : أي الذين يصلحون بين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : أي مؤمن آل فرعون أتى من أبعد نواحي المدينة.

(إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) : أي يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوك.

(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) : أي اخرج من هذه البلاد إلى أخرى.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : خائف من القتل يترقب ما يحدث له.

معنى الآيات :

لقد تقدم في الآية قبل هذه أن موسى عليه‌السلام قد قتل قبطيا بطريق الخطأ وأنه اعترف لربه تعالى بخطإه واستغفره ، وأن الله تعالى غفر له وأعلمه بذلك بما شاء من (١) وسائط ، ولما علم موسى بمغفرة الله تعالى له عاهده بأن لا يكون (ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) مستقبلا ومن ذلك أن يعتزل فرعون وملائه لأنهم ظالمون مجرمون فقال :

(رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي بمغفرتك لي خطإي (٢) وذلك بالنظر إلى إنعامك علي بالمغفرة أعاهدك أن لا أكون (ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (٣) هذا ما دلت عليه الآية (١٧) أي الأولى في هذا السياق وهي قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) وقوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فأصبح موسى في مدينة (منف) عاصمة المملكة الفرعونية «خائفا» مما قد يترتب على قتله القبطي «يترقب» الأحداث ما ذا تسفر عنه؟ فإذا الذي يستنصره بالأمس وهو الإسرائيلي الذي طلب نصرته أمس (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيثه بأعلى صوته فنظر إليه موسى وأقبل عليه ليخلصه قائلا : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي لذو غواية بينة والغواية الفساد في الخلق والدين لأنك أمس قاتلت واليوم تقاتل أيضا. (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) أي موسى (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) وهو القبطي قال الإسرائيلي (أَتُرِيدُ

__________________

(١) يرى بعضهم أن موسى لم يعلم بمغفرة الله تعالى له لأنه لم يكن قد نبّىء بعد وجعل جملة (فغفر له) معترضة وقوله : (بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بالهداية والحكمة والعلم لا بالمغفرة لأنه لم يعلم بها. وما في التفسير أظهر وأولى بالسياق.

(٢) إنّ قتل موسى للقبطي كان قطعا خطأ ، روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة لما سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (إن الفتنة تجيء من هاهنا وأومأ بيده نحو المشرق ـ من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض ، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عزوجل : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً).

(٣) قال ابن عباس : لم يستثن فابتلى من ثاني يوم. هذا إن قلنا : إن كلامه كان خبرا لا دعاء إذ الدعاء لا يجوز الاستثناء فيه لا يقال : ارحمني إن شئت.

أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي تضرب وتقتل كما تشاء ولا تخاف عقوبة ذلك (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون بين المتخاصمين قال الإسرائيلي هذا لأنه جبان وخاف من هجمة موسى ظانا أنه يريده هو لما قدم له من القول (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فلما سمع القبطي ما قال مقاتله الإسرائيلي نقلها إلى القصر وكان من عماله فاجتمع رجال القصر برئاسة فرعون يتداولون القضية وينظرون إلى ظروفها ونتائجها وما يترتب عليها وكان من جملة رجال المؤتمر مؤمن آل فرعون (١) (حزقيل) وكان مؤمنا يكتم إيمانه فأتى موسى سرا ليخبره بما يتم حياله وينصح له بالخروج من البلاد وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية (٢٠) من هذا السياق (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) من أبعدها فان قصر الملك كان في طرف المدينة وهي مدينة فرعون (منف) (يَسْعى) فمشي بسرعة وجد وانتهى إلى موسى فقال (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) قال تعالى : (فَخَرَجَ مِنْها) أي من بلاد فرعون (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) خائفا من القتل يترقب الطلب وما ذا سيحدث له من نجاة أو خلافه ودعا ربه عزوجل قائلا :

(رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من فرعون وملائه أولا ومن كل ظالم ثانيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ شكر النعم ، فموسى لما غفر الله تعالى له شكره بأن تعهد له أن لا يقف إلى جنب مجرم (٢) أبدا.

٢ ـ سوء صحبة الأحمق الغوى فإن الإسرائيلي لغوايته وحمقه هو الذي سبب متاعب موسى.

٣ ـ لزوم إبلاغ الدولة عن أهل الفساد والشر في البلاد لحمايتها.

٤ ـ وجوب النصح وبذل النصيحة فمؤمن آل فرعون يعلم سلامة موسى من العيب ومن الجريمة فتعين له أن ينصح موسى بمغادرة البلاد لينجو إن شاء الله وليس هذا من باب خيانة البلاد والدولة ، لأن موسى من أهل الكمال وما حدث عنه كان من باب الخطأ فرفده ومد إليه اليد إنقاذا من موت متعين.

__________________

(١) وقيل : اسمه شمعان ، وقال الدارقطني : لا يعرف شمعان بالشين إلا مؤمن آل فرعون ، قال الثعلبي : كان ابن عم فرعون.

(٢) روي عن عطاء ، قيل له : إنّ أخا لي يأخذ بقلمه وإنما يحسب ما يدخل وما يخرج وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدّان فقال : من الرأس؟ قال : خالد بن عبد الله القسري : قال : أما تقرأ ما قال العبد الصالح : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) وقال عطاء : فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه ، وإنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين ، وفي الحديث : (ينادي مناد يوم القيامة : أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم) لاق الدواة : أصلحها.

٥ ـ الخوف الطبيعي لا يلام عليه فموسى عليه‌السلام قد خاف (١) خوفا أدى به إلى الالتجاء إلى ربه بالدعاء فدعاه واستجاب له ولله الحمد والمنة.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) : أقبل بوجهه جهة مدين التي هي مدينة شعيب.

(عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) : أرجو ربي أن يهدني وسط الطريق حتى لا أضل فأهلك فاستجاب الله له وهداه إلى سواء السبيل ووصل مدين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) : انتهى إلى بئر يسقى منها أهل مدين.

(يَسْقُونَ) : أي مواشيهم من بقر وابل وغنم.

(تَذُودانِ) : أي أغنامهما منعا لهما من الماء حتى تخلو الساحة لهما خوف الاختلاط بالرجال الأجانب لغير ضرورة.

(قالَ ما خَطْبُكُما) : قال موسى للمرأتين اللتين تذودان ما خطبكما أي ما شأنكما.

__________________

(١) من قوله : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ).

(حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء ويبقى لنا الماء وحدنا.

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) : أي بعد أن سقى لهما رجع إلى ظل الشجرة التي كان جالسا تحتها.

(لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) : أي من طعام (١) محتاج إليه لشدة جوعه عليه‌السلام.

(تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) : أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.

معنى الآيات :

ما زال لسياق فى شأن موسى عليه‌السلام بعد حادثة القتل والنصح له بمغادرة بلاد مصر إلى بلاد (٢) مدين مدينة شعيب عليه‌السلام قال تعالى مخبرا عنه : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي ولما توجه موسى عملا بنصيحة مؤمن آل فرعون تلقاء مدين أي نحوها وجهتها ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي والمسافة مسيرة ثمانية أيام قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي (٣) سَواءَ السَّبِيلِ) أي ترجّى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك ، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق (٢٣) (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي وحين ورد (٤) ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي على الماء (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ) وهما بنتا شعيب عليه‌السلام (تَذُودانِ) أي تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس. فسألهما لا تطفلا وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما لأنه رأى الناس يسقون مواشيهما ويصدرون فوجا بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب فسألهما لذلك قائلا : (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما فأجابتاه قائلتين : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقوي على سقي هذه الماشية بنفسه فنحن نسقيها ولكن بعد أن يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء

__________________

(١) من طعام تفسير لقوله من خير ، ومحتاج تفسير لقوله : (فَقِيرٌ).

(٢) لانّ بها العبد الصالح شعيب ، وقيل : لأجل النسب الذي بينه وبينهم لأن مدين من ولد ابراهيم ، وموسى من ولد يعقوب بن اسحق بن ابراهيم.

(٣) روي أن الله تعالى بعث إليه ملكا راكبا فرسا فقال : اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق وكان ملك مدين لغير فرعون.

(٤) أي : بلغها ووصل إليها ومنه قول زهير :

فلما وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصي الحاضر المتخيّم

نسقي به ، فلما علم عذرهما سقى لهما ماشيتهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) الذي كان جالسا تحته وهو ظل شجرة وهو شجر صحراوي معروف يقال له السمر ، ولما تولى إلى الظل سأل ربه الطعام لشدة جوعه إذ خرج من مصر بلا زاد ولا دليل ولو لا حسن (١) ظنه في ربه لما خرج هذا الخروج فقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) أي (٢) طعام (فَقِيرٌ) أي محتاج إليه أشد الاحتياج. وفي أقرب ساعة وصلت البنتان إلى والدهما فسألهما عن سبب عودتهما بسرعة فأخبرتاه ، فقال لإحداهما إذهبي إليه وقولي له (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) وهو معنى قوله تعالى (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) استجابة الله له (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) واضعة كم درعها على وجهها حياء. وقد قال فيها عمر رضي الله عنه إنها ليست (٣) سلفعا من النساء خرّاجة ولّاجة ، وبلغت الرسالة المختصرة وكأنها برقيه ونصها ما أخبر تعالى به فى قوله : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا)!! وقد ورد أنها لما كانت تمشي أمامه تدله على الطريق هبت الريح فكشفت ساقيها قال لها موسى : إمشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترميها نحو الطريق وهذا الذي دلها على أمانته لما وصفته لأبيها بأنه (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) كما سيأتي فيما بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حسن الظن بالله تعالى وقوة الرجاء فيه عزوجل والتوكل عليه.

٢ ـ بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال.

٣ ـ بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين.

٤ ـ فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه.

٥ ـ ستر الوجه عن الأجانب سنة المؤمنات من عهد قديم وليس كما يقول المبطلون هو عادة جاهلية ، فبنتا شعيب نشأتا فى دار النبوة والطهر والعفاف وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياء وتقوى.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما

__________________

(١) وتوكله على ربه عزوجل.

(٢) لفظ الخير يطلق عدة إطلاقات فقد أطلق على الطعام كما هنا وأطلق على العبادة كما في قوله : (فِعْلَ الْخَيْراتِ) وعلى القوة في قوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) وعلى المال في قوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

(٣) السلفع من النساء : الجريئة على الرجال.

يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) : أخبره بشأنه كله من قتله القبطي وطلب السلطة له ونصح المؤمن له بمغادرة البلاد ووصوله إلى ماء مدين.

(لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أي من فرعون وملئه إذ لا سلطان لهم على بلاد مدين.

(يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) : أي اتخذه أجيرا يرعى لنا الغنم بدلنا.

(الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) : ذكرت له كفاءته وهي القوة البدنية والأمانة.

(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تكون أجيرا لي في رعي غنمي.

(ثَمانِيَ حِجَجٍ) : أي ثماني سنوات إذ الحجة عام والجمع حجج.

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) : أي جعلت الثمانية عشرا فرغبت عشرا فهذا من كرمك.

قال ستجدني إن شاء الله من الصالحين : أي الذين يوفون ولا ينقضون ولا ينقصون.

(ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) : أنا أفي بشرطي وأنت تفي بشرطك.

(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) : أي الأجلين الثمانية أو العشرة أتممت.

(فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) : وذلك بطلب الزيادة فوق الثمانية أو فوق العشرة.

(وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) : أي وكيل وحفيظ أي أشهد الله على العقد بشطريه أي النكاح ورعي الغنم وبذلك تم العقد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ما تم بين موسى وابنتي شعيب من السقي لهما ومجيء إحداهما تبلغه رسالة والدها ومشيه معها وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء موسى شعيبا (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) (١) أي أخبره بشأنه كله من قتله القبطي خطأ وطلب السلطات له ونصح مؤمن آل فرعون له بالخروج من البلاد ، ووصوله إلى ماء مدين قال له شعيب عندئذ (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني فرعون وحكومته وهذا ما يعرف الآن باللجوء السياسى فأمنه على نفسه لأن فرعون لا سلطان له على (٢) هذه البلاد.

وقال له شعيب : اجلس تعش معنا فقال موسى أخاف أن يكون عوضا عما سقيت لا بنتيك ماشيتهما وإني لمن أهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضا فقال له شعيب لا ليس هذا بأجر على سقيك وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل ولم ير بذلك بأسا. وقوله تعالى (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) يروى أنها لما قالت (إِنَّ خَيْرَ (٣) مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أثارت حفيظته بهذه الكلمة فسألها : كيف علمت ذلك فذكرت له عن القوة في سقيه (٤) لهما وعن الأمانة في غض بصره عن النظر إليها ، فصدقها شعيب وقال لموسى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أي أزوجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ (٥) عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ (٦) حِجَجٍ) أي سنين جمع حجة وهي (٧) السّنه وقوله (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي احسانا منك وكرما ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بطلب العشرة

__________________

(١) التعريف في : (الْقَصَصَ) عوضا عن المضاف إليه أو هي للعهد أي : القصص المذكور آنفا.

(٢) إذا السلطان للكنعانيين وهم أهل بأس وشدة ونجدة.

(٣) الجملة تعليلية لجملة الإشارة عليه بالاستئجار.

(٤) قال بعض أهل العلم : وصفته بالقوة لأنه زاحم الرعاء وغلبهم وهم يزدحمون على الماء حتى سقى ، وقيل : كانت على البئر صخرة لا يرفعها إلّا العدد من الناس فرفعها موسى وحده.

(٥) الإشارة إلى المرأتين اللتين سقى لهما سواء كانتا حاضرتين في المجلس أو في ذهن موسى.

(٦) هذا جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة. والمشهور عند الفقهاء أنّ الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده ويلغى الشرط المنافي للنكاح ، وأما الشرط غير المنافي للنكاح فهو جائز ولا حرج فيه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج).

(٧) مشتقة من اسم الحج ، لأن الحج يقع كل سنة ، وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة.

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الذين يوفون بعهودهم فقال موسى ردا على كلامه (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أنا عليّ أن أفي بما اشترطت عليّ وأنت عليك أن تفي بما اشترطت لي على نفسك (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) (١) الثمانية أو العشرة (قَضَيْتُ) أي وفيت وأديت (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي بطلب الزيادة على الثمانية ولا على العشرة. فقال شعيب : نعم (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فأشهد الله تعالى على صحة (٢) العقد وبذلك أصبح موسى زوجا لابنة شعيب التي عيّنها له والغالب أنها الكبرى التي شهدت له بالأمانة والقوة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تجلى كرم شعيب ومروءته وشهامته في تطمين موسى وإكرامه وإيوائه.

٢ ـ بيان أن الكفاءة شرط في العمل ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة.

٣ ـ مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها.

٤ ـ مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود بمثل (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

٥ ـ فضيلة موسى عليه‌السلام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها

__________________

(١) (أَيَّمَا) أي : اسم موصول مبهم : وهو منصوب ب (قَضَيْتُ) وزيدت بعده (أَيَّمَا) لتأكيد الكلام ، ولتصير أيّ شبيهة باسم الشرط ولذا أجيب بجملة (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) وهي مقرونة بالفاء.

(٢) اكتفى شعيب وموسى بإشهاد الله تعالى فهل يصح في الإسلام النكاح بدون إشهاد؟ الجمهور على عدم صحته بل لا بد من الإشهاد عليه وهو كذلك.

جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : أتم المدة المتفق عليها وهي ثمان أو عشر سنوات.

(آنَسَ) : أبصر.

(أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) : عود غليظ في رأسه نار.

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) : أي تستدفئون.

(نُودِيَ) : أي ناداه الله تعالى بقوله يا موسى إني أنا الله رب العالمين.

(فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) : قطعة الأرض التي عليها الشجرة الكائنة بشاطىء الوادي.

(تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) : تضطرب وتتحرك بسرعة كأنها حية من حيات البيوت.

(وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) : رجع هاربا ولم يعقب لخوفه وفزعه منها.

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) : أدخلها في جيب قميصك.

(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي عيب كبرص ونحوه.

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) : اضمم إليك يدك بأن تضعها على صدرك ليذهب روعك.

(فَذانِكَ بُرْهانانِ) : أي آيتان من ربك على صدق رسالتك.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر ، إنه لما

قضى الأجل الذي تعاقد عليه مع صهره شعيب وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج قفل (١) ماشيا بأهله زوجته وولده في طريقه إلى مصر لزيارة والدته وإخوته حدث أن ضل الطريق ليلا ، وكان الفصل شتاء والبرد شديد فإذا به يأنس (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي جبل الطور (ناراً) فقال لأهله امكثوا هنا (إِنِّي آنَسْتُ) أي أبصرت (ناراً) سأذهب إليها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق أو آتيكم بجذوة (٢) من النار أي خشبة في رأسها نار مشتعلة (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي من أجل اصطلائكم بها أي استدفائكم بها ، هذا ما دلت عليه الآية (٢٩) وقوله تعالى في الآية الثانية (فَلَمَّا أَتاها) أي أتي النار (نُودِيَ) أي ناداه مناد (مِنْ (٣) شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ (٤) فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى) أي ناداه ربه (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة (كَأَنَّها جَانٌ) أي حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنّان (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ولم يرجع إليها من الرعب ، فقال له ربه تعالى (أَقْبِلْ) أي على العصا (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي الذين آمنهم ربهم فلا يخافون شيئا.

وقال له بعد أن رجع (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله (تَخْرُجْ) أي اليد (بَيْضاءَ) كالنور (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص أو نحوه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) أي يدك مع العضد إلى صدرك (مِنَ الرَّهْبِ) (٥) أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولا.

ثم قال تعالى له (فَذانِكَ) (٦) أي العصا واليد البيضاء. (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي آيتان

__________________

(١) يقال : قفل راجعا أي : من سفره إلى أهله : والقافلة : الجماعة العائدة من السفر : ويقال لها القافلة وهي في بدء سفرها تفاؤلا بالعودة السليمة لها وموسى عليه‌السلام قفل عائدا من رحلته إلى بلاده.

(٢) الجذوة مثلثة الجيم ضما وفتحا وكسرا : الجمرة الملتهبة ، والجمع جذا مثلثة الجيم أيضا.

(٣) (مِنْ) ابتدائية وكذا من الشجرة إذ من الشجرة بدل اشتمال من قوله (مِنْ شاطِئِ الْوادِ) وشاطيء الوادي وشطه جانبه ، والجمع : شطآن وشواطىء.

(٤) (الْأَيْمَنِ) أي : عن يمين موسى ، والبقعة والجمع بقع : المكان من الأرض وإن فتحت باؤها جمعت على بقاع كجفنة وجفان وأمّا بالضم فهي كغرفة وغرف ، و (مِنَ الشَّجَرَةِ) أي : من ناحيتها ، وهل الشجرة من سمر أو عليق : (عوسج) الله أعلم.

(٥) قرأ الجمهور : الرهب بفتح الراء والهاء وقرأ بعض بضم الراء وسكون الهاء : الرّهب وقرأ عاصم بفتح الراء وسكون الهاء (الرَّهْبِ).

(٦) (فَذانِكَ) بتخفيف النون لغة قريش وبتشديدها مع مدها وتخفيفها مع مدها (فذانيك) لغة هذيل.

تدلان على رسالتك المرسل بها إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله حيث كفروا به وعبدوا غيره وظلموا عباده ، لتدعوهم إلى الايمان بالله وعبادته وإرسال بني إسرائيل معك لتذهب بهم إلى أرض المعاد أي فلسطين وما حولها من أرض الشام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الأنبياء أوفياء فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمهما وهو العشر.

٢ ـ مشروعية السفر بالأهل وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر.

٣ ـ فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه‌السلام وهي من جبل الطور.

٤ ـ مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها.

٥ ـ مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.

٦ ـ لا يلام على الخوف الطبيعي.

٧ ـ آية العصا واليد.

٨ ـ من خاف ، وضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى.

٩ ـ التنديد بالفسق وأهله.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ

مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) : أي نفس القبطي الذي قتله خطأ قبل هجرته من مصر.

(أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) : أي أبين مني قولا.

(رِدْءاً) : أي معينا لي.

(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) : أي ندعمك به ونقويك بأخيك هارون.

(وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) : أي حجة قوية يكون لكما بها الغلب.

(فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) : أي بسوء.

(بِآياتِنا) : أي اذهبا بآياتنا.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) : أي العصا واليد وغيرهما من الآيات التسع.

(بَيِّناتٍ) : أي واضحات.

(سِحْرٌ مُفْتَرىً) : أي مختلق مكذوب.

(عاقِبَةُ الدَّارِ) : أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون الكافرون.

معنى الآيات :

لما كلف الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون وحمله رسالته إليه قال موسى كالمشترط لنفسه (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) يريد نفس القبطي الذي قتله خطأ أيام كان شابا بمصر (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلوني به إن لم أبين لهم وأفهمهم حجتي (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أي أبين مني قولا وأكثر إفهاما لفرعون وملئه (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) (١) (رِدْءاً) أي عونا (يُصَدِّقُنِي) أي (٢) يلخص قولي ويحرره لهم فيكون ذلك تصديقا منه لي ، لا مجرد أني إذا قلت قال صدق موسى. وقوله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) فيما جئتهم به. فأجابه الرب تعالى قائلا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ

__________________

(١) قرأ نافع ردا منون غير مهموز. وقرأ حفص (رِدْءاً) مهموزا.

(٢) قرأ نافع يصدقني بالجزم لأنه في جواب الطلب الذي هو : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) وقرأ حفص بالرفع (يُصَدِّقُنِي) على أن الجملة حال من الهاء في (فَأَرْسِلْهُ).

بِأَخِيكَ) أي نقويك به ونعينك (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي برهانا وحجة قوية يكون لكما الغلب بذلك. وقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي بسوء أبدا وقوله (بِآياتِنا) (١) أي اذهبا بآياتنا أو يكون لفظ بآياتنا متصلا بسلطانا أي سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا بآياتنا (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) وعلى هذا فلا نحتاج إلى تقدير فاذهبا وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) العصا واليد وغيرهما (بَيِّناتٍ) أي واضحات (قالُوا ما هذا) أي الذي جاء به موسى من الآيات (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) (٢) أي مكذوب مختلق (وَما سَمِعْنا بِهذا) أي الذي جئت به يا موسى في (آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي في أيامهم وعلى عهدهم. وهنا رد موسى على فرعون بأحسن رد وهو ما أخبر تعالى به عنه بقوله : (وَقالَ مُوسى) (٣) (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) أي من عند الرب تعالى (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة يوم القيامة. (٤) ولم يقل له اسكت يا ضال يا كافر إنك من أهل النار بل تلطف معه غاية اللطف امتثالا لأمر الله تعالى في قوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) وقوله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي الكافرون والمشركون بربهم هذا من جملة قول موسى لفرعون الذي تلطف فيه وألانه غاية اللين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن القصاص كان معروفا معمولا به عند أقدم الأمم ، وجاءت الحضارة الغربية فأنكرته فتجرأ الناس على سفك الدماء وإزهاق الأرواح بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشريه ولذلك صح أن تسمى الخسارة البشرية بدل الحضارة الغربية.

٢ ـ مشروعية طلب العون عند التكليف بما يشق ويصعب من المسؤولين المكلفين.

٣ ـ مشروعية التلطف في خطاب الجبابرة وإلانة القول لهم ، بل هو مشروع مع كل من يدعى إلى الحق من أجل أن يتفهم القول ولا يفلق عليه بالإغلاظ له.

__________________

(١) قوله تعالى : (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) يجوز أن يكون (بِآياتِنا) متعلقا بمحذوف تقديره : اذهبا بآياتنا. ويجوز أن يتعلق بنجعل لكما سلطانا بآياتنا فتكون رهبتهم منكما آية ويجوز أن يتعلق ب (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي : يصرفون عنكما صرفا بسبب آياتنا كقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نصرت بالرعب مسيرة شهر) ويجوز تعليقها أيضا ب (الْغالِبُونَ) أي : بآياتنا.

(٢) هذا شأن المحجوج المغلوب إذا أعيته الحجة يفزع إلى التلفيق والاتهامات الباطلة دفعا للمعرة.

(٣) كان مقتضى الكلام في سياق الحوار أن يقال : قال موسى بدون واو العطف إلّا أنه خولف هنا وأتى بالواو : (وَقالَ مُوسى) وهي قراءة الجمهور والمقصود منها هو ذكر التوازن بين حجة فرعون وحجة موسى ليظهر للسامع التفاوت بينهما بخلاف لو حذفت الواو كما قرأ ابن كثير فإنها مجرد حكاية قول موسى عليه‌السلام فليس فيها ما يلفت النظر.

(٤) (عاقِبَةُ الدَّارِ) قد يفهم منها فرعون : ما ينتهي إليه الخصام مع موسى إذا كان لا يؤمن بالمعاد وإن كان يؤمن بالمعاد فالأمر واضح.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

شرح الكلمات :

(ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) : أي ربا يطاع ويذل له ويعظم غيري لعنة الله عليه ما أكذبه.

(يا هامانُ) : أحد وزراء فرعون ، لعله وزير الصناعة أو العمل والعمال

(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) : أي اطبخ لي الآجر وهو اللبن المشوي.

(فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) : أي بناء عاليا ، قصرا أو غيره.

(لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) : أي أقف عليه وأنظر إليه.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) : أي موسى في ادعائه أن له إلها غيري.

(فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) : أي طرحناهم في البحر غرقى هالكين.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) : أي رؤساء يقتدى بهم في الباطل.

(يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) : أي إلى الكفر والشرك والمعاصي الموجبة للنار.

(فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) : أي خزيا وبعدا عن الخير.

(هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) : أي المبعدين من كل خير المشوّهي الخلقة.

(الْقُرُونَ الْأُولى) : قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم.

(بَصائِرَ لِلنَّاسِ) : أي فيه من النور ما يهدي كما تهدي الأبصار.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ) إن فرعون لما سمع كلام موسى عليه‌السلام المصدق بكلام هارون عليه‌السلام وكان الكلام في غاية اللين ، مؤثرا خاف فرعون من الهزيمة ، ناور وراوغ فقال في الحاضرين (ما عَلِمْتُ لَكُمْ) (١) (مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي كما ادعى موسى ولكن سأبحث وأتعرف على الحقيقة إن كان هناك إله آخر غيري ، فنادى وزيره هامان وأمره أن يعد اللبن المشوي لأنه قوي ويقوم ببناء صرح عال يصل إلى عنان السماء ليبحث بنفسه عن إله موسى إن كان حسب دعواه وإني لأظن موسى كاذبا في دعوى وجود إله له ولكم غيري هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (٣٨) (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي (٢) يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ). (٣) يعنى في إدعائه أن هناك إلها آخر غيري.

قوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) (٤) الذي يحق

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين قوله : ما علمت لكم من إله غيري وبين قوله أنا ربكم الأعلى أربعون سنة ، وكذب عدو الله بل علم أن له ربا هو خالقه وخالق قومه.

(٢) كنّي عن البناء بمقدماته ، وفعلا دارت رحى العمل على أشد ما تكون وفرعون يعلم أنه مجرد تمويه على العامة وشغل لأذهانهم عن معرفة الحق الذي دعا إليه موسى : وهل بني الصرح؟ روي أنّه قبل أن يتم سقط فقتل خلقا كثيرا من العمال والبنائين ، ولعل في قوله تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) من سورة المؤمن ، إشارة إلى سقوطه وهلاك القائمين ببنائه.

(٣) (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : الموجب لهم الاستكبار ولا يوجد حق يوجب الاستكبار قط.

(٤) نسب موسى إلى جماعة الكذب وهو يعلم أنه صادق تمويها على الرعية ، ودفعا للحق الذي بهره نوره فما أطاقه فهو يبحث عن المخرج.

لهم الاستكبار (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (١) أي كذبوا بالبعث الآخر. قال تعالى : (فَأَخَذْناهُ (٢) وَجُنُودَهُ) أي بسبب استكبارهم وكفرهم وتكذيبهم بآيات الله (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) (٣) أي في البحر وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) إنها كانت وبالا عليم وخسارا لهم. وقوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي جعلنا فرعون وملأه أئمة في الكفر تقتدي بهم العتاة والطغاة في كل زمان ومكان (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بالكفر والشرك والمعاصي وهي موجبات النار. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بل يضاعف لهم العذاب ويخذلون ويهانون لأن من دعا إلى سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء.

وقوله تعالى : (وَأَتْبَعْناهُمْ) أي آل فرعون (فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) إنتهت بهم إلى الغرق الكامل والخسران التام ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤) أي المبعدين من رحمة الله الثاوين في جهنم ولبئس مثوى المتكبرين وقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة وذلك بعد إهلاك الظالمين وقوله (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وقوله (بَصائِرَ) أي الكتاب بما يحمل من الهدى والنور (بَصائِرَ) أي ضياء للناس من بني إسرائيل يبصرون على ضوءه كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي وبيانا لهم ورحمة لمن يعمل به منهم. وقوله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي وجود الكتاب بصائر وهدى ورحمة بين أيديهم حال تدعوهم إلى أن يتذكّروا دائما نعم الله عليهم فيشكرونه بالإيمان به وبرسله وبطاعته وطاعة رسله عليهم‌السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن فرعون كان على علم بأنه عبد مربوب لله وأن الله هو رب العالمين.

٢ ـ تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون وأنه كان من العالين.

٣ ـ بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دمارا وفسادا.

__________________

(١) يطلق الظن ويراد به اليقين ويكون على بابه وهو هنا كفر ولو كان على بابه لأنّ الشك في العقائد كفر.

(٢) قبل من هلك مع فرعون من جند كانوا مليونا وستمائة ألف.

(٣) ناحية بحر القلزم في موضع منه يقال له بطن عريرة.

(٤) المشوّهي الخلقة المسودي الوجوه زرق العيون فما أقبحهم وما أقبح ما كانوا يصنعون!! يقال : قبحه وقبحه مشددا ومخففا أي : نحاه من كل خير ، أو جعله قبيحا. قال الشاعر :

ألا قبّح الله البراجم كلها

وقبح يربوعا وقبح دارما

٤ ـ دعاة الدعارة والخنا والضلالة والشرك أئمة أهل النار يدعون إليها وهم لا يشعرون.

٥ ـ بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتابا كله بصائر وهدى ورحمة.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

شرح الكلمات :

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) : أي لم تكن يا رسولنا حاضرا بالجانب الغربي من موسى.

(إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) : أي بالرسالة إلى فرعون وقومه.

(وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) : حتى تعلمه وتخبر به.

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) : أي غير أننا أنشأنا بعد موسى أمما طالت أعمارهم فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولا وأوحينا إليك خبر موسى وغيره.

(وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) : أي ولم تكن يا رسولنا مقيما في أهل مدين فتعرف قصتهم.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) : أي لم تكن بجانب الطور أي جبل الطور إذ نادينا موسى وأوحينا إليه ما أوحينا حتى تخبر بذلك.

(ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) : أي أهل مكة والعرب كافة.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) الخ : أي فيقولوا لو لا أي هلا أرسلت إلينا رسولا لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.

معنى الآيات :

بعد انتهاء قصص موسى مع فرعون وإنزال التوراة (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وكان القصص كله شاهدا على نبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطب الله تعالى رسوله فقال : (وَما كُنْتَ) أي حاضرا (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي بالجبل الغربي من موسى (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) (١) بإرساله رسولا إلى فرعون وملئه (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي الحاضرين إذا فكيف علمت هذا وتتحدث به لو لا أنك رسول حق؟!

وقوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا (٢) قُرُوناً) أي أمما بعد موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي طالت بهم الحياة وامتدت فنسوا العهود واندرست العلوم الشرعية وانقطع الوحي فجئنا بك رسولا وأوحينا إليك خبر موسى وغيره وقوله : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) فكيف عرفت حديثهم وعرفت إقامة موسى بينهم عشر سنين لو لا انك رسول حق يوحى إليك نبأ الأولين وهو معنى قوله تعالى (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) فأرسلناك رسولا وأوحينا إليك أخبار الغابرين.

وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) أي جبل الطور (إِذْ نادَيْنا) موسى وأمرناه بما أمرناه وأخبرناه بما أخبرنا به ، فكيف عرفت ذلك وأخبرت به لو لا أنك رسول حق يوحى إليك. قوله تعالى (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ (٣) رَبِّكَ) أي أرسلناك رحمة من ربك للعالمين (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ

__________________

(١) إذ كلّفناه أمرنا ونهينا وألزمناه عهدنا.

(٢) (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا) الخ وجه هذا الاستدراك أنّ المشركين لما تعجبوا من رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لم يسبقها رسالة إلى آبائهم فأعلمهم أن الله تعالى أرسل موسى بعد فترة من الرسل كذلك ولكن لطول الزمن ومضي القرون نسوا رسالة موسى عليه‌السلام حتى قالوا : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.

(٣) أي : ما كان علمك بذلك لحضورك ولكن كان علمك رحمة من ربك فرحمة : منصوب في الآية على تقدير كون محذوف أي : كان علمك رحمة. ويصح النصب على المفعول المطلق أي : ولكن رحمناك رحمة فعلمناك ذلك بواسطة إيحائنا إليك.

مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم أهل مكة والعرب أجمعون (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كى يتعظوا فيؤمنوا ويهتدوا فينجوا ويسعدوا.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) (١) أي عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من الشرك والمعاصي (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي هلا أرسلت إلينا رسولا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لو لا قولهم هذا لعاجلناهم (٢) بالعذاب ولما أرسلناك إليهم رسولا إذا فما لهم لا يؤمنون ويشكرون؟؟!

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بأقوى الأدلة العقلية.

٢ ـ بعثة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءت في أوانها واشتداد الحاجة إليها.

٣ ـ البعثة المحمدية كانت عبارة عن رحمة إلهية رحم الله بها العالمين.

٤ ـ جواب (لَوْ لا) في قوله (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ). محذوف وقد ذكرناه وهو لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١))

__________________

(١) (لَوْ لا) هنا حرف امتناع لوجود ، امتنع إنزال العذاب بهم لوجود قولهم (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) أما لو لا الثانية فهي أداة تحضيض.

(٢) في الآية معنى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

شرح الكلمات :

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا مبينا.

(قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) : أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتابا جملة واحدة كالتوراة.

(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) : أي كيف يطالبونك بأن تؤتي مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه.

(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) : أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضا أي قواه.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) : أي بالإتيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن.

(فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) : في كفرهم ليس غير ، فلا عقل ولا كتاب منير.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) : أي لا أضلّ منه قط.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون.

معنى الآيات :

لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليها لا سيما العرب وذكر أنه لو لا كراهة قولهم : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لما أرسل (١) إليهم رسوله. ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم (فَلَمَّا جاءَهُمُ (٢) الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال

__________________

(١) ولأخذهم بالعذاب جزاء كفرهم وشركهم وفسادهم.

(٢) هذه الفاء هي الفصيحة أفصحت عن جواب طلب متقدم وهو قول المشركين. لو لا أرسلت إلينا رسولا أي : هلّا أرسلت إلينا رسولا مطالبين بذلك بإلحاح.

تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) (١). وقالوا : (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) وذلك أن قريشا لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الأول عن مدى صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يقوله فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنوا كفرهم بالتوراة وقالوا : التوراة والقرآن (سِحْرانِ) (٢) تعاونا فلا نؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما وقرىء (لَساحِرانِ) أي موسى ومحمد عليهما‌السلام فلا نؤمن بهما.

هذا معنى قوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي بكل منهما كافرون.

فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمدا أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات يا للعجب أين يذهب بعقول المشركين؟!!

وقوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن .. أتبعه! (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) بالإتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك .. إنه المستحيل! إذا فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ)؟! اللهم إنه لا أضل منه. والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (٣) الظَّالِمِينَ) هذا بيان لسنة الله تعالى فى الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملا بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبدا.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ (٤) وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لقد وصلنا أي لهؤلاء المشركين

__________________

(١) أي : موسى ومحمد تعاونا على السحر.

(٢) قرأ نافع ساحران تظاهرا وقرأ حفص : (سِحْرانِ) إخبار بالمصدر.

(٣) المراد بالظالمين : الكاملون في الظلم وهو ظلم الأنفس وظلم الناس وظلم الشرك وهو أعظمها. (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وكذا إتيان الفواحش.

(٤) التوصيل مبالغة في الوصل وهو : ضمّ شيء إلى شيء وربطه به ، والقول القرآن ألفاظه وصل بعضها ببعض إذ نزل منجما كلما نزل آى وصل بالآخر حتى اكتمل ، ووصلت معانيه بعضها ببعض بإحكام وإتقان لم يعهدا في كتاب غيره وصل وعده بوعيده وترغيبه بترهيبه.

من قومك يا رسولنا أي وصلنا لهم القول بأخبار الماضين ، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء وكذبوا بما كذّب به هؤلاء وصلنا لهم القول مبينا واضحا موصولا أوله بآخره رجاء أن يتذكروا فيذكروا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويرحموا بدخول الجنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإلهي.

٢ ـ بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم.

٣ ـ بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية.

٤ ـ بيان أن الله عزوجل وصل القول لأهل مكة مفصلا مبينا لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

شرح الكلمات :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) : أي التوراة والإنجيل من قبل القرآن الكريم.

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) : أي القرآن.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) : أي منقادين لله مطيعين لأمره ونهيه.

(أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) : أي يضاعف لهم الثواب لأنهم آمنوا بموسى وعيسى وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) : أي يدفعون بالحسنة من القول أو الفعل السيئة منهما.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) : أي الكلام اللاغي الذي لا يقبل ولا يقر عليه لأنه لا يحقق درهما للمعاش ولا حسنة للمعاد.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : هذا سلام المتاركة أي قالوا قولا يسلمون به.

(لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) : أي لا نطلب صحبة أهل الجهل لما فيها من الأذى.

معنى الآيات :

إن قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) يشمل أيضا اليهود والنصارى من أهل الكتاب إذ هم كالعرب فيما بين لهم من أخبار الماضين وفصل من أنباء إهلاك الأمم السابقة وما أنزل من بأساء وعذاب بالمكذبين ، إذ الجميع مطالبون بالإيمان والعمل الصالح والتخلي عن الشرك والكفر والمعاصي للنجاة والسعادة فذكر تعالى هنا أن فريقا من أهل الكتاب يؤمنون بالنبي محمد لأنه الحق من ربهم. فقال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ (١) الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي القرآن (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول (٢) القرآن (مُسْلِمِينَ) أي موحدين منقادين نعبد الله بما شرع على لسان موسى وعيسى عليهما‌السلام هذه الآية تعني مجموعة من آمن من أهل الكتاب على عهد رسول الله ونزول القرآن منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسى وغيرهما. وقوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ (٣) مَرَّتَيْنِ) أي مضاعفا لأنهم آمنوا برسولهم وعملوا بما جاء به من الحق وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الهدى وقوله (وَيَدْرَؤُنَ) (٤) أي يدفعون (بِالْحَسَنَةِ) وهي الصفح والعفو (السَّيِّئَةَ) وهي الأذي من سب وشتم. وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ (٥) يُنْفِقُونَ) أي

__________________

(١) ذكر عدة أقوال في هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية منها وهو أقربها لأنّ السورة مكية أنها نزلت في النجاشي وأصحابه إذ وجّه باثني عشر رجلا فجلسوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم فآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم. خيبكم الله من ركب وقبّحكم من وفد لم تلبثوا أن صدّقتموه وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل. فقالوا : سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.

(٢) ومن قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

(٣) ثبت في الصحيح (أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين ، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به واتبعه وصدّقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عزوجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثمّ أدّبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) قال الشعبي : خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.

(٤) شاهده حديث معاذ : (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).

(٥) هذا الإنفاق عام في المال والعلم والجاه إذ كل ذلك من رزق الله والكل ينفق منه في سبيل الله.

يتصدقون بفضول أموالهم حيث تنبغي الصدقة.

وقوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي وإذا سمع أولئك المؤمنون من أهل الكتابين اللغو من سفهاء الناس أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ولا إلى قائله وأجابوا قائلين (لَنا أَعْمالُنا) أي نتائجها حيث نجزى بها (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) حيث تجزون بها (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي اتركونا ، إنا لا نبتغي (١) محبة الجاهلين ، لما في ذلك من الأذى والضرر الناتج عن سلوك أهل الجهل بالله تعالى ومحابه ومكارهه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل أهل الكتاب إذا آمنوا بالنبي الأمي وكتابه وأسلموا لله رب العالمين.

٢ ـ فضيلة من يدرء بالحسنة السيئة ، وينفق مما رزقه الله.

٣ ـ فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات ، ويقول ما يسلم به من القول ، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي قولا يسلمون به. وهذا السّلام ليس سلام تحية وإنما هو سلام متاركة.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ

__________________

(١) أي : لا تطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة والمخاصمة.

الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه.

(وَقالُوا) : أي مشركو قريش.

(إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) : أي إن نتبعك على ما جئت به وندعو إليه وهو الإسلام.

(نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) : أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا.

(يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) : أي يحمل ويساق إليه ثمرات كل شىء من كل ناحية.

(رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) : أي رزقا لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة.

(بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) : أي كفرت نعمة الله عليها فأسرفت في الذنوب وطغت في المعاصي.

(يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) : أي في أعظم مدنها. وهي العاصمة.

(إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) : بالتكذيب للرسول والإصرار على الشرك والمعاصي.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي .. بِالْمُهْتَدِينَ) هذه الآية نزلت في شأن (١) أبي طالب عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرغب في إسلامه لما له من سالفة في الوقوف إلى جنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحميه ويدافع عنه فلما حضرته الوفاة زاره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض عليه الشهادتين فكان يقول له : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة وكان حوله عواده من كفار قريش ، ومشائخها فكانوا ينهونه عن ذلك حتى قالوا له : أترغب عن دين أبائك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب أبيك حتى قال هو على ملة عبد المطلب ومات. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك فنهاه الله فلم يستغفر له بعد ونزلت هذه الآية كالعزاء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته يا نبينا (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته لعلمه أنه يطلب الهداية ولا يرغب عنها كما رغب عنها أبو طالب وأبو لهب وغيرهما ،

__________________

(١) روى البخاري سبب نزول هذه الآية وأنها نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بالذين سبق في علمه تعالى أنهم يهتدون.

وقوله تعالى : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات قريش (١) فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتألب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحدة ونصبح نتخطف من قبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا ، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا ، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعو إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلى عنها. فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ (٢) لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى (٣) إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي لم يوطىء لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم ، ولا يصاد فيه صيد ، ولا يؤخذ فيه أحد بجريرة ، أليس هذا كافيا في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرما آمنا قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا ، ومن باب أولى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤) فهذه علة اصرارهم على الشرك والكفر. إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته. ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل إليه ويساق من أنحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقا منه تعالى لأهل الحرم. أفلا يشكرون. وقوله تعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكثيرا من أهل القرى أهلكناهم (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) (٥) لما بطروا عيشهم فلم يشكروا نعمة الله عليهم فأسرفوا في الظلم والمعاصي فأهلكناهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) أي ديارهم (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٦) كديار عاد وثمود والمؤتفكات. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لها ، فلم نورثها غيرهم وتركناها خاوية خالية لم تسكن. أما يذكرون هذا فيعلموا بذلك قدرتنا فيتقوا فينا ويتوكلوا علينا ويؤمنوا ويوحدوا ويستقيموا على منهج الحق الذي جئت يا رسولنا به.

وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ) يا أيها الرسول (مُهْلِكَ الْقُرى) أي أهل المدن والحواضر (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) كما بعثك في أم القرى مكة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٧) أي لم يكن

__________________

(١) من القائلين هذا القول من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي وكان هذا القول من تعللاتهم فأجاب تعالى عما اعتل به هؤلاء فقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ..). الخ.

(٢) الاستفهام للإنكار عليهم أن يكون الله تعالى لم يمكّن لهم حرما آمنا

(٣) قرأ نافع تجبى بالتاء ، وقرأ حفص بالياء ، والجبي : الجمع ، والجلب ، ومنه جباية الزكاة أي جمع أموالها ، وجابية الحوض ما يجمع فيها الماء من البئر.

(٤) هذا الاستدراك لذكر علة تجاهلهم حماية الله تعالى لهم بتمكين الحرم لهم فهم فيه آمنون مطعمون ألا وهي الجهل فهو علّتهم الحاملة لهم على الإصرار على الشرك.

(٥) بطرت : جهلت شكر معيشتها.

(٦) (إِلَّا قَلِيلاً) أي : كالمسافرين الذين يمرون بها وينزلون بها ساعات ويغادرون.

(٧) الجملة في محل نصب صفة ل (رَسُولاً).

من سنة الله تعالى هذا بل لا يهلك أمة حتى يبعث في أم بلادها رسولا يتلو عليهم آيات الله المبينة للحق من الباطل والخير من الشر وجزاء ذلك وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها (١) ظالِمُونَ) أي ولم يكن من سنة الله تعالى في عبادة أن يهلك القرى إلا بعد ظلم أهلها.

فللإ هلاك شرطان :

الأول : أن يبعث الرسول يتلو آياته فيكذب ويكفر به وبما جاء به.

والثاني : أن يظلم أهل القرى ويعتدوا وذلك باظهار الباطل والمنكر وإشاعة الشر والفساد في البلاد وهذا من عدل الله تعالى ورحمته بعباده إنه لأرحم بهم من أنفسهم ، وكيف ومن أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ لا هادي إلا الله. الهداية المنفية هي انارة قلب العبد وتوفيق العبد للإيمان وعمل الصالحات ، وترك الشرك والمعاصي. والهداية المثبتة ، يقول الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. تلك هداية الدعوة والوعظ والارشاد ، ومنه (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي يدعوهم إلى الهدى.

٢ ـ مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهلين من تعظيم الحرم وأهله ليهيء بذلك لسكان حرمه أمنا وعيشا كما قال تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قريش (٢ ـ ٤).

٣ ـ من رحمة الله وعدله أن لا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان :

١ ـ أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور.

٢ ـ أن يظلم أهلها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والاصرار على الكفر والمعاصي.

٤ ـ التاريخ يعيد نفسه كما يقولون فما اعتذر به المشركون عن قبول الإسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسؤولين فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة واباحوا كبائر الاثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة حتى لا يقال عنهم أنهم رجعيون متزمتون فيمنعوهم المعونات ويحاصرونهم اقتصاديا.

__________________

(١) أي : إلّا بعد أن ظلموا بالشرك والمعاصي بارتكاب عظائم الذنوب وكبائر الآثام ، وذلك لتنزّه الرب تبارك وتعالى عن الظلم.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

شرح الكلمات :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي وما أعطاكم الله من مال أو متاع.

(فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) : فهو ما تتمتعون به وتتزينون ثم يزول ويفنى.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) : أي وما عند الله من ثواب وهو الجنة خير وأبقى.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : لأن من يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي لا عقل له.

(وَعْداً حَسَناً) : أي الجنة.

(فَهُوَ لاقِيهِ) : أي مصيبه وحاصل عليه وظافر به لا محالة.

(مِنَ الْمُحْضَرِينَ) : أي في نار جهنم.

معنى الآيتين :

لقد سبق في هذا السياق أن المشركين اعتذروا عن الإسلام بعذر مادي بحت وهو وجود عداوة بينهم وبين سائر العرب. يترتب عليها حروب وتعطل التجارة إلى غير ذلك. فقوله تعالى هنا (وَما أُوتِيتُمْ (١) مِنْ شَيْءٍ (٢) فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) هو خطاب لهم ولكل من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة فيستحل المحرمات ويعطل الأحكام ويضيع الفرائض والواجبات لتعارضها في نظره مع جمع المال والتمتع بالحياة الدنيا. وقوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي من مال ومتاع وإن كثر (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو متاع الحياة الدنيا (وَزِينَتُها) أي تتمتعون وتتزينون به أياما أو أعواما ثم ينفد ويزول ، أو تموتون عنه وتتركونه (وَما عِنْدَ اللهِ)

__________________

(١) في هذه الآية الكريمة تذكرة لقريش التي آثرت الدنيا على الآخرة فردت الإسلام مخافة أن يؤثر على حياتها الاقتصادية والأمنية في تصورها الهابط المتهالك وهي أيضا تذكرة لكل الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.

(٢) (مِنْ) بيانية فقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما في قوله : (وَما أُوتِيتُمْ) والمتاع ما يتمتّع به زمنا ثمّ يزول ، والزينة تطلق على ما يحسن الأجسام.

من نعيم الجنة (خَيْرٌ وَأَبْقى) خير في نوعه وأبقى في مدته ، فالأول رديء وتصحبه المنغصات ويعقبه الكدر ، والثاني جيد صالح خال من المنغصات والكدورات وباق لا يبلى ولا يفنى ولا يزول ولا يموت صاحبه ويخلفه وراءه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يا من تؤثرون الفاني على الباقي والردىء على الجيد والخبيث على الطيب. وقوله تعالى : (أَفَمَنْ (١) وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) وهو المؤمن الصادق في إيمانه المؤكد له بصالح عمله ، (وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) وهو الجنة دار السّلام (فَهُوَ (٢) لاقِيهِ) أي لاق موعده بإذن الله بمجرد أن يلفظ أنفاسه وتعرج إلى السماء روحه. (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فهو يأكل ويشرب وينكح كالبهائم (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في جهنم في دار العذاب والهوان ، والجواب : لا يستويان أبدا وشتان ما بينهما ، فالأول وهو المؤمن الصالح الموعود بدار السّلام لا يقارن بالكافر المتهالك على الدنيا ثم يتركها فجأة ويجد نفسه مع أهل الكفر والإجرام في عذاب وهون لا يفارقه ولا يخرج منه أبدا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فائدة العقل أن يعقل صاحبه دون ما يضره ، ويبعثه على ما ينفعه فإن لم يعقله دون ما يضره ولم يبعثه على ما ينفعه فلا وجود له ، ووجوده كعدمه.

٢ ـ بيان فضل الآخرة على الدنيا.

٣ ـ وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه الكافر من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا

__________________

(١) الاستفهام إنكاري ينكر فيه تعالى التسوية فضلا عن المفاضلة بين مؤمن وعده ربّه النعيم المقيم في الآخرة وكافر متعه اليوم بمتع زائلة فانية عمّا قريب تنتهي وتزول ويؤول أمره إلى دار الشقاء والعذاب الأبدي وهي دار البوار.

(٢) جملة (فَهُوَ لاقِيهِ) معترضة بين طرفي المقابلة في المفاضلة.

لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : أي الربّ سبحانه وتعالى.

(كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) : أي أنهم شركاء لي فعبدتموهم معي.

(حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي بالعذاب في النار وهم أئمة الضلال.

(أَغْوَيْناهُمْ) : أي فغووا ولم نكرههم على الغي.

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) : أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) : أي نادوهم ليخلصوكم مما أنتم فيه.

(لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) : أي لما رأوا العذاب ودّوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : أي الله تبارك وتعالى.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) : أي فخفيت عليهم الأنباء التي يمكنهم أن يحتجوا بها.

(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) : أي انقطعوا عن الكلام.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) : أي آمن بالله ورسوله وتاب من الشرك.

(وَعَمِلَ صالِحاً) : أدى الفرائض والواجبات.

(فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) : أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة ، وعسى من الله تعالى لا تفيد مجرد الرجاء بل هى لتحقق الموعود به.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله واذكر يوم ينادي (١) ربك هؤلاء المشركين وقد ماتوا على شركهم فيقول لهم

__________________

(١) بعد تقرير النبوة انتقل الكلام إلى تقرير ركني العقيدة : التوحيد والبعث ، فيوم معمول لمحذوف تقديره : أذكر يا رسولنا يوم ينادي الجبار أولائك المحضرين في جهنم يناديهم للتوبيخ والتقريع.

(أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي أنهم شركائي هذا سؤال تقريع وتأنيب والتقريع والتأنيب ضرب من العذاب الروحي الذي هو أشد من العذاب الجثماني. وقوله تعالى (قالَ الَّذِينَ (١) حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي نطق الرؤساء من أئمة الضلال وهم الذين حق عليهم العذاب في نار جهنم (رَبَّنا (٢) هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) (أَغْوَيْناهُمْ) فغووا (كَما غَوَيْنا) (٣) أي ما أكرهناهم على الغواية ، (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) (٤) أي منهم. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي بل كانوا يعبدون أهواءهم لا غير. وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي يقال للمشركين تهكما بهم واستهزاء ، (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي لينصروكم ويخلصوكم مما أنتم فيه من الذل والهوان.

قال تعالى : (فَدَعَوْهُمْ) بالفعل نادوا (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) إذا لا يقدر واحد من الإنس أو الجن أن يقول هذا كان يعبدني ، بل كل معبود يتبرأ ممن عبده كما قالوا في الآية قبل ذي تبرأنا إليك أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقوله تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) بأعينهم فاشتدت حسرتهم وودوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين. وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ربهم قائلا (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؟ أخبرونا كيف كان موقفكم مع من أرسلنا إليكم؟ هل آمنتم بهم واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم قال تعالى : (فَعَمِيَتْ (٥) عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الأخبار التى يمكنهم أن يحتجوا بها فلم يجدوا حجة واحدة ولذا (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لأنه سقط في أيديهم وعلموا أنهم صالو الجحيم لا محالة. وقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ تابَ) (٦) من هؤلاء المشركين اليوم من الشرك وآمن بالله ولقائه ورسوله وعمل صالحا فأدى الفرائض والواجبات (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة ، فهذه دعوة سخية لكل مشرك وكافر وفاسق أن يتخلى عن الباطل المتلبس به ويؤمن الإيمان الصحيح ويعمل صالحا بأداء الفرائض فإنه ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار فهل من تائب؟!.

__________________

(١) لم تعطف جملة. (قالَ الَّذِينَ) بالواو أو بالفاء لأنها في صورة حوار.

(٢) هذا النداء المراد به الاستعطاف والاسترحام.

(٣) أي : أضللناهم كما كنا ضالين ، وذلك أنهم دعوهم إلى عبادتهم فعبدوهم ، ولذا قال قتادة : هؤلاء هم الشياطين ، وقيل : هم الرؤساء ، والكل صحيح.

(٤) (تَبَرَّأْنا) أي : تبرأ الشياطين والرؤساء ممن عبدوهم أو عبدوا غير الله بدعوتهم وتزيينهم ، وأنكروا أنهم كانوا يعبدونهم.

(٥) خفيت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم إذا لم يروا جوابا ينفع في هذا الموقف الرهيب.

(٦) هذه الفاء الفصيحة كأنّ سائلا قال بعد أن عرف حال المشركين في النار : وما حال غيرهم يا ترى؟ فأجيب بأنّ من تاب من الشرك وعمل صالحا بأداء الفرائض ففلاحه العظيم واجب له متأكد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالشرك والمشركين.

٢ ـ براءة الرؤساء في الضلالة من المرؤوسين.

٣ ـ التحذير من الغواية وهي الضلال والانغماس في الذنوب والآثام.

٤ ـ خذلان المعبودين عابديهم يوم القيامة وتبرؤهم منهم.

٥ ـ باب التوبة مفتوح لكل عبد مهما كانت ذنوبه ولا يهلك على الله إلا هالك.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) : أي من خلقه.

(وَيَخْتارُ) : أي من يشاء لنبوته وطاعته.

(ما كانَ لَهُمُ) : أي للمشركين.

(الْخِيَرَةُ) : أي الاختيار في شيء.

(سُبْحانَ اللهِ) : أي تنزيها لله عن الشرك.

(يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) : أي ما تسر وتخفي من الكفر وغيره

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) : أي في الدنيا لأنه مولى كل نعمة.

وفي الآخرة : أي في الجنة.

(وَلَهُ الْحُكْمُ) : أي القضاء النافذ.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : بعد النشور وذلك يوم القيامة.

معنى الآيات :

لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من الذل والعذاب ، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار ، وذلك من وجهين : الأول أنه لا حق لهم في الاختيار. إذ الاختيار لخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يخلق ولا يخلق فكيف يصح منه اختيار. والثانى بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد : من خلقكم؟ لقالوا : الله ؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون ، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى : (٦٨) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) .. أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار (١) من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة قال تعالى : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٢) أي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ويقول : «اللهم خر لي واختر لي» وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن ، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات. وقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) وهذا برهان أن الخيرة له (٣) وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار. أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه أي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء. وفوق ذلك أنه سبحانه وتعالى وهو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد

__________________

(١) قيل نزلت ردا على الوليد بن المغيرة حين قال : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. كما هي ردّ على اختيارهم الشركاء ليشفعوا لهم يوم القيامة.

(٢) جائز أن يكون (ما) موصولا مفعولا به لفعل : يختار ، والعائد محذوف أي : ويختار الذي لهم فيه خيرة ، كما أنّ الخلق من خصائصه ، إذ قال (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فكذلك الاختيار له دون غيره ، وجائز أن يكون الوقف التام على (وَيَخْتارُ) ، وجملة (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) مستأنفة لغرض تأكيد القصر على الله تعالى هو الخالق وحده وهو الذي يختار وحده وليس لأحد من الخلق الخلق والاختيار.

(٣) الخيرة : اسم مصدر الاختيار كالطيرة اسم مصدر التطير ولا نظير لهذه الصيغة في الأسماء (الطيرة والخيرة).

في الدنيا إذ كل ما في الدنيا هو خلقه وفضله وإنعامه ، وله الحمد في الآخرة ، يحمده أهل الجنة إذ قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن بل الحياة الدنيا كالآخرة. تختم بالحمد لله. قال تعالى (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وله الحكم أي القضاء في الدنيا والآخرة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فكما أن الحكم خاص به فكذلك الرجوع إليه ، ويوم يرجعون إليه يحكم بينهم بحكمه وهو العزيز العليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ «ليس من حق العبد أن يختار إلا ما اختار الله له».

٢ ـ تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد «اللهم خر لي واختر لي».

٣ ـ تأكيد سنة الاستخارة وهي إذا هم العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة ، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به». ويسمي حاجته التي همّ بها من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غراسة.

٤ ـ تقرير التوحيد وابطال التنديد.

٥ ـ وجوب حمد الله وشكره على كل حال وذلك لتجدد النعمة في كل آن.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

(٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(سَرْمَداً) : أي دائما ، ليلا واحدا متصلا لا يعقبه نهار.

(بِضِياءٍ) : أي ضوء كضوء النهار.

(بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) : أي تنامون فتسكن جوارحكم فتستريح من تعب الحياة.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : أي في الليل.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي تطلبوا الرزق من فضل الله في النهار.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي كي تشكروا ربكم بطاعته كالصلاة والصيام والصدقة.

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) : أي أحضرنا من كل أمة من يشهد عليها وهو بيها عليه‌السلام.

(فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي حججكم على صحة الشرك الذي أنذرتكم رسلنا عواقبه فما قبلتم النذارة ولا البشارة.

(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) : أي تبين لهم أن العبادة والدين الحق لله لا لسواه.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من الأقوال الباطلة التي كانوا يردون بها على الرسل عليهم‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد وهو حول أنداد لله تعالى من مخلوقاته فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قل لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أندادا وهو

خالقهم ورازقهم ومدبر أمر حياتهم (أَرَأَيْتُمْ) (١) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي (٢) دائما ليلا واحدا متصلا لا يعقبه نهار (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أخبروني هل هناك (إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) (٣) كضياء النهار ، والجواب لا أحد وإذا فكيف تشركون به أصناما. (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ما يقال لكم. وقل لهم أيضا (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) أي دائما متصلا لا يخلفه ليل أبدا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى إنقراض هذا الكون وانتهاء هذه الحياة وقيام الناس لربهم من قبورهم يوم القيامة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي أيّ إله غير الله (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) فتخلدون إلى الراحة بالنوم والسكون وعدم الحركة فيه ، وإذا قلتم لا أحد يأتينا بليل نسكن فيه إذا فما لكم لا تبصرون هذه الآيات ولا تسمعون ما تحمله من الأدلة والحجج القواطع القاضية بأنه لا إله إلا الله ، ولا معبود بحق سواه. وقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ (٤) جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إذ ليس واجبا عليه ذلك وانما هو فضل منه ورحمة فالليل تسكنون فيه والنهار تتحركون فتبتغون رزقكم من فضل الله ، وبذلك تهيؤون للشكر إذا أكلتم أو شربتم أو ركبتم أو نزلتم قلتم الحمد لله ، والحمد لله رأس الشكر ، كما أن الليل والنهار ظرف للعبادة التي هي الشكر ، فالعبادات لا تقع إلا في الليل والنهار ، فالصيام في النهار والقيام بالليل والصلاة والصدقات فيهما. وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي اذكر يا رسولنا لهم تنبيها وتعليما يوم يناديهم الرب تبارك وتعالى فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء لي فعبدتموهم ، وهل يرجى أن يجيبوا لا ، لا ، وانما هذا السؤال ونظائره هو سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ وهو نوع من العذاب النفسي الذي هو أشد من العذاب الجسمي. وقوله تعالى : (وَنَزَعْنا (٥) مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأذكر لهم هذا الموقف من مواقف القيامة الصعبة (وَنَزَعْنا) أي أحضرنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد عليها وهو

__________________

(١) حقق الهمزة من (أَرَأَيْتُمْ) حفص ، وخففها ورش فقلبها ألفا تخفيفا أرايتم.

(٢) (سَرْمَداً) أي : دائما. قال طرفة بن العبد.

لعمرك ما أمري عليّ بعمة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

(٣) أي : بنهار تبصرون فيه معايشكم ويصلح فيه ثماركم ونباتاتكم.

(٤) فيه تصريح بأنّ الليل بما يحصل فيه من سكون وراحة للأبدان والعقول من الهم والتفكير ، والنهار بما يحصل فيه من عمل ونشاط للكسب وتحصيل الرزق نعمة الله على العباد اقتضتها رحمته بهم فله الحمد وله المنّة.

(٥) أعيد هذا الموقف مرة أخرى ليذكر فيه حالا لم تذكر في الأول وهي : إشهاد الأنبياء على أممهم ، وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية إذ هذه الآية كآية (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).

نبيها ، ويشهد الرسول أنه بلغ ونصح وأنذر ، ويقال لهم : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (١) على صحة ما كنتم تعبدون وتدعون. قال تعالى : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي تبين لهم أن الحق لله أي أن الدين الحق لله فهو المستحق لتأليه المؤلهين وطاعة المطيعين وقربات المتقربين لا إله غيره ولا رب سواه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ اشارة علمية إلى أن السماع يكون مع السكون وقلة الضجيج ، وأن الإبصار يكون مع الضوء ، ولا يتم مع الظلام بحال من الأحوال.

٢ ـ البرهنة القوية على وجوب توحيد الله إذ لا رب يدبر الكون سواه.

٣ ـ كون النهار والليل ظرفان للسكون وطلب العيش هما من رحمة الله تعالى أمر يقتضي شكر الله تعالى بحمده والاعتراف بنعمته وطاعته بصرف النعمة فيما يرضيه ولا يسخطه.

٤ ـ بيان أهوال القيامة ، بذكر بعض المواقف الصعبة فيها.

٥ ـ إذا كان يوم القيامة بطل كل كذب وقول ولم يبق إلا قول الحق والصدق.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً

__________________

(١) (هاتُوا) أحضروا ، والأمر مستعمل هنا للتعجيز إذ هم عاجزون عن الاتيان بأدنى حجة عن صحة شركهم وكفرهم بلقاء ربهم ، فعاب عليهم ما كانوا يكذبونه من الادعاءات الفارغة من أنّ أصنامهم تشفع لهم.

وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) : أي ابن عم موسى عليه‌السلام.

(فَبَغى عَلَيْهِمْ) : أي ظلمهم واستطال عليهم.

(ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) : أي أعطاه الله من المال ما يثقل عن الجماعة حمل مفاتح خزائنه.

(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) : أي لا تفرح فرح البطر والأشر.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) : أي اطلب فى المال الذى أوتيته الدار الآخرة بفعل الخيرات.

(عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : أي لعلم الله تعالى بأنى أهل لذلك.

(وَأَكْثَرُ جَمْعاً) : أي للمال.

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) : أي لعلم الله تعالى بهم فيدخلون النار بدون حساب.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص (١) قارون الباغي ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ابن اسحق بن إبراهيم عليه‌السلام. فهو ابن عم موسى بن عمران وابن خالته أيضا وكان يلقب المنور لحسن صورته ، ونافق كما نافق السامري المطرود. قال تعالى في ذكر خبره (إِنَّ قارُونَ (٢) كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي إسرائيلي ابن عم موسى بن عمران الرسول. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي على بني إسرائيل أي ظلمهم وطغى عليهم ، ولعل فرعون كان قد أسند إليه إمارة على بني إسرائيل فأطغته وملك أموالا كثيرة ففرته وألهته. وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ (٣) بِالْعُصْبَةِ (٤) أُولِي الْقُوَّةِ). وهذا الخبر الإلهي دليل على ما كان للطاغية

__________________

(١) هذا استئناف ابتدائي لذكر قصة لها مغزاها ونتائجها من الموعظة والذكرى.

(٢) ومعزى هذا القصص أولا : تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا لا يقصه غير من يوحي إليه بحال. ثانيا : تضمن القصص الرد على المعجبين بالمال ومتاع الحياة الدنيا وبيان نهايتهم المؤلمة ، وثالثا : عرض مشابه لموقف أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أغنياء مكة وهم يتطاولون عليهم بالمال والجاه. كما كان قارون مع ضعفة بني اسرائيل وفي ذلك عظة للمؤمنين وذكرى للكافرين.

(٣) (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) الأكثرون على أنّ (ما) موصول ، وصلتها جملة : (إنّ مفاتيحه) وأنكر بعض أن تبتديي الصلة بحرف إنّ فقالوا : (ما) موصوفة وما بعدها في محل الصفة ، والمفاتيح : جمع مفتح بكسر الميم : اسم آلة الفتح.

(٤) (تنوء) : من ناء بالشيء ينوء ثقل عليه ، والباء : في (بِالْعُصْبَةِ) للمصاحبة ، وليست للسببية ، إذ هي كما في قول امرىء القيس :

وأردف أعجازا وناء بكلل

والعصبة : الجماعة من الخمسة إلى العشرة فأكثر.

قارون من أموال بحيث أن المفاتح تثقل كاهل العصبة أي الجماعة من الرجال لو حملوها كلها وذلك لثقلها. وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أي من بني إسرائيل واعظين له مذكرين (لا تَفْرَحْ) أي بأموالك فرح الأشر البطر ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي الأشرين البطرين الذين يختالون ويتفاخرون ويتكبرون. (وَابْتَغِ) أي اطلب (فِيما آتاكَ اللهُ) من أموال (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تصدّق منها وأنفق فى سبيل الله كبناء مسجد أو مدرسة أو ميتم أو ملجأ إلى غير ذلك من أوجه البر والإحسان. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ (١) مِنَ الدُّنْيا) فكل واشرب والبس واركب واسكن ولكن فى غير اسراف ولا مخيله ، (وَأَحْسِنْ) عبادة الله تعالى وطاعته وأحسن إلى عباده بالقول والعمل (كَما أَحْسَنَ) أي الله تعالى إليك (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي (٢) الْأَرْضِ) بترك الفرائض وارتكاب المحرمات. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ومن لم يحبه الله أبغضه ومن أبغضه عذبه في الدنيا والآخرة فبعد هذه الموعظة من قومه الصالحين أهل العلم والبصيرة ردّ هذا الطاغية قارون بما أخبر به تعالى عنه في قوله في الآية (٧٨) (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي لا تهددوني ولا تخوفوني بسلب مالي عني إن أنا لم أحسن فإن هذا المال قد (أُوتِيتُهُ) أي آتانيه الله على علم (٣) منه بأني أهل له ولذا أعطاني وزاد عطائى وأكثره قال تعالى في الرد عليه في زعمه هذا (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) أي أيقول ما يقول من الزعم الكاذب ولم (يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ،) كعاد وثمود وقوم إبراهيم فلو كان كثرة المال دليلا على حب الله ورضاه عن أهله ، ما أهلك عادا وثمودا وقوم نوح من قبل وكانوا أشد قوة وأكثر مالا ورجالا وقوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ (٤) عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي إذا أكثر العبد من الإجرام بالشرك والمعاصي حق عليه كلمة العذاب وآن أوان عذابه لا يسأل عن ذنوبه بل يؤخذ فجأة كما أن هؤلاء المجرمين سيدخلون النار بغير حساب فلا يسألون ولا يحاسبون. قال تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ (٥) فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي ويرمون في جهنم ويقال لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٦).

__________________

(١) أشار ابن عمر إلى هذا القول في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ومن تأولها بالعمل للآخرة فقط شاهده قول الشاعر :

مما تجمع الدهر كله

رداءان تلوى فيهما وحنوط

(٢) الفساد في الأرض يكون بفعل المعاصي الجامعة لترك الفرائض واتيان الكبائر.

(٣) وقال ابن زيد : لعلم الله تعالى بفضلي ورضاه عني أي : إنّي أوتيتها باستحقاقي.

(٤) أي : لا يسأل سؤال استعتاب ليتوب أما سؤال التقريع والتوبيخ فلا مانع منه ، وذلك كقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وقوله (وما هم بمعتبين).

(٥) (بِسِيماهُمْ) إنهم سود الوجوه زرق العيون.

(٦) (الْمُجْرِمُونَ) : هم الذين أجرموا على أنفسهم أي : خبّثوها بكثرة ما يرتكبون من الجرائم كالكفر والظلم وكبائر الذنوب ، كالقتل ظلما وأكل الربا وتعاطي الخمور والزنى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ المال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله عزوجل وقليل ما هم.

٢ ـ حرمة الفرح بالمال والإمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء.

٣ ـ من فضل الله على الأمة أن يوجد فيها عالمون ينصحون ويرشدون ويوجهون.

٤ ـ من الحزم للمرء أن يطلب من المال والجاه والمنصب أعلى الدرجات في الجنة.

٥ ـ حلّية الأكل من الطيب والشرب من الطيب واللبس والركوب والسكن من غير إسراف ولا خيلاء ولا كبر.

٦ ـ العافية والمال وعز السلطان يصاب صاحبها بالاغترار إلا من رحم الله

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(فِي زِينَتِهِ) : أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية.

(يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) : أي تمنوا أن لو أعطوا من المال والزينة ما أعطي قارون.

(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي اعطوا العلم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء.

(وَيْلَكُمْ) : أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا.

(ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) : أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني.

(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) : أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون على الإيمان والتقوى.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) : أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإجرام.

(تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) : أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الامارة والزينة والمال والجاه.

(وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) : أي أعجب عالما أن الله يبسط الرزق لمن يشاء.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيّق.

(وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) : أي أعجب عالما أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) (١) أي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهم يشاهدون موكبه (فِي زِينَتِهِ) الخاصة من الثياب والمراكب. قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ (٢) عَظِيمٍ) أي بخت ونصيب ورزق (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي الشرعي (٣) الديني العالمون بالدنيا والآخرة. وأسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرون هذا الفاني على الباقي (ثَوابُ اللهِ) وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ولازم ذلك أنه ترك الشرك والمعاصي ، وقوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها) أي (٤) هذه الجملة من الكلام : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) بربه (وَعَمِلَ صالِحاً) في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي ولا يلقى هذه الكلمة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) من أهل الإيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله إياها فيقولونها لصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الآية (٨١) (فَخَسَفْنا بِهِ (٥) وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاما منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه. وقوله تعالى (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن فيها من أعوانه الظلمة والمجرمين. (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الأرض التي مازال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) (٦) يخبر تعالى

__________________

(١) لم تؤثر فيه موعظة واعظيه ولم ينتفع منها بشيء لظلمة نفسه وقساوة قلبه لما ران عليه من الذنوب فخرج في مظهر الكبرياء والتحدي.

(٢) الحظ : القسم الذي يعطاه المقسوم له.

(٣) في الآية دليل قوي على أنّ الجهل بالله وشرائعه ووعده ووعيده هو سبب كل شر وفساد في الأرض ، وأنّ العلم بذلك هو سبيل الإصلاح في الأرض.

(٤) (يُلَقَّاها) الضمير عائد على ما دلّ عليه قولهم : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وهو هذه الموعظة ، ولا يلهمها وتلقى في روعه وينطق بها إلّا أهل الصبر على الطاعات وعن المعاصي فتصفو لذلك نفوسهم فيلهمون مثل هذه الموعظة.

(٥) الفاء هنا : للترتيب والتعقيب فقد خسف به يوم خروجه في زينته.

(٦) أي : تمنوا منزلته بين الناس ، وهي منزلة المال والترف والجاه والرفعة ومعنى : مكانه : ما كان عليه من منزلة العلو والرفعة.

عن الذين قالوا يوم خرج عليهم قارون في زينته يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يخبر تعالى عنهم أنهم لما شاهدوا الخسف الذي حل بقارون وبداره قالوا ويكأن الله (١) يبسط الرزق لمن يشاء أي نعجب عالمين ، أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (٢) أي على من يشاء فالبسط والقبض كله لله وبيد الله فما لنا لا نفزع إلى الله نطلب رضاه ولا نتمنى ما تمنيناه وقد أصبح ذاهبا لا يرى بعين ولا يلمس بيدين ، (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٣) أي نعجب أيضا عالمين بأنه لا يفلح الكافرون كقارون وفرعون وهامان أي لا يفوز الكافرون لا بالنجاة من العذاب ولا بدخول الجنان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين أبناء الدنيا والعياذ بالله تعالى

٢ ـ بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشّد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

٣ ـ بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.

٤ ـ بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإيمان أقرب إلى التوبة ممن لا إيمان له.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

__________________

(١) (وَيْكَأَنَّ اللهَ) قيل : ويكأن : مركبة من وي وهو اسم فعل بمعنى أعجب وكاف الخطاب وأنّ الناصبة ، ومعنى الكلام :

أعجب يا هذا من بسط الرزق لمن شاء ، قال عنترة ، والشاهد في قوله : ويك ، قال :

ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

وذهب بعض إلى أنّ أصل ويك : ويلك إعلم أنه كذا فحذفت اللام والفعل ، فصارت ويك.

(٢) أي : يضيق الرزق ولا يوسعه.

(٣) أي : لو لا أن منّ الله فعافانا مما ابتلى قارون به من المال والظلم والطغيان لحل بنا ما حل به من الخسف والخسران.

شرح الكلمات :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) : أي الجنة ، دار الأبرار.

(لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) : أي بغيا ولا استطالة على الناس.

(وَلا فَساداً) : أي ولا يريدون فسادا بعمل المعاصي.

(وَالْعاقِبَةُ) : أي المحمودة في الدنيا والآخرة.

(لِلْمُتَّقِينَ) : الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون ما لا يرضى به الله تعالى.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أي يوم القيامة والحسنة : أثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن.

(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي تضاعف له عشرة أضعاف.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه.

معنى الآيات :

لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحا فأشار إليه تعالى بقوله (تِلْكَ) (١) (الدَّارُ الْآخِرَةُ) التي هي الجنة إذ هي آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها. نجعلها ، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكنا للذين لا يريدون (٢) علوا في الأرض ولا فسادا ، لا يريدون استطالة على الناس وتعاليا وتكبرا عليهم وبغيا ، ولا فسادا بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣) أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عزوجل ، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ) أي يوم القيامة (بِالْحَسَنَةِ) وهي الطاعات لله ورسوله (فَلَهُ) جزاء مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف. إذ تضاعف الحسنة التي باشرها ، كما

__________________

(١) الجملة ابتدائية وهو بدء مشوق ، قرأ الفضل بن عياض هذه الاية ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا أي : أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب.

(٢) روى سفيان بن عيينة أن عليا بن الحسين وهو راكب مرّ على مساكين يأكلون كسرا لهم فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فتلا هذه الآية : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ..) إلى (فَساداً) ثم نزل وأكل معهم.

(٣) الجملة تذييلية تقرر حقيقة أخرى وهي الإشارة بالتقوى والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل التقوى.

لا تضاعف حسنة من همّ بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة ولا تضاعف لعدم مباشرته إياها وقوله (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي يوم القيامة. والسيئة أثر معصية الله تعالى ورسوله في نفسه (فَلا يُجْزَى) إلا مثلها أي لا تضاعف عليه وذلك لعدالة الله تعالى ورأفته بعباده ، وهو معنى قوله تعالى (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الشرك والمعاصي (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي في الدنيا إذ هي دار العمل والآخرة دار الجزاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة التكبر والاستطالة على الناس ، والعمل بالمعاصي ، وأنه الفساد في الأرض.

٢ ـ بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات.

٣ ـ العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإيمان والتقوى.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) : أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه.

(لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : أي لمرجعك إلى مكة فاتحا إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه.

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا) : أي تأمل أن ينزل عليك القرآن ويوحى به إليك.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : لكن برحمة من الله وفضل أنزله عليك.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) : أي فمن شكر هذه النعمة أن لا تكون معينا للكافرين.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ) : أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي ادع الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وترك الشرك به.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي لا تعبد مع الله إلها آخر بدعائه والذبح والنذر له.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) : أي فان.

(إِلَّا وَجْهَهُ) : أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه.

معنى الآيات :

تقدم في السياق الكريم الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة : التوحيد ، النبوة ، البعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي (١) فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، (لَرادُّكَ) أي لمرجعك (٢) (إِلى مَعادٍ) (٣) وهو العودة إلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي إليه ، وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فإنه تعليم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأنه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علّمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا ، رسول الله ، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون.

وقوله (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن ، وذلك قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ (٤) رَبِّكَ) أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين ، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي :

(١) (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي عونا لهم بحال من الأحوال.

__________________

(١) ختمت هذه السورة المكية بخاتمة نزلت بالمدينة ، وهي بشرى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن مرده إلى مكة فاتحا قاهرا غالبا وحقق الله تعالى له ذلك فبعد ثمان سنوات من هجرته ظهر مصداق هذه البشرى.

(٢) مرجعك : اسم فاعل من أرجعه الرباعي فهو مرجع له.

(٣) وفسّر المعاد بالجنة لأنه دخلها ليلة المعراج ، وأخرج منها وبقيت نفسه ملتصقة بها فبشر بأن الله تعالى سيرده إليها.

(٤) الاستثناء منقطع لذا فسّر بلكن.

(٢) (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) فتترك تلاوتها وإبلاغها والعمل بها. وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية.

(٣) (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه.

(٤) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي فتبرّأ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد.

(٥) (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعبد مع الله إلها آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أيّ قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى ، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله.

وقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه. كما أن كل شيء سوى الله عزوجل فان ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (ولَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء العادل بين عباده وقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عزوجل ، وفي هذا تقرير للبعث والجزاء. والحمد لله أولا وآخرا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإخبار به وذلك حيث عاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة بعد الخروج منها.

٢ ـ مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال اسلوب التشكيك.

٣ ـ حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين.

٤ ـ وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها.

٥ ـ تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية.

٦ ـ فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعدّ منه ثمانية نظمها بعضهم بقوله :

هي العرش والكرسي نار وجنة

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

__________________

(١) قال مجاهد : معناه إلّا هو ، وقال سفيان ، وأبو العالية : إلّا ما أريد به وجهه أي : ما يفعل من الطاعات لأجله ، كما قال الشاعر :

استغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

سورة العنكبوت

مكية (١)

وآياتها تسع وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

شرح الكلمات :

(الم) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ ألف لام ميم.

(وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) : أي لا يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس.

(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) : أي في إيمانهم ، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم.

(أَنْ يَسْبِقُونا) : أي يفوتونا فلا ننتقم منهم.

__________________

(١) روي أن الآيات الأولى منها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة ، وقال علي بن أبي طالب : نزلت بين مكة والمدينة.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : أي بئس الحكم هذا الذي يحكمون به ، وهو حسبانهم أنهم يفوتون الله تعالى ولم يقدر على الانتقام منهم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإيمان وصالح الأعمال.

(وَمَنْ جاهَدَ) : أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس.

(فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) : أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ) : أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.

معنى الآيات :

(الم) : الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزّلها عزوجل وقوله (أَحَسِبَ (١) النَّاسُ) أي أظن الناس (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) فيكتفى منهم بذلك و (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي ولا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى. والآية وإن نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، واللفظ عام هنا ، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه «ال» أفادت استغراق جميع أفراده. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ (٢) مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة فهي إذا سنة ماضية في الناس لا تتخلف. وقوله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم أي يظهر ذلك (٣) ويعلمه مشاهدة بعد أن علمه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من

__________________

(١) قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية مسلية للمعذبين بمكة المتخلفين عن الهجرة وهم : سلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر ، وياسر أبوه وسميّة أمّه إذ كانت صدورهم تضيق بالعذاب وربما استنكر أن يمكن الله الكفّار من المؤمنين.

(٢) روى البخاري عن خباب بن الأرت قال : (شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون) وروى ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ بلاء؟ قال : (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة!!).

(٣) وفي الحديث : (من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها) أي : أظهرها عليه.

شاق الأفعال وشاق التروك ، إذ الهجرة والجهاد والزكاة أفعال ، وترك الربا والزنا والخمر تروك (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) حيث ادّعوا الإيمان ولما ابتلوا بالتكاليف لم يقوموا بها ، فبان بذلك عدم صدقهم وإنهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون. وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ (١) يَسْبِقُونا) أي أظن (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) من الشرك والمعاصي (أَنْ يَسْبِقُونا) أي يفوتونا فلم نأخذهم بالعذاب. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) به لأنفسهم أي قبح حكمهم هذا من حكم لفساده ، إذ أقاموه على ظن منهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم وهو على كل شيء قدير وأنه لا يعلمهم وهو بكل شيء عليم. وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ (٢) اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي (مَنْ كانَ) يؤمن ويؤمل لقاء الله وذلك يوم القيامة فليعلم أن أجل الله المضروب لذلك لآت قطعا وعليه فليستعد للقائه بما يناسبه وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والعمل الفاسد ، ومن هنا دعوى المرء أنه يرجو لقاء ربه ولم يعمل صالحا يثاب عليه ، دعوى لا تصح قال تعالى في سورة الكهف (.. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأعمالهم ، فدعوى الإيمان ظاهرة من العبد أو باطنة لا قيمة لها ما لم يقم صاحبها الدليل عليها وذلك بالإيمان والجهاد للعدو (٣) الظاهر والباطن. وقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي منفعة هذه العبادة عائدة على العبد نفسه أما الله عزوجل فهو في غنى عن عمل عباده غنى مطلقا وهذا ما دل عليه قوله : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات إذ كل ما سوى الله تعالى عالم ويجمع على عوالم وعالمين. (٤) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) هذا وعد من الله تعالى لمن آمن من عباده وذلك على إيمانه وصالح عمله فعلا وتركا بأنه يكفر عنه سيئاته التي عملها قبل الإسلام وبعده. ومعنى يكفرّها عنهم يغطيها ويسترها ولم يطالبهم بها كأنهم لم يفعلوها. وقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي على أعمالهم الصالحة (أَحْسَنَ) أي بأحسن عمل عملوه فتكون أعظم ما تكون مضاعفة. وهذا من تكرمه على عباده الصالحين ليجزي بالحسنة أضعافها مئات المرات.

__________________

(١) قال ابن عباس : المراد بهم : الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل والأسود بن العاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل.

(٢) قال القرطبي : أجمع أهل التفسير على أنّ المعنى من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه.

(٣) المراد بجهاد العدو الظاهر الكفار والباطن النفسي.

(٤) جمع ملحق بمذكر سالم نحو : الحمد لله رب العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة أن الإيمان يصدق بالأعمال أو يكذب.

٢ ـ بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق.

٣ ـ تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمنا ما فإنها واقعة لا محالة.

٤ ـ ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه. فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصلحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً (١) وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا

__________________

(١) يصح إعراب (حُسْناً) على أنه منصوب على نزع الخافض أي : بالحسن ، نحو : وصيته خيرا ، أي : بالخير ، ويصح أيضا أن يكون العامل محذوفا تقديره ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما حسنا ، كما قال الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنما خافونا

أي يوصينا أن نفعل بها خيرا

وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : أي عهدنا إليه بطريق الوحي المنزل على رسولنا.

(بِوالِدَيْهِ حُسْناً) : أي إيصاء ذا حسن ، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما.

(وَإِنْ جاهَداكَ) : أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك.

(لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) : أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة.

(فِتْنَةَ النَّاسِ) : أي أذاهم له.

(كَعَذابِ اللهِ) : أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق.

(إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) : أي في الإيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا.

(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) : أي ديننا وما نحن عليه.

(وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) : أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم ، فالكلام خبر وليس إنشاء.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) : أي أوزارهم ، والأوزار الذنوب.

(وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) : أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا.

(عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي يكذبون.

معنى الآيات :

هذه الآيات نزلت في شأن (١) سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم

__________________

(١) روى مسلم وغيره عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في أربع آيات فذكر قصته قال : قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية.

تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلى ، فلما أيست منه أسلمت وأكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي عهدنا إليه بواسطة الرسل إيصاء ذا حسن وهو برهما بطاعتهما في المعروف وترك أذاهما ولو قل ، وإيصال الخير بهما من كل ما هو خير قولا كان أو فعلا. وقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) أي بذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي شيئا من الشرك أو الشركاء فلا تطعهما كما فعل سعد بن أبي وقاص مع والدته في عدم إطاعتها. وقوله (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أولادا ووالدين (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وأجزيكم به فلذا قدموا طاعتي على طاعة الوالدين ، فإني أنا الذي أحاسبكم وأجزيكم بعملكم أنتم وإياهم على حد سواء. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي هي العبادات التي تعبّد الله تعالى بها عباده المؤمنين ، فشرعها لهم وبينها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصيام والصدقات والجهاد والحج وما إلى ذلك. هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان الحق والعمل الصالح الخالي من الشرك والرياء. يقسم الله تعالى أنه يدخلهم في مدخل الصالحين وهم الأنبياء والأولياء في الجنة دار السّلام. وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ (١) مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية هذه نزلت في أناس كانوا بمكة وآمنوا وأعلنوا عن إيمانهم فاضطهدهم المشركون فكانوا ينافقون فأخبر تعالى عنهم بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي آذاه المشركون نافق وارتد (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي أذاهم له وتعذيبهم إياه (كَعَذابِ اللهِ) يوم القيامة فوافق المشركين على الكفر. وقوله تعالى : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي على الإيمان وإنما كنا مكرهين وهذه نزلت فيمن خرجوا من مكة إلى بدر مع المشركين لما انهزم المشركون وانتصر المسلمون وأسروا قالوا (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي على الإيمان فرد تعالى دعواهم بقوله (أَوَلَيْسَ (٢) اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي الناس. وقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) تقرير لما سبق في الآية قبل وليترتب عليه الجزاء على الإيمان وعلى النفاق. فعلمه تعالى يستلزم الجزاء العادل فأهل الإيمان يجزيهم بالنعيم المقيم وأهل النفاق بالعذاب المهين. أولئك في دار السّلام وهؤلاء في دار البوار. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي ديننا

__________________

(١) قال الضحاك هذه الآية نزلت في ناس من المنافقين في مكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.

(٢) الاستفهام للتقرير فلذا يجاب ببلى.

وما نحن عليه (وَلْنَحْمِلْ (١) خَطاياكُمْ) أي قال رؤساء قريش لبعض المؤمنين اتركو سبيل محمد ودينه واتبعوا سبيلنا وديننا ، وإن كان هناك بعث وجزاء كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحن مستعدون أن نتحمل خطاياكم ونجازى بها دونكم فأكذبهم الله تعالى بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) و (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم ولنحمل خطاياكم. وقال تعالى مقسما بعزته وجلاله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي أوزارهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأوزارا أي ذنوبا مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون من أنهم يحملون خطايا المؤمنين يوم القيامة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي.

٢ ـ بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين.

٣ ـ ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإيمان فما هم بمؤمنين.

٤ ـ بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان.

٥ ـ تقرير مبدإ من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح (٢).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

__________________

(١) جزم الفعل (وَلْنَحْمِلْ) على الأمر ، قال الفرّاء والزجّاج : هو في تأويل الشرط والجزاء أي : أن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ، كما قال : مدثار بن شيبان الضمري.

تقول خليلتي لما اشتكينا

سيدركنا بنو القرم الهجان

فقلت ادعي وأدع فإن أندى

لصوت أن ينادى داعيان

أي : إن دعوت دعوت.

(٢) نص الحديث كما هو في الصحيح : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا) وفي الصحيح أيضا (ما قتلت نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل).

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) : أي نوحا بن لمك بن متوشلخ بن ادريس من ولد شيث بن آدم ، بينه وبين آدم ألف سنة.

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) : أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة وخمسين سنة.

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) : أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم.

(وَهُمْ ظالِمُونَ) : أي مشركون.

(وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) : أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون.

معنى الآيتين :

لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحا وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفا عنهم فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء. إذ لم يكن غيرهم (فَلَبِثَ فِيهِمْ) أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الأصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان هؤلاء الخمسة رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحا رسولا فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ (٢) سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم فلم يستجيبوا له (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحا

__________________

(١) روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (أوّل نبي أرسل واختلف في سني عمره : فروى عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لمّا بعث الله نوحا إلى قومه وبعثه وهو ابن لخمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال : يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا؟ قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر).

(٢) العدول عن السنة إلى العام حتى لا يحصل تكرار في لفظ السنة وهو من بلاغة الكلام.

ومن معه في السفينة ، وكانوا قرابة الثمانين نسمة ، وخلف نوحا ثلاثة أولادهم سام وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر ويافث وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، هذا معنى قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ (١) ظالِمُونَ) أي لأنفسهم بالشرك. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) (٢) ومن بين ما فيها أبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث ومنهم عمر الكون بالبشر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وقوله (وَجَعَلْناها آيَةً (٣) لِلْعالَمِينَ) أي حادثة الطوفان ومنها السفينة ومكث تلك المدة الطويلة مع قلة المستجيبين (آيَةً) أي عبرة (لِلْعالَمِينَ) أي للناس ليعتبروا بها فلا يعصوا رسلهم ولا يشركون بربهم هذا إذا اعتبروا وقليل من يعتبر.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في ارسال الرسل لهداية الخلق.

٢ ـ بيان قلة من استجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدعاة من بعده.

٣ ـ بيان اهلاك الله تعالى الظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا

__________________

(١) الطوفان : مأخوذ من أطاف بالشيء يطيف وهو كطاف يطوف طوفا وطوفانا قال النحاس يقال : لكل كثير مطيف بالجميع. من مطر أو قتل أو موت طوفان.

(٢) في البخاري أن قتادة قال : بقيت السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة. وقيل : إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج ، وكان الجودي الذي رست فوقه قرب (باقردى) وهي قرية من جزيرة بن عمر بالموصل شرقي دجلة.

(٣) الضمير في : (وَجَعَلْناها) عائد إلى السفينة ، وما في التفسير أعم وأشمل.

فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

شرح الكلمات :

(وَإِبْراهِيمَ) : أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإبراهيم ، وعلى قراءة الرفع : ومن المرسلين إبراهيم.

(اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) : أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.

(أَوْثاناً) : أصناما وأحجارا وصورا وتماثيل.

(وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) : أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) : أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.

(وَاعْبُدُوهُ) : أي بالإيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) : أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الآيات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.

(وَما عَلَى الرَّسُولِ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.

معنى الآيات :

هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ) أي (١) واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) البابليين ومن بينهم والده آزر يا قوم (اعْبُدُوا اللهَ) أي بتوحيده في عبادته (وَاتَّقُوهُ) بترك الشرك والعصيان وإلا حلّت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الإيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير

__________________

(١) ويجوز أن يكون منصوبا ب (أنجينا) معطوفا على الهاء.

والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه‌السلام (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) يخبرهم معرفا لهم بخطئهم فيقول (إِنَّما تَعْبُدُونَ (١) مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أي أصناما (٢) وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا. إن الذي يجب أن يعبد الله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير. أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى. وقوله لهم (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي وتصنعون كذبا تختلقونه اختلاقا عندما تقولون في التماثيل والاصنام إنها آلهة. وقوله عليه‌السلام لقومه (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) يخبرهم عليه‌السلام معرفا لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقا لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذا من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لو لا الغفلة والجهل ، ولما أبطل لهم عبادة الأصنام أرشدهم إلى عبادة الله الواحد القهار فقال (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه (وَاعْبُدُوهُ) بالإيمان به وبرسوله وبتوحيده (وَاشْكُرُوا (٣) لَهُ) يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ذكّرهم بعلة غفلتهم ومصدر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون. إذا فليتعرفوا إليه ويعبدوه طلبا لرضاه واكرامهم يوم يلقونه. وقوله تعالى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك. (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) قوم نوح وعاد وفرعون وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وغيرهم (وَما عَلَى الرَّسُولِ) (٤) أي رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا البلاغ المبين وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما : الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من آياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن (٥) تبقوا على إصراركم على الشرك والكفر والعصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم ، إذ كفاركم ليسوا بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب. هذا ما دلت عليه الآية (١٨) وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص

__________________

(١) (إِنَّما) : ما : كافة أوثانا منصوب ب (تَعْبُدُونَ).

(٢) قال أبو عبيدة : الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما اتخذ من حصى أو حجارة.

(٣) سلك ابراهيم في دعوة قومه هذه سبيل الاستدلال بالنعم الحسية لأنّ إثباتها أقرب إلى أذهان العوام ، وعدى الشكر باللام لما تفيده اللام من الاختصاص أي : الاستحقاق.

(٤) القصد من هذه الجملة : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إعلام المخاطبين بأن تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه نكاية به أو تشفّ منه ، فإن كان من خطاب الله تعالى لقريش فالمراد من الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان من كلام إبراهيم ، فالمراد به إبراهيم نفسه سلك فيه مسلك الإظهار في مقام الإضمار تنويعا للأسلوب.

(٥) أي : والثاني : أن تبقوا على إصراركم أعني الخيار الثاني بعد الأول.

إبراهيم عليه‌السلام. وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذ بقلوبهم إذ الآيات كلها مسوقة لهدايتهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب عبادة الله وتقواه طلبا للنجاة من الخسران في الدارين.

٢ ـ بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية.

٣ ـ ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم

٤ ـ وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.

٥ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

شرح الكلمات :

(أَوَلَمْ يَرَوْا) : أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.

(يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) : أي كيف يخلق المخلوق ابتداء.

(ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإعادة.

(إِنَّ ذلِكَ) : أي أن الخلق الأول والثانى هو الاعادة.

(عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي سهل لا صعوبة فيه ، فكيف إذا ينكر المشركون البعث.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه ، تستدلون بذلك على قدرته عل البعث الآخر.

(ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) : أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.

(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) : أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم ، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلا.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) : أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.

(يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) : أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.

معنى الآيات :

مازال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الآيات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في

الدار الاخرة. قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) (١) أي أولئك المنكرون للبعث ، أيكذبون؟ ، ولم ينظروا كيف يبدىء الله الخلق أي خلق الإنسان ، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك ، ثم هو تعالى يعيده متى شاء ، (إِنَّ ذلِكَ) أي الخلق والإعادة بعد الفناء والبلى (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل لا يتعذر عليه أبدا.

وقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا (٢) فِي الْأَرْضِ) أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) شرقا وغربا (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض ، وسماء ، وانهار ، وأشجار ، وحيوان ، وإنسان ، إنها كلها كانت عدما فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (٣) وذلك بأن يعيد حياة الانسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيرا أو شرا ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ (٤) قَدِيرٌ) إذا فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإيمان وصالح الأعمال فيدخلهم جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإيمان والصالحات. وقوله : (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله (وَما أَنْتُمْ (٥) بِمُعْجِزِينَ) أي الله تعالى (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم الهرب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال. وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تغلبون ولا تعذبون وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) التي جاءت بها

__________________

(١) الاستفهام للإنكار والتوبيخ لهم على عدم استعمال عقولهم إذ ينكرون البعث وأمامهم صوّر منه دالة عليه فهو يبدىء الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبدا ويخلق المرء ثم يميته بعد أن يخلق منه ولدا ويخلق من الولد ولدا ، وهكذا تتكرر عملية البعث أمامهم فما لهم لا يرونها؟!

(٢) هذا الأمر للارشاد والتوجيه والنصح لو كانوا يعقلون.

(٣) أظهر اسم الجلالة بعد تقديم ذكر ضميره في قوله : (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ليحرك ضمائرهم باسم الجلالة ويدفع بنفوسهم إلى التسليم بالنشأة الآخرة بعد التسليم بالنشأة الأولى وهي بدء الخلق.

(٤) الجملة تذييلية أعلن فيها عن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء أراده : البدء كالإعادة سواء.

(٥) المعجز : هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما وهو هنا كناية عن الغلبة والانقلاب ، قرّر بهده الجملة عجزهم التام في الأرض التي هم يسكنونها ، وحتى في السماء لو فرض أنهم يرقونها وما هم بأهل لذلك كما قال الأعشى.

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلّم

رسله (وَلِقائِهِ) وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير ، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به ، ولذا قال تعالى : (أُولئِكَ) أي المكذبون بآيات (١) الله ولقائه (يَئِسُوا مِنْ (٢) رَحْمَتِي) إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي ، أو يعملوا صالحا من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء ، فهم يائسون من الجنة. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.

٣ ـ تقرير عجز الانسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم بالإيمان والتقوى.

٤ ـ إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال ، وسيعذبون في نار جهنم أشد العذاب.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

__________________

(١) المراد بآيات الله : القرآن الكريم : المشتمل على الأدلة والبراهين والحجج الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته والمفصلة لأنواع عباداته.

(٢) أخبر عن يأسهم بالفعل الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه وإن كان المعنى أنهم سييأسون من رحمة الله التي هي الجنة لا محالة.

شرح الكلمات :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي قوم إبراهيم عليه‌السلام.

(إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) : أي إلا قولهم اقتلوه أو حرقوه

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالما.

(لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.

(أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) : أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.

(يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) : أي يكفر المتبوعون بأبتاعهم ويتبرأون منهم.

(وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.

معنى الآيات :

مازال السياق في قصص (١) إبراهيم الخليل عليه‌السلام فإنه لمّا أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم : أي (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) (٢) أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار ، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها ، وقال الله جل جلاله للنار (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت كما أمرت وخرج إبراهيم سالما لم تحرق النار سوى كتافه الذي شد به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح بردا وسلاما على إبراهيم فلم تحرقه ، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين ، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإيمان بمثابة

__________________

(١) عاد السياق الكريم إلى الحديث عن قصة إبراهيم بعد تلك الجمل الاعتراضية التي تخللت القصة بقصد إثارة شعور قريش وتحريك ضمائرها رجاء أن تطلب الهداية فتحصل عليها إذ هي المقصودة من سوق القصة.

(٢) ثمّ اتفقوا على تحريقه ونفذوا ما اتفقوا عليه فألقوه في النار ونجّاه الله فله الحمد وله المنة.

الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وان فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الآيات. وقوله : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً (١) مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أنهم ما اتخذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها ، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحتوها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم (ويوم القيامة) أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ (٣) بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس ، (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه ، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله : (وَمَأْواكُمُ (٤) النَّارُ) أي ومقركم الذي يؤويكم جميعا فتستقرون فيه هو النار (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثانا ، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن الظّلمة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.

٢ ـ في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك ، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذ هى خوارق للعادات.

٣ ـ بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

__________________

(١) قرأ نافع مودّة بالتنوين منصوبا ، وقرأ حفص بدون تنوين منصوبا مضافا إلى الظرف ، وقرأ ابن كثير وغيره مودّة بالرفع مضاف إلى (بينكم) على أنه خبر إنّ وما : اسمها.

(٢) قال القرطبي : معنى الآية : جعلتم الأوثان تتحابون عليها في الحياة الدنيا.

(٣) قال القرطبي : تتبرأ الأوثان من عبادها ، والرؤساء من السفلة كما قال الله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

(٤) قيل : يحشرون في النار الرؤساء والأتباع والأوثان كقوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهي الأوثان التي كانت تعبد من دون الله عزوجل.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) : أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.

(مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) : أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم اسحق الابن ويعقوب الحفيد.

(فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) : فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإلهية.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : أي هو أحدهم ، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا ، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.

معنى الآيات :

هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ) أي إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى (١) رَبِّي) فترك بلاد قومه من (٢) سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء

__________________

(١) المهاجرة : مفاعلة من الهجر الذي هو الترك لما كان ملازما له وحرف إلى الأصل فيه الانتهاء ، وهي هنا أفادت التعليل : أي لأجل ربي إذ هو الذي أمره بها من أجل أن يعبده في دار هجرته هو وأهله.

(٢) من قرية كوثا من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ، ومعه ابن أخيه لوط بن تارخ ، وامرأته سارة ، وهو أوّل من هاجر في سبيل الله وأوّل من هاجر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبيل الله تعالى : عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أرض الحبشة.

هجرته إلى ربه عزوجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ (١) وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وهبه أي أعطاه ولده إسحق بن سارة وولد اسحق وهو يعقوب ، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضا فالتوراة أنزلت على موسى ، والزبور على داود ، والانجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم ، والقرآن الكريم أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) وصف ربه بالعزة والحكمة. فقال : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ (٢) الْحَكِيمُ) أي الغالب القاهر (الْحَكِيمُ) الذي وضع كل شيء في موضعه ، ودلائل العزة ان أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من أرض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكر في قوله (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإلهية كاليهودية والنصرانية ، والإسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه‌السلام وفي هذا تسلية للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.

٣ ـ بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ

__________________

(١) هذه الهبة كان قبلها هبة اسماعيل إذ ولد قبل اسحق عليهم‌السلام.

(٢) هذه الجملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (إني مهاجر إلى ربي) لأنّ من كان عزيزا يعتزّ به جاره ، ومن كان حكيما لا يأمر بغير ما هو خير للمأمور الممتثل لأمره.

فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) : أي واذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سدوم.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) : أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.

(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) : أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.

(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) : أي باعتدائكم على المارة في السبيل فامتنع الناس من المرور خوفا منكم.

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) : أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإزار والفاحشة أي اللواط.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي إلا قولهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص لوط عليه‌السلام مع قومه أهل سدوم وعموريّة والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لا يتم لأحد إلّا من طريق الوحي ، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى : واذكر يا رسولنا لقومك (١) لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحا أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين ، ثم يواصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول : (أَإِنَّكُمْ (٢) لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي في أدبارهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسرا وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل ، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا النسل

__________________

(١) (لُوطاً) منصوب إمّا على تقدير اذكر كما في التفسير أو على تقدير وأرسلنا أو أنجينا كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ ..)

(٢) الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقرير على جريمتهم التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

بقطع سبيل الولادة ، وزاد لوط في تأنيبهم والإنكار عليهم والتوبيخ لهم فقال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضا ، وبالتضارط فيه ، وحل الإزار ، والقذف بالحصى وما إلى ذلك (١) مما يؤثر عنهم من سوء وقبح. قال تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) بعد أن أنبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا (٢) بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله ، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين ، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣) أي لما طالبوه بالعذاب ، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتى بيان ذلك في الآيات بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.

٣ ـ قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.

٤ ـ وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حدا للزنى فاللوطية تقاس عليه ، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.

٥ ـ التحذير من العبث والباطل قولا أو عملا وخاصة في الأندية والمجتمعات.

__________________

(١) من ذلك : أنهم كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك ، والصفير وتطريف الأصابع بالحناء وفرقتها ، ويحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم ، روى هذا الترمذي وحسّنه.

(٢) هذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم قطعا.

(٣) الإفساد في الأرض : هو العمل بمعاصي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل عامل بالمعاصي فهو مفسد في الأرض ، إذ فعل المعاصي يورث الفقر والخوف وهما شرّ ما يتقى.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(بِالْبُشْرى) : أي إسحق ويعقوب بعده.

(هذِهِ الْقَرْيَةِ) : أي قرية لوط وهي سدوم.

(قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) : أي قالت الرسل نحن أعلم بمن فيها.

(كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) : أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.

(سِيءَ بِهِمْ) : أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) : أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.

(رِجْزاً) : أي عذابا من السماء.

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : أي بسب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً) : أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص لوط عليه‌السلام ، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين وأنه عليه‌السلام استنصر ربه تعالى عليهم ، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته ، قال تعالى : (١) (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) الخليل عم لوط (بِالْبُشْرى) (٢) التي هي ولادة ولد له هو إسحق ومن بعده يعقوب ولد إسحق عليه‌السلام كما قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ). (قالُوا) أي قالت الملائكة لإبراهيم (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم (إِنَّ أَهْلَها كانُوا (٣) ظالِمِينَ) أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش ، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً) ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) منك يا إبراهيم. (لَنُنَجِّيَنَّهُ (٤) وَأَهْلَهُ) من الهلاك (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها وممالأتها للظالمين. وقوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) أي ولما وصلت الملائكة لوطا قادمين من عند إبراهيم من فلسطين (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفا من قومه أن يسيئوا إليهم ، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة منه طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله : (وَقالُوا لا تَخَفْ) أي علينا (وَلا تَحْزَنْ) على من سيهلك من أهلك مع قومك الظالمين. (إِنَّا مُنَجُّوكَ) من العذاب أنت وأهلك أى زوجتك المؤمنة وبنتيك ، (إِلَّا امْرَأَتَكَ) أي العجوز الظالمة فإنها (مِنَ الْغابِرِينَ) الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى فى الآية (٣٤) : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ

__________________

(١) (لَمَّا) حرف وجود لوجود نحو : لما جاء الحق ذهب الباطل. وهي أداة تدل على التوقيت كما هي ظرف ملازم للاضافة إلى جملة بعدها.

(٢) البشرى : اسم للبشارة التي هي : الإخبار بما يسرّ المخبر.

(٣) الجملة تعليلية لما تقدمها من الإهلاك.

(٤) قرأ الجمهور نافع وحفص : (مُنَجُّوكَ) بتشديد الجيم ، وقرأ ابن كثير منجوك بتخفيفها من : أنجاه ينجيه ، ونجي وأنجى بمعنى.

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي أخبرت الملائكة لوطا بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي مدينة سدوم (رِجْزاً) أي عذابا من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من تلك القرية (آيَةً بَيِّنَةً) (١) ، أي عظة وعبرة ، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين. وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ هم الذين يتدبرون في الأمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى المجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.

٢ ـ تقرير مبدأ : من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه ، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.

٣ ـ مشروعية الضيافة وتأكدها في الإسلام لحديث الصحيح «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».

٤ ـ التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.

٥ ـ فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

__________________

(١) المعنى : ولقد تركنا من القرية آثارا دالة عليها ، وهي بقايا القرية المغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه ، مع بقايا لون الكبريت والمعادن التي رجمت بها قريتهم.

شرح الكلمات :

(وَإِلى مَدْيَنَ) : أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين ، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه.

(أَخاهُمْ شُعَيْباً) : أي أخاهم في النسب.

(اعْبُدُوا اللهَ) : أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.

(وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) : أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أي ولا تعيثوا في الأرض فسادا بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) : الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة.

(فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) : لاصقين بالأرض أمواتا لا يتحركون.

معنى الآيتين :

هذا موجز لقصة (١) شعيب عليه‌السلام مع قومه أهل مدين ، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشا تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى (وَإِلى مَدْيَنَ) (٢) أي وأرسلنا إلى مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهو نبيّ عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن ، (وَارْجُوا (٣) الْيَوْمَ الْآخِرَ ،) أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائما مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله : (وَلا تَعْثَوْا (٤) فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي. وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ) أي كذب أصحاب مدين نبيهم شعيبا فيما أخبرهم به ودعاهم إليه (فَأَخَذَتْهُمُ (٥) الرَّجْفَةُ) أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب

__________________

(١) هذه القصة معطوفة على سابقاتها : قصة نوح وإبراهيم ولوط عليهم‌السلام

(٢) إن طلبت المناسبة بين قصة لوط وقصة أصحاب مدين فإنها في كون مدين من أبناء ابراهيم وكون لوط من الأسرة الإبراهيمية وأوضح من هذا السبب قرب الديار من بعضها ، فمدين غير بعيدة من قرى لوط.

(٣) أمره إيّاهم برجاء اليوم الآخر دال على أنهم ما كانوا يؤمنون باليوم الآخر أو ذكرهم به لغفلتهم عنه بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

(٤) العثو : بالواو كالدنو والعثي بالياء كالعصي : أشد الفساد ، وفعله : عثا يعثو ، وعثي كرضي يعثى كيرضى بمعنى واحد.

(٥) الفاء للسببية ، و (الرَّجْفَةُ) الزلزال الشديد الذي ترجف منه الأرض والقلوب وكانت هذه الزلازل مصحوبة بصيحة شديدة انخلعت منها القلوب.

هلكى وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر.

٢ ـ حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

٣ ـ بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَعاداً وَثَمُودَ) : أي وأهلكنا عادا القبيلة وثمود القبيلة كذلك.

(وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) : أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز والشحر جنوب اليمن.

(عَنِ السَّبِيلِ) : أي سبيل الهدى والحق التي بينتها لهم رسلهم.

(كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) : أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم.

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) : أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق.

(فَاسْتَكْبَرُوا) : أي عن عبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسله.

(وَما كانُوا سابِقِينَ) : أي فائتين عذاب الله أي فارين منه ، بل أدركهم.

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) : أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا.

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) : أي ريحا شديدة ، كعاد

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) : أي ثمود.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) : أي كقارون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) : كقوم نوح وفرعون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي (١) إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم ، فقال عزوجل : (وَعاداً وَثَمُودَ) (٢) أي وأهلكنا كذلك عادا قوم هود ، وثمود قوم صالح! وقوله تعالى : (وَقَدْ تَبَيَّنَ (٣) لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر (٤) والشجر (٥) من حضر موت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم ، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين. وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التزيين عن السبيل ، سبيل الإيمان والتقوى المورثة للسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٦) أي ذوي بصائر أي معرفة بالحق والباطل والخير والشر لما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. وقوله تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أي أهلكنا قارون الإسرائيلي ابن عم موسى عليه‌السلام ، أهلكناه ببغيه وكفره ، فخسفنا به الأرض وبداره أيضا ، وفرعون وهامان اغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما

__________________

(١) وجه المناسبة ظاهر بين هذه الآيات وسابقتها وهي إتمام ذكر كل من قص تعالى في كتابه قصصهم مفصلة في الأعراف وهود والشعراء والنمل والقصص ، فذكر بإيجاز من لم يذكرهم في هذا العرض من هذه السورة ، فذكر عادا وثمودا وقارون وفرعون وهامان.

(٢) (وَعاداً) جائز أن يكون منصوبا بفعل مقدر ، وأهلكنا عادا أو اذكر عادا.

(٣) الجملة حالية.

(٤) مدائن صالح.

(٥) منازل عاد.

(٦) الاستبصار : البصارة بالأمور ، والسين والتاء للتأكيد كالاستحباب بمعنى الحب ، والمراد أنهم أهل بصائر ومعرفة بالأمور لما لهم من عقول صالحة للنظر والإدراك ، وما في التفسير وجه أحسن من هذا.

وظلمهما واستعلائهما وذلك بعدما جاءهم موسى بالبينات من الآيات والحجج الواضحات التي لم تبق لهم عذرا في التخلف عن الإيمان والتقوى ولكن (فَاسْتَكْبَرُوا (١) فِي الْأَرْضِ) ، أرض مصر وديارها فرفضوا الإيمان والتقوى (وَما كانُوا سابِقِينَ) ولا فائتين فأحلّ الله تعالى بهم. نقمته وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين. ثم في الآية الأربعين من هذا السياق بين تعالى أنواع العذاب الذي أهلك به هؤلاء الأقوام ، فقال : (فَكُلًّا) (٢) أي فكل واحد من هؤلاء المكذبين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ (٣) مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا شديدة كعاد. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كفرعون ، وقوله تعالى. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يكن من شأن الله تعالى الظلم فيظلمهم ، (وَلكِنْ كانُوا) أي أولئك الأقوام (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالشرك والكفر والتكذيب والمعاصي فأهلكوها بذلك ، فكانوا هم الظالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد.

٢ ـ بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران.

٣ ـ بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه (٤) من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك أوردها الله موارده.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ

__________________

(١) إن فرعون وهامان وقارون شأنهم شأن أبي جهل والعاص بن وائل والنضر بن الحارث ما حملهم على الكفر والعناد إلّا الاستكبار في البلاد.

(٢) (فَكُلًّا) : الفاء للتفريع على ما سبق : قوله تعالى : (وَعاداً) إذ التنوين عوض عن كلمة أي : فكل واحد ممّن ذكروا من عاد إلى قارون أخذ الله أي : أهلك بذنبه ، ولم يظلمهم الله تعالى بإهلاكه إيّاهم.

(٣) الفاء للتفريع إذ هذا التفصيل بعد الفاء متفرع عن ذلك الإجمال المذكور في قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ).

(٤) شاهده في قول الله تعالى من سورة التوبة : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) والإضلال سبيل الهلاك وطريقه.

اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي صفة وحال الذين اتخذوا أصناما يرجون نفعها.

(كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) : أي لنفسها تأوي إليه.

(أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) : أضعف البيوت وأقلها جدوى.

(يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي من الأوثان والأصنام وغيرها.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه.

(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) : أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) : أي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) : اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) : بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها.

(تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) : أي الصلاة بما توجده من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر.

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : أي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما ان ذكر

الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة وغيرهما.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به وأشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيها وتعليما للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا فيسلموا من العذاب والخسران. ذكر هنا في هذه الآيات مثلا لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد ، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإنسان وسعادته وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (١) اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها ، (وَإِنَّ أَوْهَنَ (٢) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأنا وأقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله (أَوْلِياءَ) أي اصناما يرجون النفع ، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون ، مخطئون ، إنه لا ينفع ولا يضر إلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه. وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره ، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها لمن يؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب ، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم ، وكيف يرضاها وقد أهلك أمما بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإبطالها والقضاء عليها وقوله

__________________

(١) العنكبوت : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف : منها صنف يسمى ليث العنكبوت ، وهو الذي يفترس الذباب وكلها تتخذ لنفسها نسيجا تنسجه من لعابها يكون خيوطا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران ، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبا أغلظ وأكثر خيوطا فتحتجب فيه ويسمى بيتا لشبهه بالخيمة لأنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر ، وجملة : (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) حال من العنكبوت ويصغّر على العنكبوت ويجمع على : عناكب.

(٢) (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ..) هذه الجملة معترضة مبيّنة لوجه الشبه وتجري هذه الجملة مجرى المثل يضرب للشيء إذا قلّت فائدته وجدواه.

تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ (١) نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي وهذه الأمثال نضربها للناس لأجل إيقاظهم وتبصيرهم وهدايتهم ، وما (يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يدرك مغزاها وما تهدف إليه من التنفير من الشرك العائق عن كل كمال وإسعاد في الدارين (إِلَّا الْعالِمُونَ) (٢) أي بالله وشرائعه وأسرار كلامه وما تهدي إليه آياته. وقوله تعالى : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إخبار بأنه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وهي مظاهر قدرته وعلمه وحكمته موجبة لعبادته بتعظيمه وطاعته ومحبته والإنابة إليه والخوف منه. وخلقهما بالحق لا بالباطل وذلك من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن كفر به فترك ذكره وشكره كان كمن عبث بالسموات والأرض وأفسدها ، لذا يعذب نظرا إلى عظم جرمه عذابا دائما أبدا. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن في خلق السموات (٣) والأرض بالحق (لَآيَةً) أي علامة بارزة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ، وهذه موجبات ألوهيته على سائر عباده فهو الإله الحق الذي لا رب غيره. ولا إله سواه وبعد هذا البيان والبرهان لم يبق عذر لمعتذر ، وعليه ف (اتْلُ) (٤) أيها الرسول (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تعليما وتذكيرا وتعبدا وتقربا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) طرفي النهار وزلفا من الليل فإن في ذلك عونا كبيرا لك على الصبر والثبات وزادا عظيما لرحلتك إلى الملكوت الأعلى. وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى (٥) عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) تعليل للأمر بإقام الصلاة فإن الصلاة بما توجده من إشراقات النفس والقلب والعقل حال تحول بين العبد وبين التلوث بقاذورات الفواحش ومفاسد المنكر وذلك يفيد إقامتها لا مجرد أدائها والإتيان بها. وإقامة الصلاة تتمثل في الإخلاص فيها لله تعالى أولا ثم بطهارة القلب من الالتفات إلى غير الرب تعالى أثناء أدائها ثانيا ، ثم بأدائها في أوقاتها المحددة لها وفي المساجد بيوت الله ، ومع جماعة المسلمين عباد الله وأوليائه ، ثم بمراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه ، والسجود على الجبهة والأنف والطمأنينة فيه ، وآخر أركانها الخشوع وهو السكون ولين القلب وذرف الدمع. هذه هي الصلاة التى

__________________

(١) (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) مبتدأ والخبر : جملة (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ).

(٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.)

(٣) لفظ السموات والأرض : يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما.

(٤) المراد من : (اتْلُ) : مداومة تلاوة ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم.

(٥) قيل لابن عطية : إن حمادا وابن جريج والكلبي يقولون : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام العبد فيها. قال : هذه عجمة أي : نسبهم إلى قلة الفهم وهو كذلك للحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) وقال له أحد الصحابة : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق. فقال : سينهاه ما تقول. يعني صلاته.

توجد طاقة النور التي تحول دون الانغماس في الشهوات والذنوب وإتيان الفاحشة وارتكاب المنكر. وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من إقامة الصلاة لأن الصلاة أثناء أدائها مانعة عاصمة لكن إذا خرج منها ، قد يضعف تأثيرها ، أما ذكر الله بالقلب واللسان في كل الأحيان فهو عاصم مانع من الوقوع في الفحشاء والمنكر وفي اللفظ معنى آخر وهو أن ذكر الله للعبد في الملكوت الأعلى أكبر من ذكر العبد للرب في ملكوت الأرض ويدل عليه قوله : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإ ، ذكرته في ملإ خير منه» كما في الحديث الصحيح. وقطعا والله لذكر الرب العبد الضعيف أكبر من ذكر العبد الضعيف الرب العظيم. اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين لآلائك. وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (١) فيه وعد وعيد ، فإن علمه يترتب عليه الجزاء فمن كان يصنع المعروف جزاه به ، ومن كان يصنع السوء جزاه به. اللهم ارزقنا صنائع المعروف وأبعد عنا صنائع السوء آمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.

٢ ـ تقرير التوحيد وإبطال التنديد.

٣ ـ فضل العلماء على غيرهم ، العلماء بالله ، بصفاته وأسمائه وآياته ، وشرائعه ، وأسرارها.

٤ ـ وجوب تلاوة القرآن ، وإقامة الصلاة ، وذكر الله ، إذ هى غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى.

٥ ـ بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.

__________________

(١) في الآية وازع المراقبة ، وعليه فتلاوة القران وإقام الصلاة وذكر الله تعالى ومراقبته. هذه الأربعة تمثّل سبيل السّلام إلى دار السّلام من سلكه نجا ومن تنكّبه هلك ، والعياذ بالله العليم الحكيم.

الجزء الحادي والعشرون

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) : أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى.

(إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) : أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حربا على المسلمين.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) : أي وكإنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب.

(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) : أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه.

(وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) : أي ومن هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون.

(وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) : أي تكتب بيدك لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب.

(لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) : أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والانجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) : أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل.

معنى الآيات

قوله تعالى (وَلا (١) تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) هذا تعليم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عند ما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عزوجل مخاطبا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من أمته (وَلا (٢) تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن (٣) وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دينه الإسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه. وقوله (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا المسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجادلون ولكن يحكّم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو : إن أخبرهم أهل الكتاب بشىء لا يوجد في الإسلام ما يثبته ولا ما ينفيه وادّعوا هم أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا)

__________________

(١) ذكر القرطبي الخلاف في هل هذه الآية منسوخة أو محكمة ، ورجّح قول مجاهد وهي أنها محكمة ، وما في التفسير على هذا وهو الصواب.

(٢) الجدال والمجادلة مصدران لجادل ، والمراد بالمجادلة : إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره. والجدل : شدّة الخصومة وهو مأخوذ من الجدل الذي هو الفتل للحبل. ونحوه إذا قواه ، والمجادل يقوي رأيه بما يراه ويورده من حجج.

(٣) وجه المجادلة بالحسنى لأهل الكتاب لأنهم أهل علم متأهلون للفهم وقبول الحق متى اتضح لهم بخلاف جهّال المشركين فإن تهجين عبادتهم وتفضيع طريقتهم قد يكون أنجع فيهم.

إلى آخر الآية حتى لا نكون قد كذّبنا بحق ولا آمنّا بباطل ، وفي البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (١) ، وقولوا (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي وكإنزالنا الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم‌السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ). فهذا إخبار بغيب فكما علّم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عند ما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والانجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب ، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذّب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) هو كما قال عزوجل لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ قبل القرآن أيّ كتاب ، ولا كان يخط بيمينه أيّ كتاب لأنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب أي فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين (٢) مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه ، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أيّ كتاب ، ولم يكن يخط بيمينه أيّ خط ولا كتاب فلم يبق إذا للمشركين ما يحتجون به أبدا. وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ (٣) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والانجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب .. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) في التوراة والانجيل والقرآن (إِلَّا الظَّالِمُونَ) أنفسهم (٤) من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويترأسون على حساب الحق والعياذ بالله تعالى.

__________________

(١) تفرّد به البخاري رحمه‌الله تعالى.

(٢) قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.

(٣) أي : ليس هو كما يقول المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وكذلك في صدور الذين أوتوا العلم ، وهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤمنون به ، وهذا لا يتنافى مع ما في التفسير ، إذ الوجهان صحيحان ، وقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء.

(٤) والمشركون كاليهود والنصارى في هذا أي : الجحود بالآيات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذّمّة بالتي هي أحسن.

٢) حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسألوا أهل الكتاب (١) عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل».

٣) منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

٤) إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك آية على أنّه وحي الله تعالى.

٥) تقرير صفة الأمية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هي في الكتب السابقة.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) : أي قال كفار قريش هلّا أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح ، وعصا موسى.

__________________

(١) رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) : أي قل لهم يا رسولنا الآيات عند الله ينزلها متى شاء.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) : أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى) : أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) : وهو ما يعبد من دون الله.

(وَكَفَرُوا بِاللهِ) : وهو الإله الحق.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى : (وَقالُوا) أي أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ (١) مِنْ رَبِّهِ) أي هلّا أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة. قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نبوّتك قل لهم : أولا : الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندى فهو تعالى ينزّلها متى شاء وعلى من شاء. وثانيا (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات. وثالثا (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) (٢) آية أن الله تعالى أنزل عليّ كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي آية أعظم من كتاب من أميّ لا يقرأ ولا يكتب تتلى آياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها ، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى. ورابعا : شهادة الله برسالتي كافية لا يطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي ، فقد قال لي ربي : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

__________________

(١) قرأ ابن كثير وحمزة : آية بالافراد ، وقرأ الجمهور ونافع وحفص بالجمع (آياتٌ).

(٢) أخرج الدارمي في سننه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بكتف فيه كتاب فقال (كفى بقوم ثلاثة : أن يرغبوا عما جاءهم به نبيّهم إلى ما جاء به نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ).

شَهِيداً) (١). ربي الذي يعلم ما في السموات والأرض من كل غيب ومن ذلك علمه بأني رسوله فشهد لي بذلك بإنزاله عليّ هذا الكتاب وأخيرا وبعد هذا البيان يقول تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا (٢) بِالْباطِلِ) وهو تأليه المخلوقات من دون الله (وَكَفَرُوا) بأولوهية الله الحق (أُولئِكَ) البعداء في الفساد العقلي وسوء الفهم (هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفتهم حين اشتروا الكفر بالإيمان واستبدلوا الضلالة بالهدى.

هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأنّي والتدبر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا ترد ، وهي أربع كما ذكر آنفا.

٢) بيان أكبر معجزة لإثبات النبوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي نزول القرآن الكريم عليه وفي ذلك قال عليه الصلاة والسّلام كما في البخاري (٣) : «ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر ، وكان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

٣) القرآن الكريم رحمة وذكرى أي عبرة وعظة للمؤمنين به وبمن نزل عليه.

٤) تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

__________________

(١) (شَهِيداً) أي : يشهد لي بالصدق فيما أدّعيه من أني رسول وأنّ هذا كتابه.

(٢) قال يحيى بن سلام : الباطل هنا : إبليس وهو شامل لإبليس ولعبادة الأوثان وما في التفسير أعم ، إذ اللفظ يشمل عبادة غير الله مطلقا وهو الباطل.

(٣) أخرجه ابن كثير بهذا اللفظ : (وما من الأنبياء من نبي إلّا قد اعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) وقال : أخرجاه من حديث الليث.

شرح الكلمات :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) : أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم.

(وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) : أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم.

(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) : فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) : أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) : أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

(ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي.

معنى الآيات :

لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذّبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحديا منهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إئتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجّب تعالى رسوله أي يحمله على أن يتعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له (وَ (١) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) (٢) للعذاب أي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ). ثم أخبر تعالى رسوله مؤكدا خبره فقال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) أي العذاب (بَغْتَةً) لا محالة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئه ، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المشركين الذين لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال (يَسْتَعْجِلُونَكَ (٣) بِالْعَذابِ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) لا محالة كقوله (أَتى أَمْرُ اللهِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي يغطيهم ويغمرهم فيكون (مِنْ فَوْقِهِمْ (٤) وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وجهنم محيطة بهم

__________________

(١) من بين المطالبين بالعذاب : أبوجهل ، والنضر بن الحارث إذ قالا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وفيهم نزل : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ ..).

(٢) المعنى : لو لا الأجل المعيّن لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا لأنّ كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ، ولكن الله أراد تأخيره الحكم يعلمها منها : إمهالهم ليؤمن من يؤمن منهم ، ومنها ليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم ومنه إظهار رحمته بعباده وحلمه عليهم.

(٣) حكى استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجب منها كما في قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ).

(٤) (مِنْ فَوْقِهِمْ) حال مؤكدة ، إذ غشيان العذاب لا يكون إلّا من فوق ، وقوله (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) احتراس عمّا قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة.

ويقول (١) الجبار تبارك وتعالى موبخا لهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه.

٢) بيان مدى حمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة.

٣) بيان أن تأخير العذاب لم يكن عن عجز وإنما هو لنظام (٢) دقيق إذ كل شيء له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) : أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة.

(فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) : فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : أي لا يمنعنكم الخوف من الموت أن لا تهاجروا في سبيل الله فإن الموت لا بد منه للمهاجر ولمن ترك الهجرة.

__________________

(١) قرأ بعضهم (ونقول) بنون التكلم والتعظيم.

(٢) وحكم عالية تقدم بعضها إزاء رقم (٢) في الصفحة السابقة.

(ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) : أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده ، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه.

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : أي لننزلنّهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها ، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.

معنى الآيات :

لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى ، فناداهم بقوله عزوجل : (يا عِبادِيَ) (١) (الَّذِينَ آمَنُوا) أي بي وبرسولي ولقائي (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فهاجروا فيها ، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين ، (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) لا تعبدوا معي غيري. وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتا ولا فقرا فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وقوله : (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢) ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه ، ومن رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٣) أي لننزلنّهم من الجنة دار الإسعاد (غُرَفاً

__________________

(١) قال القرطبي هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة وهو كذلك إلّا أنها عامة في كل من منع من عبادة الله تعالى في أرض عليه أن يهاجر إلى أخرى يعبد الله تعالى فيها إذ العبادة هي علّة خلقه ووجوده لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

(٢) قرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) وقرأ البعض بالياء يرجعون.

(٣) روى مسلم : (أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم ، وقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال : بلى والذي نفسي بيده رجال امنوا بالله وصدّقوا المرسلين).

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. هذا بيان لمن مات وهو مؤمن عامل بالصالحات ومنها الهجرة في سبيل الله. وقوله (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ذلك الإنزال في الغرف في الجنان هو الإسعاد المترتب على الإيمان والهجرة والعمل الصالح فالإيمان والهجرة والعمل الصالح عمل والجنة وما فيها من النعيم أجرة ذلك العمل. وأثنى الله تعالى على الجنة فقال : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ووصفهم بقوله (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على الإيمان والهجرة والطاعة (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فخرجوا من ديارهم تاركين أموالهم لا يحملون معهم زادا كل ذلك توكلا على ربهم وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ (١) مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لضعفها وعجزها أي وكثير من الدواب من الإنسان والحيوان من يعجز حتى عن حمل طعامه أو شرابه لضعفه والله عزوجل يرزقه بما يسخر له من أسباب وما يهيىء له من فرص فيطعم ويشرب كالأقوياء والقادرين ، وعليه فلا يمنعنكم عن الهجرة مخافة الفاقة والفقر فالله تعالى تكفل برزقكم ورزق سائر مخلوقاته. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) (٢) ببواطنكم وظواهركم وأعمالكم وأحوالكم فارهبوه ولا ترهبوا سواه فإن في طاعته السعادة والكمال وفي معصيته الشقاء والخسران.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر.

٢) لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه.

٣) بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإيمان والهجرة والتقوى.

٤) لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه.

__________________

(١) (وَكَأَيِّنْ) : أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم ، والتقدير : أي كشيء كثير من العدد من دابة قال ابن عباس : الدواب هي كل ما دبّ من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلّا ابن آدم والنمل والفأر.

(٢) وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من إخلاص لله تعالى في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم من الرزق.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

شرح الكلمات :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : أي المشركين.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم. وهو أن الخالق المدبر هو الإله الحق الذي يجب توحيده في عبادته.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : أي يوسّع الرزق على من يشاء من عباده امتحانا للعبد هل يشكر الله أو يكفر نعمه.

(وَيَقْدِرُ لَهُ) : أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) : إذا كيف يشركون به أصناما لا تنفع ولا تضر؟.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) : أي انهم متناقضون في فهمهم وجوابهم.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) : أي بالنظر إلى العمل لها والعيش فيها فهي لهو يتلهى بها الإنسان ولعب يخرج منه بلا طائل ولا فائدة.

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) : أي الحياة الكاملة الخالدة ، ولذا العمل لها أفضل من العمل للدنيا.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلّهم يوحدون. يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي من أوجدهما من العدم ، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبنّك قائلين الله. (فَأَنَّى (١) يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنّها حال تستدعي التعجب وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والتدبير الحكيم وهو موجب له الألوهية ناف لها عما سواه. فهذا يبسط الرزق له فيوسع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه ، وهذا يضيق عليه في ذلك لما ذا؟! والجواب إنه يوسع امتحانا للعبد هل يشكر أو يكفر ، ويضيق ابتلاءا للعبد هل يصبر أو يسخط. ولذا فلا حجة للمشركين في (٢) غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِكُلِ (٣) شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى ، ومنهم من يصلحه الفقر ، والإفساد كذلك وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء

__________________

(١) الاستفهام للإنكار والتعجب.

(٢) نزلت الآية ردا على المشركين الذين عيّروا المؤمنين بالفقر وقالوا لهم : لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء ، وهذا تمويه منهم إذ في الكافرين فقراء أيضا.

(٣) هذه الجملة تذييلية لإفادة أنّ ذلك كلّه جار على حكمة لا يطّلع عليها.

ماء المطر فأحيا به الأرض بعد موتها بالقحط والجدب لأجابوك قائلين : الله إذا قل لهم : الحمد (١) لله على اعترافكم بالحق لو أنكم تعملون بمقتضاه فما دام الله هو الذي ينزل الماء ويحيى الأرض بعد موتها فالعبادة إذا لا تنبغي إلّا له فلم إذا تعبدون معه آلهة أخرى لا تنزل ماء ولا تحيي أرضا ولا غيرها ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ لو عقلوا ما أشركوا بربهم أحجارا وأصناما ولا ما تناقضوا هذا التناقض في أقوالهم وأفعالهم يعترفون بالله ربا خالقا رازقا مدبرا ويعكفون على الأصنام يستغيثون بها ويدعونها ويعادون بل ويحاربون من ينهاهم عن ذلك.

وقوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزوّد لها ما هي (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) (٢) إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول إلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان أي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون ، وفي عملها يتنافس المتنافسون. وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي الدار الآخرة (لَهِيَ الْحَيَوانُ) (٣) أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريّتها ، وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة ، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم ، فدواؤهم العلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبيّة الله ويجحدون ألوهيته.

٢) بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه ، وإنما يدلان على علم الله وحكمته وحسن تدبيره.

٣) بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها. فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها.

__________________

(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته على كل شيء أراده.

(٢) اللهو : ما يلهو به الناس أي : يشتغلون به عن الأمور المكدّرة أو يعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال.

(٣) (الْحَيَوانُ) : يقع على كل شيء حي ، وحيوان : عين في الجنة ، وقيل : أصل الحيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

شرح الكلمات :

(فِي الْفُلْكِ) : أي في السفينة.

(مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة.

(إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) : أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) : أي بنعمة الإنجاء من الغرق وغيرها من النعم.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا ألقوا في جهنم.

(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) : أي يسبون ويقتلون في ديار جزيرتهم.

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) : أي يؤمنون بالأصنام وهي الباطل ، ينكر تعالى عليهم ذلك.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للاسلام والمسلمين.

(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) : أي لنوفقنّهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر لقالوا الله ولو سئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله. ومع هذا هم يشركون بالله آلهة أوثانا ، وكما يعترفون بربوبيّة الله ثم يشركون به الأصنام ، فإنهم إذا ركبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبيّة الله تعالى ثم بالإشراك به. ومردّ هذا إلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١).

وقوله تعالى في الآية (٦٦) : (لِيَكْفُرُوا (٢) بِما آتَيْناهُمْ) أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البركان كأنه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإنجائهم من الغرق ، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الاخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء. وقوله تعالى : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) قرىء بسكون اللام ورجح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى : وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة ، والأمر حينئذ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد.

أما على قراءة جر اللام وليتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا أي أخلصوا في الشدة وأشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أوتوا في الحياة ، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئا فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء.

__________________

(١) قال القرطبي : يدعون معه غيره وما لم ينزل به سلطانا. وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم لو لا الله والرئيس والملاح لغرقنا ، وهو كما قال ، وإنما هو عند المسلمين من الشرك الأصغر لا الأكبر كقول الرجل : لو لا الطبيب لمات فلان ، ولو لا الكلب لسرقنا.

(٢) (لِيَكْفُرُوا) هذه اللام هي لام كي ، والظاهر أنها للعاقبة وما يؤول إليه الأمر ، وقيل هي لام الأمر ، وإن كانت كذلك فهو للتهديد والوعيد ، ويقوّي هذا الوجه قراءة من قرأها من القراء السبعة بسكون اللام (وَلِيَتَمَتَّعُوا).

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٦٧) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً (١) آمِناً وَيُتَخَطَّفُ (٢) النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي ألم ير أولئك المشركون الكافرون بنعمة الله في الإنجاء من الغرق نعمة أخرى وهي أن جعل الله تعالى لهم حرما آمنا يسكنونه آمنين من غارات الأعداء وحروب الظالمين المعتدين ، لا يعتدي عليهم في حرمهم ولا يظلمون في حين أنّ الناس من حولهم في أطراف جزيرتهم وأوساطها يتخطفون فتشنّ عليهم الغارات ويقتّلون ويؤسرون في كل وقت وحين ، أليست هذه نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرهم لله تعالى بعبادته وترك عبادة ما سواه. ولذا قال تعالى عاتبا عليهم منددا بسلوكهم : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) (٣) أي بالشرك وعبادة الأصنام يصدقون ويعترفون (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) أي يجحدون إنعام ربهم عليهم فلا يشكرونه بعبادته وتوحيده فيها. وقوله تعالى في الأية الرابعة (٦٨) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) وصفهم بالظلم الفظيع في حالتين الأولى في كذبهم على الله بتحريم ما أحل وتحليل ما حرم واتخاذ شركاء لله زاعمين أنها تشفع لهم عند الله عزوجل والثانية في تكذيبهم للحق الذي جاءهم به رسول الله وهو الدين الاسلامي بعقائده وشرائعه حيث كذبوا بالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبعد هذا التسجيل لأكبر ظلم عليهم قال تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) (٤) (لِلْكافِرِينَ)؟ والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مثوى أي مسكنا للكافرين من أمثالهم وهم كافرون ظالمون وذلك جزاؤهم ولبئس الجزاء جهنم.

وقوله تعالى في الآية الخامسة (٦٩) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا (٥) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ (٦) الْمُحْسِنِينَ) في هذه الآية بشرى سارة ووعد صدق كريم ، وذلك أن من جاهد في سبيل الله أي طلبا لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد ولا يعبد معه سواه فقاتل

__________________

(١) هو مكة والحرم حولها.

(٢) الخطف : الأخذ بسرعة. قال الضحّاك يتخطف الناس من حولهم : أي يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا فذكرهم الله تعالى بهذه النعمة لعلهم يذعنون له بالطاعة.

(٣) الاستفهام للانكار والتعجب أيضا.

(٤) المثوى المستقر الدائم ، والمثوى كالمأوى وزنا ومعنى والاستفهام هنا للتقرير.

(٥) جاهدوا الكفار والفساق والشيطان والنفس أمّا جهاد الكفار فلم يؤذن فيه فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية إلّا أنه لا مانع أن ينزل الحكم قبل أن يشرع العمل. ولكنه منتظر ، وأما جهاد النفس فهو لازم لا يفارق وكذا جهاد الشيطان عليه لعائن الله.

(٦) المعية هنا : معيّة إعانة وتسديد ونصرة على الأعداء المحاربين من الكفار والشياطين والنفس.

المشركين يوم يؤذن له في قتالهم يهديه الله تعالى أي يوفقه إلى سبيل النجاة من المرهوب والفوز بالمحبوب ، وكل من جاهد في ذات الله نفسه وهواه والشيطان وأولياءه فإن هذه البشرى تناله وهذا الوعد ينجز له وذلك أن الله مع المحسنين بعونه ونصره وتأييده على من جاهدهم في سبيل الله ، والمراد من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم وأقوالهم فتكون صالحة مثمرة لزكاة نفوسهم وطهارة أرواحهم. اللهم اجعلنا منهم وآتنا ما وعدتهم إنك جواد كريم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية أي العبادة.

٢) إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون.

٣) لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب ، وكذّب بالحق لما جاءه وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثرا دنياه متبعا لهواه.

٤) بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة.

٥) فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجوّدة كما شرعها الله تعالى ، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم.

سورة الرّوم

مكية

وآياتها ستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

شرح الكلمات :

(الم) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم ، وتقرأ ألف ، لام ، ميم

(غُلِبَتِ) : أي غلبت فارس الروم.

(الرُّومُ) : إسم رجل هو روم بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم سميّت به قبيلة لأنه جدها.

(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) : أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرض يقال لها الجزيرة «بين دجلة والفرات».

(وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) : أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) : أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) : أي الأمر في ذلك أي في غلب فارس أولا ثم في غلب الروم أخيرا لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) : أي ويوم تغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار ، وبنصرهم هم على المشركين في بدر.

(وَعْدَ اللهِ) : أي وعدهم الله تعالى وعدا وأنجزه لهم.

(لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) : أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإنجاز وعده.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي لا يعلمون حقائق الإيمان وأسرار الشرع وإنما يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) : أي عن الحياة الآخرة ، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتروك.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الم) : أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله أعلم بمراده به ، مع الإشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد أعجز العرب على تأليف مثله فدل ذلك على أنه وحي الله وتنزيله ، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه ، والثانية أنها لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تأثيره على المستمع له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطباتهم.

وقوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ) (١) : أي غلبت فارس الروم في (أَدْنَى الْأَرْضِ) أي (٢) أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهرى دجلة والفرات

__________________

(١) هذا الخبر المقصود منه لازم الفائدة ، إذ الله يعلم ذلك ، وإنما المراد نحن نعلم ذلك فلا يهنئكم أيها المشركون ذلك ولا تتطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبهم في بضع سنين لا يعد الغلب في مثله غلبا.

(٢) اختلف في أدنى الأرض هل هذا الإدناء إلى أرض الروم أو إلى أرض الفرس كما في التفسير أو أدنى الأرض إلى أرض الروم أو إلى أرض العرب ، وهذا الخلاف سببه الخلاف في تحديد موقع المعركة فإن كانت بالجزيرة فأدنى الأرض هو بالنسبة إلى أرض فارس وإن كانت الوقعة بالأردن فهي أقرب إلى أرض الروم وإن كانت الوقعة بأذرعات جنوب الشام فهي أقرب إلى ديار العرب الحجاز وما حوله والراجح الأول كما في التفسير.

وقوله : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارسا وقوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) : أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ (١) بَعْدُ) أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه. وقوله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي (٢) ويوم يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارسا مشركون يعبدون النار ، كما يفرح المؤمنون أيضا بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان الوقت الذي انتصرت فيه الروم هو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر. وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإسلام وكتابه ورسوله حق. وقوله تعالى : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزا بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين (٣) ، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده. وقوله ولكن (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤) كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه ، ولكن يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة ، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى.

__________________

(١) قبل ، وبعد : مبنيان على الضم لحذف المضاف إليه ونيّة معناه أي : من قبل الغلب وبعده.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عزوجل : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وذكر أنّ أبا بكر راهن قريشا في كلام طويل ، وقال الترمذي فيه حديث حسن صحيح غريب نقله القرطبي.

(٣) وقيل كان النصر يوم صلح الحديبية لأن صلح الحديبية كان في واقع الأمر نصرا للمؤمنين ، وما في التفسير أصح لحديث الترمذي وقد حسّنه وصححه وقال فيه غريب.

(٤) قال الحسن بلغ ـ والله ـ من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي وفي هذا قال بعضهم شعرا :

ومن البلية أن ترى لك صاحبا

في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله

وإذا يصاب بدينه لم يشعر

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير صحة الاسلام وأنه الدين الحق بصدق ما يخبر به كتابه من الغيوب.

٢) بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلا شفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

٣) بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإنسان ولا يسعد إلا عليها ، ويعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة ، اما عن سر الحياة الدنيا ولما ذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي. والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

شرح الكلمات

(فِي أَنْفُسِهِمْ) : أي كيف خلقوا ولم يكونوا شيئا ، ثم كيف أصبحوا رجالا.

(إِلَّا بِالْحَقِ) : أي لم يخلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي هو العدل.

(وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : وهو نهاية هذه الحياة لتكون الحياة الثانية حياة الجزاء العادل.

(بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) : أي بالبعث والوقوف بين يدي الله ليسألهم ويحاسبهم ويجزيهم.

(وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : قلبوها للحرث والغرس والإنشاء والتعمير.

(وَعَمَرُوها) : أي عمروا الأرض عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون.

وجاءت رسلهم بالبينات : أي بالدلائل والحجج والبراهين من المعجزات وغيرها.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : أي بتكذيبهم وشركهم ومعاصيهم فعرضوا أنفسهم للهلاك.

(أَساؤُا السُّواى) : أي بالتكذيب والشرك والمعاصى والسوءى هي الحالة الأسوأ.

(أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) : أي بتكذيبهم بآيات الله القرآنية واستهزائهم بها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به من طريق ذكر الأدلة العقلية التي تحملها الآيات القرآنية فقوله تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي (١) أَنْفُسِهِمْ) أي أينكرون البعث ولم يتفكروا في أنفسهم كيف كانوا عدما ثم وجدوا أطفالا ثم شبابا ثم رجالا كهولا وشيوخا ثم يموتون أليس القادر على خلقهم وتربيتهم ثم إماتتهم قادر على بعثهم وحسابهم ومجازاتهم على كسبهم في هذه الحياة الدنيا وقوله تعالى (ما خَلَقَ اللهُ

__________________

(١) (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرف للتفكر ، وليس مفعولا لفعل يتفكّروا لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم بل في خلق السموات والأرض وما بينهما.

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ (١) وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليذكر ويشكر ، ثم إذا تم الأجل المحدد لهما افناهما ثم بعث عباده ليحاسبهم هل ذكروا وشكروا أو تركوا ونسوا وكفروا ثم يجزيهم بحسب إيمانهم وطاعتهم أو كفرهم وعصيانهم.

وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) يخبر تعالى أنه مع ظهور الأدلة وقوة الحجج على صحة عقيدة البعث والجزاء فإن كثيرا من الناس كافرون بالبعث والجزاء وقوله تعالى في الآية (٩) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أيكذّب أولئك المشركون بالبعث والجزاء ولم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا (٢) فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هلاكا ودمارا ، (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) بالإنشاء والتعمير والزراعة والفلاحة (وَعَمَرُوها) عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء ، (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ (٣) بِالْبَيِّناتِ) ، ولما أهلكهم لم يكن ظالما لهم بل كانوا هم الظالمين لأنفسهم. أليس في هذا دليلا على حكمة الله وعلمه وقدرته فكيف ينكر عليه بعثه لعباده يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم؟

وقوله تعالى (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي الأعمال فلم يصلحوها حيث كذّبوا برسل الله وشرائعه. وقوله : (السُّواى) (٤) أي عاقبة الذين أساءوا السّوأى أي العاقبة السوأى وهو خسرانهم وهلاكهم ، وقوله (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي من أجل أنهم كذبوا بآيات الله (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) وأصروا على ذلك ولم يتوبوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية المثبتة لها.

٢) كفر أكثر الناس (٥) بالبعث مع كثرة الأدلة وقوتها.

__________________

(١) جائز أن يكون (إِلَّا بِالْحَقِ) معناه : إلا للحق أو لإقامة الحق أو بالحكمة وما في التفسير أولى وكل ما ذكر يشمله ويدل عليه. والأجل المسمّى : المراد به أن كل المخلوقات حدد لها أجل فنائها ، وهذا التقرير للفناء مستلزم للحياة الآخرة.

(٢) فينظروا بأبصارهم وبصائرهم فلمّا كذبوا أهلكهم الله وما كان ظالما لهم بل هم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.

(٣) أي : بالمعجزات والأحكام الشرعية.

(٤) السوءى : تأنيث الأسوأ ، كالحسنى تأنيث الأحسن ، والأسوأ. الأقبح من الأفعال والأقوال والمعتقدات ، وجائز أن يكون المراد بالسوءى هنا جهنم كما أن المراد بالحسنى الجنة في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) أي الجنة.

(٥) العلة أنهم لا يفكرون أي : لا يعملون خواطرهم في النظر والتأمل هذا هو سرّ عدم إيمانهم إذ لو نسب المفكرون إلى غيرهم لما كانت النسبة واحدا إلى مليون :

ولم أر كالرجال تفاوتا

لدى الفكر حتى عد ألف بواحد

٣) مشروعية السير في الأرض للاعتبار مع اشتراط عدم حصول إثم في ذلك بترك واجب أو بفعل محرم.

٤) بيان جزاء الله العادل في أنّ عاقبة الإساءة السوأى. (١)

٥) كفر الاستهزاء بالشرع وأحكامه والقرآن وآياته.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي بعد إعادة الخلق وبعث الناس.

(يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) : أي ييأسوا من النجّاة وتنقطع حجتهم فلا يتكلمون.

(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) : أي يتبرّءون منهم ولا يعترفون بهم

(يَتَفَرَّقُونَ) : أي ينقسمون إلى سعداء أصحاب الجنة وأشقياء أصحاب النار.

(فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) : أي في روضة من رياض الجنة يسرّون ويفرحون.

(فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) : أي مدخلون فيه لا يخرجون منه.

__________________

(١) أي : عاقبة الشرك والمعاصي وهما السوء والإساءة عاقبتهما السوءى أي : أشدّ العقوبات وأنكاها في الدنيا وفي الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض صور حية صادقة لما يتم بعد البعث من جزاء ، فقوله تعالى (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إعلان واضح صريح قاطع للشك مزيل للّبس بأن الله ربّ السموات والأرض وما بينهما هو الذي بدأ الخلق فخلق ما شاء ثم يميته ثم يعيده ، وإليه لا إلى غيره ترجع الخليقة كلها راضية أو ساخطة محبّة أو كارهة ، هكذا قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء مدلّلا عليها بأقوى دليل وهو وجوده تعالى وقدرته التي لا تحد وعلمه الذي أحاط بكل شيء وحكمته التي لا يخلو منها عمل ، فقال (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وقوله عزوجل في الآية الثانية عشر (١٢) (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١) هذا عرض لما بعد البعث فذكر أنه لمّا تقوم الساعة ويبعث الناس يبلس المجرمون أي ييأسون من الرحمة وينقطعون عن الكلام لعدم وجود حجة يحتجون بها. وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهم من يشفع لهم من شركائهم الذين عبدوهم بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله ، فأيسوا من شفاعتهم وكفروا بهم أيضا أي أنكروا أنهم كانوا يعبدونهم خوفا من زيادة العذاب. هذه حال المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي ، الحامل عليها تكذيبهم بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) هذا عرض آخر يخبر تعالى أنه إذا قامت الساعة تفرق الناس على أنفسهم فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير ، وبين ذلك مقرونا بعلله فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا (٢) وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدّقوا بالله ربّا وإلها وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا لا دين يقبل غيره وبالبعث والجزاء حقا. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي عبدوا الله تعالى بما شرع لهم من العبادات إذ الصالحات هي المشروع من الطاعات القولية والفعلية فهؤلاء المؤمنون

__________________

(١) يقال : أبلس يبلس إبلاسا : إذا سكت متحيرا وانقطعت حجّته وأيس أن تكون له حجّة ، قال الشاعر :

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا

والمكرس : الذي بعرت فيه الإبل

وبولت فركب بعضه بعضا

(٢) قيل في : (فَأَمَّا) أن معناها : دع ما كنا فيه وخذ في غيره ، وقيل معناها : مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه ، والمعنى متقارب ، والحقيقة أنها أداة شرط وتفصيل ، تفصيل لما أجمل في الكلام السابق عليها وشرط ولذا قرن جوابها بالفاء.

العاملون للصالحات (فَهُمْ فِي (١) رَوْضَةٍ) من رياض الجنة (يُحْبَرُونَ) (٢) أي يسرّون ويفرحون بما لاقوه من الرضوان والنعيم المقيم ، وذلك بفضل الله تعالى عليهم وبما هداهم إليه من الإيمان ، وما وفقهم إليه من عمل الصالحات. وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) فقد أخبر عن جزائهم مقرونا بعلة ذلك الجزاء وهو الكفر بتوحيد الله تعالى ، والتكذيب بالآيات القرآنية وما تحمله من حجج وشرائع وأحكام ، وبلقاء الآخرة وهو لقاء الله تعالى بعد البعث للحساب والجزاء ، فجزاؤهم أن يحضروا في العذاب دائما وأبدا لا يغيبون عنه ، ولا يفتر عنهم ، وهم فيه خالدون

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة.

٢) تقرير عقيدة أن لا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة ، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع لأهل الشرك والكفر.

٣) تقرير مبدإ السعادة والشقاء يوم القيامة فأهل الإيمان والتقوى في روضة يحبرون ، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ

__________________

(١) الروضة : كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار قال الأعشى :

وما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزر بعميم النبت مكتهل

(٢) (يُحْبَرُونَ) : ينعمون ويكرمون ويسرون بالحبور والسرور وأثر النعيم يقال : فلان حسن السبر والحبر ، وفي الحديث :

(يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره).

تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

شرح الكلمات :

(فَسُبْحانَ اللهِ) : أي سبحوا الله أي صلوا.

(حِينَ تُمْسُونَ) : أي تدخلون في المساء وفي هذا الوقت صلاة المغرب وصلاة العشاء.

(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : وتدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي وهو المحمود دون سواه في السموات والأرض.

(وَعَشِيًّا) : أي حين تدخلون في العشي وفيه صلاة العصر.

(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : أي تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) : أي يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة.

(وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) : أي يخرج النطفة من الإنسان الحي والبيضة الميتة من الدجاجة الحيّة.

(وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أي يحييها بالمطر فتحيا بالنبات بعد ما كانت يابسة ميتة.

(وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) : أي من قبوركم أحياء بعد ما كنتم ميتين.

(وَمِنْ آياتِهِ) : أي ومن أدلة قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لبعثكم بعد موتكم.

(أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : أي خلقه إياكم من تراب ، وذلك بخلق آدم الأب الأول.

(تَنْتَشِرُونَ) : أي في الأرض بشرا تعمرونها.

(لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) : أي لتسكن نفوسكم إلى بعضكم بعضا بحكم التجانس في البشرية.

(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) : أي محبة ورحمة أي شفقة إذ كل من الزوجين يحب الآخر ويرحمه.

معنى الآيات :

قوله سبحانه وتعالى في هذه السياق : (١) (فَسُبْحانَ اللهِ ...............) الآية لما بين تعالى بدء الخلق ونهايته باستقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وهذا عمل يستوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله كما يستلزم حمده ، ولما كانت الصلوات الخمس تشتمل على ذلك أمر بإقامتها في المساء والصباح والظهيرة والعشيّ فقال تعالى : (فَسُبْحانَ (٢) اللهِ) أي سبحوا الله (حِينَ تُمْسُونَ) أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح. وقوله تعالى (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يخبر تعالى أن له الحمد مستحقا له دون سائر خلقه في السموات والأرض. وقوله (وَعَشِيًّا) (٣) معطوف على قوله (حِينَ تُصْبِحُونَ) أي وسبحوه في العشي. وهي صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي وسبحوه حين تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر.

وقوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (٤) أي ومن مظاهر الجلال والكمال الموجبة لحمده وطاعته والمقتضية لقدرته على بعث عباده ومحاسبتهم ومجازاتهم أنه يخرج الحيّ كالإنسان من النطفة والطير من البيضة والمؤمن من الكافر (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة وسائر الطيور التي تبيض. وقوله (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن مظاهر وجوده وقدرته وعلمه ورحمته أيضا أنه يحيي الأرض أي بالمطر بعد موتها بالجدب والقحط فإذا هي رابية تهتز بأنواع النباتات والزروع وقوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٥) أي وكإخراجه الحيّ من الميت والميّت من الحي وكإحيائه الأرض

__________________

(١) في هذه الآية الكريمة : (فَسُبْحانَ اللهِ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بعبادته في الأوقات المذكورة في الآية ، وأعظم العبادات الصلاة لأنها مشتملة على ذكره وشكره.

(٢) هذه الفاء للتفريع إذ هذا الأمر متفرع عما قبله إذ بيّن تعالى أن الإيمان والعمل الصالح منج لصاحبه فبناء على ذلك فأقيموا الصلاة.

(٣) العشي والعشية من صلاة العصر إلى غروب الشمس حسب دلالة الآية لتدخل صلاة العصر والإمساء : تدخل فيه صلاة المغرب والعشاء والصبح في الإصباح والظهر في الظهيرة.

(٤) كون النطفة تحمل حيوانات منوية لا يتنافى مع اطلاق الموت عليها إذ المراد من الموت الذي يوصف به الشيء كما وصفت الأرض بالموت إذا يبست ولم يكن بها نبات ، وحبة البر والشعير بالموت إذ الحياة تحدث للأرض بعد نزول المطر عليها والحبة بعد تفاعلها مع التربة الثرية وكذا النطفة تحمل مادة الحياة كالأرض والحبة ولا تظهر فيها إلا بعد تفاعلها الخاص في الرحم.

(٥) في هذه الآية دليل على مشروعية القياس وصحته ، وجه القياس فى الآية هو قياس المعاد على الخلق الأول والإيجاد.

بعد موتها : يحييكم ويخرجكم من قبوركم للحساب والجزاء إذ القادر على الأول قادر على الثاني. ولا فرق.

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته المستوجبة لعبادته وحده والمقررة لقدرته على البعث والجزاء خلقه للبشرية من تراب (١) إذ خلق أباها الأول آدم عليه‌السلام من تراب ، وخلق حواء زوجه من ضلعه ثم خلق باقي البشرية بطريقة التناسل. فإذا هي كما قال سبحانه وتعالى : بشر ينتشرون (٢) في الأرض متفرقين في أقطارها يعمرونها بإذنه تعالى. وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا (٣) إِلَيْها) أي ومن آياته أي حججه وأدلته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته المستوجبة لعبادته وتوحيده فيها والدالة أيضا على قدرته على البعث والجزاء خلقه لكم أيها الناس من أنفسكم أي من جنسكم الآدمي أزواجا أي زوجات لتسكنوا إليها بعامل التجانس ، إذ كل جنس من المخلوقات يطمئن إلى جنسه ويسكن إليه ، وقوله (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي جعل بين الزوجين مودة أي محبة ورحمة أي شفقة إلا إذا ظلم أحدهما الآخر فإن تلك المودة وتلك الرحمة قد ترتفع حتى يرتفع الظلم ويسود العدل والحق. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلائل وحجج واضحة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال عقولهم في النظر والفكر فإنهم يجدون تلك الأدلة على قدرة الله وعلمه ورحمته وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه ، مع تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المجرمون المكذبون.

__________________

(١) ووجه آخر للخلق من تراب وهو أن النطف التي هي أصل خلق الإنسان بعد الأبوين آدم وحواء قد تكونت من الغذاء ، وأن الغذاء قد تكون من نبات الأرض ، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فبهذا كان تكوين الإنسان من تراب فكان آية وأمر آخر هو أن التراب بارد يابس ، وهو طبع الموت وطبع الحياة الحرارة والرطوبة ، فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي الرطب فسبحان الخلاق العليم.

(٢) الانتشار الظهور والتفرق هنا وهناك في البلاد والاقطار تعملون سامعين مبصرين منكم الصالح ومنكم خلافه وهو الفاسد.

(٣) ضمن لتسكنوا لتميلوا لذا عدي باللام وفي الآية دليل على عدم تزوج الآدمي بغير الآدمية كالجنية إذ لا يحصل الأنس إلا بالجنس والآية تومي إلى أن أول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة وذلك أن الختانين إذا التقيا هيجا ماء الصلب فإذا نزل حصل السكون ووقف الهيجان كما هو معروف.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

٢) وجوب حمد الله على آلائه وإنعامه.

٣) وجوب إقام الصلاة.

٤) بيان أوقات الصلوات الخمس (١)

٥) بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته المقتضية لتوحيده والمقررة لعقيدة البعث والجزاء.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

__________________

(١) روى عن ابن عباس أنه سئل هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم : وقرأ هذه الآية ومنها أخذ الإمام الشافعي أوقات الصلوات الخمس وأخذها مالك من آية الإسراء (أقم الصلاة لدلوك الشمس) الآية.

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ) : أي حججه وبراهينه الدالة على قدرته على البعث والجزاء.

(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) : أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير.

(وَأَلْوانِكُمْ) : أي من أبيض وأصفر وأحمر وأسود والكل أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.

(لِلْعالِمِينَ) : أي للعقلاء على قراءة للعالمين (١) بفتح اللام ، ولأولي العلم على قراءة كسر اللام.

(وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي طلبكم الرزق باحضار أسبابه من زراعة وتجارة وصناعة وعمل.

(لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) : أي سماع تدبر وفهم وإدراك لا مجرد سماع الأصوات.

(يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) : أي إراءته إياكم البرق خوفا من الصواعق والطوفان وطمعا في المطر.

(أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) : أي قيام السماء والأرض على ما هما عليه منذ نشأتهما بقدرته وتدبيره.

(دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) : أي دعوة واحدة لا تتكرر وهي نفخة اسرافيل.

(إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) : أي من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.

معنى الآيات

ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بذكر الأدلة والبراهين العقلية فقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) أي حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء وعلى وجوب توحيده (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فخلق بمعنى إيجاد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من أكبر الأدلة وأقواها على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة لتوحيده ومثبتة لقدرته على البعث والجزاء ، مقررة له ، وقوله : (وَاخْتِلافُ (٢) أَلْسِنَتِكُمْ) أي

__________________

(١) بالفتح قرأ نافع وبالكسر قرأ حفص ولكل منهما متابع على ما قرأ والمعنى واحد إذ لا يكون العالم عالما بدون عقل فكل عالم عاقل والعاقل يهديه عقله إلى أن يعلم فيعلم أيضا.

(٢) قال القرطبي اللسان في الفم وفيه اختلاف اللغات من العربية والعجمية والتزكية والرومية واختلاف الألوان في الصورة من البياض والسواد والحمرة فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين ، فلا بد من فاعل فعلم أن الفاعل هو الله تعالى فهذا من أدل الدليل على البارىء سبحانه وتعالى.

لغاتكم من عربية وعجمية ولهجاتكم بحيث لكل ناطق لهجة تخصه يتميز بها إذا سمع صوته عرف بها من بين بلايين البشر ، (وَأَلْوانِكُمْ) واختلاف ألوانكم أيها البشر من أبيض إلى أسود ومن أحمر إلى أصفر مع اختلاف الملامح والسمات بحيث لا يوجد اثنان من ملايين البشر لا يختلف بعضهما عن بعض حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر إن في هذا وذاك (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي لحججا ظاهرة وبراهين قاطعة بعضها للعالمين (١) وذلك البياض والسواد وبعضها للعلماء كاختلاف اللهجات وملامح الوجوه والسمات المميزة الدقيقة والكل أدلة على قدرة الله وعلمه ووجوب عبادته وتوحيده في ذلك مع تقرير عقيدة البعث والجزاء

وقوله (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث والجزاء منامكم بالليل فالنوم (٢) كالموت والانتشار في النهار لطلب الرزق كالبعث بعد الموت فهذه عملية للبعث بعد الموت تتكرر كل يوم وليلة في هذه الحياة الدنيا ، وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي في ذلك المذكور من النوم والانتشار لطلب الرزق لدلائل وحجج على قدرة الله على البعث لقوم يسمعون (٣) نداء الحق والعقل يدعوهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء فيؤمنون فيصبحون يعملون للقاء ربهم ويستجيبون لكل من يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه ويتقربوا إليه.

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٤) (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً (٤) وَطَمَعاً) أي ومن حججه تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضيات توحيده والإيمان بلقائه إراءته (٥) إيّاكم أيها الناس البرق خوفا للمسافرين من الأمطار الغزيرة ومن الصواعق

__________________

(١) ذكر العالمين والعلماء في التفسير إشارة إلى القراءتين إذ قرأ نافع والجمهور للعالمين بفتح اللام وقرأ حفص بكسر العين للعالمين وهم العلماء.

(٢) المنام مصدر ميمي وهو من الأعراض لا من الذوات وامره عجيب إذ لو قيل لانسان نم ولك مكافأة أعظم مكافأة لا يقدر على أن ينام إلا على سنة النوم وهو الاسترخاء والاضطجاع وإغماض العينين فترة حتى ينام ، ولو شاء الله ما نام كما لو شاء ما هب من نومه.

(٣) اختيار لفظ السماع مع آية النوم فيه اشارة إلى أن النائم يفقد السماع حال نومه بدون إرادته ولا اختياره.

(٤) جائز أن يكون الخوف للمسافر والطمع للمقيم.

(٥) التعبير بالمصدر «إراءته» اشارة إلى أن من أهل التفسير من يقول إنّ «أن» المصدرية محذوفة نحو قول الشاعر :

ألا ايها اللائمي احضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

إذ التقدير أن احضر فحذف أن ، ويصح أن يكون المعنى ومن آياته أنه يريكم فحذف أن واسمها وبقى الخبر وهو جملة يريكم والكل واسع وجائز.

الشديدة أن تصيبهم ، وطمعا في المطر الذي تحيا به مزارعكم وتنبت به أرضكم فيتوفر لكم أسباب رزقكم ، وقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته تنزيله تعالى من السماء ماء وهو ماء المطر فيحيي به الأرض بالنباتات والزروع بعد أن كانت ميتة لا حياة فيها لا زرع ولا نبت إن في ذلك المذكور من إنزال الماء وإحياء الأرض بعد إراءته عباده البرق خوفا وطمعا لآيات دلائل وحجج على قدرته على البعث والجزاء ولكن يرى تلك الدلائل ويعقل ويفهم تلك الحجج قوم يعقلون أي لهم عقول سليمة يستعملونها في النظر والاستدلال فيفهمون ويؤمنون.

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته والموجبة لتوحيده والمقررة لنبوة نبيه ولقائه للحساب والجزاء قيام السماء والأرض منذ خلقهما فلا السماء تسقط ، ولا أرض تغور فهما قائمتان منذ خلقهما بأمره تعالى أليس في ذلك أكبر دليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم أحياء لحسابهم على كسبهم ومجازاتهم.

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ (١) تَخْرُجُونَ) أي أقام السماء والأرض للحياة الدنيا يحيي فيهما ويميت حتى تنتهي المدة المحددة للحياة فيهلك الكل ويفنيه (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) بنفخ اسرافيل في الصور (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) من الأرض استجابة لتلك الدعوة ، وذلك للحساب والجزاء العادل على العمل في هذه الحياة الدنيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده وترك عبادة من سواه.

٢) مشروعية طلب الرزق بالمشي في الأرض واستعمال الوسائل المشروعة لذلك.

٣) تقرير أن الذين ينتفعون بأسماعهم وعقولهم هم أهل حياة الإيمان إذ الإيمان روح متى دخلت جسما حيي وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويفكر ويعقل.

٤) تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح البشري بعد عقيدة الإيمان بالله ربّا وإلها.

__________________

(١) إذا الأولى شرطية والثانية فجائية سادة مسد فاء الجواب وصيغة الدعاء كما ذكرها القرطبي : يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا وعبيدا.

(كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١) : أي كل من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن منقادون له تجري عليهم أحكامه كما أرادها فلا يتعطل منها حكم.

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) : أي أيسر وأسهل نظرا إلى أن الاعادة أسهل من البداية.

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) : أي الوصف الأعلى في كل كمال فصفاته كلها عليا ومنها الوحدانية.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي الغالب على أمره الحكيم في قضائه وتصرفه.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً) : أي جعل لكم مثلا.

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي منتزعا من أموالكم وما تعرفونه من أنفسكم.

__________________

(١) القنوت الطاعة وهي الانقياد والخلائق كلها منقادة مطيعة لما أراد الله منها فلا يتخلف قضاؤه تعالى وحكمه فيها بحال من الأحوال.

(كَخِيفَتِكُمْ) : أي تخوفكم من بعضكم بعضا أيها الأحرار.

(نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي نبينها بتنويع الأسلوب وإيراد الحجج وضرب الأمثال.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) : أي ليس الأمر قصورا في البيان حتى لم يؤمن المشركون وانما العلة اتباع المشركين لأهوائهم وتجاهل عقولهم.

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟) : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون بذكر الأدلة العقلية وتصريف الآيات فقال تعالى (وَلَهُ) أي لله المحى المميت الوارث الباعث سبحانه وتعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من ملائكة وجان وإنسان فهو خلقهم وهو يملكهم ويتصرف فيهم. وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١) أي مطيعون منقادون فالملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والجن والإنس منقادون لما أراده منهم من حياة وموت ونشور وأمّا عصيانهم في العبادات فهو غير مقصود لأنه التكليف الذي هو علة الحياة كلها ومع هذا فهم منفذون باختيارهم واراداتهم الحرة ما كتبه عليهم أزلا والله أكبر ولله الحمد وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي (٢) يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي هو الله الذي يبدأ خلق ما أراد خلقه في كل يوم وساعة من غير شيء ويهبه الحياة ثم يسلبها منه في آجال سماها ثم يعيده يوم القيامة أحب الناس أم كرهوا. وقوله (وَهُوَ أَهْوَنُ (٣) عَلَيْهِ) أي الإعادة أيسر وأسهل عليه فليس على الله شيء صعب ولا شاق ولا عزيز ممتنع ، وإنما خرج الخطاب على أسلوب المتعجبين من إعادة الخلق بعد فنائه فأعلمهم أن المتعارف عليه عندهم أن الإعادة أسهل من البداءة ليفهموا ويقتنعوا ، وإلا فلا شيء صعب على الله تعالى ولا شاق ولا عسير ، إذ هو يقول للشيء متى أراده كن فيكون. وقوله تعالى (وَلَهُ الْمَثَلُ (٤) الْأَعْلى فِي

__________________

(١) ذكر القرطبي لتفسير كلمة (قانِتُونَ) تفاسير عدة عن السلف منها مطيعون طاعة انقياد ، مقرون بالعبودية إما قالة وإما دلالة مصلون قائمون يوم القيامة مخلصون.

(٢) قال القرطبي : أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته وأما اعادته فاحياؤه بعد الموت في النفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب.

(٣) أهون بمعنى هين ، لقوله تعالى وكان ذلك على الله يسيرا ، والعرب تطلق أفعل على فاعل قال الشاعر :

إن الذي شمل السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

(٤) أي ثبت له واستحق الشأن الأتمّ الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وانما بقصد التقريب لأفهامكم والأعلى الأعظم البالغ نهاية العظمة والقوة.

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وله أي لله سبحانه وتعالى الوصف الأكمل في السموات والأرض وهو الألوهية والوحدانية فهو الرب الذي لا إله إلا هو المعبود في السماء والأرض لا إله إلا هو فيهما ولا ربّ غيره لهما وهو العزيز الغالب المنتقم ممن كفر به وعصاه الحكيم في تدبيره وتصريفه لشؤون خلقه. وقوله تعالى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً (١) مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي جعل لكم مثلا مأخوذا منتزعا من أنفسكم (٢) وهو : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي انه ليس لكم من مماليككم وعبيدكم شريك منهم يشارككم في أموالكم إذ لا ترضون بذلك ولا تقرونه ابدا ، إذا فكذلك الله تعالى لا يرضى أن يكون من عبيده من هو شريك له في عبادته التي خلق كل شيء من أجلها .. وقوله (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي تخافون عبيدكم كما تخافون بعضكم بعضا أيها الأحرار ، أي لا يكون هذا منكم ولا ترضون به إذا فالله ـ وله المثل الأعلى ـ كذلك لا يرضى أبدا أن يكون مخلوق من مخلوقاته ملكا كان أو نبيّا أو وثنا أو صنما شريكا له في عباداته. ، وقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبيّنها بتنويع الأساليب وضرب الأمثال (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ هم الذين يفهمون معاني الكلام وما يراد من أخباره وقصصه وأمثاله وأوامره ونواهيه. ، وقوله تعالى (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ليس الأمر قصورا في الأدلة ولا عدم وضوح في الحجج وإنما الظالمون اتبعوا أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه بغير علم من نفعه وجدواه لهم فضلوا لذلك. فمن يهديهم ، وقد أضلهم الله حسب سنته في الإضلال. وهو معنى قوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ)؟ أي لا أحد وقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي يهدونهم بعد أن أضلّهم الله ، والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والتوحيد بذكر الأدلة وضرب الأمثال وتفصيل الآيات.

٢) تفرّد الربّ تعالى بالمثل الأعلى في كل جلال وكمال.

__________________

(١) ضرب المثل إيقاعه ووضعه ، واللام في لكم للتعليل أي لأجلكم.

(٢) من في قوله مثلا من أنفسكم للابتداء وفي قوله من أنفسكم للتبعيض وفي قوله من شركاء زائدة. قال قتادة هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين والمعنى هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله فإن لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.

٣) استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.

٤) عظم فائدة هذا المثل «ضرب لكم مثلا من أنفسكم الآية» حتى قال بعضهم (١) : فهم هذا المثل أفضل من حفظ كذا مسألة فقهيّة.

٥) علّة ضلال الناس اتباعهم لأهوائهم بغير علم وبانصرافهم عن الهدى بالاسترسال في اتباع الهوى. (٢)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

شرح الكلمات

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) : أي سدد وجهك يا رسولنا للدين الإسلامي بحيث لا تنظر إلا إليه.

(حَنِيفاً) : أي مائلا عن سائر الأديان إليه ، وهو بمعنى مقبلا عليه.

(فِطْرَتَ اللهِ) : أي صنعة الله التي صنع عليها الإنسان وهي قابليته للإيمان بالله تعالى.

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظا انشائية معنى.

(الدِّينُ الْقَيِّمُ) : أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) : أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه.

__________________

(١) المراد به القرطبي إذ قال عند تفسير هذه الاية : «وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلّا بتصحيح هذه المسألة في القلب ، فافهم ذلك».

(٢) لما أقام عليهم الحجة ذكر تعالى أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم وتقليد آبائهم وأسلافهم.

(وَكانُوا شِيَعاً) : أي طوائف وأحزابا كل فرقة فرحة بما هي عليه من حق وباطل.

معنى الآيات

لما قرر تعالى عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بالأدلة وضمن ذلك عقيدة النبوة وإثباتها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر رسوله والمؤمنون تبع له فقال (فَأَقِمْ (١) وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (٢) أي أنصبوا وجوهكم أيها الرسول والمؤمنون للدين الحق دين الإسلام القائم على مبدأ التوحيد والعمل الصالح ، فلا تلتفتوا إلى غيره من الأديان المنحرفة الباطلة. وقوله (فِطْرَتَ (٣) اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي أقيموا وجوهكم للدّين الحق الذي فطر الله الإنسان عليه تلك الفطرة التي هي خلق الإنسان قابلا للإيمان والتوحيد. وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا تبدلوا تلك الخلقة ولا تغيروها بل نموها وابرزوها بالتربية حتى ينشأ الطفل على الإيمان والتوحيد. فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى نحو فهل أنتم منتهون فهي بمعنى انتهوا وهي أبلغ من انتهوا فكذا : لا تبديل أبلغ من لا تبدلوا. وقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٤) أي لزوم ما فطر عليه المرء من الإيمان بالله وتوحيده ... وابراز ذلك في الواقع بالإيمان بالله وبما أمر بالإيمان به من أركان الإيمان وبعبادة الله تعالى وهي طاعته بفعل ما يأمر به وينهى عنه مخلصا له ذلك لا يشاركه فيه غيره من سائر مخلوقاته هو الدين القيم الذي يجب أن يكون عليه الإنسان وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥) يخبر تعالى بأن ما قرره من الدين القيم كما بيّنه في الآيات أكثر الناس لا يعلمونه ولا يعرفونه وهو كما أخبر سبحانه

__________________

(١) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) : هذه الفاء هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن جواب سؤال مقدر تقديره هنا إذا علمت أحوال المعرضين عن الحق بعد ظهور دلائله فأقم وجهك والمراد من الأمر دوام إقامة الوجه والاستمرار عليه.

(٢) (حَنِيفاً) منصوب على الحال أي حال كونك معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة الباطلة إلى دين الله الحق الذي لم يبدل ولم يغير وهو الاسلام.

(٣) (فِطْرَتَ) : جائز أن يكون منصوبا على المفعولية المطلقة أي فطر الله تعالى الإنسان على ذلك فطرة ، وجائز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به أي واتبع فطرة الله والتقدير : فأقم وجهك للدين حنيفا واتبع فطرة الله.

(٤) قيّم كهين ولين مفيد قوة الاتصاف بمصدره أي الدين البالغ قوة القيام أي الاستقامة والبعد عن الاعوجاج. يقال عود مستقيم وقيم من تشبيه المعقول بالمحسوس

(٥) في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقررا حقيقة أن الإسلام هو دين الفطرة : يقول ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .. الجمعاء أي جامعة لاعضائها لا نقص فيها والجدعاء التي يجدع أي يقطع منها عضو كالذيل أو الأذن.

وتعالى. وقوله (مُنِيبِينَ (١) إِلَيْهِ) أي أقيموا وجوهكم للدين القيم حال كونكم راجعين إليه تعالى تائبين إليه من كل دين غير هذا الدين ، ومن كل طاعة غير طاعته تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وقوله : (وَاتَّقُوهُ) أي خافوه تعالى إذ عذابه شديد فلا تتركوا دينه لأي دين ولا طاعته لأي مطاع غير الله تعالى ورسوله وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي حافظوا عليها في أوقاتها وأدوها كما شرعها كمّية وكيفيّة فإنها سقيا الإيمان ومنمية الخشية والمحبة لله تعالى. وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا (٢) دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) ينهى تعالى المؤمنين أهل الدين القيم الذي هو الإسلام أن يكونوا من المشركين في شيء من ضروب الشرك عقيدة أو قولا أو عملا. فكل ملة غير ملة الإسلام أهلها مشركون كافرون سواء كانوا مجوسا أو يهودا أو نصارى أو بوذة أو هندوكا أو بلاشفة شيوعيين إذ جميعهم فرقوا دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه وهو دين الفطرة وهو الإسلام وكانوا شيعا أي فرقا وأحزابا كل فرقة تنتصر لما هي عليه وتتحزب له. فأصبح كل حزب منهم بما لديهم من دين فرحين به ظنا منهم أنه الدين الحق وهو الباطل قطعا ، لأنه ليس دين الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان وهو الإسلام القائم على توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده أن يعبدوه به ليكملوا على ذلك ويسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب الإقبال على الله تعالى بعبادته والاخلاص له فيها.

٢) الإسلام دين الله الذي خلق الإنسان متأهلا له ولا يقبل منه دين غيره.

٣) وجوب الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه فى كل حال.

٤) وجوب تقوى الله عزوجل وإقام الصلاة.

٥) البراءة من الشرك والمشركين.

٦) حرمة الافتراق في الدين الإسلامي ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء.

__________________

(١) شاهد الانابة بمعنى التوبة في قول الشاعر :

فإن تابوا فإن بني سليم

وقومهم هوازن قد انابوا

ومنيبي حال من أقم وجهك وجمع لأن الأمة مخاطبة معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) قرأ الجمهور فرقوا وقرأ حمزة والكسائي فارقوا ، والشيع جمع شيعة وهي الجماعة التي تتشايع أي توافق رأيا وتجمع عليه والحزب الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

شرح الكلمات

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) : أي إذا مس المشركين ضر أي شدة من مرض أو فقر أو قحط.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) : أي راجعين بالضراعة والدعاء إليه تعالى دون غيره.

(رَحْمَةً) : بكشف ضر أو إنزال غيث وإصابة رخاء وسعة رزق.

(يُشْرِكُونَ) : أي بربهم فيعبدون معه غيره بالذبح للآلهة والنذر وغيره.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) : أي ليكون شكرهم لله كفرا بنعمه والعياذ بالله.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) : أي حجة من كتاب وغيره ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به.

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : أي بذنوبهم وخروجهم عن سنن الله تعالى في نظام الحياة.

(إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) : أي ييأسون من الفرج بزوال الشدة.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : أي يوسعه امتحانا له.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيّق الرزق على من يشاء ابتلاء.

معنى الآيات :

لما أمر تعالى رسوله والمؤمنين بإقامة الدين ونهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أخبر تعالى عن المشركين أنهم إذا مسهم الضرّ وهو المرض والشدة كالقحط والغلاء ونحوها دعوا ربهم تعالى منيبين إليه أي راجعين إليه بالدعاء والضراعة لا يدعون غيره. وهو قوله تعالى (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا) (١) (رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وقوله : (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أصابهم برحمة من عنده وهي الصحة والرخاء والخصب ونحوه (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي كثير (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فيعبدون الأصنام والأوثان بأنواع العبادات ، وقوله (لِيَكْفُرُوا (٢) بِما آتَيْناهُمْ) أي أشركوا بالله بعد إنعامه عليهم ليكفروا بما آتاهم من نعمة كشف الضر عنهم إذا (فَتَمَتَّعُوا) (٣) أيها الكافرون بما خولكم الله من نعمة فسوف تعلمون عاقبة كفركم لنعم الله وشرككم به يوم تردون عليه حفاة عراة لا وليّ لكم من دونه تعالى ولا نصير.

وقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا (٤) عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي ما الذي شجعهم على الشرك وجعلهم يصرون عليه حتى إذا تركوه ساعة الشدة عادوا إليه ساعة الرخاء أأنزلنا عليهم سلطانا أي حجة من كتاب ونحوه فهو ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به اللهم لا ، لا ، وإنما هو الجهل والتقليد والعناد وقوله (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) هذه حال أهل الشرك والكفر والجهل من الناس إذا أذاقهم الله رحمة من خصب ورخاء وصحة فرحوا بها فرح البطر والأشر (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) من جدب وقحط ومرض وفقر ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الذنوب والمعاصي ومنها مخالفة سنن الله في الكون (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٥) أي ييأسون من الفرج وذلك لكفرهم بالله وجهلهم بأسمائه

__________________

(١) الضّر بضم الضاد سوء الحال في البدن أو العيش أو المال وهذه الجملة الخبرية تحمل السامع على التعجب من حال المشركين كيف يخلصون لله تعالى الدعاء في الشدة ويشركون به في الرخاء يا للعجب!!

(٢) هذه لام التعليل في ظاهرها ولكنها آلت لمعنى العاقبة في واقعها.

(٣) الأمر للتهديد والتوعد على كفران النعم واستبدال شكرها بالكفر بالمنعم عزوجل والشرك به.

(٤) (أَمْ أَنْزَلْنا) : أم للاضراب الانتقالي فهي بمعنى بل ، وحرف الاستفهام مقدر أي أنزلنا عليهم الخ. وهو انكاري أن الله تعالى لم ينزل عليهم حجة تبيح لهم الشرك وتقرره.

(٥) هذه الصفة وإن كان المراد بها المشركون فإنها قد يتصف بها بعض المؤمنين فتجد أحدهم يصاب بالبطر عند حلول النعم ويترك الشكر ويقنط عند حلول النقم والشدة وينسى الدعاء والتضرع إلى الله تعالى فهو كما قال الشاعر :

كحمار السوء إن اعلفته

رمح الناس وان جاع نهق

وصفاته.

وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ، (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء أيصبر أم يضجر ويسخط. إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرجه ولا ما قنطوا. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإعطاء والمنع (لَآياتٍ) أي حججا ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من إله عظيم ورب غفور رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم.

٢) بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة.

٣) بيان حال أهل الشرك والكفر والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والأشر ويأسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة.

٤) مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديرا وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) : أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة.

(وَالْمِسْكِينَ) : أي المعدم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) : أي اعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإيواء والطعام.

(ذلِكَ خَيْرٌ) : أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) : أي من هدية أو هبة وسميت ربا لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم.

(لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) : أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم من أهديتموه القليل ليرد عليكم الكثير.

(فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) : أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) : أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافا مضاعفة.

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) : أي من أصنامكم التي تعبدونها.

(مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) : والجواب لا أحد ، إذا بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين.

معنى الآيات

لما بيّن تعالى في الآية السابقة لهذه انه يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وامته التابعة له بإيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، إذ منع

الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه ، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبى (١) حَقَّهُ) أي من البر والصلة (وَالْمِسْكِينَ) وهو من لا يملك قوته (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحدا ، وحقهما : إيواءهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالا ومآلا للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب. وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة ، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يردّ عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربو عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم ، (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (٢) ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعا : الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم (هَلْ (٣) مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء (مِنْ شَيْءٍ)؟ والجواب لا وإذا فلم تعبدونهم من دون الله ، فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون. ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك ، وتعالى عن المشركين فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤)

__________________

(١) الخطاب وإن كان موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمته تابعة له في هذا كله وابن السبيل إن استضاف مؤمنا وجب عليه ضيافته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه في الصحيح.

(٢) استئناف لتقرير عقيدة التوحيد وابطال التنديد والتوبيخ والتقريع على الشرك الذي هو أعظم أنواع الظلم وصاحبه أحط الناس قدرا وأفسدهم ذوقا وعقلا.

(٣) الاستفهام انكاري مشبوب بالنفي لقرينة من المؤكدة لنفي الجنس والاشارة في قوله من ذلكم إلى ما ذلك من الخلق والرزق والاماتة والاحياء.

(٤) قرأ الجمهور بالياء وقرأ غيرهم بتاء الخطاب بدون التفات من الغيبة إلى الخطاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب اعطاء ذوى القربى حقوقهم من البر والصلة.

٢) وجوب كفاية الفقراء وابناء السبيل في المجتمع الإسلامي.

٣) جواز هدية الثواب (١) الدنيوي كأن يهدي رجل شيئا يريد أن يردّ عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة ، وتسمى هذه الهدية : هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ).

٤) بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى.

٥) ابطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

__________________

(١) الهبة ثلاث أنواع الأول هبة يريد بها صاحبها وجه الله تعالى كأن يهب عبدا صالحا هبة إكراما له واسعادا فهذه جائزة ويثيب عليها الله تعالى والثانية هبة يريد بها صاحبها رد أكثر منها كأن يهدي فقير لغني أو مأمور لأمير فهذه ثوابها ما يعطيه له من أهداه ولا اجر له عند الله. وله أن يطالب من أهداه للثواب ولم يثيبه والثالثة الصدقات تعطى للفقراء فهي هبة لله والله يثيب عليها إن خلت من الربا فإذا شابها رياء فلا ثواب فيها.

شرح الكلمات :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد.

(بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) : أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) : أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا.

(عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) : أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنّها هلاكهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) : أي استقم على طاعة ربك عابدا له مبلغا عنه منفذا لأحكامه.

(لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) : أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإتيانه وهو يوم القيامة.

(يَصَّدَّعُونَ) : أي يتفرقون فرقتين.

(يَمْهَدُونَ) : أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإيمانهم وصالح أعمالهم.

معنى الآيات :

تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة (٤١) فقال (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي انتشرت المعاصي في البر (١) والبحر وفي الجو اليوم فعبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه. وقوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله : ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به (لِيُذِيقَهُمْ (٢) بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم

__________________

(١) ذكر للفساد في البر والبحر تأويلات وما في التفسير أصحها وأولاها بفهم الآية الكريمة وانفعها لأهل القرآن المتدبرين به العاملين بما فيه.

(٢) قرأ الجمهور (لِيُذِيقَهُمْ) بالياء وقرأ البعض بالنون.

بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم (١) ، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم. وقوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم : سيروا في الأرض شمالا أو جنوبا أو غربا فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دمارا وهلاكا فهل ترضون أن تكونوا مثلهم. وقوله (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي انتم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه وأقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلّموه الناس أجمعين ، واصبروا على ذلك فإن العاقبة للمتقين وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي افعلوا ذاك الذي أمرتكم به قبل مجيىء يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء ، وقوله (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا. وقوله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين (٢) كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار. وقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) أي اليوم (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطئون فرشهم في الجنة (٣) إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم ، وقوله (لِيَجْزِيَ (٤) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العاملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها انها زكّت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط ، وقوله (إِنَّهُ (٥) لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) هذه الجملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير ، ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين.

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (فاطر).

(٢) شاهده قول الشاعر :

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

جذيمة الأبرشي كان ملكا ونديماه هما مالك وعقيل نادماه اربعين سنة ثم ماتوا وندماني في البيت تثنية ندمان

(٣) شاهده قوله تعالى من سورة الشورى (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

(٤) اللام لام التعليل وهو واضح في التفسير.

(٥) علة الحذف طلب الإيجاز مع ظهور المعنى بدلالة السياق عليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) ظهور الفساد بالجدب والغّلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى ظهور فساد في العقائد بالشرك ، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي.

٢) وجوب الاستقامة على الدين الإسلامي عقيدة وعبادة وقضاء وحكما.

٣) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه

٤) بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) : أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده.

(مُبَشِّراتٍ) : أي تبشر العباد بالمطر وقربه.

(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحّدوا ربكم.

(رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) : أي كنوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام.

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والمعجزات.

(الَّذِينَ أَجْرَمُوا) : أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي.

(حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي ونصر المؤمنين أحققناه حقا وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته ، فقال تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات (١) عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله ، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلو كل رحمة. وقوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي بإنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء ، وقوله : (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها. وقوله (بِأَمْرِهِ) (٢) أي بإذنه وإرادته وتدبيره الحكيم ، وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدركم عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته. فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟ ، وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسولنا (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كنوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام فجاءوا أقوامهم بالبيّنات والحجج النيرات كما جئت أنت قومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فأهلكناهم ، ونجينا الذين آمنوا (وَكانَ حَقًّا (٣) عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ألا فلتعتبر قريش بهذا وإلا فستحلّ بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل.

__________________

(١) قيل في الرياح مبشرات لأنها تتقدم المطر فهي كالمبشرة بمجيئه.

(٢) قال يأمره لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية فيتعين إرساء السفن والاحتيال على حبسها إذ ربما عصفت بها الرياح فاغرقتها فمن هنا قال بأمره والا فالرياح وحدها لن تغرق السفن وتعوقها عند السير.

(٣) حقا هذه الكلمة من صيغ الالتزام يقال فلان محفوف بكذا أي لازم له شاهده في قول الأعشى :

لمحفوفة أن تستجيبي لصوته

(حَقًّا) خبر كان مقدم على اسمها وهو (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ولا التفات إلى من رأى الوقف على (حقا).

٢) بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء.

٣) بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن ، وناصر المؤمنين كذلك.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(فَتُثِيرُ سَحاباً) : أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) : أي قطعا متفرقة في السماء هنا وهناك.

(فَتَرَى الْوَدْقَ) : أي المطر يخرج من خلال السحاب.

(إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم.

(لَمُبْلِسِينَ) : أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم.

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) : أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى.

(فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) : أي رأوا النبات والزرع مصفرا للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة.

(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) : أي أقاموا بعد هلاك زروعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) : أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) (١) أي ينشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحابا أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء من كثافة وخفّة وكثرة وقلة ، (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) (٢) أي قطعا فترى أيها الرائي الودق أي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب. وقوله (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي بالمطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ) أي المصابون بالمطر في أرضهم. (يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي المطر (مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٣) أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أي فانظر يا رسولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت. فإذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء أراده. وقوله (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) أي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحا فيه إعصار فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبستها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث (يَكْفُرُونَ) بربهم أي يقولون : ما هو كفر من الفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم

__________________

(١) استئناف مبدوء باسم الله الأعظم الدال على قدرته وواسع علمه فهو الذي يرسل الرياح وينزل من السماء ماء ويحيي به الأرض هو الله الرب القادر على إحياء الناس بعد موتهم والمستحق لعبادتهم دون سواه والرياح قرأ بها الجمهور وقرأ بعض الريح بالإفراد ومما عرف بالعادة أن الرياح للإمطار والريح للدمار.

(٢) الكسف جمع كسفه أي قطعة والمراد أن الله تعالى يرسل الرياح فتثير السحاب ويكون عاما مجللا للسماء كافة ويكون منه قطعا قطعا لحكمة تتطلب ذلك والكسف بكسر الكاف وسكون السين كالكسف بكسر الكاف وفتح السين كلاهما جمع كسفه كسدره وسدر وقرىء من خلله وجائز أن يكون جمع خلال أيضا.

(٣) وفسر بآيسيين أي قانطين ازلين كما في الحديث أي في ضيق وشده وفسر بيئسين والكل صحيح.

وكفرهم. وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ (١) إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي انك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع اسماع الموتى كلامك فيفهموه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولّوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإشارة أما إذا ولّوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم. إذا فهون على نفسك ولا تحزن عليهم. وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلّا من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في امكانك إسماعهم وهدايتهم بإذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية.

٢) بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإلهي.

٣) بيان حال الكافر في أيام الرخاء وأيام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر ، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته.

٤) الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي.

٥) بيان ان الكفار أموات ، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون ، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)

__________________

(١) قال القرطبي. أي وضحت الحجج يا محمد لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم فلا يتهيأ لك إسماعيل وهدايتهم وقرأ الجمهور تسمع بالتاء وقرأ ابن كثير يسمع ورفع الصم على أنه فاعل وقرأ الجمهور هادي وقرأ ابن كثير تهدي.

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

شرح الكلمات

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) : أي من نطفة وهي ماء مهين.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) : أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) : أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب

(وَشَيْبَةً) : أي الهرم

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) : أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم.

(لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) : أي في انكارهم للبعث والجزاء.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (١) وحده (مِنْ ضَعْفٍ) (٢) أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة

__________________

(١) هذا الاستئناف كسابقه الاستدلال به علم قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وعظيم تدبيره في خلقه وهي موجبة التوحيد له والنبوة لرسوله والبعث لعباده ليحاسبهم ويجزيهم برحمته وعدله.

(٢) قرأ نافع والجمهور من ضعف بضم الضاد في الألفاظ الثلاثة في هذه الآية وهي لغة الحجاز ، وقرأ حفص بالفتح وهي لغة تميم ومن ابتدائية أي ابتدأ خلقكم من ضعف وهي النطفة ولا أضعف منها.

(قُوَّةً) وهي قوة الشباب (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي قوة الشباب والكهولة (ضَعْفاً) أي ضعف الكبر (وَشَيْبَةً) (١) أي الهرم وقوله تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ) بخلقه (الْقَدِيرُ) على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على احياء الأموات وبعثهم ، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرّمم وقوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (٢) أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن. وقوله تعالى (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣) أي كما صرّفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالله تعالى ولقائه ، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصى. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في كتاب المقادير (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وهو يوم القيامة (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لعدم إيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله

وقوله (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يأتي يوم البعث (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضى الله تعالى من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصى.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال.

٢) بيان اطوار خلق الإنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم.

٣) فضل العلم والإيمان وأهلهما.

٤) بيان ان معذرة الظالمين لا تقبل منهم ، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم.

__________________

(١) الشيبة اسم مصدر الشيب وعطف الشيبة على الضعف إشارة إلى عدم وجود قوة بعدها وإنما يأتي الفناء كما قيل الشيب نذير الموت وهو كذلك.

(٢) روى أن أم حبيبة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر في الصحيح.

(٣) يقال أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة ممنوعة من المطر.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ) : أي جعلنا للناس.

(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا.

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) : أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) : أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإيمان بآيات الله ولقائه.

(الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) : أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك.

معنى الآيات

بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الآيات السابقة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِ (١) مَثَلٍ) أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب

__________________

(١) قال القرطبي : أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.

الكلام وضروب التشبيه ، وعرض الأحداث بصور مثيرة للدهشة موقظة للحس ، ومنبهة للضمير ، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا ، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك ، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ (١) بِآيَةٍ) أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي منهم (٢). (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون (إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون إليه من الدين الحق والبعث الآخر. وقوله (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها ، يطبع على قلوب الذين لا يعلمون (٣) ، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإدراك فلا يحصل إيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يأمر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد ، حتى ينصره الله تعالى إذ واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف. وقوله : (وَلا) (٤) (يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٥) أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر. والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيمانا يقينيا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإيمان وحجج الهدى.

__________________

(١) أي كآيات موسى من فلق البحر والعصا أو آيات عيسى كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

(٢) أي من الناس لقوله ولقد ضربنا للناس وهو لفظ عام يشمل الكافر والمؤمن.

(٣) في هذه الآية إنذار خطير للجهال وتنديد بالجهل ، إذ أهله لا يفهمون عن الله ولا يهتدون إلى سبل الخير وطريق السعادة والكمال ولذا أوجب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب العلم على كل مسلم في قوله (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وما أصاب المسلمين ما أصابهم من خوف وهون ودون إلا نتيجة لجهلهم بربهم ومحابه ومكارهه وضروب عباداته وكيفيات أدائها لتزكوا بها نفوسهم وتطهر أرواحهم وقلوبهم.

(٤) وفسر بيستفزنك الذين في محل رفع فاعل وبعض العرب يعربونه إعراب جمع المذكر السالم فيقولون اللذون رفعا والذين نصبا وجرا قال الشاعر :

نحن اللذون صبحوا الصباح

يوم النخيل غارة ملحاحا

(٥) الاستخفاف : طلب خفة الشيء بفقد ثقله ورصانته فيغضب ويترك العمل. والذين لا يؤمنون هم المشركون كالنضر بن الحارث وابي جهل والمراد بنفي اليقين عنهم. اليقين بالأمور البديهيات اليقينية للناس لكون الله تعالى خلق كل شيء ورب كل شيء وقدرته على كل شيء إذ هذه يقينيات لدى عامة الناس.

٢) أسوأ أحوال الإنسان عند ما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئا وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم.

٣) وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون.

سورة لقمان

مكية (١)

وآياتها أربع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(الم) هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب الم ، وتقرأ : ألف لام ميم.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم.

(الْحَكِيمِ) : أي المحكم الذي لا نسخ يطرأ عليه بعد تمام نزوله ، ولا خلل فيه ، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا خلط ولا خبط فيما يحمل من هدى وتشريع.

(هُدىً وَرَحْمَةً) : أي هو هدى يهتدي به ورحمة يرحم بها.

(لِلْمُحْسِنِينَ) : أي الذين يراقبون الله تعالى في كل شؤونهم إذ هم الذين يجدون الهدى والرحمة في القرآن الكريم أما غيرهم من أهل الشرك والمعاصي فلا يجدون ذلك.

__________________

(١) قال قتادة : غير آيتين أولهما ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وقال بن عباس غير ثلاث آيات أولهن : ولو أن ما في الأرض من الخ ..

(أُولئِكَ) : أي المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة.

(عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : أي هم على هداية من الله تعالى فلا يضلون ولا يجهلون معها أبدا.

(الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالنجاة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب محبوب.

معنى الآيات

قوله تعالى : (الم) أحسن ما يفسر به مثل هذه الحروف المقطعة قول : الله أعلم بمراده به وقد أفادت هذه الحروف فائدة عظيمة ، وذلك من جهتين الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به فيهتدي إلى الحق من يحصل له ذلك ، وقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كانت هذه الحروف بنغمها الخاص ومدودها العجيبة تضطر المشرك إلى الإصغاء والاستماع فحصل ضد مقصودهم وكفى بهذه فائدة. والثانية أنهم لما ادعوا أن القرآن سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين كأنما قيل لهم هذا القرآن الذي ادعيتم فيه كذا وكذا قد تألف من هذه الحروف ص ، ن ، ق ، يس ، طس ، الم فألفوا سورة مثله وأتوا بها للناس فيصبح لكم ما تدعون فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا ووحدوا واستقيموا على ذلك تعزوا وتكرموا وتكملوا وتسعدوا.

وقوله : (تِلْكَ آياتُ (١) الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه الآيات هي آيات القرآن الكريم الموصوف بالحكمة إذ هو لا يخلط ولا يغلط ولا يخبط بل يضع كل شيء في موضعه اللائق به في كل ما قال فيه وحكم به ، وأخبر عنه أو به من سائر المعارف والعلوم التي حواها كما هو حكيم بمعنى محكم لا نسخ يطرأ عليه بعد تمامه كما طرأ على الكتب السابقة ، ومحكم أيضا بمعنى لا خلل فيه ، ولا تناقض بين أخباره وأحكامه على كثرتها وتنوع أسبابها ومقتضيات نزولها ، وقوله : (هُدىً (٢) وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) أي هو بيان هداية ورحمة تنال المحسنين وهم الذين أحسنوا عبادتهم لربهم فخلصوها من الشرك والرياء وأتوا بها على

__________________

(١) (تِلْكَ) في محل رفع مبتدأ و (آياتُ الْكِتابِ) الخبر.

(٢) (هُدىً وَرَحْمَةً) نصبا على الحال على حد هذه ناقة الله لكم آية وقرىء هدى ورحمة بالرفع على أن هدى خبر ثان ورحمة معطوف عليه وهي قراءة حمزة.

(٣) وجائز أن يكون المحسنين الفاعلين للحسنات والمحسنين إلى غيرهم كالوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين ومن ذكروا في آية الحقوق العشرة من سورة النساء «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا الخ ...

الوجه المرضي لله تعالى وهو ما بينه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كيفيات العبادات وبيان فعلها وأدائها عليه. وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي المحسنين الذين يقيمون الصلاة أي يؤدون الصلوات الخمس مراعى فيها شروطها مستوفاة أركانها وسننها الواجبة منها والمستحبة ، ويؤتون الزكاة أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالذهب والفضة أو العمل القائمة مقامهما والحرث من تمر وزيتون ، وحبوب مقتاة مدخرة والناطقة من إبل وبقر وغنم وذلك إن حال الحول في الذهب والفضة والعمل وفي بهيمة الأنعام أما الحرث والغرس فيوم حصاده وجداده. وقوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي والحال هم موقنون بما أعده الله من ثواب وجزاء على الإحسان والإيمان والإسلام الذي دلت عليه صفاتهم في هذا السياق الكريم وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يخبر تعالى عن المحسنين أصحاب الصفات الكريمة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان باليوم الآخر والإيقان بثواب الله تعالى فيه انهم على هدى أي طريق مستقيم وهو الإسلام هداهم الله تعالى إليه ومكنهم من السير عليه وبذلك أصبحوا من المفلحين الذين يفوزون بالنجاة من النار ، وبدخول الجنة دار الأبرار. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم انك برّ كريم تواب رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان إعجاز القرآن حيث ألّف من مثل الم ، وص ، وطس ، ولم يستطع خصومه تحديه.

٢) بيان معنى الحكيم وفضل الحكمة.

٣) بيان أن القرآن بيان للهدى المنجي المسعد ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه.

٤) فضل الصلاة والزكاة واليقين.

٥) بيان مبنى الدين : وهو الإيمان والإسلام والإحسان (١).

__________________

(١) شاهد هذا حديث جبريل في مسلم : إذ سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان فدل ذلك على أن مبنى الدين الإسلامي هذه الثلاثة (الإيمان والإسلام والإحسان).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١) (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

شرح الكلمات

(وَمِنَ النَّاسِ) : أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث بن كلدة حليف قريش.

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) : أي الحديث الملهي عن الخير والمعروف وهو الغناء.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي ليصرف الناس عن الإسلام ويبعدهم عنه فيضلوا.

(وَيَتَّخِذَها هُزُواً) : أي ويتخذ الإسلام وشرائعه وكتابه هزوا أي مهزوءا به مسخورا منه.

(وَلَّى مُسْتَكْبِراً) : أي رجع في كبرياء ولم يستمع إليها كفرا وعنادا وكبرا كأن لم يسمعها.

(فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) : أي ثقل يمنع من السماع كالصمم.

(بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) : أي بدون عمد مرئية لكم ترفعها حتى لا تقع على الأرض.

(رَواسِيَ) : أي جبال راسية في الأرض بها ترسو الأرض أي تثبت حتى لا تميل.

__________________

(١) هذا عطف على جملة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) كأنما قال كانت تلك حال الكتاب الحكيم وهي حال تدعو إلى كل كمال وإن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ففي الاخبار تعجب من حال هذا الإنسان الذي يعرض عن الهدى إلى الضلال وعن الخير إلى الشر.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) : أي وخلق ونشر فيها من صنوف الدواب وهي كل ما يدب في الأرض.

(مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي من كل صنف من النباتات جميل نافع لا ضرر فيه.

(هذا خَلْقُ اللهِ) : أي المذكور مخلوقه تعالى إذ هو الخالق لكل شيء.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من الآلهة المزعومة التي يعبدها الجاهلون.

(بَلِ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون.

معنى الآيات

لما ذكر تعالى عباده المحسنين وأثنى عليهم بخير وبشرهم بالفلاح والفوز المبين ذكر صنفا آخر على النقيض من الصنف الأول الكريم فقال : (وَمِنَ النَّاسِ (١) مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ (٢) لِيُضِلَّ عَنْ (٣) سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث الكلدي حليف قريش يشتري لهو الحديث أي الغناء إذ كان يشترى الجواري المغنيات ويفتح ناديا للهو والمجون ويدعو الناس إلى ذلك ليصرفهم عن الإسلام حتى لا يجلسوا إلى نبيّه ولا يقرأوا كتابه بغير علم منه بعاقبة صنيعه وما يكسبه من خزي وعار وعذاب النار. وقوله (وَيَتَّخِذَها (٤) هُزُواً) أي يتخذ سبيل الله التي هي الإسلام هزوا أي شيئا مهزوءا به مسخورا منه بما في ذلك الرسول والمؤمنون والآيات الكلّ يهزأ به ويسخر منه لجهله وظلمة نفسه. قال تعالى (أُولئِكَ) لهم عذاب مهين أي أولئك البعداء وهم كل من يشترى الغناء يغني به نساء ورجال أو آلات ممن اتخذوا الإسلام وشرائعه هزوا وسخرية ليصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله الموصلة إلى رضاه ومحبته وجنّته. أولئك : من تلك صفتهم لهم عذاب مهين بكسر أنوفهم وبذلهم يوم القيامة وقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ

__________________

(١) معنى الكلام من الناس ـ يا للعجب ـ من يشغله لهو الحديث والولوع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم ، هذه الآية إحدى ثلاث آيات في القرآن الكريم تحرم الغناء والأولى آية بني اسرائيل وهي قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك والثالثة آية النجم : وأنتم سامدون قال ابن عباس هو الغناء بالحميرية يقال اسمد لنا أي غنّي لنا.

(٢) لهو الحديث هو الغناء ، صح أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن لهو الحديث فقال بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء وقال ابن جرير الطبري قد اجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة ابراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم عليكم بالسواد الأعظم ، ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية.

(٣) قرأ الجمهور ليضل بضم الياء أي ليضل غيره فهو إذا ضال مضل وقرأ ابن كثير ليضل بفتح الياء أي ليزداد ضلالا على ضلال.

(٤) قرأ نافع بالرفع عطفا على يشترى وقرأ حفص بالفتح عطفا على ليضل.

آياتُنا وَلَّى (١) مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)

أي وإذا قرئت على هذا الصنف من الناس آيات الله لتذكيره وهدايته رجع مستكبرا كأن لم يسمعها تتلى عليه وهي حالة من أقبح الحالات لدلالتها على خبث هذا الصنف من الناس وكبرهم. وقوله (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (٢) كأن به صمم لا يسمع القول وهنا عجّل الله له بما يحزنه ويخزيه فقال لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) والتبشير بما يضر ولا يسر يحمل معه التهكم وهذ النوع من الناس مستحق لذلك وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها) هذا صنف آخر مقابل لما قبله وهم أهل الإيمان والعمل الصالح بشرهم ربهم بجنات النعيم والخلود فيها وقوله (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي (٣) وعدهم بذلك وعدا صادقا لا يخلف وأحقه لهم حقا لا يسقط. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده (الْحَكِيمُ) الذي يضع كل شيء في موضعه.

وقوله (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٤) أي من مظاهر قدرته وعزته وحكمته خلقه السموات ورفعها بغير عمد مرئية لكم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن هناك أعمدة غير مرئية وهي سنّة نظام الجاذبية التي خلقها بقدرته وجعل الأجرام السمواية متماسكة بها. وقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي من مظاهر قدرته وحكمته إلقاء الجبال الرواسي على الأرض لتحفظ توازنها حتى لا تميل بأهلها فيفسد ويسقط ما عليها وتنعدم الحياة عليها وهو معنى (أَنْ تَمِيدَ (٥) بِكُمْ) أي تميل ، وإذا مالت تصدع كل ما عليها وخرب وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وهذا مظهر آخر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة للإيمان بالله ولقائه والمستلزمة لتوحيده تعالى في عبادته ، فسائر أنواع الدواب على كثرتها واختلافها الله الذي خلقها وفرقها في الأرض تعمرها وتزيّنها. وقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو ماء المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف من أصناف الزروع والنباتات مما

__________________

(١) (وَلَّى) هذا تمثل للإعراض عن آيات الله التي تتلى عليه ومستكبرا حال مبينة وأن إعراضه كان لا عن إهمال أو تفريط وإنما كان عن كبر كأن لم يسمعها تكرار التشبيه لفائدة الإخبار بأنه مرة لم يسمعها مع وجود حاسة السمع وأخرى مع عدم وجودها.

(٢) قرأ نافع أذنيه بإسكان الذال تخفيفا وقرأ الجمهور أذنيه بتحريك الذال مضمومة.

(٣) انتصاب وعد الله على المفعول المطلق وانتصاب حقا على الحال.

(٤) ترونها في محل جر نعت لعمد ومعنى هذا أن هناك عمدا غير مرئية ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من السموات.

(٥) أي كراهية أن تميد بكم أي تميل أو لئلا تميد والكل جائز.

هو نافع وصالح للإنسان هذا المذكور أيضا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة الربّانية الموجبة للإيمان بالله وآياته ولقائه وتوحيده في عباداته ومن هنا قال تعالى : (هذا خَلْقُ (١) اللهِ) أي كل ما ذكر من المخلوقات في هذه الآيات هو مخلوق لله والله وحده خالقه فأروني أيها المشركون المكذبون ما ذا خلق الذين تعبدونهم من دونه من سائر المخلوقات يتحداهم بذلك. فعجزوا. وقوله تعالى (بَلِ (٢) الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنهم عبدوا غير الله وكذبوا بلقاء الله لا عن علم لديهم أو شبهة كانت لهم بل الظالمون وهم المشركون في ضلال مبين فهم تائهون في أودية الضلال حيارى بجهلهم في حياتهم فدواؤهم العلم والإيمان فمتى آمنوا وعلموا لم يبق مجال لكفرهم وشركهم وعنادهم فلهذا فصّل تعالى الآيات وعرض الأدلة والحجج عرضا عجيبا لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا فضلا منه ورحمة. وهو العزيز الرحيم

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) حرمة غناء النساء للرجال الأجانب.

٢) حرمة شراء الأغاني في الأشرطة والاسطوانات التي بها غناء العواهر والخليعين من الرجال.

٣) حرمة حفلات الرقص والغناء الشائعة اليوم في العالم كافره ومسلمه.

٤) دعوة الله تقوم على دعامتي الترهيب والترغيب والبشارة والنذارة.

٥) بيان شتّى مظاهر القدرة والعلم والعز والحكمة الموجب للإيمان والتوحيد.

٦) لا قصور في الأدلة والحجج الإلهية وإنما ضلال العقول بالشرك والمعاصى هو المانع من الاهتداء. والعياذ بالله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما

__________________

(١) خلق الله بمعنى مخلوقه.

(٢) بل للاضراب الانتقالي من المجادلة إلى تسجيل ضلالهم وهو اعتقادهم إلهية الأصنام كما يقول المناظر دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ (١) جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) : أي أعطينا لقمان (٢) القاضي : أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في الأمور.

(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) : أي اشكر لله ما أنعم به عليك بطاعته وذكره.

(لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) : أي ابنه ثاران وهو يعظه أي يأمره وينهاه مرغّبا له مرهبا.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف.

(وَهْناً عَلى وَهْنٍ) : أي ضعفا على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإرضاع.

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) : أي مدة رضاعه تنتهي في عامين ، وبذلك يفصل عن

__________________

(١) هذه الآية : وإن جاهداك والتي قبلها ووصينا الإنسان نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم وان أمة حمنه بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل حتى يكفر سعد أو تموت جوعا وعطشا حتى يعير بها مدى الحياة (يا قاتل أمه) إلا أنها لما أيأسها سعد أسلمت وأكلت وشربت.

(٢) هو لقمان بن باعوراء بن ناصور بن تارح وهو ازر أبو ابراهيم كذا نسبه ابن اسحق وقال السهيلي هو لقمان بن عتفاد بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة ، قال وهب كان ابن اخت أيوب أو ابن خالته عاش ألف سنة وأدركه داود عليه‌السلام وكان رجلا حكيما ولم يكن نبيا ومن حكمه قوله إن القلب واللسان إذا طابا فليس شيء أطيب منهما وإذا خبثا فليس شي أخبث منهما وقوله وقد قيل له أي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا وقوله الصمت حكمة وقليل فاعله.

الرضاع.

(وَإِنْ جاهَداكَ) : أي بذلا جهدهما في حملك على الشرك.

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) : أي واصحبهما في حياتهما بالمعروف وهو البر والإحسان وكف الأذى والطاعة في غير معصية الله.

(مَنْ أَنابَ إِلَيَ) : أي رجع إليّ بتوحيدي وطاعتي وطاعة رسولي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

/ معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين وهذه القصة اللقمانية اللطيفة مشوقة لذلك قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أي أعطينا عبدنا لقمان الحكمة وهي الفقه في الدين والإصابة في الأمور ورأسها مخافة الله تعالى بذكره وشكره الذي هو طاعته في عبادته وتوحيده فيها. وقوله : (أَنِ اشْكُرْ (١) لِلَّهِ) أي وقلنا له اشكر الله خالقك ما أنعم به عليك بصرف تلك النعم فيما يرضيه عنك ولا يسخطه عليك. وقوله تعالى (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي ومن شكر الله بطاعته فإن ثمرة الشكر وعائدته للشاكر نفسه بحفظ النعمة والزيادة فيها أما الله فإنه غني بذاته محمود بفعاله فلا يفتقر إلى خلقه في شيء إذ هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ) أي واذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين قول لقمان لابنه وأخص الناس به وهو ينهاه عن الشرك الذي نهيتكم أنا عنه فغضبتم وأصررتم عليه عنادا ومكابرة فقال له : بما اخبر به تعالى عنه في قوله : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) (٢) (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يأمره وينهاه مرغبا له في الخير مرهبا له من الشر : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) أي في عبادته أحدا. وعلل لنهيه ليكون أوقع في نفسه فقال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ (٣) عَظِيمٌ) والظلم وضع الشيء في غير موضعه ويترتب عليه الفساد والخسران الكبير ، وعبادة غير الله وضع لها في غير موضعها إذ العبادة حق الله على عباده

__________________

(١) وجائز أن تكون أن التفسيرية أي مفسرة للفظ الحكمة بأنها الشكر لله تعالى وهي أقوال القيت إليه بإلهام ففي الحكمة معنى القول دون حروفه. كما فسرت (حاجة) في قول الشاعر لأنها بمعنى القول.

إن تحملا حاجة لي خف محملها

تستوجبا منة عندي بها ويدا

أن تقرآن على أسماء ويحكما

مني السّلام وان لا تخبرا أحدا

(٢) قيل كان اسم ابنه ثاران وقيل مشكم وقيل أنعم والله أعلم.

(٣) روي مسلم انه لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.

مقابل خلقهم ورزقهم وكلاءتهم في حياتهم وحفظهم وقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ (١) بِوالِدَيْهِ) أي عهدنا إلى الإنسان آمرين أياه ببرّ والديه أي أمه وأبيه ، وبرّهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما (٢) في المعروف ، وقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ) أي الإنسان أمه أي والدته (وَهْناً عَلى (٣) وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإرضاع فلهذا تأكدّ برّها فوق برّ الوالد مرتين لحديث الصحيح : [من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أبوك] وقوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين ، وقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه ، وذكره بقلبه ولسانه وقوله (وَلِوالِدَيْكَ) إذ هما قدما معروفا وجميلا فوجب شكرهما ، وذلك ببرّهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله ، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع إلى الله أكرمه والعاصي أهانه. وما دام الرجوع إليه تعالى حتميّا فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعيّنة. وقوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وإن جاهداك أيها الإنسان والداك وبذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وهو عامة الشركاء إذ ما هناك من يصح إشراكه في عبادة الله قط. فلا تطعهما في ذلك أبدا ، (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا) (٤) أي في الحياة بالمعروف وهو برهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى ورسوله ، وقوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي اتبع طريق من أناب إليّ بتوحيدي وعبادتي والدعوة إليّ

__________________

(١) الراجح أن هاتين الآيتين وقعتا اعتراضا بين كلام لقمان الأول والثاني وأنهما نزلتا في شأن والدة سعد بن أبي وقاص وللاعتراض فائدة وهي التنويع في الأسلوب لإذهاب السآمة وتجديد نشاط الذهن للحفظ والفهم وجائز أن يكون لا اعتراض والآيتان من كلام لقمان.

(٢) روى أن الحسن قال لو منعت والدة ولدها من شهود صلاة العشاء شفقة عليه فلا يطعها.

(٣) الوهن بإسكان الهاء مصدر وهن يهن من باب ضرب ووهن بفتح الواو والهاء من باب وجل يوجل وجلا. والمعنى أي وهنا واقعا على وهن كقولهم (عودا على بدء) أي رجع عودا على بدء.

(٤) معروفا نعت لمصدر محذوف تقديره مصاحبا معروفا. وفي الآية دليل على جواز بر الأم الكافرة أو الأب لحديث أسماء إذ قالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم ، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى ووالدة عائشة هي أم رومان قديمة الإسلام.

وهو رسول (١) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص حيث أمرته أمه أن يكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه وذلك قبل إسلامها وبذلت جهدا كبيرا في مراودة ابنها سعد رضي الله عنهما وقوله (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي جميعا فأنبكم بما كنتم تعملون وأجزيكم بعملكم الخير بالخير والشر بالشر فاتقوني بطاعتي وتوحيدي والإنابة إليّ في كل أموركم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.

٢) بيان الحكمة وهي شكر (٢) الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه.

٣) مشروعية الوعظ والإرشاد للكبير والصغير والقريب والبعيد.

٤) التهويل في شأن الشرك وإنه لظلم عظيم.

٥) بيان مدة الرضاع وهي في خلال العامين لا تزيد.

٦) وجوب بر الوالدين وصلتهما.

٧) تقرير مبدإ لا طاعة لمخلوق (٣) في معصية الخالق بعدم طاعة الوالدين في غير المعروف.

٨) وجوب اتباع سبيل المؤمنين من أهل السنة والجماعة وحرمة اتباع سبيل أهل البدع والضلالة.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ

__________________

(١) الآية عامة في سائر المؤمنين فعلى كل مؤمن اتباع الصالحين في كل زمان ومكان والاقتداء بهم وعليه مجانبة أهل الضلال والفسق والعصيان وعدم اتباعهم في باطلهم وضلالهم وفسقهم وعصيانهم.

(٢) روى أن سفيان بن عيينة قال من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في ادبار الصلوات فقد شكرهما.

(٣) صح الحديث بلفظ إنما الطاعة في المعروف وبلفظ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) : أي توجد زنة حبة من خردل.

(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) : أي في داخل صخرة من الصخور لا يعلمها أحد.

(لَطِيفٌ خَبِيرٌ) : أي لطيف باستخراج الحبة خبير بموضعها حيث كانت.

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : أي مر الناس بطاعة الله تعالى ، وانههم عن معصيته.

(مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي مما أمر الله به عزما لا رخصة فيه.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) : أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا.

(مَرَحاً) : أي مختالا تمشي خيلاء.

(مُخْتالٍ فَخُورٍ) : أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أي إتّئد ولا تعجل في مشيتك ولا تستكبر.

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : أي اخفض من صوتك وهو الاقتصاد في الصوت.

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) : أي أقبح الأصوات وأشدها نكارة عند الناس لأن أوله زفير وآخره شهيق.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في قصص لقمان عليه‌السلام فقال تعالى مخبرا عن لقمان بقوله لابنه ثاران (يا بُنَيَ (١) إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ (٢) خَرْدَلٍ) أي إن تك زنة حبة من خردل من

__________________

(١) تكرير النداء حكمته تجديد نشاط السماع وقرأ نافع مثقال بالرفع على انه فاعل تك وكان التي مضارعها تك تامة وقرأ حفص مثقال بالفتح على أن كان ناقصة ومثقال خبرها وقوله انها أي القصة أو الحالة المسؤول عنها.

(٢) روي أن ناران بن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يقابلها الله؟ فقال لقمان يا بني إنها إن تك مثقال حبة الخ .. فما زال ابنه يضطرب حتى مات قاله مقاتل رحمه‌الله.

خير أو شر من حسنة أو سيئة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ (١) أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) ويحاسب عليها ويجزي بها ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي باستخراجها (خَبِيرٌ) بموضعها وعليه فاعمل الصالحات واجتنب السّيئات وثق في جزاء الله العادل الرحيم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٦) أما الآية الثانية (١٧) فقد تضّمنت أمر ولده باقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك فقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ، (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بطاعة الله تعالى فيما أوجب على عباده (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عما حرم الله تعالى على عباده من اعتقاد أو قول أو عمل. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى ممن تأمرهم وتنهاهم ، وقوله (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن اقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذات الله من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليست برخص وقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (٢) هذا مما قاله لقمان لابنه نهاه فيه عن خصال ذميمة محرمة وهى التكبر على الناس بأن يخاطبهم وهو معرض عنهم بوجهه لا وعنقه (٣) ، وهي مشية المرح والاختيال والتبختر ، والفخر بالنعم مع عدم شكرها وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ (٤) فَخُورٍ) هذا مما قاله لقمان لابنه لما نهاه عن التكبر والاختيال والفخر أخبره أن الله تعالى لا يحب من هذه حاله حتى يتجنبها ولده الذي يعظه بها وبغيرها وقوله في الآية (١٩) (وَاقْصِدْ فِي (٥) مَشْيِكَ) أي إمش متّئدا في غير عجلة ولا إسراع إذ الاقتصاد ضد الإسراف. وقوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أمره أن يقتصد في صوته أيضا فلا يرفع صوته إلا بقدر الحاجة. كالمقتصد لا يخرج درهمه إلا عند الحاجة وبقدرها وقوله (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ذكر هذه الجملة لينفره من رفع صوته بغير حاجة فذكر له أنّ أقبح الأصوات صوت الحمير (٦) لأنه عال مرتفع وأوله زفير وآخره

__________________

(١) قيل أن الصخرة تكون تحت الأرض السابعة لأنها ليست في السماء ولا في الأرض.

(٢) الصعر الميل ومنه قول الشاعر :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فتقوم

والصعر كالصّيد داء يصيب الإبل فتلوى منه أعناقها.

(٣) شاهده في الحديث الصحيح لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فقوله ولا تدابروا يشمل تصعير الوجه أي ميله.

(٤) المختال ذو الخيلاء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة والفخور هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى (قاله مجاهد).

(٥) ما روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا مشى أسرع فإنما أريد به السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت المظهر للمسكنة والذلة.

(٦) بالحمار يضرب المثل في البلادة وينهى عن رفع الصوت لغير حاجة حتى لا يكون صوت المتكلم كصوت الحمار الممقوت والحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانا كما في الحديث ، وركبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواضعا ، وقيل نهيق الحمار دعاء عن الظلمة.

شهيق. هذا آخر ما قص تعالى من نبأ لقمان العبد الصالح عليه‌السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالحسنة والسيئة مهما قلت وصغرت.

٢) وجوب إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يلحق الآمر والناهي من أذى.

٣) حرمة التكبر والاختيال في المشي ووجوب القصد في المشي والصوت فلا يسرع ولا يرفع صوته إلا على قدر الحاجة.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

شرح الكلمات

(أَلَمْ تَرَوْا) : أي ألم تعلموا أيّها الناس.

(سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) : أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم.

(وَما فِي الْأَرْضِ) : أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها.

(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً) : أي أوسع وأتّم عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق وتسوية الأعضاء.

(وَباطِنَةً) : أي المعرفة والعقل.

(مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) : أي يخاصم في توحيد الله منكرا له مكذبا به.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي.

(وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) : أي سنة من سنن الرسل ، ولا كتاب إلهي منير واضح بيّن.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ) : أي ايتبعونهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم إلى موجب عذاب السعير من الشرك والمعاصي.

معنى الآيات

عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان إلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا) أيها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته أي ألم تعلموا بمشاهدتكم (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) (١) أي من أجلكم (ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر وكواكب ومطر ، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتّى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم ، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) (٢) أي أوسعها وأتمها نعم الإيجاد ونعم الإمداد حال كونها ظاهرة كحسن (٣) الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق ، وباطنة كالعقل والإدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ومع هذا البيان والإنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإن ناسا يجادلون (٤) في توحيد الله وأسمائه وصفاته ووجوب طاعته وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل ، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته.

وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ) (٥) أي لأولئك المجادلين في الله بالجهل والباطل (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدى ، قالوا لا ، بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وثنيّة وتقاليد جاهلية ، قال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أي أيتّبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة الملتهبة والجواب لا ، ولكن اتبعوهم فسوف يردون معهم النار وبئس الورد المورود.

__________________

(١) ذكر نعم الله الموجبة لشكره بعبادته وحده وترك عبادة من سواه.

(٢) قرأ نافع وحفص (نِعَمَهُ) بالجمع وقرأ آخرون بالإفراد نعمته وهي داله على الجمع لأنها اسم جنس دال على متعدد بدليل قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

(٣) عن ابن عباس أن النعم الظاهرة الإسلام وما حسن من الخلق والباطنة ما ستر على العبد من سيء العمل وقيل النعم الظاهرة الصحة وكمال الخلق والباطنة المعرفة والعقل.

(٤) قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم أي بغير حجة نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو فجاءت صاعقة فأخذته قاله مجاهد.

(٥) هذا عام في اليهودي السائل وفي المشركين الذين طالما سألوا وجادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهلهم وتقليد آبائهم وهم من أجهل الناس.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١) تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم.

٢) وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣) حرمة الجدال بالجهل ودون علم.

٤) حرمة التقليد في الباطل والشر والفساد كتقليد بعض المسلمين اليوم للكفار في عاداتهم وأخلاقهم ومظاهر حياتهم.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) : أي أقبل على طاعته مخلصا له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) : أي والحال انه محسن في طاعته اخلاصا واتباعا.

(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : أي تعلّق بأوثق ما يتعلق به فلا يخاف انقطاعه بحال.

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) : أي مرجع كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) : أي متاعا في هذه الدنيا قليلا إي إلى نهاية آجالهم.

(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) : أي ثم نلجئهم في الآخرة إلى عذاب النار والغليظ :

الثقيل.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي إحمد الله على ظهور الحجة بأن تقول الحمد لله.

(لا يَعْلَمُونَ) : أي من يستحق الحمد والشكر ومن لا يستحق لجهلهم.

معنى الآيات

بعد إقامة الحجة على المشركين في عبادتهم غير الله وتقليدهم لآبائهم في الشرك والشر والفساد قال تعالى مرغبا في النجاة داعيا إلى الإصلاح : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) (١) أي يقبل بوجهه وقلبه على ربه يعبده متذللا له خاضعا لأمره ونهيه. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي والحال أنه محسن في عبادته اخلاصا فيها لله ، واتباعا في أدائها لرسول الله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي قد أخذ بالطرف الأوثق فلا يخاف انقطاعا أبدا وقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يخبر تعالى أن مردّ الأمور كلها لله تعالى يقضي فيها بما يشاء فليفوّض العبد اموره كلها لله إذ هي عائدة إليه فيتخذ بذلك له يدا عند ربه ، وقوله لرسوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ (٢) كُفْرُهُ) أي أسلم وجهك لربك وفوض أمرك إليه متوكلا عليه ومن كفر من الناس فلا يحزنك كفره أي فلا تكترث به ولا تحزن عليه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي فإن مردهم إلينا بعد موتهم ونشورهم (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في هذا الدار من سوء وشر ونجزيهم به. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣) أي بما تكنه وتخفيه من اعتقادات ونيّات وبذلك يكون الحساب دقيقا والجزاء عادلا. وقوله تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ (٤) قَلِيلاً) أي نمهل هؤلاء المشركين فلا نعاجلهم بالعقوبة فيتمتعون مدة آجالهم وهو متاع قليل (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) بعد موتهم ونشرهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نلجئهم إلجاء إلى عذاب غليظ ثقيل لا يحتمل ولا يطاق وهو عذاب النار. نعوذ بالله منها ومن كل عمل يؤدي إليها وقوله تعالى في الآية (٢٥) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين قائلا لهم : من خلق السموات والأرض لبادروك

__________________

(١) أسلم وسلّم بمعنى ، إلا أن التضعيف للتكثير وعدي باللام نحو قول أسلمت وجهي لله ، وعدي مرة بإلى قال القرطبي معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله أي خالصا له ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه.

(٢) قرأ نافع يحزنك بضم الياء وكسر الزاي يحزنك وقرأ حفص (يَحْزُنْكَ) بفتح الباء وضم الزاي يحزنك فالأولى مضارع احزنه.

يحزنه كأعلم يعلمه والثاني مضارع حزنه كنصره ينصره.

(٣) الجملة تعليلية لما سبقها من أحكام.

(٤) جملة نمتعهم قليلا مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا يقول ما الذي يترتب على علمه تعالى بذات الصدور فالجواب انه يمتعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ.

بالجواب قائلين الله إذا قل الحمد لله على إقامة الحجة عليكم باعترافكم ، وما دام الله هو الخالق الرازق كيف يعبد غيره أو يعبد معه سواه أين عقول القوم؟ وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون موجب الحمد ولا مقتضاه ، ولا من يستحق الحمد ومن لا يستحقه لأنهم جهلة لا يعلمون شيئا. وقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وعبيدا ولذا فهو غني عن المشركين وعبادتهم فلا تحزن عليهم ولا تبال بهم عبدوا أو لم يعبدوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أي المحمود بعظيم فعله وجميل صنعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات

١) بيان نجاة أهل لا إله إلا الله وهم الذين عبدوا الله وحده بما شرع لهم على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣) بيان أن المشركين من العرب موحدون في الربوبيّة مشركون في العبادة كما هي حال كثير من الناس اليوم يعتقدون أن الله ربّ كل شيء ولا ربّ سواه ويذبحون وينذرون ويحلفون بغيره ، ويخافون غيره ويرهبون سواه. والعياذ بالله.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) : أي من شجرة.

(أَقْلامٌ) : أي يكتب بها.

(وَالْبَحْرُ) : أي المحيط.

يمده سبعة أبحر : أي تمده

(ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) : أي ما انتهت ولا نقصت.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أي عزيز في انتقامه غالب على ما أراده حكيم في تدبير خلقه.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) : أي ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم من قبوركم إعادة لكم إلا كخلق وبعث نفس واحدة.

معنى الآيتين

قوله تعالى (وَلَوْ أَنَ (١) ما فِي الْأَرْضِ مِنْ (٢) شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي لو أن شجر الأرض كله قطعت أغصانه شجرة شجرة حتى لم تبق شجرة وبريت أقلاما ، والبحر المحيط صار مدادا ومن ورائه سبعة أبحر أخرى تحولت إلى مداد وتمد البحر الأول وكتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله لنفد البحر والأقلام ولم تنفد كلمات الله ، وذلك لأن الأقلام والبحر متناهية ، وكلمات الله غير متناهية فعلم الله وكلامه كذاته وصفاته لا تتناهى بحال ، نزلت هذه الآية ردا على اليهود لما قيل لهم (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا وكيف هذا وقد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء. كما نزل ردا على أبي بن خلف قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ (٣) وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ (٤) واحِدَةٍ) إذ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يخلقنا الله خلقا جديدا في يوم واحد ليحاسبنا ويجزينا ، ونحن خلقنا اطوارا وفي قرون عديدة فأنزل تعالى قوله (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) إلا كخلق وبعث نفس واحدة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ (٥) بَصِيرٌ) فكما يسمع المخلوقات ولا يشغله صوت عن صوت ، ويبصرهم ولا تحجبه ذات عن ذات كذلك هو يبعثهم في وقت واحد ولو أراد خلقهم جملة واحدة لخلقهم لأنه يقول للشيء كن فيكون.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) بيان سعة علم الله تعالى وأنه تعالى متكلم وكلماته لا تنفد بحال من الأحوال.

٢) بيان أن ما أوتيه الإنسان من علوم ومعارف ما هو بشيء إلى علم الله تعالى.

__________________

(١) قيل في سبب هذه الآية المدنية على رأي ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود قالوا : يا محمد كيف عنينا بهذا القول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه وعندك انها تبيان كل شيء. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوراة قليل من كثير ونزلت هذه الآية.

(٢) من شجرة من بيانية وفي التعبير ب لو : دلالة على أن مضمون الكلام افتراضي ، ولكن لو كان المفترض لما يخرج عما أخبر تعالى به وهو نفاد الأقلام والمداد وبقاء كلام الله تعالى لأن المراد من الكلمات كلام الله تعالى.

(٣) في الآية إيجاز بالحذف إذ التقدير ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة.

(٤) ما خلقكم فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

(٥) جملة إن الله سميع بصير صالحة لأن تكون تعليلية أو استئنافية بيانية.

٣) بيان قدرة الله تعالى وانها لا تحد ولا يعجزها شيء.

٤) إثبات صفات الله كالعزة والحكمة والسمع والبصر.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تعلم أيها المخاطب.

(أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل جزءا منه في النهار ، ويدخل جزءا من النهار في الليل بحسب الفصول.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : يسبحان في فلكيهما الدهر كله لا تكلان إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لهما.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) : أي ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير بسبب أن الله هو الإله الحق.

(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) : أي وأن ما يدعون من دونه من آلهة هي الباطل.

(بِنِعْمَتِ اللهِ) : أي بإفضاله على العباد وإحسانه إليهم حيث هيأ أسباب جريها.

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي صبار عن المعاصى شكور للنّعم.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) : أي علاهم وغطاهم من فوقهم.

(كَالظُّلَلِ) : أي كالجبال التي تظلل من تحتها.

(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) : أي بين الكفر والإيمان بمعنى معتدل في ذلك ما آمن ولا كفر.

(كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) : أي غدار كفور لنعم الله تعالى.

معنى الآيات

ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال الشرك والكفر قال تعالى (أَلَمْ تَرَ) (١) أي ألم تعلم أيها النبي أن الله ذا الألوهية على غيره (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) بإدخال جزء منه في النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بإدخال جزء منه في الليل وذلك بحسب الفصول السّنوية (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) (٢) يسبحان في فلكيهما لمنافع الناس إلى أجل مسمى أي إلى وقت محدد معين عنده سبحانه وتعالى وهو يوم القيامة ، وأن الله تعالى بما تعملون خبير ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم صالحها وفاسدها وسيجزيكم بها وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الإيلاج لليل في النهار والنهار في الليل وتسخير الشمس والقمر ، وعلم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق ، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل (٣) ، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير أي ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه إذ هو ربّ كل شيء ومالكه والقاهر له والمتحكم فيه لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّ الْفُلْكَ) أي السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) تعالى على خلقه حيث يسّر لها أسباب سيرها وجريها في البحر وهي تحمل السلع والبضائع

__________________

(١) (أَلَمْ تَرَ) : الاستفهام تقريري بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو إنكاري بالنسبة إلى غيره ينكر على أهل الغفلة غفلتهم وأهل الإعراض عن النظر إعراضهم إذ لو نظروا وفكروا لاهتدوا إلى توحيد الله وبعثه عباده للحساب والجزاء يوم القيامة.

(٢) قال القرطبي : ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للأجال ، وإتماما للمنافع والآية في تقرير التوحيد بذكر مظاهر علم الله وقدرته وحكمته.

(٣) جائز أن يكون المراد بالباطل الشيطان إذ هو الذي زين عبادة الأصنام والأوثان وأمرهم بها فلذا أطلق لفظ الباطل عليه.

والأقوات من إقليم إلى إقليم وهي نعم كثيرة. سخر ذلك لكم ليريكم (١) من آياته الدالة على ربوبيته وألوهيته وهي كثيرة تتجلى في كل جزء من هذا الكون. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي علامات ودلائل على قدرة الله ورحمته وحكمته وهي موجبات عبادته وتوحيده فيها ، وقوله (لِكُلِ (٢) صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لكل عبد صبور على الطاعات صبور عن المعاصي صبور عما تجرى به الأقدار شكور لنعم الله تعالى جليلها وصغيرها أما غير الصبور الشكور فإنه لا يجد فيها عبرة ولا عظة.

وقوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) (٣) أي إذا غشي المشركين موج وهم على ظهر السفينة فخافوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي دعوا الله وحده ولم يذكروا آلهتهم. فلما نجاهم بفضله (إِلَى الْبَرِّ) فلم يغرقوا (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) (٤) أي في إيمانه وكفره لا يغالي في كفره ولا يعلن عن إيمانه. وقوله (وَما يَجْحَدُ (٥) بِآياتِنا) القرآنية والكونية وهي مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لألوهيته (إِلَّا كُلُ (٦) خَتَّارٍ) أي غدار بالعهود (كَفُورٍ) للنعم لا خير فيه البتّة والعياذ بالله تعالى من أهل الغدر والكفر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير التوحيد وإبطال الشرك بذكر الأدلة المستفادة من مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته.

٢) فضيلة الصبر والشكر والجمع بينهما خير من افتراقهما.

٣) بيان أن المشركين أيام نزول القرآن كانوا يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء.

__________________

(١) من آياته من للتبعيض من بعض آياته ما يشاهدون به مظاهر قدرة الله ولطفه ورحمته. قال الحسن مفتاح البحار السفن ومفتاح الأرض الطرق ومفتاح السماء الدعاء.

(٢) صبار صيغة مبالغة كثر الصبر وشكور كذلك كثير الشكر قال بعضهم صبار لقضائه ، شكور على نعمائه وما في التفسير أعم وأشمل روى أن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر.

(٣) الظلل جمع ظلة وهو ما أظل من سحاب وجبال وغيرها.

(٤) فسر هذا اللفظ بعدة تفسيرات منها موف بما عاهد الله عليه في البحر قال الحسن مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة ، وقال مجاهد مقتصد في القول مضمر للكفر وقيل في الكلام حذف والمعنى فمنهم مقتصد ومنهم كافر ودل على المحذوف قوله : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور. وما في التفسير أشمل وأسلم

(٥) قال القرطبي جحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات إنكار دلائلها.

(٦) الختر الغدر وجحود الفضل وفعله ختر كضرب يختر قال عمرو بن معد يكرب :

فإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى

بالأبلق الفردي من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختار

٤) شر الناس الختار أي الغدار الكفور.

٥) ذم الختر وهو أسوأ الغدر وذم الكفر بالنعم الإلهية.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

شرح الكلمات

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي خافوا فآمنوا به واعبدوه وحده تنجوا من عذابه.

(وَاخْشَوْا يَوْماً) : أي خافوا يوم الحساب وما يجري فيه.

(لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) : أي لا يغني والد فيه عن ولده شيئا.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي وعد الله بالحساب والجزاء حق ثابت لا محالة هو كائن.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) : أي فلا تغتروا بالحياة الدنيا فإنها زائلة فأسلموا تسلموا.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) : أي الشيطان يغتنم حلم الله عليكم وإمهاله لكم فيجسركم على المعاصي ويسوفكم في التوبة.

(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : أي المطر.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) : أي من ذكر أو أنثى ولا يعلم ذلك سواه.

(ما ذا تَكْسِبُ غَداً) : أي من خير أو شر والله يعلمه.

معنى الآيتين الكريمتين

هذا نداء عام لكل البشر يدعوهم فيه ربهم تعالى ناصحا لهم بأن يتقوه بالإيمان به وبعبادته وحده لا شريك له وأن يخشوا يوما عظيما فيه من الأهوال والعظائم ما لا يقادر قدره بحيث لا يجزي فيه والد (١) عن ولده ولا مولود (٢) هو جاز عن والده شيئا إذ كل واحد لا يريد إلا نجاة نفسه فيقول نفسي نفسي وهذا لشدة الهول يوم لا يغني أحد عن أحد شيئا ولو كان أقرب قريب ، وهو يوم آت لا محالة حيث وعد الله به الناس ووعد الله حق والله لا يخلف الميعاد ، ويقول لهم بناء على ذلك (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بملاذها وزخارفها وطول العمر فيها ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) ذي الحلم والكرم (الْغَرُورُ) (٣) أي الشيطان من الإنس أو الجن يحملكم على تأخير التوبة ومزاولة أنواع المعاصي بتزيينها لكم وترغيبكم فيها فانتبهوا فإن الموت لا بد منه وقد يأتي فجأة فالتوبة التوبة يا عباد الله هذه نصيحة الرّب تبارك وتعالى لعباده فهل من مستجيب؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٣).

أما الآية الثانية (٣٤) فالله جل جلاله يخبر عباده بأنه استقل بعلم الساعة متى (٤) تأتي والقيامة متى تقوم وليس لأحد أن يعلم ذلك كائنا من كان وهذه حال تتطلب من العبد أن يعجل التوبة ولا يؤخرها ، كما استقل تعالى بعلم وقت نزول المطر في يوم أو ليلة أو ساعة من ليل أو نهار ، ويعلم ما في الأرحام أرحام الإناث من ذكر أو أنثى أو أبيض أو أحمر أو أسود ومن طول وقصر ومن إيمان أو كفر ولا يعلم ذلك سواه ويعلم ما يكسب كل إنسان في غده من خير أو شر أو غنى أو فقر ، ويعلم أين تموت كل نفس من بقاع الأرض وديارها ولا

__________________

(١) فإن قيل لقد ثبت بالسنة ما ظاهره خلاف هذا فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ، وقال من ابتلى بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجابا من النار فالجواب أن المراد بالآية أن الولد لا يحمل ذنب والده وأن الوالد لا يحمل ذنب ولده ، وأما موت الأولاد فأجر المصيبة مع الصبر والاحتساب هو الذي منع الوالد من دخول النار كما أن تربية البنات والإحسان إليهن جعل الله تعالى جزاءه النجاة من النار فليس في الحديث أن الولد يجزي عن والده ولا الوالد يجزي عن ولده.

(٢) ولا مولود : مبتدأ وهو ضمير فصل والخبر جاز مرفوع بضمة مقدرة على حرف العلة المحذوف للتخفيف ، وذكر الولد والوالد لأنهما أشد شفقة على بعضهما ورحمة وحميّة من غيرهما.

(٣) الغرور بالفتح (الفعول) من أمثلة المبالغة أي كثير التغرير بالإنسان وهو الشيطان عليه لعائن الرحمن والغرور الخداع بما ظاهره حسن وباطنه ضرر.

(٤) قال مقاتل هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ما ذا تلد؟ وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ ولقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ما ذا أعمل غدا؟ وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى الآية. روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عنده علم الساعة الخ الآية.

يعلم ذلك إلا الله ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مفاتح (١) الغيب خمسة وقرأ : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) «في الصحيح»

وقوله إن الله عليم أي بكل شيء وليس بهؤلاء الخمسة فقط خبير بكل شيء من دقيق أو جليل من ذوات وصفات وأحوال وببواطن الأمور كظواهرها وبهذا وجب أن يعبد وحده بما شرع من أنواع العبادات التي هي سلم النجاح ومرقى الكمال والإسعاد في الدارين

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) وجوب تقوى الله عزوجل بالإيمان به وتوحيده في عبادته.

٢) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣) التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا ، والتحذير من الشيطان أي من اتباعه والاغترار بما يزينه ويحسنه من المعاصي.

٤) بيان مفاتح (٢) الغيب الخمسة واختصاص الربّ تعالى بمعرفتها.

٥) كل مدع لمعرفة الغيب من الجن والإنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته.

٦) ما ادّعى اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في قوله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال هو كذا وذلك لوجود أشعة عاكسة أمّا المنفيّ عن كل حد إلا الله أن يقول المرء : إن في بطن امرأة فلان ذكرا أو أنثى ولا يقرب منها ولا يجرّ بها في ولادتها السابقة ، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأيّة محاولة.

__________________

(١) في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتح الغيب خمس ثم قرأ (إن الله عنده علم الساعة) الآية وفي رواية أبي هريرة (وخمس لا يعلمهن إلا الله وعلة تسميتها مفاتح الغيب أنها من أمور الناس المغيبة عنهم فإذا وقعت كان وقوعها كفتح مغلق بمفتاح فالإنسان قد يعرف متى يصلي متى يسافر متى يتزوج أما هذه الخمسة فلا علم له بها ابدا حتى يفتح الله بابها ويظهرها.

(٢) المفاتح جمع مفتح آلة الفتح والمعنى أن هذه الأمور الخمسة وهي متعلقة بالإنسان لا يظهرها إلى الوجود ولا يفتح مغلقها الغيبي إلا الله جل جلاله إذ بيده مفاتحها.

سورة السّجدة

مكية (١)

وآياتها ثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

شرح الكلمات

(الم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب الم ، ويقرأ ألف لام ميم

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك في أنه نزل من ربّ العالمين.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل أيقولون أي المشركون اختلقه وكذبه.

(قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) : أي من زمن بعيد وهم قريش والعرب.

(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) : أي بعد ضلالهم إلى الحق الذي هو دين الإسلام.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : أي استوى على عرشه يدير أمر خليقته.

__________________

(١) وتسمى سورة ألم السجدة ، وتنزيل السجدة وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بها الصبح يوم الجمعة يقرأ في الركعه الأولى بالفاتحة والسجدة والثانية بالفاتحة وسورة الإنسان كما ورد أنه كان يقرأها مع سورة الملك عند النوم وفي كل منهما ثلاثون آية.

(مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) : أي ليس لكم أيها المشركون من دون الله وليّ يتولاكم ولا شفيع يشفع لكم.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) : أي أفلا تتعظون بما تسمعون فتؤمنوا وتوحدوا.

معنى الآيات

قوله تعالى (الم) هذه الحروف المقطعة في فواتح عدة سور الأسلم أن لا تؤول ويكتفى فيها بقول الله أعلم بمراده بها. وقد اخترنا من أقاويل المفسرين أنها أفادت فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون من قريش في مكة يمنعون سماع القرآن مخافة أن يتأثر السامع به فيؤمن ويوحد فكانت هذه الحروف تستهويهم بنغمها الخاص فيستمعون فينجذبون ويؤمن من شاء الله إيمانه وهدايته والثانية بقرينة ذكر الكتاب بعدها غالبا : أن هذا القرآن الكريم قد تألف من مثل هذه الحروف الم ، طس ، حم ، ق فألفوا أيها المكذبون سورة من مثله وإلّا فاعلموا أنه تنزيل من الله ربّ العالمين فلما عجزوا قامت عليهم الحجة ولم يبق شك في أنه تنزيل الله وكتابه أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) (١) أي القرآن الكريم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك (٢) في أنه نزل من رب العالمين على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس بشعر ولا بسجع كهان ، ولا أساطير الأولين وقوله تعالى : (أَمْ (٣) يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقولون افتراه محمد واختلقه وأتى به من تلقاء نفسه اللهم لا إنه لم يفتره (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي جاءك من ربك وحيا أوحاه إليك ، (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ (٤) مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم مشركوا العرب لتنذرهم بأس الله وعذابه إن بقوا على شركهم وكفرهم ، وقوله (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم فينجوا ويكملوا ويسعدوا وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي من مخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من مثل أيام الدنيا أولها الأحد واخرها الجمعة ولذا كانت الجمعة من أفضل الأيام (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) عرشه (٥) سبحانه

__________________

(١) تنزيل مرفوع بالابتداء والخبر لا ريب فيه ، أو خبر على تقدير مبتدأ أي هذا تنزيل أو المتلو عليك تنزيل الكتاب ، ويكون لا ريب فيه محل نصب على الحال.

(٢) (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لما اشتمل من الإعجاز العلمي حيث عجز الإنس والجن على أن يأتوا بمثله وعجز فصحاء العرب على الإتيان بسورة مثل سوره. ولما عرف به صاحبه الذي نزل عليه وجاء به وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدق الكامل حيث لم يكذب قط وقد أخبر أنه تنزيل الله رب العالمين.

(٣) (أَمْ) هذه هي المنقطعة ولذا قدرت ببل والاستفهام في التفسير ، وصيغة المضارع (يَقُولُونَ) لاستحضار الحالة الماضية اثارة للتعجب في نفس السامع.

(٤) النذير المعلم المخوف بعواقب الشرك والمعاصي والفساد والشر ، والقوم الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر يكون كالقوام لهم من نسب أو وطن أو غرض تجمعوا من أجله والمراد بهم عامة العرب في كل ديارهم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا إذ فقدوا العلم الإلهي منذ قرون عدة.

(٥) سئل مالك رحمه‌الله تعالى عن الاستواء فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

وتعالى استوى استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته. الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما هو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسول وهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه ما للعرب ولا للبشرية كلها من إله غيره ، وليس لها من غيره من وليّ يتولاها بالنصر والإنجاء إن أراد الله خذلانها وإهلاكها ، وليس لها شفيع (١) يشفع لها عنده إذا أراد الانتقام منها لشركها وشرها وفسادها وقوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتعلموا أيها العرب المشركون أنه لا إله لكم إلا الله فتعبدوه وتوحدوه فتنجوا من عذابه وتكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله ووحيه أوحاه إلى رسوله.

٢) ابطال ما كان المشركون يقولون في القرآن بأنه شعر وسجع كهان وأساطير الأولين.

٣) بيان الحكمة من إنزال القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الإنذار.

٤) بيان الزمان الذي خلق الله فيه السموات والأرض وما بينهما.

٥) إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى.

٦) تقرير انه ما للبشرية من إله إلا الله وأنه ليس لها من دونه من وليّ ولا شفيع فما عليها إلا أن تؤمن بالله وتعبده فتكمل وتسعد على عبادته.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ

__________________

(١) في نفي الشفيع رد على قول بعضهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله على تقدير انهم يبعثون يوم القيامة إذ قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله أو في قضاء حوائجهم في الدنيا.

مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

شرح الكلمات :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) : أي أمر المخلوقات طوال الحياة.

(ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) : أي يوم القيامة حيث تنتهي هذه الحياة وسائر شؤونها.

(أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) : أي من أيام الدنيا.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي ما غاب عن الناس ولم يروه وما شاهدوه ورأوه.

(بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) : أي بدأ خلق آدم عليه‌السلام من طين.

(مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : أي خلق ذريّة آدم من علقة من ماء النطفة.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) : أي سوى الجنين في بطن أمه ونفخ فيه الروح فكان حيّا كما سوى آدم ايضا ونفخ فيه من روحه فكان حيا.

(وَالْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي ما تشكرون الله على نعمة الايجاد والامداد إلا شكرا قليلا لا يوازي قدر النعمة.

معنى الآيات

ما زال السياق في تقرير التوحيد والنّبوة والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة الإلهية ، فقوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمر المخلوقات (مِنَ السَّماءِ) حيث العرش وكتاب المقادير (إِلَى الْأَرْضِ) حيث تتم الحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع ، والغنى والفقر والحرب والسلم ، والعز والذل فالله تعالى من فوق عرشه يدبر أمر الخلائق كلها في عرالمها المختلفة ، وقوله ثم يعرج أي الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف (١) سنة مما يعد الناس اليوم من أيام هذه الدنيا. ومعنى (يَعْرُجُ إِلَيْهِ) في يوم

__________________

(١) ورد في سورة الحج قوله تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي هذه الآية (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي سورة المعارج (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وقد كثرت أقوال أهل التفسير في تحديد هذه الأيام حتى قال ابن عباس أيام سماها الله سبحانه وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم وأحسن ما يقال فيها أن اليوم الذي ذكر في سورة الحج هو عبارة عن الزمان وتقديره عند الله وأن يوم سورة المعارج هو يوم القيامة يوم الحساب وأن هذا اليوم هو آخر أيام الدنيا حيث ينتهي التدبير والتصرف لانقضاء الحياة الدنيا وهو ذكر تعالى.

القيامة أي يرد إليه حيث عم الكون الفناء ولم يبق ما يدبر في هذه الأرض لفنائها وفناء كل ما كان عليها. وقوله (ذلِكَ (١) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عن الناس وما حضر فشاهدوه أي العالم بكل شيء وقوله العزيز الرحيم : أي الغالب على مراده من خلقه الرحيم بالمؤمنين من عباده ، وقوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢) أي أحسن خلق كل مخلوق خلقه أي جوّد خلقه وأتقنه وحسنه. وقوله (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم من طين وهو الإنسان الأول ، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي نسل الإنسان من (سُلالَةٍ) وهي العلقة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣) وهو النطفة ، وقوله (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي سوّى آدم ونفخ فيه من روحه ، كما سوى الإنسان في رحم أمه أي سوى خلقه ثم نفخ فيه من روحه فكان إنسانا حيا ، وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي القلوب أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا لحاجتكم إلى ذلك لأن حياتكم تتطلب منكم مثل ذلك ومع هذه النعم الجليلة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٤) أي لا تشكرون إلّا شكرا قليلا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان جلال الله وعظمته في تدبيره أمر الخلائق.

٢) بيان صفات الله تعالى من العلم والعزة والرحمة.

٣) بيان كيفية خلق الإنسان ومادة خلقه.

٤) شكر العباد ـ إن شكروا ـ لا يوازي نعم الله تعالى عليهم.

٥) وجوب شكر النعم بالاعتراف بها وذكرها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

__________________

(١) ذلك اسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة أي ذلك الرب العظيم والإله الحكيم الذي خلق السموات والأرض وما بينهما المدبر للملكوت المتصرف في الموجودات هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم المستحق للعبادة والمحبة والخوف دون غيره من سائر المخلوقات.

(٢) قرأ نافع وحفص (خَلَقَهُ) بصيغة الماضي وقرأ بعض خلقه بإسكان اللام على أنه مصدر خلق يخلق خلقا وهو بدل اشتمال من كل شيء ومعنى أحسن أتقن وأحكم قال عكرمة : ليست أست القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة.

(٣) المهين الممتهن الذي لا يعبأ به.

(٤) وجائز أن يكون المراد عدم شكرهم مطلقا فهو كناية عن العدم توبيخا لهم وتأنيبا.

شرح الكلمات

(أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) : أي غبنا فيها حيث فنينا وصرنا ترابا.

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي أنعود خلقا جديدا بعد فنائنا واختلاطنا بالتراب.

(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) : أي لم يقف الأمر عند استبعادهم للبعث بل تعداه إلى كفرهم بلقاء ربهم ، وهو الذي جعلهم ينكرون البعث.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) : أي يقبض أرواحكم ملك الموت المكلف بقبض الأرواح.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) : أي بعد الموت ، وما دمتم لا تمنعون أنفسكم من الموت سوف لا تمنعونها من الحياة فرجوعكم حتمي لا محالة.

معنى الآيتين

ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة فأخبر تعالى عن منكري البعث فقال (وَقالُوا) (١) أي منكروا البعث الآخر (أَإِذا ضَلَلْنا فِي (٢) الْأَرْضِ) أي غبنا فيها بحيث صرنا ترابا فيها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي لعائدون في خلق جديد. وهذا منهم انكار للبعث واستبعاد له ، فقال تعالى مخبرا عن علة انكارهم للبعث وهي أنهم بلقاء (٣) ربهم كافرون إذ لو كانوا يؤمنون بلقاء الله الذي وعدهم به لما أنكروا البعث والحياة لذلك ، وقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين للبعث ولقاء الرب تعالى : يتوفاكم عند نهاية آجالكم (مَلَكُ الْمَوْتِ) (٤) الذي وكله ربّه بقبض أرواحكم ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) بعد ذلك وما دمتم لا تدفعون الموت عن أنفسكم فكيف تدفعون الحياة عند ما يريدها الله منكم؟ وهل دفعتموها عند ما كنتم عدما فأوجدكم الله وأحياكم.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

__________________

(١) الجملة استئناف لحكاية عقيدتهم في إنكار البعث والجزاء ليعلل لها بالعلة المناسبة ثم يقرر عقيدة البعث التي أنكروها وتعجبوا من حقيقتها بما هو لازم لها.

(٢) الاستفهام للتعجب والاستبعاد ، والضلال الدخول في الأرض والغياب فيها إذ كل ما غاب في شيء ولم يظهر له وجود يقال ضل فيه كما يضل الماء في اللبن والميت في القبر قال الحارث الغساني شعرا :

فآب مضلوه بعين جلية

وغودر وبالجولان حزم ونائل

(مضلوه أي مغيبوه)

(٣) بل هم بلقاء ربهم كافرون ، بل للإضراب عن كلامهم أي ليس إنكارهم البعث لاستبعاده واستحالته لوجود الأدلة الواضحة على إمكانه بل وجوبه وإنما الباعث لهم على التكذيب به هو كفرهم التقليدي.

(٤) لم يرد اسم ملك الموت في القرآن غير أن أهل السنة على أن اسمه عزرائيل بمعنى عبد الله.

٢) الذنب الذي هو سبب كل ذنب هو الكفر بلقاء الله تعالى

٣) بيان أن لقبض الأرواح ملكا وله أعوان من الملائكة وأن الأرض جعلت لملك الموت كالطست بين يديه يتناول منها ما يشاء.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(إِذِ الْمُجْرِمُونَ) : أي المشركون المكذبون بلقاء ربهم.

(ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) : أي مطأطئوها من الحياء والذل والخزي.

(رَبَّنا أَبْصَرْنا) : أي ما كنا ننكر من البعث.

(وَسَمِعْنا) : أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا.

(فَارْجِعْنا) : أي إلى دار الدنيا.

(لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) : أي لو أردنا هداية الناس قسرا بدون اختيار منهم لفعلنا.

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) : أي وجب وهو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.

(إِنَّا نَسِيناكُمْ) : أي تركناكم في العذاب.

(عَذابَ الْخُلْدِ) : أي العذاب الخالد الدائم.

(بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : من سيئات الكفر والتكذيب والشر والشرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها وما يجري للمكذبين

بها في الدار الآخرة قال تعالى : (وَلَوْ تَرى) (١) يا رسولنا (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله ، (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطئطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث. لرأيت أمرا فظيعا لا نظير له. وقوله تعالى (رَبَّنا أَبْصَرْنا (٢) وَسَمِعْنا) هذا قول المجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا. (فَارْجِعْنا) أي إلى دار الدنيا (نَعْمَلْ (٣) صالِحاً) أي عملا صالحا (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإله الحق ، وبأن لقاءك حق ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا (٤) لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا فأخبر تعالى انه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات ، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسرا منهم بدون اختيارهم ، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلا بد هم داخلوها وهو معنى قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أي الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من كفار ومجرمي الجن والإنس معا.

وقوله (فَذُوقُوا) أي العذاب والخزي (بِما نَسِيتُمْ) (٥) أي بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا إنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب. (وَذُوقُوا عَذابَ (٦) الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتا لهم وتقريعا زيادة في عذابهم ، والعياذ بالله من عذاب النار.

__________________

(١) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرفه وأمته تابعة له والمعنى ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب العجاب من ذلتهم وخزيهم وندامتهم.

(٢) هذا مقول قول محذوف بعد ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين ربنا الخ.

(٣) هذا كقولهم في آية : (أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).

(٤) هذه الجمل اعتراضية بين قوله أبصرنا وقوله فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا وقوله ولو شئنا لآتينا الخ. رد عليهم حيث طلبوا العودة إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا

(٥) النسيان يكون بمعناه الأصلي وهو عدم ورود الشيء بالخاطر النفسي ويكون بترك الشيء وعدم الالتفات إليه مع ذكره في النفس والآخر أولى بالآية.

(٦) قد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما لا حساسها به كإحساسها بذوق المطعوم قال الشاعر :

فذق هجرها إن كنت تزعم أنها

فساد ألا يا ربّما كذب الزعم

فاطلق الذوق على الهجر وهو غير مطعوم ولكنه محسوس بالنفس.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) التنديد بالإجرام والمجرمين وبيان حالهم يوم القيامة.

٢) بيان عدم نفع الإيمان عند معاينة العذاب.

٣) بيان حكم الله في امتلاء جهنم من كل من مجرمي الإنس والجن.

٤) تقرير حكم السببيّة فالأعمال سبب للجزاء خيرا كان أو شرا.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

شرح الكلمات :

(إِذا ذُكِّرُوا بِها) : أي وعظوا بما فيها من أمر ونهي ووعد ووعيد.

(خَرُّوا سُجَّداً) : أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على الأرض.

(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي نزهوه وقدسوه وهم ساجدون يقولون سبحان ربي الأعلى.

(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) : أي عن عبادة ربهم في كل آحايينهم بل يأتونها خاشعين متذللين.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) : أي تتباعد عن الفرش من أجل قيامهم للصلاة في جوف الليل.

(خَوْفاً وَطَمَعاً) : أي يسألونه النجاة من النار ، ودخول الجنة.

(ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تعالى لهم وادخر لهم عنده من النعيم الذي تقر به أعينهم أي تسر به وتفرح.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وهم المكذبون بآيات الله ولقائه ذكر جزاء المؤمنين وهم الذين آمنوا بآيات الله ولقائه ذكرهم بأجمل صفاتهم فقال : (إِنَّما يُؤْمِنُ (١) بِآياتِنَا) حق الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي قرئت عليهم وكانت من الأيات التي فيها السجدات (خَرُّوا سُجَّداً) (٢) أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على التراب ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوه وقدسوه اثناء سجودهم بقولهم سبحان ربي الأعلى ، والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله مطلقا بل يأتونها متذللين خاشعين.

وقوله (تَتَجافى (٣) جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) هذه بعض صفاتهم أيضا وهي أنهم يباعدون جنوبهم عن فرشهم في الليل لصلاة التهجد. وقوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي في حال صلاتهم وفي غيرها وهو دعاء تميّز بخوفهم من عذاب ربهم وطمعهم في رحمته فهم يسألون ربهم النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) هذا وصف آخر لهم وهو أنهم يتصدقون بفضول أموالهم زيادة على أداء الزكاة كتهجدهم بالليل زيادة على الصلوات الخمس.

وقوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ (٤) نَفْسٌ ما أُخْفِيَ (٥) لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) يخبر تعالى عن جزائهم عنده فيقول : فلا تعلم نفس ما خبّأ الله تعالى لهم من النعيم المقيم الذي تقر به أعينهم أي

__________________

(١) في الآيات تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يجده من إعراض المشركين المكذبين بالبعث والجزاء في الدار الآخرة والقائلين. أم يقولون افتراه فأعلمه إنما يؤمن من ذكرهم بصفاتهم ، والقصر اضافي والمراد من الآيات آيات القرآن الكريم.

(٢) الخرور الهوي من علو إلى أسفل والسجود وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.

(٣) الجملة حال من الموصول والتجافي التباعد والمتاركة ، والمضاجع جمع مضجع الفراش والجنب جمع جنب ، والمراد تباعدهم عن فرشهم لقيام الليل ، ومن صلى العشاء في جماعة والصبح في جماعة تناوله الوصف ، وشاهد التجافي قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول :

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشق معروف من الصبح ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

(٤) هذا كقول الرجل : هذا لا يعلمه إلا الله ، وقرة الأعين كناية عن السرور وعظيم الفرح.

(٥) قرأ الجمهور (ما أُخْفِيَ) بصيغة الماضي المجهول ، وقرأ غيرهم أخفي بالمضارع المعلوم

تسر وتفرح وقوله (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاهم بذلك النعيم بعملهم الخيري الإسلامي الذي كانوا في الدنيا يعملونه وقد ذكر بعضه في الآيات قبل كالصلاة والصدقات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) فضيلة التسبيح في الصلاة وهو سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود.

٢) ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله.

٣) فضيلة قيام الليل وهو المعروف بالتهجد (١) والدعاء خوفا وطمعا.

٤) بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات وهو انه تعالى [أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين (٢) رأت] الخ.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ

__________________

(١) روى الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ، قال لقد سألت عن عظيم وانه ليسر على من يسره الله عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير ، الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطايا كما يطفىء الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية.

(٢) في الصحيح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى. اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) : أي مصدقا بالله ورسوله ولقاء ربّه

(كَمَنْ كانَ فاسِقاً) : أي كافرا لا يستوون.

(جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) : النزل ما يعد للضيف من قرى.

(مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) : أي عذاب الدنيا من مصاب القحط والجدب والقتل والأسر.

(الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) : هو عذاب الآخرة في نار جهنم.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي يصيبهم بالمصائب في الدنيا رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) : لا أحد أظلم منه أبدا.

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) : أي من المشركين أي بتعذيبهم أشد أنواع العذاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَفَمَنْ (١) كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي كافرا ينفي تعالى إستواء الكافر مع المؤمن فلذا بعد الاستفهام الإنكاري أجاب بقوله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ) ثم بيّن تعالى جزاء الفريقين وبذلك تأكد بعد ما بينهما فقال (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربّا وإلها وبمحمد نبيّا ورسولا وبالإسلام شرعا ودينا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتنابهم الشرك والمحارم (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) (٢) أي ضيافة لهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا (فَمَأْواهُمُ (٣) النَّارُ) أي مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم لا يخرجون (كُلَّما أَرادُوا) أي هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية تدفعهم عن أبوابها ، (وَقِيلَ لَهُمْ) إذلالا لهم وإهانة (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء وقالوا (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

__________________

(١) الاستفهام انكاري وفيه معنى التعجب والمراد بالفاسق هنا الكافر لمقابله المؤمن وفسقه بترك عبادة ربه وعبادة الأوثان والأصنام.

(٢) النزل بضمتين مشتق من النزول وهو ما يعد للضيف النازل بك من قرى وهو الطعام والشراب والفراش.

(٣) المأوى مكان الإيواء أي الرجوع إليه والاستقرار فيه.

وقوله تعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء والقتل والأسر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو عذاب يوم القيامة (لَعَلَّهُمْ (١) يَرْجِعُونَ) يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش لعلهم يتوبون إلى الإيمان والتوحيد فينجوا من العذاب وينعموا في الجنة وفعلا قد تاب منهم كثيرون وقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ (٢) عَنْها) أي وعظ بها وخوّف كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها ويرجع وهو مستكبر والعياذ بالله فمثل هؤلاء لا أحد أشدّ منهم ظلما وقوله تعالى (إِنَّا مِنَ) (٣) (الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الاجرام وهم أهل الشرك والمعاصي ، وورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر ثلاثة أصناف من أهل الإجرام الخاص وهم :

١) من اعتقد «عقد» لواء في غير حق أي حمل راية الحرب على المسلمين وهو مبطل غير محق.

٢) من عق والديه أي آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما ولم يطعهما في معروف.

٣) من مشى مع ظالم ينصره رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان خطأ من يسوي بين المؤمن والكافر والبار والفاجر والمطيع والفاسق.

٢) بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين.

٣) بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشا بألوان (٤) من المصائب لعلهم يتوبون.

٤) بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبرا جاحدا معاندا.

__________________

(١) الجملة استئنافها بياني جوابا لمن قال لم يذيقهم العذاب الأدنى وهو عذاب الدنيا! دون العذاب الأكبر؟ فكان الجواب لعلهم يرجعون وهو تعليل للحكم السابق.

(٢) عطف الإعراض على التذكير بالآيات بثم للدلالة على التراخي بين زمن التذكير والإعراض كقول الشاعر :

لا يكشف الغماد إلا ابن حره

يرى غمرات الموت ثم يزورها

(٣) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فهو جواب لمن تساءل عن جزاء صاحبه الإعراض بعد التذكير بالآيات وهو قوله تعالى إنا من المجرمين منتقمون.

(٤) من ذلك سنوات الجدب التي أكلوا فيها العهن وأصبح أحدهم يرى السماء وكأنها دخان من شدة الجوع.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي أنزلنا عليه التوراة.

(فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) : أي فلا تشك في لقائك بموسى عليه‌السلام ليلة الإسراء والمعراج.

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي وجعلنا الكتاب «التوراة» هدى أي هاديا لبني اسرائيل.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) : أي وجعلنا من بني اسرائيل أئمة أي قادة هداة يهدون الناس بأمرنا لهم بذلك وإذننا به.

(وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) : أي وكان أولئك الهداة يوقنون بآيات ربهم وحججه على عباده وما تحمله الآيات من وعد ووعيد.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين والمشركين والموحدين.

(فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : من أمور الدين.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : أي أغفلوا ولم يتبيّن.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) : أي إهلاكنا لكثير من أهل القرون من قبلهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم لرسلهم.

(يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) : أي يمرون ماشين بديارهم وهي في طريقهم إلى الشام كمدائن صالح وبحيرة لوط ونحوهما.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي دلائل وعلامات على قدرة الله تعالى وأليم عقابه.

(أَفَلا يَسْمَعُونَ) : أي أصمّوا فلا يسمعوا هذه المواعظ والحجج.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى (١) الْكِتابَ) أي أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني اسرائيل الكتاب الكبير وهو التوراة. إذا فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة ، وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة وهي الوحي والنبوة المحمدية. وقوله (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) (٢) أي فلا تكن يا محمد في شك (٣) من لقائك موسى ليلة الإسراء والمعراج فقد لقيه وطلب إليه أن يراجع ربّه في شأن الصلاة فراجع حتى أصبحت خمسا بعد أن كانت خمسين وقوله (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي الكتاب أو موسى كلاهما كان هاديا لبني اسرائيل إلى سبيل السّلام والصراط المستقيم. وقوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة هداة يهدون الناس إلى ربهم فيؤمنون به ويعبدونه وحده فيكملون على ذلك ويسعدون وذلك بأمره تعالى لهم بذلك. وقوله (لَمَّا صَبَرُوا) أي عن أذى أقوامهم (٤) ، (وَكانُوا بِآياتِنا) الحاملة لأمرنا ونهينا ، ووعدنا ووعيدنا (يُوقِنُونَ) أي تأهلو لحمل رسالة الدعوة بشيئين : الصبر على الأذى واليقين التام بصحة ما يدعون إليه ونفعه ونجاعته وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ (٥) هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يخبر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم ، وبين الموحدين والمشركين والسّنيين والبدعيين فيحكم بإسعاد أهل الحق وإشقاء أهل الباطل وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له.

__________________

(١) هذا الإخبار استطراد المراد به تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفاء في قوله فلا تكن للتقريع.

(٢) وجائز أن يكون المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الاسراء والمعراج وقيل فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول وقيل فلا تكن في شك من أنه سيلقاك من الأذى والتكذيب ما لقيه موسى ، وما في التفسير هو الحق.

(٣) المرية : الشك والتردد والمقصود من النهي التثبيت كقوله (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ،) وليس النهي لطلب ترك الشك إذ لم يكن شك قط.

(٤) (لَمَّا صَبَرُوا) لما بمعنى حين صبروا عن أذى أقوامهم ، وقرأ خلاف الجمهور لما صبروا أي لأجل صبرهم جعلناهم أئمة ، فما مصدرية واللام قبلها لام التعليل.

(٥) هو ضمير فصل ومعنى يفصل يقضي ويحكم.

وقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي أعموا فلم (١) يبيّن لهم إهلاكنا لأمم كثيرة (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) (٢) مارّين بهم في أسفارهم إلى الشام كمدائن صالح ، وبلاد مدين ، وبحيرة لوط أنّا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب كما أهلكنا القرون من قبلهم. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججا وبراهين على قدرة الله وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله وقوله (أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٣) أي أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم فيتوبوا من الشرك والتكذيب فينجوا ويسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية وتأكيد قصة الإسراء والمعراج.

٢) الكتاب والسنة كلاهما هاد للعباد إن طلبوا الهداية فيهما.

٣) بيان ما تنال به الإمامة في الدين. وهو الصبر وصحة اليقين.

٤) كل خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة.

٥) في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

__________________

(١) هذا بناء على أن همزة الاستفهام داخلة على محذوف والاستفهام للإنكار عليهم عدم رؤيتهم مصارع الهالكين من قبلهم وهي واضحة بينه فضمن يهد معنى يبين فلذا عدي باللام ومثله (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) آية الأعراف.

(٢) جملة يمشون في محل نصب على الحال.

(٣) الاستفهام تقريري مشوب بالتوبيخ واختير لفظ يسمعون لأن أخبار الأمم الهالكة كانت شائعة مستفيضة بينهم فلم لا يسمعونها سماع اتعاظ واعتبار.

شرح الكلمات

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) : أي أغفلوا ولم يروا سوقنا للماء للإنبات والإخصاب فيدلهم ذلك على قدرتنا.

(إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) : أي اليابسة التي لا نبات فيها.

(تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) : أي مواشيهم من إبل وبقر وغنم.

(أَفَلا يُبْصِرُونَ) : أي أعموا فلا يبصرون أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على البعث.

(مَتى هذَا الْفَتْحُ) : أي الفصل والحكم بيننا وبينكم يستعجلون العذاب.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي ولا هم يمهلون للتوبة أو الاعتذار.

(وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) : أي وانتظر يا رسولنا ما سيحل بهم من عذاب إن لم يتوبوا فإنهم منتظرون بك موتا أو قتلا ليستريحوا منك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح الاجتماعي فيقول تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) (١) ماء الأمطار أو الأنهار (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) (٢) اليابسة التي ما بها من نبات فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم (وَأَنْفُسُهُمْ) فالأنعام تأكل الشعير والذرة وهم يأكلون البر والفول ونحوه (أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإحياء الأرض الجزر فيؤمنوا بالبعث الآخر وعليه يستقيموا في عقائدهم وكل سلوكهم. وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ (٣) إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين لما يخوفونهم بعذاب الله يقولون لهم متى هذا الفتح أي الحكم والفصل يستعجلونه لخفة أحلامهم وعدم إيمانهم.

__________________

(١) الرؤية هنا بصرية واختير المضارع نسوق لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ولطفه بعباده ورحمته بهم ، وسوق الماء هو بسوق السحاب ، والسوق هو إزجاء الماشي من ورائه.

(٢) الجرز وصف للأرض التي انقطع نبتها ، وهو مشتق من الجزر وهو انقطاع النبت والحشيش إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي ، والجرز القطع ولذا سمي السيف القاطع جرازا قال الشاعر يصف أسنان ناقته :

تنحّى على الشوك جرازا مقضبا

والهرم تدريه إذراء عجبا

(٣) الفتح : النصر والقضاء كانوا إذا قال لهم المؤمنون سيحكم الله بيننا وبينكم يوم القيامة فيثيب المؤمن ويعاقب الكافر يقولون لهم مستهزئين ساخرين متى هذا الفتح أو الحكم.

وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم. فقال (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ (١) لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) أي إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفسا كافرة إيمانها عند رؤية العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يؤخرون ويمهلون ليتوبوا ويستغفروا فيتاب عليهم ويغفر لهم إذ سنّة الله أنّ من عاين العذاب لا تقبل توبته. وقوله تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فأعرض يا رسولنا عن هؤلاء المكذبين (وَانْتَظِرْ) (٢) ما سينزل بهم من عذاب (إِنَّهُمْ (٣) مُنْتَظِرُونَ) ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل ليستريحوا منك في نظرهم. كما هم منتظرون أيضا عذاب الله عاجلا أو آجلا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها.

٢) استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم.

٣) بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار.

سورة الأحزاب

مدنية

وآياتها ثلاث وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

__________________

(١) هذا إجابة لهم ورد عليهم والفتح جائز أن يكون فتح مكة أو يوم بدر أو يوم القيامة إذ هو اليوم الذي يحكم الله تعالى فيه بين عباده.

(٢) الانتظار الترقب مشتق من النظر كأنه مضارع أنظره فانتظر وحذف مفعول «انتظر» للتهويل أي انتظر أياما يكون لك النصر فيها ، ويكون الخسران لأعدائك فيها ، وفي الأمر بالانتظار إيماء بالبشرى للمؤمنين والوعيد للكافرين.

(٣) جملة انهم منتظرون تعليل للأمر بالانتظار.

شرح الكلمات :

(اتَّقِ اللهَ) : أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) : أي المشركين فيما يقترحون عليك.

(وَالْمُنافِقِينَ) : أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) : أي عليما بخلقه ظاهرا وباطنا حكيما في تدبيره وصنعه

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) : أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت إلى ما يقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبال بشيء.

معنى الآيات :

لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض (١) دينه أو بطرد بعض أصحابه ، والمنافقون قاموا بدورهم في المدينة بتهديده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (٢) ناداه ربّه تعالى بعنوان النبوة تقريرا لها وتشريفا له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ (٣) الْكافِرِينَ (٤) وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين ، ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليما بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور

__________________

(١) هذا من قوله تعالى في سورة الاسراء (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

(٢) نداؤه تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان النبوة تشريف له وتقرير لنبوته وناداه بعنوان الرسالة في موضعين من كتابه وذلك في سورة المائدة. وأمره أن يخبر البشرية كلها بأنه رسول الله اليهم وحدث عنه فوصفه بالرسالة «محمد رسول الله» ولم يناده باسمه العلم لشهرته وعدم الحاجة إليه وحتى لا يدعي أحد انه هو المعني بهذا الاسم وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أسماء كما جاء ذلك في حديث الموطأ : لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب.

(٣) الطاعة : العمل بما يأمر به الغير أو يشير به لأجل تحقيق غرض له صالحا كان أو فاسدا.

(٤) سبب نزول هذه الآية أن وفدا جاء من مكة بعد غزوة أحد برئاسة أبي سفيان واجتمعوا بعد أن أمّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولهم المدينة بعدد من النافقين على رأسهم أبن أبي ومعتب بن قشير وطعمة بن أبيرق فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك ذكر آلهة قريش كخطوة فى المصالحة فغضب المسلمون وهمّ عمر بقتلهم فنزلت هذه الآية : ولا تطع الكافرين والمنافقين.

خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك ، ولا يمكن اعداءك وأعداءه منك بحال وقوله (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسلم نجاحك أنت وامتك تابعة لك في كل ذلك ، وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسنا وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءا وفي هذا الوعيد. وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذا أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين ، وأعلمه ضمنا أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافيا ووكيلا حافظا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه.

٢) حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون أو يهددون من أجله.

٣) وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

شرح الكلمات :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : أي لم يخلق الله رجلا بقلبين كما ادعى بعض المشركين.

(تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) : يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) : أي ولم يجعل الدعيّ إبنا لمن ادّعاه.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) : أي مجرد قول باللسان لا حقيقة له في الخارج فلم تكن المرأة أما ولا الدعي ابنا.

(هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) : أي أعدل.

(فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) : أي أخوة الإسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له : يا أخي أو ابن عمي.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) : أي لا حرج ولا اثم في الخطأ ، فمن قال للدعي خطأ يا ابن فلان فلا إثم عليه.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) : أي الاثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد.

معنى الآيات :

لما كان القلب محط العقل والإدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضا يؤدي إلى الفساد في حياة الإنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت الآية ردا عليه قال تعالى (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ (١) مِنْ قَلْبَيْنِ (٢) فِي جَوْفِهِ) وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة

__________________

(١) يروى أنه لما انهزمت قريش يوم بدر رأى أبو سفيان جميل بن معمر المدعى أن له قلبين رآه منهزما واحدى نعليه في رجله والأخرى في يده ، فسأله أبو سفيان ما حال الناس؟ قال انهزموا فقال له ما بال أحد نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟

قال : ما شعرت فانفضح في دعواه.

(٢) القلب بضعة لحم صغيرة على هيئة (صنوبرة) خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم ، وهو بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان ، وهو محل العلم ومحل الخطرات والوساوس ومحل الصدق واليقين ومحل الشك والكذب ، ومحل الانزعاج والطمأنينة فسبحان الله الخلاق العليم.

أعدائه ، وقوله ، (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر منها أما لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محرّما للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبيّن حكمه في سورة المجادلة ، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة : عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا.

وقوله تعالى (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ (١) أَبْناءَكُمْ) أي لم يجعل الله الدعيّ إبنا إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإسلام يطلقون على المتبنّي إبنا فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها ، وقوله (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعيّ أنت ولدي لم يصيّره ولده وقول الزوج لزوجته انت كأمي لم تكن أما له. وقوله تعالى (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم ، ولا على الدعي لفظ ابن ، (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي الأقوم والأرشد سبحانه لا إله إلا هو.

وقوله تعالى في الآية (٥) من هذا السياق (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان. فإن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فادعوهم باسم الإخوة الإسلامية فقولوا هذا أخي في الإسلام. (وَمَوالِيكُمْ) أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يابن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له مولاي (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم أو حرج (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (٢) من قول أحدكم للدعي يا ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد ، أو ظنا منكم أنه إبنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الاثم في التعمد والقصد المتعمد ، وقوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي غفورا لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع.

__________________

(١) هذه الآية نزلت في شأن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ تبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة النبوية ، إذ كان عبدا رقيقا لخديجة فأهدته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما جاء أبوه وعرفه طلبه فخيره رسول الله بين الذهاب مع والده والبقاء معه فاختار العبودية على الحرية فتبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح من يومئذ يعرف بزيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فأبطلت التبني ففي هذا نسخ للسنة بالكتاب.

(٢) أخذ عطاء وكثير من العلماء من السلف أخذوا من هذه الآية انه لا مؤاخذه مع الخطأ من ذلك إذا حلف المرء ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يظن أنه هو فإنه لا يحنث ، أو حلف أن لا يفارق غريمه حتى يقضيه دينه فأعطاه دراهم فوجدها زيوفا لا يحنث ، وروى البخاري من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ، كما روى «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية.

٢) ابطال عادة التبنّي ، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنّى.

٣) وجوب دعاء الدعي المتبنّى بأبيه إن عرف ولو كان حمارا.

٤) إن لم يعرف للمدعي أب دعي بعنوان الإخوة الإسلامية ، أو العمومة أو المولوية

٥) رفع الحرج والإثم في الخطأ عموما وفيما نزلت فيه الآية الكريمة خصوصا وهو دعاء الدعي باسم مدعيه سبق لسان بدون قصد ، أو بقصد لأنه يرى انه ابنه وهو ليس ابنه.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

شرح الكلمات :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضى الله عنهن.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) : أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) : بأن توصوا لهم وصيّة جائزة وهي الثلث فأقل.

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) : أي عدم التوارث بالإيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) : أي أذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته.

(وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ، وقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذكر تشريفا وتعظيما له.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) : أي شديدا والميثاق : العهد المؤكد باليمين.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) : أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا للكافرين بهم.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) : أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذابا أليما أي موجعا.

معنى الآيات :

لما أبطل الله تعالى عادة التبنّي وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وان أزواجه أمهاتهم (١) في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى أن (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ (٢) مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

__________________

(١) هذه الأمومة إنما هي في حرمة النكاح والبر والتعظيم والإجلال أما في الإرث فلا كما أنه لا تبيح النظر إليهن والخلوة بهن كالأمهات فلذا ضرب الله الحجاب عليهن وقال : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب.

(٢) صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصلي على ميت ترك دينا ولم يترك سدادا فلما فتح الله عليه ، قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى وعليه دين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته وقال أيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه ، فأكد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفعل والقول هذه الحقيقة.

أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم ، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلوّ الشأن ما لم يعط أحدا غيره جزاء له على صبره على ما أخذ منه من بنوّة زيد رضي الله عنه الذي كان يدعى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة.

وقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (١) يريد في الإرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإسلام وأصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير. وقوله (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة (٢) فيها ، وقوله (كانَ ذلِكَ) أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصيّة بالثلث لمن أبطل ارثهم بالإيمان والهجرة والمؤاخاة ، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطورا أي مكتوبا مسطرا فلا يحل تبديله ولا تغييره. وقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ (٣) مِيثاقَهُمْ) أي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أممهم إلى ذلك ، ومن أولى العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد ونوح (٤) وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أعيد اللفظ تكرارا لتقريره ، وليرتب عليه قوله (لِيَسْئَلَ) تعالى يوم القيامة (الصَّادِقِينَ) (٥) وهم الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) في تبليغ رسالتهم تقريعا لأممهم الذين كفروا وكذبوا. فأثاب المؤمنين (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا وهو عذاب النار

__________________

(١) (أَوْلى بِبَعْضٍ) متعلق (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أولو الأرحام بعضم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين وذلك في كتاب الله المتضمن لشرعه وهو القرآن والمتضمن لقضائه وقدره وهو اللوح المحفوظ فبطل التوارث بالإسلام والهجرة والمعاقدة والتحالف وثبت بالولاء والنسب والمصاهرة لا غير.

(٢) اختلف في الوصية للكافر من يهودي أو نصراني والراجح أنها إن كانت مودة له ومحبة فإنها لا تجوز إذ مودتهم محرمة وإن كانت لمعنى آخر كإحسان قدمه الكتابي للمسلم فرأى أن يكافئه عليه فأوصى له بشيء إذا مات فلا حرج.

(٣) قال القرطبي : أي عهدهم على الوفاء بما حملوا وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا وما في التفسير شامل لهذا ولغيره مما ذكر فيه.

(٤) خص هؤلاء بالذكر تعظيما لهم وتشريفا ولأنهم أصحاب شرائع وكتب وأولو العزم من الرسل.

(٥) جائز أن يراد بالصادقين الأنبياء عن تبليغهم ووفائهم بما عهد إليهم وهذا هو الأرجح وجائز أن يسأل الأنبياء عما أجابهم به أقوامهم من طاعة وإيمان أو كفر وعصيان ، والحقيقة أن كلا من الرسل والمرسل إليهم يسألهم تعالى ، فقد جاء في الأعراف قوله تعالى (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه.

٢) حرمة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهن أمهات المؤمنين وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالأب لهم.

٣) بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإسلام.

٤) جواز الوصيّة لغير الوارث بالثلث فأقل.

٥) وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك.

٦) تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

شرح الكلمات :

(اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي اذكروا نعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.

(جُنُودٌ) : أي جنود المشركين المتحزبين.

(رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) : هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.

(بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) : أي بصيرا بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) : أي بنو أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.

(وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : أي من غرب وهم قريش وكنانة.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) : أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) : أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١) : أي المختلفة من نصر وهزيمة ، ونجاة وهلاك.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) : أي ثم في الخندق وساحة المعركة أختبر المؤمنون.

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) : أي حركوا حراكا قويا من شدة الفزع.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) : أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غرورا وباطلا.

(يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) : أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.

(إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : أي غير حصينة.

(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) : أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) : أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.

(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) : أي ثم طلب إليهم الردة إلى الشرك لآتوها أي اعطوها وفعلوها.

(وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) : أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإجابة وارتدوا.

__________________

(١) قرأ الجمهور (الظُّنُونَا) جمع ظن بألف بعد النون زيدت هذه النون لرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل مثل الاسجاع. ومن القراء من أثبتها وقفا وحذفها وصلا والكل جائز ومثلها في هذه السورة (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) ، (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا).

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ (١) جُنُودٌ) الآيات هذه قصة غزوة (٢) الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالإنقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام دينا وشرعا (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدّة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألّبهم عليهم وحزّب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما ، ولما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرهم أمر (٣) بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة ، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربيّة علمها من ديار قومه فارس.

وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعا أي عشرين مترا ، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثنى عشر ألفا ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر. وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي : فقوله تعالى (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) لما (٤) جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في

__________________

(١) إذ ظرف للزمان الماضي متعلق (بنعمة) لما فيها من معنى الإنعام أي اذكروا ما أنعم الله به عليكم وقت مجيى جنود العدو إليكم لقتالكم فهزمهم الله جل جلاله بما شاء من وسائط.

(٢) اختلف في السنة التي كانت فيها غزوة الأحزاب فقال قوم كانت سنة خمس وقال آخرون كانت سنة أربع وكانت في شوال ، وسميت بغزوة الأحزاب لتحزب المشركين على قتال الرسول والمؤمنين فصاروا حزبا واحدا.

(٣) روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلده بطنه وكان كثير الشعر فرأيته يرتجز بكلمات ابن رواحه ويقول :

اللهم لو لا أنت ما اهدتينا

ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

(٤) هي جنود الملائكة الذين كانوا يلقون الرعب في قلوب المشركين حتى تخاذلوا وقرروا العودة إلى بلادهم.

سفح سلع أرسلنا عليهم ريحا وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا (١) وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربيّة. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم نارا إلا أطفأتها ولا قدرا على الأثافي إلا أراقته ، ولا خيمة ولا فسطاطا إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيىء بالإساءة.

وقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ) أي المشركون (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة ، وقوله (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم (٢). وقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب ، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّا.

وقوله تعالى (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان والزمان الذي حدّق العدو بكم (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي أزعجوا وحرّكوا حراكا شديدا لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده ، وضعف المؤمنين وقلة عددهم ، وعامل المجاعة والحصار ، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب وقوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ (٣) الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي النفاق لضعف إيمانهم

__________________

(١) قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي لنصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت الشمال ان محوة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وهي الريح الشرقية ، (محوة) من أسماء ريح الشمال لأنها تمحو السحاب.

(٢) وقيل هذا من باب المبالغة على إضمار كادت أي ارتفعت من أماكنها لشدة الخوف حتى كادت تبلغ الحناجر جمع حنجرة ، قال الشاعر :

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

أي كادت تقطر ، والحنجرة والحنجور حرف الحلق أي طرفه.

(٣) من بين القائلين طعمة بن ابيرق ومعتب بن قشير وجماعة قالوا يوم الخندق كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز.

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أي من النصر (إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا : وذلك أنهم لما كانوا يحفرون في الخندق استعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربها بالمعول ضربة تصدعت لها وبرق منها بريق أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق. فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإيمان (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) إذ قال معتب (١) بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقا وخوفا ما هذا إلا وعد غرورا!!

وقوله (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) (٢) أي من المنافقين. وهو أويس بن قيظى أحد رؤساء المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) (٣) أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الإسم لها ويسميها بالمدينة (لا مُقامَ (٤) لَكُمْ) أي في سفح سلع عند الخندق (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هنا دون قتال ، وما قال ذلك إلا فرارا من القتال وهروبا من المواجهة ، وقوله تعالى (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي يطلبون الإذن لهم بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها

__________________

(١) تقدم انه من رواية النسائي «النهر».

(٢) لفظ الطائفة يطلق على الواحد فأكثر والمعني أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي يقول فيه لشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(٣) يثرب هي المدينة وسماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طيبة وطابه قال السهيلي سمى العرب في الجاهلية المدينة يثرب ، لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن قهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن ارم.

(٤) قرأ نافع والجمهور لا مقام بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام ، وقرأ حفص بضم الميم (مُقامَ) وهو اسم لمحل الإقامة.

وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو ، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلا. (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب (١) (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي ثم طلب منهم العدو الغازي الذي دخل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك (لَآتَوْها) أعطوها فورا (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) حتى يرتدوا عن الإسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.

٢) عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقا لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.

٣) بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألما وتعبا على المسلمين.

٤) بيان أن حسن الظن بالله ممدوح ، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.

٥) بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درسا للمؤمنين.

٦) تقرير النبوة المحمدية بإخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ

__________________

(١) ثم العطف بها هنا للترتيب الرتبي ، إذ كان مقتضى الظاهر أن يكون العطف بالواو ، لأن المذكور بعد حرف العطف داخل في فعل الشرط ووارد عليه جوابها فعدل عن الواو إلى ثم لأجل التنبيه على أن ما بعد ثم أهم من الذي قبلها أي انهم مع ذلك يأتون الفتنة.

لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل غزوة الخندق وذلك يوم أحد قالوا : والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) : أي صاحب العهد عن الوفاء به.

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا وتموتون.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) : أي من يجيركم ويحفظكم من الله.

(إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) : أي عذابا تستاءون له وتكربون.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) : أي المثبطين عن القتال المفشلين إخوانهم عنه حتى لا يقاتلوا مع رسول الله والمؤمنين.

(هَلُمَّ إِلَيْنا) : أي تعالوا إلينا ولا تخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي ولا يشهدون القتال إلا قليلا دفعا عن أنفسهم تهمة النفاق.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) : أي بخلاء لا ينفقون على مشاريعكم الخيرية كنفقة الجهاد وعلى الفقراء.

(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) : أي تدور أعينهم من شدة الخوف لجبنهم كالمحتضر الذي يغشى عليه أي يغمى عليه من آلام سكرات الموت.

(سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) : أي آذوكم بألسنة ذربة حادة كأنها الحديد وذلك بكثرة

كلامهم وتبجحهم بالأقوال دون الأفعال.

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) : أي بخلاء بالخير لا يعطونه ولا يفعلونه بل ولا يقولونه حتى القول.

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) : أي إنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح فلذا هم جبناء عند اللقاء بخلاء عند العطاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحداث عزوة الأحزاب فقوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا (١) اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد عاهد أولئك المنافقون الله من قبل غزوة الأحزاب وذلك يوم فروا من غزوة أحد إذ كانت قبل غزوة الأحزاب بقرابة السّنتين فقالوا والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نوليّ (٢) الأدبار ، فذكرهم الله بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم ثم نكثوه ، (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (٣) أي يسأل عنه صاحبه ويؤاخذ به. وقوله تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهم يا رسولنا إنه لن ينفعكم الفرار أي الهروب من الموت أو القتل لأن الآجال محددة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره فلا معنى للفرار من القتال إذا وجب وقوله (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا من الزمن ثم تموتون عند نهاية أعماركم وهي فترة قليلة ، فالفرار لا يطيل أعماركم والقتال لا ينقصها ، وقوله تعالى (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ (٤) رَحْمَةً) أي قل لهم يا رسولنا تبكيتا لهم وتأنيبا وتعليما أيضا : من (٥) ذا الذي يعصمكم أي يجيركم ويحفظكم من الله (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي ما يسوءكم من بلاء وقتل ونحوه (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي سلامة وخيرا فليس هناك من يحول دون وصول ذلك إليكم لأن الله تعالى يجير ولا يجار عليه وقوله تعالى (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ

__________________

(١) ذكر بعضهم أن هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة إذ هموا بالرجوع يوم أحد ، وقيل هم من فاتتهم وقعة بدر فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن وما في التفسير أرجح لدلالة السياق عليه.

(٢) المراد بعهد الله كل عهد يعاهد عليه العبد ربه فإنه يجب عليه الوفاء به وان تركه سئل عنه وحوسب به يوم القيامة.

(٣) (الْأَدْبارَ) جمع دبر والمراد به الظهر فالادبار الظهور وتولية الادبار كناية عن الفرار.

(٤) في الكلام محذوف تقديره أو بجرمكم أن اراد بكم رحمة وهذا يعرف بدلالة الاقتضاء إيجازا للكلام كقول الراعي :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزججن الحواجب والعيونا

أي وكحلن العيون.

(٥) الاستفهام للنفي أي لا أحد يعصمهم مما أراد الله تعالى بهم.

دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١) أي ولا يجد المخالفون لأمر الله العصاة له ولرسوله من دون الله وليا يتولاهم فيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء ، ولا نصيرا ينصرهم إذا أراد الله إذلالهم وخذلانهم لسوء أفعالهم ، وقوله تعالى في الآية (١٨) في هذا السياق (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ (٢) الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أخبرهم تعالى بأنه قد علم المعوقين أي المثبطين عن القتال والمخذلين بما يقولونه سرّا في صفوف المؤمنين كالطابور الخامس في الحروب وهم أناس يذكرون في الخفاء عظمة العدو وقوته يرهبون منه ويخذلون عن قتاله. وقوله (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي تعالوا إلينا إلى المدينة واتركوا محمدا وأصحابه يموتون وحدهم فإنهم لا يزيدون عن أكلة جزور. وقوله (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ولا يشهد القتال ويحضره أولئك المنافقون المثبطون والذين قالوا إن بيوتنا عورة إلا قليلا إذ يتخلفون في أكثر الغزوات وإن حضروا مرة قتالا فإنما هم يدفعون به معرة التخلف ودفعا لتهمة النفاق التي لصقت بهم.

وقوله تعالى (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) (٣) وصفهم بالبخل بعد وصفهم بالجبن وهما شر صفات المرء أي الجبن والبخل أشحة عليكم أي بخلاء لا ينفقون معكم لا على الجهاد ولا على الفقراء والمحتاجين وقوله تعالى (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) (٤) أي بسبب هجوم العدو (رَأَيْتَهُمْ) أيها الرسول (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) لائذين بك (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) من الخوف (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو المحتضر يغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت وهذا تصوير هائل لمدى ما عليه المنافقون من الجبن والخوف وعلة هذا هو الكفر وعدم الإيمان بالقدر والبعث والجزاء

وقوله (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) أي راحت أسبابه بانتهاء الحرب (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ) أي سلقكم أولئك الجبناء عند اللقاء أي ضربوكم بألسنة ذربة حادة كالحديد بالمطالبة بالغنيمة أو بالتبجح الكاذب بأنهم فعلوا وفعلوا. وهذا حالهم إلى اليوم

__________________

(١) المراد بالولي من يتولى نفعهم والنصير من يتولى نصرهم في الحرب.

(٢) قد تفيد التحقيق فهي مؤكدة لمضمون الجملة لتطلب المقام ذلك لوجود شك لدى المخاطبين ، والمعوقين جمع معوق وهو من يكثر منه العوق وهو المنع من العمل والحيلولة دونه والصيغة صيغة مبالغة نحو طوّف وغلّف وسمّع.

(٣) (أَشِحَّةً) جمع شحيح والقياس أشحاء لكنهم عدلوا عنه فقالوا أشحة والضمير في عليكم يعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، والشح البخل بما في الوسع اعطاؤه.

(٤) (الْخَوْفُ) هنا توقع القتال من الجيشين.

وقوله (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي بخلاء على مشاريع الخير وما ينفق في سبيل الله فلا ينفقون لأنهم لا يؤمنون بالخلف ولا بالثواب والأجر وذلك لكفرهم بالله ولقائه. ولذا قال تعالى (أُولئِكَ لَمْ (١) يُؤْمِنُوا) فسجل عليهم وصف الكفر ورتب عليه نتائجه فقال (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها فلا يثابون عليها لأنها أعمال مشرك وأعمال المشرك باطلة ، وقوله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي إبطال أعمالهم وتخييبهم فيها وحرمانهم من جزائها يسير على الله ليس بالعسير. ولذا هو واقع كما أخبر تعالى

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب الوفاء بالعهد إذ نقض العهد من علامات النفاق.

٢) ترك الجهاد خوفا من القتل عمل غير صالح إذ القتال لا ينقص العمر وتركه لا يزيد فيه.

٣) الشح والجبن من صفات المنافقين وهما شر الصفات في الإنسان.

٤) الثرثرة وكثرة الكلام والتبجح بالأقوال من صفات أهل الجبن والنفاق.

٥) الكفر محبط للأعمال.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

__________________

(١) (أُولئِكَ) أصحاب تلك الصفات الذميمة الصادرة عن قلوب لم يخالطها بشاشة الإيمان فلذا أحبط الله أعمالهم لأنها لم تكن ثمرة إيمان صحيح فلذا هي فاسدة لا تزكي النفس ولا يستحق صاحبها أجرا.

قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥))

شرح الكلمات :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) : أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان.

(لَمْ يَذْهَبُوا) : أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) : أي مرة أخرى فرضا

(يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) : أي من جبنهم وخوفهم يتمنّون أن لو كانوا في البادية مع سكانها.

(يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) : أي إذا كانوا في البداية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل انهزمتم أو انتصرتم.

(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) : أي ولو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلا.

(أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أي قدوة صالحة تقتدون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال والثبات في مواطنه.

(هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) : من الابتلاء والنصر.

(وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) : في الوعد الذي وعد به.

(وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) : أي تصديقا بوعد الله وتسليما لأمر الله.

(صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) : أي وفوا بوعدهم.

(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) : أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) : أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر

القتل في سبيل الله.

(وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) : أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) : أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين.

(وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) : أي بالريح والملائكة

معنى الآيات :

ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمدا في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي مرة أخرى على فرض وتقدير (يَوَدُّوا) يومئذ (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ (١) فِي الْأَعْرابِ) أي خارج المدينة مع الأعراب في البادية لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة ، وقوله تعالى (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) (٢) أي أخباركم هل ظفر بكم الأحزاب أو لا ، (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي بينكم ولم يكونوا في البادية (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٠) وقوله تعالى في الآية الثانية (٢١) (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي (٣) رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا (٤) اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي : لقد كان لكم أيها المسلمون أي : من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته ، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شجّ وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة

__________________

(١) قرىء لو أنهم بدّى جمع باد كغاز وغزّى ، يقال بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية وهي البداوة والبداوة بالكسر والفتح.

(٢) أي هل هلك محمد وأصحابه ، أم غلب أبو سفيان وأحزابه؟ أي يودون لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة قتال لفرط جبنهم.

(٣) هذه الآية تحمل عتابا شديدا للمتخلفين عن القتال والأسوة بضم الهمزة قراءة عاصم وبالكسر قراءة الجمهور وهي اسم لما يؤتسى به أي يقتدى به : ويعمل مثل عمله وجمع الأسوة أسى وإسى.

(٤) اختلف في الاتساء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو على الايجاب أو الندب أو هو على الايجاب. حتى يقوم دليل الاستجاب أو هو على العكس ، والصواب أنه فيما هو واجب واجب وفيما هو مستحب مستحب.

وشقاء ، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم. وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم ، فاقتدوا بنبيكم فإن الاقتداء به واجب لا يسقط إلّا عن عجز والله المستعان. وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق (٢٢) (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاحطت بهم (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ (١) وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) وقوله (وَما زادَهُمْ) أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم (إِلَّا إِيماناً) بصادق وعد الله (وَتَسْلِيماً) لقضائه وحكمه ، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عزوجل.

وقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله ، وقوله تعالى (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢) أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ (٣) اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير ، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم ، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) ذلك لهم قضاء وقدرا أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا ، وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم.

__________________

(١) المراد من الوعد الذي ذكروه هو ما تضمنته آية البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية أي قوله إلا إن نصر الله قريب كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبرهم بقدوم الأحزاب عليهم وأن الله ناصرهم عليهم.

(٢) في هذه الجملة تعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولون الأدبار ثم ولوا راجعين وعادوا إلى بيوتهم تاركين الرسول والمؤمنين في المواجهة.

(٣) الجملة تعليلية أي ثم الذي تم من الوفاء والغدر والصبر والجزع والهزيمة والنصر لعله أن يجزي الله الصادقين بما يناسب صدقهم وهو المغفرة ويجزي المنافقين بما يناسب نفاقهم.

وقوله تعالى في آخر هذا السياق (٢٥) (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وهم قريش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم أي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئا مما أمّلوا تحقيقه ، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيرا. وكان الله قويا على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزا أي غالبا على أمره لا يمتنع منه شيء أراده.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.

٢) وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه.

٣) ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم.

٤) ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإيمان.

٥) بيان الحكمة في غزوة الأحزاب ، ليجزي الصادقين ..... الخ.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

شرح الكلمات :

(ظاهَرُوهُمْ) : أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم.

(مِنْ صَياصِيهِمْ) : أي من حصونهم والصياصي جمع صيصيّة وهي كل ما يمتنع به

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا

(وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) : أي لم تطأوها بعد وهي خيبر إذ فتحت بعد غزوة الخندق.

__________________

(١) روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) قالت : أبو سفيان بن حرب وعيينه بن بدر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ (١) مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب وعاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عونا لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي إلى بني قريظة فلا يصليّن أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر مناديا ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله أتنزلون على حكمي فأبوا فقال أتنزلون على حكم سعد بن معاذ (٢)؟ فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقررا للحكم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات. فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقا ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزّب الأحزاب وكعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق.

وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبويّة. والحمد لله.

فقوله تعالى (وَأَنْزَلَ) أي الله تعالى بقدرته (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عونا لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) (٣) أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها ، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ولذا

__________________

(١) المظاهرون بفتح الهاء هم قريش وكنانة وغطفان والمظاهرون لهم هم بنو قريظة من أهل الكتاب.

(٢) كان سعد رضي الله عنه قد اصابه سهم في غزوة الخندق فوضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خيمة بالمسجد ليتمكن من زيارته وكان رضي الله عنه لما أصابه السهم دعا الله تعالى : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها وإن كنت أنهيت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله تعالى له وحكمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فحكم عليهم بأن تقتل مقاتليهم وتسبى نساؤهم وذراريهم.

(٣) الصياصي واحدها صيصة ، والمراد حصونهم التي يتمنعون بها. قال الشاعر :

فجئت إليه والرماح تنوشه

كوقع الصياصي في النسيج الممدد

والصيصة : شوكة الحائك وصياصي البقر قرونها لأنها تتمنع بها.

قبلوا التحكيم فحكّم فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي النساء والذراري وهو معنى قوله تعالى (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والأطفال ، وقوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) الزراعية (وَدِيارَهُمْ) السكنيّة (وَأَمْوالَهُمْ) الصامتة والناطقة وقوله (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي أورثكم أرضا لم تطئوها بعد وهي أرض خيبر (١) حيث غزاهم رسول الله في السنة السادسة بعد صلح الحديبية وفتحها الله عليهم وقوله (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) تذييل المراد به تقرير ما أخبر تعالى به (٢) من نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان عاقبة الغدر فإن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلّا الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.

٢) بيان صادق وعد الله إذ أورث المسلمين أرضا لم يكونوا قد وطئوها وهي خيبر والشام والعراق وفارس وبلاد أخرى كبيرة وكثيرة.

٣) تقرير أن قدرة الله لا تحد أبدا فهو تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)

__________________

(١) وقال مقاتل هي خيبر إذ لم يكونوا قد نالوها بعد فوعدهم الله إياها وقال الحسن فارس والروم ، وقال عكرمة كل أرض تفتح إلى يوم القيامة والكل صالح ومقبول ، وما في التفسير أقرب لأنها أرض اليهود فالسياق ساعد على انها أرض خيبر ، وقال صاحب التحرير انها أرض بني النضير لأنهم ما فتحوها عنوة فلم تطأها حوافر الخيل ولا أقدام الأبطال.

(٢) وفيه الايحاء ببشرى فتوحات تعقب هذا الفتح.

يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

شرح الكلمات :

(قُلْ لِأَزْواجِكَ) : أي اللائي هن تحته يومئذ وهن تسع طلبن منه التوسعة في النفقة عليهن ولم يكن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوسع به عليهن.

(فَتَعالَيْنَ) : أي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يومئذ قد اعتزلهن شهرا.

(أُمَتِّعْكُنَ) : أي متعة الطلاق المشروعة على قدر حال المطلق سعة وضيقا.

(أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) : أي اطلقكن طلاقا من غير إضرار بكن.

(تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) : أي تردن رضا الله ورسوله والجنة.

(فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ) : أي عشرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على الإحسان العام.

(بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : أي بنشوز وسوء خلق يتأذى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) : أي مرّتين على عذاب غيرهن ممن آذين أزواجهن.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) : أي مضاعفة العذاب يسيرة هيّنة على الله تعالى.

معنى الآيات :

شاء الله تعالى أن يجتمع نساء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأين نساء الأنصار والمهاجرين قد وسّع عليهن في النفقة لوجود يسر وسعة رزق بين أهل المدينة ، أن يطالبن بالتوسعة في النفقة عليهن أسوة بغيرهن وكن يومئذ تسعا وهن عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أميّة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضريّة فأبلغت عائشة ذلك رسول الله صلى

الله عليه وسلم فتأثر لذلك ، لعدم القدرة على ما طلب منه وقعد في مشربة له واعتزلهن شهرا كاملا حتى أنزل الله تعالى آية التخيير وهي هذه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ (١) الدُّنْيا وَزِينَتَها) من لذيذ الطعام والشراب وجميل الثياب وحلي الزينة ووافر ذلك كله فتعالين إلى مقام الرسول الرفيع (أُمَتِّعْكُنَ) المتعة المشروعة في الطلاق (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي أطلقكن (٢) (سَراحاً جَمِيلاً) أي لا إضرار معه ، (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي رضاهما (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي الجنة (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ) أي هيأ وأحضر (لِلْمُحْسِناتِ) طاعة الله ورسوله (مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) وهو المقامات العالية في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار السّلام.

وخيّرهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتثالا لأمر الله في قوله (قُلْ لِأَزْواجِكَ) وبدأ بعائشة (٣) فقال لها : إني أريد أن أذكر لك أمرا فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك أي تطلبين أمرهما في ذلك وقرأ عليها الآية فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، وتتابعن على ذلك فما اختارت منهنّ امرأة غير الله ورسوله والدار الآخرة فأكرمهن الله لذلك وأنزل على رسوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)

وقوله تعالى (يا نِساءَ (٤) النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي بخصلة قبيحة ظاهرة كسوء عشرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله تعالى (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) يوم القيامة لأنّ أذيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبواب الكفر والعياذ بالله تعالى. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي وكان تضعيف العذاب على من أتت بفاحشة (٥) مبيّنة شيئا يسيرا على الله لا يعجزه حتى لا يفعله وهذا لأمرين الأول لأن أذيّة الرسول من أبواب الكفر والثاني لعلو مقامهن وشرفهن فإن ذا الشرف والمنزلة العالية يستقبح منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره.

__________________

(١) عامة أهل السنة والجماعة على أن الرجل إذا خير زوجته فاختارت الطلاق كان طلاقا أما إذا خيرها فاختارت عدم الطلاق فليس عليها شيء ولا يقع طلاق ما دامت لم تختره واختارت عدمه وهو البقاء.

(٢) معنى ارادة الحياة الدنيا ايثارك ما في الحياة الدنيا من متع وترف على الاشتغال بالطاعات والزهد في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الساحرة الخلابة.

(٣) نص الحديث : يا عائشة اني أريد أن اعرض عليك امرا أحبّ ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلى عليها الآية. قالت أفيك يا رسول الله استشير ابويّ! بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة.

(٤) ناداهن الله تعالى بعنوان نساء النبي اعلان عن شرفهن وكمالهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.

(٥) إذا اطلق لفظ الفاحشة معرفا بأل فهو الزنى ، وإذا ورد نكره فهو المعصية كما في هذه الآية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية تخيير الزوجات فإن اخترن الطلاق تطلّقن وإن لم يخترنه فلا يقع الطلاق.

٢) كمال أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الدنيا وزينتها.

٣) مشروعية المتعة بعد الطلاق وهي أن تعطى المرأة شيئا من المال بحسب غنى المطلّق وفقره لقوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)

٤) وجوب الإحسان العام والخاص ، الخاص بالزوج والزوجة والعام في طاعة الله ورسوله.

٥) بيان أن سيئة العالم الشريف أسوأ من سيئة الجاهل الوضيع. ولذا قالوا حسنات الأبرار سيّئات المقربين كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار.

الجزء الثاني والعشرون

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : أي ومن يطع منكن الله ورسوله.

(نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) : أي نضاعف لها أجر عملها الصالح حتى يكون ضعف عمل امرأة أخرى من غير نساء النبي.

(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) : أي في الجنة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) : أي لستن في الفضل كجماعات النساء.

(إِنِ اتَّقَيْتُنَ) : بل أنتن أشرف وأفضل بشرط تقواكنّ لله.

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) : أي نظرا لشرفكن فلا ترققن العبارة.

(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) : أي مرض النفاق أو مرض الشهوة.

(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) : أي جرت العادة أن يقال بصوت خشن لا رقة فيه.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) : أي أقررن في بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة.

(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) : أي ولا تتزين وتخرجن متبخترات متغنجات كفعل نساء الجاهلية الأولى قبل الاسلام.

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) : أي إنما أمركنّ بما امركن به من العفة والحجاب ولزوم البيوت ليطهركن من الأدناس والرذائل.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) : أي الكتاب والسنة لتشكرن الله على ذلك بطاعته وطاعة رسوله.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع أزواج النبي أمهات المؤمنين فبعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الحياة الدنيا وزينتها أصبحن ذوات رفعة وشأن عند الله تعالى ، وعند رسوله والمؤمنين. فأخبرهن الرب تبارك وتعالى بقوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي تطع الله بفعل الأوامر وترك النواهى وتطع رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تعص له أمرا ولا تسىء إليه فى عشرة ، وتعمل صالحا من النوافل والخيرات نؤتها أجرها مرتين أي نضاعف لها أجر عملها فيكون ضعف أجر عاملة أخرى من النساء غير أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : (١) (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي في الجنة فهذه بشارة بالجنة لنساء النبي أمهات المؤمنين التسع اللاتى نزلت هذه الآيات في شأنهن.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣١) وقوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِ (٢) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) (٣) أي يا زوجات النبي أمهات المؤمنين إنكن لستن كجماعات النساء إن شرفكن أعظم ومقامكن أسمى وكيف وانتن أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين فاعرفن قدركن بزيادة الطاعة لله ولرسوله ، وقوله إن اتقيتن أي إن هذا الشرف حصل لكن بتقواكن لله فلازمن التقوى إنكن بدون تقوى لا شيء يذكر شأنكن شأن سائر النساء. وبناء عليه (فَلا تَخْضَعْنَ (٤) بِالْقَوْلِ) أي لا تليّن الكلمات وترققن الصوت إذا تكلمتن مع الأجانب من الرجال. وقوله تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي

__________________

(١) التاء في (أَعْتَدْنا) بدل عن أحد الدالين من أعد لقرب مخرجيها وقصد التخفيف.

(٢) أعيد خطابهن من قبل الله تعالى كما أعيد نداؤهن تشريفا لهن وإظهارا للاهتمام بالخبر. وأحد بمعنى واحد قلبت همزته واوا.

(٣) هذا الشرط معتبر في التقوى ، إذ بين لهن أن هذا الشرف وهذه البشرى بالجنة إنما كانت بشرط التقوى والتقوى اجتناب وامتثال.

(٤) قال ابن عباس : المرأة تندب إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في القول من غير رفع صوت فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام.

قَلْبِهِ مَرَضٌ) نفاق أو ضعف إيمان مع شهوة عارمة تجعله يتلذذ بالخطاب وقوله : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو ما يؤدي المعنى المطلوب بدون زيادة ألفاظ وكلمات لا حاجة إليها. وقوله : (وَقَرْنَ (١) فِي بُيُوتِكُنَ) أي اقررن فيها بمعنى اثبتن فيها ولا تخرجن الا لحاجة لا بد منها وقوله : (وَلا تَبَرَّجْنَ) أي إذا خرجتن لحاجة (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي قبل الإسلام إذ كانت المرأة تتجمل وتخرج متبخترة متكسرة متغنجة في مشيتها وصوتها تفتن الرجال.

وقوله تعالى : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) بآدائها مستوفاة الشروط والأركان والواجبات فى أوقاتها مع الخشوع فيها (وَآتِينَ الزَّكاةَ ، وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بفعل الأمر واجتناب النهى. أمرهن بقواعد الإسلام وأهم دعائمه. وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أي إنما أمرناكن (٢) ونهيناكن إرادة إذهاب الدنس والإثم ابقاء على طهركن يا أهل البيت النبوى.

وقوله تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أي كاملا تاما من كل ما يؤثم ويدسى النفس ويدنسها.

وقوله تعالى (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) من الكتاب والسنة وهذا أمر لهنّ على جهة الموعظة وتعدد النعمة.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) أي بكم يا أهل البيت خبيرا بأحوالكم فثقوا فيه وفوضوا الأمر إليه. والمراد من أهل البيت هنا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) وفاطمة وابناها الحسن والحسين وعليّ الصهر الكريم رضي الله عن آل بيت رسول الله أجمعين وعن صحابته اكتعين (١) أبتعين أبصعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا شرف الا بالتقوى. ان اكرمكم عند الله أتقاكم.

٢ ـ بيان فضل نساء النبي وشرفهن.

__________________

(١) قرأ نافع وحفص (وَقَرْنَ) بفتح القاف من قرر كعلم يقرر والأمر اقررن فحذفت الراء الأولى تخفيفا وألغيت حركتها على القاف ، فسقطت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها عند ما تحركت القاف الساكنة فصارت وقرن ، وقرأ الجمهور بكسر القاف.

(٢) المعنى العام للآية : ما يريد الله لكن مما أمركن به ونهاكن عنه إلا عصمتكن من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوام ذلك لكن فلم يرد بكن مقتا ولا نكاية.

(٣) من جهل الرافضة وما وضع لهم من قواعد في دينهم لاخراجهم من الإسلام وإبعادهم عن جماعة المسلمين قصرهم هذه الآية على علي وفاطمة والحسنين دون أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن الخطاب في الآية لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث الكساء لا ينافي ادخال سائر نساء النبي في أهل بيته إذ ليس فيه صيغة من صيغ القصر المعروفة في لغة القرآن ونصه في صحيح مسلم عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غداة وعليه مرط مرحل فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

٣ ـ حرمة ترقيق المرأة صوتها وتليين عباراتها اذا تكلمت مع أجنبى.

٤ ـ وجوب بقاء النساء في منازلهن ولا يخرجن إلا من حاجة لا بد منها.

٥ ـ حرمة التبرج وهى أن تتزين المرأة وتخرج بادية المحاسن متبخترة فى مشيتها.

٦ ـ على المسلم أن يذكر ما شرفه الله به من الإيمان والإسلام ليترفع عن الدنايا والرذائل.

٧ ـ بيان أن الحكمة هى السنة النبوية الصحيحة.

٨ ـ الإشارة الى وجود جاهلية ثانية وقد ظهرت منذ نصف قرن وهى تبرج النساء بالكشف عن الرأس والصدور والسيقان وحتى الأفخاذ.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) : إن الذين أسلموا لله وجوههم فانقادوا لله ظاهرا وباطنا والمسلمات أيضا.

(وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : أي المصدقين بالله ربا وإلها والنبي محمد نبيا ورسولا والإسلام دينا وشرعا والمصدقات.

(وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) : أي المطيعين لله ورسوله من الرجال والمطيعات من النساء.

(وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) : أي الصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات.

(وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) : أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فلا يتركوها وعن المعاصى فلا يقربوها وعلى البلاء فلا يسخطوه ولا يشتكوا الله إلى عباده والحابسات.

(الْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) : أي المتذللين لله المخبتين له والخاشعات من النساء كذلك.

(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) : أي المؤدين الزكاة والفضل من أموالهم عند الحاجة إليه والمؤديات كذلك.

(وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) : أي عن الحرام والحافظات كذلك الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم بالنسبة للرجال أما النساء فالحافظات فروجهن الا على ازواجهن فقط.

(وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) : أي بالألسن والقلوب فعلى أقل تقدير يذكرن الله ثلثمائة مرة في اليوم والليلة زيادة على ذكر الله فى الصلوات الخمس.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) : أي لذنوبهم وذنوبهن.

(وَأَجْراً عَظِيماً) : أي الجنة دار الأبرار.

معنى الآيات :

هذه الآية وإن نزلت جوابا عن تساؤل بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قلن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل (١) الله تعالى هذه الآية المباركة إن المسلمين والمسلمات ، فإن مناسبتها لما قبلها ظاهرة وهى أنه لما أثنى على آل البيت بخير فإن نفوس المسلمين والمسلمات تتشوق لخير لهم كالذى حصل لآل البيت الطاهرين فذكر تعالى أن المسلمين (٢) والمسلمات الذين انقادوا لأمر الله ورسوله وأسلموا وجوههم لله فلا يلتفتون إلى غيره ، كالمؤمنين والمؤمنات بالله ربا وإلها ومحمدا نبيا ورسولا والإسلام دينا وشرعا ، كالقانتين أي المطيعين لله ورسوله والمطيعات فى السراء والضراء والمنشط والمكره في حدود الطاقة البشرية ، كالصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات كالصابرين أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فعلا ، وعن المحرمات تركا ، وعلى البلاء رضا وتسليما والصابرات كالخاشعين في صلاتهم وسائر طاعاتهم والخاشعات لله تعالى كالمتصدقين بأداء زكاة أموالهم وبفضولها عند الحاجة إليها والمتصدقات كالصائمين رمضان والنوافل كعاشوراء والصائمات ، كالحافظين فروجهم عما حرم الله تعالى عليهم من المناكح وعن

__________________

(١) روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت الآية ، وروى أحمد والنسائي وابن جرير عن أم سلمة أنها قالت قلت ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فنزلت.

(٢) بدىء بذكر الإسلام لأنه علم على الملة المحمدية وهو يعم الإيمان وعمل الجوارح ثم ذكر الإيمان لأنه كالطاقة المحركة والدافعة إلى القول الحق والطاعة لله ورسوله.

كشفها لغير الأزواج والحافظات (١) ، كالذاكرين الله كثيرا بالليل (٢) والنهار ذكر القلب واللسان والذاكرات (٣) الكل الجميع أعد الله تعالى لهم مغفرة لذنوبهم إذ كانت لهم ذنوب ، وأجرا عظيما أي جزاء عظيما على طاعاتهم بعد إيمانهم وهو الجنة دار السّلام جعلنا الله منهم ومن أهل الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية وهي عشر صفات أولها الإسلام وآخرها ذكر الله تعالى.

٢ ـ فضل الصفات المذكورة إذ كانت سببا في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب.

٣ ـ تقرير مبدأ التساوى بين الرجال والنساء في العمل والجزاء فى العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معا وأماما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن والله يقول الحق ويهدي السبيل.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي

__________________

(١) حذف من الآخر لدلالة الأول والمحذوف فروجهن ، ولأن ذكر فروج النساء غير لائق ذكره وسماعه لما عرف به أهل هذه الملة من عدم الرضا بذكر النساء لصيانتهن عن الابتذال والمهانة.

(٢) وحذف المقابل في الذاكرات طلبا للإيجاز غير المخل لأن الذكر الآخر مع ذكر الأول مع العلم به إطناب لا داعي له قال الشاعر :

وكمتا مدماة كأن متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

(٣) قال مجاهد : لا يكون العبد ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا ، وقال أبو سعيد الخدري «من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كانا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.

أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

شرح الكلمات :

(ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) : أي لا ينبغي ولا يصلح لمؤمن ولا مؤمنة.

(أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) : أي حق الاختيار فيما حكم الله ورسوله فيه بالجواز أو المنع.

(فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) : أي أخطأ طريق النجاة والفلاح خطأ واضحا.

(أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) : أي أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه بالعتق وهو زيد بن حارثة.

(وَاتَّقِ اللهَ) : أي في أمر زوجتك فلا تحاول طلاقها.

(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) : أي وتخفى فى نفسك وهو علمك بأنك إذا طلق زيد زينب زوجكها الله إبطالا لما عليه الناس من حرمة الزواج من امرأة المتبنّى.

(مَا اللهُ مُبْدِيهِ) : أي مظهره حتما وهو زواج الرسول من زينب بعد طلاقها.

(وَتَخْشَى النَّاسَ) : أي يقولوا تزوج محمد مطلقة مولاه زيد.

(وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) : وهو الذي أراد لك ذلك الزواج.

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) : أي حاجته منها ولم يبق له رغبة فيها لتعاليها عليه بشرف نسبها ومحتد آبائها.

(زَوَّجْناكَها) : إذ تولى الله عقد نكاحها فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها بدون إذن من أحد وذلك سنة خمس وأشبع الناس لحما وخبزا في وليمة عرسها.

(لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) : أي إثم في تزوجهم من مطلقات أدعيائهم.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) : أي وما قدره الله في اللوح المحفوظ لا بد كائن.

(وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) : أي يفعلون ما أذن لهم فيه ربهم ولا يبالون بقول الناس.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) : أي حافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها يوم الحساب.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) : أي لم يكن أبا لزيد ولا لغيره من الرجال إذ مات أطفاله الذكور وهم صغار.

(وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) : أي لم يجىء نبي بعده إذ لو جاء نبي بعده لكان ولده أهلا للنبوة كما كان أولاد ابراهيم ويعقوب ، وداود مثلا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) (١) الآيات هذا شروع في قصة زواج زيد بن حارثة الكلبى مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش بنت عمة النبي اميمة بنت عبد المطلب إنه لما أبطل الله التبني وحرمه بقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) تبع ذلك أن لا يرث الدعى ممن ادعاه ، وان لا تحرم مطلقته على من تبنّاه وادعاه وهكذا بطلت الأحكام التى كانت لازمة للتّبنّي ، وكون هذا نزل به القرآن ليس من السهل على النفوس التى اعتادت هذه الأحكام في الجاهلية وصدر الإسلام أن تتقبلها وتذعن لها بسهولة فأراد الله تعالى أن يخرج ذلك لحيز الوجود فألهم رسوله أن يخطب زينب لمولاه زيد ، واستجابت زينب للخطبة فهما منها أنها مخطوبة لرسول الله لتكون أما للمؤمنين ولكن تبين لها بعد ليال أنها مخطوبة لزيد بن حارثة مولى رسول الله وليست كما فهمت وهنا أخذتها الحمية وقالت لن يكون هذا لن تتزوّج شريفة مولى من موالى الناس ونصرها أخوها على ذلك وهو عبد الله بن جحش. فنزلت هذه الآية وما

__________________

(١) روى قتادة وابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد في سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب زينب بنت جحش وكانت بنت عمته خطبها لمولاه زيد بن حارثة فظنت أن الخطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما تبين انها لمولاه زيد كرهت وأبت وامتنعت فنزلت الآية فأذعنت وقبلت.

كان لمؤمن (١) ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة (٢) من أمرهم الآية فما كان منها الا أن قبلت عن رضى الزواج من زيد وتزوجها زيد وبحكم الطباع البشرية فان زينب لم تخف شرفها على زيد وأصبحت تترفع عليه الأمر الذي شعر معه زيد بعدم الفائدة من هذا الزواج فأخذ يستشير رسول الله مولاه ويستأذنه في طلاقها والرسول يأبى عليه ذلك علما منه أنه إذا طلقها سيزوجه الله بها إنهاء لقضية جعل أحكام الدّعى كأحكام الولد من الصّلب فكان يقول له : اتق الله يا زيد لا تطلق بغير ضرورة ولا حاجة الى الطلاق واصبر على ما تجده من أمرأتك ، وهنا عاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه عزوجل إذ قال له : (وَإِذْ (٣) تَقُولُ) أي اذكر إذ تقول (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) أي بنعمة الإسلام ، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بأن عتقته (أَمْسِكْ (٤) عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ، وَتُخْفِي (٥) فِي نَفْسِكَ) وهو أمر زواجك منها ، (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي مظهره لا محالة من ذلك (وَتَخْشَى (٦) النَّاسَ) أن يقولوا محمد تزوج امرأة ابنه زيد ، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). وقد أراد منك الزواج من زينب بعد طلاقها وانقضاء عدتها هدما وقضاء على الأحكام التى جعلت الدّعى كابن الصّلب.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي حاجته منها بالزواج بها وطلقها (زَوَّجْناكَها) (٧) إذ تولينا عقد نكاحها منك دون حاجة الي وليّ ولا إلى شهود ولا إلى مهر أو صداق وذلك من أجل أن لا يكون على المؤمنين حرج أي إثم في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ، وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي وما قضى به الله واقع لا محالة وقوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي من إثم أو تضييق فى قول أو فعل شيء افترضه الله تعالى عليه وألزمه به سنة الله في الذين خلوا من قبل من الأنبياء ، وكان أمر الله أي مقضيه قدرا مقدورا أي واقعا نافذا لا محالة. وقوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) أي

__________________

(١) هذه الصيغة هي لنفي الحال والشأن فهي أبلغ من صيغ النهي أي أن مثل هذا القول والعمل مما لا يكون ولا ينبغي أن يكون نحو قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) وفي الآية دليل على أن الكفاءة تعتبر في الأديان لا في الأنساب بل هي نص في هذا.

(٢) الخيرة اسم مصدر من تخيّر ومثلها الطيرة من تطير ولم يسمع على هذا الوزن غيرهما ، ووقع لفظ مؤمن ومؤمنة نكرة في سياق النفي فأفادتا العموم.

(٣) روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها انها قالت : لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) الآية وكذا قالت في آية عبس وتولى وهو كما قالت رضي الله عنها وأرضاها.

(٤) جاء زيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل وتفعل! واني أريد أن أطلقها فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله الآية.

(٥) إن قيل كيف يأمر زيدا بعدم طلاق زينب وهو يعلم أنه سيطلقها ويزوجه الله تعالى بها؟ الجواب لا حرج في هذا ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان والإسلام وهو يعلم انه لا يؤمن ، لأن الأمر لاقامة الحجة ومعرفة العاقبة.

(٦) ما كان يخشاه هو إرجاف المنافقين واليهود قولهم : أينهى عن نكاح زوجة الابن ويتزوج زوجة ابنه زيد.

(٧) روى أن زينب كانت تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اني لأدل عليك بثلاث! ما من نسائك امرأة تدل بهن : أن جدى وجدك واحد ، وأن الله انكحك اياي من السماء ، وأن السفير في ذلك جبريل.

هؤلاء الأنبياء السابقون طريقتهم التي سنها الله لهم هي أنهم ينفذون أمر الله ولا يتلفتون الى الناس يقولون ما يقولون ، ويخشون ربهم فيما فرض عليهم ولا يخشون غيره ، وكفى بالله حسيبا أي حافظا لأعمال عباده ومحاسبا عليها ومجاز بها ، وقوله تعالى في ختام السياق (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) لا زيد ولا غيره إذ لم يكن له ولد ذكر قد بلغ الحلم إذ مات الجميع صغارا وهم أربعة ثلاثة من خديجة وهم القاسم والطيب والطاهر وابراهيم وهو من مارية القبطية ، فلذا لا يحرم عليه أن يتزوج مطلقة زيد لأنه ليس بابنه وان كان يدعى زيد بن محمد قبل إنهاء التبني وأحكامه ولكن رسول الله وخاتم النبيين فلا نبى بعده فلو كان له ولد ذكر رجلا لكان يكون نبيا ورسولا كما كان أولاد ابراهيم واسحق ويعقوب وداود ، ولما أراد الله أن يختم الرسالات برسالته لم يأذن ببقاء أحد من أولاد نبيّه بل توفاهم صغارا ، أما البنات فكبرن وتزوجن وأنجبن ومتن حال حياته الا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فما أخبر به هو الحق وما حكم به هو العدل وما شرعه هو الخير فسلموا لله فى قضائه وحكمه فإن ذلك خير وأنفع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن المؤمن الحق لا خيرة عنده في أمر قضى فيه الله ورسوله بالجواز أو المنع.

٢ ـ بيان أن من يعص الله ورسوله يخرج عن طريق الهداية إلى طريق الضلالة.

٣ ـ جواز عتاب الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ بيان شدة حياء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ بيان إكرام الله لزيد بأن جعل اسمه يقرأ على ألسنة المؤمنين الى يوم الدين.

٦ ـ بيان إفضال الله على زينب لما سلمت أمرها لله وتركت ما اختارته لما اختاره الله ورسوله فجعلها زوجة لرسول الله وتولى عقد نكاحها في السماء فكانت تفاخر نساءها بذلك.

٧ ـ تقرير حديث ما ترك عبد شيئا لله الا عوضه الله خيرا منه.

٨ ـ إبطال أحكام التّبني التى كانت في الجاهلية.

٩ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونه خاتم الأنبياء فلا نبيّ بعده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ

مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.

(اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) : أي بقلبوكم وألسنتكم.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : أي نزهوه بقول سبحان الله وبحمده صباحا ومساء.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) : أي يرحكمكم.

(وَمَلائِكَتُهُ) : أي يستغفرون لكم.

(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) : أي يرحكمكم ليديم اخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) : أي سلام عليكم فالملائكة تسلم عليهم.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) : أي وهيأ لهم أجرا كريما وهو الجنة.

معنى الآيات :

هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم ، ويحفظون به من عدوهم وهو ذكر الله فقال تعالى لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (١) آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) لا حد له ولا حصر إذ هو الطاقة التى تساعد على الحياة الروحية ، (وَسَبِّحُوهُ (٢) بُكْرَةً وَأَصِيلاً) بصلاة الصبح وصلاة العصر. وبقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر دبر كل صلاة من الصلوات الخمس. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي (٣) عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وصلاته تعالى عليهم

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يعذر واحد في ترك ذكر الله إلا من غلب عليه عقله وورد في فضل الذكر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما هو يا رسول الله قال ذكر الله عزوجل ـ وقوله وقد جاءه اعرابيان فقال احدهما يا رسول الله أي الناس خير؟ قال : من طال عمره وحسن عمله وقال الآخر إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فمرني بأمر أتشبث به. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى.

(٢) يجوز أن يراد بالتسبيح صلوات النوافل ، وجائز أن يكون التسبيح نحو سبحان الله وبحمده إذ ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصح من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له ما تقدم من ذنبه.

(٣) الصلاة الدعاء والذكر بخير وهي من الله تعالى ثناؤه على العبد بين الملائكة قاله البخاري وقيل صلاة الله تعالى على العبد الرحمة ويكون على النبي الثناء عليه وعلى غير النبي الرحمة وهذا أولى ، ولا منافاة بين القولين لقوله تعالى : فاذكروني أذكركم. وهي من الملائكة دعاء واستغفار لقوله تعالى الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا الآية من سورة المؤمن.

رحمته لهم ، وصلاة ملائكته الاستغفار لهم وقوله ليخرجكم من الظلمات أي من ظلمات الكفر والمعاصى الى نور الإيمان والطاعات. فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي سبب الإخراج من الظلمات إلى النور. وقوله تعالى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وهذه علاوة أخرى زيادة على الإكرام الأول وهو الصلاة عليهم وإنه بالمؤمنين عامة رحيم فلا يعذبهم ولا يشقيهم. وقوله (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ (١) سَلامٌ) أي وتحيتهم يوم القيامة في دار السّلام السّلام إذ الملائكة يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم أي أمان وأمنة لكم فلا خوف ولا حزن. وقوله (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي هيأ لهم وأحضر أجرا كريما وهي الجنة. فسبحان الله ما أكرمه وسبحان الله ما أسعد المؤمنين. فيا لفضيلة الإيمان وطاعة الرحمن طلب منهم أن يذكروه كثيرا وأن يسبحوه بكرة وأصيلا وأعطاهم ما لا يقادر قدره فسبحان الله ما أكرم الله. والحمد لله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب ذكر الله تعالى كثيرا ليل نهار ووجوب تسبيحه صباح مساء.

٢ ـ بيان فضل الله على المؤمنين بصلاته عليهم وصلاة ملائكته ورحمته لهم.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث بذكر بعض ما يتم فيها من سلام الملائكة على أهل الجنة.

٤ ـ بشرى المؤمنين الصادقين بالجنة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

__________________

(١) ورد أن ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه وروي عن البراء بن عازب في قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) قال فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه ، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه.

شرح الكلمات :

(شاهِداً) : أي على من أرسلناك إليهم.

(وَمُبَشِّراً) : أي من آمن وعمل صالحا بالجنة.

(وَنَذِيراً) : أي لمن كفر وأشرك بالنار.

(وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) : أي وداعيا إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته بأمره تعالى.

(وَسِراجاً مُنِيراً) : أي وجعلك كالسراج المنير يهتدي به من أراد الهداية إلى سبيل الفلاح.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) : أي فيما يخالف أمر ربك وما شرعه لك ولأمتك.

(وَدَعْ أَذاهُمْ) : أي أترك أذاهم فلا تقابله بأذى آخر حتى تأمر فيهم بأمر.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي فوض أمرك إليه فإنه يكفيك.

معنى الآيات :

هذا نداء خاص بعد ذلك النداء العام فالأول كان للمؤمنين والرسول إمامهم على رأسهم.

وهذا نداء خاص لمزيد تكريم الرسول وتشريفه وتكليفه أيضا فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) (١) حال كونك شاهدا على (٢) من أرسلناك إليهم يوم القيامة تشهد على من أجاب دعوتك ومن لم يجبها ، ومبشرا لمن استجاب لك فآمن وعمل صالحا بالجنة ، ونذيرا لمن أعرض فلم يؤمن ولم يعمل خيرا بعذاب النار ، (وَداعِياً إِلَى اللهِ) تعالى عباده إليه ليؤمنوا به ويوحدوه ويطيعوه بأمره تعالى لك بذلك ، وسراجا (٣) منيرا يهتدى بك من أراد الاستهداء إلى سبيل السعادة والكمال.

وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي أنظر بعد دعوتك إياهم ، وبشر المؤمنين منهم أي الذين استجابوا لك وآمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم من الله فضلا كبيرا ألا وهو مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة دار النعيم المقيم والسّلام التام. وقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين وتكريم لجميعهم.

(٢) قال قتادة شاهدا على أمته بالتبليغ اليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم.

(٣) ورد في الصحيح والموطأ ومسلم أن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة اسماء وهي محمد واحمد والماحي والحاشر والعاقب وهل شاهد ومبشر ونذير ورؤوف ورحيم أسماء؟ الظاهر أنها صفات ومن عدها أسماء فقد ذكر ابن العربي في أحكامه أن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعة وستين اسما.

عن عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وقد كان أمر عليا ومعاذا رضي الله عنهما ان يسيرا إلى اليمن فقال انطلقا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا إنه قد أنزل عليّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) الآية.

يقترحون عليك من أمور تتنافى مع دعوتك ورسالتك ، ودع أذاهم أي اترك أذيتهم واصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم ، وتوكل على الله في أمرك كله ، فإنه يكفيك وكفى بالله وكيلا أي حافظا وعاصما يعصمك من الناس.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الكمال المحمدي الذي وهبه إياه ربّه تبارك وتعالى.

٢ ـ مشروعية الدعوة الى الله إذا كان الداعى متأهلا بالعلم والحلم وهما الإذن.

٣ ـ حرمة طاعة الكافرين والمنافقين والفجرة والظالمين فيما يتنافى مع مرضاة الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من صدقوا بالله ورسوله وكتابه وشرعه.

(إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) (١) : أي إذا عقدتم عليهن ولم تبنوا بهن.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) : أي من قبل الخلوة بهن ووطئهن.

(فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) : أي ليس لكم مطالبتهن بالعدة إذ العدة على المدخول بها.

(فَمَتِّعُوهُنَ) : أي أعطوهن شيئا من المال يتمتعن به جبرا لخاطرهن.

(وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) : أي اتركوهن يذهبن إلى أهليهن من غير إضرار بهن.

معنى الآية الكريمة :

ينادى الله تعالى عباده المؤمنين المسلمين فيقول لهم معلما مشرعا لهم : (إِذا نَكَحْتُمُ (٢)

__________________

(١) بمناسبة طلاق زيد لزينب أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وقد خطبها رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوجه ربه بها وله الحمد ناسب ذكر حكم المطلقة قبل البناء وأنها لا عدة عليها ، وأنه لا مهر لها ولكن لها المتعة إن لم يكن قد سمى لها مهرا.

(٢) النكاح حقيقة في الوطء ويطلق ويراد به العقد كما في هذه الآية الكريمة ولم يرد في القرآن الكريم النكاح إلا والمراد منه العقد ، لأنه في معنى الوطء ، وهذا من أدب القرآن حيث يكنى عن الوطء بمثل المباشرة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان.

الْمُؤْمِناتِ) أي عقدتم عليهن ، (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ (١) مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي من قبل الدخول عليهن الذي يتم بالخلوة في الفراش ، (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) تعتدونها عليهن لا بالاقراء ولا بالشهور إذ العدة لمعرفة ما في الرحم وغير المدخول بها معلومة أن رحمها خالية ، فإن سميتم لهنّ مهرا فلهن نصف المسمّى والمتعة على سبيل الاستحباب ، وإن لم تسموا لهن مهرا فليس لهن غير المتعة وهى هنا واجبة لهن بحسب يسار المطلّق وإعساره وقوله : (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي خلوا سبيلهن يذهبن إلى ذويهن من غير إضرار بهن ولا أذى تلحقونه بهن.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ جواز الطلاق قبل البناء.

٢ ـ ليس على المطلقة قبل الدخول بها عدة بل لها أن تتزوج ساعة ما تطلق.

٣ ـ المطلقة قبل البناء إن سمى (٢) لها صداق فلها نصفه ، وإن لم يسم لها صداق فلها المتعة واجبة يقدرها القاضي بحسب سعة المطلق وضيقه.

٤ ـ حرمة أذية المطلقة بأي أذى ، ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت.

٥ ـ مشروعية المتعة لكل مطلقة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ

__________________

(١) استدل بعض العلماء بقوله تعالى ثم طلقتموهن لما في ثم من المهلة على أن الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح أي العقد ، وأن من طلق امرأة قبل العقد عليها طلاقه لاغ لا عبرة به ، وأن عينها فانه لا يلزمه هذا مذهب نحو من ثلاثين صحابيا وتابعيا واماما سمى البخاري منهم اثنين وسبعين وفي الحديث لاطلاق قبل النكاح وقال الجمهور ان عينها تطلق وان لم يعينها فلا طلاق عليه.

(٢) استدل الظاهرية بهذه الآية على أن من طلق طلاقا رجعيا ثم راجع قبل أن تنقضي العدة ثم طلقها قبل أن يمسها انه ليس عليها أن تتم عدتها وليس عليها عدة أخرى قياسا على المطلقة قبل البناء والجمهور على انها تستقبل عدة أخرى وعليه مالك وجمهور فقهاء مكة والكوفة والمدينة.

وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠))

شرح الكلمات :

(آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) : أي أعطيت مهورهن.

(مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) : أي مما يسبى كصفية وجويرية.

(اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) : أي بخلاف من لم تهاجر وبقيت في دار الكفر.

(وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) : أي وأراد النبي ان يتزوجها. بغير صداق.

(خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي بدون صداق.

(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) : أي على المؤمنين.

(فِي أَزْواجِهِمْ) : أي من الأحكام كأن لا يزيدوا على أربع ، وأن لا يتزوجوا الا بولى ومهر وشهود.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي بشراء ونحوه وان تكون المملوكة كتابية ، وأن تستبرأ قبل الوطء.

(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) : أي ضيق في النكاح.

معنى الآية الكريمة :

هذا النداء الكريم لرسول ربّ العالمين يحمل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجازة ربانية تخفف عنه أتعابه التي يعانيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد علم الله ما يعاني رسوله وما يعالج من أمور الدين والدنيا فمنّ عليه بالتخفيف

ورفع الحرج فقال ممتنا عليه (يا أَيُّهَا النَّبِيُ (١) إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن وأحللنا لك (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من سبايا الجهاد كصفية بنت حبيب وجويرية بنت الحارث ، (وَبَناتِ عَمِّكَ (٢) وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ (٣) مَعَكَ) من مكة إلى المدينة.

أما اللاتي لم تهاجر فلا تحلّ لك ، وامرأة مؤمنة أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة لا كافرة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر وأراد النبي أن يستنكحها حال كون هذه الواهبة خالصة لك دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر لم تحل له بل لا بد من المهر والولي والشهود.

وقوله تعالى (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين في أزواجهم من أحكام كأن لا يزيد الرجل على أربع ، وأن لا يتزوج إلا بولي ومهر وشهود ، والمملوكة لا بد أن تكون كتابية أو مسلمة ، وأن لا يطأها قبل الاستبراء بحيضة قد علمنا كل هذا وأحللنا لك ما أحلننا خصوصية لك دون المؤمنين وذلك تخفيفا عليك لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق ومشقة وكان الله غفورا لك ولمن تاب من المؤمنين رحيما بك وبالمؤمنين.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لنبيه (٤) في التخفيف عليه رحمة به فأباح له أكثر من أربع ، وقصر المؤمنين على أربع أباح له الواهبة نفسها أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي ولم يبح ذلك للمؤمنين فلا بد من مهر وولي وشهود.

٢ ـ تقرير أحكام النكاح للمؤمنين وأنه لم يطرأ عليها نسخ بتخفيف ولا بتشديد.

٣ ـ بيان سعة رحمة الله ومغفرته لعباده المؤمنين.

__________________

(١) هذه الآية من المتقدم في التلاوة المتأخر في النزول ونظيرها آيتي الوفاة في البقرة على رأى الجمهور. إذ مضمون هذه الآية التوسعة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكراما له لما تحمله من نكاح زينب ثم قصره في الآيات بعد على من تحته من النساء إكراما لهن ايضا وذلك في قوله لا يحل لك النساء من بعد. ثم لم يقبض حتى رفع الله تعالى عنه الحظر اكراما واعلاء من شأنه إذ قالت عائشة. ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم حتى أحل له النساء.

(٢) وحد العم والخال وجمع العمات والخالات لأن العم والخال استعمل استعمال أسماء الأجناس الدالة على متعدد واللفظ موحد كالإنسان واللفظ واحد وهو دال على كل انسان من بني آدم.

(٣) المعية هنا (مَعَكَ) هي الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة إذ أحل له من هاجرت سواء كانت في رفقته أو في رفقة أخرى ، ولم يهاجر في رفقته امرأة قط.

(٤) من جملة خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن فرض عليه أمورا لم تفرض على الأمة كقيام الليل مثلا وأباح له أمورا لم تبح للأمة كنكاح الواهبة بدون مهر ، وحرم عليه أمورا لم تحرم على الأمة كحرمة الصدقة ذكر هذه الخصائص القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

شرح الكلمات :

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) : أي تؤخر من نسائك.

(وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) : أي وتضم إليك من نسائك من تشاء فتأتيها.

(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) : أي طلبت.

(مِمَّنْ عَزَلْتَ) : أي من القسمة.

(فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) : أي لا حرج عليك في طلبها وضمها إليك خيره ربه في ذلك بعد أن كان القسم واجبا عليه.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) : أي ذلك التخيير لك في إيواء من تشاء وترك من تشاء أقرب إلى أن تقر أعينهن ولا يحزن.

(وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَ) : أي مما أنت مخير فيه من القسم وتركه ، والعزل والايواء.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) : أي من حب النساء ـ أيها الفحول ـ والميل الى بعض دون بعض وإنما خير الله تعالى رسوله تيسيرا عليه لعظم مهامه.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) : أي عليما بضعف خلقه حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل التوبة.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) : أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد هؤلاء التسعة اللاتي اخترنك إكراما لهن وتخفيفا عنك.

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) : أي بأن تطلق منهن وتتزوج أخرى بدل المطلقة لا. لا.

(وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) : ما ينبغي أن تطلق من هؤلاء التسع وتتزوج من أعجبك حسنها.

(إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) : أي فالأمر في ذلك واسع فلا حرج عليك في التسرى بالمملوكة ، وقد تسرى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمارية المهداة إليه من قبل ملك مصر وولدت له إبراهيم ومات في سن رضاعه عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في شأن التيسير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف فقد تقدم أنه أحل له النساء يتزوج من شاء مما ذكر له وخصه بالواهبة نفسها يتزوجها بدون مهر ولا ولي وفي هذه الآية الكريمة (٥١) (تُرْجِي (١) مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الآية وسع الله تعالى عليه بأن أذن له في أن يعتزل وطء من يشاء ، وأن يرجىء من يشاء ، وأن يؤوي إليه ويضم من يشاء وأن يطلب من اعتزلها إن شاء فلا حرج عليه في كل ذلك ، ومع هذا فكان يقسم بين نسائه ، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك اللهم إلا ما كان من سودة رضى الله عنها فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضى الله عنها. هذا ما دل عليه قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) (٢) وقوله ذلك أدنى أي ذلك التخيير لك في شأن نسائك أقرب أن تقر أعينهن أي يفرحن بك ، ولا يحزن عليك ، ويرضين بما تتفضل به عليهن من إيواء ومباشرة.

وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي أيها الناس من الرغبة في المخالطة ، وميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وإنما خيّر الله رسوله هذا التخيير تيسيرا عليه وتخفيفا لما له من مهام لا يطمع فيها عظماء الرجال ولو كان في القوة والتحمل كالجبال أو الجمال.

وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي بخلقه وحاجاتهم. حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل ممن تاب التوبة.

__________________

(١) (تُرْجِي) بدون همزة وترجىء مهموز لغتان فصيحتان من أرجى وأرجأ الأمر إذا أخره والآية تحمل التوسعة والتخفيف عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسقط عنه واحب القسم بين أزواجه ومع هذا فكان يقسم. لأن الآية تفيد التخيير والاذن لا غير.

(٢) الجناح الميل يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى الأرض أي لا ميل عليك بلوم أو توبيخ أو عتاب. في الآية وجوب القسمة بين الزوجات والعدل بينهن فيعطي لكل زوجة يوما وليلة فيقيم عندها في يومها ولو كانت مريضة أو نفساء أو حائضا وإن مرض هو فكذلك إلا أن يأذن له بالتمريض عند إحداهن كما استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له في ذلك.

وقوله تعالى في الآية (٥٢) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ (١) مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك يا رسولنا النساء بعد هؤلاء التسع اللائى خيرتهن فاخترن الله واخترنك وأنت رسوله واخترن الدار الآخرة فاعترافا بمقامهن قصرك الله عليهن بعد الآن فلا تطلب امرأة أخرى ببدل أو بغير بدل ، ومعنى ببدل : أن يطلق منهن واحدة أو أكثر ويتزوج بدلها. وهو معنى قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) وقوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي فلا بأس بأن تتسرى بالجارية تملكها وقد تسرى بمارية القبطية التى أهداها له المقوقس ملك مصر مع بغلة بيضاء تسمى الدّلدل وهي أول بغلة تدخل الحجاز ، وقد أنجبت مارية إبراهيم ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفى في أيام رضاعه عليه وعلى والده ألف ألف سلام.

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي حفيظا عليما فخافوه وراقبوه ولا تطلبوا رضا غيره برضاه فإنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه به حياتكم وإليه مرجعكم بعد مماتكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لرسوله بالتيسير والتسهيل عليه لكثرة مهامه.

٢ ـ ما خير الله فيه رسوله لا يصح لأحد من المسلمين اللهم إلا أن يقول الرجل للمرأة كبيرة السن أو المريضة أي فلانة إنى أريد أن أتزوج أحصن نفسي وأنت كما تعلمين عاجزه فإن شئت طلقتك ، وإن شئت تنازلت عن ليلتك فإن اختارت البقاء مع التنازل عن حقها في الفراش فلا بأس بذلك.

٣ ـ في تدبير الله لرسوله وزوجاته من الفوائد والمصالح ما لا يقادر قدره.

٤ ـ تقرير مبدأ (ما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه) تجلّى هذا في اختيار نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله ورسوله والدار الآخرة.

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى وعدم التفكير في الخروج عن طاعته بحال من الأحوال.

[تنبيه هام]

إذن الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزواج بأكثر من أربع كان لحكم عالية ، وكيف والمشرع هو الله العليم الحكيم من تلك الحكم العالية ما يلي :

__________________

(١) اختلف في أحكام هذه الآية ونسخها وهل نسخها بالكتاب أو السنة والراجح أنها منسوخة بآية ترجى من تشاء وتؤوي إليك من تشاء ورجح بعضهم نسخها بالسنة إذ قالت عائشة : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل له النساء.

(١) اقتضاء التشريع الخاص بالنساء ومنه ما لا يطلع عليه إلا الزوجان تعدّد الزوجات ليروين الأحكام الخاصة بالنساء ، ولصحة الرواية وقبولها فى الأمة تعدد الطرق وكثرة الرواة والروايات.

(٢) تطلب الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مناصرين لها أقوياء ولا أفضل من أصهار الرجل الداعى فإنهم بحكم العرف يقفون إلى جنب صهرهم محقا أو مبطلا كان.

(٣) أن المؤمنين لا أحب إليهم من مصاهرة نبي الله ليظفروا بالدخول عليه في بيته والخلوة به وما أعزها. فأي المؤمنين من لا يرغب أن تكون أمه أو أخته أو بنته أما لكل المؤمنين إني والله لا أحب إليّ من أن أكون أنا وزوجتي وسائر أولادي خدما في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلذا وسع الله على رسوله ليتّسع على الأقل للأرامل وربات الشرف حتى لا يدنس شرفهن.

(٤) قد يحتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى مكافأة بعض من أحسن إليه ولم يجد ما يكافئه به ويراه راغبا في مصاهرته فيجيبه لذلك ومن هذا زواجه بكل من عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق رضي الله عنهم أجمعين.

(٥) قد زوجه ربّه بزينب وهو كاره لذلك يتهرب منه خشية قالة الناس وما كانوا يعدونه منكرا وهو التزوج بامرأة الدعى المتبنى بعد طلاقها أو موت زوجها هذه بعض الحكم التي اقتضت الإذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج أكثر من أربع مع عامل آخر مهم وهو قدرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العدل والكفاية الأمر الذي لن يكون لغيره أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ

تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من صدقوا بالله ووعده ووعيده وبالرسول وما جاء به.

(إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) : أي في الدخول بأن يدعوكم إلى طعام.

(غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) : أي غير منتظرين وقت نضجه أي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه بأن يستغل أحدكم الاذن بالدعوة للطعام فيأتي قبل الوقت ويجلس في البيت فيضايق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهله.

(فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) : أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين الي بيوتكم أو أعمالكم ولا يبق منكم أحد.

(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) : أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضا.

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) : أي ذلكم المكث في بيوت النبي كان يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) : أي أن يخرجكم.

(وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) : أن يقوله ويأمر به ولذا أمركم أن تخرجوا.

(مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : أي ستر كباب ورداء ونحوه.

(أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) : أي من الخواطر الفاسدة.

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) : أي إن أذاكم لرسول الله كان عند الله ذنبا عظيما.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) : أي إن تظهروا رغبة في نكاح أزواج الرسول بعد وفاته أو تخفوه في نفوسكم فسيجزيكم الله به شر الجزاء.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) الخ : أي لا حرج على نساء الرسول في أن يظهرن لمحارمهن المذكورين في الآية.

(وَلا نِسائِهِنَ) : أي المؤمنات أما الكافرات فلا.

(وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) : أي من الإماء والعبيد في أن يرونهن ويكملونهن من دون حجاب.

(وَاتَّقِينَ اللهَ) : أي يا نساء النبي فيما أمرتن به من الحجاب وغيره.

معنى الآيات :

لما بين تعالى لرسوله ما ينبغي له مراعاته من شأن أزواجه أمهات المؤمنين بين تعالى بهذه الآية (٥٣) ما يجب على المؤمنين مراعاته أيضا نحو أزواج النبي أمهاتهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) حقا وصدقا (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) بالدخول إلى طعام تطعمونه غير (١) ناظرين إناه أي وقته ، وذلك أن هذه الآية والمعروفة بآية الحجاب نزلت في شأن نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أكلوا طعام الوليمة التى أقامها رسول الله لما زوّجه الله بزينب بنت جحش رضى الله عنها ، وكان الحجاب ما فرض بعد على النساء مكثوا بعد انصراف الناس يتحدثون فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أمامهم لعلهم يخرجون فما خرجوا وتردد رسول الله على البيت فيدخل ويخرج رجاء أن يخرجوا معه فلم يخرجوا واستحى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم هيا فاخرجوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى غير ناظرين إناه (٢) يعني ذلك النفر ومن يريد أن يفعل فعلهم فإذا وجه إليه أخوه استدعاء لحضور وليمة بعد الظهر مثلا أتى إلى المنزل من قبل الظهر يضايق اهل المنزل فهذا معنى غير ناظرين إناه أي وقته لأن الإنى هو الوقت.

وقوله ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي فلا تدخلوا بدون دعوة أو إذن فاذا طعمتم أي فرغتم من الأكل فانصرفوا منتشرين في الأرض فهذا الى بيته وهذا الى بيت ربه وهذا إلى عمله. وقوله : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولا تمكثوا بعد الطعام يحدث بعضكم بعضا مستأنسين بالحديث. حرم تعالى هذا عليكم أيها المؤمنون لأنه يؤذى رسوله. وان كان الرسول لكمال أخلاقه لا يأمركم بالخروج حياء منكم فالله لا يستحي من الحق فلذا أمركم بالخروج بعد الطعام

__________________

(١) غير ناظرين إناه غير منصوب على الحال والآية تضمنت الأدب في حال الجلوس والطعام كما تضمنت مشروعية الحجاب.

(٢) أي غير منتظرين وقت نضجه ، واناه مقصور ، وفيه لغات إني بكسر الهمزة وأني بفتح الهمزة والنون وأنا بفتح الهمزة والمد قال الحطيئة :

وأخرت العشاء إلى سهيل

أو الشعرى فطال بي الاناء

والفعل أنى يأنى أنى إذا حان وأدرك وفرغ.

مراعاة لمقام رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ (١) مَتاعاً) أي طلبتم شيئا من الأمتعة التى توجد في البيت كإناء ونحوه فاسألوهن من وراء حجاب أي باب وستر ونحوهما لا مواجهة لحرمة النظر إليهن. وقوله ذلكم أطهر لقلوبكم أنتم أيها الرجال وقلوبهن أيتها الأمهات أطهر أي من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب فحل أنثى أو خاطبت امرأة فحلا من الرجال.

وقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ) أي ما ينبغي ولا يصح أن تؤذوا رسول الله أي أذى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي ولا أن تتزوجوا بعد وفاته نساءه فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأمهات تحريما مؤبدا لا يحل بحال ، وقوله تعالي : (إِنَ (٢) ذلِكُمْ) أي المذكور من أذى رسول الله والزواج من بعده بنسائه كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنبا عظيما لا يقادر قدره ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٣) وقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي تظهروه أو تخفوه أي تستروه يريد من الرغبة في الزواج من نساء الرسول بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله كان بكل شيء عليما وسيجزيكم بتلك الرغبة التي أظهرتموها أو أخفيتموها في نفوسكم شرّ الجزاء وأسوأه. فاتقوا الله وعظموا ما عظم من حرمات رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا ما دلت عليه الآية (٥٤).

وقوله تعالى في الآية (٥٥) لا جناح عليهن (٣) أي لا تضييق ولا حرج ولا إثم على النساء المؤمنات من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين في أن يظهرن وجوههن ويكلمن بدون حجاب أي وجها لوجه آباءهن الأب والجد وان علا ، وابناءهن الابن وابن الابن وان نزل وابن البنت كذلك وان نزل. واخوانهن وابناء اخوانهن وان نزلوا وأبناء اخواتهن وان نزلوا ، ومما ليكهن من إماء وعبيد.

وقوله تعالى (وَاتَّقِينَ (٤) اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أمر من الله لنساء النبي ونساء المؤمنين بتقوى الله فيما نهاهن عنه وحرمه عليهن من ابداء الوجه للأجانب غير المحارم المذكورين في

__________________

(١) روى ابو داود عن أنس بن مالك قال عمر : وافقت ربي في أربع الحديث وفيه قلت يا رسول الله لو ضربت الحجاب على نسائك يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله عزوجل وإذا سألتموهن الآية.

(٢) روى أن رجلا من المنافقين لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة قال : فما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فحرم الله نكاح أزاجه من بعده وجعل لهن حكم الأمهات وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة وهذه علة من علل التحريم أيضا.

(٣) روى انه لما نزلت آية الحجاب تساءل الآباء والأقارب : هل نحن أيضا لا نكلمهن إلا من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية لا جناح عليهن في آبائهن الخ.

(٤) لما ذكر تعالى الرخصة للمحارم أمر النساء بتقواه تعالى فأمرهن بذلك حتى لا يتجاوز من أذن لهن بالنظر إليهم في المحارم إلى غيرهم وذلك لقلة تحفظ النساء وكثرة استرسالهن.

الآية وتذكيرهم بشهود الله تعالى لكل شيء واطلاعه على كل شيء ليكون ذلك مساعدا على التقوى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما ينبغي للمؤمنين ان يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.

٢ ـ بيان كمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلقه فى أنه ليستحي أن يقول لضيفه أخرج من البيت فقد انتهى الطعام.

٣ ـ وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمر به عباده.

٤ ـ مشروعية مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب ستر ونحوه.

٥ ـ حرمة أذية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانها جريمة كبرى لا تعادل بأخرى.

٦ ـ بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها.

٧ ـ حرمة نكاح ازواج الرسول بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك.

٨ ـ بيان المحارم الذين للمسلمة أن تكشف وجهها أمامهم وتخاطبهم بدون حجاب.

٩ ـ الأمر بالتقوى ووعيد الله لمن لا يتقه في محارمه.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

شرح الكلمات :

(يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) : صلاة الله على النبي هي ثناؤه ورضوانه عليه ، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار له ، وصلاة العباد عليه تشريف وتعظيم لشأنه.

(صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) : أي قولوا : اللهم صل على محمد وسلم تسليما.

(يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي بسب أو شتم أو طعن أو نقد.

(يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) : أي يرمونهم بأمور يوجهونها إليهم تهما باطلة لم يكتسبوا منها شيئا.

(فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) : أي تحملوا كذبا وذنبا بينا ظاهرا.

(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) : أي يرخين على وجههن الجلباب حتى لا يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) : أي ذلك الإدناء من طرف الجلباب على الوجه أقرب.

(فَلا يُؤْذَيْنَ) : أي يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذى.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : أي غفورا لمن تاب من ذنبه رحيما به بقبول توبته وعدم تعذيبه بذنب تاب منه.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات السابقة ما يجب على المؤمنين من تعظيم نبيّهم واحترامه حيا وميتا أعلن في هذه الآية (٥٦) عن شرف نبيّه الذي لا يدانيه شرف وعن رفعته التي لا تدانيها رفعة فأخبر أنه هو سبحانه وتعالى يصلى عليه وأن ملائكته كذلك يصلون (١) عليه وأمر المؤمنين كافة أن يصلوا عليه فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فكان واجبا على كل مؤمن ومؤمنة أن يصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو مرة في العمر يقول :

__________________

(١) اختلف في الضمير في (يُصَلُّونَ) على من يعود والصحيح أنه عائد على الله تعالى والملائكة معا ولا حرج لأنه قول الله تعالى ولله أن يرفع من يشاء من عباده لجمع ضمير الملائكة مع ضميره ، وليس هذا من باب ومن يعصهما الذي أنكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذاك من قول خطيب وهذا قول الله تعالى وليس من حقنا أن نعترض على الله تعالى وروى أن ابن عباس قرأ وملائكته بالرفع أي يصلون وعليه فانفصل الضمير وأصبح خاصا بالله تعالى وهو وجه وما تقدم أولى لقراءة الكافة بالنصب.

اللهم صل على محمد وسلم تسليما. وقد بينت السنة أنواعا من صيغ الصلاة والسّلام على الرسول أعظمها أجرا الصلاة الإبراهيمية (١) وهي واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة (٢) فريضة أو نافلة ، وتستحب استحبابا مؤكدا عند ذكره (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مواطن أخرى. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٦) أما الآية الثانية (٥٧) فقد أخبر تعالى عباده أن الذين يؤذون الله بالكذب (٤) عليه أو انتقاصه بوصفه بالعجز أو نسبة الولد إليه أو الشريك وما إلى ذلك من تصوير الحيوان إذ الخلق اختص به الله فلا خالق الا هو فلا تجوز محاكاته في الخلق ، ويؤذون (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسب أو شتم أو انتقاص أو تعرض له أو لآل بيته أو أمته أو سنته أو دينه هؤلاء لعنهم الله في الدنيا والآخرة أي طردهم من رحمته ، وأعد لهم أي هيأ واحضر لهم عذابا مهينا لهم يذوقونه بعد موتهم ويوم بعثهم يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (٥٨) أما الآية الرابعة (٥٩) فإنه لما كان المؤمنات يخرجن بالليل لقضاء الحاجة البشرية إذ لم يكن لهم مراحيض في البيوت وكان بعض سفهاء المنافقين يتعرضون لهن بالغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإماء لا الحرائر فتأذى بذلك المؤمنات وشكون إلى أزواجهن ما يلقين من تعرض بعض المنافقين لهن فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ (٦) وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) والجلباب هو الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل ، أي مرهنّ بأن يدنين من طرف الملاءة على الوجه حتى لا يبقى إلا عين واحدة ترى بها الطريق ، وبذلك يعرفن انهن حرائر عفيفات فلا يؤذيهنّ بالتعرض لهن أولئك المنافقون السفهاء عليهم لعائن الله. وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أخبر عباده أنه تعالى كان وما زال غفورا لمن تاب من عباده رحيما به فلا يعذبه بعد توبته.

__________________

(١) صيغة الصلاة الإبراهيمية هي : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.

(٢) غير ضار أن يقول المالكية الصلاة سنة مؤكدة في التشهد الأخير إذ السنة المؤكدة عند المالكية هي الواجب عند الشافعي وأحمد وإذا فلا فرق.

(٣) من هذه المواطن بدء الدعاء وختمه ، وافتتاح الخطبة بعد حمد الله والثناء عليه ويوم الجمعة وليلتها ورد في فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث منها ، حديث مسلم من صلى عليّ مرة صلّى الله بها عشرا وروى النسائى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عليهم يوما والبشر يرى في وجهه فقالوا إنا لنرى البشر في وجهك فقال : أتاني الملك فقال : «يا محمد إن ربك يقول أما برضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا».

(٤) روى البخاري في صحيحه قال قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة يقول الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإن شئت قبضتهما.

(٥) من أفظع أنواع الأذى الذي تعرض له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يوما يصلي حول الكعبة فجاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور ووضعه على ظهره بين كتفيه الشريفتين فجاءت فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته بعيدا عن ظهر أبيها ونالت من المشركين وانصرفت فرضى الله عنها وارضاها.

(٦) تقدم ذكر أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بناته ففاطمة الزهراء وزينب ورقية وأم كلثوم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شرف الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب الصلاة والسّلام عليه في التشهد الأخير في الصلاة.

٢ ـ بيان ما يتعرض له من يؤذى الله ورسوله من غضب وعذاب.

٣ ـ بيان مقدار ما يتحمله من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالقول فينسب إليهم ما لم يقولوا أو لم يفعلوا أو يؤذيهم بالفعل بضرب جسم أو أخذ مال أو انتهاك عرض.

٤ ـ وجوب تغطية المؤمنة وجهها إذا خرجت لحاجتها الا ما كان من عين ترى بها الطريق ، واليوم بوجود الأقمشة الرقيقة لا حاجة الى ابداء العين اذ تسبل قماشا على وجهها فيستر وجهها وترى معه الطريق واضحا والحمد لله.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

شرح الكلمات :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) : أي عن نفاقهم وهو إظهار الإيمان واخفاء الكفر.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي مرض حب الفجور وشهوة الزنا.

(وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) : أي الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك.

(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.

(ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) : أي في المدينة الا قليلا من الأيام ثم يخرجوا منها أو يهلكوا.

(مَلْعُونِينَ) : أي مبعدين عن الرحمة.

(أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا) : أينما وجدوا أخذوا أسرى وقتلوا تقتيلا.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) : أي سن الله هذا سنة فى الأمم الماضية اينما ثقف المنافقون والمرجفون أخذوا وقتلوا تقتيلا.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) : أي منه تعالى إذ هي ليست أحكاما يطرأ عليها التبديل والتغيير بل هي سر التشريع وحكمته.

معنى الآيات :

لقد تقدم أن بعض النسوة اشتكين ما يلقينه من تعرض المنافقين لهن عند خروجهن ليلا لقضاء الحاجة ، وأن الله تعالى أمر نساء المؤمنين أن يدنين من جلابيبهن وعلة ذلك أن يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون وكان ذلك إجراء وقائيا لا بد منه ، ثم أقسم الجبار بقوله (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ (١) الْمُنافِقُونَ) أي وعزتي وجلالي لئن لم ينته هؤلاء المنافقون من نفاقهم وأعمالهم الاستفزازية والذين في قلوبهم مرض الشهوة وحب الفجور والمرجفون الذين يكذبون الأكاذيب المرجفة أي المحركة للنفوس كقولهم : العدو زاحف على المدينة والسرية الفلانية انهزمت أو قتل أكثر افرادها لئن لم ينته هؤلاء لنغرينك (٢) بهم أي لنحرشنّك بهم ثم لنسلّطنّك عليهم. ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة الا قليلا ، ثم يخرجوا منها أو يهلكوا ملعونين أي يخرجون ملعونين أي مطرودين من الرحمة الإلهية التي تصيب سكان المدينة النبوية ، وحينئذ أينما ثقفوا أي وجدوا وتمكن منهم أخذوا أي أسرى وقتلوا تقتيلا حتى لا يبقى منهم أحد.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٠) (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ..) والثانية (٦١) (مَلْعُونِينَ ...) الخ. أما الآية الثالثة (٦٢) (سُنَّةَ اللهِ (٣) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ، أي لقد سن الله تعالى هذا سنة في المنافقين من أنهم إذا لم ينتهوا يلعنون ثم يسلط عليهم من يأخذهم ويقتلهم تقتيلا ، وقوله : (وَلَنْ (٤) تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) يخبر تعالى أن ما كان من قبل السنن كالطعام

__________________

(١) يرى الكثيرون أن الصفات الثلاث لجنس واحد وهم المنافقون فقد اجتمعت فيهم هذه الصفات الثلاث والواو مفحمة وليست للعطف وشاهده قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

فهو رجل واحد بثلاث صفات.

(٢) لنغرينك اللام للقسم أي وعزتنا وجلالنا لنغرينك.

(٣) سنه منصوب على المصدر أي سنّ الله تعالى ذلك سنة ثم أضيف المصدر إلى فاعله.

(٤) الجملة تذييلية المراد بها تأكيد العذاب الحائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهو أو يتوبوا والمعنى لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا.

يشبع والماء يروى والنار تحرق والحديد يقطع لا يبدله تعالى بل يبقى كذلك لأنه مبني على أساس الحكم التشريعية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالمنافقين وتهديدهم بامضاء سنة الله تعالى فيهم إذا لم يتوبوا.

٢ ـ مشروعية إبعاد أهل الفساد من المدن الإسلامية أو يتوبوا بترك الفساد والإفساد ، وخاصة المدينة النبوية الشريفة.

٣ ـ بيان ان ما كان من الأشياء من قبل السنن لا يتبدل بتبدل الأحوال والظروف بل يبقى كما هو لا يبدله الله تعالى ولا يغيره.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

شرح الكلمات :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) : أي يهود المدينة كما سأله أهل مكة فاليهود سألوه امتحانا والمشركون تكذيبا بها واستعجالا لها.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) : أي أجب السائلين قائلا انما علمها عند ربي خاصة فلم يعلمها غيره.

(وَما يُدْرِيكَ) : أي لا أحد يدريك أيها الرسول أي يخبرك بها إذ علمها لله وحده.

(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) : أي وما يشعرك أن الساعة قد تكون قريبة القيام.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) : أي نارا متسعرة.

(خالِدِينَ فِيها) : أي مقدرا خلودهم فيها إذ الخلود يكون بعد دخولهم فيها.

(تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) : أي تصرف من جهة إلى جهة كاللحم عند شيّه يقلب في النار.

(يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ) : أي يتمنون بأقوالهم لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) : هذا قول الأتباع يشكون الى الله سادتهم ورؤساءهم.

(فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) : أي طريق الهدى الموصل إلى رضا الله عزوجل بطاعته.

(آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) : أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا لأنهم أضلونا.

(وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) : أي أخزهم خزيا متعدد المرات في عذاب جهنم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) (١) أي ميقات مجيئها والسائلون مشركون وأهل الكتاب فالمشركون يسألون عنها استبعادا لها فسؤالهم سؤال استهزاء واليهود يسألون امتحانا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره تعالى أن يجيب السائلين بجواب واحد وهو إنما علمها عند الله ، أي انحصر علمها في الله تعالى إذ أخفى الله تعالى أمرها عن الملائكة والمقربين منهم والأنبياء والمرسلين منهم كذلك فضلا عن غيرهم فلا يعلم وقت مجيئها الا هو سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) أي لا أحد يعلمك بها أيها الرسول ، وقوله (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي وما يشعرك يا رسولنا لعل الساعة تكون قريبة القيام وهي كذلك قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) فأعلم بالقرب ولم يعلم بالوقت لحكم عالية منها استمرار الحياة كما هي (٢) حتى آخر ساعة.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) المكذبين بالساعة المنكرين لرسالتك الجاحدين بنبوتك لعنهم فطردهم من رحمته أعدلهم نارا مستعرة في جهنم خالدين فيها إذا دخلوها لم

__________________

(١) شاهد قرب الساعة في السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى. وحذفت التاء من قريبا ذهابا بالساعة إلى اليوم كما حذفت من قريب في قوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ذهابا بالرحمة إلى العفو.

(٢) من الحكم العالية لإخفاء الساعة أن يكون العبد مستعدا لها بالإيمان وصالح الأعمال في كل وقت وكذلك ساعة الفرد وهي الموت.

يخرجوا منها أبدا (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي يتولاهم فيدفع العذاب عنهم (وَلا نَصِيراً) أي ينصرهم ويخلصهم من محنتهم في جهنم. وقوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) (١) تصرف من جهة إلى جهة كما يقلب اللحم عند شيّه يقولون عند ذلك يا ليتنا اطعنا الله وأطعنا الرسول يتحسرون متمنين لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ولم يكونوا عصوا الله والرسول. وقوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) (٢) هذه شكوى منهم واعتذارا وانى لهم أن تقبل شكواهم وينفعهم اعتذارهم. اطعناهم فيما كانوا يأمروننا به من الكفر والشرك وفعل الشر فاضلونا السبيلا أي طريق الهدى فعشنا ضالين ومتنا كافرين وحشرنا مع المجرمين. (رَبَّنا) أي يا ربنا (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي ضاعف يا ربنا لسادتنا وكبراءنا الذين أضلونا ضاعف لهم العذاب فعذبهم ضعفى عذابنا ، والعنهم أي واخزهم في العذاب خزيا كبيرا يتوالى (٣) عليهم دائما وأبدا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن علم الساعة استأثر الله به فلا يعلم وقت مجئيها غيره.

٢ ـ بيان أن الساعة قريبة القيام ، ولا منافاة بين قربها وعدم علم قيامها.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر احوال الكافرين فيها.

٤ ـ بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ

__________________

(١) وجائز أن تقلب الوجوه أيضا من لفح النار من الاسوداد إلى الاخضرار.

(٢) قرىء ساداتنا بكسر التاء جمع سيد.

(٣) الضعف بكسر الضاد العدد المماثل للمعدود فالأربعة ضعف الاثنين وقرى كثيرا وكبيرا وكثيرا يناسب قولهم ضعفين.

وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من صدقوا بالله ورسوله ولقاء الله وما جاء به رسول الله.

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) : أي لا تكونوا مع نبيكم كما كان بنو اسرائيل مع موسى إذ آذوه بقولهم إنه ما يمنعه من الاغتسال معنا إلا أنه آدر.

(فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) : أي أراهم أنه لم يكن به أدرة وهي انتفاخ احدى الخصيتين.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) : أي ذا جاه عظيم عند الله فلا يخيّب له مسعى ولا يرد له مطلبا.

(وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) : أي صدقا صائبا.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) : أي الدينيّة والدنيوية إذ على الصدق والموافقة للشرع نجاح الأعمال والفوز بثمارها.

(فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) : أي نال غاية مطلوبة وهو النجاة من النار ودخول الجنة.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) : أي ما ائتمن عليه الإنسان من سائر التكاليف الشرعية وما ائتمنه عليه أخوه من حفظ مال أو قول أو عرض أو عمل.

(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) : أي رفضن الالتزام بها وخفن عاقبة تضييعها.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) : أي آدم وذريّته.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) : أي لأنه كان ظلوما أي كثير الظلم لنفسه جهولا بالعواقب.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) : أي وتحملها الإنسان قضاء وقدرا ليرتب الله تعالى على ذلك عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على المؤمنين والمؤمنات فيغفر لهم ويرحمهم وكان الله غفورا رحيما.

معنى الآيات :

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ينادى الله تعالى مؤمني هذه الأمة ناهيا لهم عن أذى نبيّهم بأدنى أذى ، وأن لا يكونوا كبنى اسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن ومن ذلك ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه في قوله من رواية مسلم (١) ان بنى اسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده فقالوا : ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ، فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه (٢) على حجر وأخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب فيجرى موسى ورارءه حتى وقف به على جمع من بنى اسرائيل فرأوا أنه ليس به أدره ولا برص كما قالوا فهذا معنى فبرّأه الله مما قالوا ، وكان عند الله وجيها أي ذا جاه عظيم.

ومما حصل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى أذاه في إتهام زوجه بالفاحشة من قبل أصحاب الإفك وقول بعضهم له وقد قسم مالا هذه قسمة ما أريد به وجه الله.

وقول بعضهم اعدل فينا يا رسول الله فقال له ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟

وكان يقول يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر!! هذا ما دلت عليه الآية الاولى (٦٩) أما الآية الثانية (٧٠) فقد نادى تعالى عباده المؤمنين الذين نهاهم عن أذيّة نبيهم وأن لا يكونوا في ذلك كقوم موسى بن عمران ناداهم ليأمرهم بأمرين الأول بتقواه عزوجل إذ قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله. (اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه. فأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه. والثاني بالتزام القول الحق الصائب (٣) السديد ، ورتّب على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة ، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح. ثم أخبرهم مبشرا إياهم بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر والنهي فقد فاز فوزا عظيما وهي سعادة الدارين : النجاة من كل مخوف والظفر بكل محبوب مرغوب ومن

__________________

(١) ورواه البخاري بمعناه أيضا.

(٢) قال أهل العلم في وضع موسى ثوبه على حجر ودخوله الماء عريانا دليل على جواز مثل هذا الصنيع وهو كذلك ، وهذا الجواز لا يتنافى الاستحباب إذ التستر مستحب بلا خلاف.

(٣) القول السديد هو لا إله إلا الله وهو القصد الحق وهو الذي يوافق ظاهره باطنه ، وهو ما أريد به وجه الله دون سواه فالقول السديد الصائب يشمل كل هذا الذي ذكر.

ذلك النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما تضمنه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) يخبر تعالى منبها محذرا فيقول : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) (١) وهي شاملة للتكاليف الشرعية كلها ولكل ما أئتمن عليه الإنسان من شيء يحفظه لمن ائتمنه عليه حتى يرده إليه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بعد أن خلق لها عقلا ونطقا ففهمت الخطاب وردت الجواب فأبت تحملها بثوابها واشفقت وخافت من تبعتها ، وعرضت على الإنسان آدم فحملها بتبعتها من ثواب وعقاب لأنه كان ظلوما لنفسه يوردها موارد السوء جهولا بعواقب الأمور. هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (٧٢) وهي قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما (٢) جهولا. وقوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ (٣) اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ (٤) وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي بتبعة النفاق والشرك ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي تمّ عرض الأمانة وقبول آدم لها ليؤول الأمر إلى أن يكفر بعض أفراد الإنسان فيعذبوا بكفرهم الذي نجم عن تضييع الأمانة ، ويؤمن بعض آخر فيفرط بعض التفريط ويتوب فيتوب الله عليه فيغفر له ويدخله الجنة وكان الله غفورا رحيما ومن آثار ذلك أن تاب الله على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم ورحمهم بإدخالهم الجنة فسبحان الله المدبر الحكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تقوى الله عزوجل بفعل الأوامر واجتناب المناهى.

٢ ـ صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس ، وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في

__________________

(١) روى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال قالت وما فيها؟ قيل لها إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فقالت لا قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال وما هي؟ قال إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة الا قدر ما بين الظهر والعصر.

(٢) فكان الإنسان فريقين فريق ظلوم وفريق راشد عالم.

(٣) ليعذب اللام متعلقة بحمل أي حملها ليعذب العاصي ويثاب المطيع فهي لام التعليل وتعذيبهم نتيجة إضاعتهم الأمانة ، ورحمة المؤمنين والمؤمنات نتيجة محافظتهم على الأمانة برعايتهم لها وسر ذلك أن التكاليف عملها يزكى النفس ويطهرها فتتأهل للجنة ، وعدم عملها بتركها يسبب خبث النفس وهو يؤهل للنار وعذابها.

(٤) ذكر المنافقات والمشركات لأن المقام كمقام الإشهاد يتطلب ذكر الشاهد إقامة للحجة وإظهارا للعدالة ولأن الجزاء العادي يتطلب التنصيص على من يقضي له أو عليه.

القول والعمل وهو القول السديد المنافى للكذب والانحراف في القول والعمل.

٣ ـ طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الدارين.

٤ ـ وجوب رعاية الأمانة وأدائها ، ولم يخل أحد من أمانة.

٥ ـ وصف الإنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف في آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات. وعلاجها جاء مبينا في سورة المعارج في قوله (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) الى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

سورة سبأ (١)

مكية

وآياتها أربع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له.

(الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) : أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان ، كما له الحمد في الدنيا.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) : أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) : أي من نبات وعيون ومعادن.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) : أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها.

__________________

(١) هذه السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي إحدى خمس سور مفتتحة بالحمد لله وهن كلهن مكيات أولهن الفاتحة وآخرهن فاطر.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) : أي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) : أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى عباده بأن له الحمد (١) والشكر الكاملين التامين ، دون سائر خلقه ، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة الا الله ، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وتدبيرا وتصريفا وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا ، (٢) (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السّلام فيحمدونه على ذلك (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) وقوله تعالى (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.

وقوله (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) أي ما يدخل (٣) في الأرض من مطر وكنوز وأموات ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي من الأرض من نبات ومعادن ومياه ، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق ، (٤) (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد. وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين. بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية وهي صفات جلال وجمال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلى عنه ، والتنديد بفاعله حتي يتركه ويتخلى عنه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى (٥) وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان.

__________________

(١) الحمد الكامل والثناء الشامل كله لله ، إذ النعم كلها منه وله الحمد في الأولى لأنه المالك وله الحمد في الآخرة كذلك.

(٢) الجملة عطف على الصلة أي والذي له الحمد في الآخرة ، وفيها إشارة إلى أنه مالك الأمر في الآخرة.

(٣) الذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم من باب أولى ما يدب على سطحها وما يزحف فوقها والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها يعلم من باب أولى ما يجول في أرجائها ويعلم سير كواكبها.

(٤) وكذا من الثلوج والبرد والصواعق.

(٥) حمده تعالى نفسه دليل على أنه محب الحمد. ولذا كان الحمد رأس الشكر وشاهده قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى حتى انه حمد نفسه.

٢ ـ بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال.

٣ ـ لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى.

٤ ـ بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه.

٥ ـ تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

شرح الكلمات :

(لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) : أي القيامة.

(لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : أي لا يغيب عنه.

(مِثْقالُ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرة : أصغر نملة.

(وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) : أصغر من الذرة ولا أكبر منها.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي اثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزى صاحبه.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) : أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم.

(مُعاجِزِينَ) : أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم ، وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم.

(عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) : أي عذاب من أقبح العذاب وأسوأه.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي ويعلم الذين اوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأصحابه.

(الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) : أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.

(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) : أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل الى رضاه وجواره الكريم وهو الإسلام. والعزيز ذو العزة والحميد المحمود.

معنى الآيات :

بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وألوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبرا بما قاله منكروا البعث والجزاء : (وَقالَ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) (٢) وهو انكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها ، وأمر رسوله أن يقول لهم : (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة ، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم. فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو (٣) كل ما غاب في السموات وفي الأرض. وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة أي (٤) وزن ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضا إلا في كتاب مبين أي

__________________

(١) روى أن أبا سفيان هو الذي قال هذه المقالة حيث قال لإخوانه من أهل الكفر بمكة واللات والعزى لا تأتينا الساعة ابدا ولا نبعث فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليه دعواه بقوله (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) الآية.

(٢) الساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة النشر والحشر.

(٣) قرأ نافع وعنه ورش عالم بالرفع على الابتداء وقرأ حفص بالخفض نعت لاسم الجلالة.

(٤) قال القرطبي مثقال ذرة أي قدر نملة صغيرة.

بيّن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل أحداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون الا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ.

هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية (٤) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومن البعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة وقوله في الآية (٥) (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بيّن فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلّة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) (١) أي والذين عملوا جهدهم في إبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وانها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسّة والانحطاط لهم جزاء ، عذاب من رجز أليم (٢) والرجز سيء العذاب وأشده ومعنى أليم أي ذي ألم وإيجاع شديد.

وقوله تعالى : في الآية (٦) ويرى الذين أوتوا العلم ، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد (٣) الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد ، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حقّ ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزى بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة.

هذا ما دلت عليه الآية (٦) والأخيرة وهي قوله تعالى : (وَيَرَى) أي وليعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو الإسلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ.

٣ ـ طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن.

٤ ـ تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودليلها المقرر لها.

__________________

(١) قال القرطبي أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا وما في التفسير أشمل وأوضح.

(٢) قرأ نافع بجر أليم نعت لرجز وقرأ حفص برفع (أَلِيمٌ) نعت لعذاب المرفوع.

(٣) على هذا التفسير أن الآية مدنية كما قال بعضهم حيث استثناها من آيات السورة وجائز أن يراد بالذين أوتو العلم أبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب والأصحاب رضوان الله عليهم إذ هم من أولى العلم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

شرح الكلمات :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب.

(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي قطعتم كل التقطيع.

(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي تبعثون خلقا جديدا لم ينقص منكم شيء.

(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : أي جنون تخيّل له بذلك.

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) : أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة ، وفي الضلال البعيد في الدنيا.

(أَفَلَمْ يَرَوْا) : أي ينظروا.

(إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض.

(أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) : أي قطعا جمع كسفة أي قطعة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي علامة واضحة ودليلا قاطعا على قدرة الله عليهم.

(لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي لكل مؤمن منيب إلى ربّه رجّاع إليه فى أمره كله.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة. فقال تعالى حاكيا قولهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين (هَلْ نَدُلُّكُمْ (١) عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض ترابا تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل (٢) ممزق أي كل التمزيق فلم يبق شيء متصل ببعضه بعضا. (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي (٣) محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي به مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجرى فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) (بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذبا ، أو به جنون فتخيل له البعث وانما الأمر الثابت والواقع المقطوع به ان الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة. وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.

ثم قال تعالى مهددا لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَلَمْ يَرَوْا) أي أعموا فلم يروا الي ما بين أيديهم (٥) وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) فيعودون فيها (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ (٦) كِسَفاً) أي قطعا من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهربا والجواب لا ، لأنهم مهما جروا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ

__________________

(١) الاستفهام مستعمل في العرض مثل : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي يعرض عليه ما هو صالح له. والاستفهام في الآية وإن كان للعرض فهو مكنّى به عن التعجب أي هل ندلكم على أعجوبة وهي رجل ينبئكم بهذا النبأ.

(٢) التمزق والتفرق والتشتت.

(٣) هذه الجملة (أَفْتَرى) صفة ثانية لرجل والصفة الأولى هي قوله ينبئكم.

(٤) في الجملة إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا إذ أخبر أنهم في الآخرة في العذاب وفي الدنيا في الضلال البعيد.

(٥) المراد بما بين أيديهم هو ما يستقبله الإنسان من الكائنات السماوية والأرضية ، وبما خلفهم وهو ما وراء الإنسان من الكائنات الأرضية والسماوية.

(٦) قرأ نافع كسفا بسكون السين وقرأ حفص بفتحها.

لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كسف من السماء على من شاء ذلك لهم آية. وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفروا بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه. وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشى هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به أو إسقاط السماء كسفا عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه.

٣ ـ لفت الأنظار الى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده.

٤ ـ فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب. والإنابة الرجوع الى التوبة بعد الذنب والمعصية ، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ

الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) : أي نبوة وملكا.

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) : أي وقلنا يا جبال أوّبى معه أي رجعى معه بالتسبيح.

(وَالطَّيْرَ) : أي والطير تسبح أيضا معه.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) : أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) : أي دروعا طويلة تستر المقاتل وتقيه ضرب السيف.

(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : أي اجعل المسمار مناسبا للحلقة ، فلا يكن غليظا ولا دقيقا ، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدرع وعدم الانتفاع بها.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) : أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة الى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها من منتصف النهار الى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) : أي وأسلنا له عين النحاس.

(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) : أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.

(مِنْ مَحارِيبَ) : جمع محراب المقصورة تكون الى جوار المسجد للتعبد فيها.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) : أي وقصاع في الكبر كالحياض التى حول الآبار يجبى إليها الماء.

(وَقُدُورٍ راسِياتٍ) : أي وقدور كبار ثابتات على الأثافى لكبرها لا تحول.

(إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) : أي الأرضة.

(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) : أي عصاه بلغة الحبشة.

(فَلَمَّا خَرَّ) : أي سقط على الأرض ميتا.

(تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) : أي انكشف لها فعرفت.

(فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) : وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.

معنى الآيات :

يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيبا في طاعته وترهيبا من معصيته فيقول : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ (١) مِنَّا فَضْلاً) وهو النبوة والزبور «كتاب» والملك. وقلنا للجبال (أَوِّبِي) مع سليمان أي ارجعي صوت تسبيحه (٢) والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخير لا يقدر عليه الا الله. وقوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٣) وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء ، وقلنا له اعمل دروعا طويلة سابغات تستتر بها في الحرب ، (وقدر في السرد (٤)) وقوله (وَاعْمَلُوا صالِحاً) (٥) أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الاثم والمحرمات. وقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيه وعد ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.

وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي سخرنا لسليمان بن داود الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي تقطع مسافة شهر في الصباح ، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد ، وذلك أنه كان لسليمان مركب من لحشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفع جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول الى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماما. وقوله تعالى (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهو النحاس فكما ألآن لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.

__________________

(١) بين تعالى بهذه الآية أن إرسال نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أمرا خارقا للعادة ولا منافيا لمقتضيات العقول إذا أرسل من قبله رسلا وآتى داود من الإنعام ما قرر به رسالته وأثبت به نبوته وكذا ولده سليمان عليهما‌السلام.

(٢) والطير منصوب بالعطف على المنادى «يا جبال». لأن المعطوف المعرف على المنادي يجوز نصبه ورفعه والنصب أولى.

(٣) الحديد تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب.

(٤) قدر الشيء جعله على قدر معيّن والسرد هو تركيب حلقها ومساميرها بصورة متناسبة بحيث لا يعظم المسمار فيغلق الحلقة ، ولا يرق فلا تمسكه.

(٥) لمّا عدد عليه نعمه أمره بشكره وهو العمل الصالح الشامل للحمد والشكر والطاعة والصبر.

وقوله تعالى (وَمِنَ الْجِنِ) أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربّه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) أي ومن يعدل من الجن (عَنْ أَمْرِنا) أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وذلك يوم القيامة (١). وقوله (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) بيان لما في قوله (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها ، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة ، كالجواب أي في الكبر والجابية (٢) حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدورا ضخمة لا تتحول بل تبقى دائما موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.

وقوله تعالى (اعْمَلُوا) أي قلنا لهم اعملوا آل داود شكرا أي اعملوا الصالحات شكرا لله تعالى على هذا الإفضال والإنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكرا لله على نعمه. روى أنه لما أمروا بهذا الأمر قال داود عليه‌السلام لآله أيكم يكفيني النهار فإنى أكفيكم الليل فصلوا لله شكرا فما شئت أن ترى في مسجدهم راكعا أو ساجدا في أية ساعة من ليل أو نهار إلا رأيت. ويكفى شاهدا أن سليمان مات وهو قائم يصلى في المحراب. وقوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لإستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.

وقوله تعالى في الآية (١٤) (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي توفيناه : ما دلهم على موته الا دابة في الأرض أي الأرضة المعروفة تأكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض ، وذلك أنه سأل ربّه أن يعمى خبر موته عن الجن ، حتي يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون ، فمات وهو متكىء على عصاه يصلى في محرابه ، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل الشاق وهم لا يدرون. هذا معنى

__________________

(١) وجائز أن يكون هناك ملك بيده سوط من نار أو شهاب يضرب به الشيطان إن عصى سليمان كما روى عن السلف.

(٢) قال الشاعر :

تروح على آل المحلق جفنة

كجايبة الشيخ العراقي تفهق

أي لامتلائها.

قوله تعالى (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ) (١) (الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) ـ كما كان يدعى بعضهم ـ (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.

٢ ـ فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.

٣ ـ مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.

٤ ـ شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصّه الدليل كتحريم الصور (٢) والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.

٥ ـ وجوب الشكر على النعم ، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها.

٦ ـ تقرير أن علم الغيب لله وحده.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)

__________________

(١) الآية صريحة في أن من الجن من كان يدعي علم الغيب يضلل اخوانه من الجن والإنس به ، وإذ تبين للجن إن دعوى علم الغيب ممن ادعاها باطلة علم كذلك الإنس ان الجن ما كانوا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حين مات وتركوا العمل وفروا بعيدين.

(٢) لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصورين ولم يستثن فقال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم.

وفي البخاري أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. وحديث الموطأ. إلا ما كان رقما في ثوب فهو وإن خص جميع الصور فإن حديث عائشة رضي الله عنها دل على كراهيته إذ قال لها أخرجيه عني فهتكته والرخصة في لعب البنات لما في الصحيح على شرط أن لا تكون كأشباه التماثيل.

فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ) : أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.

(آيَةٌ) : أي علامة على قدرة الله وهى جنتان عن يمين وشمال.

(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) : أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها ، والله رب غفور.

(فَأَعْرَضُوا) : أي عن شكر الله وعبادته.

(سَيْلَ الْعَرِمِ) : أي سد السيل العرم.

(ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) : أي صاحبتي أكل مرّ بشع وشجر الأثل.

(ذلِكَ) : أي التبديل جزيناهم بكفرهم.

(الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) : هي قرى الشام مبارك فيها.

(قُرىً ظاهِرَةً) : أي متواصلة من اليمن إلى الشام.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) : أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.

(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.

(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي إن في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبرا.

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي صبار على الطاعات وعن المعاصى شكور على النعم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته

وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ (١) آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ اربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان ، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى (فِي مَسْكَنِهِمْ) أي في مساكنهم (آيَةٌ) أي علامة على قدرة الله وإفضاله على (٢) عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادى أي جنتان عن يمين الوادى وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر ، تسقى بماء سد مأرب. كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله. وقوله (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) (٣) يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى (فَأَعْرَضُوا) بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هى سنته في عباده. قال تعالى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وذلك بأن خرب السد ، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمحلت الأرض ، وتبدلت قال تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي مر بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء ، وشيء من سدر قليل. هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى (ذلِكَ) أي الجزاء (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بسبب كفرهم وقوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٤) أي وهل نجازى بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة الي نقمة غير الكفور.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ (٥) وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي مدن الشام (قُرىً ظاهِرَةً) أي مدنا ظاهرة على المرتفعات من الأرض ، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة ، وقوله (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بجيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل الا في مدينة ويخرج بعد

__________________

(١) قرأ نافع مساكنهم بالجمع وقرأ حفص بالإفراد (مَسْكَنِهِمْ) وجمعه مساكن.

(٢) إذ لو اجتمعت البشرية كلها على اخراج شجرة من خشبة يابسة لما استطاعت فكيف بأنواع النوار وألوانه واختلاف طعومه وروائحه وأزهاره.

(٣) في الآية اشارة إلى أن الذنب ملازم للإنسان لا يعصم منه إلا من أراد الله عصمته كأنبيائه ، ولذا أعلمهم أن المنعم بهذه النعم رب غفور يغفر ذنب عباده إذا تابوا إليه فدعاهم بهذا الى التوبة وأن الذنب مع التوبة لا يسبب الهلاك العام أو سلب النعم ما دام هناك توبة تعقب الذنب.

(٤) قرأ حفص (وَهَلْ نُجازِي) بنون العظمة والبناء للفاعل والكفور مفعول به منصوب وقرأ نافع والجمهور وهل يجازى بياء الغيبة مضمومة والفعل مبني للمفعول والكفور نائب فاعل والمعنى ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور أي الشديد الكفر عظيمه.

(٥) هذه الآية والتي بعدها ذكرتا تتميما للقصة.

القيلولة فلا ينام الا في مدينة أخرى حتى يصل الى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقوله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم الا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم أو قالهم أن يباعد بين (١) مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب وهذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل (٢). قال تعالى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعرّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، وقوله تعالى (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبدا فذهب الأوس والخزرج الى يثرب «المدينة النبوية» وهم الأنصار ، وذهب غسان الى (٣) الشام ، والازد الى عمان ، وخزاعة الى تهامة واصبحوا مضرب المثل يقال : ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في إنعام الله على ابناء سبأ ثم في نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبرا يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلا وعن المعاصي تركا ، (شَكُورٍ) أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم. وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.

٢ ـ التحذير من كفر النعم بالاسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عزوجل.

٣ ـ خطر الحسد وانه داء لا دواء له ، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

٤ ـ فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.

__________________

(١) قوله تعالى (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرأ الجمهور (باعِدْ) فعل أمر من باعد يباعد وقرأ بعض بعّد فعل أمر من بعد يبعد على وزن جدّد ، وقرأ بعض آخر باعد فعلا ماضيا.

(٢) قيل ان المسافة التي يقطعونها بين تلك المدن آمنين من الجوع والخوف مسيرة أربعة أشهر ذهابا وإيابا وحالهم كحال بني اسرائيل كما قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض حيث ملوا أكل اللحم والعسل.

(٣) قال الشعبي فلحقت الأوس والخزرج (الأنصار) بيثرب (المدينة) وغسان وجذام ولخم بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة. فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول. تفرقوا ايدي سبأ ، وأيادي سبأ أي مذاهب سبأ وطرقها.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) : أي صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.

(فَاتَّبَعُوهُ) : في الكفر والضلال والإضلال.

الا فريقا منهم : أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإغراء بالشهوات.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) : أي لكن أذنّا له في إغوائهم ـ إن استطاع ـ بالتزيين والإغراء لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحا ممن يكفر ويعمل سوءا.

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزى الناس بما كسبوا.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) : أي ملكا استقلاليا لا يشاركهم الله فيه.

(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) : أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.

(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) : أي ولا تنفع الشفاعة أحدا عنده حتى يأذن هو له بها.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.

(قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟) : أي قال بعضهم لبعض لبعض استبشارا ما ذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) : العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال (لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ (١) إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه من الشرك والإسراف والمعاصي (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية (٢٠) وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ) أي للشيطان (عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين ، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من (٢) يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران ، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة ، والذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينهضون بواجب ولا يتجنبون حراما فيخسرون أنفسهم

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور صدق بتخفيف الدال وقرأ حفص (صَدَّقَ) بالتضعيف والجملة يبدو أنها معطوفة على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ) وهو قول كفار مكة وما بين هذه الآيات وتلك اعتراض للعظة والاعتبار والمقصود من هذه الآية تنبيه المؤمنين إلى مكايد الشيطان وسوء عاقبة من يتبعه حتى يلعنوه ولا يتبعوه. قال الحسن لما اهبط آدم وحواء عليهما‌السلام من الجنة إلى الأرض وهبط إبليس قال ابليس أما إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف فكان ذلك ظنا من ابليس فأنزل الله تعالى لقد صدق عليهم إبليس ظنه.

(٢) أي علم الشهادة والظهور الذي يتم به الثواب والعقاب فأما علم الغيب فقد علمه تبارك وتعالى فقوله تعالى ، (إِلَّا لِنَعْلَمَ) الخ ... جواب لقوله وما كان له عليهم من سلطان.

وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) فهو يحصى أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.

وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا (١) الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافى الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعون ويضرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها ـ وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون ـ هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالا ولا يملكونها شركة مع الله المالك الحق ، وهو معنى قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما) أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده ، وشيء آخر وهو أن الشفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضى الله تعالى بالشفاعة لمن أريد الشفاعة له ، وبعد أن يأذن ايضا لمن أراد أن يشفع. فلم يبق إذا أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عند ما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم (٢) البعض ما ذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا : الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العليّ الكبير أي العلى فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا ربّ سواه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن إبليس صدق ظنه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.

__________________

(١) هذا الأمر للتحدي والتوبيخ وهو خطاب للمشركين المؤلهين الأصنام بعد ما ساق من دلائل التوحيد فيما عرفوا من حياة داود وسليمان وأهل سبأ أمر رسوله أن يتحداهم ويوبخهم على شركهم وباطلهم.

(٢) الظاهر أن من طلبوا الشفاعة لما أذن الله تعالى لهم وأصابهم الفزع والخوف فلما ذهب ذلك من قلوبهم سألوا الملائكة عما قال الله تعالى فتجيبهم الملائكة قال الحق أي قبل شفاعتكم.

٢ ـ تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.

٣ ـ بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة ، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم ، وأخيرا والشفاعة لا تتم إلا بإذنه ولمن رضى له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهى الدعاء ، والعياذ بالله تعالى.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.

(قُلِ اللهُ) : أي إن لم يجيبوا فأجب انت فقل الله ، إذ لا جواب عندهم سواه.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وقطعا فالموحدون هم الذين على هدى

والمشركون هم في الضلال المبين ، وإنما شككهم تلطفا بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) : أي أنكم لا تسألون عن ذنوبنا.

(وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أي ولا نسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفا بهم أيضا ليراجعوا أمرهم ، ولا يحملهم الكلام على العناد.

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) : أي قل لهم سيجمع بيننا ربّنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضا تلطف بهم وهو الحق.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) : أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناما لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : كلا : لن تكون الأصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.

(كَافَّةً لِلنَّاسِ) : أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : بشيرا للمؤمنين بالجنة ، ونذيرا للكافرين بعذاب النار

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) : هو يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سل قومك مبكتا لهم : (قُلْ مَنْ (١) يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلا الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.

وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى (٢) هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف

__________________

(١) لما أبطل بتلك الحجج آلهة المشركين حيث دعاؤها لا يجدي نفعا للداعين لأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شفاعتها تنفع عابديها قرر بهذه الآيات استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره ، واستعمل اسلوب الجدل لإقامة الحجة على الخصم فقال : قل من يرزقكم.

(٢) واياكم معطوف على محل اسم إن المنصوب والجملة معطوفة على الاستفهام (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) الخ وهذا يقال له اسلوب المنصف وهو أن لا يذكر المجادل لمن يجادله ما يغيظه أو يثير حفيظته رجاء هدايته إلى الحق.

بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر فى الأمر الذي يجادل فيه ، وإلّا فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدى ، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعالى (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا (١) أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا أيضا من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه. فقوله : (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين ، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطف في الخطاب ، وأما المشركون فإن لهم أعمالا من الشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعا لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا. وقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) أي يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي يحكم ويفصل بيننا (بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهرا وباطنا. وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله (قُلْ أَرُونِيَ (٢) الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين ارونى آلهتكم التي اشركتموها بالله والحقتموها به وقلتم في تلبيتكم : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. الا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون ينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال : (كَلَّا ، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين (الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ (٣) إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٤) بَشِيراً وَنَذِيراً) أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به ، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو اليه.

__________________

(١) وهذا أيضا من الباب الأول وهو حمل الخصم على عدم اللجاج في الخصومة ليبقى قادرا على الفهم وقبول الحق متى ظهر له ولاح.

(٢) الأمر هنا للتعجيز لإقامة الحجة عند ثبوت عجز المخاصم ، ولما ثبت عجزهم زجرهم بكلمة كلا وردعهم بها ، وحملهم على الاعتراف ببطلان آلهتهم.

(٣) ولما تقرر مبدأ التوحيد عطف عليه تقرير النبوة المحمدية فقال وما أرسلناك. وبذلك ثبتت رسالته.

(٤) في الكلام تقديم وتأخير إذ الأصل وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) فيه تعزية للرسول أيضا إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفا مما لديه. وقوله : (وَيَقُولُونَ) أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء (مَتى هذَا الْوَعْدُ) (٢) أي العذاب الذي تهددنا به وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ) (٣) يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم محكم لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية التلطف مع الخصم فسحا له في مجال التفكير لعله يثوب الى رشده.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوى في ذلك.

٣ ـ تقرير عقيدة النبوة المحمدية ، وعموم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة.

٤ ـ يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ

__________________

(١) إذ كانوا يوم نزول هذه الآية أكثرية والمؤمنون أقلية وحتى اليوم أكثر الناس لا يعلمون جلال الله وجماله وأسماءه وصفاته وما عنده وما لديه ، ولا محابة ولا مكارهه.

(٢) الاستفهام للاستبعاد مشوبا بالتعجب من كثرة سؤالهم عن هذا الوعد.

(٣) الميعاد مصدر ميمي وهو الوقت المعين لحدوث الشيء وهو هنا إما يوم القيامة أو حضور الموت وجائز أن يكون يوم هلاكهم وهو يوم بدر وإضافته بيانية.

اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإنجيل.

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) : أي يقول الاتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبيّن في الآيات.

(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى) : أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذ جاءهم بواسطة رسوله.

(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) : أي ظلمة فاسدين مفسدين.

(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله

(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) : أي شركاء نعبدهم معه فننادّه بهم.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : أي اخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهر والندم إذ أسر الندامة له معنيان أخفى وأظهر.

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ) : أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم.

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي ما يجزون الا ما كانوا يعملون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن (١) بهذا القرآن الذي أنزل على محمد ، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإنجيل ، وذلك لما احتجّ عليهم

__________________

(١) القائل هذا هو أبو جهل بن هشام وذلك أن المشركين سألوا أهل الكتاب من اليهود فلما أعلموهم بما يوافق ما يقول الرسول ويدعو إليه من التوحيد والبعث والجزاء والرسالة قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من التوراة والانجيل.

بتقرير التوراة والإنجيل للتوحيد والنّبوات والبعث والجزاء قالوا لن نؤمن بالجميع عنادا ومكابرة. وجحودا وظلما. ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم إلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يسمعون (وَلَوْ تَرى) (١) يا رسولنا (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتحاورون متلاومين. يقول الذين استضعفوا وهم الفقراء المرءوسون الذين كانوا أتباعا لكبرائهم وأغنيائهم ، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا : لو لا أنتم أي صرفتمونا عن الإيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ) (٢) (صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) أي ما صددناكم أبدا بل كنتم مجرمين أي أصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ (٣) اللَّيْلِ (٤) وَالنَّهارِ) أي بل مكركم (٥) بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا ان نكفر بالله ونجعل له أندادا. قال تعالى (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) (٦) أي أخفوها لما رأوا العذاب. قال تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي شدت أيديهم إلى أعناقهم بالاغلال وهى جمع غل حديدة يشد بها المجرم ، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج جهنم ، وقوله تعالى : (هَلْ يُجْزَوْنَ (٧) إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر ، وكانت أعمالهم كلها شرّا وظلما وباطلا.

هذا وجواب لو لا في أول السياق محذوف يقدر بمثل : لرأيت أمرا فظيعا واكتفي بالعرض لموقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل.

__________________

(١) جواب (لَوْ) محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا مدهشا ومحيرا.

(٢) الاستفهام إنكاري. أنكروا عليهم قولهم أنهم صدوا عن الإيمان.

(٣) المكر في اللغة الاحتيال والخديعة يقال مكر به يمكر فهو ماكر ومكار.

(٤) (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الاضافة بمعنى في.

(٥) مكر مبتدأ والخبر محذوف تقديره ضدّنا وهو جملة فعلية.

(٦) الضمير في أسروا عائد على الجميع المستضعفين والمستكبرين والمعنى أنهم لما انكشف لهم العذاب المعد والمهيء لهم وذلك عقب المحاورة التي دارت بينهم ، فعلموا أن حوارهم لبعضهم غير نافع لهم أسروا الندامة أي أخفوها لعدم جدواها.

(٧) الاستفهام إنكاري بقرينة الاستثناء بعده أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون أي من الشرك والظلم والشر والفساد إذ الجزاء من جنس العمل هو العدل المطلوب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تشابه حال الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين. ولما وجدوا التوراة والإنجيل يقرّران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بالقرآن ولا بالتوراة والإنجيل.

واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قول الله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة ، ومشهد من مشاهده.

٣ ـ بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس اذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

شرح الكلمات :

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي رؤساؤها المنعمون فيها من اهل المال والجاه.

(نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) : أي من المؤمنين.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : امتحانا أيشكر العبد أم يكفر.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض.

(تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) : أي قربى بمعنى تقريبا.

(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) : أي لكن من آمن وعمل صالحا هو الذي تقربه تقريبا.

(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) : أي من المرض والموت وكل مكروه.

والذين سعوا في آياتنا : أي عملوا على إبطال القرآن والإيمان به وتحكيمه.

(مُعاجِزِينَ) : أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوقوننا فلم نعاقبهم.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي من مال في الخير.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) : أي المعطين الرزق. أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) هذا شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) أي مدينة من المدن (مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ (١) مُتْرَفُوها) أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب. قالوا لرسل الله (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فردوا بذلك دعوتهم. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فاعتزوا بقوتهم ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم. وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ (٢) الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم من مال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له لا لرضى عنه ولا لبغض له ، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣) ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق

__________________

(١) المترفون الذين أعطاهم الله الترف وهو النعيم وسعة العيش في الدنيا وفي بناء المترفون للمجهول تعريض وتذكير لهم بالمنعم تعالى علهم يذكرون فيشكرون.

(٢) بسط الرزق تيسيره وتكثيره مأخوذ من بسط الثوب وهو نشره ليتسع لصاحبه وتقدير الرزق معناه إعطاؤه مقدّرا ، ويقابله ما يعطى بغير حساب.

(٣) مفعول (لا يَعْلَمُونَ) محذوف وقد ذكر في التفسير وهو أنهم لا يعلمون الحكمة فى بسط الرزق وتضييقه.

كتضييقه عائد إلى تربية الناس بالسراء والضراء امتحانا وابتلاء. وقوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التى تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي لكن من فعلوا الواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ) أي المذكورون لهم جزاء الضعف (١) ، أي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ، وذلك بسبب عملهم الصالحات (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتوننا لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.

فقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي) أي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريرا لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا لا حبا فيه ولا بغضا له. وإنما امتحانا له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وان كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه ، (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي لمن شاء من عباده ابتلاء له لا بغضا له ولا حبا فيه. وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه .. وقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ (٢) مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فان التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه. وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من انفق في سبيل الله شيئا أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء.

٢ ـ بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين ان ذلك من رضا الله تعالى عليهم.

__________________

(١) الضعف بمعنى المضاعف المكرر مرة وأكثر حتى يبلغ أضعافا مضاعفة إلى سبعمائة ضعف وهي سنة الانفاق في الجهاد.

(٢) من في قوله (مِنْ شَيْءٍ) بيانية وجملة فهو يخلفه جواب الشرط وجملة وهو خير الرازقين تذييل للكلام يحمل معنى الترغيب في الإنفاق في سبيل الله وفي الحديث الصحيح يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ، وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم اعط ممسكا تلفا «فى الصحيح».

٣ ـ بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض ، وانها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حبّ الله ولا على بغضه للعبد.

٤ ـ بيان ما يقرب الى الله ويدنى منه وهو الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد.

٥ ـ بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة.

٦ ـ بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالا.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

شرح الكلمات :

ويوم نحشرهم جميعا : أي واذكر يوم نحشرهم جميعا أي جميع المشركين.

(أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) : أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعا للمشركين وتوبيخا لهم.

(قالُوا سُبْحانَكَ) : أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديسا لك عن الشرك وتنزيها.

(أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) : أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم.

(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) : أي الشياطين التى كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملائكة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) : أي لا يملك المعبودون للعابدين.

(نَفْعاً وَلا ضَرًّا) : أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء أو الأولياء والصالحين.

(عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) : أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد. قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (١) أي المشركين (جَمِيعاً) فلم نبق منهم أحدا ، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريرا للمشركين وتأنيبا : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢) فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عنه الشرك فيقولون : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عن الشرك وتقديسا (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) (٣) أي الشياطين (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.

وقوله تعالى (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي يقال لهم هذا القول تيئيسا وإبلاسا أي قطعا لرجائهم في أن يشفعوا لهم. وقوله تعالى (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها. والعياذ بالله من عذاب النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير لعقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها.

٢ ـ أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين إنما كانوا يعبدون الشياطين إذ هى التى زينت لهم الشرك. أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلا عن أن يأمروهم به.

٣ ـ بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة.

__________________

(١) هذا الكلام متصل بما قبله وهو قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إذ السياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض أحوال أهل النار وما يجري لهم من أمور.

(٢) هذا كقوله تعالى (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟) وهو سؤال تقريع وتوبيخ لا للمسؤل ولكن لعابديه من الإنس والجن.

(٣) روى أن بني مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أن الجن تتراءى لهم وأنهم الملائكة وأنهم بنات الله ، وهو قوله تعالى في سورة الصافات «وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا».

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

شرح الكلمات :

(آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بيّنة الدلالة.

(قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ) : أي ما محمد الا رجل من الرجال.

(يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) : أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها آباؤكم من قبل.

(إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) : أي إلا كذب مختلق مزور.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) : أي ما هذا أي القرآن الا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر.

(مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) : أي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.

(وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) : أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم الى الشرك.

(وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) : أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات.

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة وإلا هلاك والجواب كان واقعا موقعه لم يخطئه بحال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم. قال تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي مشركي قريش وكفارها (آياتُنا بَيِّناتٍ) أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعو اليه من الحق وتندد به من الباطل. كان جوابهم أن قالوا : ما هذا إلّا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. أي ما محمد الا رجل أي ليس بملك يريد أن يصدكم أي يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان والأحجار. فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان ، إنه يصدهم حقا عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ) (١) أو كذب أفتراه أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإصلاح (إِنْ هذا) أي ما هذا إلا سحر مبين ، وذلك لما رأوا من تأثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزا.

بعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ) (٢) أي مشركي قريش (مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي اصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به ، (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنه لهم فهم على سنته ، اللهم لا ذا ولا ذاك. فكيف إذا هذا الإصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول (٣).

وقوله تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٤) أي من الأمم البائدة (وَما بَلَغُوا) أي ولم يبلغ

__________________

(١) ما هذا يعنون القرآن الكريم وكذا قولهم إن هذا إلا سحر فإنهم يعنون القرآن الكريم أيضا وإن بمعنى ما النافية والاسناد بعدها دال عليها.

(٢) الجملة حالية من ضمير قالوا ما هذا.

(٣) أي أنه ليس لهم ما يتثبتون به من أقل دليل وأدنى شبهه كما هي الحال عند أهل الكتاب إذ قالوا عندنا كتابنا وجاءتنا رسلنا أما المشركون فليس لهم من ذلك شيء.

(٤) في الآية تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيبهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم. التسلية في قوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والتهديد في (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) والفاء للتفريع أي في قوله فكذبوا رسلي.

هؤلاء من القوة معشار (١) ما كان لأولئك الأقوام الهالكين ، ومع ذلك أهلكناهم ، فكيف كان نكيرى أي كيف كان إنكارى عليهم الشرك وتكذيب رسلى كان بإبادتهم واستئصالهم. أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبوها بالتكذيب لرسوله والإصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم (إِنَّما (٢) أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بخصلة واحدة وهي أن تقوموا لله أي متجردين من الهوى والتعصب (مَثْنى) أي أثنين أثنين ، (وَفُرادى) أي واحدا واحدا ، ثم تتفكروا في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواقفه الخيّرة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقينا أنه ما بصاحبكم محمد من جنّة ولا جنون إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، أي ما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكرى.

٢ ـ ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر. (٣)

٣ ـ تقرير النبوة المحمدية واثباتها وذلك ينفى الجنّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات أنه نذير.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ

__________________

(١) المعشار العشر إذ هو الجزء العاشر كالمرباع الذي يعطي لقائد الكتبية من الغنائم وهو ربعها.

(٢) هذا انتقال من حكاية أقوال المشركين والرد عليهم إلى دعوتهم للانصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطأهم وهذا من باب الإعذار لهم في المجادلة ليهلك من يهلك عن بينة ويحيى من حيء عن بينة.

(٣) قال القرطبي : وقيل المعشار هو عشر العشير ، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء قال الماوردي وهو أظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل وما فسرت به الآية في التفسير أرجح وأوضح ، وإن أريد به ما اتى الله هذه الأمة من العلم والبيان فهذا المعنى صحيح غير أنه لا يتلاءم مع سياق الآيات.

سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) : أي يلقى بالوحي الحق إلى أنبيائه. ويقذف الباطل بالحق أيضا فيدمغه.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) : أي وما يبدى الباطل الذي هو الكفر ، وما يعيد أي إنه لا أثر له.

(فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) : أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) : أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه.

(إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) : أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا.

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيدون إنهم في الآخرة والإيمان في الدنيا.

(التناوش) التناول من مكان بعيد.

(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) : أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل.

(فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) : أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون الى شيء أبدا.

معنى الآيات :

لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى الى أمثل حل وهو أن يقوموا متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحدا واحدا لآن الجماعة من شأنها أن تخلتف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون انه ليس كما اتهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيرا لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجرا (١) (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي مطلع عليّ عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له. وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ (٢) بِالْحَقِ) أي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أي يلقى بالوحي على من يشاء من عباده (٣) (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي إليه والإرسال فيوحى إليه ويرسله كما أوحى إليّ وارسلني إليكم نذيرا وبشيرا. وقوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل لهم يا رسولنا جاء الحق وهو الإسلام الدين الحق ، فلم يبق للباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال ، وما يبدىء الباطل وما يعيد؟ أي أنه كما لا يبدىء لا يعيد فهو ذاهب لا أثر له أبدا وقوله : (قُلْ (٤) إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعو إليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم ، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحى إليك ربك من الهدى والنور (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإحسان بالإحسان وصاحب السوء بالسوء. وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي لرأيت أمرا قطعيا يقول تعالى لرسوله ولو ترى (٥) إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أخذوا من مكان قريب والقوا في جهنم لرأيت أمرا فظيعا في غاية الفظاعة. وقوله (فَلا فَوْتَ

__________________

(١) أي جعلا على تبليغ الرسالة فإن سألتكموه فهو لكم.

(٢) جائز أن يكون المعنى يقذف الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زهق كذا روي عن ابن عباس وقال قتادة بالحق أي بالوحي وعنه أن الحق القرآن والكل صحيح وما في التفسير أقرب وأوضح.

(٣) (عَلَّامُ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والغيوب جمع غيب وقرأ الجمهور بضم الغين وكسرها بعضهم كبيوت إذ يجوز لها الضم والكسر والآية فيها معنى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وفيها رد على المعترضين على الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) لما أفحمهم في الآيات السابقة وقطع طريق الاستدلال عليهم وتركهم في غيهم حيارى أمر رسوله أن يقول لهم تاركا جدالهم لعدم الفائدة منه بعد وضوح الحق (إِنْ ضَلَلْتُ) الآية فعل هذا إنهاء لجدل عقيم.

(٥) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل ذي أهلية وجواب لو محذوف كأن اللفظ لا يقدر على تصويره على حقيقته لفظاعته وهو كذلك.

لهم لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته. وقوله تعالى : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) (١) أي قالوا بعد ما بعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله ، قال تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ (٢) التَّناوُشُ) أي التناول للإيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جدا ولن يكون أبدا (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي لا سيما وأنهم قد عرض عليهم الإيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن. وقوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ (٣) مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم إليه وأخيرا قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) وهو الإيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم (٤) أي أشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم إيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم ، وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥) أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب أي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الله تعالى ينبغى أن لا يأخذ الداعى عليها أجرا ، ويحتسب أجره على الله عزوجل.

٢ ـ بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد إذ ما هو إلّا سنيّات والإسلام ضارب بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإسلام.

٣ ـ الإيمان الاضطرارى لا ينفع صاحبه كإيمان من رأى العذاب.

٤ ـ الشك كفر ولا إيمان مع رؤية العذاب.

__________________

(١) صالح أن يكون الضمير للوعيد أو ليوم البعث أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن إذ الكل واجب الإيمان وقد كفروا بالكل وكذبوا.

(٢) (أَنَّى) استفهام عن المكان وهو مستعمل هنا للإنكار والتناوش التناول السهل وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه قال الشاعر :

باتت تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا

أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.

(٣) القذف الرمي باليد من بعد ويستعار للقول بدون تروّ ولا دليل وهو كقولهم في الأصنام هم شفعاؤنا عند الله وكتكذيبهم بالبعث والتوحيد والنبوة.

(٤) الأشياع : المتشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين وأصل المشايعة المتابعة في العمل.

(٥) هذه الجملة تعليلية لكل ما سبق في تكذيبهم وعنادهم وجهلهم وضلالهم إذ الشك وعدم اليقين هو الذي يوقع صاحبه في أودية الضلال والباطل.

سورة فاطر

مكية

وآياتها خمس وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما على غير مثال سابق.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) : أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه‌السلام.

(أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أي ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر.

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح.

(وَما يُمْسِكْ) : أي الله من الرحمة فلا أحد يرسلها غيره سبحانه وتعالى.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.

(اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي اذكروا نعمه تعالى عليكم في خلقكم ورزقكم وتأمينكم في حرمكم.

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) : أي لا خالق لكم غير الله ولا رازق لكم يرزقكم.

(مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) : أي بإنزال المطر من السماء وإنبات الزروع في الأرض.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا هو إذا فاعبدوه ووحدوه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف تصرفون عن توحيده مع اعترافكم بأنه وحده الخالق الرازق.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقا ، والكلام خرج مخرج الخبر ومعناه الإنشاء أي قولوا الحمد لله. واشكروه كما هو أيضا إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده. فطره السموات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما. وجعله الملائكة (٢) رسلا إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإلهام والرؤيا الصالحة. وقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ) صفة للملائكة أي أصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين ، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة ورباع أي أربعة أربعة. وقوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ) أي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه‌السلام ستمائة جناح كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحاح ويزيد في خلق (٣) ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير.

وقوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ (٤) فَلا مُمْسِكَ لَها) يخبر تعالى أن مفاتيح كل شيء بيده فما يفتح للناس من أرزاق وخيرات وبركات لا يمكن لأحد من خلقه أن يمسكها دونه وما يمسك من ذلك فلا يستطيع أحد من خلقه أن يرسله ، وهو وحده العزيز الغالب على أمره ومراده فلا مانع لما أعطى ولا راد لما قضى الحكيم في صنعه وتدبير خلقه. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) هذا نداؤه تعالى لأهل مكة من قريش يأمرهم (٥) بعده بأن يذكروا نعمه تعالى عليهم حيث خلقهم ووسع أرزاقهم وجعل لهم حرما آمنا والناس يتخطفون من

__________________

(١) يصح في (فاطِرِ) الجر على النعت والرفع على القطع أي هو فاطر والنصب على المدح أي أمدح فاطر ، والفطر : الشق يقال فطرته فانفطر وتفطر ، وفطر ناب البعير إذا شق اللحم وطلع ، والفاطر : الخالق ، قال ابن عباس كنت لا أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها والمراد بالسموات والأرض العالم كله.

(٢) المراد بالملائكة جبريل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل «ملك الموت» وما شاء الله.

(٣) جائز أن يكون في ملاحة العين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم ، وفي الصوت الحسن والشعر الحسن والحظ الحسن كل هذا مذكور وداخل في العبارة فإنها عامة.

(٤) لفظ الرحمة نكرة دال على الكثرة والشيوع فهو يتناول كل ما هو رحمة من النبوة والعلم إلى المطر والرزق إلى النصر والفوز.

(٥) أي بعد أن ناداهم أمرهم بأن يذكروا نعمه عليهم إذ نداء المأمور يلفت نظره ويحضر حواسه لاستقبال ما يلقى إليه ويؤمر به أو يحذر منه.

حولهم خائفون يأمرهم بذكر نعمه لأنهم إذا ذكروها شكروها بالإيمان به وتوحيده. وقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) والجواب لا أحد إذ لا خالق إلا هو ولا رازق سواه فهو الذي خلقهم ومن السماء والأرض رزقهم. السماء تمطر والأرض تنبت بأمره. إذا فلا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو فكيف إذا تصرفون عن الحق بعد معرفته إن حالكم لعجب. هذا ما دل علي قوله تعالى (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ (١) اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه.

٢ ـ تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلا.

٣ ـ وجوب اللجوء الى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر فإنه بيده خزائن كل شيء.

٤ ـ وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزا على شكرها بطاعة الله ورسوله.

٥ ـ تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد.

٦ ـ العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

__________________

(١) قرىء غير الله بالجر وقرأ الجمهور (غَيْرُ) بالرفع على محل خالق المرفوع محلا في الآية دليل أن الخير والشر كلاهما من خلق الله تعالى.

شرح الكلمات :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) : أي يا رسولنا فيما جئت به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء ولم يؤمنوا بك.

(فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) : أي فلست وحدك كذبت إذا فلا تأس ولا تحزن واصبر كما صبر من قبلك.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) : وسوف يجزى المكذبين بتكذيبهم والصابرين بصبرهم.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) : أي ولا يغرنكم بالله أي في حلمه وإمهاله الغرور أي الشيطان.

(فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) : أي فلا تطيعوه ولا تقبلوا ما يغركم به واطيعوا ربكم عزوجل.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) : أي أتباعه في الباطل والكفر والشر والفساد.

(لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) : أي ليؤول أمرهم إلى أن يكونوا من أصحاب النار المستعرة.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الجنة وذلك لإيمانهم وعملهم الصالحات.

معنى الآيات :

لما أقام تعالى الحجة على المشركين في الآيات السابقة قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) (١) بعد ما أقمت عليهم الحجة فلست وحدك المكذّب فقد كذبت قبلك رسل كثيرون جاءوا أقوامهم بالبينات والزبر وصبروا إذا فاصبر كما صبروا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ (٢) الْأُمُورُ) وسوف يقضى بينك وبينهم بالحق فينصرك في الدنيا ويخذلهم ، ويرحمك في الآخرة ويعذبهم.

وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي يا أهل مكة وكل مغرور من الناس بالحياة الدنيا إعلموا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا بطول أعماركم وصحة أبدانكم وسعة أرزاقكم ، فإن ذلك زائل عنكم لا محالة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي حلمه وإمهاله (الْغَرُورُ) (٣) وهو الشيطان حيث يتخذ من حلم الله تعالى عليكم وامهاله لكم طريقا إلى إغوائكم وإفسادكم بما يحملكم عليه من تأخير التوبة والإصرار على المعاصى ، والاستمرار عليها (إِنَّ الشَّيْطانَ

__________________

(١) في هذه الآية تعزية الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته له بالتأسي بمن قبله من الرسل وتكذيب أممهم لهم.

(٢) قرأ الجمهور (تُرْجَعُ) بضم التاء وقرأ بعض بفتحها والكل صحيح ومآل المعنى واحد.

(٣) الغرور بالضم مصدر غره يغره غرورا ، وبالفتح الشيطان وهو المراد هنا وصيغته من صيغ المبالغة «فعول» إذ هو كثير الغرور يأتيهم من حيث حلم الله وإمهاله فيصرفهم عن الحق مغررا إياهم بأنهم لو كانوا على باطل لأهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم ، ويسوّف آخرين بحلم الله فيصرفهم عن التوبة.

لَكُمْ عَدُوٌّ) (١) بالغ العداوة ظاهرها فاتخذوه أنتم عدوا كذلك فلا تطيعوه ولا تستجيبوا لندائه ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة ، إنه يريد أن تكونوا معه في الجحيم. إذ هو محكوم عليه بها أزلا وقوله تعالى : (الَّذِينَ (٢) كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي في الآخرة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. هذا حكم الله في عباده وقراره فيهم : وهم فريقان مؤمن صالح وكافر فاسد ولكل جزاء عادل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيها كل دعاة الحق إذا كذّبوا وأوذوا فعليهم أن يصبروا.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء المتضمن له وعد الله الحق.

٣ ـ التحذير من الاغترار بالدنيا أي من طول العمر وسعة الرزق وسلامة البدن.

٤ ـ التحذير من الشيطان ووجوب الاعتراف بعداوته ومعاملته معاملة العدو فلا يقبل كلامه ولا يستجاب لندائه ولا يخدع بتزيينه للقبيح والشر.

٥ ـ بيان جزاء أولياء الرحمن أعداء الشيطان ، وجزاء أعداء الرحمن أولياء الشيطان.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً

__________________

(١) يكفي في إثبات عداوته أنه أخرج أبوينا من الجنة ، وأنه تعهد بإضلالهم وإغوائهم كقوله لأغوينهم أجمعين وقوله ولأضلنهم ولأمنينهم.

(٢) (الَّذِينَ كَفَرُوا) : الجملة مستأنفة بيانيا لأنه بعد التحذير من طاعة الشيطان يلوح في الأذهان سؤال : ما جزاء من أطاع الشيطان وما جزاء من عصاه؟ فالجواب الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ويرى بعضهم أنها ابتدائية ذكرت فذلكة لما تقدم من الكلام.

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) : أي قبيح عمله من الشرك والمعاصى.

(فَرَآهُ حَسَناً) : أي رآه حسنا زينا لا قبح فيه.

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ) : أي على أولئك الذين زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم.

(حَسَراتٍ) : أي لا تهلك نفسك بالتحسر عليهم لكفرهم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) : وسيجزيهم بصنيعهم الباطل.

(فَتُثِيرُ سَحاباً) : أي تزعجه وتحركه بشدة فيجتمع ويسير.

(فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) : أي لا نبات به.

(فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) : أي بالنبات والعشب والكلأ والزرع.

(كَذلِكَ النُّشُورُ) : أي البعث والحياة الثانية.

(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : أي فليطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : أي الى الله تعالى يصعد الكلم الطيب وهو سبحان الله والحمد لله والله أكبر.

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) : أي أداء الفرائض وفعل النوافل يرفع الى الله الكلم الطيب.

(يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) : أي يعملونها ويكسبونها.

(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) : أي عملهم هو الذي يفسد ويبطل.

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : أي أصلكم وهو آدم.

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من ماء الرجل وماء المرأة وذلك كل ذريّة آدم.

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) : أي ذكرا وأنثى.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) : أي ما تحمل من جنين ولا تضعه إلا بإذنه.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) : أي وما يطول من عمر ذي عمر طويل إلا في كتاب.

(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) : أي بأن يجعل أقل وأقصر من العمر الطويل الا في كتاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقوية روح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشد من عزمه أمام تقلبات المشركين وعنادهم ومكرهم فقال تعالى : (أَفَمَنْ (١) زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (٢) أي أفمن زين له الشيطان ونفسه وهواه قبيح عمله وهو الشرك والمعاصى فرآه حسنا كمن هداه الله فهو على نور من ربّه يرى الحسنة حسنة والسيئة سيئة والجواب : لا ، لا. وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يضل بعدله وحسب سننه في الإضلال من يشاء من عباده ، ويهدى بفضله من يشاء هدايته إذا فلا تذهب (٣) نفسك أيها الرسول على عدم هدايتهم حسرات فتهلك نفسك تحسّرا على عدم هدايتهم. وقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلذا لا داعى إلى الحزن والغمّ ما دام الله تعالى وهو ربهم قد أحصى أعمالهم وسيجزيهم بها وقوله تعالى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تزعجه وتحركه. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) (٤) أي لا نبات ولا زرع به (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها كذلك يحيي الموتى إذ بعد فناء العالم ينزل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت الإنسان من عظم يقال له عجب الذّنب فيتم خلقه ، ثم يرسل الله تعالى الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فلا تخطىء روح جسدها. وهكذا كما تتم عملية إحياء الأرض بالنبات تتم عملية إحياء الأموات ويساقون إلى المحشر ويجزى كل نفس بما كسبت والله سريع الحساب.

__________________

(١) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) والمزين الشيطان والمزين له سوء عمله (من) الموصولية وهي من ألفاظ العموم تتناول من قيل ان الآية نزلت فيه وهو أبو جهل ثم هي صادقه على كل من زين له الشيطان الشرك والشر والفساد فرآها حسنة ، (ومن) مبتدأ والخبر محذوف قد يقدر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقد يقدر كمن هداه الله كما في التفسير وقد يقدر بغير ما ذكر.

(٢) ذكر القرطبي لأهل العلم أقوالا فيمن زين له سوء عمله وفي عمله الذي زين له قيل إنهم اليهود والنصارى والمجوس وسوء عمله معاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل إنهم الخوارج وسوء عمله تحريف التأويل وقيل الشيطان وعمله الإغراء وقيل كفار قريش وهو الظاهر.

(٣) قرأ الجمهور فلا تذهب نفسك بفتح التاء ورفع السين من نفسك وقرىء بضم التاء ونصب نفسك على أنها مفعول به.

(٤) الراجح من الأقوال لغة أن ميت مشددة وميت مخفف لا فرق بينهما وشاهده قول الشاعر :

ليس من مات واستراح بميت

إنما الميت ميّت الأحياء

وقوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) فليطلبها من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله فإن العزة لله جميعا فالعزيز من أعزه الله والذليل من أذله ، إنهم كانوا يطلبون العزة بالأصنام فاعلموا أن من يريد العزة فليطلبها من مالكها أما الذي لا يملك العزة فكيف يعطيها لغيره إن فاقد الشيء لا يعطيه. وقوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الى الله تعالى فإذا كان قول بدون عمل فإنه لا يرفع الى الله تعالى ولا يثيب عليه ، وقد ندد الله تعالى بالذين يقولون ولا يعملون فقال (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). وقوله (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملونها وهي الشرك والمعاصى (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هذا جزاؤهم ، (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ (١) يَبُورُ) أي ومكر الذين يعملون السيئات (هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويبطل.

وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أصلنا من تراب وهو آدم ، ثم خلقنا نحن ذريته من نطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة ، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى. هذه مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وتوحيده والمقتضية للبعث والجزاء ، وقوله (وَما تَحْمِلُ مِنْ (٢) أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي يزاد في عمره ، ولا ينقص من عمره فلا يزاد فيه إلا في كتاب وهو كتاب المقادير. هذا مظهر من مظاهر العلم ، وبالعلم والقدرة هو قادر على إحياء الموتى وبعث الناس للحساب والجزاء. ولذا قال تعالى (إِنَّ ذلِكَ) أي المذكور من الخلق والتدبير ووجوده في كتاب المقادير على الله يسير أي سهل لا صعوبة فيه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من اتباع الهوى والاستجابة للشيطان فان ذلك يؤدى بالعبد الى أن يصبح يرى الأعمال القبيحة حسنة ويومها يحرم هداية الله فلا يهتدى أبدا وهذا ينتج عن الإدمان على المعاصى والذنوب.

٢ ـ عملية إحياء الأرض بعد موتها دليل واضح على بعث الناس أحياء بعد موتهم.

__________________

(١) المكر : تدبير الحاق الضرر بالغير في خفية. والمراد هنا أن الذين يمكرون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين مكرهم يذهب سدى ولا يفلحون فيه كما أن الآية تشير إلى أن كل من يمكر مكر السوء فإن عاقبة مكره تعود عليه وبالا وخسرانا كقوله تعالى ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

(٢) فما يكون حمل ولا وضع أي ولادة إلا بعلمه ، فلا يخرج شيء عن تدبيره وحكمته وما يعمر سماه معمرا باعتبار ما هو صائر إليه وفي الحديث الصحيح : من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره أي أجله فليصل رحمه.

٣ ـ مطلب العزة مطلب غال ، وهو طاعة الله ورسوله ولا يعز أحد عزا حقيقيا بدون طاعة الله ورسوله.

٤ ـ علم الله المتجلى في الخلق والتدبير يضاف إليه قدرته تعالى التى لا يعجزها شيء بهما يتم الخلق والبعث والجزاء.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء وتقرير كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

شرح الكلمات :

(عَذْبٌ فُراتٌ) : أي شديد العذوبة.

(وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) : أي شديد الملوحة.

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) : أي ومن كل منهما.

(لَحْماً طَرِيًّا) : أي السمك.

(حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : أي اللؤلؤ والمرجان.

(مَواخِرَ) : أي تمخر الماء وتشقه عند جريانها في البحر.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتطلبوا الرزق بالتجارة من فضل الله تعالى.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي رجاء أن تشكروا الله تعالى على ما رزقكم.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل الليل في النهار فيزيد.

(وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : أي يدخل النهار في الليل فيزيد.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما.

(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي في فلكه إلى يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) : أي تعبدون بالدعاء وغيره من العبادات وهم الأصنام.

(ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) : أي من لفافة النواة التي تكون عليه وهى بيضاء رقيقة.

(وَلَوْ سَمِعُوا) : أي فرضا ما استجابوا لكم.

(يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) : أي يتبرأون منكم ومن عبادتكم إياهم.

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) : أي لا ينبئك أي بأحوال الدارين مثلى فإني خبير بذلك عليم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمة تدبيره لخلقه وهي مظاهر موجبة لله العبادة وحده دون غيره ، ومقتضية للبعث الذي أنكره المشركون قال تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) أي لا يتعادلان. (هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ (١) شَرابُهُ) أي ماؤه عذب شديد العذوبة (وَهذا مِلْحٌ (٢) أُجاجٌ) أي ماؤه شديد الملوحة لمرارته مع ملوحته ، فهل يستوي الحق والباطل هل تستوي عبادة الأصنام مع عبادة الرحمن؟ والجواب لا. وقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) أي ومن كل من البحرين العذب والملح تأكلون لحما طريا وهو السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي اللؤلؤ والمرجان. وهي حلية يتحلى بها النساء للرجال ، وقوله (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي وترى أيها السامع لهذا الخطاب (الْفُلْكَ) أي السفن مواخر في البحر تمخر عباب البحر وتشق ماءه غادية رائحة تحمل الرجال والأموال ، سخرها وسخر البحر (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي الرزق بالتجارة ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي سخر لكم البحر لتبتغوا من فضله ورجاء أن تشكروا. لم يقل لتشكروا كما قال

__________________

(١) معنى سائغ شرابه أن شربه لا يكلف النفس كراهة وهو مشتق من الإساغة وهو استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة قال الشاعر :

فساغ لى الشراب وكنت قبلا

أكاد أغص بالماء الفرات

(٢) المالح من الطعام والشراب : هو الذي يجعل فيه الملح والملح بكسر الميم وسكون اللام الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء الملح فيه والأجاج الشديد الملوحة.

لتبتغوا لأن الابتغاء حاصل من كل راكب ، وأما الشكر فليس كذلك بل من الناس من يشكر ومنهم من لا يشكر ، ولذا جاء بأداة الرجاء وهي لعل وقوله (يُولِجُ اللَّيْلَ (١) فِي النَّهارِ) أي يدخل جزءا من الليل في النهار فيطول ، ويقصر الليل (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل جزءا منه في الليل فيطول كما أنه يدخل النهار في الليل ، والليل في لنهار بالكلية فإنه إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ويشهد له قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ولازمه والنهار نسلخ منه الليل ، فإذا الليل ليل والنهار نهار.

وقوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما فما يسيران الدهر كله بلا كلل ولا ملل لصالح العباد إذ بهما كان الليل والنهار ، وبهما تعرف السنون والحساب وقوله (كُلٌّ يَجْرِي) أي كل منهما يجرى (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت محدد وهو يوم القيامة. ولما عرف تعالى نفسه بمظاهر القدرة قدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته قال للناس (ذلِكُمُ (٢) اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي بعد أن أقام الحجة وأظهر الدليل لم يبق الا الإعلان عن الحقيقة التي يتنكر لها الكافرون فأعلنها بقوله (ذلِكُمُ) ذو الصفات العظام والجلال والإكرام هو الله ربكم الذي لا رب لكم سواه له الملك ، وليس لغيره فلا يصح طلب شيء من غيره ، إذ الملك كله لله وحده ، وأما الذين تدعون من دونه أي تعبدونهم من دونه وهي الأصنام والأوثان وغيرها من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنهم لا يملكون من قطمير فضلا عن غيره تمرة فما فوقها لأن الذي لا يملك قطميرا ـ وهو القشرة الرقيقة على النواة (٣) ـ لا يملك بعيرا.

وقوله (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) نعم لا يسمعون لأنهم جمادات وأصنام من حجارة فكيف يسمعون وعلى فرض لو أنهم سمعوا ما استجابوا لداعيهم لعدم قدرتهم على الاستجابة. وقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) فهم إذا محنة لكم في الدنيا تنحتونهم وتحمونهم وتعبدونهم ويوم القيامة يكونون أعداء لكم وخصوما فيتبرءون من شرككم إياهم في عبادة الله ، فتقوم عليكم الحجة بسببهم فما الحاجة إذا إلى الإصرار على عبادتهم وحمايتهم والدفاع عنهم. وقوله تعالى (وَلا يُنَبِّئُكَ) أيها السامع (مِثْلُ خَبِيرٍ) (٤) وهو الله تعالى فالخبير أصدق من ينبىء

__________________

(١) هذا استدلال بمظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة بما في العالم العلوي بعد الاستدلال بما في العالم السفلي من ذلك.

(٢) هذا استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة السابقة وهي أدلة مفصلة في غاية القوة والوضوح.

(٣) جاء في القرآن ذكر النقير والقطمير والفتيل واضطربت أقوال أهل اللغة في تحديدها والصحيح : ان النقير النقرة في وسط النواة ، وأن الفتيل الخيط الأبيض في وسط النواة ، وأن القطمير اللفافة البيضاء على النواة.

(٤) خبير صفة مشبهة مشتقة من خبر بضم الياء فلان الأمر إذا علمه علما لا شك فيه وأجريت هذه الجملة مجرى المثل يقال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

وأصح من يقول فالله هو العليم الخبير وما أخبر به عن الآلهة في الدنيا والآخرة في الدنيا عن عجزها وعدم غناها وفي الآخرة عن براءتها وكفرها بعبادة عابديها. فهو الحق الذي لا مرية فيه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله المستلزمة لألوهيته.

٢ ـ بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها.

٤ ـ بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة.

٥ ـ تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم ، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

شرح الكلمات :

(أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) : أي المحتاجون إليه في كل حال.

(وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) : أي الغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه ، المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره فكل الخلائق تحمده لحاجتها إليه وغناه عنها.

(وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي بدلا عنكم.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) : أي بشديد ممتنع بل هو سهل جائز الوقوع.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي في حكم الله وقضائه بين عباده أنّ النفس المذنبة الحاملة لذنبها لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) : أي بأوزارها حتى لم تقدر على المشي أو الحركة.

(لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) : أي لا تجد من يستجيب لها ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم ، بهذا حكم الله سبحانه وتعالى.

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي لأنهم ما رأواه بأعينهم.

(وَمَنْ تَزَكَّى) : أي طهّر نفسه من الشرك والمعاصي.

(فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) : أي صلاحه واستقامته على دين الله ثمرتهما عائدة عليه.

معنى الآيات :

بعد تلك الأدلة والحجج التي سبقت في الآيات السابقة وكلها مقررة ربوبية الله تعالى وألوهيته وموجبة توحيده وعبادته نادى تعالى الناس بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ليعلمهم بأنه وان خلقهم لعبادته وأمرهم بها وتوعد بأليم العذاب لمن تركها ولم يكن ذلك لفقر منه إليها ولا لحاجة به إليهم فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى) (١) (اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) إن عبادة الناس لربّهم تعود عليهم فيكملون عليها في أخلاقهم وأرواحهم ويسعدون عليها في دنياهم وآخرتهم أما الله جل جلاله فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. وهو الغنى عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أي المحمود بنعمه فكل نعمة بالعباد موجبة له الحمد والشكر. وقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ (٢) بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا دليل غناه ؛ وافتقارهم كما هو دليل قدرته وعلمه ، وقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي إذهابهم والإتيان بخلق جديد غيرهم ليس بالأمر العزيز الممتنع ولا بالصعب المتعذر بل هو اليسير السهل عليه تعالى.

__________________

(١) في قوله تعالى (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الفقر على الناس وهو قصر إضافي بالنسبة إلى الله تعالى أي انتم المفتقرون إلى الله وليس هو بمفتقر إليكم ووصفه تعالى نفسه بالحميد إشعار بأن غناه مقترن بجوده فهو يحمد لما يسديه من المعروف إلى عباده.

(٢) الجملة بيانية فهي مبنية لغناه وموجب حمده والثناء عليه ببيان قدرته على إعلام الموجود من عباده والإتيان بخلق جديد غيرهم ومن كان هكذا هو الغني الحق والمحمود الحق فلله الحمد وله المنة.

وقوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) هذا مظهر عدالته تعالى فهو مع قدرته وقهره لعباده ذو عدل فيهم فلا يؤاخذ بغير جرم ، ولا يحمل وزر نفس نفسا أخرى لم تذنب ولم تزر بل كل نفس تؤخذ بذنبها إن كانت مذنبة هذه عدالته تتجلى لعباده يوم يعرضون عليه في يوم كله هول وفزع يدل عليه قوله (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) (٢) أي بذنوبها (إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ) (٣) من تدعوه (ذا قُرْبى) كالولد (٤) والبنت. وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ (٥) يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي انما تنذر يا رسولنا ويقبل إنذارك وينتفع به من يخشون ربهم ويخافون عذابه بالغيب وأقاموا الصلاة ، أما غيرهم من أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم لا يقبلون إنذارك ولا ينتفعون به لظلمة جهلهم وكفرهم وقساوة قلوبهم ، ومع هذا فأنذر ولا عليك في ذلك شيء فإن من تزكّى بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي فإنما يتزكّى لنفسه لا لك ولا لنا ، ومن أبى فعليه إباؤه ، وإلينا مصير الكل وسنجزى كلا بما كسب من خير وشر. هذا ما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٦)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فقر العباد الى ربهم وحاجتهم إليه وإزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والاطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه.

٢ ـ بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة.

٣ ـ بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال.

__________________

(١) (وازِرَةٌ) صفة لمحذوف أي نفس وازرة وكذا وإن تدع مثقلة أي نفس مثقلة وتزر أصلها توزر فحذفت الواو تخفيفا إذ الفعل وزر يوزر فحذفت الواو كما حذفت في وعد يعد ووزن يزن.

(٢) (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي أحدا إلى حملها.

(٣) أي المدعو ذا قربى.

(٤) قال الفضيل بن عياض هي المرأة تلقى ولدها فتقول يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن ثدي لك سقاء ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول بلى يا أماه فتقول يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا ، فيقول إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول.

(٥) الجملة مستأنفة بيانيا لأن الحال تستدعي سؤالا وهو لم لم يتأثر المشركون بالإنذار فالجواب إنما يقبل النذارة ويستجيب للمنذر أهل الإيمان والخشية لله تعالى لأنهم أحياء وأما الكافرون فهم أموات وهل يستجيب غير الحي؟ وفي الآية دليل على قوة تأثير الصلاة في تزكية النفوس وتطهير الأرواح.

(٦) هذه الجملة تذييل للجملة المذيل بها قبلها وهي قوله تعالى : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) وهي تفيد تقرير البعث والجزاء وهما مما ينكر المشركون كما تفيد التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتهديد للكافرين أيضا فإن من صار إلى الله أخذه بذنبه.

٤ ـ بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.

٦ ـ تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

شرح الكلمات :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : أي لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) : أي لا يستويان فكذلك الكفر والإيمان لا يستويان.

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) : أي لا يستويان فكذلك الجنة والنار لا يستويان.

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) : فكذلك لا يستوى المؤمنون والكافرون.

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) : أي فكذلك لا تسمع الكفار فإنهم كالأموات.

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) : ما أنت إلا منذر فلا تملك أكثر من الإنذار.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) : أي بالدين الحق والهدى والكتاب.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) : أي سلف فيها نبيّ ينذرها.

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والأدلة الواضحة.

(وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : أي وبالصحف كصحف ابراهيم وبالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب هو واقع موقعه والحمد لله.

معنى الآيات :

لمّا تقدم في السياق الكريم أن إنذار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينتفع به إلا المؤمن المقيم للصلاة وإن الكافر المكذب الجاحد لا ينتفع به ذكر تعالى هنا مثلا للكافر والمؤمن وانهما لا يستويان فقال (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١) فالأعمى الكافر والبصير المؤمن وهما لا يستويان في عقل ولا شرع (وَلَا الظُّلُماتُ (٢) وَلَا النُّورُ) أي ولا تستوى الظلمات ولا النور كما لا يستوى الكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٣) ، فبرودة الجو ، لا تستوى مع حرارته فكذلك الجنّة لا تستوى مع النار ، وقوله (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي ولا المؤمنون مع الكافرين كذلك وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٤) هذا شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل ما يجد في نفسه من إعراض قومه وعدم استجابتهم لدعوته ، فأخبره ربه بأنه تعالى قادر على أن يسمع من يشاء إسماعه وذلك لقدرته على خلقه أما أنت أيها الرسول فإنك لا تسمع الأموات وانما تسمع الأحياء ، والكفار شأنهم شأن الأموات في القبور فلا تقدر على اسماعهم. ولا يحزنك ذلك فإنك ما أنت إلا نذير ، والنذير ينذر ولا يسأل عمن أجابه ومن لم يجبه.

وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) بهذا الخبر يقرر تعالى رسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا لمن آمن به واتبع هداه بالجنة ، ونذيرا لمن كفر به وعصاه

__________________

(١) قال القرطبي الكافر والمؤمن والعالم والجاهل.

(٢) قيل لا زائدة في كل من قوله تعالى ولا الظل ولا الحرور ولا الأموات واختلف في أيهما يكون بالليل وأيهما يكون بالنهار الحرور أو السموم وفي حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان ذلك وأن كلاهما يقع في النهار كما يقع في الليل إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها.

(٣) قال قطرب أحد أعلام اللغة : الحرور : الحر والظل البرد.

(٤) قرأ الجمهور بتنوين بمسمع وقرىء بمسمع بكسرة واحدة والمراد بمن في القبور الكفار حيث أمات الكفر قلوبهم أي كما لا تسمع من مات فإنك لا تسمع من مات قلبه بالجهل وظلمة الكفر.

بالنار. وقوله (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) ، يخبر تعالى أن رسوله محمدا ليس الرسول الوحيد الذي أرسل في أمة بل إنه ما من أمة من الأمم الا مضى فيها نذير ، فلا يكون إرساله عجبا لكفار قريش إذ هذه سنة الله تعالى في عباده يرسل إليهم من يهديهم إلى نجاتهم وسعادتهم ثم قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معزيا له مسليا (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) فلم (٢) يكونوا أول من كذب فقد كذب الذين من قبلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي جاءتهم رسلهم بالحجج القواطع والبراهين السواطع ، والمعجزات الخوارق ، وبالصحف والكتب المنيرة لسبيل الهداية وطريق النجاة والفلاح. ومنهم من آمن ومنهم من كذب وكفر وبعد إمهال وإنظار دلّ عليه العطف بثم أخذ الذين كفروا بعذاب ملائم لكفر الكافرين. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٣) أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة الشديدة والإهلاك التام إنه كان واقعا موقعه ، موافيا لطالبه بكفره وعناده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال للكشف عن الحال وزيادة البيان.

٢ ـ الكفار عمى لا بصيرة لهم ، وأموات لا حياة فيهم ، والدليل عدم انتفاعهم بحياتهم ولا بأسماعهم ولا أبصارهم.

٣ ـ تقرير نبوّة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيد رسالته.

٤ ـ تسلية الدعاة ليتدرّعوا بالصبر ويلتزموا الثبات.

٥ ـ بيان سنة الله في المكذبين الكافرين وهي أخذهم عند حلول أجلهم.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ

__________________

(١) أي سلف فيها نبي قال ابن جريج إلا العرب إذ أراد أنه لم يخل فيهم نذير مطلقا فهذا غير صحيح إذ بعث فيهم إسماعيل وتبع وغيرهما وإن أراد في الزمن القريب فهذا صحيح.

(٢) في الآيات تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرة تطلبها المقام حيث أصر المشركون على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به من الهدى والدين الحق.

(٣) استفهام مستعمل في التعجب من حالهم مفرع بالفاء على قوله أخذت الذين كفروا والنكير اسم لشدة الإنكار وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب وحذفت ياء المتكلم في نكيري تخفيفا ولرعاية الفواصل في الوقف.

إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

شرح الكلمات :

(ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) : أي كأحمر وأخضر وأصفر وأزرق وغيره.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) : أي طرق في الجبال إذ الجدة الطريق ومنه جادة الطريق.

بيض وحمر مختلف ألوانه : أي طرق وخطط في الجبال ذات ألوان كالجبال أيضا.

(وَغَرابِيبُ سُودٌ) (١) : منها الأبيض والأصفر والأسود الغربيب.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) : فمنها أبيض وهذا أحمر وهذا أسود.

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) : أي كاختلاف الثمار والجبال والطرق فيها.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : أي العالمين بجلاله وكماله ، إذ الخشية متوقفة على معرفة المخشيّ.

(يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) : أي يقرأونه تعبدا به.

(تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) : أي لن تهلك ولن تضيع بدون ثواب عليها.

(غَفُورٌ شَكُورٌ) : أي غفور لذنوب عباده التائبين شكور لأعمالهم الصالحة.

معنى الآيات :

هذا السياق الكريم (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٢) في بيان تفاوت المخلوقات واختلافاتها فمن مؤمن إلى كافر ، ومن صالح إلى فاسد ومن أبيض إلى أحمر أو أسود وابتدأه تعالى بخطاب رسوله مقررا له بقوله (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تبصر بعينك أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ما بين تمر أصفر وآخر أحمر ، وآخر أسود وهذا واضح في التمر

__________________

(١) الغربيب : الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير إذ المعنى ومن الجبال سود غرابيب إذ العرب تقول للأسود شديد السواد كلون الغراب أسود غربيب.

(٢) من هداية هذه الآية الإشارة الواضحة إلى وجود اختلاف بشرى جبلّي فطري كما هو في سائر الكائنات الأرضية ، وفي النباتات والحيوانات وحتى الجبال والمعادن ومن عرف هذا هان عليه اختلاف الناس ولم يحزن له ولم يهتم ويكرب.

والعنب والفواكه والخضر ، ومن الجبال كذلك. فإن فيها جدد (١) أي خطط حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء والجبال نفسها كذلك ، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) ففي جميعها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر كما في جدد الجبال نفسها وكما في الثمار. ولما كان هذا لا يدركه إلا المفكرون ولا يجنى منه العبرة إلا العالمون قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى) (٢) (اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وأهل مكة جهال لا يفكرون ولا يهتدون فلا غرابة إذا لم يخشوا الله تعالى ولم يوحدوه وذلك لجهلهم وعدم تفكيرهم.

وقوله تعالى في ختام السياق : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٣) كشف عن حقيقة ينبغى أن يعرفها أهل مكة المصرون على الكفر والتكذيب وهي أن الله قادر على أخذهم والبطش بهم فإنه عزيز لا يمانع فيما يريده وغفور لذنوب التائبين من عباده ومهما كانت ذنوبهم الا فليتب أهل مكة فإن توبتهم خير لهم من إصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب إذ في التوبة نجاة ، وفى الإصرار هلاك.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) (٤) وهم المؤمنون (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أدوها أداء وافيا لا نقص فيه (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) الزكاة والصدقات بحسب الأحوال والظروف سرا أحيانا وعلانية أحيانا أخرى. يخبر تعالى عنهم بعد ما وصفهم بما شرفهم به من صفات أنهم (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي لن تهلك ولن تخسر وذلك يوم القيامة وقوله (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ (٥) وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي هداهم لذلك ووفقهم إليه تعالى ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وعلة ذلك أنه غفور لعباده المؤمنين التائبين فيغفر ذنوبهم ويدخلهم جنته شكور لطاعاتهم وصالح أعمالهم فلذا يضاعف لهم أجورهم ويزيدهم من فضله وله الحمد والمنة.

__________________

(١) الجدد جمع جدّة وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه.

(٢) في الجملة قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الخشية على العلماء دون الجهلة وبهذا علا شأن العلماء وعظم قدرهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا إنما يخشى الله من عباده العلماء والمراد بالعلماء العالمون بالله أي بأسمائه وصفاته ومحابه ومكارهه وما عنده من نعيم لأوليائه وما لديه من عذاب لأعدائه ، وآية العالم الخشية لله والمحبه له تعالى فمن لم يخش الله تعالى فليس بعالم.

(٣) الجملة تذييلية مشعرة بغنى الله تعالى عن عباده قدير على أخذهم متى أراد بهم ذلك ، ذو مغفرة لهم متى تابوا إليه وطلبوا مرضاته ولو عرف المشركون هذا ما أصروا على الشرك ولكنهم لا يعلمون.

(٤) لما أثنى على العلماء بما وصفهم به من الخشية وكان في الكلام ايجاز أوضحه بهذه الجملة فقال إن الذين يتلون كتاب الله ، وما تلا كتاب الله غير مؤمن عالم ولا أقام الصلاة وأنفق سرا وعلانية إلا ذو خشية ومحبة بعد ما وصفهم وحددهم بشرهم بقوله يرجون تجارة لن تبور.

(٥) التوفية جعل الشيء وافيا أي تاما لا نقيصة فيه ولا غبن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر القدرة والعلم الإلهي في اختلاف الألوان والطباع والذوات.

٢ ـ العلم سبيل الخشية فمن لا علم له بالله فلا خشية له إنما يخشى الله من عباده العلماء.

٣ ـ فضل تلاوة القرآن الكريم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات.

٤ ـ في وصف الله تعالى بالغفور والشكور ترغيب للمذنبين أن يتوبوا ، وللعاملين أن يزيدوا.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

شرح الكلمات :

(مِنَ الْكِتابِ) : أي القرآن الكريم.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) : أي الكتب التى سبقت القرآن إذ محصلها في القرآن الكريم.

(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) : أي اخترنا المؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) : بارتكاب الذنوب.

(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) : مؤد للفرائض مجتنب للكبائر.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) : مؤد للفرائض والنوافل مجتنب للكبائر والصغائر.

(بِإِذْنِ اللهِ) : أي بتوفيقه وهدايته.

(ذلِكَ) : أي إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير.

(وَلُؤْلُؤاً) : إي أساور من لؤلؤ مرصع بالذهب.

(أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) : أي الإقامة وهي جنات عدن.

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) : أي تعب.

(وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) : أي إعياء من التعب ، وذلك لعدم التكليف فيها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) (١) أي القرآن الكريم هو (الْحَقُ) أي الواجب عليك وعلى أمتك العمل به لا ما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمامه من الكتب السابقة ، وقوله (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢) فهو تعالى يعلم أن الكتب السابقة لم تصبح تحمل هداية الله لعباده لما داخلها من التحريف والتغيير فلذا مع علمه بحاجة البشرية إلى وحي سليم يقدم إليها فتكمل وتسعد عليه متى آمنت به وأخذته نورا تمشى به في حياتها المادية هذه أرسلك وأوحى إليك هذا الكتاب الكريم وأوجب عليك وعلى أمتك العمل به.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ (٣) الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) يخبر تعالى أنه أورث أمة الإسلام الكتاب السابق إذ كل ما في التوراة والإنجيل من حق وهدى قد حواه القرآن الكريم فأمة القرآن قد ورّثها الله تعالى كل الكتاب الأول. وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) (٤) بالتقصير في العمل وارتكاب بعض الكبائر ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدى للفرائض المجتنب للكبائر ،

__________________

(١) في الآية الإشادة بالكتاب الذي يتلوه المؤمنون فيثابون ويزادون لأنه الكتاب الحق الخالي من الزيادة والنقص المصدق لما تقدمه من الكتب الإلهية السابقة وضمن هذا يقرر النبوة المحمدية واثباتها والإشادة بصاحبها.

(٢) الخبير : العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية وصاحب هذه الصفة هو الذي يجب أن يعبد ويتقى.

(٣) حاول كثير من المفسرين البعد عن الحقيقة التي تضمنتها هذه الآية وهي أن الآية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هي التي قال الله تعالى فيها هو اجتباكم والاجتباء كالاصطفاء والظالم لنفسه لا يكون الكافر ولا المنافق وانما هو المؤمن يغشى بعض الكبائر وما في التفسير هو الحق فتأمله.

(٤) (فَمِنْهُمْ) : هذه الفاء التفريعيّة التفصيلية حيث فصل بها مجمل الذين أوتوا الكتاب والبداية بالظالمين لأنفسهم إيماء إلى أنهم غير محرومين من جنات عدن دفعا لمن يتوهم أنهم لما كانوا ظالمين لا يدخلون الجنة.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وهو المؤدى للفرائض والنوافل المجتنب للكبائر والصغائر. وقوله : (ذلِكَ) أي الإيراث للكتاب هو الفضل الإلهي الكبير وهو (جَنَّاتُ) (١) (عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) يوم القيامة (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) جمع سوار ما يجعل في اليد (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي أساور من لؤلؤ ، ولباسهم فيها حرير.

وقوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ (٢) الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي كل الحزن فلا حزن يصيبهم إذ لا موت في الجنة ولا فراق ولا خوف ولا همّ ولا كرب فمن أين يأتي الحزن. وقولهم (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) قالوا هذا لأنه تعالى غفر للظالم وشكر للمقتصد عمله فأدخل الجميع الجنة فهو الغفور الشكور حقا حقا.

وقولهم : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي الإقامة من فضله هذا ثناء منهم على الله تعالى بإفضاله عليهم ، وقولهم (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إعياء من التعب وصف لدار السّلام وهي الجنة الخالية من النصب واللغوب جعلنا الله من أهلها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآدابا وأخلاقا وقضاء وحكما.

٢ ـ بيان شرف هذه الأمة ، وأنها الأمة المرحومة فكل من دخل الإسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج فائز ومن قصر وظلم نفسه بارتكاب الكبائر ومات ولم يشرك بالله شيئا فهو آئيل الى دخول الجنة راجع إليها بإذن الله.

٣ ـ بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها وهي الأساور (٣) من الذهب واللؤلؤ.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ

__________________

(١) (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل اشتمال من قوله (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

(٢) لما دخلوا جنات عدن حمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وإن قيل كيف دخل الظالم لنفسه الجنة وهو ظالم قلنا هذا الظلم هو ليس ظلما لربه بأن عبد غير الله ولا هو ظلم لغيره وإنما هو ظلم لنفسه بارتكاب بعض الذنوب وهذا غير مانع من دخول الجنة إذ هو وارث بوصفه مؤمنا والجنة تورث والورثة يستوي فيهم البار مع العاق فلا يمنع من الإرث العاق بل يرث كالبار سواء بسواء.

(٣) ثبت في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.

عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

شرح الكلمات :

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) : أي بالموت فيموتوا ويستريحوا.

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) : أي كذلك الجزاء نجزى كل كفور بنا وبآياتنا ولقائنا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) : أي يصيحون بأعلى أصواتهم يطلبون الخروج منها.

يقولون : أي في عويلهم وصراخهم ربنا أخرجنا أي منها نعمل صالحا.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) : أي وقتا يتذكر فيه من تذكر.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) : أي الرسول فلم تجيبوا وأصررتم على الشرك والمعاصى.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي بما في القلوب من إصرار على الكفر ولو عاش الكافر طوال الحياة.

(خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) : يخلف بعضكم بعضا. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره.

(فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) : أي وبال كفره.

(إِلَّا مَقْتاً) : أي الا غضبا شديدا عليهم من الله عزوجل.

(إِلَّا خَساراً) : أي في الآخرة إذ يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

معنى الآيات :

بعد ما ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح ذكر جزاء أهل الكفر والمعاصى فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) (١) أي بالله وآياته ولقائه (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) أي جزاء لهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) (٢) أي بالموت فيموتوا حتى يستريحوا ولا يخفف عنهم من عذابها ولا طرفة عين. وقوله تعالى (كَذلِكَ) أي الجزاء (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي مبالغ في الكفر مكثر منه. وقوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ (٣) فِيها) أي في جهنم أي يصرخون بأعلى أصواتهم في بكاء وعويل يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي من النار وردنا إلى الحياة الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي من الشرك والمعاصى. فيقال لهم : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) (٤) أي أتطلبون الخروج من النار لتعملوا صالحا ولم نعمركم أي نطل أعماركم بحيث يتذكر فيها من يريد أن يتذكر وجاءكم النذير (٥) فلم تجيبوه وأصررتم على الشرك والمعاصى ، إذا فذوقوا عذاب النار (فَما لِلظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصى من نصير ينصرهم فيخرجهم من النار. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما غاب في السموات والأرض (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومن ذلك أنه عليم بما في قلوبكم وما كنتم مصرين عليه من الشرك والشر والفساد ولو عشتم الدهر كله.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) (٦) أي يخلف بعضكم بعضا وفي ذلك ما يمكّن من العظة والاعتبار إذ العاقل من اعتبر بغيره فقد هلكت قبلكم أمم بذنوبهم فلم لا تتعظون بهم وقد خلفتموهم وجئتم بعدهم إذا فلا عذر لكم أبدا.

وبعد هذا البيان فمن كفر فعليه كفره هو الذي يتحمل جزاءه ، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم (إِلَّا مَقْتاً) أي بعدا عن الرحمة وبغضا شديدا ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ) أي المصرين على الكفر كفرهم (إِلَّا خَساراً) أي هلاكا في الآخرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مرّ العذاب وأليمه الذي هو جزاء الكافرين.

٢ ـ الإعذار لمن بلّغه الله من العمر أربعين سنة.

__________________

(١) قال القرطبي لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم.

(٢) هذا كقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) من سورة الأعلى.

(٣) يصطرخون مبالغة في يصرخون افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد أي يصيحون من شدة ما أصابهم.

(٤) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والواو عاطفة قولا محذوفا تقديره يقولون ربنا اخرجنا ونقول ألم نعمركم والتعمير تطويل العمر.

(٥) هل النذير القرآن أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الشيب قال الشاعر :

رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير

. وما في التفسير أصح.

(٦) أي خلفا بعد خلف وقرنا بعد قرن ، والخلف هو التالى للتقدم.

٣ ـ الكافر يعذب أبدا لعلم الله تعالى به وأنه لو عاش آلاف السنين ما أقلع عن كفره ولا حاول أن يتوب منه فلذا يعذب أبدا.

٤ ـ في كون البشرية أجيالا جيلا يذهب وآخر يأتي مجال للعظة والعبرة والعاقل من اعتبر بغيره.

٥ ـ الاستمرار على الكفر لا يزيد صاحبه إلا بعدا عن الرحمة ومقتا عند الله تعالى والمقت أشد الغضب.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي تعبدون من غير الله وهى الأصنام.

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا) : أي أخبروني ما ذا خلقوا من الأرض أي أيّ جزء منها خلقوه.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) : أي أم لهم شركة في خلق السموات.

(إِلَّا غُرُوراً) : أي باطلا إذ قالوا إنها آلهتنا تشفع لنا عند الله يوم القيامة وتقربنا

إلى الله زلفى.

(يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) : أي يمنعها من الزوال.

(إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) : أي ولو زالتا ما أمسكهما أحد من بعده لعجزه عن ذلك.

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) : أي حليما لا يعجل بالعقوبة غفورا لمن ندم واستغفر.

(لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) : أي رسول.

(مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) : أي اليهود والنصارى.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) : أي مجيئه إلا تباعدا عن الهدى ونفرة منه.

(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) : أي الشرك والمعاصى.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) : أي ولا يحيط إلا بأهله العاملين له.

(سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : أي سنة الله فيهم وهي تعذيبهم بكفرهم وإصرارهم عليه.

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) : أي فلا يبدل العذاب بغيره.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) : أي تحويل العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل للمشركين من قومك : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ (١) الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون من دون الله أخبروني : ما ذا خلقوا من الأرض حتي استحقوا العبادة مع الله فعبدتموهم معه؟ أم لهم شرك في (٢) السموات بأن خلقوا جزءا وملكوه بالشركة. والجواب قطعا لم يخلقوا شيئا من الأرض وليس لهم في خلق السموات شركة أيضا إذا فكيف عبدتموهم مع الله؟ وقوله تعالى : (أَمْ آتَيْناهُمْ) أي أم آتينا هؤلاء المشركين كتابا يبيح لهم الشرك ويأذن لهم فيه فهم لذلك على بينة بصحة الشرك. والجواب ومن أين لهم هذا الكتاب الذي يبيح الشرك؟ بل إن يعد (٣) الظالمون بعضهم بعضا (إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا إذ الحقيقة أن المشركين لم يكن لهم كتاب يحتجون به على صحة الشرك ،

__________________

(١) هذا شروع في بطلان الشرك وتحقيق التوحيد بالأسلوب الجدلي العقلي والاستفهام تقريري في قوله أرأيتم شركاءكم أروني أي أروني شيئا خلقوه من الأرض.

(٢) الشرك اسم للنصيب المشترك به في ملك الشيء ، والمعنى ألهم شرك مع الله في ملك السموات وتصريف أحوالها كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وانزال المطر.

(٣) (إِنْ) نافية بمعنى «ما» بقرينة الاستثناء والغرور الأباطيل تغرو وهي قول السادة للسفلة إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم وتشفع لكم كما أن الشياطين توحي لهم بذلك من طريق الوسوسة.

وإنما هو أن الظالمين وهم المشركون ما يعد بعضهم بعضا وهو أن الآلهة ستشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى إلا غرورا وباطلا فالرؤساء غرّروا بالمرء وسين وكذبوا عليهم بأن الآلهة تشفع لهم عند الله وتقربهم منه زلفى فلهذا عبدوها من دون الله وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) يخبر تعالى عن عظيم قدرته ولطفه بعباده ، ورحمته بهم وهي أنه تعالى يمسك السموات السبع والأرض أن تزولا أي تتحول عن أماكنهما ، إذ لو زالتا لخرب العالم في لحظات ، وقوله : (وَلَئِنْ زالَتا) أي ولو زالتا (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ (٢) أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى ، وقوله إنه كان حليما غفورا إذ حلمه هو الذي غرّ الناس فعصوه ، ولم يطيعوه ، واشركوا به ولم يوحدوه ومغفرته هي التي دعت الناس إلى التوبة إليه ، والإنابة إلى توحيده وعبادته.

وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (٤٢) (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يخبر تعالى عن المشركين العرب بأنهم في يوم من الأيام كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم أي غاية اجتهادهم فيها لئن جاءهم رسول يرشدهم ويعلمهم لكانوا أهدى أي أعظم هداية من إحدى الطائفتين اليهود والنصارى. هكذا كانوا يحلفون ولما جاءهم نذير (٣) أي الرسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما زادهم مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) أي بعدا عن الدين ونفرة منه ، و (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ) الذي هو عمل الشرك والظلم والمعاصى.

وقوله تعالى (وَلا يَحِيقُ (٤) الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) إخبار منه تعالى بحقيقة يجهلها الناس وهي أن عاقبة المكر السيىء تعود على الماكرين بأسوأ العقاب وأشد العذاب وقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون وهم مصرون على المكر السيىء وهو الشرك ومحاربة الرسول وأذية المؤمنين. إلا سنة الأولين وهي إهلاك الماكرين الظالمين (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) أيها (٥)

__________________

(١) لما بين لهم عجز آلهتهم وعدم قدرتها على خلق شيء في السموات والأرض بين لهم أن خالقها وممسكها هو الله فلا يوجد شيء إلا بإيجاده ولا يبقى شيء إلا بإبقائه.

(٢) (إِنَ) نافية بمعنى ما أي ما أمسكهما أحد سواه.

(٣) هذا كان منهم قبل البعثة النبوية فقد بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فلعنوا من كذب نبيه منهم وأقسموا بالله جل أسمه لئن جاءهم نذير أي نبي ليكونن أهدى من إحدى الأمم يعني ممن كذب الرّسل من أهل الكتاب وكانوا يتمنون أن يكون منهم رسول فلما جاءهم ما تمنوه نفروا عنه ولم يؤمنوا به.

(٤) حاق به : أحاط والحوق الإحاطة روى أن كعبا قال لابن عباس إني أجد في التوراة : من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. فقال ابن عباس فإني وجدت في القرآن ذلك قال وأين؟ قال اقرأ «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» ومن أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» وجملة لا يحيق المكر السيء إلا بأهله تذييل لما سبق وتحمل موعظة.

(٥) السنة الطريقة والجمع سنن.

الرسول (تَبْدِيلاً) بأن يتبدل العذاب بغيره بالرحمة مثلا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) بأن يتحول العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه إذا فليعاجل قومك الوقت بالتوبة وإلا فهم عرضة لأن تمضى فيهم سنة الله بعذابهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.

٢ ـ بيان أن المشركين لا دليل لهم على صحة الشرك لا من عقل ولا من كتاب.

٣ ـ بيان قدرة الله ولطفه بعباده ورحمته بهم في إمساك السموات والأرض عن الزوال.

٤ ـ بيان كذب المشركين ، ورجوعهم عما كانوا يتقاولونه بينهم من أنه لو أرسل إليهم رسولا لكانوا أهدى من اليهود أو النصارى.

٥ ـ تقرير حقيقة وهي أن المكر السيىء (١) عائد على أهله لا على غيرهم وفي هذا يرى أن ثلاثة على أهلها رواجع ، وهي المكر السيىء ، والبغي ، والنّكث لقوله تعالى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وقوله (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وقوله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

__________________

(١) المكر إخفاء الأذى وهو سيء لأنه غدر وخديعة.

شرح الكلمات :

(وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) : أي وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسلهم.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) : أي ليسبقه ويفوته فلم يتمكن منه.

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) : أي عليما بالأشياء كلها قديرا عليها كلها.

(بِما كَسَبُوا) : أي من الذنوب والمعاصى.

(ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) : أي ظهر الأرض من دابة أي نسمة تدب على الأرض وهي كل ذي روح.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي يوم القيامة.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) : فيحاسبهم ويجزيهم بحسب كسبهم خيرا كان أو شرا.

معنى الآيات :

لما هدد الله تعالى المشركين بإمضاء سنته فيهم وهي تعذيب وإهلاك المكذبين إذا أصروا على التكذيب ولم يتوبوا. قال (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي المشركون المكذبون لرسولنا (فِي الْأَرْضِ) شمالا أو جنوبا (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوم صالح وقوم هود ، إنها كانت دمارا وخسارا (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ (١) قُوَّةً) أي من هؤلاء المشركين اليوم قوة وقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ (٢) شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي لم يكن ليعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله : (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه ، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر ، ولا بالمقاومة والهرب. وقوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) وهي الآية (٣) الأخيرة من هذا السياق (٤٥) أي ولو كان الله يؤاخذ الناس بذنوبهم فكلّ من أذنب ذنبا انتقم منه فأهلكه ما ترك على ظهر الأرض من نسمة ذات روح تدب على وجه الأرض ، ولكنه تعالى يؤخر الظالمين (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤) أي معين الوقت محدده إن كان في الدنيا ففي الدنيا ، وإن كان يوم القيامة ففي القيامة. وقوله

__________________

(١) الجملة في محل نصب حالية أي كان عاقبتهم الاضمحلال وكانوا أشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.

(٢) أي هبكم أنكم أقوى ممن كان قبلكم وأشد حيلة وتصرفا في الحياة فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وذلك لعلمه وقدرته ، إذا فلا مهرب لكم منه إذا أراد إهلاككم.

(٣) قال ابن مسعود ، يريد جميع الحيوان مما دبّ ودرج قال قتادة وقد فعل ذلك زمن نوح عليه‌السلام : قال ابن جرير هنا الناس وحدهم وهو كذلك.

(٤) قال مقاتل الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ وقيل هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين إذ يوم القيامة مكتوب في اللوح المحفوظ.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ (١) فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) يخبر بأنه إذا جاء أجل الظالمين فإنه تعالى بصير بهم لا يخفى عليه منهم أحد فيهلكم ولا يبقى منهم أحدا لكامل علمه وعظيم قدرته ، ألا فليتق الله الظالمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية السير في الأرض للعبرة لا للتنزه واللهو واللعب.

٢ ـ بيان أن الله لا يعجزه شيء وذلك لعلمه وقدرته وهي حال توجب الترهيب منه تعالى والإنابة إليه.

٣ ـ حرمة استعجال العذاب فإن لكل شيء أجلا ووقتا معينا لا يتم قبله فلا معنى للاستعجال بحال.

سورة يس (٢)

مكية وآياتها ثلاث وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى

__________________

(١) قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) هو كالجواب لمن قال وكيف يهلك كل من في الأرض وفيهم الصالحون والمؤمنون فقال إنه كان بعباده بصيرا فقد ينجي من لا يستحق الهلاك ويهلك من يستحقه.

(٢) ورد في فضل هذه السورة حديث أبي داود عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال اقرأوا يس على موتاكم وورد عن أبي الدرداء أو أم الدرداء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه ، وأخرج الدارمي عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة وخرجه الحافظ أبو نعيم أيضا.

الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

شرح الكلمات :

(يس) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا يس ، ويقرأ هكذا ياسين والله أعلم بمراده به.

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) : أي ذي الحكمة إذ وضع القرآن كل شيء في موضعه فهو لذلك حكيم ومحكم أيضا بعجيب النظم وبديع المعاني.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي يا محمد من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى أقوامهم.

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي طريق مستقيم الذي هو الإسلام.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) : أي القرآن (١) تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إليه.

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) : أي لم ينذر آباؤهم إذ لم يأتهم رسول من فترة طويلة.

(فَهُمْ غافِلُونَ) : أي لا يدرون عاقبة ما هم فيه من الكفر والضلال ، ولا يعرفون ما ينجيهم من ذلك وهو الإيمان وصالح الأعمال.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) : أي وجب عليهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) : أي جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالأغلال.

(فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) : أي أيديهم مجموعة إلى أذقناهم ، والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين.

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) : أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، فلذا هم لا يكسبون بأيديهم خيرا ، ولا يذعنون برؤوسهم إلى حق.

__________________

(١) هذا على قراءة أهل المدينة وهي رفع تنزيل. أما على قراءة النصب فالتقدير أقرأ تنزيل العزيز الرحيم أو أمدح تنزيل.

(فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) : أي جعلنا على أبصارهم غشاوة فهم لذلك لا يبصرون.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : أي استوى إنذارك لهم وعدمه في عدم إيمانهم.

(مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : أي القرآن.

(وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) : أي بالجنة دار النعيم والسّلام.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) : أي نحن ربّ العزة نحيى الموتى للبعث والجزاء.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (١) : أي ما عملوه من خير وشر لنحاسبهم ، وآثارهم أي خطاهم إلى المساجد وما استنّ به أحد من بعدهم.

(فِي إِمامٍ مُبِينٍ) : أي في اللوح المحفوظ.

معنى الآيات :

(يس) الله أعلم (٢) بمراده به

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٣) أي المحكم نظما ومعنى وذي الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه أقسم تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا رسولا فقال (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الذي هو الإسلام. وقوله (تَنْزِيلَ (٤) الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن هو تنزيل الله (الْعَزِيزِ) في الانتقام ممن كفر به وكذب رسوله (الرَّحِيمِ) بأوليائه وصالحى عباده. وقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوما ما أنذر آباؤهم من فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه‌السلام (فَهُمْ غافِلُونَ) أي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد ، ومعنى تنذرهم تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصى.

وقوله تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي أكثر خصوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كفار قريش كأبي جهل حق عليهم القول الذي هو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو آمنوا لما عذبوا ، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضا عليهم

__________________

(١) وهم بعض فقال هذه الآية نزلت بالمدينة في بني سلمة والصحيح أن السورة كلها مكي وليس فيها مدني وانما قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية محتجا بها على بني سلمه لما أرادوا النزول قرب المسجد فقال لهم بني سلمة دياركم تكتب آثاركم. وقرأ هذه الآية ، ونكتب ما قدموا وآثارهم.

(٢) كره مالك رحمه‌الله تعالى التسمية بيس وهو كذلك لعدم علمنا بالمراد منه وليس هو باسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذكر أسماءه الخمسة ولم يذكر بينها يس ولا حجة في قول الرافضي :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة

على المودة إلا آل ياسين

(٣) والقرآن الواو للقسم والقرآن مقسم به وجواب القسم : إنك لمن المرسلين وعلى صراط مستقيم خبر ثان لإن.

(٤) قرأ نافع والجمهور تنزيل بالرفع على أنه خبر محذوف المبتدأ أي هو تنزيل والضمير عائد على القرآن المقسم به وقرأ حفص (تَنْزِيلَ) بالنصب على المصدرية أو على تقدير أعنى أو أخص فيكون مدحا وإشادة بشأنه وهو أليق.

وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبرا لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ) أي أيديهم (إِلَى الْأَذْقانِ) مشدودة بالأغلال (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإنفاق في الخير ، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق (١) وقوله (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زينّت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم ومانع لهم من الإيمان وترك الشرك والمعاصى ، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سدا من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى (فَأَغْشَيْناهُمْ) هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغض ما جاء به فهم لذلك عمى لا يبصرون. وقوله تعالى (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ (٢) أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكابر مجرمى مكة استوى فيهم الإنذار النّبويّ وعدمه ف لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه ، كما لم يعصه عند ما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي للبعث والجزاء (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر ، (وَآثارَهُمْ) أي ونكتب آثارهم وهو ما استنّ به من (٣) سننهم الحسنة أو السيئة. (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي من أعمال العبادة وغيرها (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ ، وسنجزى كلا بما عمل. وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) وجائز أن يكون هذا بيان لحالهم في النار يوم القيامة ولكن ما في التفسير أولى وأحق والسياق يؤكده.

(٢) أنذرتهم أصل الهمزة الاستفهام ولكنها هنا للتسوية متمحضة لها.

(٣) شاهده حديث مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سن في الإسلام سنة حسنه كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وكذا حديثه الأخر : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية وتأكيد رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان الحكمة من إرسال الرسول وإنزال الكتاب الكريم.

٣ ـ بيان أن الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث على فترة من الرسل.

٤ ـ بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات اليها يضعان الإنسان بين حاجزين لا يستطيع تجاوزهما والتخلص منهما.

٥ ـ بيان أن الذنوب تقيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق.

٦ ـ بيان أن من سن سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده.

٧ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن كل شيء في كتاب المقادير المعبر عنه بالإمام. ومعنى المبين أي ان ما كتب فيه بيّن واضح لا يجهل منه شيء.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

شرح الكلمات :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) : أي واجعل لهم مثلا.

(أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) : أي انطاكيه عاصمة بلاد يقال لها العواصم بأرض الروم.

(إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : أي رسل عيسى عليه‌السلام.

(فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : أي قوينا أمر الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب بن النجار.

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : أي التبليغ الظاهر البين بالأدلة الواضحة وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الموتى.

(إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) : أي تشاءمنا بكم وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) : أي شؤمكم معكم وهو كفركم بربكم.

(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) : أي وعظتم وخوفتم تطيرتم وهذا توبيخ لهم.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) : أي متجاوزون للحد في الشرك والكفر.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) (١) أي واضرب أيها الرسول لقومك المصرين على الشرك والتكذيب لك ولما جئتهم به من الهدى ودين الحق (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) فإن حالهم في التكذيب والغلوّ في الكفر والعناد كحال هؤلاء. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) وهم رسل عيسى (٢) عليه‌السلام إذ بعث برسولين ثم لما آذوهما بالضرب والسجن بعث بشمعون الصّفي رأس الحواريين تعزيزا لموقفهما كما قال تعالى (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (٣) ، فقالوا لأهل انطاكيه (٤) (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) من قبل عيسى عليه‌السلام ندعوكم إلى عبادة الرحمن وترك عبادة الأوثان (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا تكذبون علينا في دعواكم أنكم رسل إلينا فقال الرسل (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فواجهوا شك القوم فيهم بما يدفع الشك من القسم وتأكيد الخبر بالجملة الاسمية ولام التوكيد فقالوا : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي البيّن الواضح فإن قبلتم ما دعوناكم إليه فذلك حظكم من الخير والنجاة وإن أبيتم فذلك حظكم من الهلاك والخسار. ورد أهل انطاكيه على الرسل قائلين : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا (٥) بكم حيث انقطع عنا المطر بسببكم (*) فرد عليهم المرسلون بقولهم (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم في كفركم وتكذيبكم ، ولذا حبس الله المطر

__________________

(١) (اضْرِبْ) أي اجعل والمثل للتشبيه والمعنى اجعل اصحاب القرية والمرسلين إليهم شبها لأهل مكة وارسالك إليهم.

(٢) كان هذا بعد رفع عيسى إلا أنه كان بإذن الله تعالى فلذا قال تعالى أرسلنا إليهم.

(٣) قرىء عززنا بالتخفيف والمعنى واحد.

(٤) كان أهل انطاكيا من اليهود ومن اليونان.

(٥) وجائز أن يكون قد حدث بينهم تشاجر وتشاحن نتيجة قبول الدعوة من أفراد منهم فحصل بينهم شجار وخلاف لم يألفوه فقالوا ما قالوا مشائمين ، وفي الحديث : لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير.

(*) (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) من دعواكم بأنكم رسل إلينا بترك آلهتنا (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

عليكم. ثم قالوا لهم موبخين لهم : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) (١) أي وعظتم وخوّفتم بالله لعلكم تتقون تطيّرتم. بل أنتم أيها القوم (مُسْرِفُونَ) أي متجاوزون الحد في الكفر والشرك والعدوان.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب المثل وهو تصوير حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما هنا في قصة حبيب بن النجار.

٢ ـ تشابه حال الكفار في التكذيب والإصرار في كل زمان ومكان.

٣ ـ لجوء أهل الكفر بعد إقامة الحجة عليهم الى التهديد والوعيد.

٤ ـ حرمة التطير والتشاؤم في الإسلام.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

وجاء رجل : أي جاء حبيب بن النجار صاحب يس (٢).

(مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) : أي من أقصا دور المدينة وهي انطاكيا العاصمة.

__________________

(١) الاستفهام إنكاري ويل للإضراب الانتقالي أضرب عن دعواهم لبطلانها وانتقل بهم إلى الحقيقة وهي اسرافهم في الشرك والشر والفساد.

(٢) ما جاء في التفسير من كون الرسل هم رسل عيسى عليه‌السلام ، وأن القرية هي أنطاكية ـ هو ما عليه أكثر المفسرين مثل قتادة وابن جرير وغيرهما ، إلّا أن ابن كثير رحمه‌الله تعالى رجّح أن الرسل رسل من الله تعالى ، وأن القرية ليست أنطاكية ، وحجته فيما رآه أنّ الله تعالى لم يهلك أمّة بعد نزول التوراة ، وهذه القرية أهلك أهلها. وهذه غفلة منه رحمه‌الله تعالى إذ أهلك الله أهل قرية كانت حاضرة البحر ، ومسخ أهلها قردة وخنازير على عهد داود بعد نزول التوراة بقرن وإنما رفع هلاك العامّة بعد بعثة النبي محمد نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يَسْعى) : أي يشتد مسرعا لما بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل رسل عيسى الثلاثة.

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) : أي رسل عيسى عليه‌السلام.

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) : اتبعوا من لا يطلبكم أجرا على إبلاغ دعوة الحق.

(وَهُمْ مُهْتَدُونَ) : أي الرسل إنهم علي هداية من ربهم ما هم بكذابين.

(فَطَرَنِي) : أي خلقني.

(إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) : أي بمرض ونحوه.

(وَلا يُنْقِذُونِ) : أي مما أراد الله لي من ضر في جسمي وغيره.

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي إني إذا اتخذت من دون الله آلهة أعبدها لفى ضلال مبين.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) : أي صارح قومه بهذا القول وقتلوه.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) : قالت له الملائكة عند الموت ادخل الجنة.

(يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) : قال هذا لما شاهد مقعده في الجنة.

(بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) : وهو الإيمان والتوحيد والصبر على ذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في مثل أصحاب القرية إنه بعد أن تعزز موقف الرسل الثلاثة وأعطاهم الله من الكرامات ما أبرأوا به المرضى بل وأحيوا الموتى بإذن الله وأصبح لهم أتباع مؤمنون غضب رؤساء البلاد وأرادوا أن يبطشوا بالرسل ، وبلغ ذلك حبيب بن النجار وكان شيخا مؤمنا موحدا يسكن في طرف المدينة الأقصى فجاء يشتد سعيا على قدميه فأمر ونهى وصارح القوم بإيمانه وتوحيده فقتلوه رفسا بأرجلهم قال تعالى (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) ـ انطاكيه ـ (رَجُلٌ يَسْعى) (١) أي يمشى بسرعة لما بلغه أن أهل البلاد قد عزموا على قتل الرسل الثلاثة وما إن وصل إلى الجماهير الهائجة حتى قال بأعلى صوته : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢) وسأل الرسل هل طلبتم على إبلاغكم

__________________

(١) هذا الرجل هو حبيب بن النجار صاحب ياسين كما في الحديث والرجل كان مصابا بالجذام سنين وشفاه الله تعالى على يد رسل عيسى وبذلك آمن وأسلم وبقي في أرض أنطاكيا يعبد الله تعالى حتى بلغه هم أهل المدينة انطاكيا بالبطش بالرسل جاء مسرعا لينقذ دعوتهم ويدعو إلى الله تعالى بما أخبر به تعالى في هذه الآيات.

(٢) المراد بالمرسلين رسل عيسى الذين أرسلهم بالوصية إليهم إلى أنطاكيا من بينهم شمعون الذي عزز به الرسولين قبله.

دعوة عيسى أجرا قالوا لا. فقال (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فاتبعوهم تهتدوا بهدايتهم. وقال له القوم وأنت تعبد الله مثلهم ولا تعبد آلهتنا؟ فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي وأي شيء يجعلني لا أعبده وهو خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي بعد موتكم فيحاسبكم ويجزيكم بعملكم. ثم اغتنم الفرصة ليدعو إلى ربّه فقال مستفهما (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي أصناما وأوثانا لا تسمع ولا تبصر (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) (١) وإن قل ولا ينقذون مما أراده بي من ضر ونحوه (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) أي إني إذا أنا عبدت هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لفي ضلال مبين واضح لا يحتاج الى دليل عليه. ورفع صوته مبلغا (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) أي بخالقكم ورازقكم ومالك أمركم دون هذه الأصنام والأوثان (فَاسْمَعُونِ) وهنا وثبوا عليه فقتلوه. ولما قيل له ادخل الجنة ورأى نعيمها ذكر قومه ناصحا لهم فقال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي) (٣) (رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٤) أي يعلمون بما غفر له وجعله من المكرمين وهو الإيمان والتوحيد حتي يؤمنوا ويوحدوا فنصح قومه حيّا وميتا وهذا شأن المسلم الحسن الإسلام والمؤمن الصادق الإيمان ينصح ولا يغش ويرشد ولا يضل ومهما قالوا له وفيه ومهما عاملوه به من شدة وقسوة حتى الموت قتلا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حيا وميتا.

٢ ـ بيان ما يلاقي دعاة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال.

٣ ـ وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسيا.

٤ ـ بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين.

__________________

(١) (إِنْ يُرِدْنِ) و (لا تُغْنِ) و (لا يُنْقِذُونِ) ، (فَاسْمَعُونِ) حذفت منها كلها ياء المتكلم مراعاة للتخفيف ولظهورها وعدم اللبس مع حذفها ، وجملة إن يردن في محل نصب نعت.

(٢) (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجملة جواب للاستفهام الانكاري في قوله (أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي إن اتخذت من دون الله آلهة إني في ضلال مبين.

(٣) بما غفر : ما مصدرية تسبك بمصدر نحو بمغفرة ربي لي.

(٤) من المكرمين الملائكة والأنبياء والشهاداء والصالحين.

الجزء الثالث والعشرون

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) : أي على قوم حبيب بن النجار وهم أهل أنطاكية.

(مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد موته.

(مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) : أي من الملائكة لإهلاكهم.

(وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) : أي الملائكة لإهلاك الأمم التي استوجبت الهلاك.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : أي ما هي إلا صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه‌السلام.

(فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) : أي ساكتون لا حراك لهم ميتون.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) : أي يا حسرة العباد هذا أوان حضورك فاحضرى وهذا غاية التألم. والعباد هم المكذبون للرسل الكافرون بتوحيد الله.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : هذا سبب التحسّر عليهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) : أي ألم ير أهل مكة المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) : أي وإن كل الخلائق إلا لدينا محضرون يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم (١) حبيب بن النجار (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موته (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) من (٢) جبريل عليه‌السلام فإذا هم خامدون أي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم ولا حياة فيهم وقوله تعالى (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) أي يا حسرة العباد (٣) على أنفسهم احضري أيتها الحسرة (٤) هذا أوان حضورك (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ (٥) يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا موجب الحسرة ومقتضيها وهو استهزاؤهم بالرسل. وقوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا) أي أهل مكة (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي ألم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين ، (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) فيكون هذا هاديا لهم واعظا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا. وقوله تعالى (وَإِنْ كُلٌ) أي (٦) من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد (لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو المؤمنون ويهلك الكافرون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل انطاكية بصيحة واحدة.

٢ ـ إبداء التحسر على العباد من أنفسهم إذ هم الظالمون المكذبون فالحسرة منهم وعليهم.

٣ ـ حرمة الاستهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها.

٤ ـ طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم ، والعاقل من اعتبر بغيره.

٥ ـ تقرير المعاد والحساب والجزاء.

__________________

(١) هذا تابع لقصة حبيب بن النجار صاحب ياسين والجملة معطوفة على جملة قيل ادخل الجنة.

(٢) كون جبريل هو الذي صاح فيهم وارد عند أهل التفسير فإن ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب الإيمان به وإلا فلا يجب ولا يلزم الإيمان به إذ جائز أن يكون ملكا آخر غير جبريل.

(٣) العباد جمع عبد من عباد الله تعالى والعبيد جمع عبد مملوك للناس.

(٤) الحسرة شدة النّدم مشوبا بتلهف على نفع فائت.

(٥) الاستثناء مفرغ من أحوال عامة من الضمير في (يَأْتِيهِمْ) أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا استهزأوا به.

(٦) قرأ نافع وإن كل لما بتخفيف الميم وشددها حفص فعلى تخفيفها تكون إن مخففة من الثقيلة واللام هي اللام الفارقة وما مزيدة للتوكيد. وإن قدرت ما نافية وجب تشديد لما إذ تكون بمثابة الاستثناء أي وما كلهم إلا محضرون لدينا.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) : أي على صحة البعث ووجوده لا محالة.

(أَحْيَيْناها) : بإنزال المطر عليها فأصبحت حيّة بالنبات والزروع.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ) : أي بساتين.

(وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) : أي لم تصنعه أيديهم وإنما هو صنع الله وخلقه.

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) : أي أفيرون هذه النعم ولا يشكرونها إنه موقف مخز منهم.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأصناف كلها.

(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي الذكور والإناث.

(وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) : من المخلوقات كالتي في السموات وتحت الأرضين.

معنى الآيات :

لما تقدم في الآيات قبل هذه تقرير عقيدة البعث والجزاء في قوله وإن كل لما جميع لدينا محضرون ذكر هنا الدليل العقلي على صحة إمكان البعث فقال (وَآيَةٌ لَهُمُ) (١) أي على صحة البعث الأرض الميتة التي أصابها المحل فلا نبات فيها ولا زرع أحييناها بالمطر فأنبتت من كل زوج بهيج فهذه آية أي علامة كبرى وحجة واضحة على إمكان البعث إذ الخليقة تموت ولم يبق إلا الله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ثم ينزل الله تعالى ماء

__________________

(١) (وَآيَةٌ لَهُمُ) مبتدأ والخبر (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ). قرأ نافع الميتة بتشديد الياء وسكنها حفص.

من تحت العرش فتحيا البشرية على طريقة الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا بالنبات. وهذه المرة تحيا بالبشر إذ يركب خلقهم من عظم يقال له عجب الذنب هو في بطن الأرض لا يتحلل ومنه يركب الخلق كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح. هذا معنى قوله تعالى في الاستدلال على البعث (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أي حبّ البر فمنه أي من ذلك يأكلون الخبز. وقوله (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض الميتة جنات أي بساتين من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون أي عيون الماء ، هذه مظاهر القدرة والعلم الإلهي وكلها تشهد بصحة البعث وإمكانه وأن الله تعالى قادر عليه وعلى مثله. وقوله تعالى (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر المذكور (١) من النخل والعنب وغيره. وقوله (وَما (٢) عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي لم تخلقه ولم تكونه أيديهم بل يد الله هي التي خلقته أفلا يشكرون يوبخهم على عدم شكره تعالى على ما أنعم به عليهم من نعمة الغذاء. وقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ (٣) كُلَّها) أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأزواج كلها (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يقدس تعالى نفسه وينزهها عن العجز عن إعادة الخلق ويذكر بآيات القدرة والعلم وهي نظام الزوجية إذ كل المخلوقات أزواج أي أصناف من ذكر وأنثى فالنباتات على سائر اختلافها ذكر وأنثى والناس كذلك وما هو غائب عنا في السموات وفي بطن الأرض أزواج كذلك ولا وتر أي لا فرد إلا الله تعالى فقد تنزه عن صفات الخلائق ، ومنها كان للحياة الدنيا نوع آخر هو لها كالزوج وهي الحياة الآخرة فهذا دليل عقلي من أقوى الأدلة على الحياة الثانية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء التي هي القوة الدافعة للإنسان على فعل الخيرات وترك الشرور والمنكرات.

٢ ـ دليل نظام الزوجيّة وهو آية على أن القرآن وحي الله وكلامه إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين.

__________________

(١) الثمر بمنزلة الحب للسنبل وهو ما يغله النخل والعنب ، وقرأه الجمهور بفتحتين. وقرأه خلافهم بضمتين.

(٢) جائز أن يكون ما نافية أي ولم تعمله أيديهم وإنما الله جل جلاله هو الذي انبته وسخره لهم وجائز أن تكون ما موصولة أي والذي عملته أيديهم من أصناف الحلاوات والأطعمة وما يتخذونه كالخبز والجبن وما إلى ذلك وما في التفسير أرجح وأدل على نعم الله وقدرته وقرأ الجمهور ومما عملته بهاء الضمير وقرأ بعض عملت بدونه.

(٣) (الْأَزْواجَ) جمع زوج ويطلق على كل من الذكر والأنثى ، وعلى الأصناف المختلفة فإن أريد بالأزواج الذكر والأنثى فمن ابتدائية في المواقع الثلاثة وإن أريد بها الأصناف فمن بيانية في المواطن الثلاثة : ولقوله : ومما لا يعلمون مقابل محذوف تقديره وما يعلمون وهذا من دلالة الإشارة.

٣ ـ وجوب شكر الله تعالى بالإيمان وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه ومنها نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد أي بالغذاء والماء والهواء.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) : وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار أي نزيل النهار عن الليل فإذا هم مظلمون بالليل.

(لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : أي مكان لها لا تتجاوزه.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : أي جريها في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) : وآية أخرى هي تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) : أي حتى رجع كعود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر لما يكون في آخر الشهر.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) : أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر فيجتمعان في الليل.

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) : أي بأن يأتي قبل انقضائه.

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : أي كل من الشمس والقمر والنجوم السيارة في فلك يسبحون أي يسيرون والفلك دائرة مستديرة كفلكة المغزل وهو مجرى النيرين والكواكب السيارة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في البرهنة على إمكان البعث ووقوعه لا محالة فقال تعالى (وَآيَةٌ) أي علامة لهم أخرى على قدرة الله على البعث (اللَّيْلُ نَسْلَخُ (١) مِنْهُ النَّهارَ) أي نفصل عنه النهار بمعنى نزيله عنه فإذا هم في الليل مظلمون أي داخلون في الظلام فهذه آية على قدرة الله على البعث وقوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ (٢) لَها) أي تجري في فلكها منه تبتدىء سيرها وإليه ينتهي سيرها وذلك مستقرها ، ولها مستقر آخر وهو نهاية الحياة الدنيا ، وإنها لتسجد كل يوم تحت (٣) العرش وتستأذن باستئناف دورانها فيأذن لها كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونها تحت العرش فلا غرابة فيه فالكون كله تحت العرش وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإذن ربّها وتقول وتفكر وتعمل فالشمس أحرى بذلك وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها وقوله تعالى (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الغالب على مراده العليم بكل خلقه ، وتقدير سير الشمس في فلكها بالثانية وتقطع فيه ملايين الأميال أمر عجب ونظام سيرها طوال الحياة فلا يختل بدقيقة ولا يرتفع مستواها شبرا ولا ينخفض شبرا إذ يترتب على ذلك خراب العالم الأرضي كل ذلك لا يقدر عليه إلا الله ، أليس المبدع هذا الإبداع في الخلق والتدبير قادر على إحياء من خلق وأمات؟ بلى ، بلى إن الله على كل شيء قدير. وقوله تعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ (٤) مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) هذه آية أخرى على إمكان البعث وحتميته والقمر كوكب منير يدور حول الأرض يتنقل في منازله الثمانية والعشرين منزلة بدقة فائقة وحساب دقيق ليعرف بذلك سكان الأرض عدد السنين والحساب إذ لولاه لما عرف يوم ولا اسبوع ولا شهر ولا سنة ولا قرن. فالقمر يبدأ هلالا صغيرا ويأخذ في الظهور فيكبر بظهوره شيئا فشيئا حتى يصبح

__________________

(١) السلخ الكشط والنزع كسلخ الشاة من جلدها فيبقى اللحم أبيض كذلك يسلخ تعالى النهار من الليل فيبقى الناس في ظلام حالك.

(٢) جائز أن يكون في الكلام حذف أي وآية لهم الشمس تجري وجائز أن يكون الشمس مبتدأ وتجري الجملة خبر أي آية اخرى.

(٣) (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) جائز أن يكون اللام بمعنى إلى وجائز أن يكون لام الصيرورة والمآل أي يصير أمرها فتؤول إلى مستقرها ، والمستقر مكان الاستقرار روى البخاري ومسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل أبا ذر حين غربت الشمس «أتدري أين تذهب» قال قلت الله ورسوله أعلم ، قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع في مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.

(٤) جائز أن يكون قدرنا له منازل أو قدرناه ذا منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة بها بمنزل وهي : السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الخراتان ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانيان ، الاكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الاخبية ، الفرع المقدم ، الفرغ المؤخر ، بطين الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها.

في نصف الشهر بدرا كاملا ، ثم يأخذ في الأفول والاضمحلال بنظام عجب حتى يصبح في آخر الشهر كالعرجون القديم أي كعود العرجون أصفر دقيق مقوس كل ذلك لفائدة الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض أليس هذا آية كبرى على قدرة الله العزيز العليم على إعادة الحياة لحكمة الحساب والجزاء؟ بلى إنها لآية كبرى فقوله (لَا الشَّمْسُ (١) يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يسهل على الشمس ولا يصح منها أن تدرك القمر فيذهب نوره بل لكل سيره فلا يلتقيان إلا نادرا في جزء معين من الأفق فيحصل خسوف القمر وكسوف الشمس. وقوله (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بل كل من الليل والنهار يسير في خط مرسوم لا يتعداه فلذا لا يسبق الليل النهار ولا النهار الليل فلا يختلطان إلا بدخول جزء من هذا في هذا وجزء من ذاك في ذا وهو معنى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وقوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) أي كل واحد من الشمس والقمر والكواكب السيارة في فلك يسبحون فلذا لا يقع فيها خلط ولا ارتطام (٣) بعضها ببعض إلى نهاية الحياة فيقع ذلك ويخرب الكون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إقامة الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتما.

٢ ـ ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعا.

٣ ـ ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ

__________________

(١) هذا لأن سير القمر سريع وسير الشمس دونه فلا تدركه.

(٢) لم يقل تسبح لأنه وصفها بوصف العقلاء يسبحون ، أي يجرون وجيء بضمير الجمع وهما اثنان الشمس والقمر لا غير لإفادة تعميم هذا الحكم فيشمل الكواكب ايضا.

(٣) هذا لما بين بينها من أبعاد لا يقادر قدرها ولا يعرف مداها إلا الله خالقها فلذا لا يدرك بعضها بعضا لشدة الأبعاد بين مداريها.

وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمْ) : أي وعلامة لهم على قدرتنا على البعث.

(أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) : أي ذريّات قوم نوح الذين أهلكناهم بالطوفان. نجينا ذريّتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم لأنهم مشركون.

(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : أي في سفينة نوح المملوءة بالأزواج من كل صنف.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) : أي من مثل فلك نوح ما يركبون.

(فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) : أي مغيث ينجيهم فيكف صراخهم.

(وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) : أي وتمتيعا لهم بالطعام والشراب إلى نهاية آجالهم.

(اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) : أي من عذاب الدنيا أي بالإيمان والاستقامة.

(وَما خَلْفَكُمْ) : أي من عذاب الآخرة إذا أصررتم على الكفر والتكذيب.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) : أي وما تأتيهم من آية أو من حجة من حجج القرآن وبيّنة من بيناته الدالة على توحيد الله وصدق الرسول إلا كانوا عنها معرضين غير ملتفتين إليها ولا مبالين بها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في عرض الآيات الكونيّة للدلالة على البعث والتوحيد والنبوّة فقال تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ) أي أخرى غير ما سبق (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١) أي حملنا ذريّة قوم نوح

__________________

(١) قرأ نافع ذرايتهم جمع ذرية وقرأ حفص بالإفراد (ذُرِّيَّتَهُمْ) اسم جمع فهو بمعنى ذرياتهم. لفظ الذرية وإن كان أساسا يطلق على الأولاد فإنه أطلق هنا على الأباء والأجداد إذ الكل هم ذرية لآدم عليه‌السلام والمشحون الموقر بما حمل فيه من سائر المخلوقات.

المؤمنين فأنجيناهم بإيمانهم وتوحيدهم وأغرقنا المشركين فهي آية واضحة عن رضا الله تعالى عن المؤمنين الموحدين وسخطه على الكافرين المشركين المكذبين إن في هذا الإنجاء للموحدين والإغراق للمشركين آية وعبرة لو كان مشركو قريش في مكة يفقهون. وقوله تعالى (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) وهذه آية أخرى أيضا وهي أن الله أنجى الموحدين في فلك لم يسبق له مثيل ثم خلق لهم مثله ما يركبون إلى يوم القيامة ولو شاء عدم ذلك لما كان لهم فلك إلى يوم القيامة وآية أخرى (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) وهي قدرته تعالى على إغراق ركاب السفن الكافرين وإن فعلنا لم يجدوا صارخا (١) ولا مغيثا يغيثهم وينجيهم من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) (٢) اللهم إلا رحمتنا فإنها تنالهم فتنجيهم ليتمتعوا في حياتهم بما كانوا يتمتعون به إلى حين حضور آجالهم المحدودة لهم. وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بآيات الله المعرضين عن دينه المشركين به اتقوا ما بين أيديكم من العذاب حيث موجبه قائم وهو كفركم وعنادكم ، وما خلفكم من عذاب الآخرة إذ مقتضيه موجود وهو الشرك والتكذيب رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أعرضوا كأنهم لم يسمعوا. وقوله (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ) كلام ربهم القرآن الكريم تحمل الحجج والبراهين على صحة ما يدعون إليه من الإيمان والتوحيد إلا كانوا عنها معرضين تمام الإعراض كأن قلوبهم قدت من حجر والعياذ بالله تعالى. (٤)

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الله على البشرية في إنجاء ذريّة قوم نوح الكافرين ومنهم كان البشر وإلا لو أغرق الله الجميع المؤمنين الذريّة والكافرين الآباء لم يبق في الأرض أحد.

٢ ـ حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم وإلّا لهلكوا أجمعين ولكن أين شكرهم؟

٣ ـ بيان إصرار كفار قريش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل.

٤ ـ الإشارة بالمثلية في قوله (مِنْ مِثْلِهِ) إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية.

__________________

(١) الصريخ هو الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب جاءهم الصريخ أي المنكوب المستنجد لينقذوه وهو فعيل بمعنى فاعل.

(٢) الاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن لأن الرحمة ليست من جنس المستثنى منه وهو الصريخ.

(٣) جواب (إِذا) محذوف تقديره أعرضوا وقد ذكر في التفسير.

(٤) الجملة واقعة موقع التذيل وتحمل معنى التأكيد لما سبق من معنى وهو أنهم إذا دعوا إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء أعرضوا ولم يستجيبوا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

شرح الكلمات :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) : أي وإذا قال فقراء المؤمنين في مكة للأغنياء الكافرين انفقوا علينا.

(مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) : أي من المال.

(أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) : أي قالوا للمؤمنين استهزاء بهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي ما أنتم أيها الفقراء إلا في ضلال مبين في اعتقادكم الذي أنتم عليه.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي البعث الآخر إن كنتم صادقين فيه.

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل.

(تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) : أي تأخذهم الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل

والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) : أي فلا يقدر أحدهم أن يوصي وصيّة.

(وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) : بل يهلكون في أماكنهم من الأسواق والمزارع والمصانع أو المقاهي والملاهي.

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي القبور إلى ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة.

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) : أي قال الكفار : من بعثنا من قبورنا؟

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) : أي هذا ما وعد به الرحمن وصدق المرسلون أي فيما أخبروا به.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) (١) أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال : نعم. قال : فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإعطاء ، فقال أبو جهل ، والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين. أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية الكريمة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للكفار (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) على المساكين (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآمرين لهم بالإنفاق (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) قالوا هذا استهزاء وكفرا (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المسلمون (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إلا في ذهاب عن الحق وجور عن الرشد مبين لمن تأمله وتدبّر فيه. وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى (٢) هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث استهزاء واستعجالا : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين في دعواكم.

__________________

(١) اختلف في من هذه قولته؟ وما في التفسير وأنها قولة أبي جهل لأبي بكر أرجحها وأقربها إلى واقع الحال وألصق بالسياق ولا مانع أن يقولها الزنادقة والملاحدة والمستهزئين في كل زمان ومكان.

(٢) الاستفهام للاستبعاد وهو مشوب بالسخرية والاستخفاف لأنه ناجم عن قلوب مظلمة من جراء الكفر والإلحاد قال الشاعر :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفس إلا قد قضيت قضاءها

والشاهد في الاستخفاف.

قال تعالى (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي نفخة اسرافيل في الصور وهي نفخة الفناء (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (١) أي يختصمون في أسواقهم يبيعون ويشترون ، وفي مجالسهم العامة والخاصة إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون قال تعالى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) يوصي بها أحدهم لابنه أو أخيه ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ) أي منازلهم وأزواجهم وأولادهم يرجعون بل يصعقون في أماكنهم. وقوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي صور إسرافيل وهو قرن ويقال له البوق أيضا نفخة البعث من القبور أحياء فإذا هم من الأجداث جمع جدث وهو القبر ينسلون (٢) أي ماشين مسرعين إلى ربهم لفصل القضاء والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في هذه الدنيا من إيمان وكفر وإحسان وإساءة وعدل وظلم. (قالُوا يا وَيْلَنا) أي نادوا ويلهم وهلاكهم لما شاهدوا من أهوال الموقف (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٣) وأجابهم المؤمنون بقولهم (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) إذ واعدنا الله بلقائه وأخبرتنا الرسل به وبتفاصيله وقوله تعالى (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما هي إلا صيحة واحدة لإسرافيل فإذا الكل واقف بين يدي الله تعالى ليحاسب ويجزي قال تعالى (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي في هذا اليوم الذي وقفت الخليقة فيه بين يدي ربها لا تظلم نفس شيئا لا بنقص حسنة من حسناتها ولا بزيادة سيئة على سيئاتها. ولا تجزون أيها العباد إلا ما كنتم تعملون من خير وشر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان علو الكافرين وطغيانهم وسخريتهم واستهزائهم ، وذلك لظلمة الكفر على قلوبهم.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مبادئها ونهاياتها.

٣ ـ الساعة لا تأتي إلا بغتة.

٤ ـ الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه

__________________

(١) (يَخِصِّمُونَ) بمعنى يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في أماكنهم وقد أدغمت التاء في الصاد فنتج عن ذلك قراءات أشهرها قراءة نافع يخصّمون بفتح الخاء وكسر الصاد مشددة وقرأ حفص (يَخِصِّمُونَ) بكسر الخاء والصاد المشددة وقرأ قالون يخصمون بسكون الخاء مع الاختلاس.

(٢) قال ابن عباس وقتادة ينسلون يخرجون ومنه قول امرء القيس : فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي ومنه قيل للولد نسل لأنه يخرج من بطن أمه وقيل يسرعون ، والنسلان والقسلان الإسراع في السير ومنه مشية الذئب قال :

عسلان الذئب امسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

(٣) جائز أن يكون هذا ما وعد الرحمن الخ من كلامهم لما يجدون أنفسهم واقفين أحياء قد خرجوا من قبورهم صرحوا بالحقيقة التي كانوا يكذبون بها فاعترفوا قائلين : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وجائز أن يقال لهم كما في التفسير ، فإن قلنا بالقول الأول لا يصح الوقف على من مرقندا ، وإن قلنا بالقول المثبت في التفسير صح الوقف ويصبح هذا ما وعد الرحمن كلاما مستأنفا.

والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع (١) والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين.

٥ ـ تقرير العدل الإلهي يوم الحساب والجزاء ليطمئن كل عامل على أنه يجزى بعمله لا غير.

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

شرح الكلمات :

(فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) : أي أهل الجنة في شغل عما فيه أهل النار من عذاب وشقاء. وشغلهم الشاغل لهم هو النعيم المقيم في دار السّلام.

(فاكِهُونَ) : أي ناعمون بالتلذذ بالنعم وذلك لطيب العيش.

(عَلَى الْأَرائِكِ) : أي الأسرّة ذات الحجلة.

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) : أي ما يتمنون ويطلبون.

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) : أي سلام بالقول من ربّ رحيم أي يسلم عليهم ربهم سبحانه وتعالى.

معنى الآيات :

ما إن حضروا بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء حتى أعلن عما يلي : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ) (٢) (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إنهم في شغل عما فيه أصحاب النار إنهم في شغل بالنعيم المقيم فاكهون (٣) أي ناعمون بالتلذذ بألوان المطاعم والمشارب والحور العين إنهم وأزواجهم في ظلال الجنة على الأرائك (٤) أي الأسرة ذات الحجلة متكئون. (لَهُمْ فِيها) أي في دار السّلام فاكهة

__________________

(١) هذه النفخة مختلف فيها ودليلها حديث البخاري إذ فيه يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ولا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى».

(٢) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى وقيل شغلهم زيارة بعضهم بعضا ، والشغل بضم الشين وسكون الغين ويجوز ضم الغين مع الشين.

(٣) فاكهون بالألف وفكهون بدونه كفرحين لغتان وفسر بفرحين ومعجبين وبمسرورين والكل صحيح إذ هو من جملة النعيم الذي هم فيه.

(٤) الأرائك جمع أريكة كسفينة وسفائن قال الشاعر :

كأن احمرار الورد فوق غصونه

بوقت الضحى في روضه المتضاحك

خدود عذارى قد خجلن من الحياء

تهادين بالريحان فوق الأرائك

من كل زوج ولون ونوع ولهم ما يدعون أي ما يتمنون ويطلبون ، وأعظم من ذاك سلام الربّ تعالى عليهم (١) سلام قولا من ربّ رحيم أي سلام من الله بالقول لا بغيره من أنواع السلامة والسّلام. فقد روى البغوي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ يسطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذ الربّ عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم السّلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله تعالى سلام قولا من ربّ رحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد.

٢ ـ بيان نعيم الجنة.

٣ ـ سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ

__________________

(١) استئناف قطع من أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه وسلام مرفوع بالابتداء وهو نكره وتنكيره للتعظيم ولذا صح الابتداء به وحذف الخبر لدلالة المصدر وهو قولا عليه ، والتقدير سلام يقال لهم قولا من الله تعالى ، ومن ابتدائية ، وتنوين ربّ للتعظيم.

عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

شرح الكلمات :

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) : أي انفردوا عن المؤمنين وانحازوا على جهة وسيروا أيها الصالحون إلى الجنة.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) : أي ألم أوصكم بترك عبادة الشيطان وهي طاعته.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) : أي وبأن تعبدوني وحدي وذلك في كتبي وعلى ألسنة رسلي.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي بترك عبادة الشيطان والقيام بطاعة الرحمن. هو الإسلام الموصل إلى دار السّلام.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) : أي ولقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا.

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) : أي اطعتموه فلم تكونوا تعقلون عداوته لكم.

هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون : أي تقول لهم الملائكة هذه جهنم ... الخ.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) (١) : أي عند ما يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) : أي ولو أردنا طمس أعين هؤلاء المشركين المجرمين لفعلنا ، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة منّا.

(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) : أي فابتدروا الطريق كعادتهم فكيف يبصرون.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) : أي بدلنا خلقهم حجارة أو قردة أو خنازير في امكنتهم التي هم فيها فلا يستطيعون مضيّا ولا يرجعون.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) : أي ومن نطل عمره ننكسه في الخلق فيكون بعد قوته ضعيفا عاجزا.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ) : أي أن القادر على ما ذكرنا لكم قادر على بعثكم بعد موتكم. : فتؤمنون وتوحدون فتنجون من العذاب وتسعدون.

__________________

(١) روى مسلم عن أنس بن مالك قال كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتدرون مما أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى فيقول لا أجير عليّ إلا شاهدا من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي بعمله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكنّ كنت أناضل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَامْتازُوا (١) الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يأمر تعالى المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك وارتكاب المعاصي فأفسدوها يأمرهم بأن يتميّزوا عن المؤمنين فينفردوا وحدهم ويسار بأهل الجنة إلى الجنة ، ثم يوبخ تعالى المجرمين أهل النار بقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (٢) موصيا إياكم على ألسنة رسلي وفي كتبي بأن (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وبأن تعبدوني وحدي ، ولا تعبدوا الشيطان معي فتشركوه في عبادتي هذا صراط مستقيم أي ترك عبادة الشيطان والقيام بعبادة الرحمن هذا هو الإسلام الصراط المستقيم الذي لا ينتهي بالسالكين إلا إلى باب دار السّلام. وقوله (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) أي خلقا كثيرا هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين. وقوله (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٣) وهذا تقريع وتوبيخ أيضا أي اطعتموه وهو عدوكم وعصيتموني وأنا ربكم فلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم ، وواجب عبادتي عليكم لأني خلقتكم ورزقتكم وكلأتكم الليل والنهار إذا فهذه جهنم (٤) التي كنتم بها تكذبون (اصْلَوْهَا) أي احترقوا بها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالله وآياته ولقائه وتكذبون رسله. وقوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) هذا يحدث لما يعرضون على ربهم فيعرض عليهم أعمالهم فينكرون فعندئذ يختم الله على أفواههم فلا يستطيعون الكلام وتنطق باقي جوارحهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) فأعميناهم (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي ابتدروا الطريق كعادتهم فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب ، ولكن الله لم يشأ ذلك لرحمته وحلمه على عباده ، وقوله (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) (٥) أي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم من منازلهم فلا يستطيعون مضيا في الطريق ولا رجوع إلى خلف أي لا ذهابا ولا إيابا ، وقوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ (٦) فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) فنرده رأسا على عقب

__________________

(١) يقال مازه فانماز وامتاز ، وميزه فتميز وامتازوا أمر من امتاز ويمتاز إذ انفرد عما كان مختلطا به ، والمراد بذلك سوقهم إلى النار بعد أن دخل المؤمنون الجنة.

(٢) الاستفهام للتقرير والتوبيخ على إهمالهم وصيته تعالى إليهم بأن لا يعبدوا الشيطان.

(٣) قوله تعالى (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) الاستفهام للتقريع والتأنيب.

(٤) قوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي على ألسنة رسلي فكذبتم بها وواصلتم شرككم وكفركم. (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أي احترقوا بها بما كنتم تكفرون أي بسبب كفركم الذي دسى نفوسكم وخبثها فحرمتم بذلك دار السّلام.

(٥) المكانة تأنيث المكان على تأويله بالبقعة.

(٦) قرأ الجمهور ننكسه بفتح النون الأولى وسكون الثانية مضارع نكس رأسه وقرأها عاصم (نُنَكِّسْهُ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة.

فكما كان طفلا ينمو شيئا فشيئا في قواه العقلية والبدنية حتى شب واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف (١) في قواه العقلية والبدنيّة يوما فيوما حتى يصبح أضعف عقلا وبدنا منه وهو طفل. وقوله أفلا تعقلون أيها المكذبون المجرمون أن القادر على هذا وغيره وعلى كل شيء يريده قادر على أن يحييكم بعد موتكم ويبعثكم من قبوركم ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد وبيان مواقف منه.

٢ ـ تأكيد عداوة الشيطان للإنسان.

٣ ـ عجز الإنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها.

٤ ـ التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه.

٥ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

__________________

(١) قال سفيان إذا بلغ المرء ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته قال الشاعر :

من عاش أخلقت الأيام جدته

وخانه ثقتاه السمع والبصر

شرح الكلمات :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) : أي وما علمنا رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر فما هو بشاعر.

(وَما يَنْبَغِي لَهُ) : أي وما يصلح له ولا يصح منه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) : أي ليس كما يقول المشركون من أن القرآن شعر ما هو أي القرآن الذي يقرأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا ذكر أي عظة وقرآن مبين لا يشك من يسمعه أنه ليس بشعر لما يظهر من الحقائق العلميّة.

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) : أي يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون.

(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) : أي ويحق القول بالعذاب على الكافرين لأنهم ميتون لا يقبلون النذارة.

(أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) : الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) : أي سخرناها لهم وجعلناهم قاهرين لها يتصرفون فيها.

(فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) : أي من بعضها يركبون وهي الإبل ومنها يأكلون أي ومن جميعها يأكلون.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) : المنافع كالصوف والوبر والشعر ، والمشارب الألبان

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) : أي يوبخهم على عدم شكرهم الله تعالى على هذه النعم بالإيمان والطاعة.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) : أي أصناما يعبدونها زعما منهم أنها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله.

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) : أي لا تقدر تلك الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) : أي لا يقدرون على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جند محضرون. لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها أحد بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) : أي إنك لست مرسلا وإنك شاعر وكاهن ومفتر.

(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) : أي انهم ما يقولون ذلك إلا حسدا وهم يعلمون أنك رسول الله وما جئت به هو الحق وسوف نجزيهم بتكذيبهم لك وكفرهم بنا وبلقائنا وديننا الحق.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (١) ردّ على المشركين الذين قالوا في القرآن شعر وفي الرسول شاعر فقال تعالى (وَما عَلَّمْناهُ) أي نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشِّعْرَ (٢) ، وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا يصح منه ولا يصلح له. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي ما هو الذي يتلوه إلا ذكر يذكر به الله وعظة يتعظ به المؤمنون (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) مبين للحق مظهر لمعالم الهدى أنزلناه على عبدنا ورسولنا لينذر به من كان حيا أي القلب والضمير لإيمانه وتقواه لله ويحق أي به القول وهو العذاب على الكافرين لأنهم لا يهتدون به فيعيشون على الضلال ويموتون عليه فيجب لهم العذاب في الدار الآخرة. وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أعمي أولئك المشركون ولم يروا مظاهر قدرتنا وإحساننا الموجبة لعبادتنا وهي (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ (٣) أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، والمراد بالأنعام الماشية من إبل وبقر وغنم وقوله (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي سخرناها لهم بحيث يركبون ويحلبون ويحملون وينحرون ويذبحون ويأكلون ، ولو لا هذا التسخير لما قدروا عليها أبدا. وقوله (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) المنافع كالصوف والوبر والشعر (وَمَشارِبُ) جمع مشرب وهي الألبان في ضروعها يحلبون منها ويشربون. وقوله (أَفَلا يَشْكُرُونَ) يوبخهم على أكل النعم وعدم الشكر عليها ، وشكر الله عليها هو الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي اتخذ أولئك المشركون آلهة هي أصنامهم التي يعبدونها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي رجاء نصرتها لهم وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يزعمون. قال تعالى في إبطال هذا الرجاء وقطعه عليهم (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر وقوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والحال أن المشركين هم جند تلك الأصنام محضرون وعندها يدافعون عنها ويحمونها ويغضبون لها فكيف ينصرك من هو مفتقر إلى نصرتك. وقوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) (٤) أي لا تحزن لما يقول قومك من أنك لست مرسلا ، وأنك شاعر

__________________

(١) انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصالته في الأدب الرفيع وكيف وهو قرشي مضري لا يحسن إنشاد بيت من الشعر حتى إنه أنشد يوما بيت طرفة فقال :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزوده بالأخبار

فقال أبو بكر والله إنك لرسول الله إذ عجز البيت هكذا ويأتيك بالأنباء من لم تزود.

(٢) (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أي وما أوحينا إليه شعرا وما علمناه إياه.

(٣) (مِمَّا عَمِلَتْ) (ما) موصولة بمعنى الذي وحذف العائد وهو الضمير لطول الاسم أي عملته. وإن قلناه «ما» مصدرية فلا حاجة إلى مراعاة العائد ولا تقديره.

(٤) قرىء يحزنك بضم الياء من أحزنه يحزنه وقرىء (يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي ، والنهي عن الحزن نهي عن أسبابه الموجبة له ، إذ الحزن لا يملك الإنسان دفعه ولكن يستطيع تجنب مثيراته والمراد من هذا النهي تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يواجهه به المشركون من انه ساحرا أو شاعر وما إلى ذلك.

وساحر وكاهن إلى غير ذلك من أقاويلهم ، (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (١) وسنجزيهم عن قولهم الباطل ونأخذهم بكذبهم وافترائهم عليك كما نحن نعلم أنهم ما قالوا الذي قالوا إلا حسدا لك ، وإلا فهم يعلمون أنك رسول الله وما أنت بالساحر ولا الشاعر ولا المجنون ، ولكن حملهم على ما يقولون الحسد والعناد والكبر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن ذكر وليس شعر كما يقول المبطلون.

٢ ـ الحكمة من نزول القرآن هي أن ينذر به الرسول الأحياء من أهل الإيمان.

٣ ـ بيان خطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون الأحياء لا يقرأونه عليهم وعظا لهم وإرشادا وتعليما وتذكيرا.

٤ ـ وجوب ذكر النعم وشكرها بالاعتراف بها ، وصرفها في مرضاة واهبها وحمده عليها.

٥ ـ بيان سخف المشركين في عبادتهم أصناما يرجون نصرها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)

__________________

(١) جملة (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) جملة تذييلية المراد منها أمران تطمين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفاية الله تعالى له وان كيدهم لا يضره وتهديد للمشركين بإعلامهم أن الله مطلع على ما يمكرون وسيجزيهم به.

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

شرح الكلمات :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) : أي المنكر للبعث كالعاصي بن وائل السهمي ، وأبيّ بن خلف.

(أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من منيّ إلى أن صيرناه رجلا قويا.

(فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) : أي شديد الخصومة بيّنها في نفي البعث.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) : أي في ذلك ، إذ أخذ عظما وفته أمام رسول الله وقال أيحيي ربك هذا؟

(وَنَسِيَ خَلْقَهُ) : أي وأنه مخلوق من ماء مهين وأصبح رجلا يخاصم فالقادر على الخلق الأول قادر على الثاني.

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) : أي وقد رمّت وبليت.

(مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) : أي من شجر المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار.

(بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) : أي مثل الأناسي.

(بَلى) : أي قادر على ذلك إذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.

(إِذا أَرادَ شَيْئاً) : أي خلق شيء وإيجاده.

(بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) : أي ملك كل شيء ، زيدت التاء للمبالغة في كبر الملك واتساعه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي تردون بعد الموت وذلك في الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالبا هداية الإنسان وإصلاحه فقال تعالى ردّا على العاصي بن وائل السهميّ وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله

صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم يميتك ثم يحييك ثم يحشرك إلى جهنم ونزلت هذه الآيات (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) (١) أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من ماء مهين وسويناه رجلا فإذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح ، إذ القادر على البدء قادر عقلا على الإعادة وهي أهون عليه. وقوله (وَضَرَبَ لَنا) أي هذا المنكر للبعث مثلا أي جعل لنا مثلا وهو انكاره علينا قدرتنا على البعث حيث جعل إعادتنا للخلق أمرا عجبا وغريبا إذ قال (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢) أي قد رمّت وبليت. ونسى خلقه من ماء حقير وكيف جعله الله بشرا سويا يجادل ويخاصم فلو ذكر أصل نشأته لخجل أن ينكر إحياء العظام وهي بالية رميم؟ ولما قال من يحيى العظام وهي رميم؟. وقوله تعالى (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا هو القياس العقلي الجلي الواضح إذ بالبداهة أن من أوجد شيئا من العدم قادر على إيجاد مثله. وقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) أي مخلوق عليم فالعلم والقدرة إذا اجتمعا كان من السهل إيجاد ما أعدم بعد أن كان موجودا فأعدم لا سيما أن الموجد من العدم هو المخبر بالإعادة وبقدرته عليها.

هذا برهان قطعي وثاني برهان في قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ (٣) مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي النار وتشعلونها ، ووجه الاستدلال أن البعث لو كان مستحيلا عقلا وما هو بمستحيل بل هو واجب الوقوع لكان على الله غير مستحيل لأن الله تعالى قد أوجد من المستحيل ممكنا وهو النار من الماء ، إذ الشجر الأخضر (٤) ماء سار في أغصان الشجرة. ومع هذا يوجد منها النار ، فكان هذا برهانا عقليا يسلم به العقلاء ولا ينازعون فيه أبدا ، وبرهان ثالث وهو في قوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ؛؟ ووجه البرهنة فيه أننا ننظر إلى السموات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك وننظر إلى الإنسان فنجده

__________________

(١) روي أيضا أن العاص بن وائل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل فقال يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم ويبعثك الله ويدخلك النار فنزلت هذه الآية.

(٢) يقال رمّ العظم يرم فهو رميم ورمام وقال رميم ولم يقل رميمة لأنها معدولة عن فاعله نحو بغيا لم يقل بغية لأنه معدول عن باغية

(٣) هذا الكلام مستأنف ابتدائيا الغرض إقامة الحجة العقلية على صحة البعث وإمكانه وهو ما أنكره المشركون واستبعدوه فذكر لهم أن الذي يخرج من الماء الرطب البارد النار وهما لا يجتمعان ، قادر على إخراج الضد من الضد وهو على كل شيء قدير.

(٤) قال القرطبي يعني بالآية مع في المرخ والعفار وهي زنادة العرب التي يشعلون بها النار ، ومن ذلك قولهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.

لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض فنحكم بأن من خلق السموات والأرض على عظمها قادر من باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبلاه وفنائه. ولذا أجاب تعالى عن سؤاله بنفسه فقال (بَلى وَهُوَ (١) الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي الخلاق لكل ما أراد خلقه العليم بكل مخلوقاته لا يخفى عليه شيء منها ، وبرهان رابع في قوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ووجه الاستدلال أن من كان شأنه في إيجاد ما أراد إيجاده أن يقول له كن فهو يكون. لا يستنكر عليه عقلا أن يحيي الأموات بكلمة كونوا أحياء فيكونون كما طلب منهم.

وأخيرا ختم هذا الرد المقنع بتنزيه نفسه عن العجز فقال (فَسُبْحانَ (٢) الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) أي ملك كل شيء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أحببتم أم كرهتم أيها الآدميون منكرين كنتم للبعث أم مقرين به مؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أربعة براهين قاطعة.

٢ ـ مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة.

٣ ـ تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص.

٤ ـ تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت فلذا لا يصح طلب شيء من غيره إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له.

__________________

(١) بلى لنقض النفي أي بل هو قادر على أن يخلق مثلهم كقوله أليس الله بأحكم الحاكمين؟ فالجواب بلى أي هو أحكم الحاكمين إبطال لما نفته ليس إذ هي حرف نفي.

(٢) (فَسُبْحانَ) : نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشرك والعجز والملكوت ، والملكوتى : بمعنى نحو جبروتى ورحموتى من الجبروت والرحموت والعرب تقول جبروتى خير من رحموتى.

(٣) الملكوت مبالغة في الملك بكسر الميم من ذلك قولهم رهبوت خير من رحموت أي ليرهبك الناس خير من أن يرحموك لأن مع الرهبة العزة ومع الرحمة الضعف والعجز.

سورة الصّافّات

مكية

وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

شرح الكلمات :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) : أي الملائكة تصف أنفسها في الصلاة وأجنحتها في الهواء.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : أي الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه حيث يأذن الله.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) : أي فالجماعات التاليات (١) للقرآن ذكرا.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) : أي إن إلهكم المعبود الحق لكم أيها الناس لواحد.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) : أي هو ربّ السموات والأرض وما بينهما أي خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما.

(وَرَبُّ الْمَشارِقِ) : أي والمغارب وهي مشارق الشمس ومغاربها إذ للشمس كل يوم مشرق ومغرب.

__________________

(١) جائز أن تكون الجماعات التالية لكلام الله تعالى من الملائكة ومن البشر روى مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) : أي وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد خارج عن الطاعة.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) : أي لا يستمعون إلى الملائكة في السموات العلا.

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً) : يرمون بالشهب من كل جوانب السماء دحورا أي إبعادا لهم.

(عَذابٌ واصِبٌ) : أي دائم لا يفارقهم.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) : أي اختطف الكلمة من الملائكة بسرعة وهرب.

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) : أي كوكب مضيء ثاقب يثقبه أو يحرقه أو يخلبه أي يفسده.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالصَّافَّاتِ (١) صَفًّا) هذا قسم إلهي يؤكد به تعالى إلهيته على عباده فقد أقسم بالصافات والزاجرات والتاليات ذكرا أي قرآنا ، وسواء قلنا أقسم بهذه المخلوقات إذ لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وإنما الممنوع أن يقسم العبد بغير ربّه تعالى. أو قلنا أقسم تعالى بنفسه أي وربّ الصافات الخ فالقسم حاصل من أجل تقرير التوحيد ، وهذا الإقسام جار على عرف البشر في أنهم إذا أخبروا بشيء يشكون في صحته فيؤكد لهم المخبر الخبر باليمين ليزيل الشك من نفوسهم. وقوله (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٢) هو المقسم عليه وهو أن إله البشرية كلها واحد وهو الله خالقها ورازقها وليس لها من إله غيره ، وما عندها من آلهة فهي آلهة باطلة ويكفي في بطلانها أنها أصنام وصور وتماثيل وصلبان لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر. وقوله (رَبُّ السَّماواتِ (٣) وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) تدليل على وحدانية الله تعالى إذ هو خالق السموات والأرض وما بينهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما ، وربّ المشارق أيضا والمغارب أي مشارق الشمس ومغاربها إذ كل يوم تشرق وتغرب في درجة معينة فإلاله الحق هو الخالق للعوالم والمدبر لها لا الذي ينحته الرجل بيده ويقول هو إلهي زورا وباطلا. ألا فليتحرر المشركون من أسر الشيطان ويعبدوا الرحمن. وقوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ (٤) الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٥) هذه مظاهر القدرة والعالم

__________________

(١) روى مسلم وغيره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف.

(٢) هذا جواب القسم وهو المقسم عليه والصافات الملائكة تصف أجنحتها في السماء أو تصف للصلاة كما يصف المؤمنون للصلاة في الدنيا ، وجائز أن يراد بالصافات صفوف المؤمنين في الصلاة وفي الجهاد.

(٣) رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السموات الخ.

(٤) هذه الجملة بمثابة الدليل على ربوبية الله تعالى الموجبة للألهية له سبحانه وتعالى دون سواه.

(٥) قرأ الجمهور بزينة الكواكب بإضافة زينة إلى الكواكب وقرأ حفص بتنوين زينة وجر الكواكب على البدلية ومنهم من نصب الكواكب على الاختصاص والكواكب جمع كوكب وهي تلك الأجرام الكريّة السماوية ومنها الثوابت ومنها السيارة وهي كل ما يرى في السماء ما عدا الشمس والقمر وتسمى النجوم وهي تختلف في أحجامها.

والحكمة إنه وحده تعالى زين السماء الدنيا أي القريبة من الأرض بزينة هي الكواكب المشرقة المنيرة. وقوله (وَحِفْظاً (١) مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء حفظا تاما من كل شيطان عاد متمرد عن الطاعة. وقوله (لا يَسَّمَّعُونَ (٢) إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لا يتسمعون إلى الملائكة في السماء حتى لا ينقلوا أخبار الغيب إلى أوليائهم من الكهان في الأرض. وقوله (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي ويرمى أولئك المردة من الشياطين من قبل الملائكة من كل جهة من جهات السماء (دُحُوراً) أي لدحرهم وإبعادهم. وقوله تعالى (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٣) لأولئك المردة من الشياطين عذاب واصب موجع دائم وقوله (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي اختطف الكلمة بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ (٤) ثاقِبٌ) أي كوكب مضيىء فثقبه فقتله أو أحرقه أو خبله أي أفسده ، وبهذا حميت السماء بالملائكة من دخول الشياطين إليها واستراق السمع. والحمد لله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته إما تنويها بعظمتها المقرر ضمنا لعظمة خالقها وإما بيانا لفضلها وإما لفتا لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد.

٢ ـ تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله.

٣ ـ بيان الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا.

٤ ـ بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع ، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع (٥).

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ

__________________

(١) قال أهل العلم النجوم لثلاثة للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكزينة للسماء بما فيها من أنوار وللحفظ من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة فمن طلبها لغيرها فقد أساء واعتدى.

(٢) قرأ الجمهور لا يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم وقرأ حفص عن عاصم (لا يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين والميم مفتوحتين الأصل لا يتسمعون من التسمع فقلبت التاء سينا وأدغمت في السين.

(٣) الواصب : الدائم يقال وصب يصب وصوبا إذا دام وهو عذاب الآخرة.

(٤) يقال له في علم الهيئة النيزك وعن ابن عباس الشهاب لا يقتل ولكن يخترق ويخبل.

(٥) صح في الحديث أن من الجائز أن ينجو مسترق السمع من شهب الملائكة ، ويلقي بالكلمة التي استرقها إلى الكاهن أو الساحر بعد ما يضيف إليها تسعا وتسعين كلمة.

وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

شرح الكلمات :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : أي استخبر كفار مكة تقريرا وتوبيخا.

(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) : أي خلقهم في ذواتهم وإعادتهم بعد موتهم ، أم من خلق تعالى من الملائكة والسموات والأرض وما فيها من سائر المخلوقات.

(مِنْ طِينٍ لازِبٍ) : أي يلصق باليد.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) : أي عجبت يا نبي الله من إنكارهم للبعث ، وهم يسخرون من دعوتك إلى الإيمان به.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) : أي وإذا وعظوا لا يتعظون.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) : أي إذا رأوا حجة من الحجج التي تحمل الآيات القرآنية تقرر البعث والتوحيد والنبوة يسخرون أي يستهزئون.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) : أي قل لهم يا رسولنا نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) : أي صيحة تزجرهم وهي نفخة إسرافيل في الصور النفخة الثانية.

(هذا يَوْمُ الدِّينِ) : أي يوم الحساب والجزاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء وقوله تعالى فاستفتهم (١) أي استخبرهم واطلب جوابهم أي بقولك آنتم أشد خلقا أي في ذواتكم وفي إحيائكم بعد مماتكم أم من خلقه الله من الملائكة والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما؟ والجواب معلوم وهو أن خلق غيرهم

__________________

(١) مأخوذ من استفتاء المفتي والفتيا هي اخبار عن أمر يخفى عن غير الخواص في غرض ما والاستفهام هنا تقريري.

من العوالم أشد خلقا إذا فكيف ينكرون البعث بدعوى استحالة وجوده لصعوبته قال تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي خلقنا أباهم آدم من طين لازب أي لاصق يلصق باليد ثم خلقناهم بطريق التناسل أفيعجزنا إعادة خلقهم مرة أخرى والجواب لا. لا وقوله تعالى (بَلْ (١) عَجِبْتَ) أي من تكذيبهم بالبعث لوضوح الأدلة على إمكانه ووجوب وجوده (وَيَسْخَرُونَ) أي وهم يسخرون من ذلك أي يستهزئون من قولك بالبعث وإمكانه. وقوله تعالى (وَإِذا ذُكِّرُوا) أي بالآيات لعلهم يذكرون فيؤمنون ويوحدون لا يذكرون لقساوة قلوبهم وظلمة ذنوبهم بالشرك والمعاصي. وقوله (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (٢) أي يسخرون ويستهزئون (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القول والعمل إلا سحر مبين أي بيّن ظاهروهم في ذلك كاذبون قطعا للفرق بين السحر الذي هو تخيل باطل وبين الحق الثابت عقلا ووحيا من دقائق الشرع وأصول الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر وقوله (أَإِذا مِتْنا (٣) وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) هذا قول المكذبين من المشركين يقولونه متعجبين مستبعدين للبعث قال تعالى ردّا عليهم قل يا رسولنا لهم (نَعَمْ) تبعثون أحياء (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون ذليليون وأمر إعادتكم لا يتطلب أكثر من أن ينفخ اسرافيل في الصور فإذا أنتم أحياء تخرجون من قبوركم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) أي صيحة (واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ) قيام (يَنْظُرُونَ) ويقولوا أي عند قيامهم من قبورهم (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر هذا أوان حضورك أي يدعون على أنفسهم بالهلاك لشدة ما شاهدوا من هول القيامة كقول أحدهم يا ليتها كانت القاضية. وقولهم (هذا يَوْمُ الدِّينِ) اعتراف منهم بالبعث والجزاء ولكن في وقت ما هو بنافع لهم الاعتراف فيه أي هذا يوم الحساب والجزاء فيقال لهم (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) (٤) الذي يفصل الله تعالى فيه بين عباده فيما كانوا فيما يختلفون فيحكم بنيهم بالعدل ، وقوله تعالى (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فيه توبيخ لهم أي هذا يوم البعث الذي كنتم تكذبون به وتقولون مستبعدين له أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو أباؤنا الأولون أي وآباؤنا الأولون أيضا.

__________________

(١) (بَلْ) للاضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى حالهم العجب قرأ الجمهور عجبت بفتح التاء والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ ابن مسعود بضم التاء ونسبة العجب إلى الله تعالى ليست كنسبته إلى خلقه كسائر صفاته تعالى.

(٢) سخريتهم هذه من محاجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أتاهم بالآيات القرآنية الحاملة للأدلة العقلية وهم لجهلهم وعجزهم يدفعونها بالاستسخار والإنكار وهذا غاية الجهل والضلال.

(٣) الاستفهام إنكاري وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال.

(٤) جائز أن يكون (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من قول الله تعالى والملائكة لهم وجائز أن يكون من قول بعضهم لبعض.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين اللازب أي اللاصق باليد.

٢ ـ بيان موقفين متضادين الرسول يعجب من كفر المشركين وتكذيبهم والمشركون يسخرون من دعوته إياهم إلى الإيمان وعدم التكذيب بالله ولقائه.

٣ ـ تقرير البعث وبيان طريقة وقوعه.

٤ ـ عدم الانتفاع بالإيمان عند معاينة العذاب.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أنفسهم بالشرك والمعاصي.

(وَأَزْواجَهُمْ) : أي قرناءهم من الشياطين.

(مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من غير الله من الأوثان والأصنام.

(فَاهْدُوهُمْ) : أي دلوهم وسوقوهم.

(إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) : أي إلى طريق النار.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) : أي احبسوهم عند الصراط إنهم مسؤولون عن جميع أقوالهم وأفعالهم.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) : أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا توبيخا لهم.

(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) : أي عن يمين أحدنا تزينون له الباطل وتحسّنون له الشر فتأمرونه بالشرك وتنهونه عن التوحيد.

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : أي قال قرناؤهم من الجن ردّا عليهم بل لم تكونوا أساسا مؤمنين.

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي من حجة ولا قوة على حملكم على الشرك والشر والباطل.

(بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) : أي بل كنتم طغاة ظلمة تعبدون غير الله تعالى وتجبرون الناس على ذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في موقف عرصات القيامة إنهم بعد اعترافهم بأن هذا يوم الدين وردّ الله تعالى عليهم بقوله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يقول الجبار عزوجل (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) أي احشروا الذين ظلموا بالشرك والمعاصي (١) ، وقوله (وَأَزْواجَهُمْ) أي قرناءهم (٢) من الجن (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأوثان. وقوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ (٣) إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) يقول الله عزوجل فاهدوهم أي دلوهم إلى طريق النار. ويقول (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم يسألون (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٤) أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا. كيف ينصر بعضهم بعضا في مثل هذا الموقف الرهيب (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون ذليلون وقوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبل الأتباع على المتبوعين يتساءلون أي يتلاومون كلّ يلقي بالمسؤولية على الآخر. فقال الأتباع من الإنس لقرنائهم من الجن ما أخبر تعالى به عنهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٥) أي والشمال أي توسوسون لنا فتحسّنون لنا الشرك والشر بلى تأمروننا به وتحضوننا عليه. فرد عليهم قرناؤهم بما أخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي ما كنتم مؤمنين فكفرناكم ولا

__________________

(١) ظلموا بمعنى اشركوا لأن الشرك اقبح أنواع الظلم شاهده قوله تعالى إن الشرك لظلم عظيم والآمر في قوله (احْشُرُوا) الله عزوجل والمأمور الملائكة والمأمور بحشرهم المشركون.

(٢) وفسر أزواجهم أيضا بأشياعهم وقرناؤهم وهم من الجن وما في التفسير أولى.

(٣) أي سوقوهم إلى النار والمأمور الملائكة كما تقدم.

(٤) ما لكم لا تناصرون أي ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا والاستفهام للتقريع والتوبيخ.

(٥) اضطرب أهل التفسير في تفسير تأتوننا عن اليمين وأقوالهم متضاربة فمنهم من قال تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها قاله قتادة ، ومنهم من قال اليمين بمعنى القوة أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر وهذا ينسجم مع السياق وما في التفسير شامل لهذه الأقوال إذ معناه انكم تأتوننا من كل جهة تحاولون اغواءنا واضلالنا.

صالحين فأفسدناكم ، ولا موحدين فحملناكم على الشرك. هذا أولا وثانيا (ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجج قوية أقنعناكم بها ، ولا قدرة لنا أرهقناكم بها فاتبعتمونا ، بل كنتم أنتم قوما طاغين أي ظلمة متجاوزين الحد في الإسراف والظلم والشر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان صورة لموقف من مواقف عرصات القيامة.

٢ ـ بيان أن الأشباه في الكفر أو في الفجور أو في الفسق تحشر مع بعضها بعضا.

٣ ـ عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين واحتجاج التابعين على المتبوعين.

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) : أي وجب علينا العذاب.

(إِنَّا لَذائِقُونَ) : أي العذاب نحن وأنتم.

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) : أي أضللناكم إنا كنّا ضالين.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم القيامة.

(فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) : لأنهم كانوا في الغواية مشتركين.

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) : كما عذبنا هؤلاء التابعين والمتبوعين نعذب التابعين والمتبوعين في كل ضلال وكفر وفسّاد.

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ) : أي إن أولئك المشركين من عبدة الأوثان إذا قال لهم الرسول.

(لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) : أي قولوا لا إله إلا الله ولا تعبدوا إلا الله يستكبرون ولا يقولون ولا يوحدون.

(لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) : يعنون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) : أي بل جاء بلا إله إلا الله وهو الحق الذي جاءت به الرسل وقد صدّقهم فيما جاءوا به من قبله وهو التوحيد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما ذكر تعالى من تساؤلات الظالمين وما قاله الأتباع للمتبوعين وما قاله المتبوعون للاتباع فقوله تعالى (فَحَقَّ عَلَيْنا (١) قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) هذا قول المتبوعين لأتباعهم قالوا لهم فبسبب غوايتنا وضلالنا وجب علينا العذاب إنا وأنتم لذائقوه لا محالة. وقالوا لهم أيضا معترفين بإغوائهم لهم (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) هذا قول الجن للإنس قال تعالى (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) وذلك لاشتراكهم في الشرك والشر والفساد. وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) من سائر الأصناف كالزناة وأكلة الربا وسافكي الدماء فنعذب الصنف مع صنفه وهذا عائد إلى قوله احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشياعهم وأضرابهم وقوله تعالى (إِنَّهُمْ (٢) كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) يخبر تعالى عن مشركي قريش أنهم كانوا في الدنيا إذا قال لهم رسول الله أو أحد المؤمنين قولوا لا إله إلا الله يستكبرون (٣) ويشمئزون ولا يقولونها بل (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ (٤) مَجْنُونٍ) يعنون النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصفون القرآن بالشعر ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاليه وقارئه بالشعر ولما يدعوهم إليه من الإيمان بالبعث والجزاء بالجنون والرسول في نظرهم مجنون. فرد تعالى عليهم بقوله (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) (٥) أي لم يمكن رسولنا بشاعر ولا مجنون بل جاء بالحق فأنكرتموه وكذبتم به تقليدا وعنادا فقلتم ما قلتم. وإنما هو قد جاء بالحق الذي هو لا إله إلا الله (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين جاءوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والدعوة إليها والحياة والموت عليها.

__________________

(١) أي وجب علينا قول ربنا فكلنا ذائقوا العذاب شاهده قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عزوجل كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم.

(٢) (إِنَّهُمْ كانُوا) : هذه الجملة تعليلية للحكم السابق وهو بيان العلة منه وفي الكلام حذف تقديره أنهم كانوا إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله فحذف القول للعلم به.

(٣) شاهده حديث ابن أبي حاتم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه إلى الله» وهو في الصحيح بأوسع منه.

(٤) أي لقول شاعر فحذف القول لظهوره.

(٥) (بَلْ) للاضراب الانتقالي أي اضرب عن قولهم : شاعر مجنون الباطل وقد سبق الحق المبين وهو شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان هلاك الضال ومن أضله والغاوي ومن أغواه.

٢ ـ بيان ما كان يوجهه المشركون لرسول الله من التّهم الباطلة وردّ الله تعالى عليها.

٣ ـ التعظيم من شأن لا إله إلا الله وانها دعوة كل الرسل التي سبقت النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة المحمدية.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي إلّا جزاء ما كنتم تعملونه من الشرك والمعاصي.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي لكن عباد الله المخلصين أي العبادة لله وحده فإنهم يجزون بأكثر أعمالهم إذ الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.

(لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) : أي في الجنة بكرة وعشيا.

(فَواكِهُ) : أي طعامهم وشرابهم فيها للتلذذ به كما يتلذذ بالفواكه فليس هو لحفظ أجسامهم حية كما في الدنيا.

وهم فيها مكرمون : أي لا تلحقهم فيها إهانة بل يقال لهم هنيئا بخلاف أهل النار يقال لهم ذوقوا عذاب النار بما كنتم تعملون.

(مِنْ مَعِينٍ) : أي يجري على وجه الأرض كعيون الماء الجارية على الأرض.

(لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) : أي الخمرة موصوفة بأنها لذة للشاربين.

(لا فِيها غَوْلٌ) : أي ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم.

(وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) : أي لا يسكرون عنها أي بسببها كما هي خمر الدنيا.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن لحسنهم وجمالهم عندهن.

(عِينٌ) : أي واسعات الأعين الواحدة عيناء.

(بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : أي كأنهن بيض مكنون أي مستور لا يصله غبار ولا غيره.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا (١) الْعَذابِ الْأَلِيمِ ، وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا يقال لأهل النار وهم موقوفون يتساءلون ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول فيخبرون بأنهم ذائقوا العذاب الأليم الموجع ، وأنهم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون فلا يظلمون بالجزاء بل هو جزاء عادل السيئة بمثلها. وهنا استثنى تعالى جزاء عباده المؤمنين الذي استخلصهم لعبادته فعبدوه ووحدوه فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلا منه عليهم وإحسانا إليهم فالحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة وأكثر ، فقال (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وبيّن تعالى بعض جزائهم فقال (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي يأكلونه بكرة وعشيا (٢) ، وقوله (فَواكِهُ) (٣) فيه إشارة إلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء ، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذا بذلك لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي في الجنة حيث لا تلحقهم إهانة أبدا ، وقوله (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم حتى جعل الجنة جنّة النعيم فجعل للنعيم وهو النعيم جنة ، وأخبر أنهم متكئون فيها (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم إلى بعض وهم في جلسات تنعم ، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص فقال (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر تجرى بها الأنهار كأنها عيون الماء ، ووصف

__________________

(١) الأصل لذائقون العذاب فحذفت النون تخفيفا وأضيف لذائقوا إلى العذاب فخفض ولو نصب لجاز كقول الشاعر :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا

(٢) (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : الاستثناء منقطع في معنى الاستدراك وهو تعقيب الكلام بما يضاده أو يرفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه وهو الغالب في الاستدراك قرأ الجمهور المخلصين باسم المفعول وقرأها غيرهم باسم الفاعل بكسر اللام والمراد بهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي عن الشافعي قوله :

ومما زادني شرفا وفخرا

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي

وأن أرسلت أحمد لي نبيا

(٣) عطف بيان من (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) والمعنى أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل للشبع.

الخمر بأنها بيضاء وأنها لذة عظيمة للشاربين لها ، وأنها لا فيها غول وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن فقال (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (١) أي لا يسكرون بها فتذهب بعقولهم. وقوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يعني أن لهم نساء هنّ أزواج لهم ومعنى قاصرات الطرف أي على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم وذلك لحسنهم وجمالهم فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها. وقوله (عِينٌ) أي واسعات الأعين (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ (٢) مَكْنُونٌ) هذا وصف لنساء الجنة وأنهن بيض الأجسام بياضا كبياض بيض النعام إذ هو أبيض مشرب بصفرة وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ومعنى (مَكْنُونٌ) مستور لا يناله غبار ولا أي أذى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها ولا يؤاخذ أحدا بغير كسبه في الحياة الدنيا.

٢ ـ بيان فضل الله تعالى إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة.

٣ ـ تقرير البعث وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل.

٤ ـ وصف نعيم أهل الجنة طعاما وشرابا وجلوسا واستمتاعا.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي

__________________

(١) ينزفون بالبناء للمجهول قراءة الجمهور من نزف الشارب فهو منزوف ونزيف شبهوا عقل الشارب بالدم يقال نزف دم الجريح أي أفرغ وأصله من نزف الرجل ماء البئر إذا نزحه ولم يبعد منه شيئا. وقرأ البعض ينزفون من أنزف الرباعي الشارب إذا ذهب عقله بالسكر أي صار ذا نزف فالهمزة للصيرورة لا للتعدية.

(٢) العرب تشبه النساء بالبيض لصفائهن وبياضهن قال امرؤ القيس الشاعر الجاهلي :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

أطلق لفظ البيضة على المرأة.

لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

شرح الكلمات :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي أقبل أهل الجنة.

(يَتَساءَلُونَ) : أي عما مرّ بهم في الدنيا وما جرى لهم فيها.

(إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) : أي كان لي صاحب ينكر البعث الآخر.

يقول لي أئنك لمن المصدقين : أي يقول تبكيتا لي وتوبيخا أي بالبعث والجزاء.

(أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) : أي محاسبون ومجزيون بأعمالنا في الدنيا إنكارا وتكذيبا.

(هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) : أي معي إلى النار لننظر حاله وما هو فيه من العذاب.

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) : أي في وسط النار.

(تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) : أي قال هذا تشميتا به ، ومعنى تردين تهلكني.

(لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) : أي المسوقين إلى جهنم المحضرين فيها.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) : أمخلدون فما نحن بميتين ، والاستفهام للتقرير أي نعم.

(إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) : التي ماتوها في الدنيا.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) : أي لمثل هذا النعيم من الخلود في الجنة والنعم فيها فليعمل العاملون وذلك بكثرة الصالحات واجتناب السيئآت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان نعيم أهل الجنة فقد قال بعضهم لبعض بعد أن جلسوا على السرر متقابلين يتجاذبون أطراف الحديث متذكرين ما مرّ بهم من أحداث في الحياة الدنيا فقال أحدهم إنّي كان لي في الدنيا قرين أي صاحب يقول لي استهزاء وانكارا للبعث الآخر (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي بالبعث والجزاء على الأعمال في الدنيا. ويقول أيضا مستبعدا منكرا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي محاسبون ومجزيون. ثم قال ذلك القائل لبعض

أهل مجلسه (هَلْ أَنْتُمْ (١) مُطَّلِعُونَ) أي معي على أهل النار لنرى صاحبي فيها ونسأله عن حاله فكأنهم أبوا عليه ذلك وأبوا أن يطلعوا أما هو فقد (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في (٢) وسطها ، وقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله (قالَ تَاللهِ) أي والله (إِنْ كِدْتَ (٣) لَتُرْدِينِ) أي تهلكني لما كنت تنكر عليّ الإيمان بالبعث وتسخر مني وتشمت بي لإيماني وعملي الصالح الذي كنت ارجو ثوابه وهو حاصل الآن وقال أيضا (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) عليّ بالعصمة والحفظ لكنت من المحضرين الآن في جهنم معك. ثم قال له (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) والاستفهام تقريري فهو يقرره ليقول نعم (٤) مخلدون نحن في الجنة وأنتم في النار. ثم قال (إِنَّ هذا) أي الخلود في دار النعيم (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ كان نجاة من النار وهي أعظم مرهوب مخوف ، ودخولا للجنة دار السّلام والنعيم المقيم. قال تعالى (لِمِثْلِ هذا) أي هذا الفوز العظيم بالنجاة من النار والخلود في دار الأبرار (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي فليواصلوا عملهم وليخلصوا فيه لله ربّ العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم ويرى صورته ويتخاطب معه ويفهم بعضهم بعضا ، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة.

٢ ـ التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره.

٣ ـ بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين ويعدونهم متخلفين عقليّا.

٤ ـ لا موت في الآخرة (٥) وإنما حياة أبدية في النعيم أو في الجحيم.

٥ ـ الحث على كثرة الأعمال الصالحة ، والبعد عن الأعمال الفاسدة.

__________________

(١) أورد البخاري ايرادات لا حاجة إليها منها قيل القرين هو من الشياطين وقرىء من المصدقين بتشديد الصاد والدال من التصدق بالمال ، وجعل أنتم مطلعون أنه من قول الله تعالى أو قول ملك. وما في التفسير هو الصواب ولا داعي لإيراد ما بخلافه إذ لا فائدة منه إلا تذبذب الرأي واضطراب الفكر.

(٢) قال ابن مسعود رضي الله عنه يقال تعبت حتى انقطع سوائي أي وسطي وقال بعض العلماء ، لو لا أن الله عرفه اياه لما عرفه إذ تغير حبره وسبره أي اللون والهيئة.

(٣) (إِنْ كِدْتَ) إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير ثان محذوف واللام في لتردين هي الدالة على أن إن ليست نافية ولذا تسمّى باللام الفارقة.

(٤) وجائز أن يكون هذا القول موجها إلى أصحاب الأرائك أهل النعيم بعد أن فرغ المؤمن من الحديث مع قرينه في سواء الجحيم قال لرفاقه في النعيم مقررا أفما نحن بميتين ... الآية.

والسياق يساعد على جوار هذا.

(٥) قيل لأحد الحكماء : ما شر من الموت؟ قال الذي يتمنى فيه الموت وقال الشعر :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وكون لا موت في الآخرة صح فيه الحديث إذ يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح بين الجنة والنار وينادي مناد يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

شرح الكلمات :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) : أي ذلك المذكور لأهل الجنة خير نزلا وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره.

(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) : المعدة لأهل النار وهي من أخبث الشجر طعما ومرارة.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) : أي امتحانا واختبارا لهم في الدنيا وعذابا لهم في الآخرة.

(تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) : أي في قعر الجحيم وأغصانها في دركاتها.

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) : أي ما يطلع من ثمرها أولا كالحيات القبيحة المنظر.

(إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) : أي بعد أكلها يسقون ماء حميما فذلك الشوب أي الخلط.

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ) : أي وجدوا آباءهم.

(فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) : أي يسرعون مندفعين إلى اتباعهم بدون فكر ولا رويّة

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) : أي رسلا منذرين لهم من العذاب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) : إنها كانت عذابا أليما لإصرارهم على الكفر.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : فإنهم نجوا من العذاب ولم يهلكوا.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما أعده لأهل الإيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال أذلك (١) المذكور من النعيم في الجنة خير نزلا والنزل ما يعد (٢) من قرى للضيف النازل وغيره أم شجرة الزقوم ، أي ثمرها وهو ثمر سمج مرّ قبيح المنظر. ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش إذ قالوا لما سمعوا بها كيف تنبت الشجرة في النار والنار تحرق الشجر ، فكذبوا بها فكان ذلك فتنة لهم. ثم وصفها تعالى بقوله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي في قعرها وتمتد فروعها في دركات النار. وقوله (طَلْعُها) أي ما يطلع من ثمرها في قبح منظره (كَأَنَّهُ رُؤُسُ (٣) الشَّياطِينِ) لأنّ العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان قبيحة المنظر وقوله (فَإِنَّهُمْ) أي الظلمة المشركين (لَآكِلُونَ مِنْها) أي من شجرة (٤) الزقوم لشدة جوعهم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي بطونهم (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون فيسقون من حميم فذلك الشوب من الحميم إذ الشوب الخلط والمزج يقال شاب اللبن بالماء أي خلطه به وقوله (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي مردهم إلى الجحيم بعد ما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم.

وقوله تعالى (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) أي وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٥) أي يهرولون مسرعين وراءهم يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال وقوله تعالى (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي فليس هؤلاء أول من ضل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي في أولئك الضالين من الأقوام السالفين منذرين أي رسلا ينذرونهم فلم يؤمنوا فأهلكناهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) إنها كانت هلاكا ودمارا للكافرين. وقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٦) استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره فآمنوا وأطاعوا فإنه تعالى نجاهم وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) (أَذلِكَ خَيْرٌ) : مبتدأ وخبر ونزلا تمييز ، والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا أم شجرة الزقوم خير نزلا؟

(٢) قرى الضيف هو ما يعدّ له من طعام وشراب وفراش ويسمى النزل بضم النون والزاي ويجوز تسكين الزاي.

(٣) مما تعارف عليه العرب أنهم يصورون كل قبيح (بصورة الشياطين) قال امرؤ القيس :

أيقتلونني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوالي

انظر كيف صور سهامه المحددة بصوره أنياب الأغوال ولا يوجد أغوال في الواقع وإنما مجرد تصور وتقدير لا غير.

(٤) هذا الطعام والشراب مقابل ما لأهل الجنة من رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم.

(٥) الإهراع الإسراع من شخص يستحثه بشيء على الإسراع والهرولة.

(٦) الاستثناء متصل لأن المخلصين كانوا من جملة المنذرين فصدقوا المنذرين واتبعوهم وذلك باستخلاص الله تعالى لهم لعبادته والدعوة إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أحسن الأساليب في الدعوة وهو الترهيب والترغيب.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في القيامة.

٣ ـ التنديد بالاتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد.

٤ ـ إهلاك الله تعالى للظالمين وانجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) : أي قال إني مغلوب فانتصر «من سورة القمر».

(فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) : أي له إذ نجيناه وأهلكنا الكافرين من قومه.

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : أي عذاب الغرق بالطوفان.

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) : إذ عامة الناس كانوا من ذريّته سام ، وحام ويافث.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه ثناء حسنا عند سائر الأمم والشعوب.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) : أي سلام منّا على نوح في العالمين أي في الناس أجمعين.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : أي كما جزينا نوحا بالذكر الحسن والسّلام في العالمين نجزي المحسنين.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) : أي كفار قومه المشركين بعد إنجاء المؤمنين في السفينة.

معنى الآيات :

على إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقومه حيث أنذر نوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي دعانا لنصرته من قومه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقال (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) نحن له (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) باستثناء امرأته وولده كنعان (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو عذاب الغرق. وقوله (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم (١) سام وهو أبو العرب والروم وفارس ، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها ، ويأجوج ومأجوج ، وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (٢) أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن والثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا نوحا لإيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ثناء عليه وبيان لعلة الإكرام والإنعام عليه. ودعوة إلى الإيمان بالترغيب فيه ، وقوله (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته لإعدائه.

٢ ـ إجابة دعاء الصالحين لا سيما عند ما يظلمون.

٣ ـ فضل الإحسان وحسن عاقبة أهله.

٤ ـ فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة.

٥ ـ قول سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي (٣) أو يصبح يحفظه الله تعالى من

__________________

(١) عن سعيد بن المسيب قال ولد نوح عليه‌السلام ثلاثة : سام ويافث وحام وولد كل واحد من هؤلاء الثلاث ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم : وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير ، قال مجاهد لسان صدق في الأنباء.

(٣) وقال سعيد بن المسيب وبلغني أنه من قال حين يمسي «سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب» ذكره أبو عمرو ابن عبد البر في التمهيد ونقله عنه القرطبي.

لسعة العقرب. وأصح منه قول : أعوذ بكلمات الله التامة (١) من شر ما خلق لصحة الحديث في ذلك.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) : وإن من أشياع نوح على ملته ومنهاجه إبراهيم الخليل عليهما‌السلام.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : أي أتى ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب سبحانه وتعالى.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ؟) : أي حين قال لأبيه وقومه المشركين أي شيء تعبدون؟

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ؟) : أي كذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله؟

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي شيء هو؟ أترون أنه لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم فتعبدون

__________________

(١) روى مالك في الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل.

غيره وهو ربكم ورب العالمين.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) : أي إيهاما لهم إذ كانوا يؤلهون النجوم.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) : أي عليل أي ذو سقم وهو المرض والعلة.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) : أي رجعوا إلى ما هم فيه وتركوه قابلين عذره.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) : أي مال إليها خفية.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) : أي بقوة يمينه فكسرها بفأس وحطمها.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) : أي يمشون بقوة وسرعة.

(ما تَنْحِتُونَ) : من الحجارة والأخشاب والمعادن كالذهب والفضة.

(وَما تَعْمَلُونَ) : أي وخلق ما تعبدون من أصنام وكواكب.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) : واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار فإذا التهب ألقوه فيه.

(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) : أي المقهورين الخائبين في كيدهم إذ نجّى الله ابراهيم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى قصة نوح مقررا بها نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ذكر قصة أخرى هي قصة ابراهيم وهي أكبر موعظة لكفار قريش لأنهم ينتمون إلى إبراهيم ويدّعون أنهم على ملته وملة ولده اسماعيل فلذا أطال الحديث فيها فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّ مِنْ (١) شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن من أشياع نوح الذين هم على ملته ومنهجه ابراهيم خليل الرحمن (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أتى (٢) ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الربّ تعالى في الوقت الذي (قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) ، منكرا عليهم عبادة الأصنام فلو كان في قلبه أدنى التفاتة إلى غيره طمعا أو خوفا ما أمكنه أن يقول الذي قال بل كان في تلك الساعة سليم القلب ليس فيه نظر لغير الله تعالى وقوله (أَإِفْكاً (٣) آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي أكذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله حيث جعلتموها بكذبكم بألسنتكم آلهة وهي أحجار وأصنام. وقوله (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وقد عبدتم الكذب دونه إذ آلهتكم ما هي إلا كذب بحت. أترون أن الله لا يسخط عليكم ولا

__________________

(١) وقيل هاء الضمير عائدة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون المعنى وإن من شيعة محمد إبراهيم وهو حقا من شيعته ولكن السياق يأباه بل المراد نوح عليه‌السلام.

(٢) قيل في مجيئه ربه (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إما أن يكون عند دعائه إلى توحيده ، أو عند إلقائه في النار.

(٣) الاستفهام إنكاري إذ هو أنكر على قومه عبادة وتأليه غير الله تعالى ، وقوله (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) استفهام متفرغ عما قبله وهما للإنكار الأول والثاني. فالأول انكر عليهم اتخاذهم آلهة دونه تعالى والثاني انكر عليهم سوء ظنهم بالله حتى عبدوا آلهة غيره.

يعاقبكم؟ وقوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) هنا كلام محذوف دل عليه المقام وهو أن أهل البلد قد عزموا على الخروج إلى عيد لهم يقضونه خارج البلد ، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر بقوله إني سقيم أي ذو سقم بعد أن نظر في النجوم موهما لهم أنه رأى ما دله على أنه سيصاب بسقم وهو مرض الطاعون وكان القوم منجمين ينظرون إلى النجوم فيدعون أنهم يعرفون بذلك الخير والشرك الذي ينزل إلى الأرض بواسطة الكواكب فأوهمهم بذلك فتركوه خوفا من عدوى الطاعون ، أو تركوه قبولا لعذره (١) هذا ما دل عليه قوله تعالى (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لذلك ورجعوا إلى أمورهم وما هم عازمون عليه من الخروج إلى العيد خارج البلد وهو معنى فتولوا عنه مدبرين وهنا وقد خلا له المكان الذي فيه الآلهة من الحراس والعباد والزوار للآلهة في بهوها الخاص فنفذ ما حلف على تنفيذه في مناظرة كانت بينه وبين بعضهم إذ قال (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وبدأ المهمة فقال للآلهة وأنواع الأطعمة أمامها تلك الأطعمة من الحلويات وغيرها التي يتركها المشركون لتباركها الآلهة ثم يأكلونها رجاء بركتها (أَلا تَأْكُلُونَ) عارضا عليها الأكل سخريّة بها فلم تجبه ولم تأكل فقال لها (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) ثم انهال عليها ضربا بفأس بيده اليمني فكسرها وجعلها جذاذا أي قطعا متناثرة. فلما رجعوا من عيدهم مساء وجاءوا بهو الآلهة ليأخذوا الأطعمة وجدوا الآلهة مكسرة. (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي مسرعين بأن طلبوا من رجالهم إحضاره على الفور فأحضروه وأخذوا يحاكمونه فقال في دفاعه (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي بأيديكم من أصنام بعضها من حجر وبعض من خشب ومن فضة ومن ذهب أيضا ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) من كل عمل من أعمالكم فلم لا تعبدونه ، وتعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر ، ولما غلبهم في الحجة وانهزموا أمامه أصدروا أمرهم بإحراقه بالنار فقالوا (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) أي فرنا عظيما واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار حتى إذا التهب فألقوه في جحيمه وهو معنى قوله تعالى (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وقوله تعالى (فَأَرادُوا) أي بإبراهيم (كَيْداً) أي شرا وذلك بعزمهم على إحراقه وتنفيذهم ما عزموا عليه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي المتهورين المغلوبين إذ قال تعالى للنار (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت فخرج منها إبراهيم ولم يحرق سوى كتافيه الذي في يديه ورجليه وخيب الله سعي المشركين وأذلهم أمام إبراهيم وأخزاهم

__________________

(١) شاهد هذا حديث الصحيح : لم يكذب ابراهيم إلا ثلاثا اثنتين منهن في ذات الله عزوجل قوله : إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا. وبينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال هي أختي الحديث.

وهو معنى قوله تعالى (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (١) وقد جمع الله تعالى لهم بين الخسران في كل ما أملوه من عملهم والذل الذي ما فارقهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أصل الدين واحد فالإسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ كمال ابراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال [هل لك حاجة يا إبراهيم فقال أما إليك فلا].

٣ ـ من أقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركا به أو طلبا لشفاعته.

٤ ـ وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه.

٥ ـ بيان ابتلاء ابراهيم وأنه ألقي في النار فصبر ، ولذا أكرمه ربّه بما سيأتي في السياق بيانه.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ

__________________

(١) هذه الجملة من سورة الأنبياء ذكرت هنا شاهدا مبينا لغاية كيدهم وهو خسرانهم فيما دبروا وفعلوا.

الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

شرح الكلمات :

(إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) : أي إني مهاجر إلى ربي سيهدين إلى مكان أعبده فيه فلا أمنع فيه من عبادته.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي ولدا من الصالحين.

(بِغُلامٍ حَلِيمٍ) : أي ذي حلم وصبر كثير يولد له.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) : أي بلغ من العمر ما أصبح يقدر فيه على العمل كسبع سنين فأكثر.

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) : أي من الرأي الرشد.

(مِنَ الصَّابِرِينَ) : أي على الذبح الذي أمرت به.

(فَلَمَّا أَسْلَما) : أي خضعا لأمر الله الولد والوالد وانقادا له.

(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض ولكل انسان جبينان أيمن وأيسر والجبهة بينهما.

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) : أي بما عزمت عليه وفعلته من الخروج بالولد إلى منى وصرعه على الأرض وإمرار السكين على حلقه.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) : أي الأمر بالذبح اختبار عظيم.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) : أي كبش كبير.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه ثناء وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الناس.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) : أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية اسحق حتى إن عامة الأنبياء من ذريتهما.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة ابراهيم الخليل إنه بعد أن ألقي به في النار وخرج بحمد الله سالما

قرر الهجرة وترك البلاد ، وقال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي إني ذاهب إلى حيث أذن لي ربي بالهجرة إليه حيث أتمكن من عبادته فذهب إلى بلاد الشام ونزل أولا بحران من الشام ، وقوله سيهدين أي يثبتني بدوام هدايته لي. ودعا ربّه قائلا (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ارزقني أولادا صالحين. فاستجاب الله تعالى له وذلك انه سافر في أرض القدس مع زوجته سارة وانتهى إلى مصر ، وحدث أن وهب طاغية مصر جارية لسارة تسمى هاجر فوهبتها سارة لزوجها ابراهيم فتسراها فولدت له غلاما هو اسماعيل وهو استجابة الله تعالى لابراهيم في دعائه عند هجرته (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) وهو قوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ). وقد أخذ سارة ما يأخذ النساء من الغيرة لما رأت جارية ابراهيم أنجبت له اسماعيل فأمر الله ابراهيم بأن يأخذها وطفلها إلى مكة إبعادا لها عن سارة ليقل تألمها. وهناك بمكة رأى ابراهيم رؤيته ورؤيا الأنبياء وحي وقال لاسماعيل ما أخبر تعالى به في قوله ، (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) كابن سبع سنين (١) فأكثر بمعنى أصبح قادرا على العمل معه (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي استشاره ليرى رأيه في القبول أو الرفض فأجاب اسماعيل قائلا (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما يأمرك به ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وفعلا خرج به ابراهيم من حول البيت إلى منى (٢) وانتهى إلى مكان تجاوز به مكان الجمرات الثلاث وتله للجبين أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض وأخذ المدية ووضعها على رقبته والتفت لأمر ما وإذا بكبش أملح والهاتف يقول اترك ذاك وخذ هذا فترك الولد وذبح الكبش وكانت آية. وهو قوله تعالى (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، وقوله تعالى (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار البيّن وبذلك تأهل للخلة وأصبح خليل الرحمن ، وقوله تعالى (وَفَدَيْناهُ) أي اسماعيل (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٣) أي بكبش عظيم. وهو الذي

__________________

(١) روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغ الثالثة عشرة من عمره وفي هذا أقوال ولهذا في التفسير قلنا سبع سنين فأكثر إذ بداية السعي من السابعة والبلوغ ينتهي إلى الخامسة عشر.

(٢) قيل إن إبراهيم لما رأى الرؤيا كانت ليلة يوم التروية وهو ثامن الحجة فسمى اليوم يوم التروية إذ تروّى فيه ويوم التاسع عرف أن الرؤيا حق لذا سمّي يوم عرفة ويوم العاشر خرج بإسماعيل ليذبحه فسمي يوم النحر لذلك والله أعلم.

(٣) اختلف في أيهما الذبيح أهو اسماعيل أم إسحق والراجح انه اسماعيل لأن الذبح كان في مكة ولم يكن في الشام لأن إسماعيل عاش بمكة ولم يعش بالشام ولأن هاجر كانت في مكة وسارة كانت بالشام وبلغ الخلاف حتى قال بعضهم نفوض فكان التفويض مذهبا ثالثا والذي أثار هذا الخلاف هم أهل الكتاب يريدون سلب هذا الفضل عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الأبيات الآتية إشارة إلى ذلك :

إن الذبيح هديت إسماعيل

نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا

وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمته فلا تنكر له

شرفا به قد خصه التفضيل

ذبحه ابراهيم وترك اسماعيل (١) وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا عليه ثناء عاطرا وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الأمم والشعوب. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي سلام من الله على ابراهيم (كَذلِكَ) أي كذلك الجزاء الذي جزى به الله تعالى ابراهيم على إيمانه وهجرته وصبره وطاعته يجزي المحسنين وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وفي هذا ثناء عاطر على المؤمنين ، وقوله (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا يوم جاءه الضيف من الملائكة وهم في طريقهم إلى المؤتفكات قرى قوم لوط ، وذلك بعد أن بلغ من العمر عتيا وامرأته سارة كذلك إذ قالت ساعة البشرى (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وعجبا لمن يقول إن الذبيح اسحق وليس اسماعيل ، وقوله تعالى (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وباركنا عليه بتكثير ذريّته وذريّة اسحاق حتى إن عامة الأنبياء من بعدهما من ذريّتهما. وقوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ابراهيم واسحق (مُحْسِنٌ) أي مؤمن صالح (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الهجرة في سبيل الله وأن أول هجرة كانت في الأرض هي هجرة ابراهيم من العراق إلى الشام.

٢ ـ بيان أن الذبيح هو اسماعيل وليس هو اسحق كما يقول البعض وكما يدعي اليهود.

٣ ـ وجوب بر الوالدين وطاعتهما في المعروف.

٤ ـ فضل ابراهيم وعلو مقامه وكرامته عند ربّه.

٥ ـ فضل الإحسان وجزاء المحسنين.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا

__________________

(١) ضعّف القرطبي رواية الرجل الذي نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا يا ابن الذبيحين فضحك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أرى وجها صحيحا لتضعيفها إذ صح أن الذبيح الأول هو اسماعيل والثاني عبد الله الوالد إذ كل منهما أريد ذبحه والله فداه ولله الحمد والمنة.

عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) : أي بالنبوة والرسالة.

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) : أي بني اسرائيل.

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : أي استعباد فرعون إياهم واضطهاده لهم

(وَنَصَرْناهُمْ) : على فرعون وجنوده.

(الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) : أي التوراة الموضحة الأحكام والشرائع.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : أي الإسلام لله ربّ العالمين.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليهما في الآخرين ثناء حسنا.

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) : أي سلام منا على موسى وهرون.

(إِنَّا كَذلِكَ) : أي كما جزيناهما نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين.

(إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) : أي جزيناهما بما جزيناهما به لإيمانهما.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله وإنعامه على من يشاء من عباده فبعد ذكر إنعامه على ابراهيم وولده إسحق ذكر من ذريّتهما المحسنين موسى وهرون فقال تعالى (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي بالنبوة والرسالة ، (١) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) أي بني اسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي هو استعباد فرعون والأقباط لهم واضطهادهم زمنا طويلا (وَنَصَرْناهُمْ) أي على فرعون وملائه (٢) (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (وَآتَيْناهُمَا) (٣) أي اعطيناهما (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) وهو التوراة الواضحة

__________________

(١) كانت النبوة والرسالة منة لأن موسى لم يكتسبها بعمل وهارون أعطيها بدعوة أخيه موسى فلم يكتسبها بأي جهد فهي إذا منة محضة.

(٢) إذ خرج فرعون في جيش عرمرم قوامه مائة ألف من الفرسان فقط ثم نجى الله تعالى بني اسرائيل وأغرق فرعون وجنده أجمعين فكان نصرا عظيما لموسى على فرعون وملائه أجمعين.

(٣) موسى أوتي الكتاب أصالة وهارون بالتبعية لأخيه موسى.

الأحكام البيّن الشرائع لا خفاء فيها ولا غموض. (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهو الدين الصحيح الذي هو الإسلام دين الله الذي بعث به كافة رسله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا عليهما الذكر الحسن والثناء العطر فيمن بعدهما (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١) أي كما جزيناهما لإحسانهما نجزي المحسنين (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فيه بيان لعلة ما وهبهما من الإنعام والإفضال وهو الإيمان المقتضي للإسلام والإحسان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهرون عليهما‌السلام.

٢ ـ بيان إنعام الله تعالى على بني اسرائيل بإنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم.

٣ ـ بيان أن الإسلام دين سائر الأنبياء وليس خاصا بأمة الإسلام.

٤ ـ بيان فضل الإحسان والإيمان.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

__________________

(١) (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) جملة تذييلة وإن كانت تحمل معنى التعليل والتوكيد ، والمحسنون من أحسنوا طاعة الله تعالى فأطاعوه بما يحب من أفعال وتروك على نحو ما شرعه لهم وحملة أنهما من عبادنا المؤمنين تعليلية للإنعام السابق.

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : إلياس هو أحد أنبياء بني اسرائيل من سبط هرون أرسله الله تعالى إلى أهل مدينة بعلبك بالشام.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) : أي صنما يسمى بعلا.

(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) : أي وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين.

(فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) : أي في النار.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي فإنهم نجوا من النار.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه في الآخرين ذكرا حسنا.

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) : أي سلام منا على إلياس.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على بعض أنبيائه ورسله فقال تعالى (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ) (١) (الْمُرْسَلِينَ) وهو من سبط هرون عليه‌السلام أحد أنبياء بني اسرائيل أخبر تعالى أنه من المرسلين (٢) أي اذكر (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم أهل مدينة بعلبك وما حولها (أَلا تَتَّقُونَ) أي (٣) الله تعالى بعبادته وترك عبادة غيره ، وهذا دليل على أنه رسول. وقوله عليه‌السلام (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) (٤) هذا إنكار منه لهم على عبادة صنم كبير لهم يسمونه بعلا ، أي كيف تعبدون صنما بدعائه والعكوف عليه والذبح والنذر له ، وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين ، الله ربكم (٥) ورب آبائكم الأولين. قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ) أي في أنه لا إله إلا الله (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فاحضروا في جهنم فهم من المحضرين فيها ، وقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي الموحدين فإنهم ليسوا في النار بل هم في الجنة. وقوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا في الذين جاءوا من بعده من الناس. وقوله تعالى (سَلامٌ) أي منّا (عَلى إِلْ ياسِينَ) (إِنَّا كَذلِكَ) أي كما جزينا إلياس لإحسانه في طاعتنا (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي

__________________

(١) قدم تعالى ذكر نوح وابراهيم وموسى وكلهم رسل أصحاب شرائع وعقب عليهم بذكر ثلاثة آخرين ليست لهم شرائع مستقلة وهم الياس ولوط ويونس ويوسف واسم الياس في كتب بني اسرائيل «ايليا».

(٢) عد في جملة المرسلين لأن الله تعالى أمره بتبليغ ملوك بني اسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام. فإطلاق اسم الرسول عليه كإطلاقه على اسم رسل عيسى عليه‌السلام في سورة يس.

(٣) (أَلا تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري ينكر عليهم عدم تقواهم لله ، ولا نافية وحذف مفعول يتقون للعلم به. أي ألا تتقون الله تعالى أو عذابه ونقمه.

(٤) قرأ نافع آل ياسين كآل محمد ، وقرأ حفص إل بكسر الهمزة وسكون اللام. واختلف هل إل ياسين معناه إلياس ، أو معناه ذوو ياسين كآل بني فلان ، والراجح أن المراد بآل ياسين أنصاره. نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آل محمد كل تقي

(٥) قرأ نافع والأكثرون الله بالرفع على الابتداء ، وقرأ حفص (اللهَ) بالنصب على عطف البيان على (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

استحق تكريمنا والجزاء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد ، والتنديد بالشرك.

٢ ـ هلاك المشركين (١) ونجاة الموحدين يوم القيامة.

٣ ـ فضل الإحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء.

٤ ـ فضل الإيمان وأنه سبب كل خير وكمال.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي وإن لوطا وهو ابن هاران أخي ابراهيم الخليل لمن جملة الرسل أيضا.

(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) : أي اذكر يا رسولنا ممن أنعمنا عليهم بالنبوة والرسالة لوطا إذ نجيناه وأهله اجمعين من عذاب مطر السوء.

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) : أي إلا امرأته الكافرة هلكت في الغابرين أي الباقين في العذاب.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) : أي أهلكنا الآخرين ممن عدا لوطا والمؤمنين معه.

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) : أي في أسفاركم إلى فلسطين وغزة ومصر بالليل والنهار.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أي يا أهل مكة ما حل بهم فتعتبرون وتتعظون فتؤمنوا وتوحدوا.

__________________

(١) سياق قصة الياس فيها تذكير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقريش أيضا إذ على الرسول أن يبلغ وليس عليه أن يأتي قومه بالعذاب ولو طالب به المدعوون فإن الياس لم يعذب الله قومه في الدنيا وترك عذابهم إلى الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله على من اصطفى من عباده فقال تعالى (وَإِنَّ لُوطاً) وهو ابن هاران أخي إبراهيم (١) عليهما‌السلام (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي لمن جملة رسلنا (إِذْ نَجَّيْناهُ) أي اذكر إنعامنا عليه إذ نجيناه من العذاب وأهله اجمعين (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وهي امرأته إذ كانت مع الكافرين فبقيت معهم فهلكت بهلاكهم. وقوله تعالى (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي ممن عدا لوطا ومن آمن به من قومه. وقوله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ (٢) عَلَيْهِمْ (٣) مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) هذا خطاب لأهل مكة المشركين إذ كانوا يسافرون للتجارة إلى الشام وفلسطين ويمرون بالبحر الميت وهو مكان الهالكين من قوم لوط أصبح بعد الخسف بحرا ميتا لا حياة فيه البتة. وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤) توبيخ لهم وتقريع على عدم التفكر والتدبر إذ لو فكروا لعلموا أن الله تعالى أهلكهم لتكذيبهم برسولهم وكفرهم بما جاءهم به من الهدى والدين الحق ، وقد كذب هؤلاء فأي مانع يمنع من وقوع عذاب بهم كما وقع بقوم لوط من قبلهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة لوط ورسالته.

٢ ـ بيان العبرة في إنجاء لوط والمؤمنين معه وإهلاك الكافرين المكذبين به.

٣ ـ بيان أن لا شفاعة تنفع (٥) ولو كان الشافع أقرب قريب إلا بعد أن يأذن الله للشافع وبعد رضائه (٦) عن المشفوع له.

٤ ـ وجوب التفكر والتعقل في الأحداث الكونية للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة.

__________________

(١) يقال مرّ به ومر عليه بمعنى إلا أن التمكن والمباشرة بالممرور به بعلى أكثر منه بالباء ومصبحين حال منصوب على الحالية بالياء والنون لأنه جمع سلامة للمذكر.

(٢) جيء بالمضارع في لتمرون للايقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإخبار.

(٣) خرج لوط مع عمه ابراهيم عليه‌السلام بعد حادثة القاء ابراهيم في النار ونجاته منها فآمن له لوط وخرج معه مهاجرا فأرسله الله تعالى إلى أصحاب المؤتفكات وهي قرى سدوم وعمورة.

(٤) الاستفهام للإنكار والتقريع على جهالتهم وغفلتهم وعدم استعمال عقولهم للاهتداء.

(٥) أخذ هذا الحكم من كون لوط عليه‌السلام لم يشفع لزوجه في النجاة من الهلاك الذي أصاب المفسدين وذلك لكفرها وفسادها.

(٦) الرضاء : الاسم من رضي ، يرضى ، رضى فهو راض.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي وإن يونس بن متى الملقب بذي النون لمن جملة المرسلين.

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : أي إذ هرب إلى السفينة المملوءة بالركاب.

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) : أي اقترع مع ركاب السفينة فكان من المغلوبين.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) : أي ابتلعه الحوت وهو آت بما يلام عليه.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : أي لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) : أي فألقيناه من بطن الحوت بالعراء أي بوجه الأرض بالساحل.

(وَهُوَ سَقِيمٌ) : أي عليل كالفرخ المنتوف الريش.

(شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) : أي الدباء : القرع.

(إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) : أي أرسلناه إلى مائة ألف نسمة بل يزيدون بكذا ألف.

(فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) : أي فآمن قومه عند معاينة أمارات العذاب فأبقاهم الله إلى آجالهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام. فقال عزوجل عطفا عما سبق (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننّا عليهم بالنبوّة والرسالة. (إِذْ أَبَقَ) أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوي (١) من أرض الموصل بالعراق ، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى ربّان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلّا غرق الجميع ، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا (٢) فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته ، وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدره ولم يطق البقاء معهم. وهذا معنى قوله تعالى (إِذْ أَبَقَ (٣) إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (٤) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٥). وقوله تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) أي بطن الحوت (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبرا له أي فلو لا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» ، فإن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس ، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم ، وهو معنى قوله تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى (عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فرع تظلله بأوراقها

__________________

(١) نينوى كانت مدينة عظيمة من مدن الآشوريين وكان بها مائة ألف أسير من بني اسرائيل أسرهم الآشوريون فأرسل الله تعالى إليهم يونس من فلسطين.

(٢) اقترعوا هو معنى قوله تعالى فساهم والمساهمة مشتقة من السهام التي واحدها سهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمى الأزلام أيضا والفاء في فساهم للتفريع.

(٣) أبق يأبق إباقا العبد إذا فرّ من مالكه.

(٤) الاقتراع مشروع فقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة مواطن منها القرعة بين نسائه إذا أراد السفر بواحدة منهن وشرع الاقتراع فيما إذا تساوت الحقوق والمصالح لأجل دفع الضغائن كالاستهام على من يلي أمر كذا من خلافة أو أذان أو الصف الأول وما إلى ذلك من قسمة دار أو أرض.

(٥) المليم اسم فاعل من الآم يليم إذا فعل ما يلومه عليه الناس فهو جعلهم لائمين له بفعله فهو ألامهم على نفسه.

الحريرية الناعمة والتي لا ينزل بساحتها الذباب ، وسخر له أروية «غزالة» فكانت تأتيه صباح مساء فتفشح عليه أي تفتح رجليها وتدني ضرعها منه فيرضع حتى يشبع إلى أن تماثل للشفاء وعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين لتوبة أحدثوها عند ظهور امارات العذاب فتاب الله عليهم. وقوله تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١) أي أرسلناه إلى قومه وهم أهل نينوي وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفا (فَآمَنُوا) أي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبيونس نبيا ورسولا وتابوا بترك الشرك والكفر فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم ، ومتعناهم أي أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة يونس ورسالته وضمن ذلك تقرير رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ مشروعية الركوب في السفن البحرية.

٣ ـ مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها.

٤ ـ فضل الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح (٢) وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء.

٥ ـ تقرير مبدأ «تعرف على الله في (٣) الرخاء يعرفك في الشدة».

٦ ـ بركة أكل اليقطين أي الدباء القرع إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة.

٧ ـ فضل قوم يونس إذ آمنوا كلهم ولم تؤمن أمة بكاملها إلّا هم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)

__________________

(١) (أَوْ) بمعنى بل على قول الكوفيين واستشهدوا بقول جرير :

ما ذا ترى في عيال قد برمت بهم

لم أحص عدتهم إلا بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لو لا رجاؤك قد قتلت أولادي

(٢) روى أبو داود عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال دعاء ذي النون في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له.

(٣) بعض حديث صحيح رواه مسلم وغيره.

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

شرح الكلمات :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : أي استخبر كفار مكة توبيخا لهم وتقريعا.

(وَلَهُمُ الْبَنُونَ) : أي فيختصون بالأفضل الأشرف.

(لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) : أي لقولهم الملائكة بنات الله.

(أَصْطَفَى الْبَناتِ) : أي اختار البنات على البنين.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي إن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) : أي ألكم حجة واضحة على صحة ما تدعون.

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) : أي الذي تحتجون بما فيه ، ومن أين لكم ذلك.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) : إذ قالوا الملائكة بنات الله.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) : أي في العذاب.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) : أي تنزيها لله تعالى عما يصفونه به من كون الملائكة بنات له.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي فإنهم ينزهون ربهم ولا يصفونه بالنقائص كهؤلاء المشركين.

معنى الآيات :

بعد تقرير البعث والتوحيد والنبوة في السياق السابق بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة أراد تعالى إبطال فرية من أسوأ الفرى التي عرفتها ديار الجزيرة وهي قول (١) بعضهم إن الله تعالى قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وهم بنات الله ، وهذا لا شك انه من إيحاء الشيطان لإغواء الإنسان

__________________

(١) قال القرطبي في بيان من قال هذه القولة القذرة الفاسدة الباطلة قال : ذلك جهينة وخزاعة وبني مليح وبني سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله.

وإضلاله فقال تعالى لرسوله استفتهم أي استخبرهم موبخا لهم مقرّعا قائلا لهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) ، أي أما تخجلون عند ما تنسبون لكم الأسنى والأشرف وهو البنون ، وتجعلون لله الآخس والأدنى وهو البناتوقوله تعالى (أَمْ (١) خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حضروا يوم خلقنا الملائكة فعرفوا بذلك أنهم إناث ، والجواب لا إنهم لم يشهدوا خلقهم إذا فلم يكذبون وقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ألا إن هؤلاء المشركين الضالين من كذبهم الذي عاشوا عليه واعتادوه يقولون ولد الله وذلك بقولهم الملائكة بنات الله ، وإنهم وربّ العزة لكاذبون في قيلهم هذا الذي هو صورة لإفكهم الذي يعيشون عليه. وقوله تعالى (أَصْطَفَى (٢) الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) هذا توبيخ لهم وتقريع أصطفى أي هل الله اختار البنات على البنين فلذا جعلهم إناثا كما تزعمون. (ما لَكُمْ كَيْفَ (٣) تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الباطل الفاسد. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٤) فتذكروا أن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي ألكم حجة قوية تثبت دعواكم والحجة القوية تكون بوحي من الله في كتاب أنزله يخبر فيه بما تقولون إذا (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي فيه ما تدعون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم. ومن أين لكم الكتاب ، وقد كفرتم بكتابكم الذي نزل لهدايتكم وهو القرآن الكريم. وهكذا أبطل الله هذه الفرية بأقوى الحجج. وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ) أي بين الله تعالى (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٥) بقولهم أصهر الله تعالى إلى الجن فتزوج سروات الجن إذ سألهم أبو بكر : من أمهات الملائكة فقالوا سروات الجن وقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٦) أي في العذاب ، فكيف يكون لهم نسب ويعذبهم الله بالنار. فالنسيب يكرم نسيبه لا يعذبه بالنار ، وبذلك بطلت هذه الفرية الممقوتة ، فنزه الله تعالى نفسه عن مثل هذه الترهات والأباطيل فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). (إِلَّا (٧) عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي فإنهم لا يصفون ربهم بمثل هذه النقائص التي هي من صفات العباد العجزة المفتقرين إلى الزوجة والولد أما ربّ كل شيء ومالكه وخالقه فلا يقبل

__________________

(١) الاستفهام للتوبيخ والتقريع والتأنيب.

(٢) (أَصْطَفَى). الهمزة للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع واصطفى بمعنى اختار البنات على البنين وقرأ الجمهور بهمزة القطع للاستفهام وقرأ بعض بهمزة الوصل دون همزة القطع إلا أنها منوية.

(٣) ما لكم ما اسم استفهام عن ذات وهي مبتدأ ولكم خبر ، والمعنى : أي شيء حصل لكم؟.

(٤) أفلا تذكرون قرأ نافع تذكرون بتشديد الدال والكاف معا إذ الأصل تتذكرون فأدغمت إحدى التائين في الذال. وقرأ حفص (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال لحذف التاء الثانية والاستفهام إنكاري.

(٥) النسب القرابة العمودية بالآباء والأمهات والأفقية كالإخوان والأعمام والمعنى ذوي النسب لله تعالى وهو نسب البنوة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(٦) المحضرون المجلوبون للحضور ، والمراد المحضرون للعقاب والعذاب.

(٧) الاستثناء منقطع وجائز أن يكون من الحضور للعقاب فإن عباد الله لا يحضرون للعقاب ولا يعاقبون وجائز أن يكون منقطع من سبحان الله عما يصفون فإن عباد الله لا يصفون الله بالنقائص كما في التفسير وهو أولى من الأول.

العقل أن ينسب إليه الصاحبة والولد. فلذا عباد الله الذين استخلصهم لمعرفته والإيمان به وعبادته لا يصفون ربهم جل جلاله بصفات المحدثين من خلق الله. ولا يكونون من المحضرين في النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال فرية بني ملحان من العرب الذين زيّن لهم الشيطان فكرة الملائكة بنات الله ، ووجود نسب بين الله تعالى وبين الجن.

٢ ـ مشروعية دحض الباطل بأقوى الحجج وأصحّ البراهين.

٣ ـ الحجة الأقوى ما كانت من وحي الله في كتاب من كتبه التي أوحى بها إلى رسله.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

شرح الكلمات :

(وَما تَعْبُدُونَ) : أي من الأصنام.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) : أي مقدر له عذاب النار.

(إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : أي مكان في السماء يعبد الله تعالى فيه لا يتعداه.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) : أي أقدامنا في الصلاة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) : أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) : أي كفار مكة.

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) : أي كتابا من كتب الأمم السابقة.

(فَكَفَرُوا بِهِ) : أي بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إبطال باطل المشركين فقد قال لهم تعالى (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (١) من أصنام أيها المشركون. ما أنتم بمضلين أحدا إلا أحدا هو صال (٢) الجحيم حيث كتبنا عليه ذلك في كتاب المقادير فهو لا بد عامل بما يوجب له النار فهذا قد يفتتن بكم وبعبادتكم فيضل بضلالكم. وقوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا (٣) لَنَحْنُ (٤) الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) هذا قول جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره بأن الملائكة تصف في السماء للصلاة كما يصف المؤمنون من الناس في الصلاة ، وانهم من المسبحين لله الليل والنهار وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ما من موضع شبر في السماء إلا عليه ملك ساجد أو قائم وقوله تعالى (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) (٥) أي مشركو العرب (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل ، (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكنا عبادا لله تعالى نعبده ونوحده ولا نشرك به أحدا. فرد تعالى على قولهم هذا إذ هو مجرد تمن كاذب بقوله (فَكَفَرُوا بِهِ) أي فكفروا بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن الكريم. إذا فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم إن لم يتوبوا وهو هلاكهم وخسرانهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ من كتب الله عليه النار فسوف يصلاها.

٢ ـ تقرير عبودية الملائكة وطاعتهم لله وأنهم لا يتجاوزون ما حد الله تعالى لهم.

٣ ـ فضل الصفوف في الصلاة وفضل تسويتها.

٤ ـ بيان كذب المشركين إذ كانوا يدعون أنهم لو أنزل عليهم كتاب كما أنزل على من قبلهم لكانوا عباد الله المخلصين أي الذين يعبدونه ويخلصون له العبادة.

__________________

(١) جائز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي وجائز أن تكون مصدرية أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام ما تفتنون على الله عبدا من عباده بإضلاله وإفساده إلا عبدا قضى الله بعذابه فهو صال الجحيم ، وفي الآية رد على نفاة القدر ، ومن أحسن ما قيل شعرا قول لبيد بن ربيعة :

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثى والعجل

أحمد الله فلا ندّ له

بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

(٢) الأصل صالي الجحيم وحذفت الياء لعدم النطق بها لوجود همزة الوصل.

(٣) هذا من قول الملائكة. قال مقاتل هذه الآيات الثلاث نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهنا تفارقني؟ فقال ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم.

(٤) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم في المسجد فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقالوا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف.

(٥) (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) : إن مخففة من الثقيلة واللام للابتداء وهي الفارقة بين المخففة والنافية.

٥ ـ تهديد الله تعالى للمشركين على كذبهم بقوله فسوف يعلمون.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

شرح الكلمات :

(سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) : هي قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي.

(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) : أي للكافرين بالحجة والنصرة.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : أي أعرض عنهم حتى تؤمر فيهم بالقتال.

(وَأَبْصِرْهُمْ) : أي أنظرهم.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) : أي العذاب.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي أعرض عنهم.

(سُبْحانَ رَبِّكَ) : أي تنزيها لربّك يا محمد.

(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي تنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد والشريك.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) : أي أمنة من الله لهم في الدنيا والآخرة.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي الثناء بالجميل خالص لله رب الثقلين الإنس والجن على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه.

معنى الآيات :

لما ختم السياق الأول بتهديد الكافرين بقوله تعالى (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أخبر تعالى

رسوله بما يطمئنه على نصر الله تعالى له فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا (١) الْمُرْسَلِينَ) وهي قوله (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ).

أي بالحجة والبرهان ، وبالرمح (٢) والسنان. وقوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) يأمر رسوله أن يعرض عن المشركين من قومه حتى حين يأمره فيهم بأمر (٣) ، أو ينزل بهم بلاء أو بأسا وقوله (وَأَبْصِرْهُمْ) أي أنظرهم فسوف يبصرون لا محالة ما ينزل بهم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ، ينكر تعالى عليهم استعجالهم العذاب الدال على سفههم وخفة أحلامهم إذ ما يستعجل العذاب إلا أحمق جاهل وعذاب من استعجلوا إنه عذاب الله!! قال تعالى (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي بفناء دارهم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس صباحهم من صباح إنه صباح هلاكهم ودمارهم ثم أمر تعالى مرة أخرى رسوله أن يتول عنهم وينتظر ما يحل بهم فقال (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ (٤) فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) وفي الآية من التهديد والوعيد لهؤلاء المشركين ما لا يقادر قدره. وأخيرا نزه تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من الولد والشريك وسلّم على المرسلين ، وحمد نفسه مشيرا إلى مقتضى الحمد وموجبه وهو كونه رب العالمين فقال (سُبْحانَ (٥) رَبِّكَ) يا محمد (رَبِّ الْعِزَّةِ) ومالكها يعز بها من يشاء ويذل من يشاء (عَمَّا يَصِفُونَ) (٦) من الصاحبة والولد والشريك ، (وَسَلامٌ) منا (عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وأنت منهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على نصره أولياءه وإهلاكه أعداءه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ وعد الله تعالى لرسوله بالنصر وقد أنجزه ما وعده والحمد لله.

٣ ـ استحباب ختم الدعاء أو الكلام بقراءة جملة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ (٧) عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لورود ذلك في السنة.

__________________

(١) جائز أن يكون المراد قوله تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية.

(٢) قال الحسن : لم يقتل من أصحاب الشرائع أحد قط.

(٣) كإذن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهادهم ، وجائز أن يكون حتى يجيء أجلهم أو يأتي يوم بدر أو الفتح

(٤) كرر للتأكيد ، وكذا وتول عنهم مكرر للتأكيد.

(٥) سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (سبحان الله) فقال هو تنزيه الله عن كل سوء.

(٦) يصفون الله عزوجل بأن له صاحبة وله ولدا وشريكا.

(٧) ذكر القرطبي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يختم صلاته غير مرة بقول : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

سورة ص

مكية

وآياتها ثمان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

شرح الكلمات :

(ص) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب ص ويقرأ صاد الله أعلم بمراده به.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) : أي أقسم بالقرآن ذي الذكر إذ به يذكر الله تعالى ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون من أن النبي ساحر وشاعر وكاذب.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) : أي أهل مكة في عزة نفس وشقاق مع النبي والمؤمنين وعداوة

فلذا قالوا في الرسول ما قالوا ، وإلا فهم يعلمون براءته مما قالوا فيه.

وكم أهلكنا قبلهم من قرن : أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهم.

(فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) : أي صرخوا واستغاثوا وليس الوقت وقت مهرب ولا نجاة.

(وَعَجِبُوا) : أي وما اعتبر بهم أهل مكة وعجبوا أن جاءهم منذر منهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا ساحر كذاب : أي لما يظهره من الخوارق ولما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) : أي لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ، فقالوا كيف يسع الخلائق إله واحد؟

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) : أي جعل الآلهة إلها واحدا أمر عجيب.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) : أي خرجوا من بيت أبي طالب حيث كانوا مجتمعين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعوا منه قوله لهم قولوا لا إله إلا الله.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) : أي إن هذا المذكور من التوحيد لأمر يراد منّا تنفيذه.

(فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : أي ملة عيسى عليه‌السلام.

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) : أي ما هذا إلا كذب مختلق.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) : أي كيف يكون ذلك وليس هو بأكبر منا ولا أشرف.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) : أي بل هم في شك من القرآن والوحي ولذا قالوا في الرسول ما قالوا.

(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) : أي بل لم يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوه لما كذبوا بل آمنوا ولا ينفعهم إيمان.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) : أي من النبوة وغيرها فيعطوا منها من شاءوا ويحرموا من شاءوا.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ليس لهم ذلك.

(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) : أي الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاءوا أو يمنعوا الوحي النازل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنىّ لهم ذلك.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ) : أي هم جند حقير في تكذيبهم لك مهزوم أمامك وفي بدر.

(مِنَ الْأَحْزابِ) : أي من الأمم الماضية التي تحزبت على رسلها وأهلكها الله تعالى.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ص (١) وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أمّا ص فإنه أحد حروف الهجاء ومذهب السلف فيه أن

__________________

(١) قرأ الجمهور (ص) بالسكون وقرأ الحسن وأبي بن كعب صاد بكسر الدال وبدون تنوين ، وتوجيهها أنها من صادى يصادي إذا عارض نحو (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرض والمصادات المعارضة ، والمعنى عارض القرآن بعملك وقابله به ، فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه أو اتله وتعرض لقراءته.

يقال الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي يجب الإيمان به ويوكل أمر معناه إلى من أنزله ، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف قد أفادت فائدتين فليطلبهما من شاء من القراء الكرام من السور المفتتحة بمثل هذه الحروف نحو طس ، ألم. وأما قوله (وَالْقُرْآنِ) هو كتاب الله هذا المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ذِي الذِّكْرِ) (١) معناه التذكير إذ به يذكر الله تعالى والجملة قسم أقسم الله به فقال (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وجواب القسم محذوف تقديره (٢) ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون من أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وشاعر وكاذب (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي بل هم في عزة نفس وكبرياء وخلاف وعداوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فحملهم ذلك على أن يقولوا في الرسول ما قالوا ، وإلّا فهم يعلمون يقينا أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبعد الناس عن السحر والشعر والكذب والجنون. وقوله تعالى (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناها بتكذيبها لرسلها فلما جاءهم العذاب نادوا (٣) صارخين مستغيثين (وَلاتَ (٤) حِينَ مَناصٍ) أي وليست الساعة ساعة نجاة ولا هرب ، فلم لا يعتبر مشركو مكة بمثل هؤلاء. لم يعتبروا (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ينذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَقالَ الْكافِرُونَ) أي لم يعتبروا وعجبوا وقالوا فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ساحِرٌ كَذَّابٌ). (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) أي عجيب أي كيف يسع العباد إله واحد إن هذا لأمر يتعجب منه غاية العجب ، لأنهم قاسوا الغائب وهو الله تعالى على الشاهد وهو الإنسان الضعيف فوقعوا في أفحش خطأ وأقبحه.

وقوله تعالى (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) وهم يقولون لبعضهم بعضا امشوا واصبروا على آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي منا إمضاؤه وتنفيذه. قالوا هذا وما بعده من القول لما اجتمعوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزل عمه أبي طالب لمفاوضة الرسول في شأن دعوته فلما قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولوا لا إله إلا الله قاموا من المجلس وانطلقوا يمشون ويقولون ما أخبر تعالى به عنهم (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي على عبادتها فلا تتخلوا عنها (إِنَّ هذا) أي الدعوة إلى لا إله إلا الله لشيء

__________________

(١) في شرح هذه الكلمة عدة أوجه منها ذي الشرف أي من آمن به وعمل بما فيه كان شرفا له. في الدارين كما أنه شريف في نفسه لإعجازه ، وقيل ذي الذكر أي فيه ذكر ما يحتاج إليه وقيل الموعظة وقيل فيه أسماء الله وتمجيده.

(٢) وذكر لجواب القسم أمور منها ما في التفسير وهو أمثلها وقيل الجواب بل الذين كفروا وقيل الجواب إنه لمن عند الله تعالى أي القرآن المؤلف من حروف ص وغيره.

(٣) النداء رفع الصوت ومنه الحديث «ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا» القرن الأمة.

(٤) ولات هي لا النافية زيدت فيها التاء كما زيدت في ربت وثمت وهي مشبهة بليس وهي مختصة بنفي أسماء الزمان والمناص النجاء والغوث وهو مصدر ميمي من ناصه إذ فاته والمعنى فنادوا مبتهلين في حال ليس فيها وقت نجاة وغوث.

(٥) العجاب وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيرا لأن وزن فعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل طوال أو كرام.

كبير يراد منا إمضاؤه وتنفيذه لصالح غيرنا. (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالتوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي الدين الأخير وهو ما جاء به عيسى بن مريم عليه‌السلام. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا الذي يدعو إليه محمد إلا كذب اختلقه لم ينزل عليه ولم يوح به إليه. وواصلوا كلامهم قائلين (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن (مِنْ بَيْنِنا) وليس هو بأكبرنا سنا ولا بأشرفنا نسبا. فكيف يكون هذا؟ وقوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي لم يكن بالقوم جهل بصدق محمد في قوله وسلامة عقله ، وإنما حملهم على ذلك هو شكهم في القرآن وما ينزل به من الحق ويدعو إليه من الهدى ، وهذا أولا وثانيا إنهم لما يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوا عذاب الله على تكذيبهم ما كذبوا ، وسوف يذوقونه ولكن لا ينفعهم يومئذ تصديق ولا إيمان. وقوله تعالى (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك يا رسولنا العزيز أي الغالب الوهاب أي الكثير العطاء من النبوة وغيرها وعندئذ لهم أن يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولكن فهل لهم من خزائن رحمة ربك شيء والجواب لا إذا فلم ينكرون هبة الله لمحمد بالنبوة والوحي والرسالة ... وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بل ألهم ملك السموات والأرض وما بينهما؟ إذا كان هذا لهم (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) سببا بعد سبب حتى ينتهوا إلى السماء السابعة ويمنعوا الوحي النازل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه سبحانه وتعالى. ومن أين لهم ذلك وهم الضعفاء الحقيرون إنهم كما قال تعالى فيهم (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ (١) مِنَ الْأَحْزابِ) أي جند حقير من جملة أحزاب الباطل والشر مهزوم هنالك ببدر ويوم الفتح بإذن الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لله تعالى أن يقسم بما يشاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربّه تعالى.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله.

٤ ـ تحدّي الرب تعالى للمشركين إظهارا لعجزهم ودعوته لهم إلى النزول إلى الحقّ وقبوله.

٥ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.

٦ ـ ذم كلمة الأحزاب ومدلولها إذ لا تأتي الأحزاب بخير.

__________________

(١) (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) (ما) مزيدة للتأكيد أي تأكيد حقارة جند إن قيل التنكير للتحقير وإن كان للتعظيم فهي لتوكيده وهنالك إشارة إلى مكان بعيد ، ومهزوم مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم وذهبت قوتهم وفي الخطاب تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى لا تحفل بهم ولا تغتم لشأنهم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) : أي قبل هؤلاء المشركين من قريش.

(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) : أي صاحب أوتاد أربعة يشد إليها من أراد تعذيبه.

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي الغيضة وهم قوم شعيب.

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) : أي ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل ولم يصدقهم فيما دعوا إليه.

(فَحَقَّ عِقابِ) : أي وجبت عقوبتي عليهم.

(صَيْحَةً واحِدَةً) : هي نفخة اسرافيل في الصور نفخة.

(ما لَها مِنْ فَواقٍ) : أي ليس لها من فتور ولا انقطاع حتى تهلك كل شيء.

(عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) : أي صك أعمالنا لنرى ما اعددت لنا إذ القط الكتاب.

(ذَا الْأَيْدِ) : أي القوة والشدة في طاعة الله تعالى.

(إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي رجاع إلى الله في كل أموره.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) : أي بالمساء بعد العصر إلى الغروب والاشراق من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى.

والطير محشورة له : أي والطيور مجموعة.

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) : أي وأعطينا داود الحكمة. وهي الإصابة في الامور والسداد فيها وفصل الخطاب. الفقه (١) في القضاء ومن ذلك البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

معنى الآيات :

السياق الكريم في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد المشركين علهم يتوبون إلى الله ويرجعون قال تعالى (كَذَّبَتْ) (٢) (قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) أي (٣) صاحب الأوتاد التي كان يشد إليها من أراد تعذيبه ويعذبه عليها كأعواد المشانق ، (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة وهي الشجر الملتف وهم قوم شعيب ، (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي الطوائف الكافرة الهالكة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل واحدة منها إلا كذبت الرسل (فَحَقَّ عِقابِ) أي وجب عقابي لهم فعاقبتهم ، (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) من قومك (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (٤) أي من فتور ولا انقطاع حتى يهلك كل شيء ولا يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام. وقوله تعالى (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا (٥) قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) قالوا هذا لما نزل (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الآيات من سورة الحاقة. قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاء ، ربنا عجل لنا قطنا أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما قالوا هذا استهزاء وعنادا أو مكابرة فلذا قال تعالى لرسوله (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (٦) أي القوة في دين (٧) الله (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع إلى الله تعالى

__________________

(١) صورة من فصل الخطاب الذي هو الفقه والبصيرة في القضاء روي أن ابن أبي ليلى جلد امرأة مجنونة قذفت رجلا فقالت له يابن الزانين جلدها وهي قائمة في المسجد فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال أخطأ ابن أبي ليلى من ستة وجوه وهي : ١ ـ المجنون لا حد عليه لأنه غير مكلّف. ٢ ـ إن كان القذف حقا لله تعالى فلا يقام على القاذف إلا حدا واحدا كما هو مذهب أبي حنيفة. ٣ ـ أقام الحد بدون مطالبة المقذوف به. ٤ ـ إنه والى بين الحدين والواجب أن يفرق بينهما. ٥ ـ أنه حدها قائمة والمرأة تحد جالسة مستورة. ٦ ـ انه أقام الحد في المسجد والإجماع أن الحدود لا تقام في المساجد.

(٢) مفعول كذبت محذوف سيدل عليه ما يأتي من قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) فالمفعول المحذوف هو الرسل والجملة بيان لسابقتها تحمل التسلية والعزاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) جائز أن يكون المراد بالأوتاد القوة والبطش أو الأهرام لأنها بناء راسخ في الأرض كالأوتاد جمع وتد بكسر التاء وهو عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به ظنب الخيمة أو حبالها قال الشاعر :

والبيت لا يبنى إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

(٤) الفواق اسم للزمن الذي بين الحلبتين والرضعتين إذ الحالب يحلب الناقة ثم يترك ولدها يرضعها حتى تدر اللبن ثم يبعده ويحلها مرة ثانية فالفواق هو ما بين الحلبتين والرضعتين.

(٥) القط : هو القسط من الشيء ويطلق كما هنا على قطعة الورق أو ما يكتب عليه العطاء لأحد ويسمى بالصك.

(٦) الأيد ليست جمع يد وإنما المراد بها القوة والشدة وهو مصدر آديئيد أيدا. إذا قوى واشتد ومنه التأييد الذي هو التقوية. قال تعالى (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ).

(٧) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله عزوجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أوابا «في الصحيحين».

اذكره لتتأسى به في صبره وقوته في الحق وقوله تعالى (إِنَّا سَخَّرْنَا) الآيات بيان لإنعام الله تعالى على داود لتعظم الرغبة في الاقتداء به ، والرغبة إلى الله تعالى فيما لديه من إفضالات (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١) أي إذا سبح داود في المساء من بعد العصر إلى الغروب وفي الاشراق وهو وقت الضحى سبحت الجبال معه أي رددت تسبيحه كرامة له (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا الطير محشورة أي مجموعة تردد التسبيح معه ، وقوله (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير أواب أي رجاع يسبح الله تعالى. وقوله (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملك داود بمنحنا إياه لك أسباب القوة المادية والروحية. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) وهي النبوة والإصابة في الأمور والسداد فيها قولا كانت أو فعلا. (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي حسن القضاء والبصيرة فيه ، والبيان الشافي في كلامه. فبه اقتده يا رسولنا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها.

٢ ـ تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب بأشد أنواع العقوبات.

٣ ـ بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه.

٤ ـ مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين.

٥ ـ بيان آية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه.

٦ ـ حسن (٢) صوت داود في قراءته وتسبيحه.

٧ ـ مشروعية صلاة الإشراق والضحى.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أمر بهذه الآية بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة (الضحى) وقال يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق. وروى البخاري عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي بثلاث خصال لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر.

(٢) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي موسى الأشعرى وقد سمعه يقرأ القرآن ويرتل بحسن صوت لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود.

والمزمار والمزمور الصوت الحسن وبه سميت آلة الزمر مزمارا.

وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ) : الاستفهام هنا للتعجب أي حمل المخاطب على التعجب.

(نَبَأُ الْخَصْمِ) : أي خبر الخصم الغريب في بابه العجيب في واقعه.

(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : أي محراب مسجده إذ منعوا من الدخول من الباب فقصدوا سوره ونزلوا من أعلى السور.

(بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) : أي تعدّى بعضنا على بعض.

(فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) : أي احكم بالعدل ولا تجر في حكمك.

(وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) : أي أرشدنا إلى العدل في قضيتنا هذه ولا تمل بنا إلى غير الحق.

(إِنَّ هذا أَخِي) : أي على ديني في الإسلام.

(فَقالَ أَكْفِلْنِيها) : أي اجعلني كافلها بمعنى تنازل لي عنها وملكنيها.

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) : أي غلبني في الكلام الجدلي فأخذها مني.

(لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) : أي بطلبه نعجتك وضمها إلى نعاجه.

(مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ) : أي الشركاء يظلم بعضهم بعضا.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) : أي أيقن داود أنما فتنه ربه أي اختبره.

(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) : أي طلب المغفرة من ربه بقوله استغفر الله وسقط ساجدا على الأرض وأناب أي رجع تائبا إلى ربه.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) : أي وحسن مرجع عندنا وهي الجنة والدرجات العلا فيها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تسلية الرسول وحمله على الصبر على ما يعاني من كفار قريش من تطاول وأذى فقال له ربّه تعالى (هَلْ أَتاكَ) إلى آخر الآيات. وذلك أن داود (١) عليه‌السلام ذكر مرة في نفسه ما اكرم الله تعالى به ابراهيم واسحق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس ، فتمنى مثله فقيل له إنهم امتحنوا فصبروا فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا به ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر فاختبره الله تعالى بناء على رغبته فأرسل إليه ملكين (٢) في صورة رجلين فتسورا عليه المحراب كما يأتي تفصيله في الآيات وهو قوله تعالى (وَهَلْ أَتاكَ) يا رسولنا نبأ الخصم (٣) وهما ملكان في صورة رجلين ، ولفظ الخصم يطلق على الواحد والأكثر كالعدو فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي ، وهذا عدوي ، وهؤلاء عدوّ لي. وقوله (إِذْ تَسَوَّرُوا (٤) الْمِحْرابَ) أي طلعوا على سور المنزل الذي هو المحراب في عرف بني اسرائيل ولم يدخلوا من الباب لأن الحرس منعهم من ذلك ، لأن لداود وقتا ينقطع فيه للعبادة فلا يسمح بمقابلة أحد وقوله (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) وهو في محرابه (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي ارتاع واضطرب نفسا (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) أي نحن خصمان (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي اعتدى بعضنا على بعض جئنا نتحاكم إليك (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكم (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي إلى وسط (٥) الطريق فلا تمل بنا عن الحق. ثم عرضا عليه القضية فقال أحدهما وهو المظلوم عارضا مظلمته (إِنَّ هذا أَخِي) أي في الإسلام (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي ملكنيها أضمها إلى نعاجي ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي وغلبني في الكلام والجدال وأخذها مني. فقال داود على الفور وبدون أن يسمع من الخصم الثاني (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وعلل لذلك بقوله (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء في زرع أو ماشية أو تجارة (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم أهل الإيمان والتقوى فإنهم يسلمون من

__________________

(١) ذكر المفسرون هنا نقلا عن كتب بني اسرائيل عجائب وغرائب في قصة داود هذه من أبشعها أنه نظر من كوة المحراب فرأى امرأة تغتسل فأحبها وطلبها بأن أرسل زوجها إلى الجهاد ليموت قتيلا حتى يتزوج داود امرأته بعد موته أعرضنا عن هذه الأباطيل منزهين نبي الله عن هذه الأكاذيب الممجوجة التي لا يرتكبها أقل الناس إيمانا وشأنا كما نسبوا إلى يوسف ما نسبوا ، رواية عن اليهود وهم أكذب خلق الله تعالى بعد أن لعنوا بظلمهم.

(٢) لا خلاف بين المفسرين ان الخصمين كانا ملكين. انتهى.

(٣) شاهده قول الشاعر :

وخصم غضاب ينفضون لحاهم

كنفض البراذين العراب المخاليا

(٤) إذ طرف للزمان الماضي متعلق بمحذوف تقديره : تحاكم الخصم إذ تسوروا الخ.

(٥) سواء الصراط أي وسط الطريق وهذا كناية عن الحكم بالعدل وعدم الجور عن الحق أي الميل كمن يميل إلى جانب الطريق.

مثل هذه الاعتداءات ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وهم قليل جدا ، وهنا طار الملكان من بين يدي داود وعرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنة ربّه كما رغب إليه وأنه لم يصبر حيث قضى بدون أن يسمع من الخصم الثاني فكانت زلة صغيرة أرته أن ما ناله إبراهيم واسحق ويعقوب من الكمال كان نتيجة ابتلاء عظيم ، وهنا استغفر داود ربّه (وَخَرَّ (١) راكِعاً) يبكي ويطلب العفو وأناب إلى ربّه في أمره كله ، وذكر تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لقربة عندنا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع وهو الدرجات العلا في دار الأبرار ، جعلنا الله تعالى من أهلها بفضله ورحمته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فائدة عرض مثل هذا القصص تقوية قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت فؤاده وحمله على الصبر.

٢ ـ تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذا القصص لا يتأتّى له قصه إلا بوحي إلهي.

٣ ـ تقرير جواز تشكل الملائكة في صورة (٢) بني آدم.

٤ ـ حرمة إصدار القاضي أو الحاكم الحكم قبل أن يسمع الدعوى من الخصمين معا إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه‌السلام.

٥ ـ وجوب التوبة عند الوقوع في الذنب

٦ ـ مشروعية السجود (٣) عند قراءة هذه الآية (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ

__________________

(١) أطلق الركوع وأريد به السجود وهو شائع كما في قول الشاعر :

فخر على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

(٢) وكثيرا ما كان جبريل يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية بن خليقة الكلبي.

(٣) في البخاري قال ابن عباس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست من عزائم القرآن وقد رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجود الشكر. ولما بشر بقتل أبي جهل قام فصلى ركعتين شكرا لله تعالى.

عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) : أي خلفت من سبقك تدبر أمر الناس بإذننا.

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) : أي هوى النفس وهو ما تميل إليه مما تشتهيه.

(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الطريق الموصل إلى رضوانه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي يخطئون الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإيمان والتقوى.

(بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) : أي بنسيانهم يوم القيامة فلم يتقوا الله تعالى.

(باطِلاً) : أي عبثا لغير حكمة مقصودة من ذلك الخلق.

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ظنّ أن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثا لا لحكمة مقصودة منها ظن الذين كفروا.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) : أي من واد في النار بعيد غوره كريه ريحه لا يطاق.

(مُبارَكٌ) : أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه.

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي ليتعظ به أصحاب العقول الراجحة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر قصة داود للعظة والاعتبار وتثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (يا داوُدُ) (١) أي

__________________

(١) افتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعي المخاطب ليهتم بما سيقال له.

وقلنا له أي بعد توبته وقبولها يا داود (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (١) خلفت من قبلك من الأنبياء تدبر أمر الناس (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي بالعدل الموافق لشرع الله ورضاه ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) وهو ما تهواه نفسك دون ما هو شرع الله ، (فَيُضِلَّكَ) (٢) أي اتباع الهوى يضلك عن سبيل الله المفضي بالعباد إلى الإسعاد والكمال وذلك أنّ الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الإلهية انتظمت بها مصالح العباد ونفعت العامة والخاصة أما إذا كانت على وفق الهوى وتحصيل مقاصد النفس للحاكم لا غير أفضت إلى تخريب العالم بوقوع الهرج والمرج بين الناس وفي ذلك هلاك الحاكم والمحكومين ، وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) القائم على الإيمان والتقوى وإقامة الشرع والعدل هؤلاء (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا والآخرة (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٣) أي بسبب نسيانهم ليوم القيامة فتركوا العمل له وهو الإيمان والتقوى التقوى التي هي فعل الأوامر الإلهية واجتناب النواهي في العقيدة والقول والعمل. ، وقوله تعالى في الآية (٢٧) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ينفي تعالى ما يظنه المشركون وهو أن خلق الكون لم يكن لحكمة اقتضت خلقه وإيجاده وهي أن يعبد الله تعالى بذكره وشكره المتمثل في الإيمان والتقوى. وقوله (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظن أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما لا لحكمة مقصودة وهي عبادة الله تعالى بما يشرع لعباده من العبادات القلبية والقولية والفعلية ظن الذين كفروا من كفار مكة وغيرهم. ثم توعدهم تعالى على كفرهم وظنهم الخاطىء الذي نتج عنه كفرهم وعصيانهم فقال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي ويل للذين كفروا من واد في جهنم بعيد الغور كريه الريح. وقوله تعالى في الآية (٢٨) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) هذا أولا ردّ لما زعمه المشركون من أنهم يعطون في الآخرة من النعيم مثل ما يعطى المؤمنون ، وثانيا ينفي تعالى أن يسوى بين من آمن به واتبع هداه فأطاعه في الأمر والنهي ، وبين من أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي كما نفى أن يجعل المتقين الذين آمنوا واتقوا فتركوا الشرك والمعاصي كالفجار الذين فجروا أي خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا فعاشوا كفارا فجارا وماتوا على ذلك. أي

__________________

(١) لا يقال يا خليفة الله إلا لرسوله أما من عدا الرسل فإن الخليفة منهم هو خليفة لمن قبله وليس خليفة لله تعالى والصحابة قالوا لأبي بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) الفاء هى السببية والمضارع بعدها منصوب وفي الآية تحريم اتباع هوى النفس المسبب الخروج عن دائرة العدل والحق. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الحكم بعلم الحاكم بل بالبينة والشهود وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترى فرسا فجحده البائع فلم يحكم عليه بعلمه وقال من يشهد لي؟ فقام خزيمة فشهد فحكم عليه.

(٣) سمي يوم القيامة يوم الحساب لما يجري فيه من حساب الناس بما كسبوا من خير وشر وسمي يوم الدين للمجازاة التي تتم بعد الحساب ، وسمي يوم الفصل للفصل بين الناس والحكم لهم فيما بينهم.

فحاشا لله ربّ العالمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين أن يسوي بين أهل الإيمان والتقوى وبين أهل الشرك والمعاصي بل ينعم الأولين في دار النعيم ، ويعذب الآخرين في سواء الجحيم وقوله تعالى في الآية (٢٩) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا ليدبروا (١) آياته بمعنى يتأملوها ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا. وليذكّر أولوا (٢) الألباب أي وليتعظ بمواعظة وينزجر بزواجره أولو الألباب أي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبرا عرف الهدى ومن قرأه تقربا حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكما عدل في حكمه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الحكم بالعدل على كل من حكم ولا عدل في غير الشرع الإلهي.

٢ ـ حرمة اتباع الهوى لما يفضي بالعبد إلى الهلاك والخسار.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء.

٤ ـ إبطال ظن من يظن أن الحياة الدنيا خلقت عبثا وباطلا.

٥ ـ تنزيه الربّ تعالى عن العبث والظلم.

٦ ـ فضيلة العقول لمن استعملها في التدبر والتذكر.

٧ ـ بركة (٣) القرآن لا تفارقه ابدا وما طلبها أحد إلا وجدها.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

__________________

(١) ليدبروا أصلها ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما.

(٢) الألباب العقول والواحد لب ويجمع على ألبّ كما جمع بؤس على أبؤس قال أبو طالب قلبي إليه مشرف الألب ، والتذكر هو استحضار الذهن ما كان يعلمه كاستحضار ما هو منسي أيضا.

(٣) بركة القرآن تتجلى في صرفها النفس عن السوء ودفعها إلى الخير وذلك لمن يقرأ القرآن موقنا به متدبرا له فإن له في كل حرف عشر حسنات مع ما يفيضه على روحه من نور المعرفة وحب الآخرة.

شرح الكلمات :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) : أي ومن جملة هباتنا لداود الأواب أن وهبنا له سليمان ابنه.

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي سليمان أي رجاع إلى ربّه بالتوبة والإنابة.

(الصَّافِناتُ الْجِيادُ) : أي الخيل الصافنات أي القائمة على ثلاث الجياد أي السوابق.

(حُبَّ الْخَيْرِ) : أي حب الخيل عن ذكر ربي وهي صلاة العصر لإنشغاله باستعراض الخيل للجهاد.

(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) : أي استترت الشمس في الأفق وتغطت عن أعين الناظرين.

(رُدُّوها عَلَيَ) : أي ردوا الخيل التي استعرضتها آنفا فشغلتني عن ذكر ربّي.

(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) : أي فأخذ يمسح بسوق تلك الخيل واعناقها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله على داود (١) حيث قال (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) فذكر تعالى أنه وهبه سليمان وأثنى على سليمان بأنه نعم العبد لله ، وعلل لتلك الأفضليّة بقوله (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢) أي كثير الأوبة إلى الله تعالى ، وهي الرجوع إلى الله بذكره واستغفاره عند الغفلة والنسيان العارض للعبد ، وأشار تعالى إلى ذلك بقوله (إِذْ عُرِضَ (٣) عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٤) أي الخيل القوية على السير التي إذا وقفت تأبى أن تقف على أربع كالحمير بل تقف على ثلاث وترفع الرابعة ، والجياد هي السريعة العدو ، وهذا العرض كان استعراضا منه لها إعدادا لغزو أراده فاستعرض خيله فانشغل بذلك عن صلاة العصر فلم يشعر إلا وقد غربت الشمس وهو معنى قوله تعالى

(حَتَّى تَوارَتْ) أي استترت الشمس (بِالْحِجابِ) أي بالأفق الذي حجبها عن أعين الناظرين. فندم لذلك وقال (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) وصلى العصر ، ثم عاد إلى إكمال الاستعراض فردها رجاله عليه فجعل يمسح بيده سوقها (٥) وأعناقها حتى أكمل استعراضها هذا وجه الأوبة التي وصف بها سليمان عليه‌السلام في قوله تعالى (إِنَّهُ أَوَّابٌ).

__________________

(١) جملة (نِعْمَ الْعَبْدُ) في محل نصب على الحال والمخصوص بالمدح محذوف أي سليمان.

(٢) الجملة تعليلية لما سبقها.

(٣) العارض هم سوّاس خيله. والعرض هو الإمرار والإحضار أمام الرائي والجياد جمع جواد وهو الفرس الشديد الحضر ، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها. والجواد يجمع على أجواد وأجاود.

(٤) (الصَّافِناتُ) صفة لموصوف محذوف وهو الخيل أو الأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم والواحدة صافنة.

(٥) ذكر كثير من المفسرين أن قوله فطفق مسحا بالسوق والأعناق أنه ذبحها وأطعمها الفقراء لأنها ألهته عن الصلاة وما في التفسير هو اختيار ابن جرير وهو الحق والصواب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الولد الصالح هبة إلهيّة لوالده فليشكر الله تعالى من وهب ذلك.

٢ ـ الثناء على العبد بالتوبة الفوريّة التي تعقب الذنب مباشرة.

٣ ـ جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقدا لها لما قد يحدثه فيها.

٤ ـ اطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح «الخيل لثلاث .....».

٥ ـ ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) : أي ابتليناه.

(وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) : أي شق ولد ميت لا روح فيه.

(ثُمَّ أَنابَ) : أي رجع إلى ربه وتاب إليه من عدم استثنائه في يمينه.

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) : أي أعطني ملكا لا يكون لسواي من الناس.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) : أي استجبنا له فسخرنا له الريح تجري بأمره.

(رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) : أي لينة حيث أراد.

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) : أي وسخرنا له الشياطين من الجن منهم البناء ومنهم الغواص في البحر.

(مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) : أي مشدودين في الأصفاد أيديهم إلى أعناقهم في السجون المظلمة وذلك إذا تمردوا وعصوا أمرا من أوامره.

(هذا عَطاؤُنا) : أي وقلنا له هذا عطاؤنا.

(فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) : أي أعط من شئت وما شئت وامنع كذلك.

(بِغَيْرِ حِسابٍ) : أي منّا لك.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) : أي وإن لسليمان عندنا لقربة يوم القيامة.

(وَحُسْنَ مَآبٍ) : أي مرجع في الجنة في الدرجات العلا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله على آل داود فقد أخبر تعالى هنا عما منّ به على سليمان فأخبر تعالى انه ابتلاه كما ابتلى أباه داود وتاب سليمان كما تاب داود ولم يسقط ذلك من علو منزلتهما وشرف مقامهما قال تعالى في الآية (٣٤) (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) (١) أي ابتليناه ، وذلك انه كما اخبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح أنه قال لأطأن الليلة مائة (٢) جارية تلد كل جارية ولدا يصبح فارسا يقاتل في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله أي لم يستثن ووطىء نساءه في تلك الليلة فعوقب لعدم استثنائه فلم يلدن إلا واحدة جاءت بولد مشلول بالشلل النصفي فلما وضعته أمه أتوا به إلى سليمان ووضعوه على كرسيه. وهو قوله تعالى (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) سليمان إلى ربه فاستغفر وتاب فتاب الله عليه وقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي (٣) لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي لا يكون مثله لسواي من الناس وتوسل إلى الله في قبول دعائه بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ

__________________

(١) ذكر المفسرون لهذه الفتنة عدة أمور وهي قصص أشبه بالخرافات الاسرائيلية أمثلها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم ثم قضى بينهما بالحق فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى وما في التفسير أصح وأقرب إلى تفسير الآيات.

(٢) نص الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون.

(٣) روى البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن عفريت من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع على صلاتي فحماني الله تبارك وتعالى منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه‌السلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فرددته خاسئا.

الْوَهَّابُ) فاستجاب الله تعالى له فسخر له الريح تجري بأمره حيث يريد لأنها تحمل بساطه أو سفينته الهوائية التي غدوها شهر ورواحها رخاء أي ليّنة حيث أصاب أي أراد ، كما سخر له شياطين الجن منهم البناء الذي يقوم بالبناء للدور والمصانع ومنهم الغواص في أعماق البحر لاستخراج اللآلي ، ومنهم من إذا عصاه وتمرد عليه جمع يديه إلى عنقه بصفد ووضعه تحت الأرض. هذا ما جاء في قول الله تعالى (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (١) وقوله تعالى (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي اعطيناه ما طلب منا وقلنا له هذا اعطاؤنا لك فامنن أي أعط ما شئت لمن شئت وامنع ما شئت عمن شئت بغير حساب منا عليك. وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع وهو قوله تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قول بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إذ عدم الاستثناء في قوله لأطأن الليلة مائة جارية الحديث عوقب به فلم تلد امرأة من المائة إلا واحدة وولدت طفلا مشلولا ، وعوقب به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانقطع عنه الوحي نصف شهر وأكربه ذلك لأنه لم يستثن عند ما سئل عن ثلاث مسائل وقال غدا أجيبكم.

٢ ـ مشروعية التوبة من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا.

٣ ـ مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى.

٤ ـ بيان إنعام الله تعالى على عبده سليمان.

٥ ـ بيان تسخير الله تعالى لسليمان الريح والجن وهذا لم يكن لأحد غيره من الناس.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

__________________

(١) (الْأَصْفادِ) جمع صفد بفتح الصاد والفاء القيد من حديد.

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) : أي اذكر يا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبدنا أيوب بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم.

(بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) : أي بضرّ وألم شديد نسب هذا للشيطان لكونه سببا وتأدّبا مع الله تعالى.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) : أي اضرب برجلك الأرض تنبع عين ماء.

(هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) : أي وقلنا له هذا ماء بارد تغتسل منه ، وتشرب فتشفى.

(ضِغْثاً) : أي حزمة من حشيش يابس.

(وَلا تَحْنَثْ) : بترك ضربها.

(نِعْمَ الْعَبْدُ) : أي أيوب عليه‌السلام.

(إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي رجاع إلى الله تعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر قصص الأنبياء ليثبت به فؤاد نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى له (وَاذْكُرْ عَبْدَنا (١) أَيُّوبَ) وهو أيوب بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهم‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعاه قائلا (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٢) أي ألم شديد ، وذلك بعد مرض شديد دام مدة تزيد على كذا سنة ، وقال في ضراعة أخرى ذكرت في سورة الأنبياء (رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) قال تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وقوله (ارْكُضْ (٣) بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي لما أراد الله كشف الضر عنه قال له اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض ينبع منها ماء فاشرب (٤) منه واغتسل تشف ففعل فشفي كأن لم

__________________

(١) قال القرطبي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره.

(٢) قرأ الجمهور بنصب بضم النون وتسكين الصاد وقرىء بنصب بفتحها كحزن وحزن فالنصب الشر والبلاء الشديد والنصب بالتحريك التعب والإعياء.

(٣) الباء في بنصب سببية أي مسني نصب وعذاب بسبب وسوسة الشيطان لي فنسب النصب والعذاب إلى الشيطان لأنهما كانا بسبب وسواسه.

(٤) الركض التحريك يقال ركب الدابة إذا حركها برجليه فركضت أي تحركت بسرعة وجملة اركض مقولة لقول محذوف أي قلنا له أركض برجلك.

(٥) أي ماء فيه شفاء ومغتسل اسم مفعول أي مغتسل به هو من باب الحذف والايصال مثل تمرون الديار ولا تعرجوا : فكلامكم إذا عليّ حرام. أي تمرون بالديار فحذف الباء.

يكن به ضرّ البتة. وقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ (١) أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي عوضه الله تعالى عما فقد من أهل وولد ، وقوله (رَحْمَةً مِنَّا) أي كان ذلك التعويض لأيوب (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي عبرة لأولي القلوب الحيّة الواعية يعلمون بها أن الله قد يبتلي أحب عباده إليه ليرفعه بذلك درجات عالية ما كان ليصل إليها دون الابتلاء في ذات الله والصبر عليه. وقوله (وَخُذْ بِيَدِكَ (٢) ضِغْثاً) أي قلنا له خذ بيدك ضغثا أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من أيام حياتهما ، فأفتاه ربّه تعالى بما ذكر في هذه الآية. وقوله تعالى (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) (٣) أي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابرا ، وبذلك أثنى عليه بقوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجاع إلى ربّه في كل امره لا يعرف إلا الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بالوحي الإلهي.

٢ ـ قد يبتلي الله تعالى من يحبه من عباده ليزيد في علوّ مقامه ورفعة شأنه.

٣ ـ فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.

٤ ـ مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم.

٥ ـ وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ

__________________

(١) لم تشر الآيات إلى أن أيوب رزىء بموت أهله ولا بفقد ماله وسياق الآيات لا يدل على أن أيوب مات أهله من بنين وأحفاد وما يذكر هنا من كونه فقد أهله بموتهم ثم أحياهم الله تعالى له هو من أحاديث بني اسرائيل ، والظاهر أن الله تعالى حفظ لأيوب أهله ووهبه مثلهم أي أعطاه أهله وزاده ضعفهم ولو أراد ما تقوله الناس لقال وأحيينا له أهله ووهبنا له مثلهم والله أعلم.

(٢) هذه الفتيا مما خص الله تعالى بها عبده أيوب فلا تتعداه إلى غيره والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفّرت عن يمني وفعلت الذي هو خير وما روى أبو داود من أن رجلا مريضا وجب عليه حد فأفتاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضربه بعثكول نخل به مائة عود فضربوه به ضربة واحدة فإن الخبر إن صح فالعلة هي مرضه الشديد وعلته القائمة به.

(٣) الجملة تعليلية لما تقدم من إنعام الله تعالى على أيوب أي وهبه الله ذلك الانعام لصبره على ما ابتلاه به وكذا جملة إنه أواب.

إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا) : أي اذكر صبرهم على ما أصابهم فإن لك فيهم أسوة.

(أُولِي الْأَيْدِي) : أي أصحاب القوى في العبادة.

(وَالْأَبْصارِ) : أي البصائر في الدين بمعرفة الأسرار والحكم.

(بِخالِصَةٍ) : أي هي ذكر الدار الآخرة والعمل لها.

(لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) : أي من المختارين الأخيار جمع خيّر.

(هذا ذِكْرٌ) : أي لهم بالثناء الحسن الجميل هنا في الدنيا.

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي هم وغيرهم من سائر المؤمنين والمؤمنات.

(لَحُسْنَ مَآبٍ) : أي مرجع أي عند ما يرجعون إلى ربهم بالوفاة.

(مُتَّكِئِينَ فِيها) : أي على الأرائك.

(يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ) : أي يطالبون فيها بفاكهة وذكر الفاكهة دون الطعام والشراب إيذانا بأن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ لا للتغذية كما في الدنيا.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي حابسات العيون على الأزواج فلا ينظرن إلى غيرهم.

(أَتْرابٌ) : أي أسنانهن متساوية وهي ثلاث وثلاثون سنة.

(ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) : أي ليس له انقطاع أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر الأنبياء وما أكرموا به على صبرهم ليكون ذلك مثبتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعوته والصبر عليها والتحمل في سبيل الوصول بها إلى غاياتها فقال تعالى له (وَاذْكُرْ) أي يا نبيّنا

(عِبادَنا) لتتأسى بهم وهم (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) (١) وولده (يَعْقُوبَ) حفيده (أُولِي) أي أصحاب (الْأَيْدِي) (٢) أي القوى في العبادة والطاعة (وَالْأَبْصارِ) أي أبصار القلوب وذلك بالفقه في الدين ومعرفة أسرار التشريع ، وقوله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي خصصناهم (بِخالِصَةٍ) (٣) أي بخاصة امتازوا بها هي ذكر الدار أي ذكر الدار الآخرة بالعمل لها والدعوة إليها بالإيمان والتقوى ، وقوله (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي المختارين (الْأَخْيارِ) جمع خيّر (٤) وهو المطبوع على الخير وقوله (وَاذْكُرْ) أي يا نبيّنا للائتساء (إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) وقوله (وَكُلٌ) أي من داود ومن ذكر بعده من الأنبياء كانوا من الأخيار ، وقوله (هذا ذِكْرٌ) أي لهم بالثناء الحسن لهم في الدنيا ، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (٥) هم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات (لَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع وهو الجنة حيث يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت ، وفسر ذلك المرجع بقوله تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة (مُفَتَّحَةً (٦) لَهُمُ الْأَبْوابُ) (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي على الأرائك الأسرة بالحجلة ، (يَدْعُونَ فِيها) أي يطالبون فيها (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) ولم يذكر الطعام إشارة إلى أن مآكلهم ومشاربهم لمجرد التلذذ لا للتغذي بها كما في الدنيا ، وقوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يخبر تعالى أن لأولئك المتقين في الجنة قاصرات الطرف أي نساء قاصرات الطرف أي حابسات له على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم من الأزواج وقوله (أَتْرابٌ) أي في سن واحدة وهي ثلاث وثلاثون سنة. وقوله تعالى (هذا ما تُوعَدُونَ) أي يقال لهم هذا ما توعدون (لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا المذكور من النعيم هو ما يعدكم به ربكم يوم القيامة. وقوله (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي ليس له انقطاع ولا فناء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين وفي الحديث (٧) «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير».

٢ ـ فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائما لأنها تساعد (٨) على الطاعة.

__________________

(١) أما إبراهيم فقد ذكر الله تعالى ما ابتلاه به من إلقائه في النار وكذا يعقوب من فقده ليوسف عليهم‌السلام وأما اسحاق فلم يذكر له في القرآن ابتلاء ولعله ذكر بين مبتلين وهما أصله وفرعه فكان ذلك ابتلاء له أيضا.

(٢) جمع يد والمراد بها القوة لا الجارحة نحو والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون.

(٣) قرأ نافع بخالصة ذكر الدار بإضافة خالصة إلى الدار وقرأ حفص بتنوين (بِخالِصَةٍ) فتكون ذكر الدار عطف بيان على خالصة.

(٤) جائز أن يكون الأخيار جمع خير بإسكان الياء وجمع خير بتشديدها مكسورة نحو أموات جمع ميت وميت.

(٥) اللام للاختصاص ليست للملك ولا للتعليل بل للاختصاص إذ هي مختصة بالمتقين دون غيرهم.

(٦) مفتحة منصوب على الحال والأبواب مرفوع بمفتحة لأنه نائب فاعل.

(٧) أخرجه مسلم في صحيحه.

(٨) شاهده حديث كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة «حديث صحيح».

٣ ـ فضل التقوى وأهلها وبيان ما أعد لهم يوم الحساب.

٤ ـ نعيم الآخرة لا ينفد كأهلها لا يموتون ولا يهرمون.

٥ ـ فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم وهم اولوا القوة في العبادة والبصيرة في الدين.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

شرح الكلمات :

(هذا) : أي المذكور للمتقين.

(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) : أي الذين طغوا في الكفر والشر والفساد.

(لَشَرَّ مَآبٍ) : أي جهنم يصلونها.

(فَبِئْسَ الْمِهادُ) : أي الفراش الذي مهدوه لأنفسهم في الدنيا بالشرك والمعاصي.

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) : أي العذاب المفهوم مما بعده فليذوقوه.

(حَمِيمٌ) : أي ماء حار محرق.

(وَغَسَّاقٌ) : أي قيح وصديد يسيل من لحوم وفروج الزناة في النار.

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) : أي وعذاب آخر كالحميم والغساق أصناف.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) : أي يقال لهم عند دخولهم النار هذا فوج مقتحم معكم.

(لا مَرْحَباً بِهِمْ) : أي لا سعة عليهم ولا راحة لهم إنهم صالو النار.

(قالُوا) أي الاتباع للطاغين : بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) : أي الأتباع أي من كان سببا في عذابنا هذا في جهنم فزده عذابا.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً) : أي قال الطاغون وهم في النار مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) : أي كنا نسخر منهم في الدنيا.

(أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) : أي امفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ فلم نرهم.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) : أي إن ذلك المذكور لأهل النار لحق ثابت وهو تخاصم أهل النار.

معنى الآيات :

بعد ذكر نعيم أهل الإيمان والتقوى ناسب ذكر شقاء أهل الكفر والفجور وهو اسلوب الترهيب والترغيب الذي امتاز به القرآن الكريم في هداية العباد. فقال تعالى (هذا) (١) أي ما تقدم ذكره من نعيم أهل السعادة (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) وهم المشركون الظلمة كأبي جهل وعتبة بن معيط والعاص بن وائل (لَشَرَّ مَآبٍ) أي لأسوأ مرجع وأقبحه وهو (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ (٢) الْمِهادُ) هي يمهدها الظالمون لأنفسهم. وقوله تعالى (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم وغساق (٣) فليذوقوه والحميم الماء الحار المحرق والغساق ما سال من جلود ولحوم وفروج الزناة من أهل النار كالقيح والصديد وقوله (وَآخَرُ مِنْ (٤) شَكْلِهِ) أي وعذاب آخر من شكل الأول (أَزْواجٌ) أي أصناف عديدة وقوله تعالى (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي يقال (٥) عند دخولهم النار هذا فوج أي فريق مقتحم معكم النار ، فيقول الطاغون (لا مَرْحَباً (٦) بِهِمْ) أي لا سعة ولا راحة لهم (إِنَّهُمْ صالُوا

__________________

(١) هذا مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تثنية للغرض الذي قبله شبيهة بكلمة وبعد.

(٢) الفاء في فبئس المهاد للترتيب والسبب.

(٣) الغساق سائل في جهنم يقال غسق الجرح إذا سال منه ماء أصفر. قرأ الجمهور «غساق بالتخفيف وقرأه حفص وبعض بالتشديد فهما لغتان فيه والتشديد للمبالغة فى غاسق وهو أقرب.

(٤) وآخر صفة لموصوف محذوف أي وعذاب آخر من شكله أي من مثله أزواج أي أصناف متعددة.

(٥) يبدو أن القائل هم الزبانية يخاطبون الطغاة وهم يعذبونهم هذا فوج.

(٦) لا مرحبا نفي للكلمة التي يقولها المزور لمن زاره وهي انشاء دعاء للوافد. وهي مصدر بوزن مفعل ، والعامل فيه محذوف تقديره أتيت رحبا أي مكانا ذا رحب ، فإذا أرادوا نفيه قالوا لا مرحبا بكم. قال الشاعر :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إذا كان تفريق الأحبة في غد

النَّارِ) أي داخلوها محترقون بحرها ولهبها ، فيرد الأتباع عليهم قائلين (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً (١) بِكُمْ) أي لا سعة ولا راحة (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) إذ كنتم تأمروننا بالشرك والكفر والفجور قال تعالى (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي الذي انتهى إليه الطاغون وأتباعهم في النار ، وقالوا أيضا ما اخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي العذاب (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي يا ربنا ضاعف لهم العذاب مرتين لأنهم هم الذين قدموه لنا يوم كانوا يدعوننا إلى الشرك والباطل ويحضوننا عليه. وقوله تعالى (وَقالُوا) أي الطغاة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) (٢) بيننا (أَتَّخَذْناهُمْ) (٣) في الدنيا (سِخْرِيًّا) (٤) نسخر منهم يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمّار وصهيب وخبيب ، أمفقودون هم (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ) أبصارنا فلم نرهم ، قال تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن ذلك الكلام الذي دار بين أهل النار حق وصدق هو تخاصم أهل النار فاسمعوه أيها المشركون اليوم آيات تتلى وغدا يوم الحساب حقائق تشاهدوه وغصص تتجرع وحسرات تمزق الأكباد والقلوب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر وبيان جزاء أهله يوم القيامة.

٢ ـ بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار.

٣ ـ شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم.

٤ ـ تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم.

__________________

(١) (بَلْ) للاضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم ، وأنهم هم أولى به منه ، والباء في بهم للبيان فهي بمعنى اللام أي لا مرحبا لهم يستحقونه عندنا.

(٢) جمع شر بمعنى أشر كالأخيار جمع خير بمعنى أخير.

(٣) قرأ نافع وحفص والجمهور (أَتَّخَذْناهُمْ) بهمزة الاستفهام وحذفت همزة الوصل والجملة بدل من جملة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً.). (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، و (أَمْ) بمعنى بل أي بل زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وزاغت بمعنى مالت.

(٤) قرأ نافع سخريا بضم السين وقرأ حفص بكسرها كما في سورة المؤمنون والسخرة الاستهزاء.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ) : أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفا من عذاب الله.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار.

(الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) : أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتائبين من عباده.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) : أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم.

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) : لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه.

(بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) : أي بالملائكة عند ما شووروا في خلق آدم.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) : أي اذكر لهم تدليلا على انه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة.

(خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) : أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدوّ بشرته.

(مِنْ رُوحِي) : الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك.

(إِلَّا إِبْلِيسَ) : أي لم يسجد.

(اسْتَكْبَرَ) : عن السجود لآدم كبرا وحسدا له.

معنى الآيات :

بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) (١) أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقاه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه ، كما أخبركم مقررا انه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك. العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي (٢) القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإيمان به والاهتداء بهديه. بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية. كيف يكون ما اتلوه عليكم من القرآن افتراء منّي عليكم وعلى الله ربي وربكم. وانه (ما كانَ لِي (٣) مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤) عند ما قال الله للملائكة (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) وقال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقال الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحيا من الله أوحاه إليّ. يا قوم إنه ما يوحى إليّ إلا انما أنا نذير مبين أي

__________________

(١) في هذه الآيات الثلاث الترهيب والترغيب ببيان قدرة الله وجبروته وبيان ربوبيته الموجبة للألوهية المستلزمة لمغفرته ورحمته لمن تاب إليه بتوحيده وطاعته بعد الإيمان به وبرسوله ولقائه.

(٢) كون النّبأ هو القرآن هذا ما ذهب إليه ابن جرير رحمه‌الله تعالى ، ومن فسره بما سبق ذكره من الانذار وما عرض من أحوال أهل الجنة وأهل النار فإن ما في التفسير شامل لكل ذلك وهاد إليه ودال عليه والحمد لله.

(٣) قوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ) الخ استئناف لأجل الاستدلال على صدق القرآن بأنه وحي من الله تعالى ولو لا أنه وحي لما كان للرسول علم به لا إجمالا ولا تفصيلا ولهذا الاستدلال نظائر نحو (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا).

(٤) قال بعض المفسرين تخاصم الملأ الأعلى هو اشراف قريش فيما بينهم سرا وقال آخرون هو تخاصم أهل النار وقيل والصواب ما في التفسير وهو أن الملأ الأعلى الملائكة وما جرى بينهم في شأن السجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك وفي الآية بعد تفسير هذا الاختصام وأما حديث السنن فلم يرد به ما في هذه الآيات ونصه «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عزوجل في أحسن صورة فقال يا محمد ا تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثا ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات. قال وما الكفارات؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات قال وما الدرجات؟ قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام. قال سل قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك هذا «حديث المنام».

بيّن النذارة. فلم يوح إليّ الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدما لا ، لا. إنما يوحى إليّ لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعدّ لمن كفر به وأشرك في عبادته ، وفسق عن طاعته. وقوله تعالى في الآية (٧١) (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) هو آدم عليه‌السلام (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فحييى وصار بشرا سويا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحيّة لعبدنا ، (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) سواء من كان منهم في السموات أو في الأرض (إِلَّا إِبْلِيسَ) استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين ، ولحسده أيضا حيث فضله وفضّل عليه ، وكان بذلك الكبر والحسد من الكافرين إذ جحد معلوما من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بأدلته.

٢ ـ تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى.

٣ ـ عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد.

٤ ـ تقرير أن من القياس ما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك ، إذ التراب أفضل النار تحرق والتراب يحيي ، وشتان ما بين الموت والحياة.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

شرح الكلمات :

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) : أي للذي خلقته بيديّ وهو آدم فدل ذلك على شرفه.

(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) : استكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ. والتقريع لإبليس.

(فَاخْرُجْ مِنْها) : أي من الجنة.

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي مرجوم مطرود.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) : أي أخر موتي وأبق عليّ حيّا إلى يوم يبعثون أي الناس.

(إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصتهم للإيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : لا أسألكم على البلاغ أجرا تعطونه لي.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) : أي المتقولين القرآن وما أنذركم به من تلقاء نفسي.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) : أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) : أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الربّ تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد أن امتنع إبليس من السجود لآدم (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ (١) أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) أي أيّ شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك (أَسْتَكْبَرْتَ) أي الآن (أَمْ كُنْتَ) من قبل (مِنَ (٣) الْعالِينَ) أي المستكبرين ، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإبليس وتقريع له. وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول ، إذ النار لم تكن أبدا خيرا من الطين ، النار تحرق ونهايتها رماد ، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإنسان ومادة خلقته. فأيّ شرف للنّار أعظم لو كان اللعين يعقل. وهنا قال تعالى له (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) لا تفارقك على مدى الحياة وهي بعد من رحمتي طوال الحياة.

وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي ابق عليّ حيّا لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حتى يتمكن من إغواء بني آدم ، ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي الممهلين المبقى على حياتهم (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسما بعزة الله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته. وهنا قال تعالى ردا على اللعين (قالَ (٤) فَالْحَقُ) أي أنا الحق (وَالْحَقَّ أَقُولُ) (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من الإنس والجن أجمعين. وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى ، وكيف عرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وأخبر به لو لا انه

__________________

(١) ذكر صاحب تفسير التحرير أن خطاب الله تعالى لإبليس بعد إبلاسه كان بواسطة ملك من الملائكة معللا ذلك بعدم أهلية إبليس بعد إبلاسه لذلك لما فيه من الشرف والكمال ولم أقف على من رأى هذا الرأي غيره والله أعلم بصحته أو خطأه.

(٢) في قوله بيدي إثبات صفة اليدين لله تعالى وقد وردت أحاديث صحيحة تقرر ذلك وتثبته فوجب الإيمان بهذه الصفة الذاتية لله تعالى مع تنزيهه تعالى أن يكون يداه تشبه يدي من له يدان من خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.

(٣) العلو الشرف فمعنى قوله تعالى من العالين أي من أهل علو المراتب وشرف المنازل فلذا امتنعت من السجود لآدم عليه‌السلام.

(٤) قرأ الجمهور قال فالحق بنصب الحق على أنه مفعول مطلق تقديره أحق الحق ، وقرأ حفص بالرفع على تقدير فالحق قولي ، أو أنا الحق أي على الابتداء ، وأما الحق الثاني فهو منصوب إجماعا لفعل أقول.

وحيّ يوحى إليه. وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على البلاغ (مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل (إِنْ هُوَ) أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) من الإنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين ، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر ، ويوم الفتح ، ويوم موته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما.

٢ ـ مشروعية القياس إن كان قياسا صحيحا ، وبيان اخطار القياس الفاسد.

٣ ـ مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه.

٤ ـ بيان أن من كتب إلله سعادتهم لا يقوى الشيطان على اغوائهم وإضلالهم.

٥ ـ لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين.

٦ ـ ذم التكلّف (١) المفضي إلى الكذب والتقول على الله وعلى الرسول والمؤمنين.

٧ ـ ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل.

__________________

(١) التكلف : معالجة الكلفة وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله لعدم قدرته على ذلك روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من سئل عما لا يعلم فليقل لا أعلم ، ولا يتكلف ، فإن قوله لا أعلم علم وقد قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). روى أن للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم. وروى الدارقطني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر في بعض أسفاره على رجل جالس على مقراة له. وقال له عمر يا صاحب المقراة أو لغت السباع الليلة في مقراتك*؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا صاحب المقراة لا تخبره ، هذا متكلف ، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ، كما روى مالك في الموطأ أن عمر خرج في ركب معهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد السباع حوضك؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.

(*) المقراة : الحوض يجمع فيه الماء.

سورة الزّمر(١)

مكية

وآياتها خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

شرح الكلمات :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن من الله.

(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي العزيز في ملكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.

(مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أي مفردا إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحدا.

(لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك أحد سواه.

(أَوْلِياءَ) : أي شركاء وهي الأصنام.

(لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) : أي تقريبا وتشفع لنا عند الله.

(مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) : أي كاذب أي على الله كفار بعبادته غير الله تعالى.

(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له عن الولد والشريك.

__________________

(١) سميت بالزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يذكر في غيرها قط والزمر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر.

(هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه.

معنى الآيات :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ (١) مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يخبر تعالى ان تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه. ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢) يخبر تعالى رسوله بقوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (٣) أي القرآن العظيم (بِالْحَقِ) في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه (فَاعْبُدِ (٤) اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإن العبادة لا تصلح لغيره أبدا (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) (٥) أي شركاء يعبدونهم ويقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفا لازما لهم ، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفا ثابتا لهم ، إذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله باشقائه وتعذيبه يوم القيامة. وقوله تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، وكما قال النصارى المسيح ابن الله ، وكما قال اليهود عزيز بن الله ، ولو أراد الله أن يكون له ولد لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء ، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذبا ، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.

__________________

(١) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، أي القرآن ـ جائز أن يكون تنزيل الكتاب مبتدأ والخبر من الله وجائز أن يكون تنزيل خبر والمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل.

(٢) (بِالْحَقِ) الباء للملابسة أي ملابسا للحق فلا باطل معه.

(٣) فيه تقرير نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعلان عن شرفه بإنزال الكتاب عليه.

(٤) الفاء للتفريع ، أي فبناء على إنزالنا عليك الكتاب فاعبد الله ، ومخلصا حال ، والدين العبادة ، وإخلاص العبادة تجريدها من الالتفات إلى غير الله تعالى لطلب مدح أو نفع أو دفع مكروه أو اتقاء ذم.

(٥) (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) افتتاح الجملة بالا للتنبيه على شرف ما دخلت عليه والتنويه به اللام في لله للملك والاستحقاق وفي الآية دليل على وجوب الإخلاص في العبادة ووجوب النية فيها ولا عبادة بدون نية صحيحة ولا يضر النية الخاطر يخطر بالقلب لا يملك المرء دفعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ تقرير التوحيد.

٣ ـ بطلان الشرك والتنديد بالمشركين.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء يوم القيامة.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

شرح الكلمات :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) : أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو العبث.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) : أي يدخل أحدهما في الآخر فإذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : هي آدم عليه‌السلام.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) : هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) : أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإنزالها.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) : أي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : أي أطوارا طورا بعد طور نطفة فعلقة فمضغة.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) : أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي لا تحمل نفس ذات وزر وزر نفس أخرى.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره.

معنى الآيات :

هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالا في نفوس العقلاء فقال تعالى في الآية (٥) (خَلَقَ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضَ) أي أوجدهما خلقا على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر. وقوله (يُكَوِّرُ (٢) اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفّه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسموات والأرض وبرهان ثالث في قوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ (٣) مُسَمًّى) يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد ما لا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب. وقوله (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٤) إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفّار لعباده التائبين إليه. وقوله تعالى في الآية (٦) (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم عليه‌السلام فقد صح أنه

__________________

(١) هذه الجملة بيان لجملة هو الله الواحد القهار.

(٢) وهذه الجملة بيان ثان أيضا وحقيقة التكوير أنه اللف واللي يقال كور العمامة على رأسه إذا لفها ولوّاها وهذا تمثيل بديع لتعاقب الليل والنهار.

(٣) كل التنوين للعوض أي كل واحد منهما يجري لأجل مسمى هو أجل فنائهما.

(٤) استئناف ابتدائي وجملة فإنكم الخ استدلال على صفة العزة والمغفرة في العزيز الغفار.

لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم ، ولهذا جاء العطف بثم إذ قال (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر ، وهذا برهان وآخر في قوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وما عز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء ، و (١) جائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض. وبرهان رابع في قوله (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ) (٢) (خَلْقٍ) أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسو العظام لحما فإذا هو إنسان كامل وقوله (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي ظلمة بطن الأم ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال (ذلِكُمُ اللهُ (٣)رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومعبودكم الحق (لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود إلا هو إذ لا تصلح العبادة إلّا له (فَأَنَّى (٤) تُصْرَفُونَ) أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجب. وقوله في الآية (٧) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي بعد أن بيّن بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته ، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبدا لأنه غني عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران ، كما انهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء. وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ

__________________

(١) ووجه ثالث وهو جائز أن يكون الانزال بمعنى التسخير نحو وأنزلنا الحديد أي ذللناه لكم تصنعون منه السيوف والرماح وهذا كقولك نزل فلان على رأي فلان قال الشاعر :

أنزلني الدهر على حكمه

من شاهق عال إلى خفض

(٢) أي طورا بعد طور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيفخ فيه الروح ويأمر يكتب أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» الحديث «مسلم».

(٣) هذه الجملة كالفذلكة والنتيجة لما سبق من ذكر آيات العلم والقدرة والرحمة الموجبة للألوهية الحقة للرب الحق سبحانه وتعالى.

(٤) فأنى تصرفون الاستفهام للانكار مشوبا بالتعجب من حال انصرافهم عن الحق بعد ظهور أدلته وسطوع براهينه ، عجبا لكم كيف صرفتم وبناء الفعل للمجهول إشارة واضحة إلى أنهم يصرفون بقوى غير قواهم وهي قوى الشياطين التي تزين لهم الباطل وتبغض لهم الحق.

بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فضلا عما كان عملا ظاهرا غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله. فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم.

٣ ـ بيان أن الكفر أعجب من الإيمان إذ أدلة الإيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون.

٤ ـ بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه.

٥ ـ بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها.

٦ ـ بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهرا وباطنا.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) : الإنسان أي المشرك.

(ضُرٌّ) : أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه.

(دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) : أي سأل ربّه كشف ما أصابه من ضر راجعا إليه معرضا عمن سواه.

(إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) : أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر.

(نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) : أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى.

(وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) : أي شركاء.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) : أي ليضل نفسه وغيره عن الإسلام.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) : أي قل يا نبيّنا لهذا الكافر الضال المضل تهديدا تمتع بكفرك بقية أجلك.

(إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) : أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.

(قانِتٌ آناءَ) (١) (اللَّيْلِ) : أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجدا وقائما في الصلاة.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيّرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد ، فقال تعالى مخبرا عن حال المشرك بربه المتخذ له أندادا يعبدها معه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ (٢) ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه يا رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ (٣) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) حتى إذا فرّج الله كربه ونجاه ، ترك دعاء الله ، وأقبل على عبادة غير الله ، (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي شركاء (لِيُضِلَ) (٤) نفسه وغيره. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلا أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار ، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعا حسنا

__________________

(١) الآناء جمع أنى مثل أمعاء ومعى وأقفاء وقفى والأنى الساعة.

(٢) (الْإِنْسانَ) هنا اسم جنس دال على غير معين بل هو عام في كل مشرك بالله تعالى كافر به.

(٣) قوله اعطاه إذ التخويل الإعطاء والتمليك دون قصد عوض مأخوذ من الخول وهو اسم للعبد والخدم وفي الحديث إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم «الحديث».

(٤) اللام لام العاقبة ، أي هو لم يقصد إضلال نفسه.

جميلا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨) أما الآية الثانية (٩) فيقول تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) (١) أي مطيع لله ورسلوه في أمرهما ونهيهما (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعات الليل تراه ساجدا في صلاته أو قائما يتلو آيات الله في صلاته ، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى أن يقيه منه ، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها أهذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، والجواب معلوم للعقلاء (٢) وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإتيان بمحابّ الله تقربا إليه ، وعلى ترك مكارهه تحببا إليه ، هل يستوى هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التوجيه الإلهي والإرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.

٢ ـ الكشف عن داخلية الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له ، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإيمان والتوحيد.

٣ ـ بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار.

٤ ـ مقارنة بين القانت المطيع ، والعاصي المضل المبين ، وبين العالم والجاهل ، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي. وأفضلية العالم بالله وبمحابه ومكارهه والجاهل بذلك.

٥ ـ فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه ولو لا العمل بالعلم لاستويا في الخسّة والانحطاط.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)

__________________

(١) قرأ نافع أمن هو قانت بتخفيف الميم ـ وقرأ حفص (أَمَّنْ) بتشديدها وجائز أن تكون الهمزة همزة استفهام ومن مبتدأ والخبر مقدر نحو أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر وعلى قراءة التشديد فالهمزة للاستفهام وآمن كلمتان أم المعادلة أدغمت في من المبتدأ وجائز أن تكون أم منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.

(٢) وهو أنهما لا يستويان بحال من الأحوال.

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

شرح الكلمات :

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان والتقوى.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) : أي أحسنوا العبادة.

(حَسَنَةٌ) : أي الجنة.

(أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) : أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتم منها في دياركم.

(أُمِرْتُ) : أي أمرني ربّي عزوجل.

(مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أي مفردا إياه بالعباده.

(أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) : أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله بعبادته والإخلاص له فيها

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : أي عذاب يوم القيامة.

(قُلِ) : أي يا رسولنا للمشركين.

(اللهَ أَعْبُدُ) : أي لا أعبد معه سواه.

(مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) : أي مفردا إياه بطاعتي وانقيادي.

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) : أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإنكم خاسرون.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار.

(وَأَهْلِيهِمْ) : أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات

(ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) : أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم.

(ذلِكَ) : أي المذكور من عذاب النار.

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) : أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإيمان والتقوى.

معنى الآيات :

لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربّانيّة للمؤمنين والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي الآية الأولى (١٠) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله ، ويعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة ، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لآجل الطاعة فيقول (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) (١) أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بلا كيل ولا وزن ولا عد وذلك لأنه فوق ذلك. وفي الآية الثانية (١١) والثالثة (١٢) يأمر تعالى رسوله موجها له بأن يقول للناس (إِنِّي أُمِرْتُ) أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه من ذلك مخلصا له الدين ، فلا اشرك في دين الله أحدا أي في عبادته أحدا ، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أوّل من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة (١٣) والخامسة (١٤) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها (عَذابَ (٢) يَوْمٍ عَظِيمٍ) كما يأمره أن يقول الله أعبد أي الله وحده لا شريك له أعبد حال كوني مخلصا له ديني. وأما انتم أيها المشركون إن أبيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم (٣) من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا أولئك الذين يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المال والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم (٤) القيامة ، وذلك

__________________

(١) وفسر بعضهم الصبر بالصوم وحقا الصوم من الصبر وحسب الصوم أجرا أن يقول الله تعالى «الصوم لي وأنا أجزي به». الا أن الآية عامة في الصبر في مواطنه الثلاث وهي صبر على الطاعات وصبر دون المعاصي وصبر على البلاء. ومن ذلك الهجرة إلى دار الإسلام.

(٢) ذهب بعضهم إلى أن الآية منسوخة بقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ولا معنى لهذا النسخ إذ النسخ لا يكون في الأخبار. وانما الآية من باب الفرض والتقدير إذ الرسول معصوم ولا يعصي وإذا لا خوف عليه وإنما من باب طلب الهداية للآخرين قال له قل هذا.

(٣) الأمر هنا للتهديد والوعيد والتوبيخ وليس للإذن بعبادة غير الله إذ القرآن كله نزل ليعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه سواه فكيف يأذن بعبادة ما شاءوا من آلهة.

(٤) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. وهو كذلك لقوله تعالى أولئك هم الوارثون أي يرث المسلم الكافر يرثه في أهله ومكانه في الجنة وسبب الإرث الإيمان والتقوى بإذن الله تعالى.

بتخليدهم في النار ، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا. ألا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيرا قوله تعالى (ذلِكَ) أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه ، والله رءوف بالعباد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.

٢ ـ وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك.

٣ ـ تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده.

٤ ـ فضل الإسلام وشرف المسلمين.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء بيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها.

٦ ـ كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسرانا أبدا.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ (١) أَنْ يَعْبُدُوها) : أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله.

(وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) : أي بالايمان به وعبادته وتوحيده فيها.

(لَهُمُ الْبُشْرى) : أي بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور.

(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي العقول السليمة.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم.

(أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) : أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) : أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي من خلال قصورها وأشجارها.

(وَعْدَ اللهِ) : أي وعدهم الله تعالى وعدا فهو منجزه لهم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الأوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعال حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها ، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عزوجل (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل مازين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته وأضافوا إلى اجتناب الطاغوت الإنابة إلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله (٢) وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وفي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفا من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا

__________________

(١) (الطَّاغُوتَ) مصدر أو اسم مصدر فعله طغا وهل هو واوي أو يائي خلاف والأشهر أنه واوي نحو طغا طغوا كعلا يعلو علوا وقولهم الطغيان دال على أنه يائيّ وتاؤه زائدة كما زيدت في رحموت وملكوت وقيل هو اسم أعجمي كجالوت وطالوت.

(٢) شاهده قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خالدين فيها أبدا (البقرة) ومن السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له في بيان قوله تعالى (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) من سورة يونس ومن القرآن (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فهذه عند الموت.

إلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يسمعون ، ويتركون حسنه (١) وسيئه معا فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثناء الجميل من ربّ العالمين إذ قال تعالى فيهم (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فحسبهم كمالا أن اثنى تعالى عليهم. اللهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك. وقوله (أَفَمَنْ (٢) حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي وجب له العذاب قضاء وقدرا فأسرف في الكفر والظلم والإجرام والعدوان كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من أصحاب النار فهل تستطيع أيها الرسول انقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا. إذا فهون على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم. وقوله تعالى (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجرى من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار انهار الماء واللبن والعسل والخمر. وقوله (وَعْدَ اللهِ) أي وعدهم الله تعالى بها وعدا حقا فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم.

٢ ـ فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء.

٣ ـ إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلا لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل.

٤ ـ بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها.

__________________

(١) جائز أن يراد بكلمة أحسن حسنه فهم يستمعون القول من قائله ويفهمونه فإن كان حقا وهدى أخذوا به وإن كان باطلا وضلالا تركوه وابتعدوا عنه. فقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص جاءوا إلى أبي بكر حين أسلم فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.

(٢) الاستفهام الأول والثاني كلاهما إنكاري ينكر الله تعالى على رسوله حزنه وألمه على عدم إيمان عمه أبي لهب وولده ومن لم يؤمن من قرابته ممن وجبت لهم النار في سابق علم الله فهم لا يؤمنون ، ولذا فرع عنه قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

شرح الكلمات :

(فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) : أي أدخله في الأرض فصار جاريا تحتها ينبع منها فكان بذلك ينابيع.

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : أي ما بين أخضر وأبيض وأحمر وأصفر وأنواعه من بر وشعير وذرة.

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفرا.

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) : أي فتاتا متكسرا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) : أي إن في ذلك المذكور من إنزال الماء إلى أن يكون حطاما تذكيرا.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : أي فاهتدى به كمن لم يشرح الله صدره فلم يهتد؟.

(فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي فهو يعيش في حياته على نور من ربّه وهو معرفة الله وشرائعه.

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) : ويل كلمة عذاب للقاسية قلوبهم عن قبول القرآن فلم تؤمن به ولم تعمل بما فيه.

(أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) : هو القرآن الكريم.

(مُتَشابِهاً) : أي يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن وصحة المعاني.

(مَثانِيَ) : أي ثنّى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : أي ترتعد منه جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر وعيده.

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) : أي تطمئن وتلين.

(إِلى ذِكْرِ اللهِ) : أي عند ذكر وعده لأهل الإيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) هذه الآية الكريمة تقرر التوحيد والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم الإلهيين ، وهما مقتضيان لوجود الله أولا ثم وجوب الإيمان به وبلقائه فقال تعالى مخاطبا رسوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (١) وهو المطر (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي أدخله فيها وأخرجه منها ينابيع بواسطة حفر وبدونه ، ثم يخرج به زرعا من قمح وشعير وذرة وغيرها مختلفا ألوانه من أحمر وأبيض وأصفر (ثُمَّ يَهِيجُ) حسب سنة الله تعالى في ذلك فيجف (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي فتاتا متكسرا كالتبن كل هذا يتم بقدرة الله وعلمه وتدبيره ففيه موعظة وذكرى لأولى القلوب الحيّة تهديهم إلى الإيمان بالله وبآياته ولقائه ، وما يستتبع ذلك من الطاعة والتوحيد وقوله تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) أي وسع صدره وفسحه فقبل الإسلام دينا فاعتقد عقائده وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو يعيش على نور من ربه ومقابل هذا محذوف اكتفى بالأول عنه وتقديره كمن طبع الله على قلبه وجعل صدره حرجا ضيقا فلم يقبل الإسلام ولم يدخل فيه ، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودخن الذنوب

__________________

(١) تضمنت هذه الآية الكريمة مثالين زيادة على ما دلت عليه بظاهر كلماتها المثال الأول هو أن القرآن الكريم ينزل من عند الله فيحيى الله تعالى به القلوب الميتة فتحيى وتشرق وتبلغ الكمال في الطهر والإشراق. والثاني هو أن حياة الإنسان تبتدىء بنطفة المني فتستقر في الرحم ثم تخرج طفلا ثم يكبر فيصبح شابا فكهلا ثم يهرم ويهلك. والخطاب صالح لكل من له أهلية النظر.

(٢) شرح الصدر عبارة عن قبول الهدى والاستنارة به ، والاستفهام إنكاري ومن مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ضاق صدره بالكفر وغشيته ظلمته فهو لا يعي ولا يفهم ما يقال له وما يدعى إليه من الهدي والخير أي هل حالهما واحدة والجواب لا.

وعفن الفساد والشر. وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ) (١) يتوعد الله تعالى بالعذاب أصحاب القلوب القاسية من سماع القرآن وهذه أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة فإذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة سماع القرآن زادها موتا وقسوة ، ويدل على هذا قوله (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) فهدايتهم متعذرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم. وقوله تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٣) وهو القرآن (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في حسن اللفظ وصحة المعاني (مَثانِيَ) أي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص ، (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي عند سماع آيات الوعيد فيه (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ) إذا سمعوا آيات الوعد وتطمئن (قُلُوبُهُمْ) إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد (أَلا بِذِكْرِ (٤) اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وقوله تعالى (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي انزله وجعله هاديا يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي. وقوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لما سبق في علم الله ولوجود مانع منع من هدايته كالإصرار والعناد والتقليد. فهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر العلم والقدرة الإلهية الموجبة للإيمان به وبرسوله ولقائه.

__________________

(١) من بمعنى عن لتضمين القساوة في الإعراض والنفور إذ يقال أعرض عن كذا ونفر عنه وذكر الله هنا القرآن كما في التفسير.

(٢) (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا إذ هو جواب لمن سأل عن قساوة قلوب المتوعدين بالويل فقيل له إنه ضلالهم الواضح المبين.

(٣) روي أن سعد بن أبي وقاص قال قال اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لو حدثتنا فأنزل الله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وهذا كما قالوا يوما لو قصصت علينا فنزل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، وقولهم لو ذكرتنا فنزل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) ، وفي هذا دليل على أنه لا يليق بأمة القرآن أن تلهو بالتمثيليات والروايات وأندية اللهو اللعب.

(٤) تقشعر أي تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد وتلين قلوبهم عند سماع آيات الرحمة وتطمئن إلى ذكر الله تعالى يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنا أعلم متى يستجاب لي ، وذلك إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي وفاضت عيناي وهو مروي عن ثابت البناني وأم الدرداء أن الوجل في القلب كاحتراق السعفة.

٢ ـ بيان أن القلوب قلبان قلب قابل للهداية وآخر غير قابل لها.

٣ ـ بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.

٤ ـ فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده ، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يتلقى العذاب بوجهه لا شىء يقيه منه كمن أمن.

(سُوءَ الْعَذابِ) : أقساه وأشده.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) : أي المشركين في جهنم.

(ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) : أي جزاء كسبكم الشر والفساد.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل أهل مكة.

(فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) : أي من حيث لا يدرون أنه آتيهم منه. أو من حيث لا يخطر ببالهم

فأذاقهم الله عذاب الخزي : أي المسخ والذل والإهانة.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : أي لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير البعث والجزاء فقوله تعالى (أَفَمَنْ يَتَّقِي (١) بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) يوم القيامة إذ ليس له ما يتقي (٢) به العذاب لأن يديه مغلولتان إلى عنقه فهو يتلقى العذاب بوجهه وهو أشرف أعضائه أفهذا الذي يتلقى العذاب بل سوء العذاب كمن أمن العذاب ودخل الجنة؟ والجواب لا يستويان. وقوله تعالى (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) (٣) أي المشركين وهم في النار يقول لهم زبانية جهنم توبيخا لهم وتقريعا ذوقوا ما كنتم تكسبون من أعمال الشرك والمعاصي هذا جزاؤه فذوقوه عذابا أليما. وقوله تعالى (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذب قبل أهل مكة أمم وشعوب كذبوا رسلهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وذلك كالذل والمسخ والقتل والأسر والسبي ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وهم صائرون إليه لا محالة وقوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون عنه علما يقينيا ما كذبوا رسلهم ولا كفروا بربهم. فهلكوا بجهلهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر شيىء من أحوال يوم القيامة.

٢ ـ تهديد قريش على إصرارها على التكذيب للرسول وما جاءها به من الإسلام.

٣ ـ العذاب على التكذيب والمعاصي منه الدنيوي ، ومنه الأخروي.

٤ ـ لو علم الناس عذاب الآخرة علما يقينيا ما كذبوا ولا كفروا ولا ظلموا فالجهل هو سبب الهلاك والشقاء دائما.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا

__________________

(١) قال عطاء وابن زيد يرمي مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه وقال مجاهد يجر في النار على وجهه كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم والاستفهام إنكاري وفي الكلام حذف تقديره كمن هو آمن في جنات النعيم.

(٢) الاتقاء مصدر ومعناه تكلّف الوقاية وهي الصون والدفع وفعل اتقى يتعدى إلى مفعولين ويتعدى بالياء كما في قول الشاعر :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

(٣) (لِلظَّالِمِينَ) إظهار في محل إضمار إذ المفروض أن يقال وقيل لهم والنكتة التنديد بالشرك إذ هو الظلم وبيان العلة الموجبة لإلقائهم في جهنم على وجوههم وهي الظلم الذي هو الشرك.

غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي جعلنا للعرب في هذا القرآن من كل مثل من الأمم السابقة.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي يتعظون فينزجرون عما هم فيه من الشرك والتكذيب إلى الإيمان والتوحيد.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : أي حال كون المثل المجعول قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف فلا عذر لهم في عدم فهمه وإدراك معناه وفهم مغزاه.

(مُتَشاكِسُونَ) : أي متنازعون لسوء أخلاقهم.

(وَرَجُلاً سَلَماً) : أي خالصا سالما لرجل لا شركة فيه لأحد.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) : الجواب لا الأول في تعب وحيرة والثاني في راحة وهدوء بال.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي على ظهور الحق وبطلان الباطل.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ) : أي مقضي عليك بالموت في وقته.

(وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) : أي كذلك محكوم عليهم به عند انقضاء آجالهم.

(عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) : أي تحتكمون إلى الله في ساحة فصل القضاء فيحكم الله بينكم.

فيما كنتم فيه تختلفون : أي من الشرك والتوحيد والإيمان والتكذيب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنا (١) لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يخبر تعالى بما

__________________

(١) ضرب المثل ذكره والمثل الصفة الحسنة وللناس جنس الناس ويدخل فيه العرب أولا لأنه بلغتهم والناس تابعون لهم في ذلك.

من به على العرب لهدايتهم حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها ، وصلاحها وفسادها ونجاتها وخسرانها وكل ذلك بقرآن عربي لا عوج (١) فيه أي لا لبس ولا خفاء ولا اختلاف ، فعل ذلك لهم لعلهم يتذكرون أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون فينجون من العذاب ويسعدون. وقوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ (٢) وَرَجُلاً سَلَماً (٣) لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ) (٤) إلى آخر الآية ، هذا مثل من جملة الأمثال التي ضرب الله للناس لعلهم يتذكرون وهو مثل للمشرك الذي يعبد عدة آلهة. والموحد الذي لا يعبد إلا الله فالمشرك مثله رجل يملكه عدد من الرجال من ذوي الأخلاق الشرسة والطباع الجافة فهم يتنازعونه هذا يقول له تعال والآخر يقول له اجلس والثالث يقول له قم فهو في حيرة من أمره لا راحة بدن ولا راحة ضمير ونفس. والموحد مثله رجل سلم أي خالص وسالم لرجل واحد آمره وناهيه واحد هل يستويان أي الرجلان والجواب لا إذ بينهما كما بين الحرية والعبودية وأعظم وقوله تعالى (الْحَمْدُ (٥) لِلَّهِ) أي الثناء بالجميل لله والشكر العظيم له سبحانه وتعالى على انه رب واحد وإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه. وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين ، وذلك لجهلهم وفساد عقولهم.

وقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٦) نزلت لما استبطأ المشركوت موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا شماتة في الموت إنك ستموت يا رسولنا ويموتون. وقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي مؤمنكم وكافركم قويكم وضعيفكم تقفون بين يدي الله ويحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين والدنيا معا.

__________________

(١) (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي لا اختلاف فيه ولا تضاد ولا لحن فيه ولا شك قال الشاعر :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

(٢) (مُتَشاكِسُونَ) أي مختلفون أو متعاسرون يقال رجل شكس وشرس وضرس ويقال شاكسني فلان أي ماكنسي وشاحّني في حقي.

(٣) قرأ الجمهور (سَلَماً) وقرأ غيرهم سالما بمعنى خالصا فمعنى القراءتين واحد وهو الخلوص لمالك واحد.

(٤) الاستفهام إنكاري أي لا يستويان ، مثلا منصوب على التمييز لنسبة يستويان أي في أي شيء ميز لي.

(٥) لما سلم الخصم بأنه لا يستوي الموحد والمشرك تعين حمد الله تعالى إذ لا يعقل أن يقول المرء باستواء الرجل الذي يشترك فيه عدة رجال والآخر الذي هو خالص لرجل واحد ، فكذلك الذي يعبد إلها واحدا لا يستوي مع من يعبد آلهة متعددة.

(٦) قرأ بعضهم إنك مائت وإنهم مائتون. والميت بالتشديد من هو صائر إلى الموت والميت بسكون الياء من فارقته الحياة ، في هذه الآية نعي لكل إنسان بالموت إذ أن رجلا نعي لرجل أخاه ووجده يأكل فقال له كل فقد نعي إلي أخي من قبلك فقال وكيف وأنا أول من نعاه فقال له قد نعاه الله إلىّ فى قوله إنك ميت وإنهم ميتون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية ضرب الأمثال للمبالغة في الإفهام والهداية لمن يراد هدايته.

٢ ـ بيان مثل المشرك والموحد ، فالمشرك في حيرة وتعب ، والموحد في راحة وهدوء بال.

٣ ـ تقرير أن كل نفس ذائقة الموت.

٤ ـ بيان أن خصومة ستكون يوم القيامة ويقضي الله تعالى فيها بالحق لأنه هو الحق.

الجزء الرابع والعشرون

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ؟) : أي بأن نسب إليه ما هو برىء منه كالزوج والولد والشريك.

(وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ؟) : أي بالقرآن والنبي والتوحيد والبعث والجزاء.

(مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) : أي مأوى ، ومكان إقامة ونزول

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي صدق به أبو بكر وكل أصحاب رسول الله.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) : أي لعذاب الله بإيمانهم وتقواهم بترك الشرك والمعاصي.

(ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) : أي المذكور من نعيم الجنة جزاء المحسنين في أعمالهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) : أي ييسر الله لهم ذلك ويوفقهم إليه ليكفر عنهم ذنوبهم.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عباده منذرا محذرا بأنه لا أظلم من أحد كذب على الله. فقال عنه ما لم يقل أو حرّم ولم يحرم أو أذن ولم يأذن ، أو شرع ولم يشرع ، أو كذب بالصدق وهو القرآن والنبي وما جاء به من الهدى ودين الحق أي فلا أحد أظلم ممن كان هذا حاله كذب على الله وكذب بالصدق.

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ (١) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)؟ هذا بيان لجزاء الكاذبين والمكذبين وهم الكافرون بسبب كذبهم على الله وتكذيبهم له فيخبر تعالى مقررا أن جزاءهم الإقامة

__________________

(١) الاستفهام تقريري والمثوى مكان الإقامة وهو مصدر ثوى بالمكان يثوى ثواء وثويا مثل مضى يمضي مضاء ومضيا.

الدائمة في جهنم. وقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ (١) بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) هذا إخبار بفريق الفائزين من عباد الله وهم الصادقون في كل ما يخبرون به ، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به ويدخل في هذا الفريق دخولا أوليا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٢) يشير إليهم بأنهم اتقوا كل ما يغضب الله من الشرك والمعاصي ، وبذلك استوجبوا النجاة من النار ودخول الجنة المعبر عنه بقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من نعيم بعضه لم يخطر على بال أحد ، ولم تره عين أحد ولا تسمع به أذنه.

وقوله : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٣) أي ذلك المذكور في قوله لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو جزاؤهم وجزاء المحسنين كلهم والمحسنون هم الذين أحسنوا الاعتقاد والقول والعمل وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ (٤) أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي من الذنوب والآثام والخطايا والسيئآت أي وفقهم للإحسان ويسره لهم ، ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وسيئه ويجزيهم أجرهم على إيمانهم وتقواهم وإحسانهم في ذلك بأحسن ما كانوا يعملون وحسنه أيضا وإنما يضاعف لهم الأجر فتكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فأصبح الجزاء كله على الأحسن والذي كانوا يعملون هو كل ما شرعه الله تعالى لعباده وتعبدهم به من الإيمان وسائر الطاعات والقربات.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالكذب على الله تعالى والتكذيب به ، وبما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين.

٢ ـ بيان جزاء الكاذبين على الله ورسوله والمكذبين بما جاء به رسول الله عن الله من الشرع والدين.

__________________

(١) (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) مبتدأ والخبر (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وعليه فالذي جاء بالصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن صدق به هم أبو بكر وسائر المؤمنين وفي الآية حذف الموصول وهو «من» لدلالة السياق عليه.

(٢) (أُولئِكَ) مبتدأ و (هُمُ) ضمير فصل و (الْمُتَّقُونَ) خبر ، والجملة خبر عن المبتدأ الذي هو و (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) والمعطوف عليه والموصول محذوف وهو من أو إذ لا يكون من جاء بالصدق هو المصدق به.

(٣) الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.

(٤) في الآية الإشادة بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أثبت لهم التصديق بما جاء به رسوله كما أثبت لهم التقوى والإحسان وواعدهم بالنعيم المقيم الذي ادخره لهم. وفي الحديث الصحيح «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحّبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ربي ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه».

٣ ـ الترغيب في الصّدق في الاعتقادات والأقوال والأعمال.

٤ ـ فضل التقوى والإحسان وبيان جزائهما عند الله تعالى يوم القيامة.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

شرح الكلمات :

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) : بلى هو كاف عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ما يهمه.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : أي بالأصنام والأوثان أن تصيبك بما يسوءك ويضرك.

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) : بلى بل هو عزيز غالب على أمره صاحب انتقام شديد على من عاداه.

(لَيَقُولُنَّ اللهُ) : أي لوضوح البرهان وقوة الدليل وانقطاع الحجة.

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) : والجواب لا لا إذا فقل حسبي الله ، ولا حاجة لي بغيره.

(اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على حالتكم التي أنتم من الكفر والعناد.

(إِنِّي عامِلٌ) : أي على حالتي التي أنا عليها من الإيمان والانقياد.

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) : أي في الدنيا بالقتل والأسر والجوع والقحط.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) : أي وينزل عليه عذاب مقيم لا يبرح وهو عذاب النار بعد الموت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الدفاع عن الرسول والرد على مناوئيه وخصومه الذين استبطأوا موته فرد الله تعالى عليهم بقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فلا شماتة إذا في الموت وقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ (١) عَبْدَهُ) دال على أن القوم حاولوا قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لم يمت بأجله وفعلا قد قرروا قتله وأعطوا الجوائز لمن يقتله ، ففي هذه الآية طمأن الله رسوله على أنهم لا يصلون إليه وأنه كافيه مؤامراتهم وتهديداتهم فقال عزوجل أليس الله بكاف عبده؟ والجواب بلى إذ الاستفهام تقريري كافيه كلّ ما يهمه ويسوءه وقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك يا رسولنا المشركون بما يعبدون من دوننا من اصنام وأوثان بأن تصيبك (٢) بقتل أو خبل فلا يهمك ذلك فإن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ولا تجلب ولا تدفع ، وقوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) ، وقد هداك ربك فليس لك من يضلك أبدا ، كما أن من أضله الله كقومك فليس له من هاد يهديه أبدا. وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣) بلى فهو إذا سينتقم من أعدائه لأوليائه ان استمروا في أذاهم وكفرهم وعنادهم ، وقد فعل سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أوجدهما من غير مثال سابق (لَيَقُولُنَّ اللهُ) فما دام اعترافهم لازما بأن الله تعالى هو الخالق فلم عبادة غيره والإصرار عليها مما أفضى بهم إلى أذية المؤمنين وشن الحرب عليهم وقوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام والأوثان أخبروني (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) ما (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) صحة وعافية وغنى ونصر (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) (٤) والجواب لا فإنها جماد لا تقدر

__________________

(١) الاستفهام للتقرير ، وحذفت ياء كاف لأنه اسم منقوص وترد في الوقف جوازا وقرأ الجمهور عبده وقرأ غيرهم عباده ليدخل المؤمنون معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) هذا شاهده قوله تعالى على لسان ابراهيم عليه‌السلام وكيف أخاف ما أشركتم فإنهم خوفوه بآلهتهم فأنكر عليهم ذلك وعابهم بعدم الخوف من الله تعالى.

(٣) الاستفهام تقريري والجملة تحمل الوعيد الشديد للمشركين الكائدين الماكرين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والانتقام المكافأة بالشر على الشر وهو مشتق من النقم الذي هو الغضب.

(٤) قال مقاتل فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكتوا وقال بعضهم لا تدفع شيئا ولكنها تشفع!!

على إعطاء ولا على إمساك إذا فقل حسبي الله أعبده وأتوكل عليه إذ هو الذي يضر وينفع ويجلب الخير ويدفع السوء والشر. وقوله (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي على الله وحده يتوكل المتوكلون فيثقون في كفايته لهم فيفوضون أمورهم إليه ويتعلقون به. وينفضون أيديهم من غيره.

وقوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي لما أبيتم إلا العناد مصرين على الشرك بعد ما قامت الحجج والأدلة القاطعة على بطلانه فاعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي عليها من الشرك والعناد (إِنِّي عامِلٌ) أنا على حالتي من الإيمان والتوحيد والانقياد. والنتيجة ستظهر فيما بعد لا محالة ويعلم المحق من المبطل ، والمهتدي من الضال وهي قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ (١) يُخْزِيهِ) أي يذله ويكسر أنفه بالقتل والأسر والجوع والقحط وقد أصاب المشركين هذا في مكة وبدر. وقوله : (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) وهو عذاب النّار في الآخرة نعوذ بالله من العذابين عذاب الخزي في الحياة الدنيا وعذاب النار في الدار الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير كفاية الله وولايته لعباده المؤمنين وخاصة ساداتهم من الأنبياء والأولياء.

٢ ـ تقرير مقتضى الولاية وهو النقمة من أعدائه تعالى لأوليائه وإن طال الزمن.

٣ ـ تقرير التوحيد وإبطال التنديد.

٤ ـ مظاهر ربوبية الله الموجبة لألوهيته.

٥ ـ وجوب التوكل على الله واعتقاد كفايته لأوليائه.

٦ ـ تقرير إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي

__________________

(١) (مَنْ) استفهامية علقت فعل تعلمون عن العمل في مفعوليه.

لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق : أي أنزلنا عليك يا رسولنا القرآن بالحق أي ملتبسا به.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي ليس عليك أمر هدايتهم فتجبرهم على الإيمان

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) : أي ينهى حياة العباد بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) : أي يتوفاها وقت النوم يحبسها عن التصرف كأنها شيء مقبوض.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) : أي يقبضها لحكمة بالموت عليها حال النوم.

(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي التي لم يحكم بموتها يرسلها فيعيش صاحبها إلى نهاية أجله المعدود له.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : أي في قبض الأرواح وإرسالها ، والقدرة على ذلك دلائل وبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) : أي أن كفار مكة لا يتفكرون ولو كانوا يتفكرون لما انكروا البعث ، ولا ما اتخذوا من دون الله شفعاء لوضوح بطلان ذلك.

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) : أي قل لهم أيشفع لكم شركاؤكم ولو كانوا لا يملكون شيئا ينكر عليهم دعواهم الشفاعة لهم وهي أصنام لا تملك ولا تعقل.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) : أي أخبرهم أن جميع الشفاعات لله وحده فشفاعة الأنبياء والشهداء والعلماء والأطفال مملوكة لله فلا يشفع أحد إلا بإذنه.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) : أي وإذا ذكر الله وحده كقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلا إلا الله نفرت نفوس المشركين وانقبضت وظهر الغضب والسخط في وجوههم.

(وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : أي الأصنام والأوثان التي يعبدونها من دون الله تعالى.

(إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي فرحون جذلون وذلك لافتتانهم بها ونسيانهم لحق الله تعالى وهو عبادته وحده مقابل خلقه ورزقه لهم.

معنى الآيات :

إن السياق الكريم كان في عرض الصراع الدائر بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه المشركين فدافع الله تعالى عن رسوله ودفع عنه كل أذى ومكروه وتوعد خصومه بالعذاب في الدنيا والآخرة وهنا يسليه ويصبره فيقول له (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) (١) أي القرآن (لِلنَّاسِ) أي لهداية الناس واصلاحهم (بِالْحَقِ) أي ملتبسا بالحق ، فمن اهتدى بالقرآن فآمن وعمل صالحا فعائد ذلك له حيث ينجو من النار ويدخل الجنة ، ومن ضل لعدم قبوله هداية القرآن فأصر على الشرك والمعاصي فإنما يضل على نفسه أي عائد ضلاله على نفسه إذ هو الذي يحرم الجنة ورضا الله تعالى ويلقى في النار خالدا فيها وعليه غضب من الله لا يفارقه أبدا.

وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لم يوكل إليك أمر هدايتهم فتجد نفسك في هم من ذلك إن عليك إلا البلاغ المبين إنك لم تكلف حفظ أعمالهم ومحاسبتهم عليها ، ولا أمر هدايتهم فتجيرهم على ذلك.

__________________

(١) في الآية مزيد بيان شرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال الكتاب عليه وتقرير رسالته ، واللام في للناس للتعليل والباء في بالحق للملابسة.

وفي الكلام محذوف تقديره لنفع الناس وهدايتهم بقرينة قوله بعد «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه».

وقوله تعالى : في الآية الثانية من هذا السياق (٤٢) (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (١) أي يقبض أرواحها (حِينَ مَوْتِها) أي عند نهاية أجلها فيأمر تعالى ملك الموت فيخرج الروح بإذن الله ويقبضها ، (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي يقبضها بمعنى يحبسها عن التصرف ، حال النوم ، فإن أراد موتها قبضها ولم يردها إلى جسدها ، وإن لم يرد وفاتها أرسلها فتعود إلى الجسد ويعيش صاحبها إلى الأجل المسمى له وهي (٢) نهاية عمره إن في ذلك القبض للروح والإرسال ، والوفاة والإحياء لآيات اي دلائل وحجج كلها قاضية بأن القادر على هذا قادر على البعث والنشور الذي كذب به المشركون كما أن صاحب هذه القدرة العظيمة هو صاحب الحق المطلق في الطاعة والعبادة ولا تنبغي العبادة إلا له. وقوله (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وهم الأحياء بالإيمان أما الأموات وهم الكافرون فلا يجدون في ذلك آية ولا دليلا وذلك لموتهم بالشرك والكفر.

وقوله تعالى : في الآية الثالثة (٤٣) (أَمِ اتَّخَذُوا (٣) مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون الذين كان المفروض فيهم أن يهتدوا على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة لو كانوا يتفكرون بدل أن يهتدوا إلى توحيد الله اتخذوا من دونه أوثانا سموها شفعاء يرجون شفاعتها لدى الله في قضاء حوائجهم. وذلك لجهلهم وسخف عقولهم. قال تعالى لرسوله : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم ايشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا من أسباب الشفاعة ومقتضياتها ولو كانوا لا يعقلون معنى الشفاعة ولا يفهمونه لأنهم أصنام وأحجار والاستفهام للتبكيت والتقريع. لو كان القوم يشعرون. ثم أمر تعالى رسوله أن يعلن عن الحقيقة وإن كانت عند المشركين مرة (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي جميع أنواع الشفاعة هي ملك لله مختصة به فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، إذا فاطلبوا الشفاعة من مالكها الذي له ملك السموات والأرض ، لا ممن هو مملوك له ، ولا يعقل حتى معنى الشفاعة ولا يفهمها وقوله ثم

__________________

(١) المراد بالأنفس الناس الذين يموتون إذ لفظ النفس يطلق على الذات ويطلق على الروح قال ابن عباس وغيره من المفسرين إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ، قال علي رضي الله عنه فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.

(٢) شاهد هذا من السنة حديث الصحيحين وفيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخلة إزاره فإنه لا يدري من خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. والشاهد في إمساك الروح في المنام وإرسالها.

(٣) أم هذه هي المنقطعة وهي للإضراب الانتقالي وهو انتقال من تشنيع شركهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم.

إليه ترجعون أي بعد الموت أحببتم أم كرهتم؟ فاتخذوا لكم يدا عنده بالإيمان به وتوحيده في عبادته.

وقوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هذا كشف عن حال المشركين ، وما هم عليه من الجهل والسفه إنهم إذا سمعوا لا إله إلا الله ينفرون وينقبضون ويظهر ذلك غضبا في وجوههم ، يكادون يسطون على من قال لا إله إلا الله ، وإذا ذكر الذين من دونه أي وإذا ذكر الأصنام التي يعبدونها من دون الله إذا هم يستبشرون فرحون مسرورون ، وهذا عائد إلى افتتانهم بأصنامهم ، ونسيانهم لحقوق ربهم عليهم وهي الإيمان به وعبادته وحده مقابل ما خلقهم ورزقهم ودبر حياتهم ، ولكن أنى لأهل ظلمة النفس وانتكاس القلب أن يعوا ويفهموا؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر والثبات في أصعب الظروف.

٢ ـ مظاهر قدرة الله في الموت والحياة مما يقتضي الإيمان به وبلقائه وتوحيده.

٣ ـ إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله.

٤ ـ بيان خطأ من يطلب الشفاعة من غير الله ، إذ لا يملك الشفاعة إلا هو (١).

٥ ـ بيان سفه المشركين وضلالهم في غضبهم عند سماع التوحيد ، وفرحهم عند سماع الشرك.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

__________________

(١) الشفاعة أمر معنوي فملكها معناه تحصيل إجابتها إذ الأمور المعنوية لا تملك.

شرح الكلمات :

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : قل يا نبينا : يا الله يا خالق السماوات والأرض.

(عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي يا عالم الغيب وهو كل ما غاب عن الأبصار والحواس والشهادة خلاف الغيب.

(فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : أي من أمور الدين عقائد وعبادات.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي.

وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون : أي وظهر لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يظنونه.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : وأحاط بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) (١) هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله أن يفزع إليه بالدعاء والضراعة إذ استحكم الخلاف بينه وبين خصومه وضاق الصدر أي قل يا رسولنا يا الله (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقها ، (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عن الأبصار والحواس فلم يدرك ، والشهادة وهو ما رؤي بالأبصار وأدرك بالحواس (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) مؤمنهم وكافرهم (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الإيمان بك وبلقائك وصفاتك وعبادتك ووعدك ووعيدك اهدني لما اختلفوا فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أنفسهم بالشرك وهو الظلم العظيم وبغشيان المعاصي والذنوب لو أن لهم عند معاينة العذاب يوم القيامة (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من أموال ونفائسها ومثله معه وقبل منهم الفداء (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) ولما تردّدوا أبدا وهذا دالّ على شدّة العذاب وأنه لا يطاق ولا يحتمل مع حرمانهم من الجنة ونعيمها.

وقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٢) أي وظهر لهم أي لأولئك الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكرت الأصنام فرحوا بذلك واستبشروا وبدا لهم من ألوان العذاب ما لم يكونوا يظنون ولا يحتسبون. وقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ (٣) ما كَسَبُوا) أي من

__________________

(١) رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستفتح به صلاته من الليل وروي عن سعيد بن جبير أنه قال إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قوله (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ) ... الخ».

(٢) روي أن محمد ابن المنذر جزع عند موته جزعا شديدا وقيل له ما هذا الجزع؟ قال : أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

(٣) السيئات جمع سيئة وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول (ما كَسَبُوا) أي مكسوباتهم السيئات وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة القبيحة.

الشرك والكفر والفسق والعصيان أي ظهر لهم وتجلى أمامهم فاشتد كربهم وعظم الأمر عندهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون أي أحاط بهم وحدق عليهم العذاب الذي كانوا إذا ذكر لهم وعيدا وتخويفا استهزأوا به وسخروا منه وممن يذكرهم به ويخوفهم منه كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» إذ ثبتت السنة به.

والآية ذكرت أصله.

٢ ـ بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لا فتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله معه.

٣ ـ التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) : أي أصاب الإنسان الكافر ضر أي مرض وغيره مما يضره دعانا أي سأل كشف ضره.

(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) : ثم إذا خولناه أي أعطيناه نعمة منا من صحة أو مال وغيرهما.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) : قال أي ذلك الكافر إنما أوتيت ذلك العطاء على علم من الله بأني استحقه

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) : أي تلك النعمة لم يعطها لأهليته لها ، وإنما أعطيها فتنة واختبارا له.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أن ما أعطوه من مال وصحة وعافية هو فتنة لهم وليس لرضا الله تعالى عنهم.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي قال قولتهم من كان قبلهم كقارون فلم يلبثوا أن أخذوا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ) : أي والذين ظلموا بالشرك من هؤلاء أي من كفار قريش.

(سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (١) : أي كما أصاب من قبلهم وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا في بدر.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أي فائتين الله تعالى ولا غالبين له.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) : أي أقالوا تلك المقالة ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق.

(لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) : أي يوسعه لمن يشاء امتحانا ، ويضيقه ابتلاء.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : أي إن في ذلك المذكور من التوسعة امتحانا والتضييق ابتلاء لآيات أي علامات على قدرة الله وكمال تدبيره لأمور خلقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان حيرة المشركين وفساد قلوبهم نتيجة كفرهم وجهلهم فقوله تعالى :

__________________

(١) أي أصابهم سوء كسبهم وقبحه وهو ما عملوه من سيئات الشرك والمعاصي.

(فَإِذا مَسَ (١) الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) يعني ذاك الكافر الذي إذا ذكر الله وحده اشمأزّت نفسه وإذا ذكرت الأوثان سر وفرح واستبشر هذا الإنسان إذا مسّه ضر من مرض أو غيره مما يضر ولا يسر دعا ربّه منيبا إليه ولم يشرك معه في هذه الحال أحدا لعلمه أن الأوثان لا تكشف ضرا ولا تعطي خيرا ، وإذا خوله الله تعالى نعمة من فضله ابتلاء له قال إنّما أوتيت الذي أوتيت على علم من الله بأني أهل لذلك (٢) ، فأكذبه الله تعالى فقال (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر المشركين لا يعلمون أن الله تعالى إذا أعطاهم إنما أعطاهم ليفتنهم لا لحبه لهم ولا لرضا عنهم. والدليل على أن ذلك العطاء للمشركين فتنة لا غير أن قولتهم هذه (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقارون وغيره فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من أموال طائلة ، قال تعالى : فأصابهم سيئات ما كسبوا فلم يؤخذوا بدون ذنب بل أخذوا بذنوبهم وهو قوله تعالى (فَأَصابَهُمْ (٣) سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) وقوله تعالى (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفار قريش سيصيبهم أيضا سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والظلم ، وما هم بمعجزين لله فائتينه أبدا وكيف وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا وأسروا في بدر والفتح.

وقوله تعالى (أَوَلَمْ (٤) يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي أقالوا مقالتهم تلك ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ويقدر أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط فلم يكن بسطه الرزق حبا في المبسوط له ، ولا التضييق كرها للمضيق عليه ، وإنما البسط كالتضييق لحكمة التربية والتدبير ، ولكن الكافرين لا يعلمون هذا فجهلهم بالحكم جعلهم يقولون الباطل ويعتقدونه أما المؤمنون فلا يقولون مقالتهم لعلمهم ونور قلوبهم فلذا هم يجدون الآيات في مثل هذا التدبير واضحة دالة على علم الله وحكمته وقدرته فيزدادون إيمانا ونورا وبصيرة.

هداية الآيات :

١ ـ بيان تناقض أهل الكفر والجهل والضلال في كل حياتهم لأنهم يعيشون على ظلمة الجهل

__________________

(١) في هذه الآية بيان حقيقة وهي أن كفار قريش كانوا يؤمنون بالله ربا فهم أفضل من كفار البلاشفة الشيوعيين الذين لا يؤمنون بالله تعالى كما أن كفار قريش أحسن حالا من بعض جهال المسلمين اليوم إذ يخلصون الدعاء لله في الشدة وجهال المسلمين يشركون في الرخاء والشدة معا وذلك بدعائهم الأولياء والأموات والاستغاثة بهم في كل حال.

(٢) قال بعضهم على علم أي بوجوه الكسب وطرق تنمية المال وتكثيره حتى لا يحمد الله ولا يشكره ولا منافاة بين هذا وما في التفسير إذ بعضهم يقول هذا وبعض يقول ذاك.

(٣) أي جزاء سيئات كسبهم من الشرك والشر والفساد.

(٤) الاستفهام إنكاري ينكر تعالى عليهم انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم فلذا تضمن الاستفهام توبيخا لهم.

والكفر.

٢ ـ تقرير ما من (١) مصيبة إلا بذنب جلي أو خفي كبير أو صغير.

٣ ـ بيان أن بسط الرزق وتضييقه على الأفراد أو الجماعات لا يعود إلى حب الله للعبد أو كرهه له ، وإنما يعود لسنن التربية الإلهية وحكم التدبير لشؤون الخلق.

٤ ـ أهل الإيمان هم الذين ينتفعون بالآيات والدلائل لأنهم أحياء يبصرون ويعقلون أما أهل الكفر فهم أموات لا يرون الآيات ولا يعقلونها.

٥ ـ تهديد الله تعالى للظالمين ووعيده الشديد بأنه سيصيبهم كما أصاب غيرهم جزاء ظلمهم وكسبهم الفاسد.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

__________________

(١) شاهذه قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الآية من الشورى وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» رواه ابن أبي حاتم. قال لما نزلت هذه الآية قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

شرح الكلمات :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي.

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) : أي لا تيأسوا من المغفرة لكم ودخول الجنة.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) : أي ذنوب من أشرك وفسق إن هو تاب توبة نصوحا

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) : أي ارجعوا إليه بالإيمان والطاعة.

(وَأَسْلِمُوا لَهُ) : أي أخلصوا له أعمالكم.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي القرآن الكريم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى) : أي نفس الكافر والمجرم يا حسرتى أي يا ندامتي.

(عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : أي في جانب حق الله فلم أطعه كما أطاعه غيري.

(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) : أي المستهزئين بدين الله تعالى وعباده المؤمنين.

(لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : أي لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون إذا من المؤمنين الذين أحسنوا القصد والعمل.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) : أي ليس الأمر كما تزعم أنك تتمنّى الهداية بل قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت.

معنى الآيات :

لقد صح أن أناسا (١) كانوا قد أشركوا وقتلوا وزنوا فكبر عليهم ذلك وقالوا نبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يسأله لنا هل لنا من توبة فإن قال : نعم ، وإلا بقينا على ما نحن عليه وقبل أن يصل رسولهم نزلت هذه الآية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي أفرطوا في ارتكاب الجرائم فكانوا بذلك مسرفين على أنفسهم (لا تَقْنَطُوا) أي لا تيأسوا (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) في أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة ، إن أنتم تبتم إليه وأنبتم (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ (٢) جَمِيعاً) لمن تاب منها فإنه تعالى لا يستعصي عليه ذنب فلا يقدر على مغفرته وعدم المؤاخذة عليه (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

__________________

(١) لقد ذكر لسبب نزول هذه الآية عدة مناسبات وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا حاجة إلى ذكرها وما في التفسير كاف وهو ما تضمنته رواية البخاري.

(٢) قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) تعليل للنهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله.

وقوله تعالى : (وَأَنِيبُوا) (١) (إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (٢) أي أيها المذنبون المسرفون أنيبوا إلى ربكم أي ارجعوا إلى طاعته بفعل المأمور وترك المنهي وأسلموا له أي أخلصوا أعمالكم ظاهرا وباطنا له مبادرين بذلك حلول العذاب قبل أن يحل بكم ثم لا تنصرون أي لا تقدرون على منعه منكم ولا دفعه عنكم.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) في هذا القرآن العظيم فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي وخذوا بالعزائم واتركوا الرخص مبادرين بذلك أيضا حلول العذاب قبل أن يحل بكم بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به ،

بادروا بالتوبة والإنابة والإسلام الصادق ظرفا تقول فيه النفس (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي يا حسرتى (٣) يا ندامتى الحاملة لي الغم والحزن احضري هذا وقت حضورك على تفريطي في جانب (٤) حق الله تعالى حيث ما عبدته حق عبادته فلا ذكرته ولا شكرت له (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين بدينه وعباده المؤمنين يا له من اعتراف يودي بصاحبه في سواء الجحيم ، بادروا يا عباد الله هذا وذاك (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي (٥) لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي (٦) كَرَّةً) أي رجعة إلى الحياة الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي المؤمنين الذين أحسنوا النية والقصد والعمل. قال تعالى : رادا على تمنياتهم الكاذبة (بَلى) أي ليس الأمر كما زعمت أيها المتمني بقولك (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) للشرك والمعاصي التي وقعت بها في جهنم بل جاءتك آياتي هادية لك مرشدة فكذبت بها واستكبرت عن العمل بما جاء فيها وكنت من الكافرين بذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه.

٢ ـ دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين ـ بالانابة إليه والإسلام الخالص له.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجرى في ساحته من أهوال.

__________________

(١) الإنابة التوبة ولما في التوبة من معنى الرجوع عدي الفعل بإلى.

(٢) النصر : الإعانة على الغلبة بحيث يتخلص المغلوب من يد غالبه ولا نصير لأحد على الله تعالى.

(٣) الحسرة : الندامة الشديدة والألف في (يا حَسْرَتى) عوض عن ياء المتكلم.

(٤) قال الحسن في طاعة الله وقال الضحاك في ذكر الله يعني القرآن والعمل به ، وقال أبو عبيدة أي في ثواب الله وما في التفسير جامع شامل والجنب والجانب بمعنى واحد.

(٥) هذه كلمة حق أريد بها باطل كما قال علي للخوارج لما قالوا لا حكم إلا لله.

(٦) الكرة : الرجعة ولو للتمني فهي وليت سواء.

٤ ـ وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قيل حلول العذاب في الدنيا أو الموت والموت أدهى وأمر حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبدا.

٥ ـ الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة.

٦ ـ إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب ، كقول أحدهم لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا.

٧ ـ فضل التقوى والإحسان وفضل المتقين والمحسنين.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي بأن يبعث الناس من قبورهم.

(تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) : أي باتخاذ أولياء من دونه وبالقول الكاذب عليه سبحانه وتعالى.

(وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) : أي سوداء من الكرب والحزن وعلامة على أنهم من أهل النار وأنهم ممن كذبوا على ربهم.

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) : أي أليس في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين؟ بلى إن لهم فيها لمثوى بئس هو من مثوى للمتكبرين عن عبادة الله تعالى.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي ينجيهم من النار بسبب تقواهم للشرك والمعاصي.

(بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : أي بفوزهم بالجنة ونزولهم فيها لا يمسهم السوء أي العذاب ولا هم يحزنون لما نالهم من النعيم.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي مفاتيح خزائن السموات والأرض.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي الخاسرون لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) : قل يا رسولنا للذين طلبوا منك أن تعبد معهم آلهتهم أتأمروني بعبادة غير الله ، فهل تصلح العبادة لغيره وهو رب كل شيء وإلهه فما أسوأ فهمكم أيها الجاهلون.

(لَئِنْ أَشْرَكْتَ) : أي من باب الفرض لو أشركت بالله غيره في عبادته لحبط عملك ولكنت من الخاسرين.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) : أي بل أعبد الله وحده ، إذ لا يستحق العبادة إلّا هو وكن من الشاكرين له على إنعامه عليك بالنبوة والرسالة والعصمة والهداية.

معنى الآيات :

لقد تقدم في السياق الأمر بتعجيل التوبة قبل الموت فيحصل الفوت ، وذلك لأن يوم القيامة يوم أهوال وتغير أحوال وفي الآيتين الآتيتين بيان ذلك قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) (١) بأن نسبوا إليه الولد والشريك والتحليل والتحريم وهو من ذلك براء هؤلاء (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٢) علامة أنهم كفروا وكذبوا وأنهم من أهل النار.

__________________

(١) هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه كالشريك والصاحبة والولد ، ويدخل في هذا كل من نسب إلى الله تعالى صفة لا دليل له فيها ، وكذا من شرع شيئا ونسبه إلى الله تعالى ليقبل منه ويروج ، ولا يدخل أهل الاجتهاد إذا اخطأوا في الأدلة والحكم المقيس الذي لا نص فيه ولا يجوز أن يقال فيه قال الله أو أمر أو شرع تحاشيا من النسبة إلى الله تعالى بغير نص من كتاب أو سنة.

(٢) جملة (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، لأن الرؤيا بصرية وليست قلبية.

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ (١) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٢) أي بلى في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين الذين تكبروا عن الإيمان والعبادة. وقوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ) أي تلك حال وهذه أخرى وهي أن الله تعالى ينجي يوم القيامة الذين اتقوا الشرك والمعاصي بالإيمان والطاعة هؤلاء بفوزهم بالجنة لا يمسّهم السوء في عرصات القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم في الدنيا لأن ما نالهم من نعيم الجنة أنساهم ما تركوا وراءهم وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما من كائن سوى الله تعالى إلا وهو مخلوق والله خالقه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قيم حافظ ، فسبحانه ما أعظم قدرته وما أوسع علمه فلذا وجبت له العبادة ولم تجز فضلا عن أن تجب لسواه.

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) أي له ملكا حقا مفاتيح خزائن الرحمات والخيرات والبركات فهو يفتح ما يشاء ويمسك ما يشاء فلا يصح الطلب إلا منه ولا تجوز الرغبة إلا فيه وما عبد الناس الأوثان والأصنام إلا رغبة ورهبة فلو علموا أن رهبتهم لا تكون إلا من الذي يقدر على كل شيء وأن رغبتهم لا تكون إلا في الذي بيده كل شيء لو علموا هذا ما عبدوا غير الله تعالى بحال.

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الحاوية لإيمانه وصفاته وبيان محابه ومكارهه وحدوده وشرائعه ولذا من كفر بآيات الله فلم يؤمن بها ولم يعمل بما فيها خسر خسرانا مبينا بحيث يخسر يوم القيامة نفسه وأهله ، وذلك هو الخسران المبين.

وقوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ) الآية هذا ردّ على المشركين الذين طلبوا من الرسول أن يعترف بآلهتهم ويرضى بها مقابل أن يعترفوا له بما جاء به ويدعو إليه فأمر تعالى أن يفاصلهم بقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ (٤) تَأْمُرُونِّي (٥) أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) لن يكون هذا مني أبدا كيف أعبد غير الله وهو

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا والاستفهام للتقرير.

(٢) التكبر شدة الكبر وهو إظهار المرء التعاظم علي غيره لأنه يعد نفسه عظيما وفي التنديد به من حديث مسلم «إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر».

(٣) المقاليد جمع إقليد وجمع على غير قياس والمراد مفاتيح خزائن السماء والأرض حيث أرزاق العباد وما به تقوم حياتهم ، من أمطار وزروع وضروع ومعادن وغيرها.

(٤) غير منصوب بأعبد ، وأعبد مرفوع لحذف أن مع حرف الجر إذ الأصل بأن أعبد فلما حذف الناصب ارتفع الفعل. هذا على رأي كثير من النحاة والجمهور يقولون لا حذف وأعبد هو المستفهم عنه ، وتأمروني اعتراض أو حال وتقدير الكلام أأعبد غير الله لكونكم تأمروني بذلك.

(٥) قرأ نافع تأمرون بنون واحدة مخففة بحذف إحدى النونين ، وقرأ حفص والجمهور (تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون إدغاما لإحدى النونين في الأخرى وفي جملة أيها الجاهلون تقريع لهم ووصف لهم بالجهل وهو وصف مذموم.

ربي ومالك أمري وهو الذي كرمني بالعلم به وأوحى إليّ شرائعه. فلتيأسوا فإن مثل هذا لن يكون أبدا ، ووصفهم بالجهل لأن جهلهم (١) بالله وعظمته هو الذي سول لهم عبادة غيره والتعصب لها.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي أوحى الله إليك كما أوحى إلى الأنبياء من قبلك بالتالي وهو وعزة الله وجلاله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بنا غير نافي عبادتنا ليحبطن (٢) عملك أي يبطل كله ولا تثاب على شيء منه وإن قل ، ولتكونن بعد ذلك من جملة الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. ثم أمر تعالى رسوله مقررا التوحيد مبطلا الشرك بقوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ (٣) وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي الله وحده فاعبده وكن من الشاكرين له على إنعامه وأفضاله عليك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم.

٢ ـ ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإيمان (٤) والخلود في الجنة.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه.

٤ ـ بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره أبدا ، ومن طلب شيئا من غير الله فهو من أجهل الخلق.

٥ ـ التنديد بالشرك وبيان خطورته إذ هو محبط للأعمال بالكلية.

٦ ـ وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ووجوب حمده وشكره إذ كل إنعام منه وكل إفضال له. فلله الحمد والمنة.

__________________

(١) العرب مع انهم أميون يعترفون بفضل العالم على الجاهل قال شاعرهم :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

(٢) حبوط العمل بطلانه حيث لا يثاب عليه والخسران مقيد بأن يموت على الردة أما إن راجع الإسلام فلا يخسر لآية (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) فالآية مقيدة لإطلاق آية الزمر.

(٣) (بَلِ) للإبطال أي إبطال عبادة ما دعاه إليه المشركون وقصره على عبادة الله وحده وأمره أن يكون في جملة الشاكرين لله إنعامه عليهم بنعمة الإسلام.

(٤) شاهده آية آل عمران (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الآية.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) : أي والأرض بجميع أجزائها قبضته.

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) : أي والسموات السبع مطويات بيمينه.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) : أي نفخ اسرافيل نفخة الصعق.

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) : أي مرة أخرى وهي نفخة القيام لرب العالمين.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) : أي أضاءت الأرض بنور الله تعالى حين يتجلى لفصل القضاء.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : أي كتاب الأعمال للحساب.

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) : أي بالنبيين ليشهدوا على أممهم ، والشهداء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) : أي بالعدل وهم لا يظلمون لا بنقص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم.

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) : أي أعلم حتى من العالمين أنفسهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعيا على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك ، وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً (٢) قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٣) فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده ، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان. ولذا نزه تعالى نفسه بقوله (سُبْحانَهُ) أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين ، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه.

وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٤) الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلا وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى ، والنافخ في الصور أي البوق اسرافيل قطعا إذ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من (٥) في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فهذا استثناء دال على أن بعضا من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة ، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور نفخة (أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) (٦) أي كتاب الأعمال للحساب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة

__________________

(١) (حَقَّ قَدْرِهِ) فيه إضافة الصفة إلى الموصوف فحق صفة ، والقدر موصوف إذ الأصل (ما قدروا الله قدره الحق) فالحق منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.

(٢) جرد جميع من التاء إذ لم يقل والأرض جميعة جريا على الغالب وقد أثبتت في قول الشاعر :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا

ونصب جميعا على الحال.

(٣) شاهده في البخاري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض»؟ وفي الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) قالت قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على جسر جهنم ، وفي رواية على الصراط يا عائشة».

(٤) الصور البوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، والمراد هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحياء للحساب والجزاء.

(٥) بالتتبع للآيات القرآنية المتضمنة لأحوال الدار الآخرة نجد أن النفخات للصور أربع نفخات : وهي نفخة الفناء ، ونفخة البعث ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين. وفي هذه الآيات ذكر نفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين سميت هذه نفخة صعق لأن الخلائق يصعقون ولا يموتون بدليل حديث البخاري «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى» لفظ مسلم. قال القرطبي والإفاقة إنما تكون من غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة والله أعلم.

(٦) (الْكِتابُ) اسم جنس والمراد صحائف أعمال العباد الحاوي للحسنات والسيئات.

محمد يشهدون على الأمم السابقة بأن رسلها قد بلغتهم دعوة الله ، وشهادة أمة محمد قائمة على ما أخبرهم تعالى في كتابه القرآن الكريم أن الرسل قد بلغت رسالات ربها لأممها ، ويدل لهذا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدولا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). وقوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وحكم الله تعالى بين العباد بالعدل ، ووفي كل نفس ما عملت من خير أو شر ، وهو تعالى أعلم بما يفعلون حتى من العاملين أنفسهم ولذا سيكون الحساب عادلا لا حيف فيه لخلوه من الخطأ والغلط والجهل والنسيان لتنزه البارىء عزوجل عن ذلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عزوجل في عباداته.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء بيان أحواله وما يجرى.

٣ ـ بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة.

٤ ـ فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ

نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

شرح الكلمات :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي وساق الملائكة بعنف الذين كفروا.

(إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) : أي جماعات ، جماعة المشركين ، وجماعة المجرمين وجماعة الظالمين.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) : أي الموكلون بالنار من الملائكة الواحد خازن.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ) : هذا الاستفهام للتقرير والتوبيخ.

(حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : أي وجب العذاب للكافرين.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي وساقت الملائكة بلطف على النجائب الذين اتقوا ربهم أي أطاعوه ولم يشركوا به.

(وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) : أي والحال أن أبواب الجنة قد فتحت لاستقبالهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) : أي أنجز لنا وعده بالجنة.

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) : أي أرض الجنة وصورة الإرث نظرا إلى قوله تعالى في وعده لهم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (١)

(نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) : أي ننزل من حيث نشاء.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) : أي الجنة.

(حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) : أي محدقين بالعرش من كل جانب.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي يقولون سبحان الله وبحمده.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) : أي وقضي الله بمعنى حكم بين جميع الخلائق بالعدل.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي وقالت الملائكة والمؤمنون الحمد لله رب العالمين على استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

__________________

(١) وجه الورث ان الله تعالى خلق لكل انسان منزلا في النار وآخر في الجنة ثم هم يتوارثون فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار في الجنة وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة في النار.

معنى الآيات :

بعد الفراغ من الحكم على أهل الموقف وذلك بأن حكم تعالى فيهم بحسب عملهم فوفّى كل عامل بعمله من كفر ومعاص ، أو إيمان وطاعة قال تعالى مخبرا عن مصير الفريقين (وَسِيقَ (١) الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ساقتهم الملائكة بشدة وعنف لأنهم لا يريدون الذهاب (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي جماعات ولفظ الزمرة مشتق من الزمر الذي هو الصوت إذ الغالب في الجماعة أن يكون لها صوت. وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) إذ كانت مغلقة كأبواب السجون لا تفتح إلا عند المجيء بالسجناء ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) (٢) قبل الوصول إليها موبخين لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) (٣) (رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي المبينة لكم الهدى من الضلال والحق من الباطل ، وما يحب ربكم من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات وما يكره من ذلك ، ويدعوكم إلى فعل المحاب لتنجوا وترك المكاره لتنجوا وتسعدوا. فأجابوا قائلين بلى أي جاءتنا بالذي قلتم (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ونحن منهم فوجب لنا العذاب ، وعندئذ تقول لهم الملائكة (ادْخُلُوا (٤) أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَبِئْسَ) أي جهنم مثوى المتكبرين أي قبح مأوى المتكبرين في جهنم من مأوى.

وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ (٥) اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) وسوقهم هو سوق النجائب التي يركبونها فهو سوق لطف وتكريم إلى الجنة دار السّلام زمرا زمرة الجهاد وزمرة الصدقات وزمرة العلماء وزمرة الصلوات .... (حَتَّى إِذا جاؤُها) وقد فتحت (٦) أبوابها من قبل لاستقبالهم معززين مكرمين ، فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة فطاب مقامكم في دار السّلام فنعم التحية حيوا بها مقابل تأنيب وتوبيخ الزبانية لأهل النار. وقوله لهم فادخلوها أي الجنة حال كون خلودكم مقدرا لكم فيها. فقالوا بعد دخولهم الجنة ونزولها في

__________________

(١) هذا بيان توفية كل نفس عملها فيساق الذين كفروا إلى النار والذين آمنوا إلى الجنان والزمر جمع زمرة كظلمة وظلم وغرفة وغرف ، وهي جماعة بعد جماعة قال الشاعر :

وترى الناس إلى منزله

زمرا تنتابه بعد زمرة

(٢) الخزنة جمع خازن كسدنة وسادن.

(٣) الاستفهام للتقرير مع التوبيخ والتقريع.

(٤) قال وهب : تستقبلهم الزبانية بمقامع من حديد فيدفعونهم بمقامعهم فإنه ليقع في الدفعة الأولى بعدد ربيعة ومضر. قال تعالى (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ).

(٥) سوق أهل النار طردهم إلى النار بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان وسوق أهل الجنة سوق مراكبهم إلى دار السّلام إنهم لا يذهب بهم إلا راكبين وشتان ما بين السوقين.

(٦) قرأ نافع والجمهور فتحت بتشديد التاء في الأولى والثانية وقرأ حفص بالتخفيف ، والواو في قوله وفتحت واو الحال والجملة حالية في محل نصب.

قصورها الحمد لله الذي صدقنا وعده يعنون قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ،) وقولهم (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة نتبوأ منها حيث نشاء أي ننزل منها حيث نريد النزول ، وفي قولهم أورثنا الأرض إشارة إلى أنهم ورثوها من أبويهم آدم وحواء إذ كانت لهم قبل نزولهما منها. وقولهم (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي الجنة والمراد من العمل الإيمان والتقوى في الدنيا ، بأداء الفرائض واجتناب النواهي وقوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ) أيها الرائي (حَافِّينَ مِنْ (١) حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين بعرش الرحمن أي سريره (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي قائلين : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. قال تعالى مخبرا عن نهاية الموقف : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وقضى الله بين الخلائق بالعدل ، ولما استقر أهل النار وأهل الجنة حمد الله على الاستقرار التام والحكم العادل الرحيم وقيل الحمد لله رب (٢) العالمين أي حمدت الملائكة ربها وحمده معهم المؤمنون وهم في دار النعيم المقيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم.

٢ ـ التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى ، وعباده المؤمنين به ، المتقين له.

٣ ـ بيان اكرام الله تعالى لأوليائه إذ يحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة ، ويلقون فيها تحية وسلاما. تحية احترام وإكرام ، وسلام أمان من كل مكروه.

٤ ـ بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار ، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الاتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار.

٥ ـ ختم كل عمل بالحمد فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وختم بالحمد ، وقيل الحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) (مِنْ) زائدة لتقوية الكلام نحو ما جاءني من أحد.

(٢) قال قتادة في هذه الآية افتتح الله أول الخلق بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وختم بالحمد فقال (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فحسن الاقتداء به فيبدأ العبد قوله بالحمد ويختمه بالحمد.

سورة غافر (١)

مكية

وآياتها خمس وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

__________________

(١) وتسمى أيضا سورة المؤمن وسورة الطول وهي أول آل حم التي يقال لها ديباج القرآن وعرائس القرآن ويقال ذوات حم وذكر القرطبي أن رجلا من أهل الشام كان ذا بأس شديد فقيل لعمر وقد سأل عنه أنه تتابع في هذا الشراب فقال عمر لكاتبه اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم ختم الكتاب وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله يغفر لي وحذّرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته فلما بلغ عمر أمره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا عونا للشيطان عليه.

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حا ميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) : أي تنزيل القرآن كائن من الله.

(الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : أي الغالب على مراده ، العليم بعباده ظاهرا وباطنا حالا ومآلا.

(غافِرِ الذَّنْبِ) : أي ذنب من تاب إلى الله فرجع إلى طاعته بعد معصيته

(شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) : أي مشدد العقوبة على من كفر به ، ذي الطول أي الإنعام الواسع على من آمن به وأطاعه.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : أي لا معبود بحق إلا هو إليه مرجع الخلائق كلهم.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي في القرآن لإبطالها إلا الكافرون.

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) : أي فلا تغتر بمعاشهم سالمين فإن عاقبتهم النار.

(وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح ، وهم عاد وثمود وقوم لوط.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) : أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل.

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) : أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه.

(فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) : أي كان واقعا موقعه حيث أهلكم ولم يبق منهم أحدا.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : حم : الله أعلم بمراده به

وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف أفادت فائدتين الأولى أن العرب المشركين في مكة كانوا قد منعوا المواطنين من سماع القرآن حتى لا يتأثروا به فيكفروا بآلهتهم فقد أخبر تعالى عنهم في قوله من سورة فصلت فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فكانت هذه الحروف المقطعة بنغمها الخاص تستهويهم فيسمعوا فكانت فائدة عظيمة. والثانية أن المشركين لما أصروا على أن القرآن لم يكن وحيا وإنما هو من جنس ما يقوله الشعراء والكهان. وأصحاب الأساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله وهو مركب ومؤلف من هذه الحروف الم طس حم والذي قوى هذه النظرية أنه غالبا ما يذكر القرآن بعد

ذكر هذه الحروف مثل الم تلك آيات الكتاب ، حم تنزيل الكتاب ، حم والكتاب المبين فهاتان الفائدتان من أحسن ما استنبطه ذو الشأن في تفسير القرآن ، وما عدا ذلك فلا يحسن روايته لخلوه من فائدة معقولة ، ولا رواية عن الرسول وأصحابه منقولة.

وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يخبر تعالى أنه عزوجل هو مصدر هذا القرآن إذ هو الذي نزله تنزيلا على عبده ورسوله ، ووصف نفسه بالعزة والعلم فقال العزيز أي في انتقامه من أعدائه الغالب على أمره ومراده فلا يحال بينه وبين ما يريده العليم بخلقه وحاجاتهم ومتطلباتهم ، فأنزل الكتاب لهدايتهم وإصلاحهم. وقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (١) أعلم أنه تعالى يغفر ذنب المستغفرين ويقبل توبة التائبين وأنه شدد العقوبة على من كفر به وعصاه. وقوله ذي الطول أي الإنعام الواسع والفضل العظيم (لا إِلهَ (٢) إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبير خلقه.

لما أثنى تبارك وتعالى على نفسه بما هو أهله أخبر رسوله بأنه (ما يُجادِلُ فِي (٣) آياتِ اللهِ) القرآنية الحاوية للحجج القواطع والبراهين السواطع على توحيد الله ولقائه وعلى نبوة رسول الله ما يجادل فيها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لظلمة نفوسهم وفساد قلوبهم ، وعليه فاصبر ولا تغتر بظاهر ما هم عليه من سعة الرزق وسلامة البدن ، وهو معنى قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي (٤) الْبِلادِ) أي آمنين معافين في أبدانهم وأرزاقهم فإنهم ممهلون لا مهملون ، والدليل فقد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) (٥) من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون ، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به. وقد جادلوا بالباطل كما جادل قومك من قريش ليدحضوا به الحق أي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم. (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي كان واقعا موقعه والحمد لله إذ قطع الله دابرهم وأنهى وجودهم وخصومتهم.

__________________

(١) يطلق (الطَّوْلِ) على سعة الفضل وسعة المال كما يطلق مطلق القدرة وهو مأخوذ من الطول ضد القصر.

(٢) (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في موضع الصفة لله عزوجل فتكون الصفة السابقة في هذه الآية الكريمة.

(٣) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن سؤال من قال ما دام هذا القرآن تنزيلا من العزيز الحكيم وهو أمر لا ريب فيه فلم يجادل فيه هؤلاء المشركون فأجابهم بقوله (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

(٤) الغرور ظن المرء شيئا حسنا وهو بضده يقال غرك إذا جعلك تظن الشيء حسنا ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.

(٥) الأحزاب هم الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب والعناد كعاد وثمود ومن بعدهم.

وقوله (وَكَذلِكَ حَقَّتْ (١) كَلِمَةُ رَبِّكَ (٢) عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ (٣) النَّارِ) أي كما وجب حكمه بإهلاك تلك الأمم المكذبة لرسلها الهامة بقتلها وقد أهلكهم الله فعلا حقت كلمة ربك على الذين كفروا لأنّهم أصحاب النار والمراد من كلمة ربك قوله لأملأن جهنم الآية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن القرآن الكريم مصدر تنزيله هو الله تعالى إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ذي الطول غافر الذنب قابل التوب لا إله إلا هو.

٣ ـ تقرير التوحيد والبعث والجزاء.

٤ ـ تقرير مبدأ أن الله تعالى يمهل ولا يهمل ، وأن بطشه شديد.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

__________________

(١) (حَقَّتْ) أي وجبت ولزمت مأخوذ من الحق لأنه لازم.

(٢) قرأ نافع كلمات بالجمع وقرأ حفص بالإفراد وهي اسم جنس بمعنى الجمع.

(٣) الإجماع على وجوب الوقف على قوله تعالى (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ثم يستأنف القراءة قائلا الذين يحملون العرش ... الخ إذ يقبح أن يتبادر إلى ذهن السامع أن أصحاب النار هم الذين يحملون العرش.

شرح الكلمات :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) : أي الملائكة حملة العرش.

(وَمَنْ حَوْلَهُ) : أي والملائكة الذين يحفون بالعرش من جميع جوانبه.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) : كيف لا وهم عنده ، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) : أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإيمان بالله التي تربطهم بهم.

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) : أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام.

(وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) : أي احفظهم من النار فلا تعذّبهم بها.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) : أي بساتين فيها قصور وأنهار للإقامة الدائمة.

(الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) : أي بقوله تعالى : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار.

(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) : أي ومن صلح بالإيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) : أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) : أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.

(فَقَدْ رَحِمْتَهُ) : أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه.

(وَذلِكَ) : أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة هو الفوز العظيم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الَّذِينَ (١) يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (٢) يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذين يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) تسبيحا مقرونا بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإشراك في عبادته (وَيَسْتَغْفِرُونَ (٣) لِلَّذِينَ آمَنُوا) لرابطة الإيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السرّ في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته (رَبَّنا وَسِعْتَ (٤) كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي إليك فتركوا الشرك (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الذي هو الإسلام فانقادوا لأمرك ونهيك ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) توسل أيضا إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات. وقولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) (٥) أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهّلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بهم ، (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ (٦) ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). ومعنى ومن تق السئيآت أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم

__________________

(١) حملة العرش أفضل الملائكة وهم أربعة ويوم القيامة يضاف إليهم أربعة فيصبحون ثمانية لقوله تعالى من سورة الحاقة (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ).

(٢) قال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة.

(٣) قبل هذا معطوف على محذوف تقديره وينزهونه عما يقول الكافرون ويستغفرون الخ.

(٤) (رَحْمَةً) منصوب على التمييز (وَعِلْماً) معطوف عليه ، والتمييز محول عن فاعل إذ التقدير وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.

(٥) قد لا يحتاج الأمر إلى تقدير محذوف فيقال وقهم جزاء السيئات إذ السيئات جمع سيئة «فيعلة» من السوء وهو ما يضر ولا يسر فالسيئة كل ما يسوء من عذاب وخوف ، وهلع فدعاء الملائكة دعاء بالنجاة مما يسوء المؤمنين يوم القيامة ولذا قالوا ومن تق السيئات أي ما يسوءه من العذاب فقد رحمته بدخول الجنة وما في التفسير هو رأي الجمهور من المفسرين.

(٦) قال مطرف بن عبد الله : وجدنا أنصح عباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين وتلا هذه الآية الذين يحملون العرش إلى قوله فقد رحمته.

فلا يؤاخذهم بها ، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظم الرب تعالى.

٢ ـ بيان فضل الإيمان وأهله (١).

٣ ـ فضل التسبيح بقول : سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة (٢) حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.

٤ ـ بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة ، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣)

__________________

(١) في الصحيحين.

(٢) يكفي كرامة للمؤمن أنه نائم على فراشه والملائكة تستغفر الله له ، وتدعو له بالنجاة من النار وبدخول الجنة كما في قوله الذين يحملون العرش الآية.

فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

شرح الكلمات :

(يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ) : أي تناديهم الملائكة لتقول لهم لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنتم لأنفسكم ، والمقت أشد البغض.

(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) : أي مقت الله تعالى لكم عند ما كنتم في الدنيا تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم لما رأيتم العذاب.

(أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) : أي أمتنا مرتين الأولى عند ما كنا عدما فخلقتنا ، والثانية عند ما أمتنا في الدنيا بقبض أرواحنا ، وأحييتنا مرتين الأولى لما أخرجتنا من بطون أمهاتنا أحياء فهذه مرة والثانية بعد أن بعثتنا من قبورنا أحياء.

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) : أي بذنوبنا التي هي التكذيب بآياتك ولقائك والشرك بك.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) : أي فهل من طريق إلى العودة إلى الحياة الدنيا مرة ثانية لنؤمن بك ونوحدك ونطيعك ولا نعصيك.

(ذلِكُمْ) : أي العذاب الذي أنتم فيه.

(بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) : أي بسبب أنه إذا دعي الله وحده كفرتم بالتوحيد.

(يُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي دلائل توحيده وقدرته على بعثكم ومجازاتكم.

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) : أي وما يتعظ إلا من ينيب إلى الله ويرجع إليه بتوحيده.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) : أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده.

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) : أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) : أي لا يسترهم شيء لا جبل ولا شجر ولا حجر.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) : أي لمن السلطان اليوم.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى حال المؤمنين وأنهم هم وأزواجهم وذرياتهم في دار النعيم يبين في هذه الآيات الثلاث حال الكافرين في النار جريا على أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب فقال تعالى مخبرا عن أهل النار : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بربهم ولقائه وتوحيده ينادون أي تناديهم الملائكة فتقول لهم ـ بعد أن يأخذوا في مقت أنفسهم ولعن بعضهم بعضا ـ (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ (١) مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وذلك لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فتكفرون وتجحدون متكبرين.

وهنا في الآية الثانية (١١) يقولون وهم في جهنم (رَبَّنا) أي يا ربنا (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) يعنون بالموتتين الأولى وهم نطف (٢) ميتة والثانية بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم ، ويعنون بالحياتين الأولى التي كانت لهم في الدنيا قبل موتهم والثانية التي بعد البعث ، وقولهم : (فَاعْتَرَفْنا (٣) بِذُنُوبِنا) أي التي قارفناها في الحياة الدنيا وهي الكفر والشرك والمعاصي. وقولهم بعد هذا الاعتذار (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل من طريق إلى الخروج من النار والعودة إلى الحياة الدنيا لنصلح ما أفسدنا ، ونطيع من عصينا؟ والجواب قطعا لا سبيل إلى ذلك أبدا ، وبقاؤكم في العذاب ليس ظلما لكم وإنما هو جزاء وفاق لكم ثم ذكر تعالى علة عذابهم بقوله (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) بالله وتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي وإن يشرك بالله تؤمنوا كقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملك وما ملك وقوله فالحكم

__________________

(١) اللام في جواب قسم أي والله لمقت الله الخ والخاطب هم الملائكة وجائز إن لم يكن راجحا أن يكون المعنى لمقت الله إياكم لمّا كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا على أيدي رسلكم فتكفرون مقت الله ذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم.

(٢) جائز أن تكون الموتة الأولى لما كانوا في الرحم قبل نفخ الروح ، وجائز أن يكون العدم السابق للوجود في الرحم شاهده آية البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

(٣) سر اعتراضهم هذا أنهم يرجون من ورائه الخروج من النار ظنا منهم أنه نافع لهم شاهده قولهم مستعطفين : «فهل إلى خروج من سبيل».

لله العلي الكبير ، وقد حكم بعذابكم فلا سبيل إلى نجاتكم. فامقتوا أنفسكم ونوحوا على أرواحكم فما ذلكم بمجديكم ولا بمخفف العذاب عنكم. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي (١) يُرِيكُمْ آياتِهِ) هذا خطاب للناس في هذه الحياة الدنيا خطاب لمشركي قريش بعد أن عرض عليهم صورة صادقة حية لحالهم في جهنم يوم القيامة عاد يخاطبهم داعيا لهم إلى الإيمان فقال هو أي المعبود بحق الله الذي يريكم آياته أي حججه ودلائل وحدانيته وقدرته على بعثكم ومجازاتكم (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) من المطر وغيره. ومع ذاك البيان وهذا الإفضال ، (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي فلا يتعظ إلا من شأنه الإنابة إلى ربه تعالى في كل شأنه. وقوله تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هذا خطاب للموحدين يأمرهم تعالى بالاستمرار على توحيد الله في عباداته والاخلاص لله تعالى في كل أعمالهم ، ولو كره الكافرون ذلك منهم فإنه غير ضائرهم.

وقوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) (٢) أي هو الله ذو الدرجات الرفيعة والعرش العظيم (يُلْقِي الرُّوحَ) (٣) (مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقي بالوحي من أمره الذي يريد إنفاذه إلى خلقه على من يشاء من عباده ممن يصطفيهم وينبئهم من أجل أن ينذروا عباده يوم التلاقي وهو يوم القيامة إذ يلتقي أهل الأرض بأهل السماء والمخلوقون بخالقهم وهو قوله (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) (٤) من قبورهم لا شيء يسترهم ، (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ،) وفي هذا الموقف العظيم يقول الجبار سبحانه وتعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد رهبة منه وخوفا فيجيب نفسه بنفسه قائلا : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من خير وشر لتمام العدالة الإلهية ، ويؤكد ذلك قوله : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ. إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ويأخذ في محاسبتهم فلا ينتصف النهار إلا وأهل الجنة في الجنة قائلون في أحسن مقيل اللهم اجعلني منهم ومن قال آمين.

__________________

(١) جائز أن يكون الخطاب هنا موجها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وكونه عاما يشمل الموحدين والمشركين أولى أو ليزداد المؤمنون إيمانا وليتوب المشركون أما قوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين فظاهر في أنه خطاب للمؤمنين.

(٢) رفيع الدرجات خبر والمبتدأ محذوف تقديره هو عائد على الله ورفيع الدرجات خبر وهو يحتمل أمرين كلاهما حق الأول أن الله تعالى هو ذو الشأن العظيم والصفات العلا والأسماء الحسنى والقدر الأعلى والثاني أنه تعالى رافع درجات أوليائه في دار كرامته إذ رفيع إما أن يكون صفة مشبّهة عائدة إلى الذات الإلهية العلية ، أو فعيل بمعنى فاعل أي رافع درجات أوليائه.

(٣) فيه تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي الإلهي لمن يشاء من عباده فبعد تقرير البعث والتوحيد قرر النبوة المحمدية وهذه أصول الدين التي عليها مدار الحياة الإيمانية.

(٤) هذا عرض أيضا لأحوال يوم القيامة المقصود منه التذكير به والدعوة إلى تقوية الإيمان به إذ هو عامل إصلاح النفوس مع بيان عظمة الله وعدله وهي موجبات توحيده وطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عدم جدوى الاعتذار يوم القيامة هذا فيما لو أذن للعبد أن يعتذر فلا ينفعه اعتذار.

٢ ـ تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.

٣ ـ بيان أفضال الله على العباد إذ يريهم آياته لهدايتهم ويرزقهم وهم يكفرون به.

٤ ـ وجوب إخلاص الدعاء وسائر العبادات لله وحده ولو كره ذلك المشركون.

٥ ـ تقرير النبوة ، وبيان الحكمة فيها وهي انذار الناس من عذاب يوم القيامة حيث الناس بارزون لله لا يخفى على الله منهم شيء فيحاسبهم بعلمه وعدله فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار اللهم أعذنا من نار جهنم.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

شرح الكلمات :

(يَوْمَ الْآزِفَةِ) : أي يوم القيامة.

(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) : أي من شدة الخوف تكون القلوب قد ارتفعت حتى وصلت عند الحناجر.

(كاظِمِينَ) : أي لقلوبهم يريدون ردها فلم يقدروا.

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) : أي ليس للمشركين من محب قريبا كان أو بعيدا.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : أي الله تعالى يعلم العين إذا سرقت النظر إلى محرم.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) : أي لكمال قدرته وعلمه يحكم بالحق.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : أي والذين يدعوهم مشركو قريش من أصنام لا يقضون بشيء عدلا كان أو جورا لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر.

معنى الآيات :

بعد بيان الموقف الصعب في عرصات القيامة في الآيات السابقة قال تعالى لرسوله (وَأَنْذِرْهُمْ) يا رسولنا أي خوف قومك (يَوْمَ الْآزِفَةِ) (١) وهي القيامة القريبة والتي قد قربت فعلا وكل ما هو ـ ات قريب أنذرهم قربها حتى لا يوافوها بالشرك والمعاصي فيخسروا خسرانا مبينا ، أنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب (٢) من شدة الخوف ترتفع إلى الحناجر (٣) وهم يكظمونها فلا هي تخرج فيموتوا ولا هي تعود إلى أماكنها فيستريحوا.

(ما لِلظَّالِمِينَ) وهم أهل الشرك والمعاصي (مِنْ حَمِيمٍ) قريب أو حبيب يدفع عنهم العذاب (وَلا شَفِيعٍ) يشفع لهم وتقبل شفاعته ويطاع فيها لا ذا ولا ذاك يا لفظاعة الحال وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) (٤) يخبر تعالى عن سعة علمه وواسع اطلاعه أنه يعلم خائنة الأعين وهي العين تسترق النظر إلى المحارم ، ويعلم (ما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٥) أي وما تكتمه صدور العباد وما تضمره من خير وشر ، ولذا فسوف يكون الحساب دقيقا ومن نوقش الحساب عذب. (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي يحكم بالعدل ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ (٦) دُونِهِ) أي والذين يعبدهم المشركون من أصنام وأوثان (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) (٧) لأنهم لا يسمعون ولا يبصرون.

وقوله (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فلذا إذا حكم يحكم بالحق ويقدر على إنفاذ الحكم فيجزى السيئة بالسيئة والحسنة بعشر أمثالها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان هول يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه.

__________________

(١) يقال أزف فلان يأزف أزفا قال النابغة :

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

(٢) (الْقُلُوبُ) : جمع قلب وهو البضعة الصنوبرية الشكل التي تتحرك دائما ما دام الجسم حيا تدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم.

(٣) الحناجر جمع حنجرة بفتح الحاء والجيم وهي الحلقوم.

(٤) أي الله جل جلاله يعلم الأعين الخائنة قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها.

(٥) قال ابن عباس وما تخفي الصدور أي هل يزني بها من سرق النظر إليها لو خلا بها أو لا.

(٦) قرأ نافع تدعون بالتاء وقرأ حفص بالياء (يَدْعُونَ).

(٧) من جملتي والله يقضي بالحق وجملة والذين يدعون من دونه قبلها تألف قصر القضاء على الله تعالى قصر قلب أي دون الأصنام. كما افيد القصر من ضم الجملتين في قول الشاعر :

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

٢ ـ إنعدام الحميم والشفيع للظالمين يوم القيامة.

٣ ـ بيان سعة علم الله تعالى حتى إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

٤ ـ قضاء الله عدل وحكمه نافذ وذلك لكمال علمه وقدرته.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

شرح الكلمات :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي أغفل كفار قريش ولم يسيروا في الأرض.

(فَيَنْظُرُوا) : أي بأعينهم.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) : إنها كانت دمارا وخسارا ووبالا عليهم.

(كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا.

(فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) : أي عاقبهم بذنوبهم فدمرهم وأهلكهم.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) : أي ولم يوجد لهم من عقاب الله من واق يقيهم منه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والبراهين والأدلة والمعجزات.

(فَكَفَرُوا) : أي بتلك الحجج والآيات.

(فَأَخَذَهُمُ اللهُ) : أي لما كفروا أخذهم بكفرهم.

(إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) : هذا تعليل لأخذه إيّاهم.

معنى الآيات :

تقدم في السياق تخويف الله تعالى لمشركي قريش بعذاب الآخرة ، ومبالغة في نصحهم وطلب هدايتهم خوفهم بعد عذاب الآخرة بعذاب الدنيا لعلهم يتوبون فقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي (١) الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي أغفل هؤلاء المجاحدون المعاندون ولم يسيروا في البلاد شمالا وجنوبا حيث ديار عاد في الجنوب وديار ثمود في الشمال فينظروا بأعينهم كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كعاد وثمود كان أولئك أشد من هؤلاء قوة وأثارا في الأرض من حيث البناء والعمران والقدرة على الحرب والقتال ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) (٢) أي بذنوب الشرك والتكذيب والمعاصي ، ولما أخذهم لم يوجد لهم من عقاب الله وعذابه من واق يقيهم ما أنزل الله بهم وما أحله بساحتهم. فما لهؤلاء المشركين لا يتعظون ولا يعتبرون والعاقل من اعتبر بغيره.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بذنوبهم هذا تعليل لأخذ الله لأولئك الأقوام من عاد وثمود وغيرهم إذ ما أخذهم إلا بعد أن أنذرهم وأعذر إليهم فلما أصروا على الكفر والتكذيب أخذهم بذنوبهم. وقوله (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٣) تعليل أيضا للأخذ الكامل الذي أخذهم به لعظم قوته وشدّة عقابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الحكمة القائلة : العاقل من اعتبر بعيره.

٢ ـ الأخذ بالذنوب سنة من سنن الله في الأرض لا تتبدل (٤) ولا تتحول.

٣ ـ من أراد الله عقابه لا يوجد له واق يقيه ، ولا حام يحميه ، ومن تاب تاب الله عليه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ

__________________

(١) الاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم سيرهم في ديار الهالكين ليروا بأعينهم آثار الهالكين ويفكروا في سبب هلاكهم ليحصل لهم بذلك العبرة المطلوبة لهم.

(٢) الباء في بذنوبهم سببية إذ هلاكهم متسبب عن ذنوبهم وهي الشرك والمعاصي.

(٣) الجملة تعليلية لما قبلها من أخذ الله تعالى المشركين بذنوبهم في التكذيب والشرك والمعاصي.

(٤) إلّا أن يشاء الله إيقافها أو تبديلها فهو على ما يشاء قدير.

عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

شرح الكلمات :

(بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحججنا ، وبرهان بين ظاهر

(هامانَ وَقارُونَ) : هامان وزير فرعون ، وقارون رجل الملايين.

(فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) : أي لما رأوا آية العصا واليد البيضاء قالوا : ساحر كذاب دفعا لقومهم حتى لا يؤمنوا به.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) : أي جاءهم موسى بالصدق فيما أخبرهم به من أنه رسول الله وطالبهم بإرسال بني إسرائيل معه.

(قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) : أي اقتلوا الأولاد الذكران.

(وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) : أي بناتهم بمعنى أتركوهن حيات.

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) : أي وما مكرهم إلا في خسران وضياع.

(ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : أي دعوني واتركوني وليدع ربّه ليمنعه مني.

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) : أي يغير عبادتكم لآلهتكم لعبادة إلهه.

(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) : بالقتل والتخريب ونحوه.

(إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) : أي استجرت بخالقي وخالقكم.

(مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) : أي من كل إنسان متكبر لا يؤمن بيوم الحساب والجزاء على الأعمال.

معنى الآيات :

بعد تلك الدعوة الربانيّة لقريش إلى الإيمان والتوحيد والتصديق بالبعث والجزاء ، وما فيها من مظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته وعدله ، وبعد ذلك العرض لأحوال القيامة ، وبيان الجزاء لكل من الكافرين والمؤمنين فيها كأنه يرى رأي العين ، وبعد ذلك الترغيب والترهيب مما في الدنيا والآخرة والمشركون لا يزدادون إلا عتوا وطغيانا بعد كل ذلك قص الله تعالى على رسوله قصة موسى مع فرعون ليسلّيه بها ويصبره وليعلمه أن البلاء مهما اشتد يعقبه الفرج ، وأن الله ناصره على قومه كما نصر موسى على فرعون وقومه فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي قبلك يا رسولنا ـ موسى بن عمران بآياتنا (١) أي بأدلتنا وحججنا على صدق دعوته وصحة رسالته ، (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وبرهان ظاهر بيّن أرسلناه (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) (٢) فهامان وزير فرعون وقارون من أرباب الملايين وهو وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل إلا أنه مالأ فرعون ووقف في صفه ، فلما بلغهم موسى دعوة ربه وأراهم الحجج والبراهين قالوا ساحر (٣) كذاب فرموه بقاصمتين السحر والكذب حماية لمصالحهم وخوفا من تغيير الوضع عليهم.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي فلما جاءهم موسى بالصدق من عند الله كان ردّ الفعل منهم أن أمروا بقتل الذكور من أولاد الذين آمنوا معه ، واستحياء بناتهم للخدمة والامتهان وهو ما أخبر تعالى به في قوله : (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) وقوله تعالى (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه وقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) لا شك أن هذا القول الدال على طغيان فرعون كان بعد أن انهزم في ميادين عدة أراد أن يسترد بعض ما فقد فقال ذروني أقتل موسى أي اتركوني أقتل موسى (وَلْيَدْعُ (٤) رَبَّهُ) أي ليمنعه مني ، وعلل لقوله هذا بقوله إني أخاف أن يبدّل دينكم ، أي بعد أن يغلب عليكم فتدينون بدينه أو أن يظهر في الأرض الفساد بالقتل والفتن.

ورد موسى عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي

__________________

(١) هي الآيات التسع.

(٢) خص بالذكر هامان وقارون لقوة تأثيرهما في البلاد وإدائرة الدولة وعز السلطان.

(٣) لما بهرتهم الآيات وعجزوا عن مقاومتها رموا موسى بالسحر واتهموه بالكذب كرد فعل وهروبا من المواجهة.

(٤) من الجائز أن يكون قد قال له بعض رجاله أما تخاف أن يدعو عليك ربه فتهلك فأجابه قائلا وليدع ربه.

وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) قال موسى هذا لما سمع مقالة فرعون التي يهدده فيها بالقتل فأعلمهم أنه قد استجار بالله وتحصن به فلا يقدر أحد على قتله ، وقوله (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) (١) لا يؤمن بيوم الحساب ، لأن من يؤمن بيوم الحساب لا يقدم على جريمة القتل وإنما يقدم عليها من لا يؤمن بحساب ولا جزاء في الدار الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول وحمله على الصبر والتحمل وهو في أشد الظروف صعوبة.

٢ ـ عدم تورع الظلمة في كل زمان عن الكذب وتلفيق التهم للأبرياء.

٣ ـ التهديد بالقتل شنشنة الجبارين والطغاة في العالم.

٤ ـ أحسن ملاذ للمؤمن من كل خوف هو الله تعالى رب المستضعفين.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

شرح الكلمات :

وقال رجل من آل فرعون : هو شمعان بن عم فرعون.

(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ؟) : أي لأن يقول ربي الله؟ والرجل هو موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) (مُتَكَبِّرٍ) : متعظم عن الإيمان بالله وصفته أنه لا يؤمن بيوم الحساب.

(بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي بالمعجزات الظاهرات.

(فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) : أي ضرر كذبه عليه لا عليكم.

(يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) : أي بعض العذاب الذي يعدكم به في الدنيا عاجلا غير آجل.

(مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) : أي مسرف في الكفر والظلم كذاب لا يقول الصدق ولا يفوه به.

(ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي غالبين في بلاد مصر وأراضيها.

(فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) : أي من عذاب الله إن جاءنا وقد قتلنا أولياءه.

(ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) : أي ما أشير به عليكم إلا ما أشير به على نفسي وهو قتل موسى

(وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) : أي إلا طريق الرشد والصواب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عما دار في قصر فرعون فقد أبدى فرعون رغبته في إعدام موسى معللا ذلك بأمرين أن يبدل دين الدولة والشعب ، والثاني أن يظهر الشغب في البلاد والتعب للدولة والمواطنين معا. وها هو ذا رجل مؤمن من رجالات القصر يكتم إيمانه بموسى وبما جاء به من التوحيد خوفا من فرعون وملئه. ولنستمع إلى ما أخبر تعالى به عنه : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) (١) أي بموسى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) إذ هو ابن عم فرعون واسمه شمعان كسلمان قال : (أَتَقْتُلُونَ) (٢) ينكر عليهم قرار القتل (رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي لأن قال ربي الله (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) وهي الحجج والبراهين كالعصا واليد (مِنْ رَبِّكُمْ) الحق الذي لا رب لكم سواه. (وَإِنْ يَكُ (٣) كاذِباً) أي وإن فرضنا أنه كاذب فإن ضرر كذبه عائد عليه لا عليكم (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) وهو صادق (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي (٤) يَعِدُكُمْ) من العذاب العاجل. إن الله تعالى لا يهدي أي لا يوفق إلى النصر والفوز في أموره (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) (٥) متجاوز الحد في الاعتداء والظلم (كَذَّابٌ) مفتر يعيش على الكذب فلا يعرف الصدق. وبعد أن بين لهم هذه الحقيقة العلمية

__________________

(١) في نص هذا الخبر تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) الاستفهام للإنكار ينكر على فرعون وملئه عزمهم على قتل موسى عليه‌السلام.

(٣) لم يكن قوله وإن يك كاذبا شكا في صدق موسى وإنما هو من باب التلطف والتنزل مع الخصم حتى لا يلج في الجدال والخصومة وحذفت النون من وإن يك لكثرة الاستعمال.

(٤) أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم ، وجائز ان يطلق البعض وهو يريد الكل وهو سائغ وشائع قال الشاعر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

(٥) إن كان هذا الموصوف الرجل المؤمن فهو إشارة إلى موسى وإن كان من قول الله تعالى فهو إشارة إلى فرعون.

الثابتة أقبل عليهم يعظهم فقال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) أي غالبين في الأرض أي أرض مصر بكامل ترابها وحدودها. لكن إن نحن أسرفنا في الظلم والافتراء فقتلنا أولياء الله فجاءنا بأس الله عقوبة لنا فمن ينصرنا؟ إنه لا ناصر لنا أبدا من الله فتفهموا ما قلت لكم جيدا ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، وهنا قام فرعون يرد على كلمة الرجل المؤمن فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم بشيء إلا وقد رأيته صائبا وسديدا ، يعني قتل موسى عليه‌السلام ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد أي إلّا إلى طريق الحق والصواب ، وكذب والله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الإيمان وفضل صاحبه فقد ورد الثناء على هذا الرجل في ثلاثة رجال هم مؤمن آل فرعون هذا ، وحبيب النجار مؤمن آل ياسين وأبو بكر (١) الصديق رضي الله عنه.

٢ ـ فصاحة مؤمن آل فرعون هي ثمرة إيمانه وبركته العاجلة فإن لكلماته وقع كبير في النفوس.

٣ ـ التنديد بالإسراف في كل شيء والكذب والافتراء في كل شيء وعلى أي شيء.

٤ ـ من عجيب أمر فرعون ادعاؤه أنه يهدي إلى الرشد والسداد والصواب في القول والعمل ، حتى ضرب به المثل فقيل : فرعون يهدي إلى الرشد.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)

__________________

(١) روى البخاري وغيره أن المشركين تعرضوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول الكعبة بسوء فجاء أبو بكر يصرخ فيهم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله. فضربوه ضربا شديدا حتى أغمي عليه فلما أفاق قال كيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال عليّ أبو بكر أفضل من مؤمن آل فرعون لأن أبا بكر ما أخفى إيمانه بل أظهره وأوذي ومؤمن آل فرعون كتم إيمانه ولم يؤذ.

وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

شرح الكلمات :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ) : أي مؤمن آل فرعون.

(مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) : أي عذابا مثل عذاب الأحزاب وهم قوم نوح وعاد وثمود.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) : أي مثل جزاء عادة من كفر قبلكم وهي استمرارهم على الكفر حتى الهلاك فهذا الذي أخافه عليكم.

(يَوْمَ التَّنادِ) : أي يوم القيامة وقيل فيه يوم التنادي لكثرة النداءات فيه إذ ينادي أصحب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) : أي هاربين من النار إليكم الموقف.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) : أي يوسف بن يعقوب الصديق بن الصديق عليهما‌السلام من قبل مجىء موسى إليكم اليوم.

(قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) : أي قلتم هذا من دون دليل فبقيتم كافرين إلى اليوم.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) : أي مثل إضلالكم هذا يضل الله من هو مسرف في الشرك والظلم.

(مُرْتابٌ) : أي شاك فيما قامت الحجج والبينات على صحته.

(يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) : أي يخاصمون في آيات الله لإبطالها بدون سلطان أي حجة وبرهان.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي كبر جدالهم بالباطل مقتا عند الله وعند الذين آمنوا

(كَذلِكَ) : أي مثل إضلالهم يطبع الله أي يختم بالضلال على كل قلب متكبر.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما دار من كلام في مجلس الحكومة ، وها هو ذا مؤمن آل فرعون يتناول الكلمة بعد فرعون الذي أعاد تقرير ما عزم عليه من قتل موسى عليه‌السلام فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) وهنا أعلن عن إيمانه الذي كان يكتمه يا قوم إني أخاف عليكم أي إن أنتم أصررتم على قتل موسى وقتلتموه (أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) وهو اليوم الذي أخذ الله فيه قوم نوح ، وعاد وثمود أي أخاف عليكم جزاء عادتهم وهي استمرارهم على الكفر والشك والتكذيب حتى حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه وواصل وعظه قائلا ، (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (١) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي فارين من النار هاربين إلى الموقف وهو يوم القيامة الذي تكثر فيه النداءات والصرخات (ما لَكُمْ (٢) مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من العذاب وينجيكم منه. وبعد هذا الوعظ البليغ قال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إشارة إلى أن القوم لم يتأثروا بكلامه فقال متعزيا بعلمه بتدبير الله في خلقه فقال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فإن من كتب الله عليه الضلالة ليصل إلى الشقاوة بكسبه فلا هادي له أبدا ، إذ الله لا يهدي من يضل ثم قال لهم مواصلا كلامه (وَلَقَدْ جاءَكُمْ (٣) يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم‌السلام بالبينات والحجج الدالة على توحيد الله ووجوب طاعته ، غير أنكم مع الأسف (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) فلم تؤمنوا ولم توقنوا (حَتَّى إِذا هَلَكَ) (٤) أي مات عليه‌السلام فرحتم بموته (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) متخرصين متقولين على الله بدون علم فأضلكم الله بكذبكم عليه (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) (٥) في الكذب مثلكم (مُرْتابٌ) في كل شيء لا يعرف اليقين في شيء ، والعياذ بالله ، ثم

__________________

(١) قراءة العامة (التَّنادِ) بتخفيف الدال من النداء وهو الدعاء والطلب للحضور أو الإغاثة وقرىء التناد بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب إذ هم فعلا يهربون وشاهده في الآية يوم تولون مدبرين. والجمهور على حذف الياء وقفا ووصلا. وبعضهم أثبتها وصلا ووقفا وكلا القرائتين صحيحة.

(٢) هذه الجملة في موقع الحال والعاصم المانع والحافظ.

(٣) لما تفرّس فيهم عدم نفع النصح لهم آثر عتابهم ولومهم بقوله ولقد جاءكم يوسف الخ واللام في ولقد جاءكم لام القسم لأنهم كالمنكرين فلذا أكد الخبر بالقسم.

(٤) (إِذا) اسم للزمان الماضي مجرورة بحتى قبلها وليست بظرف أي حتى زمن هلاك يوسف قلتم .. والقائل أسلافهم الغابرون يوم مات يوسف عليه‌السلام.

(٥) المسرف : المفرط في فعل أو قول ما لا خير فيه ، والمرتاب الشديد الريب أي الشك.

أعلمهم أن (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يريدون إبطال الحق وإطفاء نوره بكلامهم بغير حجة لديهم ولا برهان أتاهم جدالهم ذلك أكبر مقتا أي أشد شيء يمقته الله ويبغضه من صاحبه ، وكذلك عند الذين آمنوا. وختم كلامه بقوله (كَذلِكَ (١) يَطْبَعُ اللهُ) أي كإضلال من هو مسرف مرتاب يطبع الله (عَلى كُلِّ قَلْبِ (٢) مُتَكَبِّرٍ) أي قلب كل إنسان متكبر على الإيمان والطاعة متجبر متعاظم يريد إجبار الناس على مراده وما يهواه. وإلى هنا انتهى كلام الرجل المؤمن والكلمة الآن إلى فرعون الطاغية وسنقرأها في الآيات التالية بعد رؤية ما في الآيات من هداية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ قوة الإيمان تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة في قوله إذا قال.

٢ ـ التذكير بالأمم الهالكة إذ العاقل من اعتبر بغيره.

٣ ـ التخويف من عذاب الآخرة وأهوال القيامة.

٤ ـ التنديد بالإسراف والارتياب وعدم اليقين.

٥ ـ حرمة الجدال بغير علم ، وأن صاحبه عرضة لمقت المؤمنين بعد مقت الله تعالى.

٦ ـ عرضة المتكبر الجبار للطبع على قلبه ويومها يحرم الهداية فلا يهدى أبدا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ

__________________

(١) جائز أن يكون هذا من كلام مؤمن آل فرعون ختم به كلامه معهم. وجائز أن يكون من كلام الله تعالى معترض بين كلام المؤمن وكلام فرعون.

(٢) المتكبر هو ذو الكبر والجبار الذي يكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه وعتوه وقرأ الجمهور على كل قلب متكبر. باضافة قلب إلى متكبر وقرأ بعضهم بتنوين قلب بدون إضافة فيكون متكبر نعتا لقلب.

دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

شرح الكلمات :

(يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) : هامان وزير فرعون والصرح البناء العالي.

(أَسْبابَ السَّماواتِ) : أي طرقها الموصلة إليها.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) : أي وإني لأظن موسى كاذبا في زعمه أن له إلها غيري.

(سُوءُ عَمَلِهِ) : أي قبيح عمله.

(وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) : أي عن طريق الهدى.

(إِلَّا فِي تَبابٍ) : أي خسار وضياع بلا فائدة تذكر.

(إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) : أي ما هذه الدنيا إلا متاع يتمتع به وقتا ثم يزول.

(دارُ الْقَرارِ) : أي الاستقرار والبقاء الأبدي.

(يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) : أي رزقا واسعا بلا تبعة ولا تعقيب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما يدور من كلام بين مؤمن آل فرعون وفرعون نفسه إذ تقدم قول المؤمن وما حواه من نصح وإرشاد وها هو ذا فرعون يرد بطريق غير مباشر على (١) ما قاله المؤمن فقال : لوزيره هامان (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أي بناء عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي (٢) لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي في دعواه أن له إلها غيري وهذا من فرعون مجرد مناورة كاذبة يريد أن يموه بها على غيره إبقاء على مركزه وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أي ومثل هذا التزيين في قول فرعون زين له سوء عمله وهو أقبح ما يكون ، (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) (٣) أي وصرف عن

__________________

(١) خاف فرعون أن يؤثر كلام مؤمن آل فرعون في الذين سمعوه فأوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم ، وإن لم يظهر صوابه ثبتهم على دينهم فقال لوزيره ابن لي صرحا الخ.

(٢) أسباب السموات بدل من أسباب الأول. والأسباب جمع سبب وهو ما يوصل إلى مكان بعيد فيطلق على الحبل ويطلق على الطريق والمراد هنا طرق السموات كما في قول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وان يرق أسباب السماء بسلم

(٣) قرأ نافع وصد بفتح الصاد من صد اللازم يصدّ أو المتعدي أي صد نفسه وصد غيره وقرأ حفص (وَصُدَّ) بالبناء للمجهول أي بصدّ الصاد أي صده الله وصرفه عقوبة له لشدة كفره وظلمه.

طريق الحق والهدى ، وقوله تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) أي مكره وتدبيره لقتل موسى عليه‌السلام وقتل أبناء المؤمنين (إِلَّا فِي تَبابٍ) أي خسار وضياع لم يتحقق منه شيء ، لأن الله تعالى ولي موسى والمؤمنين فلم يمكن فرعون منهم بحال. وبعد أن أخبر تعالى عن فرعون في محاولته الفاشلة أخبر تعالى عن الرجل المؤمن (١) وما قاله للقوم من نصح وإرشاد فقال : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي طريق الرشد والصواب في حياتكم لتنجوا من العذاب وتفوزوا بالنعيم المقيم في الجنة. فقال : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي لا تعدو كونها متاعا قليلا يتمتع به ثم يذهب سريعا ، (وَإِنَّ الْآخِرَةَ) أي الحياة الآخرة بعد انتهاء هذه الحياة (هِيَ دارُ (٢) الْقَرارِ) أي الاستقرار والإقامة الأبدية ، فاعملوا لدار البقاء وتجافوا عن دار الفناء واعلموا أن الحساب سريع وأن (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وذلك لعدالة الرب تبارك وتعالى ، ومن عمل صالحا من الأعمال الصالحة التي شرعها الله لعباده وتعبدهم بها والحال (٣) أنه مؤمن أي مصدق بالله وبوعده ووعيده يوم لقائه فأولئك أي المؤمنون العاملون للصالحات (٤) من الذكور والإناث يدخلون الجنة دار السّلام يرزقون فيها بغير حساب أي رزقا واسعا لا يلحق صاحبه تبعة ولا تعب ولا نصب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من تزيين الأعمال القبيحة نتيجة الإدمان عليها والاستمرار على فعلها فإن من زينت له أعماله السيئة فأصبح يراها حسنة هلك والعياذ بالله.

٢ ـ التحذير من الاغترار بالدنيا والغفلة من الآخرة إذ الأولى زائلة والآخرة باقية واختبار الباقي على الفاني من شأن العقلاء.

٣ ـ مشروعية التذكير بالحساب والجزاء وما يتم في الدار الآخرة من سعادة وشقاء.

__________________

(١) (هُوَ مُؤْمِنٌ) آل فرعون الذي أظهر ايمانه بعد كتمانه.

(٢) يريد بالدار دار السّلام الجنة ودار البوار النار.

(٣) لأن جملة قوله تعالى (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حالية وإن كانت شرطا في صحة الأعمال الصالحة وفي قبولها ولذا لمّا لم يذكر الإيمان قبل العمل الصالح ذكره في الجملة الحالية ليدلل على تقدمه وشرطيته.

(٤) قرأ الجمهور (يَدْخُلُونَ) بالبناء للفاعل وقرأ بعض يدخلون بضم الياء وفتح الخاء بالبناء للمجهول والمعنى واحد إذ من دخل دخل بإذن الله ومن أدخل أدخل بإذن الله وفضله.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

شرح الكلمات :

(أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) : أي من الخسران في الدنيا والآخرة ، وذلك بالإيمان والعمل الصالح.

(وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) : أي إلى عذاب النار وذلك بالكفر والشرك بالله تعالى.

(ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) : أي لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى.

(وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) : أي وأنا أدعوكم إلى الإيمان وعبادة الله العزيز أي الغالب على أمره الغفار لذنوب التائبين من عبادة المؤمنين به.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) : أي حقا أن ما تدعونني إلى الإيمان به وبعبادته.

لي له دعوة في الدنيا والآخرة : أي ليس له دعوة حق إلى عبادته ، ولا دعوة استجابة بأن يستجيب لمن دعاه لا في الدنيا ولا في الآخرة.

(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) : أي وأن المسرفين في الكفر والشرك والمعاصي هم أهل النار

الواجبة لهم.

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) : أي فحفظه الله من مكرهم به ليقتلوه.

(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) : أي عذاب الغرق إذ غرق فرعون وجنده أجمعون.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) : أي أن سوء العذاب هو النار يعرضون عليها صباحا ومساء وذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار كل يوم مرتين.

ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون : أي ويوم القيامة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر نصائح وارشاد مؤمن آل فرعون فقد قال ما أخبر به تعالى عنه في قوله : (وَيا قَوْمِ (١) ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي من النار وذلك بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) وذلك بدعوتكم لي إلى الشرك والكفر (تَدْعُونَنِي (٢) لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ (٣) الْغَفَّارِ) أي لتؤمنوا به وتعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره أدعوكم إلى العزيز أي الغالب الذي لا يغلب الغفار لذنوب التائبين من عباده مهما كانت ، وأنتم تدعونني إلى أذل شيء وأحقره لا ينفع ولا يضر لأنه لا يسمع ولا يبصر. (لا جَرَمَ) أي حقا أن ما تدعونني إليه لأومن به وأعبده ليس له دعوة (٤) حق يدعى بها إليه ، ولا دعوة استجابة فإنه لا يستجيب لي دعاء أبدا لا في الدنيا ولا في (٥) الآخرة. وشيء آخر يا قوم وهو أن مردنا إلى الله أي لا محالة نرجع إليه فالواجب أن نؤمن به ونعبده ونوحده ما دام رجوعنا إليه ، وآخر وهو (أَنَّ الْمُسْرِفِينَ (٦) هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) المسرفين الذين أسرفوا في الكفر والشرك والمعاصي فتجاوزوا الحد في ذلك هم أصحاب النار أي أهلها الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم.

__________________

(١) الاستفهام هنا تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي وتدعونني إلى النار إذ هي في موضع الحال تقدير مبتدأ أي وأنتم تدعونني إلى النار.

(٢) هذه جملة بيان لجملة وتدعونني إلى النار.

(٣) العدول عن اسم الجلالة إذ لم يقل أدعوكم إلى الله إلى الصفتين العزيز والغفار لإيضاح الاستدلال على استحقاقه الإقرار بالألوهية والعبادة.

(٤) ليس له دعوة توجب له الألوهية وليس له استجابة دعوة تنفع لا هذه ولا تلك فبأي حق إذا يدعى ويعبد؟

(٥) أي ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة.

(٦) الإسراف هنا الإفراط في الكفر والظلم بسفك دماء بني اسرائيل بذبح أبنائهم وليصرف فرعون عن عزمه عن قتل موسى عليه‌السلام وفي الكلام تعريض بالذين يخاطبهم إذ هم مسرفون إلى أبعد حد في الظلم والكفر.

وقوله : (فَسَتَذْكُرُونَ (١) ما أَقُولُ لَكُمْ) يبدو أنه قال هذا القول لما رفضوا دعوته وهموا بقتله ويدل عليه قوله : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

وقوله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) (٢) أي حفظه الله تعالى من مكرهم به ليقتلوه فنجاه الله تعالى إذ هرب منهم فبعث فرعون رجالا في طلبه فلم يقدروا عليه ونجا مع موسى وبني إسرائيل وقوله (وَحاقَ (٣) بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) وذلك بأن أغرقهم الله في البحر أجمعين. وقوله (النَّارُ (٤) يُعْرَضُونَ عَلَيْها) إخبار بأن أرواح آل فرعون تعرض في البرزخ على النار غدوا وعشيا وذلك بأن تكون في أجواف طير سود على خلاف أرواح المؤمنين فإنها تكون في أجواف طير خضر ترعى في الجنة. إلى يوم القيامة.

ويوم تقوم الساعة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم والعياذ بالله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الفرق الكبير بين من يدعو إلى النجاة وبين من يدعو إلى النار ، بين من يدعو إلى العزيز الغفار ليؤمن به ويعبد وبين من يدعو إلى اوثان لا تسمع ولا تبصر وهي أحقر شىء وأذله في الحياة ، وبين من يدعو من لا يستجيب له في الدنيا والآخرة وبين من يدعو من يستجيب له في الدنيا والآخرة.

٢ ـ التنديد بالإسراف وفي كل شيء.

٣ ـ نعم ما ختم به مؤمن آل فرعون وعظه ونصحه لقومه وهي فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

٤ ـ إثبات عذاب القبر ونعيمه إذ آل فرعون تعرض ارواحهم على النار صباح مساء.

__________________

(١) هذا الكلام مشاركة لهم وإنهاء لخطابهم كأنه استشعر منهم ما جعله ينهي الكلام معهم إما لاحظ في ذلك من ملامحهم أو من كلام سمعه منهم.

(٢) (ما مَكَرُوا) : ما مصدرية أي سيئات مكرهم.

(٣) (حاقَ) : أحاط والعذاب الغرق.

(٤) في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) : أي وانذرهم يوم الآزفة وإذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون.

(فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) : أي الاتباع الضعفاء الذين اتبعوا الأغنياء والأقوياء في الشرك.

(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) : أي تابعين لكم فيما كنتم تعتقدونه وتفعلونه.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) : أي فهل تدفعون عنا شيئا من النار.

(إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) : فلا مراجعة أبدا فقد حكم لأهل الإيمان والتقوى بالجنة فهم في الجنة ولأهل الشرك والمعاصي بالنار فهم في النار.

(لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) : أي جمع خازن وهو الموكل بالنار وأهلها.

(يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) : أي قدر يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة يوم واحد لا ليل له.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي بأن نظهر دينهم ، أو نهلك قومهم وننجيهم من الهلاك.

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) : أي وتنصرهم يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ.

(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) : أي ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة ولهم سوء الدار أي الآخرة أي شدة عذابها.

معنى الآيات :

هذا عرض آخر للنار وما يجرى فيها بعد العرض الذي كان لآل فرعون في النار يعرض على كفار قريش ليشاهدوا مصيرهم من خلاله إذا لم يتوبوا إلى الله من الكفر والتكذيب والشرك تضمّنته ست آيات قال تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ (١) فِي النَّارِ) أي وأنذرهم واذكر لهم إذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون فيها فيقول الضعفاء الأتباع الذين كانوا يتبعون أغنياء وأقوياء البلاد طمعا فيهم وخوفا منهم. قالوا للذين استكبروا بقوتهم عن الإيمان ومتابعة الرسل ، إنا كنا لكم تبعا (٢) أي تابعين ، (فَهَلْ أَنْتُمْ (٣) مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) أي فهل في إمكانكم أن تخففوا عنا حظا من عذاب النار؟ فأجابوهم قائلين بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي نحن وأنتم إن الله قد حكم بين العباد فقضى بالجنة لأهل الإيمان والتقوى ، وبالنار لأهل الشرك والمعاصي هذه كانت خصومة الأتباع مع المتبوعين ولم تنته إلى طائل إلا زيادة الحسرة والغم والهم. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي (٤) النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) وهم الملائكة المكلفون بالنار وعذابها قالوا لهم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي مقدار يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة لا ليل فيها وإنما هي يوم واحد. فردت عليهم الملائكة قائلة بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتقولون ادعوا لنا ربكم ليخفف عنكم العذاب أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي بالحجج الظاهرة الدالة على وجوب الإيمان والتقوى بترك الشرك والمعاصي. (قالُوا بَلى) أي اعترفوا فقالت لهم الملائكة إذا

__________________

(١) التحاج : الاحتجاج من جانبين فأكثر أي إقامة كل فريق حجته للفريق المضاد المخاصم.

(٢) تبعا : اسم لمن يتبع غيره يستوي فيه الواحد وأكثر نحو خدم وحشم.

(٣) (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) الاستفهام هنا معناه الحث على طلب خلاصهم من النار واللوم على تركهم وعدم الاهتمام بما هم فيه من العذاب.

(٤) (الَّذِينَ فِي النَّارِ) هذا شامل للضعفاء والمستكبرين والخزنة جمع خازن وهم الملائكة الموكلون بالنار وعذاب أهلها.

فادعوا (١) أنتم ربكم ولكن لا يستجاب لكم إذ ما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلا يستجاب له أبدا

وقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ (٢) رُسُلَنا) تقرير لحقيقة عظمى ، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه ، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن ، أو بإهلاك أممهم المكذبة لهم وإنجائهم والمؤمنين معهم قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقوله : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي (٣) وينصرهم في الآخرة يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب.

وقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ (٤) مَعْذِرَتُهُمْ) إذا أذن لهم في الاعتذار لا تقبل معذرتهم (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) (٥) أي البعد من الرحمة والجنة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الآخرة وهو أشد عذابها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تخاصم أهل النار وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين.

٢ ـ التنديد بالكبر والاستكبار إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة.

٣ ـ عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة إلا ما شاء الله.

٤ ـ عدم قبول المعذرة يوم القيامة.

٥ ـ عدم استجابة الدعاء في النار.

٦ ـ بيان وعد الله لرسله والمؤمنين وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين الأول أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن ، والثاني أن يهلك عدوهم وينجيهم.

__________________

(١) أي تولوا أنتم أمر أنفسكم وادعوا والأمر هنا للتسوية أي سواء دعوتم أو تركتم لا يستجاب لكم.

(٢) هذه الآية والتي بعدها جاءتا كالنتيجة لكل ما سبق في السورة من قوله تعالى (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فكل ذلك لتلك المواقف والمشاهد في الدنيا والآخرة عبرتها المستخلصة منها هي هذه (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) الآية وهي تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشرى له ولأتباعه المؤمنين.

(٣) (الْأَشْهادُ) : الملائكة والرسل ومؤمنو هذه الأمة.

(٤) هذه الجملة بدل من جملة ويوم يقوم الأشهاد والظالمون هم المشركون.

(٥) تقديم الجار والمجرور (لَهُمُ) في الجملتين : لهم اللعنة ولهم سوء الدار للاهتمام بالانتقام منهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) : أي أعطينا موسى بني إسرائيل المعجزات والتوراة.

(وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي أبقينا فيهم التوراة كتاب الهداية الإلهية يهتدون به في ظلمات الحياة ويذكرون به الله في تراكم النسيان.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي واصبر يا محمد على ما تلاقي من قومك إن وعد الله بنصرك حق.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : ليقتدي بك في ذلك ولزيادة طهارة لروحك وتزكية لنفسك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) : أي نزه ربك وقدسه بالصلاة والذكر والتسبيح فيها وخارجها.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) : بالمساء وأول النهار أي في أوقات الصلوات الخمس كلها.

(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) : أي ما في صدورهم إلا كبر حملهم على الجدال في الحق ، لا أن لهم علما يجادلون به ، وإنما حبهم العلو والغلبة حملهم على ذلك

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : أي استعذ من شرهم بالله السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي لخلق السموات والأرض ابتداء ولأول مرة.

(أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) : أي أعظم من خلق الناس مرة أخرى بعد الأولى.

معنى الآيات :

قوله تعالى ولقد آتينا موسى (١) الهدى الآية شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقي من قومه فأعلمه تعالى أنه قد سبق أن أرسل موسى وآتاه الكتاب الذي هو التوراة وأورثه في بني إسرائيل (هُدىً) أي هاديا لهم في ظلمات الحياة إلى الحق والدين الصحيح الذي هو الإسلام (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي يذكر به أولوا العقول ، ولاقى موسى من قومه أشد مما لاقيت إذا (فَاصْبِرْ) على ما تعانيه من قريش وأن العاقبة لك فإن وعد الله حق وقد قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي يوم القيامة.

وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (٢) وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِ (٣) وَالْإِبْكارِ) أرشده إلى مقومات الصبر والموفرات له وهي ذكر الله تعالى بالاستغفار والدعاء والصلاة والتسبيح فيها وخارجها. فأعظم عون على الصبر الصلاة فلذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي حجة من علم إلهي أتاهم بطريق الوحي إن في صدورهم أي ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أي لا يصلون إليه بحال وهو الرئاسة عليك والتحكم فيك وفي أصحابك. وعليه فاستعذ بالله (٤) من شرهم ومن مكرهم إنه تعالى هو السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم وأعمالهم ، وسوف لا يمكن لهم منك أبدا لقدرته وعلمه وعجزهم وجهلهم.

وقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ (٥) وَالْأَرْضِ) هذا رد على منكري البعث والجزاء الآخر فلما قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ... قال تعالى : وعزتنا وجلالنا لخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق ولا مادة قائمة موجودة أكبر من خلق الناس مرة أخرى بعد خلقهم

__________________

(١) الهدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق ، وما أنزل عليه من الشريعة والكتاب الذي هو التوراة.

(٢) ذكر القرطبي عدة أقوال للسلف في الذنب المطلوب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار منه قيل ذنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان قبل البعثة والعصمة ، وقيل ذنب أمته ، وقيل الصغائر ومخالفة الأول وقيل المراد هو تعبد الله رسوله بالدعاء إذ الاستغفار دعاء بطلب المغفرة وهو وجه وأوجه منه إرشاد الآية إلى الاستغفار.

(٣) هما صلاة الصبح وصلاة العصر ومعنى بحمد ربك أي بالشكر له والثناء عليه.

(٤) جملة إنه هو السميع العليم تعليلية ، ومفعول المستعاذ منه في قوله فاستعذ بالله محذوف لعرض التعميم في كل ما يخاف منه.

(٥) اللام في جواب قسم محذوف كما في التفسير ، وخلق السموات والأرض شامل لكل ما فيهما من مخلوقات وعقيدة البعث الآخر من جملة ما يجادل فيه الذين كفروا.

المرة الأولى ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) هذه الحقائق العلمية لجهلهم وبعدهم عن العقليات لما عليهم من طابع البداوة وإلا فإعادة الشيء أهون من بدئه عقلا فليس الاختراع كالاصلاح للمخترع إذا فسد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان منة الله تعالى على موسى وبني إسرائيل تتكرر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بإنزال الكتاب وتوريثه فيهم هدى وذكرى لأولى الألباب.

٢ ـ وجوب الصبر والتحمل في ذات الله ، والاستعانة على ذلك بالاستغفار والذكر والصلاة.

٣ ـ أكثر من يجادل بالباطل ليزيل به الحق إنما يجادل من كبر يريد الوصول إليه وهو التعالي والغلبة والقهر للآخرين.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث بالبرهان العقلي ، وهو أن البدء أصعب من الإعادة ومن أبدأ أعاد ، ولا نصب ولا تعب!!

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ

__________________

(١) (لا يَعْلَمُونَ) لانشغالهم بالباطل عن الحق فتركو التفكر والتأمل لذا هم لا يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر عقلا على خلق الناس بعد إماتته إياهم وبعثهم أحياء كما خلقهم أول مرة.

اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

شرح الكلمات :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) : لا يستويان أيضا فكذلك لا يستوى الموقن والشاك

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) : أي ما يتذكرون إلا تذكرا قليلا والتذكر الاتعاظ.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) : أي إن ساعة نهاية هذه الحياة وإقبال الأخرى جائية لا شك فيها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) : أي عن دعائي.

(سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) : أي صاغرين ذليلين.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : أي لتنقطعوا عن الحركة فتستريحوا.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي مضيئا لتتمكنوا فيه من الحركة والعمل.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) : أي الله تعالى بحمده والثناء عليه وطاعته.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) : أي ذلكم الذي أمركم بدعائه ووعدكم بالاستجابة الذي جعل لكم الليل والنهار وأنعم عليكم بجلائل النعم الله ربكم الذي لا إله لكم غيره ولا رب لكم سواه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم وإلهكم الحق إلى أوثان وأصنام لا تسمع ولا تبصر.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) : أي كما صرف أولئك عن الإيمان والتوحيد يصرف الذين يجحدون بآيات الله يصرفون عن الحق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد ، فقوله تعالى (وَما يَسْتَوِي) (١) أي في حكم

__________________

(١) (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن والضال والمهتدي.

العقلاء (الْأَعْمى) الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي يبصر كل شيء يقع عليه بصره فكذلك لا يستوي المؤمن السميع المبصر ، والكافر الأعمى عن الدلائل والبراهين فلا يرى منها شيئا الأصم الذي لا يسمع نداء الحق والخير ، ولا كلمات الهدى والرشاد. كما لا يستوي في حكم العقلاء المحسن المؤمن العامل للصالحات ، والمسيىء الكافر والعامل للسيئات ، وإذا كان الأمر كما قررنا فلم لا يتعظ القوم به ولا يتوبون إنهم لظلمة نفوسهم (قَلِيلاً ما) (١) (تَتَذَكَّرُونَ) أي لا يتعظون إلا نادرا.

وقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ (٢) لَآتِيَةٌ) يخبر تعالى أن الساعة التي كذب بها المكذبون ليستمروا على الباطل والشر فعلا واعتقادا لآتية حتما ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بها لوجود صارف قوي وهو عدم تذكرهم ، وانكبابهم على قضاء شهواتهم.

وقوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي (٣) أَسْتَجِبْ لَكُمْ). إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم. ثم قال لهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبدا.

وفي الآية (٦١) عرّفهم تعالى بنفسه ليعرفوه فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه ، ويكفروا بما سواه من مخلوقاته فقال : (اللهُ الَّذِي (٤) جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي جعله مظلما لتنقطعوا فيه عن الحركة والعمل فتستريحوا (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل لكم النهار مبصرا أي مضيئا يمكنكم التحرك فيه والعمل والتصرف في قضاء حاجاتكم ، وليس هذا من إفضال الله عليكم بل إفضاله وإنعامه أكثر من أن يذكر وقرر ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الله على إفضاله وإنعامه عليهم فلا يعترفون بإنعامه ولا يحمدونه

__________________

(١) قرأ نافع قليلا ما يتذكرون بالياء وقرأ حفص (تَتَذَكَّرُونَ) بالتاء ولكل وجه بلا غي وكأن تذكرهم قليلا لعدم علمهم فهم كالأموات لجهلهم فهم لا يتذكرون وإن تذكروا قليلا ينقطعون فلا يحصل المراد من التذكر.

(٢) المراد بالساعة ساعة البعث والقيام من القبور. إنه بعد ذكر الأدلة المقررة للبعث كان هذا إعلانا عن تحقق مجيئها وتأكيد الخبر بإن ولام الابتداء لزيادة التحقيق والمراد تحقق وقوعها لا الإخبار عن وقوعها.

(٣) روى الترمذي عن النعمان بن بشير وصححه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الدعاء هو العبادة. ثم قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله.

(٤) (جَعَلَ) إن كانت بمعنى خلق تعدت إلى مفعول واحد كما هي هنا وإن كانت بمعنى صير تنصب مفعولين نحو جعلت الثوب سروالا.

بألسنتهم ولا يطيعونه بجوارحهم ، وذلك لاستيلاء الشيطان والغفلة عليهم ثم واصل تعريف نفسه لهم ليؤمنوا به بعد معرفته ويكفروا بالآلهة العمياء الصماء التي هم عاكفون عليها صباح مساء فقال جل من قائل : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) (١) الذي عرفكم بنفسه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو. وقوله : (فَأَنَّى) (٢) (تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم والمنعم عليكم ، إلى أوثان وأصنام لا تنفعكم ولا تضركم. فسبحان الله كيف تؤفكون (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي كانصرافكم أنتم عن الإيمان والتوحيد مع وفرة الأدلة وقوة الحجج يصرف أيضا الذين كانوا بآيات الله يجحدون في كل زمان ومكان لأن الآيات الإلهية حجج وبراهين فالمكذب بها سيكذب بكل شيء حتى بنفسه والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة وهي أن الضّدين لا يجتمعان فالكفر والإيمان ، والاحسان والإساءة والعمى والبصر والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة ولا تنبغي.

٢ ـ قرب الساعة مع تحتم مجيئها والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جدا.

٣ ـ فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع (٣) نعله. وللدعاء المستجاب شروط منها : أن يكون القلب متعلقا بالله معرضا عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم ، ولا يعتدي في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يري الجنة يقظة أو أن يعود شابا وهو شيخ كبيرا أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج.

٤ ـ الدعاء (٤) هو العبادة ولذا من دعا غير الله فقد أشرك بالله.

٥ ـ بيان إنعام الله وإفضاله والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.

__________________

(١) الإشارة إلى اسم الجلالة في قوله (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) الخ.

(٢) (فَأَنَّى) اسم استفهام عن الكيفية وأصله استفهام عن المكان ثم نقل إلى الحالة.

(٣) تقدم تخريجه وأنه من سنن الترمذي وأنه صحيح الإسناد وشسع النعل : زمام للنعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها يضرب به المثل في الفاقة يقال لا يملك شسع نعل.

(٤) روي بإسناد لا بأس به من لم يسأل الله يغضب عليه ومن لم يدع الله غضب عليه أيضا حسنهما ابن كثير في تفسيره.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

شرح الكلمات :

(قَراراً) : أي قارة بكم لا تتحرك فيفسد ما عليها من إنشاء وتعمير.

(بِناءً) : أي محكمة إحكام البناء فلا تسقط عليكم ولا يسقط منها شيء يؤذيكم.

(وَصَوَّرَكُمْ) : أي في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم.

(مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي الحلال المستلذ غير المستقذر وهي كثيرة.

(فَتَبارَكَ اللهُ) : أي تعاظم وكثرت بركاته.

(فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا في عباداته دعاء كان أو غيره.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) : أي نهاني ربي أن أعبد الأوثان التي تعبدون.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي وأمرني ربي أن أسلم له وجهي وأخلص له عملي.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم من علقة.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) : أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم.

(وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) : أي فعل ذلك بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان.

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) (١) : أي يخلق الإنسان وقد كان عدما ، ويميته عند نهاية أجله.

(فَإِذا قَضى أَمْراً) : أي حكم بوجوده.

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : أي فهو لا يحتاج إلى وسائط وإنما هي الإرادة فقط فإذا أراد شيئا قال له كن فهو يكون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تعريف العباد بربهم سبحانه وتعالى حتى يؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه إذ كمالهم وسعادتهم في الدارين متوقفان على ذلك قال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي (٢) قارة في مكانها ثابتة في مركز دائرتها لا تتحرك بكم ولا تتحول عليكم فتضطرب حياتكم فتهلكوا ، وجعل السماء بناء محكما وسقفا محفوظا من التصدع والانفطار والسقوط كلّا أو بعضا ، وصوركم في أرحام أمهاتكم (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (٣) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي خلقها لكم وهي كل ما لذ وطاب من حلال الطعام والشراب واللباس والمراكب ذلكم الفاعل

__________________

(١) في قوله (يُحْيِي وَيُمِيتُ) المحسن البديعى المسمى بالطباق.

(٢) القرار مصدر قر إذا سكن وهو هنا من صفات الأرض لأنه خبر عن الأرض والمعنى أنه جعلها قارة «ساكنة» غير مائدة ولا مضطربة إذ لو لم تكن قارة لكان الناس في عناء شديد من اضطرابها وتزلزلها ، وقد يفضي ذلك بأكثر الناس إلى الهلاك وهذا في معنى قوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته أن تدور الأرض في فلكها دورة منتظمة بدقة فائقة فلا تخرج عن مدارها مقدار شبر بل إصبع فسكنت وقرت وهي متحركة فسبحان الله العلي العظيم.

(٣) (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) الفاء للعطف والتعقيب ورزقكم فهاتان نعمتان عظيمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.

لكل ذلك الله ربكم الذي لا رب لكم سواه ولا معبود بحق لكم غيره. (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالق الانس والجن ومالكهما والمدبر لأمرهما ، هو الحي الذي لا يموت والانس والجن يموتون لا إله أي لا معبود للعالمين (إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أي حامدين له بذلك ، هذا ما تضمنته الآيتان (٦٤ ، ٦٥) وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا نبينا لقومك إني نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر وذلك لما (٢) جاءني البينات من ربي وهي الحجج والبراهين على بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادته سبحانه وتعالى ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرني ربي أن أسلم له فأنقاد وأخضع لأمره ونهيه وأطرح بين يديه وأفوض أمري إليه وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) نظرا إلى أصلهم وهو آدم ، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد ، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم ، ثم لتكونوا شيوخا بتجاوزكم (٣) الستين. ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم ، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفوا أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه.

وقوله (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) يحيي النطف الميتة فإذا هي بعد أطوارها بشرا أحياء ويميت الأحياء عند نهاية آجالهم وهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون ومن أعظم مظاهر قدرته أنه يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ولا يتخلف أبدا هذا هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين وجبت محبته وطاعته ولزمت معرفته إذ بها يحبّ ويعبد ويطاع.

__________________

(١) إنشاء الثناء على الله تعالى بعد ذكر موجبات ذلك من نعمة الإيجاد والإمداد والهداية إلى الدين الحق بعبادة الله وحده كما هي السنة في تعقيب الحمد والثناء على الله تعالى بعد كل نعمة ينعم بها على عباده.

(٢) لما هذه يقال فيها التوقيتية أي حصل نهي عن عبادة غير ربي في الوقت الذي جاءتني البينات وفي الآية تعريض بالمشركين إذ لم ينتهوا عن عبادة غير الله وقد جاءتهم البينات من ربهم.

(٣) سن الشيخوخة هو ما بين الخمسين إلى الثمانين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد والإرزاق والإحياء والإماتة وكلها معرفة به تعالى وموجبة له العبادة والمحبة والإنابة والرغبة والرهبة ونافية لها عما سواه من سائر خلقه.

٢ ـ تقرير التوحيد ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

٣ ـ بيان خلق الإنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

شرح الكلمات :

(يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) : أي في القرآن وما حواه من حجج وبراهين دالة على الحق هادية إليه.

(أَنَّى يُصْرَفُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق مع وضوح الأدلة وقوة البراهين.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) : أي بالقرآن

(وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) : من وجوب الاسلام لله بعبادته وحده وطاعته في أمره ونهيه والإيمان بلقائه.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي عقوبة تكذيبهم.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) : أي وقت وجود الأغلال في أعناقهم يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم.

(ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) : أي يوقدون.

ثم يقال لهم أين ما كنتم : أي يسألون هذا السؤال تبكيتا لهم وخزيا.

(تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي تعبدونهم مع الله.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) : أي غابوا عنا فلم نرهم.

(بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) : أي انكروا عبادة الأصنام ، أو لم يعتبروا عبادتها شيئا وهو كذلك.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) : أي مثل اضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين.

(بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي بالشرك والمعاصي.

(وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) : أي بالتوسع في الفرح ، لأن المرح شدة الفرح.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) : أي دخول جهنم والخلود فيها بئس ذلك مأوى للمتكبرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالبعث والجزاء ، وتقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) أي يا محمد (إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي (١) آياتِ اللهِ) القرآنية لإبطالها وصرف الناس عن قبولها أو حملهم على إنكارها وتكذيبها والتكذيب بها وهذا تعجيب من حالهم. وقوله تعالى : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته. وقوله (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) الذي هو القرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من التوحيد والإيمان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة تكذيبهم وقت ما تكون (الْأَغْلالُ (٢) فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) في أرجلهم يسحبون أي تسحبهم الزبانية (فِي الْحَمِيمِ)

__________________

(١) وقيل هذه الآية نزلت في القدرية نفاة القدر وقيل في المشركين والعبرة بعموم اللفظ فهي عامة في المشركين والمكذبين المجادلين في آيات الله وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصرفها عن مراد الله إحقاقا لباطلهم وإثباتا لمذهبهم الفاسد.

(٢) (الْأَغْلالُ) جمع غل بضم الغين : حلقة من قد «جلد» أو حديد محيط بالعنق. سئل ابن عرفة هل يجوز أن يقاد اليوم الأسير والجاني بالغل في عنقه؟ قال لا يجوز وإنما يقاد الجاني من يده لنهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإحراق بالنار وقال إنما يعذب بالنار رب النار.

هو ماء حار تناهى في الحرارة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (١) أي توقد بهم النار كما توقد بالحطب ، هذا عذاب جسماني ووراءه عذاب روحاني إذ تقول لهم الملائكة توبيخا وتبكيتا وتأنيبا وتقريعا : (أَيْنَ (٢) ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي أين أوثانكم التي كنتم تعبدونها مع الله؟ فيقولون : ضلوا عنا أي غابوا فلم نرهم ، بل ما كنا ندعو من قبل شيئا هذا إنكار منهم حملهم عليه الخوف أو هو بحسب الواقع أنهم ما كانوا يعبدون شيئا إذ عبادة الأصنام ليست شيئا لبطلانها.

وقوله (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ (٣) فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي حل بكم هذا العذاب بسبب فرحكم بالباطل من شرك وتكذيب وفسق وفجور ، في الدنيا ، وبسبب مرحكم أيضا وهو أشد الفرح وأخيرا يقال لهم (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) بابا بعد باب وهي أبواب الدركات (خالِدِينَ (٤) فِيها) لا تموتون ولا تخرجون (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ساء وقبح مثواكم في جهنم من مثوى أي مأوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التعجيب من حال المكذبين بآيات الله المجادلين فيها كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح أدلته وقوة براهينه.

٢ ـ إبراز صورة واضحة للمكذبين بالآيات المجادلين لإبطال الحق وهم في جهنم يقاسون العذاب بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.

٣ ـ ذم الفرح بغير فضل الله ورحمته ، وذم المرح وهو أشد الفرح.

٤ ـ ذم التكبر وسوء عاقبة المتكبرين الذين يمنعهم الكبر من الاعتراف بالحق ويحملهم على احتقار الناس وازدراء الضعفاء منهم.

__________________

(١) قال مجاهد يطرحون في النار فيكونون وقودا لها : يقال سجرت التنور أي أوقدته وسجرته ملأته ايضا ومنه والبحر المسجور أي المملوء. وشاهد آخر في قوله تعالى (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

(٢) الاستفهام بأين يكون عن المكان وأريد به هنا التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف.

(٣) (ما) مصدرية في الموضعين والتقدير أي ذلكم العذاب الذي وقعتم فيه مسبب على فرحكم ومرحكم الذين كانا لكم في الدنيا إذ الأرض المراد بها الدنيا.

(٤) (خالِدِينَ) حال مقدرة أي مقدر خلودكم فيها و (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) متفرع على الخلود والمخصوص بالذم محذوف تقديره جهنم.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

شرح الكلمات :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي فاصبر يا رسولنا على دعوتهم متحملا أذاهم فإن وعد ربك بنصرك حق.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب في حياتك.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) : أي ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم وهم خمسة وعشرون.

(أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي لأنهم عبيد مربوبون لا يفعلون إلا ما يأذن لهم به سيدهم.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) : أي هلك أهل الباطل بعذاب الله فخسروا كل شيء.

(جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) : أي الإبل وإن كان لفظ الأنعام يشمل البقر والغنم أيضا.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) : أي من اللبن والنسل والوبر.

(وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) : أي حمل الأثقال وحمل أنفسكم من بلد إلى بلد ، لأنها كسفن البحر.

(فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) : أي فأي آية من تلك الآيات تنكرون فإنها لظهورها لا تقبل الانكار.

معنى الآيات :

بعد تلك الدعوة الإلهية للمشركين إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء والتي تلوّن فيها الأسلوب وتنوعت فيها العبارات والمعاني ، والمشركون يزدادون عتوا قال تعالى لرسوله آمرا إياه بالصبر (١) على الاستمرار على دعوته متحملا الأذى في سبيلها (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فيخبره بأن ما وعده به ربّه حق وهو نصره عليهم وإظهار دعوة الحق ولو كره المشركون. وقوله (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ (٢) بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي من العذاب الدنيوي (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فنعذبهم بأشد أنواع العذاب في جهنم ، وننعم عليك بجوارنا في دار الإنعام والتكريم أنت والمؤمنون معك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٧) وقوله تعالى في الآية الثانية (٧٨) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يخبر تعالى رسوله مؤكدا له الخبر مسليا له حاملا له على الصبر بأنه أرسل من قبله رسلا كثيرين منهم من قص خبرهم عليه ومنهم من لم يقصص (٣) وهم كثير وذلك بحسب الفائدة من القصص وعدمها وأنه لم يكن لأحدهم أن يأتي بآية كما طالب بذلك قومه ، والمراد من الآية المعجزة الخارقة للعادة ، إلا بإذن الله ، إذ هو الوهاب لما يشاء لمن يشاء ، فإذا جاء أمر الله بإهلاك المطالبين بالآيات تحديا وعنادا ومكابرة قضى بالحق أي حكم الله تعالى بين الرسول وقومه المكذبين له المطالبين بالعذاب تحديا ، فنجىّ رسوله والمؤمنين وخسر هنالك المبطلون من أهل الشرك والتكذيب.

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٧٩) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) يعرفهم تعالى بنفسه مقررا ربوبيته الموجبة لألوهيته فيقول الله أي المعبود بحق هو الذي جعل لكم الأنعام على وضعها الحالي الذي ترون (لِتَرْكَبُوا (٤) مِنْها) وهي الإبل ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ومن بعضها تأكلون كالبقر والغنم ولا تركبون ، ولكن (فِيها مَنافِعُ) وهي الدّرّ والوبر والصوف والشعر والجلود (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي

__________________

(١) أمره تعالى رسوله بالصبر في الآية هو تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أخبره أنه ينتقم له من أعدائه في حياته أو في الآخرة وهذا كان لاستبطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين النصر.

(٢) فأما أصلها فإن حرف شرط قرنت بما الزائدة للتأكيد ولذا ألحقت نون التوكيد بفعل الشرط وعطف عليه أو نتوفينك وهو فعل شرط ثان.

(٣) قال ابن كثير وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف وهو كذلك إذ لم يذكر في القرآن إلا خمسة وعشرون نبيا ورسولا.

(٤) اللام متعلقة بجعل لكم الأنعام ومن في الموضعين للتبعيض أي تركبون من بعضها وتأكلون من بعضها.

(صُدُورِكُمْ) وهي حمل أثقالكم والوصول بها إلى أماكن بعيدة لا يتأتى لكم الوصول إليها بدون الإبل سفائن البر ، وقوله وعليها أي على الإبل وعلى الفلك «السفن» تحملون أي يحملكم الله تعالى حسب تسخيرها لكم.

وأخيرا يقول تعالى بعد عرض هذه الآيات القرآنية والكونية يقول لكم (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في أنفسكم وفي الآفاق حولكم (فَأَيَّ آياتِ (١) اللهِ تُنْكِرُونَ) وكلها واضحة في غاية الظهور والبيان والاستفهام للإنكار عليهم علّهم يرعوون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الصبر على دعوة الحق والعمل في ذلك إلى أن يحكم الله تعالى.

٢ ـ الآيات لا تعطي لأحد إلا بإذن الله تعالى إذ هو المعطي لها فهي تابعة لمشيئته.

٣ ـ من الرسل من لم يقصص الله تعالى أخبارهم ، ومنهم من قص وهم خمسة (٢) وعشرون نبيا ورسولا. وعدم القص لأخبارهم لا ينافي بيان عددهم إجمالا لحديث أبي ذر في مسند أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشرة جما غفيرا.

٤ ـ ذكر منّة الله على الناس في جعل الأنعام صالحة للانتفاع بها أكلا وركوبا لبعضها لعلهم يشكرون بالإيمان والطاعة والتوحيد.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ

__________________

(١) اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركة في ما يضاف إليه أي وهو مستعمل هنا في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فأفاد أن جميع الآيات صالحة للدلالة على وجود الله ووحدانيته في ألوهيته.

(٢) جمع بعضهم من ذكروا في القرآن من الآيات الآتية فقال

حتم على كل ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

الرسل المجمع على أنهم رسل خمسة عشر وهم : نوح ، ابراهيم ، لوط ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، يوسف ، هود ، صالح ، شعيب ، موسى ، هارون ، عيسى يونس ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمختلف في رسالتهم بعد الإجماع على نبوتهم باقي الخمسة والعشرين واختلف في نبوة لقمان وذي القرنين والخضر ومريم عليهم‌السلام.

(٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

شرح الكلمات :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا وغربا.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي عاقبة المكذبين من قبلهم قوم عاد وثمود وأصحاب مدين.

(وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : أي وأكثر تأثيرا في الأرض من حيث الإنشاء والتعمير.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي لم يمنع العذاب عنهم كسبهم الطائل وقوتهم المادية

(فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) : أي عذابنا الشديد النازل بهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية قريش بما يذكرهم به وما يعرض عليهم من صور حية لمن كذب ولمن آمن لعلهم يهتدون قال تعالى (أَفَلَمْ (١) يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أرض الجزيرة شمالا ليروا آثار ثمود في مدائنها وجنوبا ليروا آثار عاد ، وغربا ليرو آثار أصحاب الأيكة قوم شعيب والمؤتفكات قرى قوم لوط : فينظروا نظر تفكر واعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض من مصانع وقصور وحدائق وجنات فما أغنى عنهم لما جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من مال ورجال وقوة مادية.

__________________

(١) الفاء للتفريع وهمزة الاستفهام داخلة على محذوف أي أعجزوا فلم يسيروا والاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم النظر في آثار الهالكين ليحصلوا على العبرة المطلوبة لهم ليؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨٢) أما الآية الثانية (٨٣) فهي قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة والرسالة (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ) (١) (مِنَ الْعِلْمِ) المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحا ومرحا ، (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم ، فلما رأوا عذاب الله الشديد وقد حاق بهم أعلنوا عن توبتهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي قالوا لا إله إلا الله. قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي شديد عذابنا (سُنَّتَ) (٢) (اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) وأخبر تعالى أن هذه سنة من سننه في خلقه وهي أن الايمان لا ينفع عند معاينة العذاب إذ لو كان يقبل الإيمان عند رؤية العذاب وحلوله لما كفر كافر ولما دخل النار أحد. وقول (وَخَسِرَ (٣) هُنالِكَ) أي عند رؤية العذاب وحلوله (الْكافِرُونَ) أي المكذبون المستهزئون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية السير في البلاد للعظة والاعتبار تقوية للإيمان.

٢ ـ القوى المادية لا تغني عن أصحابها شيئا إذا أرادهم الله بسوء.

٣ ـ بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئا عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) قال القرطبي فرحوا بما عندهم من العلم في معناه ثلاثة أقوال قال مجاهد إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا نحن أعلم منهم ولن نعذب ولن نبعث ، وقيل فرحوا بما عندهم من علم الدنيا نحو يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وقيل الذين فرحوا الرسل بما عندهم من العلم بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.

(٢) سنة مصدر سنّ يسن سنا وسنه أي سن الله عزوجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب وجائز أن يكون سنة منصوب والإغراء والتحذير أي احذروا أيها المشركون سنة الله.

(٣) (خَسِرَ هُنالِكَ) هذه الجملة كالفذلكة لقوله فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وهنالك اسم إشارة إلى مكان استعير للإشارة إلى الزمان أي خسروا وقت رؤيتهم بأسنا.

سورة فصّلت (١)

مكية

وآياتها أربع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم ، ويقرأ هكذا حا ميم.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : أي من الله إذ هو الرحمن الرحيم.

(فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي بينت آياته غاية البيان بلسان عربي لقوم يعلمون إذ هم الذين ينتفعون.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : أي مبشرا أهل الإيمان والعمل الصالح بالفوز ، ومنذرا المكذبين الكافرين بالخسران.

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : أي أعرض عن سماع القرآن أكثر مشركي مكة وكفار قريش.

(فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) : أي سماع تعقل وتدبر لينتفعوا بما يسمعون.

(فِي أَكِنَّةٍ) : أي أغطية جمع كنان : ما فيه يكن الشيء ويستر.

__________________

(١) وتسمى سورة حم السجدة وتسمى سورة المصابيح وسورة الأموات لذكر المصابيح والأموات والسجدة وفصلت فيها.

(وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) : أي ثقل فلم نطق السمع.

(وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) : أي مانع وفاصل بيننا فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تفعل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (حم) هذا أحد الحروف المقطعة وتفسيره أن يقال فيه وفي أمثاله من الحروف المقطعة الله أعلم بمراده به. وقد ذكرنا ما أثرنا عن أهل العلم فائدتين هامتين لمثل هذه الحروف المقطعة في أول سورة غافر ، وفي العديد من السور المفتتحة بهذه الحروف فليرجع إليها ولتعرف وتحفظ وقوله (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١) أي هو منزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس كما يقول المبطلون. وقوله (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب فخم جليل القدر فصلت آيته أي بينت حال كون ذلك التفصيل (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢) لسان العرب ويفهمون معاني الكلام وأسراره. وقوله (بَشِيراً وَنَذِيراً) وحال كونه أيضا بشيرا لأهل الإيمان وصالح الأعمال بالفوز بالجنة والنجاة من النار؟ ونذيرا للمشركين المكذبين من عذاب النار ، وقوله تعالى : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ (٣) فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) يخبر تعالى أنه مع بيان الكتاب ووضوح ما جاء به ودعا إليه من التوحيد والخير أعرض أكثر كفار قريش عنه ولم يلتفتوا إليه فهم لا يسمعونه ولا يريدون سماعه بحال ، (وَقالُوا) معتذرين بأقبح الأعذار : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية تسترها من أجل أن لا نفهم ما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء المقتضي لمتابعتك والسير وراءك ، وفي آذاننا وقر أي ثقل فلا تقوى على سماع ما تقول (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٤) ساتر وحائل لنا عنك فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تعمل فاتركنا كما تركناك ، واعمل (٥) على نصرة دينك فإننا عاملون كذلك على نصرة ديننا والحفاظ على معتقداتنا وهذه نهاية المفاصلة التي أبدتها قريش للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) (تَنْزِيلٌ) مبتدأ وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم كأن قيل تنزيل عظيم و (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الخبر و (كِتابٌ) بدل من (تَنْزِيلٌ) و (فُصِّلَتْ) صفة لكتاب.

(٢) في إعراب (قُرْآناً) عدة وجوه أظهرها أن النصب على الحال وجائز أن يكون على الاختصاص بالمدح.

(٣) فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدي فلم يهتدوا ومن البشارة فلم يعنوا بها ومن النذارة فلم يحذروها فكانوا في أشد الحماقة إذ لم يعنوا بالخير ولم يحذروا الشر فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم.

(٤) روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا فقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.

(٥) وقيل اعمل على هلاكنا فإنا عاملون على هلاكك وقيل غير هذا وما في التفسير أولى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تعيّن تعلم اللغة العربية على كل مسلم يريد أن يفهم (١) كلام الله القرآن العظيم.

٢ ـ اشتمال القرآن على أسلوب الترغيب والترهيب وهي البشارة والنّذارة.

٣ ـ بيان شدة عداوة المشركين للتوحيد والداعين إليه في كل زمان ومكان.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) : أي لست ملكا وإنما أنا بشر مثلكم من بني آدم.

(يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) : أي يوحي الله إلي بأن الهكم أي معبودكم أيها الناس إله واحد لا ثاني له ولا أكثر.

(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) : يا خلاص العبادة له دون سواه.

(وَاسْتَغْفِرُوهُ) : أي اطلبوا منه أن يغفر لكم ذنوبكم (٢) التي كانت قبل الاستقامة وهي الشرك والمعاصي.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) : أي عذاب شديد سيحل بهم لإغضابهم الرب بمضادته بآلهة باطلة.

__________________

(١) شاهده قول الأصوليين ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب وما دام لا يفهم الشرع إلا بلغة القرآن وجب تعلم هذه اللغة.

(٢) ذنوبكم التي قارفتموها من الشرك والمعاصي قبل التوبة التي هي الاستقامة على طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : أي زكاة أموالهم وزكاة أنفسهم بما يطهرها من أوضار الشرك والمعاصي.

(لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : أي ثواب الآخرة وهو الجنة ونعيمها لا ينقطع بحال هو أجر غير ممنون.

معنى الآيات :

إنه بعد تلك المفاصلة التي قام بها المشركون حفاظا على الوثنية وجهل الجاهلية أمر تعالى رسوله أن يقول لهم إنما أنا بشر مثلكم في آدميتي لم أدّع يوما غيرها فلم أقل إني ملك ، إلا أني أفضلكم بشيء وهو أنه يوحى إليّ من قبل ربي ، والموحي به إلي هو أنما الهكم الحق إله واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ، وعليه فاخلعوا تلك الأوثان واستقيموا (١) إليه تعالى بإخلاص العبادة والوجوه إليه ، واستغفروه من آثار الذنب السابق قبل الاستقامة على الإيمان والتوحيد وقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) يخبر تعالى أن الويل وهو مرّ العذاب إذ من معاني الويل أنه صديد وقيح أهل النار وما يسيل من أبدانهم وفروجهم للمشركين بربهم الذين لا يؤتون (٢) زكاة أموالهم ، وهم بالآخرة هم كافرون أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء فلذاهم لا يتركون شرا ولا يفعلون خيرا إلا ما قل وندر والنادر لا حكم له.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ (٣) آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنوا بالله وعده ووعيده وشرعه وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والكثير من النوافل بعد تجنبهم الشرك والكبائر من الذنوب والمعاصي هؤلاء لهم أجر غير ممنون (٤) مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم ، والأجر هو الثواب والمراد به الجنة إذ نعيمها لا ينقطع على من ناله وفاز به بحال من الأحوال.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة والتوحيد.

٢ ـ وجوب الاستقامة على شرع الله.

٣ ـ وجوب الاستغفار من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا.

٤ ـ وجوب الزكاة في الأموال ، ووجوب تزكية النفوس بالإيمان وصالح الأعمال.

__________________

(١) (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي وجهوا وجوهكم بالدعاء له والمسألة إليه كما يقال للرجل استقم إلى منزلك أي لا تعرج إلى شيء غير القصد إليه.

(٢) قال ابن عباس لا تؤتون الزكاة أي لا يشهدون أن لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس لأن السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة وقال بعضهم إن قريشا كانوا ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية.

(٣) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن الوعيد المتقدم فكأن سائلا يقول فإن اتعظ هؤلاء المشركون وتابوا من الشرك وترك المعاصي فما جزاؤهم؟ فالجواب أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون.

(٤) المن القطع ومن منّ صدقته فقد قطعها قال الشاعر :

لعمرك ما بابي بذي غلق

على الصديق ولا خيري بممنون

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

شرح الكلمات :

(بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : أي الأحد والاثنين.

(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) : أي شركاء وهذا داخل في حيز الإنكار الشديد عليهم.

(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) : أي الله مالك العالمين وهم كل ما سواه عزوجل من سائر الخلائق.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت

(وَبارَكَ فِيها) : أي في الأرض بكثرة المياه والزروع والضروع.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) : أي أقوات الناس والبهائم.

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) : أي في تمام أربعة أيام وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء.

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) : أي في أربعة أيام هي سواء لمن يسأل فإنها لا زيادة فيها ولا نقصان.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : أي قصد بإرادته الربانية إلى السماء وهي دخان قبل أن تكون سماء.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) : أي الخميس والجمعة ولذا سميت الجمعة جمعة لاجتماع الخلق فيها.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١) : أي ما أراد أن يكون فيها من الخلق والأعمال.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : أي بنجوم.

(وَحِفْظاً) : أي وحفظناها من إستراق الشياطين السمع بالشهب الموجودة فيها.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : أي خلق العزيز في ملكه العليم بخلقه.

معنى الآيات :

إنه بعد الإصرار على التكذيب والإنكار من المشركين أمر تعالى رسوله أن يقول لهم (٢) (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إن كفرهم عجب منكم هل تعلمون بمن تكفرون إنكم لتكفرون بالذي خلق الأكوان كلها علويها وسفليها في ستة أيام ، أين يذهب بعقولكم يا قوم أتستطيعون جحود الله تعالى وجحود آياته وهذه الأكوان كلها آيات شاهدات على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وموجبة له الربوبية عليها والألوهية له فيها دون غيره من سائر خلقه وأعجب من ذلك أنكم (تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي شركاء تسوونهم به وهم أصنام لا تسمع ولا تبصر فكيف تسوّى بالذي خلق الأرض في يومين أي الأحد والاثنين ، وهو رب العالمين أجمعين أي رب كل شيء ومليكه ومالكه.

وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠) (وَجَعَلَ فِيها) أي في الأرض رواسي أي جبالا ثوابت ترسو في الأرض حتى لا تميد بأهلها ولا تميل فيخرب كل شيء عليها ، (وَبارَكَ فِيها) بكثرة المياه والرزق والضروع والخيرات (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (٣) تقديرا يعجز البيان عن وصفه ، والقلم عن رقمه والآلات الحاسبة عن عدّه. وذلك كله من الخلق والتقدير (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) (٤) لمن يسأل عنها إنها الأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء أي مقدرة بأيامنا هذه التي تكونت نتيجة الشمس والقمر والليل والنهار فلا تزيد يوما ولا تنقص آخر.

__________________

(١) الوحي : الكلام الخفي ، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قول ، ومنه فأوحى اليهم أي أومأ اليهم بما يدل على معنى سبحوا بكرة وعشيا قال الشاعر :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرقباء

(٢) الاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم أي لم تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا؟ ومعنى الكفر به تعالى الكفر بانفراده بالألوهية. فلما أنكروا ألوهيته كان كإنكارهم صفات ذاته فصح أنهم كفروا به.

(٣) قال قتادة ومجاهد : خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يومي الثلاثاء والأربعاء.

(٤) أي في تتمة أربعة أيام.

وقوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) في الآية الثالثة (١١) يخبر تعالى أنه بعد خلق الأرض استوى إلى السماء أي قصد بإرادته التي تعلو فوق كل إرادة (إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي بخار وسديم ارتفع من الماء الذي كان عرشه تعالى عليه فقال لها كما قال (لِلْأَرْضِ (١) ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي طائعتين أو مكرهتين لا بد من مجيئكما حسب ما أردت وقصدت فأجابتا بما أخبر تعالى عنهما في قوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي لم يكن لنا أن نخالف أمر ربنا ، (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وهما الخميس والجمعة ، (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي ما أراد أن يخلقه فيها ويعمرها به من المخلوقات والطاعات. وقوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) وهي النجوم وحفظا أي وجعلناها أي النجوم حفظا من الشياطين أن تسترق السمع فإن الملائكة يرجمونهم بالشهب من النجوم فيحترقون أو يخبلون. وقوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ (٢) الْعَلِيمِ) أي ذلك المذكور من الخلق والتقدير تقدير العزيز في ملكه أي الغالب على أمره العليم بتدبير ملكه وأعمال وأحوال خلقه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الكفر بالله لا ذنب فوقه فما بعد الكفر ذنب ، وهو عجيب وأعجب منه اتخاذ أصنام وأحجار أوثانا تعبد مع الله الحي القيوم مالك الملك ذي الجلال والإكرام.

٢ ـ بيان الأيام التي خلق الله فيها العوالم العلوية والسفلية وهي ستة أيام أي على قدر ستة أيام من أيام الدنيا هذه مبدوءة بالأحد منتهية بالجمعة ، وقدرة الله صالحة لخلق السموات والأرض وبكل ما فيهما بكلمة التكوين «كن» ولكن لحكم عالية أرادها الله تعالى منها تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئا فشيئا.

٤ ـ لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية ثم استوى إلى السماء المشعر بأن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، وبين قوله ، والأرض بعد ذلك دحاها من سورة والنازعات المفهم أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء ، إذ فسر تعالى دحو الأرض بإخراج مائها ومرعاها وهو ما ترعاه الحيوانات التي سيخلقها عليها ، ثم قوله خلق الأرض في يومين على صورة يعلمها هو ولا نعلمها نحن ،

__________________

(١) قال ابن عباس قال الله تعالى للسماء أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك وأجري سحابك ورياحك وقال للأرض شقي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

(٢) في الأحاديث الصحيحة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع وأنه خيرها وأفضلها وأن اليهود والنصارى قد اختلفوا فيه فهدى الله الذين آمنوا اليه.

وتقدير الأقوات في قوله وقدر فيها أقواتها لا يستلزم أن يكون فعلا أظهر ما قدره إلى حيز الوجود ، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الأرض أولا ثم خلق السموات وهو الذي صرحت به الأحاديث إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وبعد أن خلق السموات دحا الأرض فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات حسب سنته في ذلك.

٤ ـ بيان فائدتين عظيمتين (١) للنجوم الأولى أنها زينة السماء بها تضاء وتشرق وتذهب الوحشة منها والثانية أن ترمي الشياطين بالشهب من النجوم ذات التأجج الناري.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

__________________

(١) والثالثة الاهتداء بها في معرفة البلاد والقبلة قال تعالى «والنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر».

شرح الكلمات :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) : أي كفار قريش عن الإيمان والتوحيد بعد ذلك البيان المفصل.

(فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) : أي خوّفتكم صاعقة تنزل بكم فتهلككم إن أصررتم على هذا الكفر.

(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : أي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم.

(لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) : أي بدلا عنكم أيها الرسل من البشر.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي بغير أن يأذن الله لهم بذلك العلو والاستكبار والتّجبّر.

(رِيحاً صَرْصَراً) : أي ذات صوت يسمع له صرصرة مع البرودة الشديدة.

(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) : أي مشئومات عليهم لم يفلحوا بعدها.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) : أي أشد خزيا من عذاب الدنيا.

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) : أي استحبوا الكفر على الإيمان إذ الكفر ظلام والإيمان نور.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) : أي الشرك والمعاصي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية قريش فقال تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) (١) بعد ذلك البيان الذي تقدم لهم في الآيات السابقة المبين لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجب للإيمان بالله ولقائه وتوحيده فقل لهم أنذرتكم أي خوفتكم صاعقة (٢) تنزل بكم إن أصررتم على إعراضكم مثل صاعقة عاد وثمود أي عذابا مهلكا كالذي أهلك الله به عادا وثمودا.

وقوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإيمان والتوحيد بعناية فائقة فكان يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم ، قائلا لهم : لا تعبدوا (٣) إلا الله فإنه الإله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم لو شاء (٤) الله ما تقولون لنا لأنزل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيرا قالوا لهم فإننا بما أرسلتم به كافرون فأياسوا الرسل من إجابتهم. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٣) والثانية (١٤) وفي الآية الثالثة (١٥) بين تعالى حال القوم كلا على حدة فقال (فَأَمَّا عادٌ) أي قوم (٥) هود (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فحملهم الكبر الناجم عن القوة

__________________

(١) أي استمروا على إعراضهم بعد دعوتك إياهم وإلحاحك فيها.

(٢) الصاعقة حقيقتها أنها نار تخرج مع البرق تحرق ما تصيبه ، وتطلق على الحادثة المبيدة السريعة الإهلاك.

(٣) جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) تفسير لجملة (جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ).

(٤) هذا قول عاد وثمود لرسوليهم هود وصالح فحكى بهذا اللفظ.

(٥) لما حكى الله تعالى قولتي عاد وثمود لرسوليهم وهو قولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة فصّل في هذه الآيات حال كل من القبيلتين إتماما للتذكير بحالهما والموعظة بالعذاب الذي أصابهما فقال (فَأَمَّا عادٌ.). الخ.

المادية على رفض دعوة هود عليه‌السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلا ما أجمل هنا ، وقوله بغير الحق أي أن استكبارهم لاحق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عزوجل ، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق إذا. وقوله : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ (١) مِنَّا قُوَّةً) وهذا منهم تحد صريح وعلو وعتو واضحان ، ولذا تحداهم الله تعالى بالقوة فقال عزوجل أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة أي أعموا ولم يروا أن الله الذي خلقهم قطعا هو اشد منهم قوة. إذ كل قوة لهم مصدرها الله هو خالقهم وواهب القوة لهم ، فقوتهم ليست ذاتية ولكنها موهوبة إذ يخلق أحدهم وهو لا يقدر على دفع أدنى شيء عن نفسه وقوله : (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) هذا تسجيل عليهم أكبر ذنب وهو جحودهم بآيات الله التي جاء بها رسول الله هود عليه‌السلام كما جحدت قريش آيات الله ، وقوله تعالى (فَأَرْسَلْنا) أي بمجرد أن تأكد كفرهم بجحودهم بآيات الله أرسل الله تعالى (عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) (٢) أي باردة ذات صوت مزعج دامت سبع ليال وثمانية أيام فلم تبق منهم أحدا وهي أيام نحسات (٣) عليهم مشؤمات قال تعالى لنذيقهم أي أرسلناها عليهم لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا. ولعذاب الآخرة أخزى أي أشد خزيا وإهانة لهم وذلة ، وهم لا ينصرون أي لا ناصر لهم من الله عزوجل. هذا بيان حال عاد. وأما ثمود (٤) فقد قال تعالى وأما ثمود قوم صالح فاستحبوا الضلال على الهدى والكفر على الإيمان وقتلوا الناقة وهمّوا بقتل صالح فأخذتهم صاعقة العذاب الهون وذلك صباح السبت فأخذتهم صيحة انخلعت لها قلوبهم فرجفت الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم ، وذلك (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشرك والظلم والكفر والعناد. ونجىّ الله تعالى صالحا ومن معه من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي وكانوا أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة وهو معنى قوله تعالى في ختام الحديث : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون.

__________________

(١) وهذا اغترار بقوة أجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب.

(٢) أصلها من صرر من الصر وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل نحو كبكبوا أصلها كببوا وتجفجف الثوب أصلها تجفف والصرصر هي الشديدة البرودة قال الحطيئة :

المطعمون إذا هبت بصرصرة

الحاملون إذا استودوا على الناس

ومعنى استودوا إذا سئلوا الدية.

(٣) قرأ نافع بسكون الحاء ويجوز كسرها وبه قرأ حفص على أنه صفة مشبهة من نحس إذا أصابه النحس إصابة سوء أو ضر والنحسات بسكون الحاء جمع نحس.

(٤) شروع في تفصيل حال ثمود بعد عاد والهداية التي كانت لهم هداية إرشاد وتكليف بواسطة رسولهم صالح وما آتاهم الله من معجزة الناقة العظيمة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من الإعراض عن إجابة دعوة الحق ، والاستمرار في التمرد والعصيان.

٢ ـ تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله.

٣ ـ دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات.

٤ ـ التنديد بالاستكبار وأنه سبب الكفر والعصيان.

٥ ـ لا مصيبة إلا بذنب «بما كانوا يكسبون (١)» أي من الذنوب.

٦ ـ الإيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة وهما ركنا الولاية ولاية الله تعالى لقوله ألا إن أولياء (٢) الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

__________________

(١) أي لقوله تعالى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون أي بسبب كسبهم السيئات.

(٢) الآية من سورة يوسف عليه‌السلام.

شرح الكلمات :

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم ليساقوا إلى النار مجتمعين.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها) : أي حتى إذا جاءوها أي النار.

(بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي من الذنوب والمعاصي.

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : أي بدأ خلقكم في الدنيا فخلقكم ثم أماتكم ثم أحياكم.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) : أي عند ارتكابكم الفواحش والذنوب أي تستخفون من أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم فتتركوا الفواحش والذنوب.

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ) : أي ولكن عند ارتكابكم الفواحش ظننتم أن الله لا يعلم ذلك منكم.

(أَرْداكُمْ) : أي أهلككم.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) : أي فإن صبروا على العذاب فالنار مثوى أي مأوى لهم.

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) : أي يطلبوا العتبى وهي الرضا فلا يعتبون أي لا يرضى عنهم هذه حالهم أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وفي هذا السياق عرض لمشهد من مشاهد القيامة وهو مشهد حي رائع يعرض أمامهم.

إذ يقول تعالى : (وَيَوْمَ) (١) (يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) أي اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله أي الذين كفروا به فلم يؤمنوا ولم يتقوا ؛ (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيساقون مع بعضهم بعضا. (حَتَّى (٢) إِذا ما جاؤُها) أي انتهوا إليها ، وادعوا أنهم مظلومون وأخذوا يتنصّلون من ذنوبهم ، وقالوا إنهم لا يقبلون شاهدا من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أسماعهم وأبصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون ، وهو قوله تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهنا رجعوا إلى جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ (٣) عَلَيْنا) فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ

__________________

(١) يحشرون إلى النار أي يجمعون ويساقون إليها.

(٢) حرف ابتداء في اللفظ أي أن ما بعدها جملة مستأنفة إلا أنها تفيد معنى الغاية «وما» في ما جاؤها مزيدة للتوكيد.

(٣) شهادة جلودهم وجوارحهم عليهم هي شهادة تكذيب وافتضاح وإلا إدانتهم متحققة بصحائف أعما لهم وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغة جمع العقلاء لأن التحاور معهم أنزلهم منزلة العقلاء.

مَرَّةٍ) أي النشأة الأولى في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وها أنتم قد رجعتم فالقادر على هذا كله قادر على أن ينطقنا وعلى كل شيء أراد إنطاقه ، وقوله (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ (١) أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي وما كنتم تستخفون فتتركوا محارم الله بل كنتم تجاهرون بذلك لعدم إيمانكم بالبعث والجزاء (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) وهو ظن سيء (أَرْداكُمْ) أي أهلككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وهذا هو الخسران المبين وقوله تعالى في الآية الآخيرة من هذا السياق (٢٤) (فَإِنْ يَصْبِرُوا) أي أعداء الله الذين شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم فالنار مثوى أي مأوى لهم لا يخرجون منها أبدا ، وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى أي الرضا فيرضى عنهم فيدخلوا الجنة (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي فما هو بحاصل لهم أبدا فهم إذا بشرّ التقديرين والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها.

٢ ـ التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب فإن جوارح المرء تشهد عليه.

٣ ـ التحذير من سوء الظن بالله تعالى ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه.

أولا يعلم ما يرتكبه ، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه.

٤ ـ وجوب حسن الظن بالله تعالى وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها ، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف كالكبر ونحوه فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ

__________________

(١) في الصحيحين جادثة ذكرت أنها سبب نزول هذه الآية وهي أن عبد الله بن مسعود قال كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وآخر قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر ان كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. قال عبد الله فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) الخ ..

كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) : أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين.

(فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : أي حسنوا لهم الكفر والشرك ، وإنكار البعث والجزاء.

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) : أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإنس.

(وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) : أي الغطوا فيه بالباطل إذا سمعتم من يقرأه.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي بأقبح جزاء أعمالهم التي كانوا يعملون.

(أَعْداءِ اللهِ) : أي من كفروا به ولم يتقوه.

(أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) : أي إبليس من الجن ، وقابيل بن آدم.

(نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) : أي في أسفل النار ليكونا من الأسفلين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش ، فقال تعالى : (وَقَيَّضْنا (١) لَهُمْ) أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين ، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثا سهّل لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها

__________________

(١) (قَيَّضْنا) : أتحنا وهيأنا لهم قرناء أي شياطين يلازمونهم قد يكونون من الجن ومن الإنس إذ الشياطين من الجنسين.

هم منغمسون فيها ، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبدا ، وهو معنى قوله تعالى : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَما خَلْفَهُمْ).

وقوله تعالى : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي بالعذاب (فِي أُمَمٍ (١) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) في حكم الله وقضائه بمقتضى سنة الله في الخسران. هذا ما دلت عليه الأولى (٢٥) وهي قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

وقوله تعالى في الآية الثانية (٢٦) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا (٢) لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا تتأثروا به ، والغوا فيه أي الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس لعلكم تغلبون أي رجاء أن تغلبوا محمدا على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم. وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإسلام.

وكان رد الله تعالى على هذا المكر في الآية التالية (٢٧) (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأنه سيذيق الذين كفروا عذابا شديدا وذلك يوم القيامة وليجزينّهم أسوأ أي أقبح الذي كانوا يعملون أي يجزيهم بحسب أقبح سيئاتهم التي كانوا يعملون. ثم قال تعالى : ذلك الجزاء المتوعّد به الذين كفروا هو جزاء أعداء الله الذين حاربوا رسوله ودعوته وحتى كتابه أيضا. وذلك الجزاء هو النار لهم (٣) فيها دار الخلد أي الإقامة الدائمة جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون فلم يؤمنوا بها ولم يعملوا بما فيها وقوله تعالى في الآية (٢٩) وقال الذين كفروا الآية

__________________

(١) (فِي أُمَمٍ) حال من الضمير في عليهم أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم والظرفية هنا مجازية بمعنى التبعيض أي هم من جملة أمم فدخلت من قبلهم قال الشاعر :

إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو

كاففي آخرين قد أفكوا

(٢) قال ابن عباس كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لا تسمعوا له والغوا فيه فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وفي الصحيح أنهم أخرجوا أبا بكر من مكة خوفا أن يفتن أبناءهم ونساءهم بقراءته القرآن لرقة صوته وبكائه.

(٣) دار الخلد هي النار نزلت النار منزل الظرف فكانت بذلك دار الخلد والخلد البقاء المؤبد في عالم الشقاء.

يخبر تعالى عن الكافرين وهم في النار إذ يقولون ربّنا أي يا ربنا أرنا اللّذين (١) أضلانا من الجن والإنس أي اللذين كانا سببا في إضلالنا بتزيينهم لنا الباطل وتقبيحهم لنا الحق أرناهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار ليكونا من الأسفلين (٢) أي في الدرك الأسفل من النار إذا النار دركات واحدة تحت الأخرى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الاسلام فخبث من جراء كسبه. الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطانا يكون قرينا له فيزين له كل قبيح ، ويقبح له كل حسن.

٢ ـ بيان ما كان المشركون يكيدون به الإسلام ويحاربونه به حتى باللغو عند قراءة القرآن حتى لا يسمع ولا يهتدي به.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء.

٤ ـ بيان نقمة أهل النار على من كان سببا في إضلالهم وإغوائهم ، ومن سن لهم سنة شر يعملون بها كإبليس ، وقابيل بن آدم عليه‌السلام. إذ الأول سن كل شر والثاني سن سنة القتل ظلما وعدوانا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

__________________

(١) (أَرِنَا) أي عين لنا الذين أضلانا من الجن والإنس كناية عن إرادة الانتقام منهم بأن يطؤهم بأقدامهم انتقاما منهم وتعذيبا لهم لأنهم كانوا السبب في شقوتهم قرأ الجمهور أرنا بكسر الراء وقرأ غيرهم بسكون الراء أرنا كما خففوا فخذ إلى فخذ بسكون الخاء.

(٢) هذا التعليل أرادوا به التوطئة لاستجابة الله تعالى لما علموا من غضب الله تعالى فأرادوا أن يتوسلوا إليه تعالى بذلك.

شرح الكلمات :

(قالُوا رَبُّنَا اللهُ) : قالوا ذلك معلنين عن إيمانهم بأن الله هو ربهم الذي لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا) : أي ثبتوا على ذلك فلم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتركوا عبادة الله بفعل الأوامر وترك النواهي.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) : أي عند الموت وعند الخروج من القبر بحيث تتلقاهم هناك.

(أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) : أي بأن لا تخافوا مما أنتم مقبلون عليه فإنه رضوان الله ورحمته ولا تحزنوا عما خلفتم وراءكم.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) : أي فبحكم ولايتنا لكم في الدنيا والآخرة فلا تخافوا ولا تحزنوا.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) : أي ولكم فيها ما تطلبون من سائر المشتهيات لكم.

(نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) : أي رزقا مهيأ لكم من فضل رب غفور رحيم.

معنى الآيات :

لما بين تعالى حال الكافرين في الدار الآخرة وهي أسوأ حال بين حال المؤمنين في الآخرة وهي أحسن حال وأطيب مآل فقال إن الذين قالوا (١) ربنا الله أي لا ربّ لنا غيره ولا إله لنا سواه ، ثم استقاموا (٢) فلم يشركوا به في عبادته أحدا فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي وماتوا على ذلك هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة أي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم لا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم وأبشروا (٣) بالجنة دار السّلام التي كنتم توعدونها في الكتاب وعلى لسان الرسول. (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إذا

__________________

(١) في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك وفي رواية غيرك. قال : قل آمنت بالله ثم استقم وزاد الترمذي قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال فأخذ بلسان نفسه وقال هذا.

(٢) ذكر القرطبي في تفسير الاستقامة أكثر من عشرة أقوال للصحابة والسلف ، ثم قال وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها «اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا وداوموا على ذلك».

(٣) قال وكيع وابن أبي زيد البشري في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وشاهد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس ذلك كراهة الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه قال وإن الفاجر والكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه قال ابن كثير وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه.

كنا نسددكم ونحفظكم من الوقوع في المعاصي ، وفي الآخرة نستقبلكم عند الخروج من قبوركم حتى تدخلوا جنة ربكم. ولكم فيها أي في الجنة ما تشتهي أنفسكم من الملاذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي تطلبون مما ترغبون فيه وتشتهون. (نُزُلاً) أي قرى وضيافة من لدن رب غفور لكم رحيم بكم لا إله إلا هو ولا رب سواه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الإيمان والاستقامة عليه بأداء الفرائض واجتناب النواهي.

٢ ـ بشرى أهل الإيمان والاستقامة عند الموت بالجنة وهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي هذه وفي الآخرة عند خروجهم من قبورهم.

٣ ـ في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، ولأحدهم كل ما يطلبه ويدعيه وفوق ذلك النظر إلى وجه الله الكريم وتلقي التحية منه والتسليم.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) : أي لا أحد أحسن قولا منه أي ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته.

(وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وعمل صالحا وهي شرط أيضا وقال إنني من المسلمين شرط ثالث.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) : أي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي ادفع أيها المؤمن السيئة بالخصلة التي هي أحسن كالغضب بالرضى ، والقطيعة بالصلة.

(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) : أي كأنه صديق قريب في محبته لك إذا فعلت ذلك.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي وما يعطي هذه الخصلة التي هي أحسن.

(إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : أي ثواب عظيم وأجر جزيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالخلق الحسن والكمال.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) : أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك خير أو فعل شر.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : أي فاستجر بالله قائلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بما يصيبهم وينزل بهم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى بشرى أهل الإيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضا فقال : (وَمَنْ) (١) (أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر والثاني وعمل صالحا فأدى الفرائض واجتنب المحارم ، والثالث وفاخر بالإسلام معتزا به وقال إنني من المسلمين ، فلا أحد أحسن قولا من هذا الذي ذكرت شروط كما له ، ويدخل في هذا أولا الرسل ، وثانيا العلماء ، وثالثا المجاهدون ورابعا المؤذنون وخامسا الدعاة الهداة المهديون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٣). وقوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) هذا تقرير إلهي يجب أن يعلم وهو أن الحسنة لا تستوي (٢) مع السيئة وأن السيئة لا تستوي مع الحسنة فالإيمان لا يساوى بالكفر ، والتقوى لا تساوي بالفجور ، والعدل لا يساوى بالظلم.

كما أن أن جنس الحسنات لا يتساوى ، وجنس السيئآت لا يتساوى بل يتفاضل فصيام رمضان لا يساوي بصيام رجب أو محرم تطوعا ، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه وقوله

__________________

(١) يدخل في هذه الآية دخولا أوليا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو أحق وأجدر وهي نازلة فيه ردا على الذين يلغون في القرآن عند سماعه وهي تتناول كل مؤمن متصف بهذه الصفات المعبر عنها في التفسير بالشروط.

(٢) لا في قوله ولا السيئة صلة زيدت للتأكيد إذ الأصل ولا تستوى الحسنة والسيئة وشاهدها قول الشاعر :

ما كان يرضى رسول الله فعلهم

والطيبان أبو بكر ولا عمر

تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١) أي بعد أن عرفت يا رسولنا عدم تساوي الحسنة مع السيئة إذا فادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن من غيرها فإذا الذي (٢) بينك وبينه عداوة قد انقلب في بره بك واحترامه لك واحتفائه بك كأنه ابن عم لك يحبك ويحترمك ولما كانت هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن لا تتأتى إلا لذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكاملة الشريفة قال تعالى : (وَما يُلَقَّاها) أي وما يعطي هذه الخصلة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فكان الصبر خلقا من أخلاقهم (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) في الأخلاق والكمال النفسي ، في الدنيا ، والأجر العظيم وهو الجنة في الآخرة.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ (٣) بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يرشد الرب تعالى عبده ورسوله وكل فرد من أفراد أمته إن نزغه من الشيطان نزغ بأن وسوس له بفعل شر أو ترك خير ، أو خطر له خاطر سوء أن يفزع إلى الله تعالى يستجير به فإن الله تعالى هو السميع العليم فالاستجارة به من الشيطان تحمي العبد وتقيه من وسواس الشيطان وما يلقيه في النفس من خواطر سيئة ، ولله الحمد والمنة على هذه الارشاد الرباني الذي لا يستغنى عنه أحد من عباده.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين.

٢ ـ فضل الإسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به.

٣ ـ تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة. كما أن الحسنات تتفاوت والسيئآت تتفاوت.

٤ ـ وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل.

٥ ـ فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه فيصبح يدفع السيئة بالحسنة.

__________________

(١) قال ابن عباس ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وقيل أيضا هو الرجل يسب الرجل فيقول المسبوب إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك وقال مجاهد هي أن يسلم المرء على من يعاديه إذا لقيه فهو معنى (بالتي هي أحسن).

(٢) قال ابن عباس في هذه الآية ادفع بالتي هي أحسن إلى قوله ولي حميم أمره الله تعالى بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وهو كما قال رضي الله عنه.

(٣) فائدة الاستعاذة بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للنعمة وصقل للنفس مما يغان على القلب كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».

٦ ـ وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس أو ألقى بخاطر سوء إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ) : أي ومن جملة آياته الدالة على ألوهية الرب تعالى وحده.

(اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) : أي وجود الليل والنهار والشمس والقمر.

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) : أي لا تعبدوا الشمس ولا القمر فإنهما من جملة مخلوقاته الدالة عليه.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : أي إن كنتم حقا تريدون عبادته فاعبدوه وحده فإن العبادة لا تصلح لغيره.

(فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) : أي الملائكة.

(وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) : أي لا يملون من عبادته ولا يكلون.

(تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) : أي يابسة جامدة لا نبات فيها ولا حياة.

(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) : أي تحركت ، وانتفخت وظهر النبات فيها.

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) : أي إن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن جملة آياته العديدة الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده ، الليل والنهار وتعاقبهما وانتظام ذلك بينهما فليس الليل سابق النهار ، وكذا الشمس والقمر خلقهما وسيرهما في فلكيهما بانتظام ودقة فائقة وحساب دقيق وعليه فلا تسجدوا (١) للشمس ولا للقمر أيها الناس فانهما مخلوقان من جملة المخلوقات ، ولكن اسجدوا لخالقهما (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٢) كما تزعمون. ثم قال تعالى : لرسوله فإن أبوا أن يستجيبوا لك ويسمعوا ما قلت لهم مستكبرين فاعلم أن الذين عند ربك وهم الملائكة يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون من ذلك ولا يملون.

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ) أي علامات قدرته على إحياء الموتى (٣) للبعث والجزاء إنك أيها الإنسان ترى الأرض أيام المحل والجدب هامدة جامدة لا حركة لها فإذا أنزل الله تعالى عليها ماء المطر اهتزت وربت أي تحركت تربتها وانتفخت وعلاها النبات وظهرت فيها الحياة كذلك إذا أراد الله إحياء الموتى أنزل عليهم ماء من السماء وذلك بين النفختين نفخة الفناء ونفخة البعث فينبتون كما ينبت البقل وقوله : إن الذي أحياها بعد موتها لمحيي الموتى إنه تعالى على فعل كل شيء أراده قدير لا يمتنع عنه ولا يعجزه ، وكيف لا ، وهو إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بالأدلة القطعية الموجبة لله العبادة دون غيره من خلقه.

٢ ـ بيان أن هناك من الناس من يعبدون الشمس ويسجدون لها من العرب والعجم وأن ذلك شرك باطل فالعبادة لا تكون للمخلوقات الخاضعة في حياتها للخالق وإنما تكون لخالقها ومسخرها لمنافع خلقه.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر دليل من أظهر الأدلة وهو موت الأرض بالجدب ثم حياتها

__________________

(١) لا شك أن هناك من كان يسجد للشمس في بلاد العرب ففي اليمن كانوا يعبدون الشمس على عهد ملكة سبأ لقوله تعالى على لسان الهدهد (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ووجد في أصنام قريش صنم يقال له شمس ولذا سموا عبد شمس.

(٢) لا شك أن هنا سجدة من عزائم السجدات إلا أنهم اختلفوا في موضع السجود فمالك يرى أنه يسجد عند قوله (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم يرى السجود عند (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) والأمر واسع ففي أي الموضعين سجد أجزأ والحمد لله.

(٣) في الآية تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير عقيدة الألوهية وسيأتي في الآيات بعد تقرير النبوة المحمدية وهذه أعظم أركان العقيدة الإسلامية. التوحيد البعث والجزاء والنبوة وباقي أركان العقيدة تابعة لهذه الأركان العظيمة.

بالغيث ، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء ومضي أربعين عاما عليها ينزل من السماء ماء فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب كما ينبت النبات ، بالبذرة الكامنة في التربة.

٥ ـ تقرير قدرة الله على كل شيء أراده ، وهذه الصفة خاصة به تعالى موجبة لعبادته وطاعته. بعد الإيمان به وتأليهه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

شرح الكلمات :

(يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) : أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤلونها على غير تأويلها لا بطال حق أو إحقاق باطل.

(لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) : أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم.

(أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي نعم الذي يأتي آمنا يوم القيامة خير ممن يلقى في النار.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) : هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذنا لهم في العمل كما شاءوا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) : أي جحدوا بالقرآن أو الحدوا فيه فكفروا بذلك.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) : أي القرآن لكتاب عزيز أي منيع لا يقدر على الزيادة فيه ولا النقص منه.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : أي لا يقدر شيطان من الجن والإنس أن يزيد فيه شيئا وهذا معنى من بين يديه.

(وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : أي ولا يقدر شيطان من الجن ولا من الإنس أن ينقص منه شيئا

وهذا معنى من خلفه ، كما أنه ليس قبله كتاب ينتقصه ، ولا بعده كتاب ينسخه ، فهو كله حق وصدق ليس فيه ما لا يطابق الواقع.

معنى الآيات :

يتوعد الجبار عزوجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه ، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم.

وقوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى في النار خير ممن يأتي آمنا يوم القيامة فالإلقاء في النار سببه الكفر والإلحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار ، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من أراد الأمن يوم القيامة بعلمه انه خير من الإلقاء في النار. هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم.

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (١) إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ (٢) بَصِيرٌ) هذا الكلام يقال للمستهترين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذنا وإباحة لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر ، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير.

ومثله قوله (إِنَّ الَّذِينَ (٣) كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي القرآن ، (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤) أي منيع بعيد المنال (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بالزيادة والنقصان أو التبديل والتغيير.

ولما كان المراد من هذا الكلام التهديد سكت عن الخبر إذ هو أظهر من أن يذكر والعبارة قد تقصر عن أدائه بالصورة الواقعة له. وقد يقدر لنفعلن بهم كذا وكذا ...

وقوله تنزيل من حكيم حميد أي القرآن المنيع كما له وشرفه ومناعته أتته أنه تنزيل من حكيم في أفعاله وسائر تصرفاته حميد بذلك وبغيره من فواضله وآلائه ونعمه.

__________________

(١) الأمر هنا ليس للإباحة وإنما هو للتهديد كما في التفسير.

(٢) قوله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الجملة تعليلية متضمنة الوعيد والتهديد فهي مؤكدة لما تضمنه قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من التهديد.

(٣) الخبر مقدر تقديره : هالكون أو معذبون وما ذكر في التفسير في تقدير الخبر حسن.

(٤) معنى عزيز ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الإلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل.

٢ ـ التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله أو يؤوّلها على غير مراد الله منها.

٣ ـ تقرير مناعة القرآن وحفظ الله تعالى له ، وأنه لا يدخله النقص (١) ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه إذ منه بدأ وإليه يعود.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

__________________

(١) تضمنت الآية ست صفات للقرآن العظيم هي كالتالي : أنه ذكر يذكر الناس بما يغفلون عنه. أنه ذكر للعرب أي شرف لهم كقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أنه كتاب عزيز والعزيز النفيس والمنيع أيضا إذ أعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله أنه لا يتطرق إليه الباطل ولا يخالطه بحال انه مشتمل على الحكمة وهو حكيم وذو حكمة وحاكم أيضا وأنه تنزيل من حميد والحميد المحمود حمدا كثيرا.

شرح الكلمات :

(ما يُقالُ لَكَ) : أي من التكذيب أيها الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) : أي من التكذيب لهم والكذب عليهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) : أي ذو مغفرة واسعة تشمل كل تائب إليه صادق في توبته.

(وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) : أي معاقبة شديدة ذات ألم موجع للمصرين على الكفر والباطل.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) : أي القرآن كما اقترحوا إذ قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم.

(لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي بينت حتى نفهمها.

(ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) : أي أقرآن اعجمي والمنزل عليه وهو النبي عربي يستنكرون ذلك تعنتا منهم وعنادا ومجاحدة.

(هُدىً وَشِفاءٌ) : أي هدى من الضلالة ، وشفاء من داء الجهل وما يسببه من أمراض.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) : أي ثقل فهم لا يسمعونه وهو عليهم عمى فلا يفهمونه.

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : والمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادي له.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.

(فَاخْتُلِفَ فِيهِ) : أي بالتصديق والتكذيب وفي العمل ببعض ما فيه وترك البعض الآخر كما هي الحال في القرآن الكريم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : أي ولو لا الوعد بجمع الناس ليوم القيامة وحسابهم ومجازاتهم هناك.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لحكم بين المختلفين اليوم وأكرم الصادقون وأهين الكاذبون.

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : أي وليس ربك يا رسولنا بذي ظلم للعبيد.

معنى الآيات :

بعد توالي الآيات الهادية من الضلالة الموجبة للإيمان كفار قريش لا يزيدهم ذلك إلا عنادا واصرارا على تكذيب الرسول والكفر به وبما جاء به من عند ربه ، ولما كان الرسول بشرا يحتاج إلى عون حتى يصبر أنزل تعالى هذه الآيات في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الثبات والصبر فقال

تعالى : (ما يُقالُ لَكَ) (١) يا رسولنا من الكذب عليك والتكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لمن تاب فلذا لا يتعجل بإهلاك المكذبين رجاء أن يتوبوا ويؤمنوا ويوحدوا ، (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي موجع شديد لمن مات على كفره.

وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي كما اقترح بعض المشركين ، (لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هلّا بينت لنا حتى نفهمها ، ثم قالوا : (ءَ أَعْجَمِيٌ) (٢) (وَعَرَبِيٌ) أي أقراآنا عجمي (٣) ونبي عربي مستنكرين ذلك متعجبين منه وكل هذا من أجل الإصرار على عدم الإيمان بالقرآن الكريم والنبي الكريم وتوحيد الرب الكريم.

ولما علم تعالى ذلك منهم أمر رسوله أن يقول لهم قل هو أي القرآن الكريم هدى وشفاء (٤) هدى يهتدي به إلى سبل السعادة والكمال والنجاح ، وشفاء من أمراض الشك والشرك والنفاق والعجب والرياء والحسد والكبر ، والذين لا يؤمنون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا هو أي القرآن في آذانهم وقر أي حمل ثقيل أولئك ينادون من مكان بعيد ولذا فهم لا يسمعون ولا يفهمون.

هذه تسلية وأخرى في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة فاختلفوا فيه فمنهم المصدق ومنهم المكذب ، ومنهم العامل بما فيه المطبق ومنهم المعرض عنه المتبع لهواه وشيطانه الذي أغواه وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) (٥) (سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فيما اختلفوا فيه لحكم لأهل الصدق بالنجاة وأهل الكذب بالهلاك والخسران وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن مريب أي موقع في الريبة وذلك من جراء محادته والمعاندة والمجاحدة ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) وهذه تسلية أعظم فإن من عمل صالحا في حياته بعد الإيمان فإن جزاءه قاصر عليه ينتفع به دون سواه ، (وَمَنْ أَساءَ) أي عمل السوء وهو ما يسوء النفس من الذنوب والآثام فعلى نفسه عائد. سوءه الذي عمله ولا يعود على غيره ، وأخرى في قوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٦) أي ليس هو تعالى بذي ظلم لعباده. فقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) عائد ذلك (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي عائد الإساءة إن فيه لتسلية لكل من أراد أن يتسلى ويصبر.

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فهي جواب لسؤال يثيره قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) الخ.

(٢) في الآية إشارة واضحة إلى عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) معنى (قُرْآناً) كتابا مقروءا إذ ورد في الحديث الصحيح تسمية الزبور قرآنا بمعنى يقرأ ويكتب إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن داود يسر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله «الزبور» في حين يسرج له فرسه.

(٤) حقيقة الشفاء زوال المرض وهو هنا مستعار للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء.

(٥) فيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي موسى الكتاب فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب والعمل والترك.

(٦) المراد بنفي الظلم من الله للعبيد أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم ، لأنه تعالى لما وضع الشرائع وأرسل الرسل صار ذلك قانونا فمن تعداه مهملا له معرضا عنه فقد استوجب العذاب وتعذيبه عدل وليس بظلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول أي حمله على الصبر والسلوان ليواصل دعوته إلى نهايتها.

٢ ـ بيان مدى ما كان عليه المشركون من التكذيب للرسول والمعاندة والمجاحدة.

٣ ـ القرآن دواء وشفاء لأهل الإيمان ، وأهل الكفر فهم على العكس من أهل الإيمان.

٤ ـ بيان سنة الله في الأمم السابقة في اختلافها على أنبيائها وما جاءتها به من الهدى والنور.

٥ ـ قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أجرى مجرى المثل عند العالمين.

٦ ـ نفي الظلم عن الله مطلقا (١).

__________________

(١) فقد روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. وأيضا فالله هو الملك وهل ما يفعله الملك العليم الرحيم العادل في ملكه وعبيده يقال له ظلم؟ والجواب لا.

الجزء الخامس والعشرون

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

شرح الكلمات :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) : أي إلى الله يرد علم الساعة أي متى تقوم إذ لا يعلمها إلا هو.

(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) : أي من أوعيتها واحد الإكمام كمّ وكم الثوب مخرج اليد.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) : أي من أي جنس كان إنسانا أو حيوانا.

(وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) : أي ولا تضع حملها إلا ملابسا بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء.

(قالُوا آذَنَّاكَ) : أي أعلمناك الآن.

(ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) : أي ليس منا من يشهد بان لك شريكا أبدا.

(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي أيقنوا ما لهم من مهرب من العذاب.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى ان علم الغيب قد انحصر فيه فليس لأحد من خلقه علم الغيب وخاصة علم الساعة أى علم قيامها متى تقوم؟ كما أخبر عن واسع علمه وانه محيط بكل الكائنات فما تخرج من ثمرة من كمها (٢) وعائها وتظهر منه إلا يعلمها على كثرة الثمار والأشجار ذات الأكمام ، (وَما تَحْمِلُ (٣) مِنْ أُنْثى) بجنين ولا تضعه يوم ولادته أو إسقاطه إلا يعلمه أي يتم ذلك بحسب علمه تعالى وإذنه ، وهذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه ، ومع هذا فالجاهلون يتخذون له شركاء أندادا من أحجار وأوثان يعبدونها معه ظلما وسفها. ويوم (٤) يناديهم وذلك فى يوم القيامة أين شركائي؟ أي الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لى ، فيتبرءون منهم ويقولون : (آذَنَّاكَ)

__________________

(١) روي أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى قيام الساعة فنزلت (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) والرد الإرجاع.

(٢) الأكمام جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم والكمة بضم الكاف والتأنيث مثله وهو الجف وكفرى الطلع يقال له كفه.

(٣) فهذه ثلاثة أمور وجب رد علمها إلى الله تعالى الأول علم ما تخرجه أكمام النخل من الثمر بقدره وجودته وثباته وسقوطه والثاني حمل الأنثى من الناس والحيوان والتي تلقح والتي لا تلقح ، والثالث وقت وضع الأجنة فهذه وجب رد علمها إلى الله تعالى إذ لا يعلمها إلا هو كسائر الغيوب.

(٤) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : متعلق بمحذوف تقديره اذكر يوم يناديهم ، لما سألوا عن الساعة أعلمهم أن أمر علم وقتها مرده إلى الله وحده فناسب ذكر بعض أحداثها فذكر لهم ذلك.

أعلمناك الآن أنه (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يشهد بأن لك شريكا إنه لا شريك لك (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب عنهم (ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) فى الدنيا ، (وَظَنُّوا) أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي مهرب من عذاب الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استئثار الله تعالى بعلم الغيب وخاصة علم متى تقوم الساعة.

٢ ـ إحاطة علم الله تعالى بكل شىء فما تخرج من ثمرة من أوعيتها ولا تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله تعالى وإذنه.

٣ ـ براءة المشركين يوم القيامة من شركهم ، وغياب شركائهم عنهم.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

شرح الكلمات :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) : أي لا يمل ولا يكل من سؤال طلب المال والصحة والعافية.

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) : أي المرض والفقر وغيرهما فيئوس من رحمة الله قنوط ظاهر عليه اليأس.

(مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) : أي من بعد شدة أصابته وبلاء نزل به.

(لَيَقُولَنَّ هذا لِي) : أي استحققته بعملى ومما لى من مكانة.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ينكر البعث ويقول : ما أظن الساعة قائمة.

(إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) : أي وعلى فرض صحة ما قالت الرسل من البعث ان لى عند الله الجنة.

(أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) : أي أعرض عن الشكر ونأى بجانبه متبخترا مختالا فى مشيته.

(فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) : أى فهو ذو دعاء لربه طويل عريض يا رباه يا رباه.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن الإنسان (١) الكافر الذى لم تزك نفسه ولم تطهر روحه بالإيمان وصالح الأعمال انه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير (٢) أي المال والولد والصحة والعافية فلا يشبع من ذلك بحال. ولئن مسه الشر من ضر وفقر ونحوهما فهو يئوس (٣) قنوط يؤوس من الفرج وتبدل الحال من عسر إلى يسر قنوط ظاهر عليه آثار اليأس فى منطقة وفى حاله كله هذا ما تضمنته الآية الأولى (٤٩) (لا يَسْأَمُ (٤) الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) وأما الآية (٥٠) فإن الله تعالى يخبر ايضا عن الإنسان الكافر إذا أذاقه الله رحمة منه من مال وصحة واجتماع شمل مثلا ، وذلك من بعد ضراء مسته من مرض وفقر ونحوهم ليقولون لجهله وسفهه : هذا لى أي استحققته بمالى من جهد ومكانه وعلم وإذا ذكر بالساعة من أجل أن يرفق أو يتصدق يقول ما أظن الساعة قائمة كما تقولون وإن قامت على فرض صحة قولكم إن لى عنده أي عند الله للحسنى أي للحالة الحسنى من غنى وغيره (٥) وجنة إن كانت كما تقولون.

وقوله تعالى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي يوم القيامة عند عرضهم علينا ، ولنذيقهم من عذاب غليظ يخلدون فيه لا يخرجون منه أبدا.

وقوله تعالى فى الآية الأخيرة (٥١) وإذا انعمنا على الإنسان بنعمة المال والولد والصحة أعرض عن ذكرنا وشكرنا وتخلى عن طاعتنا ونأى (٦) بجانبه متباعدا متبخترا مختالا يكاد يضاهى الطاووس فى مشيته. وإذا سلبناه ذلك ومسه الشر من مرض وفقر وجهد وبلاء فهو ذو دعاء عريض لنا يا رب يا رب يا رب. هذا ليس الرجل الأول الذى ييأس ويقنط ، ذاك كافر ، وهذا مؤمن ضعيف الإيمان جاهل لا أدب عنده ولا خلق. وما أكثر هذا النوع من الرجال فى المسلمين اليوم والعياذ

__________________

(١) قيل المراد بالإنسان الكافر هنا الوليد بن المغيرة ، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف. والآية تحمل وصفا للإنسان الكافر أيا كان والمراد من الدعاء الطلب والرغبة الملحة.

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لتمنى الثالث ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».

(٣) اليأس كالقنوط من رحمة الله كفر بالمؤمن لقوله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

(٤) اشتملت الآية على خلقين عجيبين الأول خلق البطر بالنعمة والغفلة عن الشكر لله تعالى والثاني اليأس والقنوط من رجوع النعمة بعد فقدها.

(٥) يروى عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم للكافر أمنيتان أما في الدنيا فيقول لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، وأما في الآخرة فيقول يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.

(٦) النأي البعد وهو كناية عن عدم التفكر في المنعم عليه ليشكره فعبر عن هذا بالبعد.

بالله تعالى قالأول عائد إلى ظلمة نفسه بالكفر ، وهذا عائد الى سوء تربيته وسوء خلقه وظلمة جهله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حال الإنسان قبل الإيمان والاستقامة فإنه يكون أحط المخلوقات قدرا وأضعفها شأنا.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض الأحداث فيها.

٣ ـ ذم اليأس والقنوط والكبر والاختيال ، والكفر للنعم ونسيان المنعم وعدم شكره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أي أخبروني إن كان القرآن من عند الله كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) : أي ثم كفرتم به بعد العلم أنه من عند الله.

(مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) : أي من يكون أضل منكم وأنتم فى شقاق بعيد؟ لا أحد.

(فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أي في أقطار السموات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها وفى أنفسهم من لطائف الصنعة وعجائب وبدائع الحكمة.

(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) : أي أن القرآن كلام الله ووحيه إلى رسوله حقا ، وأن الإسلام حق.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) : أي فى شك من البعث الآخر حيث يعرضون على الله تعالى.

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) : أى علما وقدرة وعزة وسلطانا.

معنى الآيات :

يأمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمكذبين بالوحي الإلهي الذي يمثله القرآن الكريم حيث قالوا فيه شعر وسحر وأساطير الأولين يأمره أن يقول لهم مستفهما لهم أرأيتم أي أخبرونى إن كان أى القرآن الذى كذبتم به من عند الله وكفرتم به أى كذبتم؟ من يكون أضل منكم وأنتم تعيشون فى

شقاق (١) بعيد اللهم لا أحد يكون أضل منكم عن طريق الهدى إذا فلم لا تثوبون إلى رشدكم وتؤمنون بآيات ربكم فتكملوا عليها وتسعدوا.

ثم قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ (٢) آياتِنا) الدالة على صدقنا وصدق رسولنا فيما أخبرناهم به ودعوناهم إليه من الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء وذلك في (٣) الآفاق أي من أقطار السموات والأرض مما ستكشف عنه الأيام من عجائب تدبير الله ولطائف صنعه ، وفى انفسهم (٤) أيضا أي فى ذواتهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، من ذلك فتح القرى والأمصار وانتصار الإسلام كما أخبر به القرآن ، ووقعة بدر وفتح مكة من ذلك وما ظهر لحدّ الآن من كشوفات فى الآفاق وفى الأنفس مما أشار إليه القرآن ما هو أعجب من ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فنظام الزوجية السارى فى كل جزئيات الكون شاهد قوى على صدق القرآن وأنه الحق من عند الله ، وان الله حق وأن الساعة حق وقوله تعالى : (أَوَلَمْ (٥) يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) هذا توبيخ لهؤلاء المكذبين بإعلامهم أن شهادة الله كافية فى صدق محمد وما جاء به إن الله هو المخبر بذلك والآمر بالإيمان به فكيف يطالبون بالآيات على صدق القرآن ومن نزل عليه والله المرسل للرسول والمنزل للكتاب وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) إعلام منه تعالى بما عليه القوم من الشك فى البعث والجزاء وهو الذى سبب لهم كثيرا من أنواع الشر والفساد. وقوله : (أَلا إِنَّهُ (٦) بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) علما وقدرة وعزة وسلطانا فما أخبر به عنهم من علمه وما سيجزيهم به من عذاب إن أصروا على كفرهم من قدرته وعزته. ألا فليتق الله امرؤ مصاب بالشك فى البعث وكل الظواهر دالة على حتميته ووقوعه فى وقته المحدد له.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالكفر بالقرآن والتكذيب بما جاء فيه من الهدى والنور.

٢ ـ لا أضل ممن يكذب بالقرآن لأنه يعيش فى خلاف وشقاق لا أبعد منه.

٣ ـ صدق وعد الله تعالى حيث أرى المشركين وغيرهم آياتيه الدالة على وحدانيته وصحة دينه وصدق أخباره ما آمن عليه البشر الذين لا يعدون كثرة.

__________________

(١) الشقاق العداء والمراد به العداء لله والرسول والمؤمنين الناجم عن ردهم القرآن وتكذيبهم بالوحي المثبت للنبوة المحمدية.

(٢) الآيات تشمل آيات القرآن والآيات الخارجة عن القرآن.

(٣) الآفاق جمع أفق الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها والناحية من قبة السماء.

(٤) قال القرطبي (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين ، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما ، وفي أذنيه وكيف يفرق بين الأصوات المختلفة إلى غير ذلك.

(٥) المعنى : تكفيك شهادة ربك بصدقك فلا تلتفت إلى تكذيبهم.

(٦) وصف الله بالمحيط هو كذلك محيط بعلمه وقدرته وقهره لكل خلقه.

٤ ـ ما من اكتشاف ظهر ويظهر إلا والقرآن أدخله فى هذه الآية سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم

٥ ـ الإشارة إلى أن الإسلام سيعلم صحته وسيدين به البشر أجمعون فى يوم ما من الأيام.

٦ ـ تقرير البعث والجزاء. ومظاهر قدرة الله تعالى المقررة له.

سورة الشورى

مكية وآياتها ثلاث وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

شرح الكلمات :

(حم عسق) (١) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا : حم عسق وتقرأ هكذا. حاميم عين سين قاف.

(كَذلِكَ يُوحِي (٢) إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : أي مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك وإلى الذين من قبلك. الذى يوحى إليك.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

وهو العزيز الحكيم : أي العزيز فى انتقامه من أعدائه الحكيم فى تدبيره لأوليائه.

(يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) : أي يتشققن من عظمة الرحمن وجلاله.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : أي آلهة يعبدونها.

__________________

(١) ان قيل لم ما وصلت حم عسق ببعضهما كما وصلت في المص ، المر فالجواب أن عسق ثلاثة أحرف فلم توصل ب حم بخلاف المص المر فإن الموصول حرف واحد وهو الصاد والراء.

(٢) العدول عن صيغة الماضي إلى المضارع إيذان بأن إيحاء الرسول متجدد لا ينقطع مدة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : أي يحصي لهم اعمالهم ويجزيهم بها.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي ولست موكلا بحفظ أعمالهم وإنما عليك البلاغ.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (حم عسق) الله أعلم بمراده به وقد تقدم التنبيه إلى أن هذا من المتشابه الذى يجب الإيمان به وتفويض أمر فهم معناه إلى منزله وهو الله سبحانه وتعالى وقد ذكرنا ان له فائدتين جليلتين تقدمتا فى كثير من فواتح السور المبدوءة بمثل هذه الحروف المقطعة فليرجع إليها.

وقوله (كَذلِكَ يُوحِي (١) إِلَيْكَ) أي مثل ذلك الإيحاء بأصول الدين الثلاثة وهى التوحيد والنبوة والبعث يوحى إليك بمعنى أوحى إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل الله العزيز (٢) فى انتقامه من اعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه وقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ (٣) وَما فِي الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وهو العلى أى ذو العلو المطلق على خلقه العظيم فى ذاته وشأنه وحكمه وتدبيره سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقوله تعالى (تَكادُ (٤) السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتصدعن ويتشققن من فوقهن من عظمة الرب تبارك وتعالى والملائكة يسبحون (٥) بحمد ربهم أي يصلون له ويستغفرون لمن فى الأرض أي يطلبون المغفرة للمؤمنين فهذا من العام الخاص بما في صورة المؤمن إذ فيها ويستغفرون للذين آمنوا وقوله تعالى (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إخبار بعظيم صفاته عزوجل وهما المغفرة والرحمة يغفر لمن تاب من عباده ويرحم بالرحمة العامة سائر مخلوقاته فى هذه الحياة ويرحم بالرحمة الخاصة عباده الرحماء وسائر عباده المؤمنين فى دار السّلام وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ (٦) دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء آلهة يعبدونهم هؤلاء الله حفيظ عليهم فيحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم بها يوم القيامة ، وليس على الرسول من ذلك شىء إن عليه إلّا البلاغ وقد بلغ وهو معنى قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) تحفظ عليهم أعمالهم وتجزيهم بها وفى الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه لأنه كان يشق عليه إعراض المشركين واصرارهم على الشرك بالله تعالى.

__________________

(١) المعنى الإجمالي لهذه الجملة هو كما في قوله (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) فهو تشبيه إيحاء بإيحاء.

(٢) (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : وصفان لاسم الجلالة هما مقتضى الوحي الإلهي إذ الوحي يكون من عزيز لا يحال بين إرادته وحكيم يضع الأمور في مواضعها فلا يعاب عليه اختياره للوحي إليك.

(٣) هذه الجملة مقررة لما تقدم من جلال الله وكماله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده ولقائه وبعثه رسوله.

(٤) قرأ نافع وحده يكاد بالياء وقرأ باقي القراء حفص وغيره بالتاء وسبب تفطرهن هو الخوف من عظمة الرب قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما «فرقا» أي خوفا.

(٥) أي ينزهونه عما لا يجوز وصفه به وعمّا لا يليق بجلاله ، وقيل يتعجبون من جرأة المشركين فيسبحون.

(٦) لما أقام تعالى الحجج والبراهين على توحيده ونبوة رسوله فسبحت له الملائكة واستغفرت للمؤمنين الموحدين وبقي المشركين على اتخاذهم أولياء كأنما قال لرسوله لا يهمك أمرهم فإن الله يحصي أعمالهم ويحفظها لهم ويجزيهم بها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة الوحى بين سائر الأنبياء إذ هى تدور على التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والترغيب فى العمل الصالح ، والترهيب من العمل الفاسد.

٢ ـ بيان عظمة الله تعالى وجلاله وكماله حتى إن السموات تكاد يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمده تعالى ويستغفرون للمؤمنين (١).

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه بانه غير موكل بحفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها انما هو الله تعالى ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

شرح الكلمات :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي ومثل ذلك الإيحاء إليك وإلى من قبلك أوحينا إليك.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي بلسان عربى.

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) : أي علة الإيحاء هى إنذارك أهل أم القرى مكة ومن حولها من القرى أي تخوفهم عذاب الله إن بقوا على الشرك.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) : أي وتنذر الناس من يوم القيامة إذ هو يوم يجمع الله فيه الخلائق.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك فى مجيئه وجمع الناس فيه.

__________________

(١) جائز أن يكون المستغفرين للمؤمنين حملة العرش وقد ورد هذا في السنة وأن يكن غيرهم يستغفرون لمن في الأرض عند ما يرون كفرهم وباطلهم وجرأتهم على ربهم يطلبون لهم عدم المؤاخذة إذ لو آخذهم بذنوبهم لأهلكهم.

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) : أي المؤمنون المتقون.

(وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) : أي الكافرون.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين الإسلام وبذلك يكون الجميع في الجنة.

(وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) : أي فى الإسلام أولا ثم في الجنة ثانيا.

(وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : أي المشركون ليس لهم من ولي يتولاهم ولا نصير ينصرهم فهم في النار.

أم اتخذوا من دون الله أولياء : أي بل اتخذوا من دونه تعالى شركاء ألهّوهم من دون الله.

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) : أي الولي الحق ومن عداه فلا تنفع ولايته ولا تضر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) أي ومثل ذلك الإيحاء الذى أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك أوحينا إليك قرآنا عربيا أي بلسان عربى يفهمه قومك لأنه بلسانهم لتنذر به أي تخوف أم القرى (٢) ومن حولها من الناس عاقبة الشرك والكفر والظلم والفساد وتنذر أيضا الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة فإنه يوم هول عظيم وشر مستطير ليتوقوه بالإيمان والتقوى. إنه يوم يكون فيه الناس والجن فريقين لا ثالث لهما : فريق فى الجنة (٣) بإيمانه وتقواه لله بفعل أوامره وترك نواهيه ، وفريق في السعير بشركه وكفره بالله وعدم تقواه فلا امتثل أمرا ولا اجتنب نهيا.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ (٤) أُمَّةً واحِدَةً) أي في الدنيا على دين الإسلام الذى هو دين آدم فنوح فإبراهيم فسائر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إذ هو عبارة عن الإيمان بالله وبما أمر الله بالإيمان به ، والانقياد لله ظاهرا وباطنا بفعل محابه تعالى وترك مكارهه ولو كانوا في الدنيا على ملة الإسلام لكانوا في الآخرة فريقا واحدا وهو فريق الجنة ولكن لم يشأ ذلك لحكم عالية فهو تعالى يدخل من يشاء فى رحمته فى الدنيا وهي الإسلام وفى الآخرة هي الجنة ، والظالمون أي المشركون الذين رفضوا التوحيد والإسلام لله (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فهم إذا فى عذاب السعير. وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) (٥) أي الظالمون من دون الله أولياء من دون الله ليشفعوا

__________________

(١) القرآن مصدر نحو غفران وأطلق على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارثون لحسنه وفوائده وعظيم مثوبته.

(٢) كنيت مكة بأم القرى لأنها أقدم المدن العربية وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها.

(٣) جملة فريق الخ ابتدائية لأنها جواب لمن سأل عن حال الناس وهم مجتمعون في عرصات القيامة فأجيب بأنهم فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.

(٤) سبق هذا الكلام مستأنفا استئنافا ابتدائيا لغرض تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لما ينالهم من هم وكرب من عدم إيمان من يدعونهم إلى الإيمان ولم يؤمنوا.

(٥) (أَمِ) للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر على المشركين اتخاذهم أولياء من دون الله لا تنفعهم أي نفع ويتركون الله الولي الحميد فهو أحق بأن يتخذ وليا في الدنيا والآخرة.

لهم جهلا منهم بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ورضاه فعلوا ذلك وما كان لهم ذلك لأن الولي الحق هو الله فلم لا يتخذونه وليا ، وهو الولي الحميد وهو يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير فمن أحق بأن يتولىّ من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير أم من لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، والجواب معلوم ، ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحى الإلهى.

٢ ـ شرف مكة بتسميتها أم القرى أي أم المدن والحواضر.

٣ ـ مشروعية التعليل للأفعال والأحكام.

٤ ـ إنقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير.

٥ ـ لم يشأ الله ان يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى.

٦ ـ من طلب ولاية غير الله هلك؟ ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمه في دنياه وأخراه.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

شرح الكلمات :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي من أمور الدين والدنيا مع الكفار أو مع المؤمنين.

(فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) : هو الذي يقضي فيه في الدنيا بما ينزل من وحى على رسوله وفى الآخرة إذ الحكم له دون غيره.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ) : أي قل لهم يا رسولنا ذلكم الحاكم العدل العظيم الله ربي عليه

(أُنِيبُ) : توكلت أي فوضت أمرى إليه ، وإليه لا إلى غيره أرجع فى أمورى كلها.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) : أي بأن جعلكم ذكرا وأنثى ، ومن الأنعام كذلك.

(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) : أي يخلقكم فى هذا التدبير وهو من الذكر والانثى يخرجكم.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : أي ليس مثل الله شيء إذ هو الخالق لكل شيء فلا يكون مخلوق مثله بحال من الأحوال.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم.

معنى الآيات :

يقول تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ (١) فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أمور الدين والدنيا أيها الناس فحكمه إلى الله تعالى هو الذي يحكم فيه بالعدل فردوه إليه سبحانه وتعالى فإنه يقضى بينكم بالحق. وهنا أمر رسوله أن يقول للمشركين ذلكم المذكور بصفات الجلال والكمال الحكم العدل الذى يقضى ولا يقضى عليه الله ربي الذى ليس لى رب سواه عليه توكلت ففوضت أمرى إليه واثقا فى كفايته وإليه وحده أنيب أي أرجع فى أمورى كلها ، ثم واصل ذكر صفاته الفعلية فقال (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى خالق السموات السبع والأرض مبدعهما من غير مثال سابق (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (٢) أَزْواجاً) إذ خلق حواء من ضلع آدم ثم جعلكم تتناسلون من ذكر وانثى ومن الأنعام ازواجا أيضا وهما الذكر والأنثى وقوله (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي (٣) يخلقكم فيه أي في هذا النظام نظام الذكر والأنثى كأن الذكورة والأنوثة معمل من المعامل يتم فيه خلق الإنسان والحيوان فسبحان الخلاق العليم.

وقوله : (لَيْسَ (٤) كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥) هذا تعريف عرف تعالى به نفسه ليعرف بين عباده وهو أنه عزوجل ليس مثله شيء أي فلا شيء مثله فعرف بالتفرد بالوحدانية فالذي ليس له

__________________

(١) قول القرطبي هذا حكاية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين ما هو بظاهر ، بل هو إرشاد الله لرسوله والمؤمنين أن يقولوا لمن خالفهم من المشركين وأهل الكتاب إن الله قد حكم بصحة الإسلام فهو الدين الذي يجب أن يدين به الإنسان لربه عزوجل لا غيره من الأديان الباطلة.

(٢) الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير فاطر.

(٣) الذرء : بث الخلق وتكثيره والمضارع يذرؤكم لإفادة الحدوث والتجدد المستمرين.

(٤) ومعنى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : ليس مثله شيء فالكاف مقحمة لا غير ، ولما كانت للتشبيه ومثله كذلك فهي إذا لتأكيد نفي الشبيه لله تعالى.

(٥) لما كانت جملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) صفة سلبية أعقب عليها بصفات ايجابية وهي كونه تعالى سميعا بصيرا ، وهكذا الحكم في صفات الله تعالى فيثبت له ما أثبته هو لنفسه وأثبته له رسوله من الصفات العلى وينفى عنه من صفات النقص كالمثلية والتشبيه ما نفاه تعالى هو عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مثل ولا مثله شيء هو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو السميع لكل الأصوات العليم بكل الكائنات.

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) أي له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، وله مغاليقها فهو تعالى يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويضيق ابتلاء ، لأنه بكل شيء عليم فلا يطلب الرزق إلّا منه ، ولا يلجأ فيه إلا إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب ردّ ما اختلف فيه إلى الله تعالى ليحكم (٢) فيه وهو الرد إلي الكتاب والسنة.

٢ ـ وجوب التوكل عليه والإنابة إليه فى كل الأمور.

٣ ـ تنزيه الله تعالى عن مشابهته لخلقه مع وجوب الإيمان باسمائه الحسنى وصفاته العليا.

٤ ـ وجوب الإيمان بأن الله هو الرزاق بيده مفاتح خزائن الأرزاق فمن شاء وسع عليه ، ومن شاء ضيق ، وأنه يوسع لحكمه ويضيق لأخرى.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

__________________

(١) المقاليد جمع إقليد أو مقلاد على غير قياس وهو المفتاح ، والمقاليد للخزائن وهي ما أودع الله تعالى من أرزاق السموات والأرض لعباده ، فلذا هو يبسط الرزق ويقدر حسب علمه وحكمته.

(٢) شاهده قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) «الآية من سورة النساء».

شرح الكلمات :

(ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي شرع لكم من الدين الذى وصى به نوحا والذى أوحينا به إليك.

(وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) : أي والذى وصينا باقى أولى العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات.

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) : أي بأن اقيموا الدين الذى شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه.

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) : أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) : أي يختار الى الإيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك.

(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : أي ويوفق لطاعته من ينيب اليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه ، بخلاف المعرضين المستكبرين.

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي حملهم البغي على التفرق في دين الله.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : أي ولو لا ما قضى الله به من تأخير العذاب على هذه الأمة إلى يوم القيامة.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لحكم الله بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي وان الذين أورثوا الكتاب من بعد الأولين وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب.

(لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) : أي لفى شك مما جئتهم به من الدين الحق وهو الإسلام.

معنى الآيات :

يخاطب تعالى رسوله والمؤمنين فيقول وقوله الحق : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (١) إذ هو أول حامل شريعة من الرسل والذي أوحينا إليك يا محمد (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) من أولى العزم من الرسل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (٢) وهو دين واحد قائم على الإيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه ، وعدم التفرق فيه ، لأن التفرق فيه بسبب تضيعه كلا أو بعضا.

__________________

(١) المراد مما شرع لنا هو الإيمان به تعالى ربا وإلها وعبادته وحده وترك عبادة ما سواه ، أما الأحكام فتختلف بحسب الأمم والأزمان فهذه الآية هي كقوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

(٢) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) في محل رفع خبر. أي هو إقامة الدين وعدم التفرق فيه أي الموصى به هو إقامة الدين ، وإقامته جعله قائما تعتقد عقائده وتؤدى عبادته وتقام أحكامه لا يسقط منه شيء.

وقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى (١) الْمُشْرِكِينَ) من كفار قريش (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام ، إذا فادعهم واصبر على اذاهم والله يجتبى اليه أي يختار للإيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل ، ولا يستكبرون عن الحق إذا عرفوه ، ويهدى إليه أي ويوفق لطاعته من من شأنه الإنابة والرجوع إلى ربّه فى أموره كلها.

وقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقُوا) (٢) أي وما تفرق العرب واليهود والنصارى في دين الله فآمن بعض وكفر بعض الأمن بعد ما جاءهم العلم الصحيح يحمله القرآن الكريم ونبيّه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. والحامل لهم على ذلك هو البغي والحسد. وقوله ولو لا كلمة سبقت من ربك وهو عدم معالجة هذه الأمة المحمدية بعذاب الإبادة والاستئصال ، وترك عذابهم إلى يوم القيامة لو لا هذا لعجل لهم العذاب من أجل اختلافهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين. وهو معنى قوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ (٣) سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي فرغ منهم بالفصل بينهم بإهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (٤) أي من بعد اليهود والنصارى وهم العرب إذ أنزل الله فيهم كتابه القرآن الكريم لفى شك منه أي من القرآن والنبى والدين الإسلامي مريب أي بالغ الغاية في الريبة والاضطراب النفسى ، كما ان اللفظ يشمل اليهود والنصارى إذ هم أيضا ورثوا الكتابين عمن سبقهم وأنهم فعلا في شك من القرآن ونبيّه والإسلام وشرائعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دين الله واحد وهو الإيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ حرمة الاختلاف فى دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضا.

٣ ـ مرد التفرق في الدين إلى الحسد والبغى بين الناس ، فلو لم يحسد بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض لما تفرقوا فى دين الله ولأقاموه متجمعين فيه.

__________________

(١) قال قتادة كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وضاق بها إبليس وجنوده فأبى الله عزوجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من ناوأها.

(٢) قال ابن عباس يعني قريشا وهو صحيح إذ كانوا يقولون : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم إلا أن دخول أهل الكتاب في هذا الخطاب وارد وله شواهد. إذ الآية مبينة لسنة من سنن الله تعالى وهي كون الأمة متحدة على الباطل فإذا جاءها الحق قبله أناس ورفضه آخرون فيكون التفرق.

(٣) أي في تأخير العذاب على مستحقيه إلى الموعد الذي حدده لهم في الدنيا أو في الآخرة لكان عزوجل حكم بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.

(٤) ال في الكتاب للجنس ليشمل التوراة والإنجيل معا.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

شرح الكلمات :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ) : أي فالى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله.

(وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) : أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التى بعثت بها فإنها الحق.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) : أي ولست كالذين يؤمنون بيعض ويكفرون ببعض.

(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) : أي أمرنى ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذى هو خلاف الجور.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) : أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم.

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) : وسيجزى كل منا بعمله خيرا كان أو شرا.

(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) : أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق.

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) : أي يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) : أي يجادلون فى دين الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) : أي بالإيمان لظهور معجزته وهم اليهود.

(حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) : أي باطله عند ربهم.

(وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) : أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) (١) أي فإلى ذلك الدين الحق الذى هو الإسلام الذى شرعه الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه اليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذى لا يقبل دينا سواه ، ولا يكمل الإنسان في أخلاقه ومعارفه وأدابه ولا يسعد فى الدارين إلا عليه واستقم (٢) عليه (٣) كما أمرك ربك ، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذى لا يزيغ عنه الا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب. وقل فى صراحة ووضوح آمنت بما أنزل الله من كتاب فلا أومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى ، وقل لهم أمرنى ربى أن أعدل (٤) بينكم فى الحكم إذا تحاكمتم إليّ ، كما أنى لا أفرق بينكم إذ اعتبركم على الكفر سواء فكل من لم يكن على الإسلام الذى كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذى عليه انا واصحابى اليوم فهو كافر من أهل النار.

وقوله تعالى (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي أمرنى أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه ، لنا أعمالنا ولكم اعمالكم (٥) وسيجزى كل منا بعمله السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها ، إلا أن الكافر لا تكون له حسنة ما دام قد كفر بأصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه ، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعى إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير فى النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضى لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضى لأهل الباطل بالنار والخلود فيها.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي (٦) اللهِ) أي في دين الله النبى والمؤمنين يريدون أن يردوهم

__________________

(١) قال القرطبي اللام هنا بمعنى إلى وله نظائر مثل بأن ربك أوحى لها أي إليها وأولى أن تكون اللام للتعليل أي لأجل ما ذكر من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه فادع.

(٢) الاستقامة الاعتدال والسين والتاء فيها للمبالغة مثل أجاب استجاب والمراد هنا الاستقامة المعنوية وهي ملازمة الآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة والتمسك بأهداب الشريعة.

(٣) كما أمرت هذه الكاف كالتي في قوله تعالى واذكروه كما هداكم أعطيت معنى التقليل مثل كما صليت على ابراهيم وما في التفسير أولى من هذا فإن المراد على نحو ما أمرك لا تخالفه.

(٤) هذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فقد نصر الله رسوله وحكم اليهود وعدل بينهم وذلك في المدينة وخيبر تيماء والآية نزلت بمكة.

(٥) هذه صور من صور الإنصاف والعدل.

(٦) قال مجاهد في قوله تعالى والذين يحاجون في الله الآية قال هؤلاء رجال طمعوا أن تعود الجاهلية بعد ما دخل الناس في الإسلام. وقيل إنهم اليهود والنصارى والكل جائز ويقع وواقع وما في التفسير أوضح وأصح.

إلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله أفواجا ، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة ، وعليهم غضب أي من ربهم ولهم عذاب شديد فى الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت فى يهود بالمدينة نصبوا انفسهم خصوما لأصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم فى الإسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم وأسكتهم بهذه الآية متوعدا إياهم بالغضب والعذاب الشديد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الدعوة إلى الإسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإسلام.

٢ ـ حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير (١) معهم وموافقتهم فى باطلهم.

٣ ـ وجوب الاستقامة على الإسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق.

٤ ـ تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا اهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل ، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ

__________________

(١) الأهواء جمع هوى وهو الحب وغلب على حب ما لا نفع فيه إذ هو نابع عن ميل نفساني مناف للخير والعدل ويغلب اطلاق لفظ العشق عليه.

ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١))

شرح الكلمات :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) : أي أنزل القرآن متلبسا بالحق والصدق لا يفارقه أبدا.

(وَالْمِيزانَ) : أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) : أي أيّ شىء يجعلك تدرى قرب الساعة إلا أن يكون الوحى الإلهى.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : أي يطالب المكذبون بها لأنهم لا يخافون ما فيها لعدم إيمانهم به.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) : أي خائفون وذلك لإيمانهم فهم لا يدرون ما يكون لهم فيها من سعادة أو شقاء ولذا هم مشفقون.

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) : أي ان الساعة حق واجبة الإتيان لا محالة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) : أي إن الذين يجادلون فى الساعة شاكين فى وقوعها.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : أي برهم وفاجرهم بدليل أنهم يعصونه وهو يرزقهم ولا يعاقبهم.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) : أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة.

(نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) : أي نضاعف له ثوابه الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) : أي من كان يريد بعمله متاع الحياة الدنيا من طيباتها.

(نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) : أي نعطه منها ما قدر له وليس له فى الآخرة من حظ ولا نصيب.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) : أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم من الدين.

(ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) : أي ما لم يشرعه الله تعالى وهو الشرك.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي ولو لا كلمة الفصل التى حكم الله بها بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لأهلكهم اليوم على شركهم وأنجى المؤمنين.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) (١) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنه هو

__________________

(١) جائز أن يكون الكتاب اسم جنس يشمل الكتب الإلهية إذ الله تعالى هو منزلها وجائز ان يكون المراد به القرآن. وال فيه للتفخيم من شأنه كأنه الكتاب الفذ في بابه.

الذى أنزل الكتاب أى القرآن بالحق والصدق وأنزل الميزان (١) وذلك من أجل احقاق الحق فى الأرض وإبطال الباطل فيها ، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم إلا شرع الله وفى ذلك كمال الإنسانية وسعادتها ، وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) (٢) (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي أي شىء جعلك تدري قرب الساعة إنّه الوحى الإلهى لا غير وقوله (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم الذين يطالبون بإتيانها في غير وقتها ويستعجلون الرسول بها بقولهم متى الساعة؟ أما المؤمنون بالبعث والجزاء فإنهم مشفقون أى خائفون من وقوعها لأنهم لا يدرون مصيرهم فيها ولا يعلمون ما هم صائرون اليه من سعادة أو شقاء وقوله (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أى والمؤمنون يعلمون أن الساعة حق واجبة الوقوع ليحكم الله فيها بين عباده ويجزى كل واحد بعمله ، ويقتصّ فيها من المظلوم للظالم فلذا هي واقعة حتما لا تتخلف ابدا.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأن الذين يشككون فى الساعة ويجادلون فى صحة وقوعها فى ضلال عن الهدى والصواب والرشد ، بعيد لا يرجى لهم معه العودة إلى الصواب والهدى فى هذه المسألة من مسائل العقيدة. وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) يخبر تعالى بأنه ذو لطف بعباده مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم يكفر به الكافرون ويعصيه العاصون وهو يطعمهم ويسقيهم ويعفو عنهم ولا يهلكهم بذنوبهم فهذا من دلائل لطفه بهم. يرزق من يشاء أي يوسع الرزق على من يشاء ويقدر على من يشاء حسب ما تقضيه تربيتهم فلا يدل الغنى على الرضاء ولا الفقر على السخط. وهو تعالى القوى القادر الذى لا يعجزه شيء العزيز فى انتقامه ممن أراد الانتقام منه وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ (٣) حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) ، وهذا من مظاهر لطفه بعباده وهو أن من أراد منهم بعمله ثواب الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين المتقين نزد له فى حرثه أي يضاعف له أجر عمله الحسنة بعشر الى سبعمائة ويضاعف لمن يشاء ومن كان يريد بعمله حرث الدنيا أى متاع الحياة الدنيا يؤته على قدر عمله للدنيا وهو ما قدره له أزلا وجعله مقدورا له لا بد نائله ، وما له فى الآخرة من نصيب لأنه لم يعمل لها فلاحظ ولا نصيب له فيها إلا النار وبئس القرار.

وقوله تعالى فى الآية (٢١) (أَمْ لَهُمْ (٤) شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) يقول

__________________

(١) هل المراد من الميزان العدل أو هو الآلة التي يوزن بها والظاهر أنه الآلة التي يوزن بها إذ بها يتم العدل ولقوله تعالى .. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وإنزاله إلهام وضعه والعمل به.

(٢) (ما) استفهامية أي من جعلك تدري قرب الساعة. قال ابن عباس ما قال تعالى فيه وما أدراك فقد أدراه ، وما قال فيه وما يدريك فإنه لم يدره به.

(٣) المراد بالحرث العمل والكسب قال الشاعر :

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته

ومن يحترث حرثى وحرثك يهزل

بهذه الآية رد على من زعم أن المرء لو دخل ماء للتبرد فيه أن له أن يصلي به لأن الآية نص في إرادة العمل والثواب بحسب الإرادة التي هي النية.

(٤) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام للتقريع والتوبيخ.

أللمشركين من كفار قريش شركاء من الشياطين شرعوا لهم دينا وهو الشرك لم يأذن به الله ، وهذا إنكار عليهم ، واعلان غضب شديد من أجل شركهم الذى زينته لهم الشياطين فصرفتهم عن الدين الحق إلى الدين الباطل ، ولذا قال : ولو لا كلمة الفصل لقضى بينهم أي ولو لا أنه تعالى قضى بأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لعذبهم فى الدنيا وأهلكهم فيها قبل الآخرة ، وذلك لاتخاذهم دينا لم يشرعه لهم. وقوله تعالى وإن الظالمين أي المشركين لهم عذاب أليم أي موجع وذلك يوم القيامة وهذا وعيد للمشركين الذين اتخذوا الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان دينا وأعرضوا عن دين الله الذى أوصى به نوحا وأوحاه الى محمد خاتم رسله ، كما أوصي به ابراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان بعض الحكمة فى إنزال الكتاب أى القرآن والميزان وهو أن يحكم الناس بالقسط.

٢ ـ بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحى الإلهى مثل اقترب للناس حسابهم.

٣ ـ المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها.

٤ ـ بيان لطف الله بعباده فله الحمد وله المنة والشكر.

٥ ـ بيان وجوب إصلاح النيات فإن مدار العمل قبولا ورفضا بحسبها.

٦ ـ حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ

كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

شرح الكلمات :

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) : أي ترى أيها المرء الظالمين يوم القيامة خائفين من جزاء ما عملوا.

(وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) : أي وهو أي جزاء ما كسبوا من الباطل والشرك نازل بهم معذبون به لا محالة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : آمنوا بالله ولقائه وآياته ورسوله وأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم.

(فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) : أي هم في روضات الجنات ، والروضة فى الجنة أنزه مكان فيها.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم فى جوار ربهم.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) : أي قل يا رسولنا لقومك لا أسألكم على التبليغ أجرا أي ثوابا.

(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) : أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي فتمنعوني حتى أبلغ رسالتى.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) : أي ومن يكتسب حسنة بقول أو عمل صالح.

(نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) : أي نضاعفها له أضعافا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي أيقول هؤلاء المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فنسب إليه القرآن وهو ليس بكلامه ولا بوحيه.

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : أي إن يشإ الله تعالى يطبع على قلبك وينسيك القرآن أي ان الله قادر على أن يمنعك من الافتراء عليه كما زعم المشركون.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَ) : أي إن من شأن الله تعالى أنه يمحو الباطل.

(بِكَلِماتِهِ) : أي بالآيات القرآنية وقد محا الباطل وأحق الحق بالقرآن.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) : أي هو تعالى الذي يقبل توبة التائبين من عباده.

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) : أي لا يؤاخذ بها من تاب منها فهذا هو الإله الحق لا الأصنام التى ليس لها شيء مما هو لله ألبتة.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي ويجيب تعالى عباده الذين آمنوا به وعملوا الصالحات إلى ما دعوه فيه فيعطيهم سؤلهم.

(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي يعطيهم ما سألوا ويعطهم ما لم يسألوه من الخير.

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) : أي والكافرون بالله ورسوله ولقاء الله وآياته لهم عذاب شديد.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله (تَرَى الظَّالِمِينَ) (١) يوم القيامة (مُشْفِقِينَ) أى خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) أي من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصى ، وهو أى العذاب واقع بهم نازل عليهم لا محالة وقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي فى الوقت الذي يكون فيه الظالمون مشفقين مما كسبوا يكون الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وعملوا الصالحات من الفرائض والنوافل بعد اجتناب الشرك والكبائر فى روضات الجنات وهى أنزهها وأحسنها لهم ما يشاءون من النعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين كل ذلك فى جوار رب كريم وقوله تعالى (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢) أي ذاك الذى أخبر تعالى به أنهم فيه من روضات الجنات وغيره هو الفضل الكبير الذى تفضل الله تعالى عليهم به.

وقوله فى الآية الثانية (٢٣) (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ذلك المذكور من روضات الجنات وغيره هو الذي يبشر الله تعالى به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات في كتابه وعلى لسان رسوله.

وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ (٣) عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه من المشركين لا أسألكم على إبلاغى إياكم دعوة ربى الى الإيمان به وتوحيده لتكملوا وتسعدوا أجرا أى مالا لكن أسألكم أن تودوا قرابتى منكم فلا تؤذوني وتمنعوني من الناس حتى

__________________

(١) هذا عرض لما يجري من أحوال في عرصات القيامة وما ينتهي إليه الموقف من إسعاد أهل الإيمان والعمل الصالح وإشقاء أهل الشرك والمعاصي.

(٢) لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة كنه صفته لأن الله تعالى إذا قال كبير كان مما لا يقادر قدره.

(٣) هذا الخطاب خاص بقريش قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن ومعنى الآية قل لا أسألكم عليه أي على البلاغ أجرا أي ثوابا وجزاء إلا أن تودّوني من قرابتي منكم أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني وتنصروني حتى أبلغ رسالتي وذلك أنه ما من بطن من بطون قريش إلا وفيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة رحم وأما توجيه الآية على آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تمحل واضح إلا أن حب آل البيت وتعظيمهم واجب أكيد ووردت فيه أحاديث كثيرة صالحة للاحتجاج بها.

ابلغ دعوة ربي.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي من يعمل حسنة نزد له فيها حسنا بأن نضاعفها له اذ الله غفور للتائبين من عباده شكور للعاملين منهم فلا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى (١) عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بل يقولون أفترى على الله كذبا أي يقول المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فادعى أن القرآن من كلام الله ووحيه وما هو إلا افتراء افتراه على الله. فأبطل الله تعالى هذه الدعوة وقال : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي يطبع على قلبك فتنسى القرآن ولا تقدر على قوله والنطق به ، فكيف إذا يقال إنه يفترى على الله كذبا والله قادر على منعه والإحالة بينه وبين ما يقوله. وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هذا شأنه تعالى يمحو الباطل ويحق الحق بالقرآن وقد فعل فمحا الباطل وأحق الحق فما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله تعالى. وقوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلواسع علمه وعظيم قدرته محا الباطل وأحق الحق بالقرآن ولو كان القرآن مفترى ما محا باطلا ولا أحق حقا وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي إن تابوا إليه وأنابوا ، ويعفوا عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها ، ويعلم ما يفعلون فى السرو العلن ويجزى كلا بما عمل وهو على كل شىء قدير.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا (٢) وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يجيب دعاءهم فيما طلبوه ويزيدهم من فضله فيعطيهم ما لم يطلبوه فما أعظم كرمه وما أوسع رحمته!! هذا للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأما الكافرون فلهم عذاب شديد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حق القرابة ووجوب المودة فيها. واحترام قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقديرها.

٢ ـ تبرئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الافتراء على الله عزوجل.

٣ ـ مضاعفة الحسنات ، وشكر الله للصالحات من أعمال عباده المؤمنين.

٤ ـ وجوب التوبة وقبول الله تعالى لها ، وقد كان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوب الى الله فى اليوم مائة مرة. وللتوبة ثلاثة شروط : الاقلاع الفورى عن المعصية ، والاستغفار ، والندم على ما فعل من

__________________

(١) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر تعالى على المشركين الذين قالوا إن محمدا يفتري على الله الكذب فيقول أرسلني الله وما أرسله ويقول القرآن من وحي الله ، والله ما أوحى اليه فأنكر تعالى هذا على قائليه ووضح لهم أن دعواهم لا تمت إلى الواقع بصلة.

(٢) فاعل (يَسْتَجِيبُ) هو الله عزوجل و (الَّذِينَ) مفعول به في محل نصب والسين والتاء للتأكيد إذ استجاب هو بمعنى أجاب.

المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم. وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو التحلل من الآدمي بآداء الحق أو بطلب العفو منه.

٥ ـ وعد الله تعالى باستجابة دعاء المؤمنين العاملين للصالحات وهم أولياء الله تعالى الذين أن سألوا أعطاهم وإن استعاذوه أعاذهم وإن استنصروه نصرهم. اللهم اجعلنا منهم وأحشرنا فى زمرتهم.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) : أي لو وسع الرزق لجميع عباده.

(لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) : أي لطغوا فى الأرض جميعا.

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) : أي ينزل من الأرزاق بقدر ما يشاء فيبسط ويضيق.

(إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) : أي إنه بأحوال عباده خبير إذ منهم من يفسده الغنى ومنهم من يصلحه ومنهم من يصلحة الفقر ومنهم من يفسده.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) : أي المطر من بعد يأسهم من نزوله.

(وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : أي بركات المطر ومنافعه فى كل سهل وجبل ونبات وحيوان.

(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) : أي المتولى لعباده المؤمنين المحسن إليهم المحمود عندهم.

(وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) : أي فرق ونشر من كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) : أي للحشر والحساب والجزاء يوم القيامة قدير.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) : أي بليه وشدة من الشدائد كالمرض والفقر.

(فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) : أي من الذنوب والآثام.

(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) : أي منها فلا يؤاخذ به ، وما عفا عنه فى الدنيا لا يؤاخذ به فى الآخرة.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي ولستم بفائتي الله ولا سابقيه هربا منه إذا أراد مؤاخذتكم بذنبكم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ (١) اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) هذا شروع في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة لربوبية الله تعالى المستلزمة لألوهيته على عبادته فقال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ) أي رب العباد الرزق فوسعه عليهم لبغوا فى الأرض فطفا بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا ولزم ذلك فساد كبير (٢) فى الأرض قد تتعطل معه الحياة بكاملها.

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي ينزل من الأرزاق بمقادير محددة حسب تدبيره لحياة عباده ويدل على هذا قوله (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ (٣) بَصِيرٌ) أي إنه بما تتطلبه حياة عباده ذات الآجال المحدودة ، والأعمال المقدرة الموزونة ، والنتائج المعلومة أزلا. هذا مظهر من مظاهر العلم والقدرة والحكمة ومظهر آخر فى قوله ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) ، فإنزال المطر بكميات ومقادير محدودة وفى أماكن محددة ، وفى ظروف محددة هذا التصرف ما قام إلا على مبدأ القدرة القاهرة والخبرة التامة ، انه يمنع عن عباده المطر فيمحلوا ويجدبوا حتى ييأسوا ويظهر عجزهم وعجزا آلهتهم التى يعبدونها ظلما فاضحا إذ لا تستحق العبادة بحال من الأحوال ثم ينزل الغيث وينشر (٤) الرحمة فتعم الأرزاق والخيرات والبركات ، وهو الولي الذى لا تصلح الولاية لغيره الحميد أي المحمود بصنائع بره وعوائد خيره ومظاهر رحمته. هو الولي بحق والمحمود

__________________

(١) روى أن خباب بن الأرت قال هذه الآية نزلت فينا نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وقينقاع فتمنيناها فنزلت (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ) الآية والآية تضمنت ردا على من يقول ما دام الله يستجيب للذين آمنوا الخ لم لا يسألونه سعة الرزق فيغنهم ويثريهم بالأموال فكان الجواب ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض.

(٢) وشاهده من السنة هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم ان تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم.

(٣) القدر بفتحتين : المقدار والتعيين والجمع بين صفتي «خبير» و «بصير» لأن وصف خبير ، دال على العلم بمصالح العباد وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها أي العلم بما سيكون ووصف بصير دال على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت.

(٤) الغيث المطر وسمي غيثا لأن به غيث الناس المضطرين.

بحق ، ومظهر آخر فى قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لربوبيته لسائر خلقه والمستلزمة لألوهيته على سائر عباده : (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ايجادهما بما هما عليه من عجائب الصفة ، (وَما بَثَ) أى فرق ونشر (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) تدب على الأرض ، أو ملك بسبح فى السماء. فهذا الخلق والإبداع ناطق بربوبيته تعالى صارخ بألوهيته لعباده فلم إذا يعبد غيره من مخلوقاته وتترك عبادته وفوق هذا المظهر للخلق والرزق والتدبير مظهر آخر وهو قدرته تعالى على جمع سائر خلقه في صعيد واحد ومتى؟ وإنه بعد إفنائهم وتصييرهم عظاما ورفاتا ، وهو معنى قوله : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (١).

وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ (٢) أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣) ، وهذا مظهر آخر للقدرة والعلم يتجلى فيما يصيب الإنسان من مصيبة فى نفسه وولده وماله إن كل مصاب ينزل بالإنسان فى هذه الحياة ناتج «عن مخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن. وأعظم دلالة أن يعطل القانون الماضى ويوقف مفعوله فيكسب العبد الذنب ولا يؤاخذ به عفوا من الله تعالى عليه ، وهو معنى قوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). فله الحمد وله المنة. ومظهر آخر من مظاهره قدرة الله وعلمه وحكمته هو ان الناس مهما أوتوا من قوة وتدبير وعلم ومعرفة لم ولن يعجزوا الله تعالى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فالسماء فوقهم والأرض تحتهم إن يشأ يخسف الأرض من تحتهم أو يسقط السماء كسفا من فوقهم. فإلى أين المهرب والجواب الى الله فقط بالاستسلام له والانقياد بالطاعة وفى ذلك نجاتهم وعزهم وكرامتهم زيادة على سعادتهم وكمالهم في الحياتين وقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وليس لكم أيها الناس مع عجزكم من ولي يتولاكم ولا ناصر ينصركم. إذا ففروا إلى الله بالإيمان به والإسلام له تنجوا وتسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحكمة فى تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة.

٢ ـ من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده إنزال الغيث بعد اليأس والقنوط وخلق السموات والأرض وما بث فيها من دابة.

٣ ـ بيان حقيقة علمية ثابتة وهى أن المخالفة للقوانين يترتب عليه ضرر يصيب المخالف.

٤ ـ بيان أنه ما من مصيبة تصيب المرء فى نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه.

__________________

(١) تقرير لعقيدة البعث والجزاء أثناء تقرير عقيدة التوحيد والنبوة المحمدية.

(٢) قرأ نافع بما كسبت وقرأ حفص (فَبِما كَسَبَتْ) بزيادة الفاء.

(٣) قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفوا الله عنه أكثر. وشاهد آخر من كتاب الله تعالى قوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ).

٥ ـ بيان أن من الذنوب ما يعفو (١) الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرما واحسانا.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) : أي ومن علامات ربوبيته للخلق ايجاد السفن كالجبال فى البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) : أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.

(فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) : أي تقف السفن وتظل راكدة حابسة على ظهر البحر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي فى هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته.

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صبارا عند الشدايد والمحن شكورا عند الآلاء والنعم.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) : أي وان يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها ، وهو على ذلك قدير.

(وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) : أي وإنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) : أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عند ما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.

(ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي ليس لهم من مهرب إلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.

__________________

(١) ولذا قال عليّ رضي الله عنه أرجى آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير لما يبقى بعد كفارته وعفوه؟.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى : (وَمِنْ (١) آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضا هذه السفن الجوار فى البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهى تجرى بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته ، و (إِنْ يَشَأْ) تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبتّة فتقف السفن وتركد على (٢) سطح الماء فلا تتحرك ، وإن يشأ أيضا يرسل عليها عواصف من الريح فتضطرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ).

وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم ، ولكن هى من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.

وقوله (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) (٣). وقوله (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (٤) أي

ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب. إذ لو عاقب على كل ذنب وآخذ بكل خطيئة لما بقى على الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون ، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!

__________________

(١) (الْجَوارِ) جمع جارية والأعلام جمع علم والعلم الجبل والآيات جمع آية وهي العلامة الدالة على الشيء الهادية إليه المعرفة به. وسميت السفينة جارية لأنها تجري في البحر وسميت الشابة من النساء جارية لأنها يجري فيها ماء الشباب. قال الخليل كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم واستشهد بقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرا.

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

(٢) يقال ركد الماء ركودا سكن وكذلك الريح والسفن والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد والرواكد جمع راكدة مؤنث راكد.

(٣) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن أي يغرقهن بذنوب أهلها إذ الباء سببية.

(٤) (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي من أهلها فلا يغرقهم معها ، كما يتجاوز عن كثير من الذنوب فلا يؤاخذ بها. ويعف مجزوم بحذف آخره لأنه معطوف على إن يشأ يسكن الريح أي وإن يشأ يعف.

وقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ (١) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢) أي وعند ما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذين يخاصمون رسول الله ويجادلونه فى الوحى الإلهى ويكذبون به يعلمون انهم فى هذه الحال ما لهم من محيص أى من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجأرون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.

٢ ـ فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.

٣ ـ تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير.

٤ ـ عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١))

__________________

(١) قرأ نافع ويعلم بالرفع على أنه كلام مستأنف وقرأ حفص (وَيَعْلَمَ) بالنصب عطفا على فعل مدخول للام التعليل وتضمن (أن) بعده ، والتقدير لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ.

(٢) المحيص مصدر ميمي من حاص يحيص حيصا إذا أخذ في الفرار والهرب مائلا في سيره وفي حديث أبي سفيان :

فحاصوا حيصة حمر الوحش. والمعنى ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله تعالى.

شرح الكلمات :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي فما أعطيتم من شىء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.

(فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي يتمتع به زمنا ثم يزول ولا يبقى.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) : أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير فى نوعه وأبقى فى مدته.

(لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية :

الإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب كبائر الأثم والفواحش ، والتجاوز عمن أساء إليهم ، والاستجابة لربهم فى كل ما دعاهم إليه فعلا أو تركا ، وإقام الصلاة والمشورة (١) بينهم والإنفاق مما رزقهم الله ، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشر صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) : أي جزاء سيئة المسىء عقوبته بما أوجبه الله عليه.

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) : أي فمن عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) : أي لا يحب البادئين بالظلم ، ومن لم يحبه الله أذن فى عقوبته.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) : أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.

(فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) : أي لمؤاخذتهم ، لأنهم ما بدأوا بالظلم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ (٢) فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) هذا شروع فى بيان صفات الكمال فى المسلم التى يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى (فَما أُوتِيتُمْ) أيها الناس من مؤمن وكافر من شىء فى هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس ، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما اعده الله لأوليائه فى الدار الآخرة فهو خير وأبقى ولكن لمن أعده؟

__________________

(١) ومما قيل في المشورة نظما قول بشار بن برد :

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي لبيب أو مشورة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

الخوافي ريشات إذا ضم الطير جناحيه خفيت ، والقوادم عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبار الريش.

(٢) قال القرطبي في قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا). يريد من الغنى والسعة في الدنيا.

والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة فى كفايته واعتمادا عليه ، (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) أى يتركون (كَبائِرَ (١) الْإِثْمِ) كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا (٢) يتجاوزون عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته إليهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا) (٣) (لِرَبِّهِمْ) عند ما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم ، والذين (أَقامُوا الصَّلاةَ) فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها واركانها وواجباتها وسننها وآدابها ، والذين (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى أمرهم الذى يهمهم في حياتهم أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا يجتمعون عليه ويتشاورون (٤) فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة بدن ينفقون شكرا لله على ما رزقهم واستزاده للثواب يوم الحساب. (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أى إذا بغي عليهم البغاه الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذارا لها وإكراما لأنها انفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شىء لو عاش الدهر كله فقيرا نقيّا محروما من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس ، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى. له خير وأبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا بل هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئا يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون فى جواره.

وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) هذا هو الحكم الشرعى جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له فى كتابه أو على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى فمن عفا عمن أساء إليه ، واصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإخاء فأجره على الله وهو خير له وابقى من شفاء صدره بعقوبة اخيه الذى أساء إليه. وقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ (٥) سَبِيلٍ) أي وللذى ظلم فانتصر لنفسه وردّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفواحش الزنا وأن كبير الاثم الشرك وهو كذلك.

(٢) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي يتجاوزون ويحلمون عمن ظلمهم ، قيل نزلت في عمر حين شتم بمكة وقيل في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاقه ماله كله وحين شتم فحلم.

(٣) قال ابن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنفذ اليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة.

(٤) قال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب وما تشاور قوم قط إلا هدوا وفي الحديث ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وما عال من اقتصد. والشورى والمشورة بمعنى واحد.

(٥) لقد مدح الله تعالى المنتصر من الظلم ومدح العفو عن الجرم ، فالانتصار يكون من الظالم المعلن الفجور الوقح في الجمهور المؤذي للصغير والكبير فهذا الانتقام منه أفضل والعفو يكون فى الفلتة ، وفيمن يعترف بالزلة ويطلب العفو.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئا يذكر ابدا.

٢ ـ بيان أكمل الشخصيات الإسلامية وهى الشخصية التى تتصف بالصفات العشر التى تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم (٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩).

٣ ـ مشروعية القصاص وعقوبة الظالم.

٤ ـ عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حدا فإن الحدود يقيمها الإمام.

٥ ـ فضيلة العفو على الإخوة المسلمين والإصلاح بينهم.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) : أي بالعقوبة والأذية.

(عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) : أي يعتدون عليهم فى أعراضهم أو أبدانهم وأموالهم.

(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي ويطلبون فى الأرض الفساد فيها بالشرك والظلم والإجرام.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) : أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه.

(إِنَّ ذلِكَ) : أي إن ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء.

(لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) : أي حسب سنته فى الإضلال.

(فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) : أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها.

(هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) : أي هل إلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود الى الدنيا.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) : أي على النار خاشعين خائفين متواضعين.

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) : أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول الى السيف لا يملأ عينه منه

(يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي لخلودهم فى النار ، وعدم وصولهم إلى الحور العين فى دار السّلام.

(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين.

(فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) : أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) : أي طريق إلى الهداية فى الدنيا ، وإلى الجنة يوم القيامة.

معنى الآيات :

لقد تقدم قوله تعالى فى الآية قبل هذه : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم أثبت هنا أن السبيل الى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين (١) يظلمون الناس بالاعتداء عليهم فى أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ويبغون فى الأرض بغير الحق أى ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصى ، وليس فى الشرك والظلم والمعاصى من حق يبيحها ، وقوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي للذين يبغون فى الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم أي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة ان لم يتوبوا من الظلم والفساد فى الأرض.

وقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢) يخبر تعالى مؤكدا الخير بلام الابتدا ان من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فان ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعا.

__________________

(١) هذه الآية تقابل آية التوبة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) حيث نفت السبيل على المحسنين وهو لومهم وعتابهم وهذه أثبتته على المسيئين الظالمين.

(٢) قال العلماء هذا فيمن ظلمه مسلم فإنه مندوب إلى الصبر وعدم المؤاخذة وهو العفو روى أن رجلا سب آخر في مجلس الحسن البصري فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ثم قام فتلا هذه الآية فقال الحسن عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون ، والعزم عقد النية على العمل والثبات عليه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ) (١) (بَعْدِهِ) أي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته فى الإضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه. وقوله تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) أي المشركين لما رأوا العذاب أى عذاب النار يقولون : متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحّدوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الابرار : هل إلى مرد من سبيل؟ أى هل إلى مرد الى الدنيا من طريق؟ قال تعالى (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذّل ينظرون من طرف خفى (٢) يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر الى النار لشدة خوفهم منها. وهنا يقول (الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وذلك لخلودهم فى النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين فى الجنة دار الابرار ، ويعلن معلن فيقول : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بالشرك والمعاصى (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب. وقوله :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي فما له طريق إلى هدايته فى الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه.

٢ ـ وجوب معاقبه الظالم والضرب على يديه.

٣ ـ فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل.

٤ ـ لا أعظم خسرانا ممن يخلد فى النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا

__________________

(١) (مِنْ وَلِيٍ) (من) زائدة للتوكيد إذ الكلام فما له ولي من بعده وكذلك في قوله الآتي (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) فمن زائدة للتوكيد.

(٢) الطرف مصدر طرف يطرف طرفا إذا حرك جفنه ولذا هو لا يثنى ولا يجمع قال تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ويطلق الطرف على العين كما في هذه الآية قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

شرح الكلمات :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) : أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) : أي يوم القيامة.

(لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) : أي إذا أتى لا يرد بحال.

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) : أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه.

(وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) : أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) : أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) : وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) : أي نعمة كالغنى والصحة والعافية.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) : أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك.

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : أي من الذنوب والخطايا.

(فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) : أي للنعمة والمنعم والإنسان هو غير المؤمن التقى.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) : أي يرزق من يشاء من الناس بنات.

(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) : أي ويعطى من يشاء الأولاد الذكور.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) : أي يجعلهم ذكورا وإناثا.

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) : أي لا يلد ولا يولد له.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين فى عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذا لانفسهم من النار فقال : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) (١) بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذى إذا جاء لا مردّ له من الله ، إذ لا يقدر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذا؟ فبادروا بالتوبة الى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير يمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم فى كتاب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة الا أحصاها عدا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٧) وهى قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٢). وقوله تعالى فى الآية الثانية (٤٨) (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والطاعة فما أرسلناك عليهم حفيظا رقيبا تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها. إن عليك إلا البلاغ أى ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على اعراضهم .. وقوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ (٣) مِنَّا رَحْمَةً) أي نعمة كسعة رزق وصحة بدن وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر ، وهذا الإنسان هو الكافر أو الجاهل الضعيف الإيمان. وإن تصبهم سيئة أى ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت ايديهم من الذنوب فإن الإنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع فى اليأس والقنوط هذا الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحس فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة. وقوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ (٤) وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إنه بحكم سلطانه على الأرض والسماء فانه يتصرف كيف يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أو يزوجهم له ذكورا وإناثا ، ويجعل من يشاء من الناس (عَقِيماً) لا يلد ولا يولد له ، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شىء ، وقدرة أخضعت لها كل شىء وهذا معنى قوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥). فالواجب إن يسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطى لحكمة ويمنع لحكمة ، ومن السفه الاعتراض على حكم الله.

__________________

(١) السين والتاء للتوكيد واللام لربكم لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول نحو شكرت له وحمدت له وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين إذ الأصل أجابه واستجابه.

(٢) النكير : اسم مصدر أنكر ينكر إنكارا والنكير اسم المصدر إذ نقصت حروفه والمعنى ما لكم إنكار لما جوزيتم به إذ لا يسعكم إلا الاعتراف.

(٣) الإذاقة كناية عن الإصابة والمراد بالرحمة أثرها وهي النعمة والتقدير وإنا إذا رحمنا الانسان فأصبناه بنعمة.

(٤) الجملة مستأنفة بيانيا إذ لسائل أن يقول لم لا يفطر الله الإنسان على خلق الشكر فكان الجواب لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء.

(٥) الجملة تعليلية فصفتا العلم والقدرة بهما يكون الولد ولا يكون فليسلم الأمر لله في العقم والولادة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الاستجابة لله تعالى فى كل ما دعا العبد إليه ، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها.

٢ ـ على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده ، ولا يضرهم بعد ذلك شيء.

٣ ـ بيان طبع الانسان وحاله قبل أن يهذب بالإيمان واليقين والطاعات.

٤ ـ لله مطلق التصرف فى الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه فى شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد.

٥ ـ وجود عقم فى الرجال وعقم فى النساء ، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر. اماما ظهر الآن من بنوك المني ، والإنجاب بطريق صبّ ماء فحل فى فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسليم لقضائه ، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له ، وحسبهم قبحا فى سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون انقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسموات.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

شرح الكلمات :

(إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : أي إعلاما خفيا سريعا فى يقظة أو منام ، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات.

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) : أي أو يرسل ملكا فى صورة إنسان فيكلمه مبلغا عن الله تعالى.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) : أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم فى تدبير خلقه.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي كما كنا نوحى إلى سائر رسلنا أوحينا اليك يا محمد هذا القرآن.

(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) : أي وحيا ورحمة من أمرنا الذى نوحيه إليك.

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) : أي لم تكن قبل تدرى أي شىء هو الكتاب ، ولا الإيمان الذى هو قول وعمل واعتقاد.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ) : أي جعلنا القرآن نورا نهدى به من نشاء من عبادنا الى صراطنا.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي الإسلام.

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) : أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) (١) يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاما أو مناما فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه فى روعه (٢) جازما أنه كلام الله ألقاه اليه هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه‌السلام غير مرة. وثالثة أن يرسل إليه رسولا كجبريل عليه‌السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ (٣) رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌ) أي ذو علو على خلقه (حَكِيمٌ) فى تدبيره لخلقه.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أى كما كنا نوحى إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحا وهو القرآن وسمى روحا لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح ، وقوله

__________________

(١) روى غير واحد أن الآية نزلت ردا على قول من قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك وجائز أن يكون اليهود الذين أشاروا بهذا على كفار قريش وجائز أن يكون اليهود هم القائلون له.

(٢) الروع بضم الراء القلب أو العقل ، وبالفتح الفزع. وفي الحديث إن روح القدس نفثت في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب والحديث صحيح. وأدرج بعضهم خذوا ما حل ودعوا ما حرم.

(٣) اختلف الفقهاء فيمن حلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا فهل يحنث؟ أوجه الأقوال أنه إذا اشترط المشافهة في حلفه أنه لا يحنث وإن لم يشترطها يحنث ولا يحنث إن سلم عليه في الصلاة أما في خارجها فإنه يحنث.

(مِنْ أَمْرِنا) (١) أي الذى نوحيه إليك الشامل للأمر والنهى والوعد والوعيد وقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) أى القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) (٢) الذى هو عقيدة وقول وعمل. وقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) أي جعلنا القرآن نورا نهدى به من نشاء من عبادنا إلى الإيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابّنا وترك مساخطنا.

وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وأنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإسلامى وقوله (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى خلقا وملكا وعبيدا (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أى وإليه تعالى مصير كل شيء ، ومرد كل شيء إذ هو المالك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها ، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفى كفايته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طرق الوحى وهى ثلاثة الأولى الإلقاء فى الروع يقظة أو مناما والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عزوجل كما كلم موسى فى الطور وكلم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما فى صورته الملائكية أو فى صورة رجل من بنى آدم فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره.

٢ ـ القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح.

٣ ـ القرآن نور يستضاء به فى الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة.

__________________

(١) أي من شأننا العظيم المقتضي الإيحاء إليك بالقرآن الحاوي للشرائع والأحكام وأنواع الهدايات المكملة للإنسان الآخذ بها المسعدة له في الحياتين.

(٢) المنفي من الإيمان هو التفصيلي أما الإجمالي فقد ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنا موحدا ، ولذا لم يقل وما كنت مؤمنا فالمنفي شرائع الإيمان وتفاصيله.

سورة الزّخرف

مكّية وآياتها تسع وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب حم ويقرأ : حاميم.

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي والقرآن الموضح لطريق الهدى وسبيل السّلام.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي جعلناه قرانا بلسان العرب يقرأ بلسانهم ويفهم به.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي رجاء أن تعقلوا أيها العرب ، ما تؤمرون به وما تنهون عنه.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) : أي فى اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلّها عندنا.

(لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) : أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه فى علوه ورفعته حكيم أى ذو حكمة بالغة عاليه لا يرام مثلها.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ننزل القرآن بأمركم ونهيكم ووعدكم ووعيدكم.

(أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) : لأن كنتم قوما مسرفين متجاوزين الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) : أي وكثيرا من الأنبياء أرسلناهم فى القرون الأولى من الأمم الماضية.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) : أي فأنزلنا عذابنا بأشدهم قوة وبطشا من قومك فأهلكناهم.

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) : أي ومضى فى الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين.

معنى الآيات :

(حم) الله أعلم بمراده به ، (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) أى والقرآن الموضح لكل ما ينجى من عذاب الله ويكسب جنته ورضاه وهذا قسم أقسم الله به ، والمقسم عليه قوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أى جعلنا الكتاب المبين الذى هو القرآن عربيا أى بلسان العرب ولغتهم.

وقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بيان للحكمة في جعل القرآن عربيا أي كي تعقلوا معانيه وتفهموا مراد الله منزله منه فيما يدعوكم إليه فيسهل عليكم العمل به فتكملوا وتسعدوا وقوله (وَإِنَّهُ) أى القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أى اللوح المحفوظ لدينا عندنا (لَعَلِيٌ) أي ذو علو وشأن على سائر الكتب قبله (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.

وقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ (٢) عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ (٣) قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا فلا ننزل القرآن حتى لا تؤمروا ولا تنهوا من أجل أنكم قوم مسرفون فى الشرك والكفر والتكذيب كلا لا نفعل إذا الاستفهام للانكار عليهم وقوله (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ (٤) نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي وكثيرا من الأنبياء أرسلنا فى الأمم السابقة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما أتى أمة من تلك الأمم رسول منا إلا سخروا منه واستهزأوا به ، وبما جاءهم به من الإيمان والتوحيد ودعاهم إليه من فعل الصالحات وترك المحرمات إذا فاصبر على قومك فإنهم سالكون سبيل من سبقهم فى الكفر والتكذيب والسخرية والاستهزاء. وقوله تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أهلكنا من هم أشد بطشا فى تلك الأمم الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم. وقوله (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي مضى فى الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود واصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟.

__________________

(١) (الْكِتابِ) هو القرآن أقسم به تعالى للإعلان عن مكانته وعلو شأنه وجعله قرآنا يقرأ بلسان العرب مكتوبا في سطورهم ، ومحفوظا في صدورهم للعلة الحكيمة التي تضمنها قوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

(٢) الفاء للتفريع والاستفهام إنكاري أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن؟ كما لا يجوز أن نضرب عنكم صفحا فلا ننزل القرآن من أجل إسرافكم في الشرك والتكذيب ، والصفح : الإعراض بصفح الوجه أي جانبه وهو أشد الإعراض.

(٣) قرأ نافع إن كنتم بكسر الهمزة وقرأ حفص (أَنْ كُنْتُمْ) بأن المصدرية. وإقحام «قوما» إشارة إلى أن الإسراف صار طبعا لهم لا يفارقهم.

(٤) (كَمْ أَرْسَلْنا) إلى قوله إلى (الْأَوَّلِينَ) تضمن الكلام الإلهي أمرين الأول تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والثاني تهديد المشركين المسرفين بأنهم يتعرضون للهلاك الذي تعرضت له أمم قبلهم أشد منهم بطشا وأكثر منهم قوة فأهلكوا وبقوا أثرا بعد عين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الإقسام بالله تعالى.

٢ ـ بيان شرف القرآن الكريم وعلو مكانته على سائر الكتب السابقة.

٣ ـ كون الناس مسرفين فى الشرك والفساد لا يمنع وعظهم ونصحهم وارشادهم.

٤ ـ بيان سنة بشرية وهى أنهم ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به.

٥ ـ فى إهلاك الأقوى دليل على أن إهلاك من هو دونه أحرى وأولى لا سيما مع شدة كفره.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا.

(مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أي من بدأ خلقهنّ وأوجدهن ليقولن خلقهن الله ذو العزة والعلم.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) (١) : أي الله الذى جعل لكم الأرض فراشا كالمهد للصبى.

__________________

(١) قرأ نافع مهادا وقرأ عاصم (مَهْداً). والمهاد اسم للشيء يمهد أي يوطأ ويسهل لما يحل فيه. والمهد مراد به هنا المهاد.

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) : أي طرقا.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : أي إلى مقاصدكم فى أسفاركم.

(ماءً بِقَدَرٍ) : أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفانا مغرقا ومهلكا.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : أي فأحيينا به بلدة ميتا أى لا نبات فيها ولا زرع

(كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) : أي مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالماء تحيون أنتم وتخرجون من قبوركم.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : أي خلق كل شيء إذا الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا الله.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) : أي السفن ، والإبل.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : أي تستقروا على ظهور ما تركبون.

(وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) : أي مطيقين ولا ضابطين.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) : أي لصائرون إليه راجعون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى دعوة المشركين إلى التوحيد بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين من قومك قائلا من خلق السموات والأرض أى من أنشأهن وأوجدهن بعد عدم لبادروك بالجواب قائلين الله ثم هم مع اعترافهم بربوبيته تعالى لكل شيء يشركون فى عبادته أصناما وأوثانا. فى آيات أخرى صرحوا باسم الجلالة الله وفى هذه الآية قالوا : العزيز العليم (١) أى الله ذو العزة التي لا ترام والعلم الذى لا يحاط به. وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أى فراشا وبساطا (٢) كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفا لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي بساطا وفراشا ، (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أى طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم فى البلاد هنا وهناك ، (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) وهو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفانا مغرقا مهلكا ، وقوله

__________________

(١) من الجائز أن يكون العزيز العليم من قول المشركين إذ هم لا ينكرون عزة الله وعلمه وقدرته كما درجنا عليه في التفسير إذ هو الظاهر من اللفظ والسياق وجائز أن يكون من قول الله تعالى وهما صفتان لاسم الجلالة (الله) الذي أجابوا به في غير آية من القرآن ثم ذكر من صفاته الموجبة لعبادته وحده دون من سواه فذكر ست صفات من صفات الجلال والكمال وهي متضمنة إنعامه وإفضاله على عباده بخلقهم ورزقهم.

(٢) كون الأرض مهدا لا ينافي كون جسمها كرويا.

(فَأَنْشَرْنا) (١) أي أحيينا بذلك المطر بلدة ميتا أي أرضا يابسة لا نبات فيها ولا زرع. وقوله (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٢) أى مثل ذلك الأحياء للأرض الميتة يحييكم تعالى ويخرجكم من قبوركم أحياء. وقوله (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) هذا وصف آخر له تعالى بأنه خلق الأزواج كلها من الذكر والأنثى ، والخير والشر والصحة والمرض ، والعدل والجور ، إذ لا فرد إلا هو سبحانه وتعالى وفى الحديث الصحيح الله وتر يحب الوتر قل هو الله أحد وقوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) هذا وصف آخر بصفاته الفعلية الدالة على وجوده وقدرته وعلمه والموجبة لألوهيته إذ جعل للناس من الفلك أى السفن ما يركبون ومن الأنعام كالإبل ومن البهائم كالخيل والبغال والحمير كذلك وقوله (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أى تستقروا على ظهوره أى ظهور ما تركبون ، ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استويتم عليه وتقولوا بألسنتكم سبحان الذى سخر لنا هذا أى الله لنا واقدرنا على التحكم فيه ، (وَما كُنَّا لَهُ) أى لذلك الحيوان المركوب بمقرنين أي بمطيقين ولا ضابطين لعجزنا وقوته ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أى لصائرون إليه بعد موتنا راجعون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد يذكر صفات الربوبية المقتضية للألوهية.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣ ـ معجزة القرآن فى الأخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية وحتى فى الذرة فهى زوج موجب وسالب.

٤ ـ مشروعية التسمية والذكر عند ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم ، وإن كان حيوانا قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعدا : سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون (٣).

__________________

(١) أصل النشر البسط لما كان مطويا وأريد به هنا إحياء الأرض بالنبات بعد محلها ويبسها وحسن إطلاق لفظ النشر لانتشار الحياة فيها بالنباتات.

(٢) (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي إن إحياءكم بعد موتكم وخروجكم من الأرض منتثرين فيها كإحياء الأرض بالمطر وانتشار النباتات والزروع فيها فبأي حق تنكرون البعث وتكذبون به؟.

(٣) روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي أن عليا رضي الله عنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى عليها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ثم حمد الله ثلاثا وكبر الله ثلاثا ثم قال سبحانك لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقيل له مما ضحكت؟ فقال رأيت رسول الله فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت مما ضحكت يا رسول الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربي اغفر لي ويقول علم عبدي انه لا يغفر الذنوب غيري.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) : أي وجعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض من عباده جزءا إذ قالوا الملائكة بنات الله.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) : أي إن الإنسان المعترف بان الله خلق السموات وجعل من عباده جزءا هذا الإنسان لكفور مبين أي لكثير الكفر بينه.

(وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) : أي خصكم بالبنين وأخلصهم لكم.

(بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) (١) : أي بما جعل للرحمن شبها وهو الولد.

__________________

(١) المراد من المثل : الأنثى بدليل قوله تعالى في سورة النحل (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). وتفسيره بالولد أعم وأولى لأن النصارى كاليهود قبلهم قالوا : عزير ابن الله ، وعيسى ابن الله ؛ وكذبوا ، وقال بعض العرب الملائكة بنات الله ؛ تعالى الله عن الولد / ذكرا أو أنثى / علوا كبيرا.

(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) : أي أقام طوال نهاره مسود الوجه من الحزن وهو ممتلىء غيظا.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : أي أيجترثون على الله ويجعلون له جزءا هو البنت التى تربى فى الزينة.

(وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) : أي غير مظهر للحجة لضعفه بالأنوثة.

(عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) : أي لأنهم قالوا بنات الله.

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) : أي أحضروا خلقهم عند ما كان الرحمن يخلقهم.

(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) : أي سيكتب قولهم إن الملائكة إناثا.

(وَيُسْئَلُونَ) : أي يوم القيامة عن شهادتهم الباطلة ويعاقبون عليها.

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي دعواهم أن الله راض عنهم بعبادة الملائكة لا دليل لهم عليه ولا علم.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : أي ما هم إلا يكذبون يتوارثون الجهل عن بعضهم بعضا.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) : أي أم انزلنا عليهم كتابا قبل القرآن.

(فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) : أي متمسكون بما جاء فيه ، والجواب لم يقع ذلك أبدا.

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) : أي إنهم لا حجة لهم إلا التقليد الأعمى لآبائهم.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) : أي علي طريقتهم وملتهم ماشون وهى عبادة غير الله من الملائكة وغيرهم من الأصنام والأوثان.

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي متنعموها.

(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) : أي ملّة ودين.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) : أي على طريقهم متبعون لهم فيها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد ، والمكذبين إلى التصديق فقال تعالى منكرا عليهم باطلهم موبخا لهم على اعتقاده والقول به ، فقال (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وجعل أولئك المشركون الجاهلون لله جزءا أي نصيبا من خلقه حيث قالوا الملائكة بنات الله ، وهذا من أكذب الكذب وأكفر الكفر إذ كيف عرفوا أن الملائكة إناث ، وأنهم بنات الله ، وأنهم يستحقون العبادة مع الله فعبدوهم؟ حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (١) مُبِينٌ) أي كثير الكفر وكبيره وبينه لا يحتاج فيه إلى دليل وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ (٢) مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ (٣) بِالْبَنِينَ) أي أتقولون أيها المشركون المفترون اتخذ الله مما يخلق من

__________________

(١) قال الحسن بعد المصائب وينسى النعم ومبين معناه مظهر للكفر.

(٢) (أَمِ اتَّخَذَ) الميم صلة اي زائدة لتقوية الكلام والاستفهام للتوبيخ والتأنيب.

(٣) (أَصْفاكُمْ) قال القرطبي : اختصكم وأخلصكم بالبنين يقال أصفيته بكذا أي آثرته به وأصفيته الود أخلصته له.

المخلوقات بنات ، وخصكم بالبنين (١) ، بمعنى أنه فضلكم على نفسه بالذكور الذين تحبون ورضي لنفسه بالإناث اللاتى تبغضون. عجبا منكم هذا الفهم السقيم. وقوله تعالى (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ (٢) مَثَلاً) أي بما جعل لله شبها وهو الولد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ، أي إن هؤلاء الذين يجعلون لله البنات كذبا وافتراء ، إذا ولد لأحدهم بنت فبشر بها أى أخبر بأن امرأته جاءت ببنت ظل وجهه طوال النهار مسودا من الكآبة والغم وهو كظيم أى ممتلىء غما وحزنا. وقوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ (١) غَيْرُ مُبِينٍ) ينكر تعالى عليهم ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول : أيجترئون ويبلغون الغاية فى سوء الأدب ويجعلون لله من يربى فى الزينة لنقصانه وهو البنات ، وهو فى الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة الا كانت عليها لا لها. فقوله (غَيْرُ مُبِينٍ) أي غير مظهر للحجة لضعفه بالخلقة وهى الأنثى والضمير عائد على من فى قوله (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا (٢) فِي الْحِلْيَةِ) أى الزينة.

وقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ (٣) الرَّحْمنِ إِناثاً) أي حيث قالوا الملائكة بنات الله وعبدوهم لذلك طلبا لشفاعتهم والانتفاع بعبادتهم. قال تعالى : موبخا لهم مقيما الحجة على كذبهم أشهدوا خلقهم أى أحضروا خلقهم عند ما كان الله يخلقهم ، والجواب لا ، ومن أين لهم ذلك وهم ما زالوا لم يخلقوا بعد ولا آباؤهم بل ولا آدم أصلهم عليه‌السلام وقوله تعالى (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) هذه وهى قولهم إن الملائكة بنات الله ويسألون عنها ويحاسبون ويعاقبون عليها بأشد أنواع العقاب ، لأنها الكذب والافتراء ، وعلى؟ إنه على الله ، والعياذ بالله وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ (٤) ما عَبَدْناهُمْ). أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليهم عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا : لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم. قال تعالى فى الرد عليهم (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم ، ما هم في قولهم ذلك (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أى يقولون بالخرص والكذب إذ العلم يأتى من طريق الكتاب أو النبى ولا كتاب عندهم ولا نبى فيهم قال بقولتهم ، ولذا قال تعالى منكرا

__________________

(١) أي في المجادلة والإدلاء بالحجة قال قتادة ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها.

(٢) في الآية دليل على جواز لبس الذهب والحرير للنساء وهو إجماع إلا أن بعض السلف كان ينزه بناته عنه لقول أبي هريرة إياك يا بنية والتحلي بالذهب فإني أخاف عليك اللهب ، وقرأ نافع ينشأ وقرأ حفص (يُنَشَّؤُا) فالأول بتخفيف الشين والثاني بتشديدها الأول من : أنشأ والثاني من نشأ.

(٣) قرأ نافع عند الرحمن وقرأ حفص (عِبادُ الرَّحْمنِ) ولا منافاة والملائكة عند الرحمن في الملكوت الأعلى في حضرة القدس يتلقون خطاب الله مباشرة بلا واسطة وهم في واقع الأمر عباد الرحمن وجملة (الذين هم عند الرحمن إناثا) صفة للملائكة فهي في محل نصب.

(٤) قولهم منظور فيه إلى أن مشيئة الله وهي إرادته قسمان إرادة كونيّة وإرادة تكليفية شرعية فالإرادة الكونية القدرية هذه لا تتخلف أبدا فما شاء الله كان والإرادة الشرعية التكليفية هي التي قد تتخلّف لأن الله تعالى وهب عبده إرادة واختيارا وبحسب ما يختاره يكون جزاؤه والمشركون لا علم لهم بهذا فلذا نفى عنهم العلم رادا باطلهم بجهلهم.

عليهم قولتهم الفاجرة (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)؟ لا لا ، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد من نذير إذا فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو ما حكاه تعالى عنهم فى قوله : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أى (١) ملة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أى ماشون مقتفون آثارهم وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول إلا قال مترفوها أى متنعموها بنضارة العيش وغضارته (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي ملة ودين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي متبعون لهم فيها. فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضا. وهو معنى قوله تعالى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى آخر الآية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير صفة من صفات الإنسان قبل شفائه بالإيمان والعبادة وهى الكفر الواضح المبين.

٢ ـ وجوب إنكار المنكر ومحاولة تغييره فى حدود ما يسمح به الشرع وتتسع له طاقة الإنسان.

٣ ـ بيان حال المشركين العرب فى الجاهلية من كراهيتهم البنات خوف العار وذلك لشدة غيرتهم.

٤ ـ بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة ، وان النقص فيها فطرى في البدن والعقل معا.

٥ ـ بيان ان من قال قولا وشهد شهادة باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة ويعاقب عليها.

٦ ـ حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن ينسب إلى الله تعالى شىء لم ينسبه هو تعالى لنفسه.

٧ ـ حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ

__________________

(١) لفظ الأمة هنا يراد به الدين والملة والطريقة أيضا ومن شواهد ذلك :

كنا على أمة آبائنا

ويقتدي الآخر بالأول

وهل يستوي ذو أمة وكفور؟

مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) : قال لهم رسولهم : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى أي بخير مما وجدتم عليه آباءكم هداية إلى الحق والسعادة والكمال.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) : أي قال المشركون لرسلهم ردّا عليهم إنا بما ارسلتم به كافرون أى جاحدون منكرون غير معترفين به.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) : أي كانت دمارا وهلاكا إذا فلا تكترث بتكذيب قومك يا رسولنا.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) : أى وأذكر إذ قال إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن

(إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) : أي برىء مما تعبدون من أصنام لا أعبدها ولا اعترف بها.

(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) : أي لكن الذى خلقنى فإني أعبده وأعترف به فإنه سيهدني أي يرشدنى إلى ما يكملنى ويسعدنى في الحياة الدنيا وفى الآخرة.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (١) : أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» باقية دائمة فى ذريته إذ وصاهم بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي رجاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى توحيده كلما ذكروها وهى لا إله إلا الله.

__________________

(١) لفظ العقب الوارد في الآية وفي الحديث الصحيح من أعمر عمرى فهي له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي اعطاها لأنه اعطى عطاء وقعت فيه المواريث قال ابن العربي ترد هذه اللفظة على أحد عشر لفظا وهي الولد والبنون والذرية والعقب والنسل والآل والقرابة والعشيرة والقوم والموالي.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) : أي هؤلاء المشركين وآباءهم بالحياة فلم أعاجلهم بالعقوبة.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) : أي إلى أن جاء القرآن يحمل الدين الحق ، ورسول مبين لا شك فى رسالته وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لهم طريق الهدى والأحكام الشرعية.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) : أي وقال هؤلاء المشركون الذين متعناهم بالحياة فلم نعاقبهم ، هلّا نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي فى الطائف.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟) : أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات. وليس لهم حق فى تنبئة أى أحد إذ هذا من حق الله وحده.

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنفني هذا ونفقر هذا ونملك هذا ونعزل هذا ، فكيف بالنبوة وهى أجل وأغلى من الطعام والشراب فنحن أحق بها منهم فننبىء من نشاء.

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) : أي جعلنا هذا غنيا وذاك فقيرا ليتخذ الغنى الفقير خادما يسخره فى خدمته بأجرة مقابل عمله.

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : أي والجنة التى أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذى يجمع هؤلاء المشركون الكافرون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى قول المشركين لرسلهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) «ملة» (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، قال مخبرا عن قول الرسول لأمته المكذبة المقلدة للآباء الظالمين (قالَ : أَوَلَوْ (١) جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي اتتبعون آباءكم ولا تتبعوني ولو جئتكم بأهدى إلى الخير والسعادة مما وجدتم عليه آباءكم ، وهذا إنكار من الرسول عليهم فى صورة استفهام وهو (٢) توبيخ أيضا إذ العاقل يتبع الهدى جاء به من جاء قريبا كان أو بعيدا. وقوله تعالى (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ (٣) بِهِ كافِرُونَ) هذا قول الأمم المكذبة المشركة لرسلهم أى كل أمة قالت هذا لرسولها : إنما بما أرسلتم به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء والشرع وأحكامه كافرون أي منكرون

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور قل بصيغة الأمر وقرأ حفص (قالَ) بصيغة الماضي فيعود الضمير إلى (نَذِيرٍ) الذين قالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا). الخ. وأما على قراءة نافع فهو أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقول للمشركين ما أمره أن يقوله لهم.

(٢) هذا الاستفهام تقريري إلا أنه مشوب بالإنكار والتوبيخ.

(٣) في قولهم هذا معنى التهكم برسلهم إذ أثبتوا لهم الرسالة وهم مكذبون بها كقول قريش مال هذا الرسول يأكل الطعام.

مكذبون غير مصدقين ، قال تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١) أي لتكذيبهم فأهلكناهم فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبتهم وهم المكذبون إنها دمار شامل وهلاك تام. وليذكر هذا قومك لعلهم يذكرون.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ (٢) وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي واذكر يا رسولنا لقومك قول إبراهيم الذى ينتسبون إليه باطلا لأبيه وقومه : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي إنى برىء من آلهتكم التى تعبدونها فلا أعبدها ولا اعترف بعبادتها. وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي لكن اعبد الله الذى خلقنى فهو أحق بعبادتى مما لم يخلقني ولم يخلق شيئا وهو مخلوق أيضا. وقوله (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي يرشدنى دائما إلى ما فيه سعادتى وكما لى. وقوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل براءته من الشرك والمشركين ، وعبادته خاصة بالله رب العالمين جعلها كلمة باقية فى ذريته حيث وصاهم بها كما جاء ذلك فى سورة البقرة إذ قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) أي بأن لا يعبدوا إلا الله وهى إذا كلمة لا إله إلا الله ورثها إبراهيم فى بنيه لعلهم يرجعون إليها كلما غفلوا ونسوا وتركوا عبادة الله تعالى والإنابة إليه بعوامل الشر والفساد من شياطين الإنس والجن فيذكرون ويتوبون إلى الله تعالى فيوحدونه ويعبدونه فجزى الله إبراهيم عن المؤمنين خيرا. وقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ (٣) هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملا إذا أشرك من بنيه من أشرك ومنهم هؤلاء المشركون المعاصرون لك أيها الرسول وآباءهم ، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق الذى هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين أى الموضح لكل الأحكام والمبين لكل الشرائع. (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) هكذا قالت قريش لما جاءها الحق الذى هو القرآن الحامل للشرائع والأحكام والرسول المبين لذلك والموضح له قالوا هذا سحر يسحرنا به ، وإنا به أى بالقرآن والرسول كافرون أى جاحدون منكرون مكذبون وقالوا أبعد من ذلك فى الشطط والغلط وهو ما حكاه تعالى عنهم فى قوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي هلّا نزل هذا القرآن على رجل شريف ذى مكانه مثل الوليد بن المغيرة (٤) في مكة أو عروة بن مسعود فى الطائف

__________________

(١) الفاء للتفريع وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بأن يحل بهم ما حل بالمكذبين قبلهم.

(٢) لما ادعى المشركون أنهم مقلدون آبائهم في الدين ذكر لهم ما ينبغي أن يقلدوه من آبائهم هو إبراهيم وإسماعيل وإلا فليس الأمر كما يدعون وإنما هم متبعون أهواءهم.

(٣) (بَلْ) للإضراب الإبطالي أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم كاملا بل هناك من لم يرجع إلى التوحيد من ذرية ابراهيم إذ جاء عمرو بن لحيّ بالأصنام وعبدها آباء هؤلاء وهم لها عابدون حتى مجيء الحق ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) هذا المشهور من الأقوال في الرجلين ومنهم من قال هما عمير بن عبد يا ليل الثقفي من الطائف وعتبة بن ربيعة من مكة وهو قول مجاهد ، وقيل عظيم الطائف هو حبيب بن عمرو أما القريتان فلا خلاف في أنهما مكة والطائف لكونهما أكبر مدن تهامة.

وهذه نظرة مادية بحتة إذ رأوا أن الشرف بالمال ، ولما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا مال له ولا ثراء رأوا أنه ليس أهلا للرسالة ولا للمتابعة عليها ، فرد تعالى عليهم نظريتهم المادية الهابطة هذه بقوله : (أَهُمْ (١) يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ أما يخجلون عند ما قالوا أهم يقسمون رحمة ربك فيعطون منها من شاءوا ويمنعون من شاءوا أم نحن القاسمون؟ إنا قسمنا بينهم معيشتهم : طعامهم وشرابهم وكساهم وسكنهم ومركوبهم فى الحياة الدنيا فالعاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها كيف لا يستحي أن يعترض على الله فى اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟ وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فى الرزق فهذا غنى وذاك فقير من أجل أن يخدم الفقير الغنى وهو معنى قوله تعالى : (لِيَتَّخِذَ (٢) بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ، إذ لو كانوا كلهم اغنياء لما خدم أحد أحدا وتعطلت الحياة وقوله تعالى : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أى الجنة دار السّلام خير مما يجمعون من المال الذى فضلوا اهله وإن كانوا من أحط الناس قدرا وأدناهم شرفا. ورأوا أنهم أولى بالنبوة منك لمرض نفوسهم بحب المال والشهوات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من الكمال العقلى ان يتبع المرء الهدى ولو خالفه قومه وأهل بلاده.

٢ ـ وجوب البراءة من الشرك والمشركين وهذا معنى لا إله إلا الله.

٣ ـ فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحا.

٤ ـ لا يعترض على الله أحد فى شرعه وتدبيره إلا كفر والعياذ بالله تعالى.

٥ ـ بيان الحكمة فى الغنى والفقر ، والصحة والمرض والذكاء والغباء.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ

__________________

(١) الاستفهام انكاري متضمن التوبيخ لهؤلاء الزاعمين اختيار من شاءوا للاصطفاء والرسالة فعلموا انه لا حق لهم في هذا الاختيار إذ هم لا خيار لهم حتى في طعامهم وشرابهم فضلا عن اختيار من يرسل ومن لا يرسل.

(٢) الجملة تعليلية للتفاضل في الرزق أي فاضل بينهم في الغنى والفقر ليتخذ بعضهم بعضا سخريا أي يستخدم الغني الفقير في قضاء حاجته وليأخذ الفقير منه ما يسد به حاجته والسخرى هنا بمعنى التسخير للعمل وليس بمعنى السخرية والاستهزاء إذ أجمع السبعة على قراءة ضم السين وعدم كسرها.

كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على الكفر.

(وَمَعارِجَ) : أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد.

(عَلَيْها يَظْهَرُونَ) : أي يعلون عليها إلى السطوح.

(وَزُخْرُفاً) : أي ذهبا أي لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة وذهب وكذلك الأبواب والمصاعد والسرر بعضها من فضه وبعضها من ذهب.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) : أي وما كل ذلك المذكور.

(لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي وما كل ذلك الا متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يزول.

(وَالْآخِرَةُ) : أي الجنة ونعيمها خير لأهل الايمان والتقوى من متاع الدنيا.

معنى الآيات :

لما فضل تعالى الجنة على المال والمتاع الدنيوى فى الآيات السابقة قال هنا : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي على الكفر (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) (يعنى نفسه عزوجل) (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَمَعارِجَ (١) عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٢) أى مراقى ومصاعد عليها يعلون الى الغرف والسطوح من فضه ولجعلنا كذلك (لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) من فضة أيضا ، (وَزُخْرُفاً) أى وذهبا أى بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أجمل وأبهى من الفضة وحدها ، (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ) أى الجنة وما فيها من نعيم مقيم (لِلْمُتَّقِينَ) الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصى وما عند الله خير مما عند الناس ، وما يبقى خير مما يفنى ، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف «طين» لاختار العاقل الآخرة على الدنيا ، وهو اختيار ما يبقى على ما يفنى.

__________________

(١) المعارج السلم وجمع السلم سلاليم وواحد المعارج معرج ومعرج بكسر الميم وفتحها وهي المرقاة والجمع مراقي.

(٢) روي ان نابغة بن جعدة أنشد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا :

علونا السماء عزة ومهابة

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فغضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إلى أين؟ قال إلى الجنة قال «أجل ان شاء الله» وهنا قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟!

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطرى فى الإنسان فلذا لو أعطيها الكافر بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر.

٢ ـ هوان الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضه ما سقى كافرا منها شربة ماء رواه الترمذى وصححه وفى صحيح مسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (١).

٣ ـ بيان أن الآخرة خير للمتقين.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) : أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذى هو القرآن متجاهلا له.

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) : أي نجعل له شيطانا يلازمه لإضلاله وإغوائه.

(فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) : أي فهو أي من عشا عن ذكر الرحمن قرين للشيطان.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : أي وإن الشياطين المقارنين لهم ليصدونهم عن طريق الهدى.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) : أي ويحسب العاشون عن القرآن وحججه وعن ذكر الرحمن

__________________

(١) أنشد بعضهم في ذم الدنيا فقال :

فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن

إذا لم يكن فيها معاش لظالم

لقد جاع فيها الأنبياء كرامة

وقد شبعت فيها بطون البهائم

وطاعته أنهم مهتدون أى انهم على الحق والصواب وذلك بتزيين القرين لهم.

(بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) : أي كما بين المشرق والمغرب من البعد قال هذا تبرؤا منه.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) : أي ولن ينفعكم اليوم أيها العاشون إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصى.

(أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) : اشتراككم فى العذاب غير نافع لكم.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) : أي إنك يا رسولنا لا تسمع الصم ، ولا تهدى العمى والقوم قد أصمهم الله وأعمى أبصارهم لأنهم عشوا عن ذكره.

(وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي كما انك لا تقدر على هداية من كان فى ضلال مبين عن الحق والهدى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى عرض الهداية على الضاليّن بالكشف عن أحوالهم واضاءة الطريق لهم قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ (١) عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذى هو القرآن وعبادة الرحمن متجاهلا ذلك نقيض (٢) له شيطانا أى نسبب له نتيجة إعراضه شيطانا ونجعله له قرينا لا يفارقه فى الدنيا ولا فى الآخرة. فهو له قرين دائما. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وان القرناء الذين جعلهم تعالى حسب سنته فى الأسباب والمسببات للعاشين عن ذكره يصدونهم بالتزيين والتحسين لكل المعاصى حتى انغمسوا فى كل إثم وولغوا فى كل باطل وشر ، وضلوا عن سبيل الهدى والرشد ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون وغيرهم هم الظالمون.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا) (٣) أي يوم القيامة قال العاشى عن ذكر الرحمن يا ليت متمنيا بينى وبينك بعد المشرقين أي يتمنى لو أن بينه وبين قرينه من الشياطين من البعد كما بين المشرق والمغرب. قال تعالى لأولئك العاشين (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) أنفسكم بالشرك والمعاصى فى الدنيا أنكم فى العذاب مشتركون أي إن اشتراككم فى العذاب غير نافع لكم ولا مجد ابدا. وقوله تعالى لرسوله : (أَفَأَنْتَ (٤) تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ

__________________

(١) هذا مضارع عشا يعشوا عشوا كغزا (يغزوا) غزوا إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى والعشا بفتح العين والشين اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء. وعشى كرضى إذا كان في بصره آفة العشا.

(٢) قيض يقيض تقييضا فالتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة أي القشر المحيط بالمح ، وهو لا يفارقه حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما اتيح له القيض.

(٣) قرأ نافع جاءانا أي من يعش عن ذكر الرحمن والشيطان المقيض له وقرأ حفص بالإفراد (جاءَنا) أي العاشي عن ذكر الرحمن.

(٤) الاستفهام إنكاري وفي الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسجيل أن الكافر أصم أعمى ومقابله المؤمن يسمع ويبصر.

مُبِينٍ) ينكر تعالى على رسوله ظنه أنه يقدر على هدايتهم وحده بدون إرادة الله تعالى ذلك لهم إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد فى دعائهم ، وهم لا يزدادون إلا تعاميا وتجاهلا وكفرا فقال تعالى يخاطب رسوله (أَفَأَنْتَ) والاستفهام للانكار تسمع الصم الذين ذهب الله بأسماعهم ، أو تهدى العمى الذين ذهب الله بأبصارهم ، ومن كان فى ضلال مبين عن الحق وسبيل الرشد والهدى إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك وترفق فى دعوتك فإنك لا تكلف غير البلاغ وقد بلغت.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى فيمن يعرض عن ذكر الله فإنه يسبب له شيطانا يضله ويحرمه الهداية أبدا فيقيم على الذنوب والآثام ضالا الطريق المنجى المسعد وهو يحسب انه مهتد ، وهذا يتعرض له المعرضون عن الكتاب والسنة كالمبتدعة واصحاب الأهواء والشهوات والعياذ بالله تعالى.

٢ ـ الاشتراك في العذاب يوم القيامة لا يخففه.

٣ ـ بيان أن من اعماه الله وأصمه حسب سنته فى ذلك لا هادى له ولا مسمع له ولا مبصر.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) : أي فإن نذهبن بك أي نميتك (١) قبل تعذيبهم ، وما زائد ادغمت فيها إن الشرطية فصارت إمّا.

(فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) : أي معذبوهم فى الدنيا وفى الآخرة.

وإما نرينك الذى وعدناهم : أي وإن نرينك بعض الذى نعدهم من العذاب.

__________________

(١) أو بالخروج من مكة مكرها عليه من قبل أعدائك ، وهجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كانت إلا بإرادته الحرة ولم يكن فيها مكرها ولا ملجأ ولذا لم ينتقم الله من أهل مكة كما هو في التفسير.

(فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) : أي لا يعوقنا عائق لأنا عليهم قادرون.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) : أي دم على استمساكك بالقرآن سواء عجلنا لك بالموعود به أو أخرناه.

(إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي إنك على طريق الحق والهدى فواصل سيرك.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) : أي وإن القرآن لشرف لك وشرف لقومك.

(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) : أي عن القرآن أي عن العمل به بتطبيق شرائعه وابلاغه لغيركم

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أي اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوراة والانجيل.

(أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) : أي هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والجواب لم نجعل أبدا فليفهم هذا مشركو مكة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى دعوة كفار قريش إلى الإيمان والتوحيد فقوله تعالى (فَإِمَّا نَذْهَبَنَ (١) بِكَ) أي إن نذهب بك أى نخرجك من بين أظهرهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أى فنعذبهم كما عذبنا الأمم من قبلهم عند ما يخرجون رسولهم (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من نصرك عليهم وغلبتك لهم فإنا عليهم مقتدرون أى قادرون على أن نفعل بهم ذلك.

وقوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ (٢) بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فتمسك يا رسولنا بما يأمرك به هذا القرآن الذى أوحاه إليك ربك إنك على صراط مستقيم وهو الإسلام الذى لا يشقى من تمسك به فعاش عليه ومات عليه. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي وان القرآن الذى أوحى إليك وأمرت بالتمسك به هو ذكر لك أي شرف وأى شرف (٣) ولقومك من قريش كذلك إذا آمنوا به وعملوا بما جاء فيه وسوف (٤) تسألون عن العمل به وتطبيق أحكامه والالتزام بشرائعه.

__________________

(١) الفاء تفريعية فالجملة متفرعة عما تقدم من قوله أفأنت تسمع الصم الخ والذهاب هنا قابل للموت والإخراج كرها بقرينة الوعيد المترتب عليه.

(٢) (فَاسْتَمْسِكْ) الفاء تفريعية عما قبلها والآية تحض على التمسك بالإسلام تشريعا وعملا.

(٣) هذه الآية كآية الأنبياء وهي : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ومنشأ هذا الشرف هو أن قريشا نزل القرآن بلغتها فكل الناس محتاجون إلى معرفة لغتهم ليعرفوا ما طلب منهم من عقائد وعبادات وآداب فبهذا شرفت قريش.

(٤) من فسر السؤال بالعمل هو حق وكذا من فسره بالشكر فهو حق لأن شكر العلم العمل به وتعليمه.

وقوله (وَسْئَلْ مَنْ (١) أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)؟ أي وأسأل يا رسولنا مؤمني أهل الكتابين التوراه والانجيل إذ سؤالهما سؤال رسلهم الذين ماتوا من قبلك هل جعل الله تعالى من دونه آلهة يعبدون؟ وسوف يجيبونك بقولهم حاشا لله أن يأذن بعباده غيره من خلقه وهو الله لا إله إلا هو ، وهذا من أجل تنبيه أذهان قريش إلى خطأها الفاحش فى اصرارها على عبادة الأصنام إن القرآن نزل لهدايتهم وهداية غيرهم من بني آدم على الإطلاق إلا أنهم هم أولا وغيرهم ثانيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من سنة الله فى الأمم إذا أخرج الرسول قومه مكرها انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم.

٢ ـ صدق وعد الله تعالى لرسوله فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه.

٣ ـ وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا.

٤ ـ شرف هذه الأمة بالقرآن فإن أضاعته أضاعها الله وأذلّها وقد فعل.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

__________________

(١) جائز أن يكون الكلام على ظاهره وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جمع الله تعالى له العديد من الرسل والأنبياء في بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج وسألهم فأجابوا بالحق وهو أن الله تعالى لم يأذن أبدا في عبادة غيره وجائز أن يكون في الكلام حذف دل عليه واقع الحياة إذ لا يسأل الأموات وإنما يسأل الأحياء وتقدير المحذوف واسأل أتباع من أرسلنا من قبلك وهم مؤمنو أهل الكتابين من أتباع موسى وعيسى كما هو في التفسير.

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) : أي أرسلناه بالمعجزات الدالة على صدق رسالته.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : أي وقومه من القبط.

(إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) : أي سخرية واستهزاء.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) : أي من آيات العذاب كالطوفان.

(إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) : أي من قرينتها التى قبلها من الآيات.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) : أي أيها العالم بالسحر المتبحر فيه.

(بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) : أي من كشف العذاب عنا إن آمنا.

(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : أي إن كشفت عنا العذاب إنا مؤمنون.

(إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) : أي ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون الرسول من ذوى المال والجاه كالوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود وقال فرعون : أم أنا خير من هذا الذى هو مهين أي حقير يعنى موسى عليه‌السلام. ومن جهة أخرى كان لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر كما صبر موسى وهو أحد أولى العزم الخمسة فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بحججنا الدالة على صدق موسى فى رسالته إلى فرعون وقومه بأن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره ، وان يرسلوا مع موسى بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى أرض المعاد «فلسطين» فلما جاءهم قال إنى رسول رب العالمين جئتكم لآمركم بعبادة الله وحده وترك عبادة من سواه ، إذ لا يستحق العبادة إلا الله. فطالبوه بالآيات على صدق دعواه فلما جاءهم بالآيات العظام فاجأوه بالضحك منها والسخرية والاستهزاء بها وهو معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (١).

وقوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) (٢) أي وما نرى فرعون وملأه من آية إلا هى أكبر دلالة على صدق موسى من الآية التى سبقتها. قال تعالى (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ

__________________

(١) أي استهزاء وسخرية يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخييل وأنهم قادرون على الإتيان بمثلها.

(٢) الأخت هنا بمعنى المشاكلة والمجانسة النوعية كما يقال هذه صاحبة تلك أي قريبة منها في المعنى والكبر المراد به الكبر في الدلالة على صدق موسى وصحة دعوته إذ المعجزات تتفاوت في العظمة كما قال الشاعر :

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسرى بها الساري

يَرْجِعُونَ) الى الحق فيؤمنون ويوحدون. وقالوا لموسى (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) (١) أى العليم بالسحر المتبحر فيه ظنا منهم أن المعجزات كانت عمل ساحر. (ادْعُ لَنا رَبَّكَ (٢) بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أى سل ربك يرفع عنّا هذا العذاب كالطوفان والجراد والقمل والضفادع إنا مؤمنون وكانوا كلما نزل بهم العذاب سألوا موسى ووعدوه بالإيمان به إن رفع الله عنهم العذاب وفى كل مرة ينكثون عهدهم وهو قوله تعالى (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي ينقضون العهد ولا يؤمنون كما واعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الآيات دليل على صدق من جاء بها ، ولكن لا تستلزم الإيمان ممن شاهدها.

٢ ـ قد يؤاخذ الله الأفراد أو الجماعات بالذنب المرة بعد المرة لعلهم يتوبون إليه.

٣ ـ حرمه خلف الوعد ونكث العهد ، وأنهما من آيات النفاق وعلاماته.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

__________________

(١) هذا النداء في هذا الموقف كان نداء تكريم وتعظيم كعادتهم في توقير وتعظيم علمائهم السحرة لأنهم لما أصابهم من البلاء اعترفوا بمكانة موسى وسيادته وأيه تكتب بدون ألف اتباعا للمصحف وحذفت الألف نظرا إلى سقوطها في النطق للوصل والهاء حرف تنبيه أتي بها للفصل بين أي وبين نعتها في النداء.

(٢) هذا جريا على اعتقاد الأقباط وهو أن لكل أمة أو قبيلة ربا خاصا بها لذا قالوا لموسى أدع لنا ربك.

شرح الكلمات :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) : أي نادى فيهم افتخارا وتبجحا بما عنده.

(وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) : أي من النيل تجرى من تحت قصورى.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ) : أي عظمتى وما أنا عليه من الجلال والكمال.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ) : أي من موسى الذى هو مهين ولا يكاد يبين أي يفصح للثّغة التى في لسانه.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) : أي هلّا ألقي عليه أسورة من ذهب من قبل الذى أرسله.

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) : أي أو جاءت الملائكة يتبع بعضها بعضا تشهد له بالرسالة.

فاستخف فرعون قومه : أي استفز فرعون قومه أى قال لهم ما حركهم به فخفوا لطاعته.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) : أي أطاعوه لكونهم قوما فاسقين ففسقهم هو علة طاعتهم.

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم.

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) : أي فرعون وقومه سلفا أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

(وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) : أي يتمثلون بحالهم فلا يقدمون على مثل فعلهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى قصة موسى مع فرعون قال تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ (١) فِي قَوْمِهِ) لأجل الافتخار والتطاول إرهابا للناس قال يا قوم أليس لى ملك مصر ، وهذه الأنهار أى أنهار النيل (٢) تجرى من تحتى (٣) أى من تحت قصوره ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) فإذا ابصرتم فقولوا (أَنَا خَيْرٌ (٤) مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أى حقير يتولى الخدمة بنفسه ، (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أى يفصح بلسانه لعلة به وهى اللثغة أو هو؟. (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ (٥) مِنْ ذَهَبٍ) أى هلّا ألقى عليه من أرسله أساورة من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة. قال تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أى استفزهم بقوله هذا وحركهم (فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ، والفاسق جبان خواف يستجيب بسرعة للباطل ان كان ممن يخاف عادة كالحاكم الظالم.

__________________

(١) قيل لما كشف الله عنهم العذاب بدعوة موسى أضمر فرعون وملؤه نكث العهد الذي أعطاه لموسى وهو أنهم يهتدون فخاف فرعون أن يتبع قومه موسى فقام بهذه المناورة الرخيصة فنادى في قومه فجمعهم وقال فيهم ما ذكر تعالى.

(٢) (هذِهِ الْأَنْهارُ) هي فروع النيل وهي أربعة هي نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنّيس.

(٣) جائز أن تكون الأنهار له تسلط على مصابها فلذا هدد قومه بذلك.

(٤) (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) (أم) المنقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي والتقدير بل انا خير والاستفهام تقريري أراد تفضيل نفسه على موسى عليه‌السلام والمهين : الذليل الذي لم يكن من بيوت الشرف والجاه.

(٥) قرأ نافع والجمهور أساورة جمع أسوار لغة في سوار ، وقرأ حفص (أَسْوِرَةٌ) جمع سوار والمراد من قوله ألقى عليه أساوره يريد إن كان ملكا أو رسولا كما يزعم لم لا يلقى إليه من السماء أساورة كالتي يلبسها ملوك فارس ومصر ، أو تأتي معه الملائكة يشهدون له بالرسالة بما يدعى وكل هذا من باب دفع معرة الهزيمة التي لحقته.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا) أى أغضبونا بنكثهم وكفرهم وكبريائهم وظلمهم أغرقناهم أجمعين أى فلم نبق منهم أحدا والمراد فرعون وجنوده. وقوله تعالى (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً (١) وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي جعلنا فرعون ، ومن أغرقنا معه من ملائه وجيوشيه سلفا أي سابقين ليكنوا عبرة لمن بعدهم ، ومثلا يتمثل به من بعدهم فلا يقدمون على ما أقدموا عليه من الكفر والظلم والعلو والفساد ، وأولى من يعتبر بهذا قريش التى نزل لينبّهها ويحرك كامن نفسها لتنتبه من غفلتها فتؤمن وتوحد فتنجو وتكمل وتسعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الفخر والمباهاة إذ هما من صفات المتكبرين والظالمين. ٢ ـ الاحتقار للفقراء والازدراء بهم من صفات الجبارين الظلمة المتكبرين. ٣ ـ الفسق يجعل صاحبه مطية لكل ظالم أداة يسخره كما يشاء. ٤ ـ التحذير من غضب الرب تبارك وتعالى فإنه متى غضب انتقم فبطش.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) : أي ولما جعل عيسى بن مريم مثلا ، والضارب ابن الزبعرى.

(إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) : أي إذ المشركون من قومك يصدون أي يضحكون فرحا بما سمعوا.

__________________

(١) السلف : جمع سالف كخدم جمع خادم وحرس جمع لحارس والسالف : من يسبق غيره في الوجود.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) : أي ألهتنا التى نعبدها خير أم هو أي عيسى بن مريم فنرضى أن تكون آلهتنا معه.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) : أي ما جعلوه أي المثل لك إلا خصومة بالباطل لعلمهم أن ما لغير العاقل فلا يتناول اللفظ عيسى عليه‌السلام.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) : أي شديد والخصومة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) : أي ما هو أي عيسى إلا عبد انعمنا عليه بالنبوة.

(وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي لوجوده من غير أب كان مثلا لبنى إسرائيل لغرابته يستدل به على قدرة الله على ما يشاء.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) : أي ولو شاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة.

(فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) : أي يعمرون الأرض ويعبدون الله فيها يخلفونكم فيها بعد إهلاككم.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) : أي وإن عيسى عليه‌السلام لعلم للساعة تعلم بنزوله إذا نزل.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) : أي لا تشكن فيها أى فى إثباتها ولا فى قربها.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي وقل لهم اتبعون على التوحيد هذا صراط مستقيم وهو الإسلام.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) : أي ولا يصرفنكم الشيطان عن الإسلام.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) : أي إن الشيطان لكم عدو بيّن العداوة فلا تتبعوه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) روى أن ابن الزبعرى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال : أهذا لنا ولألهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، فقال ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرح بها المشركون وضحكوا وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت فى هذه الحادثة الآية : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ (١) مَرْيَمَ مَثَلاً) أى ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا إذ جعله مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلها وعبدوه من دون الله ، وقال فإذا كان عيسى والعزير

__________________

(١) المراد بالمثل هنا الممثل به والمشبه به لأن ابن الزبعري شبه آلهتهم بعيسى في أنها عبدت من دون الله مثله فإذا كانوا في النار فعيسى كذلك.

والملائكة فى النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها المشركون (١) وصدوا وضجوا بالضحك. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي المسيح؟ قال تعالى لرسوله : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أى ما ضرب لك ابن الزبعرى هذا المثل طلبا للحق وبحثا عنه وانما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) مجبولون على الجدل والخصام.

وقوله (إِنْ هُوَ) أي عيسى (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة والرسالة ، (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يستدلون به على قدرة الله وانه عزوجل على كل ما يشاء قدير إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من تراب ثم قال له كن فكان.

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لأهلكناكم يا بنى آدم ولم نبق منكم أحدا. وجعلنا بدلكم فى الأرض ملائكة يخلفونكم فيها فيعمرونها ويعبدون الله تعالى فيها ويوحدونه ولا يشركون به سواه.

وقوله (وَإِنَّهُ (٢) لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وإن عيسى عليه‌السلام لعلامة للساعة أي إن نزول عيسى عليه‌السلام فى آخر الزمان علامة على قرب الساعة. (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أى فلا تشكّن فى إتيانها فانها آتية وقريبة. وقوله (وَاتَّبِعُونِ) أى وقل لهم يا رسولنا واتبعون على التوحيد وما جئتكم به من الهدى (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى الإسلام القائم على التوحيد الذى نزل به القرآن وجاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن الإسلام بوساوسه وإغوائه فيصرفكم عن التوحيد والإسلام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وليس أدل على عداوته من أنه اخرج آدم بإغوائه من الجنة حسدا له وبغيا عليه. فمثل هذا العدو لا يصح أبدا الاستماع إليه والمشي وراءه واتباع خطواته. ومن يتبع خطواته يهلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن قريشا أوتيت الجدل والقوة فى الخصومة.

٢ ـ ذم الجدل لغير إحقاق حق أو إبطال باطل وفى الحديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.

٣ ـ شرف عيسى وعلو مكانته وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء.

٥ ـ حرمة اتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدى.

__________________

(١) قرأ نافع يصدون من صد يصد عن كذا إذا أعرض فيصدون بمعنى يعرضون عن القرآن ويقولون إن فيه تناقضا من أجل فرية ابن الزبعرى ، وقرأ حفص (يَصِدُّونَ) بكسر الصاد من الصد بمعنى الصخب والضجيج.

(٢) وجائز أن يكون الضمير في (وَإِنَّهُ) عائد إلى القرآن أو إلى المنزّل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى مشيرا إليهما. وما في التفسير مروي عن كبار التابعين مجاهد وقتادة وابن عباس الصاحب الجليل رضي الله عنهما ولذا قدمته في التفسير.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) : أي ولما جاء عيسى بن مريم إلى بنى إسرائيل بالمعجزات والشرائع.

(قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) : أي قال لبنى إسرائيل قد جئتكم بالنبوة وشرائع الإنجيل.

(وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أحكام التوراة من أمر الدين وغيره.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) : أي خافوا الله وأطيعون فيما أبلغكموه عن الله من الأمر والنهى.

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) : أي إن الله إلهي والهكم فاعبدوه بحبه وتعظيمه والذلة له.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي تقوى الله وطاعة الرسول وعبادة الله بما شرع هو الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) : أي فى شأن عيسى أهو الله : أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) : أي فويل للذين كفروا بما قالوا فى عيسى من الكذب والباطل.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أي ما ينتظر هؤلاء الأحزاب مع إصرارهم على ما قالوه فى عيسى إلا الساعة أن تأتيهم بغته فجأة وهم لا يشعرون.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى جدل المشركين فى مكة وفرحهم بالباطل الذى قاله ابن الزبعرى فى شأن

الملائكة والعزيز وعيسى عليهم‌السلام من أنهم فى النار مع من عبدوهم ، وبرأ تعالى الملائكة والعزيز وعيسى لأنهم ما أمروا الناس بعبادتهم حتى يؤاخذوا بها ، وانما امر بعبادتهم الشيطان فالشيطان ومن عبدوهم هم الذين فى النار. وذكر تعالى شرف عيسى ومكانته وانه عبد أنعم عليه بالنبوة وجعله مثلا لبنى إسرائيل يستدلون به على قدرة الله تعالى إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وإنما خلقه من تراب ذكر رسالة عيسى عليه‌السلام إلى بنى إسرائيل ليكون ذلك موعظة لكفار مكة فقال تعالى (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) (١) أي جاء بنى إسرائيل مصحوبا بالبينات هى الإنجيل والمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما إلى ذلك ، قال لهم (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أى النبوة من عند الله ، (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة وأمور الدين إذا (فَاتَّقُوا اللهَ) (٢) يا بنى إسرائيل أي خافوا عقابه المترتب على معاصيه (وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغكموه من أمر ونهى عن الله تعالى ، إن الله ربى وربكم أى إلهى وآلهكم لا إله إلا هو فاعبدوه بفعل محابه وترك مساخطه حبا فيه وتعظيما له ورهبة ورغبة. وقوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى هذا الذى دعوتكم إليه من اتقاء الله ، وطاعة رسوله وعبادته وحده هو الطريق المستقيم الذى يفضى بسالكه إلى سعادة الدارين. قال تعالى : (فَاخْتَلَفَ (٣) الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من بين بنى إسرائيل من يهود ونصارى فقالت طائفة من اليهود إفتراء أن عيسى ابن مريم ابن زنا وأمه بغي وقالوا ساحر. وقال النصارى : هو الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة. قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم فتوعدهم الرب تعالى بالويل الذى هو واد يسيل فى جهنم بما يتجمع من صديد فروج أهل النار وأبدانهم من دماء وقروح وأوساخ وهو عذاب يوم القيامة الأليم توعد هؤلاء الظالمين بما قالوا فى عيسى عبد الله ورسوله عليه‌السلام وقال تعالى : (هَلْ (٤) يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينظرون إلا الساعة لأنهم ما تابوا إلى الله ولا راجعوا الحق فيما قالوه فى عيسى بل أصروا : اليهود يصفونه بأخس الصفات والنصارى يصفونه بالألوهية التى هى حق الله رب عيسى ورب العالمين أن تأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون لأنهم مشغولون بالذرة والهدرجين والاستعمار والتجارة والانغماس فى الشهوات كما هو واقع ومشاهد اليوم. وصدق الله العظيم.

__________________

(١) قال بن عباس يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام وخلق الطير والمائدة وغيرها والإخبار بكثير من الغيوب.

(٢) أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده ومن قال هذا فكيف يكون إلها يعبد وهو عبد يعبد ويوحد؟.

(٣) ومن اختلافاتهم التي نعيت عليهم اختلاف فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعقوبية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية هو ابن الله وقالت اليعقوبية هو الله وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله قاله الكلبي وغيره.

(٤) الجملة مستأنفة بيانيا لما تقدم مما يثير في النفس تساؤلا فكان الجواب أن العذاب آت وأهله ما ينظرون إلا الساعة وأهل العذاب هم المختلفون من أهل الكتاب والمشركين إذ الجميع ظلموا بالشرك والكفر والتكذيب والآية تدعوهم إلى التوبة لينجوا من العذاب الأليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان رسالة عيسى إلى بنى إسرائيل.

٢ ـ وجوب التقوى لله وطاعة الرسول ، وتوحيد الله فى عبادته.

٣ ـ بيان شؤم الخلاف ، وما يجره من التوغل فى الكفر والفساد.

٤ ـ وعيد الله لليهود والنصارى الذين لم يدخلوا فى الإسلام بالويل وهو عذاب يوم أليم.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

شرح الكلمات :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : أي الأحباء يوم إذ تأتيهم الساعة بغته.

(إِلَّا الْمُتَّقِينَ) : فإن محبتهم تدوم لهم لأنها كانت في الله وطاعته.

يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون : أي ينادون فيقال لهم لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون بل تحبرون أى تسرون وتكرمون.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) : أي يطوف عليهم الملائكة بقصاع من ذهب وفيها الطعام وأكواب من ذهب فيها الشراب اللذيذ.

(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) : أي فى الجنة ما تشتهيه الأنفس تلذذا به وتلذه الأعين نظرا إليه.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما) : أي يقال لهم وهذه هى الجنة التى أورثكموها الله بأعمالكم

(كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : الصالحة التى هى ثمرة إيمانكم الصادق وإخلاصكم الكامل.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى ذكر أحداث الساعة قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ (١) بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي إذا جاءت الساعة الأخلاء أى الأحباء فى الدنيا يوم إذ تأتى الساعة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فتنقطع تلك الخلة والمودة وتصبح عداء لأنها كانت على معصية الله تعالى وقوله (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي الله عزوجل بفعل أوامره وترك نواهيه فإن مودتهم وخلتهم لا تنقطع لأنها كانت محبة فى الله وما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل يناديهم ربهم بقوله يا عبادى (٢) (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (٣) وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ، ويصفهم بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أى منقادين لله ظاهرا وباطنا ، ويقول لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي أنتم وزوجاتكم المؤمنات تفرحون وتسرون وقوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بيان لنعيم الجنة الذى ينعمون به وهو انه يطاف عليهم (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) (٤) وهى قصاع ، فيها الذ الطعام وأشهاه ، (وَأَكْوابٍ) من ذهب أيضا فيها الذ الشراب والأكواب جمع كوب وهو إناء لا عروة له ولا خرطوم ـ حتى يمكن الشرب منه من أى جهة من جهاته وفيها أي فى الجنّة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من سائر المستلذات ، (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) من سائر المرئيات ويقال لهم لكم ما تشتهون (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) لا تخرجون منها ولا تموتون فيها.

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) (٥) أي وهذه هى الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون من الصالحات والخيرات ، ووجه الوراثة أن الله تعالى خلق لكل إنسان منزلين أحدهما فى الجنة والثانى فى النار فكل من دخل الجنة ورث منزل أحد دخل النار فهذا أوجه التوارث والباء فى بما

__________________

(١) ذكر القرطبي رواية عن النقاش ان هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين وكان عقبة يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت قد صبأ عقبة فقال أمية وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة عليهما لعائن الله ذلك فنذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا وقتل أمية في المعركة ففيهم نزلت هذه الآية والآية عامة في كل كافر وظالم.

(٢) قرأ نافع والجمهور يا عبادي بالياء بعد الدال وهي ياء المتكلم وقرأ حفص بحذفها تخفيفا لدلالة اللفظ والسياق عليها.

(٣) روي ان المنادي لما يقول يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون يرفع أهل العرصة رؤوسهم فيقول المنادي الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأديان رؤسهم إلا المسلمين.

(٤) في الصحيحين عن حذيفة انه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وفي صحيح مسلم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا فما بال الطعام؟ قال جشأ ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير.

(٥) أشار إليها بلام البعد لعلوها وعظيم منازلها وسمو درجاتها.

كنتم تعملون سببة أى بسبب اعمالكم الصالحة التى زكت نفوسكم وطهرت أرواحكم فاستوجبتم دخول الجنة وارث منازلها.

وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ (١) مِنْها تَأْكُلُونَ) أي يقال لهم هذا إكراما لهم وإسعادا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كل خلة يوم القيامة تنقطع إلا خلة كانت فى الله ولله سبحانه وتعالى ، ولذا ينبغى أن تكون المودة فى الدنيا لله لا لغيره تعالى.

٢ ـ بيان فضل التقوى وشرف المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصى.

٣ ـ بيان أن الرجل يجمع الله بينه وبين زوجته المسلمة فى الجنة.

٤ ـ بيان نعيم أهل الجنة من طعام وشراب وسائر المستلذات.

٥ ـ الإيمان والعمل الصالح سبب فى دخول الجنة كما أن الشرك والمعاصى سبب فى دخول النار.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) : أي أن الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصى فى جهنم خالدون لا يخرجون ولا يموتون.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) : أي لا يخفف عنهم العذاب وهم فيه ساكتون سكوت يأس.

__________________

(١) الفاكهة قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الثمار كلها رطبها ويابسها ، وبائعها يقال له الفاكهاني.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) : أي ونادوا مالكا خازن النار قائلين له ليمتنا ربك.

(قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) : أي أجابهم بعد ألف سنة مضت على دعوتهم بقوله إنكم ماكثون أي مقيمون فى عذاب جهنم دائما.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) : أي علة بقائكم أنا جئناكم بالحق على لسان رسولنا والحق التوحيد وعبادة الله بما شرع فكره أكثركم الحق.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) : أي أحكموا فى الكيد للنبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا محكمون كيدنا فى إهلاكهم.

(وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) : أي وملائكتنا من الحفظة يكتبون ما يسرون وما يعلنون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الجنة ونعيمها ذكر فى هذه الآيات النار وعذابها وهذا هو الترغيب والترهيب الذى امتاز به اسلوب القران فى الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الإصلاح قال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) (١) أى الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصى هؤلاء (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) ، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) العذاب أى لا يخفف وهم فيه أى فى العذاب مبلسون أى ساكتون آيسون قانطون. وقال تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) فى تعذيبنا لهم بهذا العذاب (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ، حيث دسوا أنفسهم بالشرك والمعاصى.

وقوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ (٢) عَلَيْنا رَبُّكَ) يخبر تعالى ان أصحاب ذلك العذاب الدائم الذى لا يفتر فيخفف نادوا مالكا خازن النار وقالوا له ليمتنا ربك فنستريح من العذاب. فأجابهم مالك بعد ألف (٣) سنة قائلا قال أي ربى (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أى فى عذاب جهنم ، وعلل لهذا الحكم بالمكث أبدا فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أى أرسلنا إليكم رسولنا بالحق يدعوكم إليه وهو الإيمان والعمل الصالح المزكى للنفوس فكره أكثركم (٤) ذلك فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا مؤثرين شهوات الدنيا على الآخرة فمتم على الشرك والكفر فهذا جزاء الكافرين.

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن سائلا بعد أن علم بحال أهل الإيمان والتقوى يسأل عن حال أهل الإجرام فأجيب بأن المجرمين الخ.

(٢) قال ابن مسعود وأبو الدرداء قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ونادوا يا مال أي رخم الاسم المنادى بحذف الحرف الأخير منه وهو شائع في كلام العرب فيقال في مالك يا مال وفي حارث يا حار وفي فاطمة يا فاطم قال الشاعر :

يا حار لا أرثينّ منكم بداهية

لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك

وقال آخر :

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

وان كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

(٣) روى هذا الترمذي وهناك رواية أخرى في ذكر المدة التي يجابون بعدها.

(٤) الذين كرهوا الحق هم الرؤساء حفاظا على مراكزهم وأما الاتباع فلم يكرهوا الحق ولكن اتبعوا الرؤساء فماتوا على الشرك والكفر فدخلوا النار معهم.

وقوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا (١) أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل أبرم هؤلاء المشركون أمرا يكيدون فيه للرسول ودعوته فإن فعلوا ذلك فإنا مبرمون أي محكمون أمرا مضاف لهم بتعذيبهم وإبطال ما أحكموه من الكيد للرسول ودعوته. وقوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) نسمع ذلك ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ما يقولون سرا وجهرا. روى أن ثلاثة نفر قالوا وهم تحت استار الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم إذا جهرتم سمع ، وإذا اسررتم لم يسمع وقال الثانى ان كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا أسررتم فنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ (٢) سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) أي نسمع سرهم ونجواهم

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عقوبة الإجرام على النفس بالشرك والمعاصى.

٢ ـ عذاب الآخرة لا يطاق ولا يقادر قدره يدل عليه طلبهم الموت ليستريحوا منه وما هم بميتين.

٣ ـ أكبر عامل من عوامل كراهية الحق حب الدنيا والشهوات البهيمية فى الأكل والشرب والنكاح هذه التى تكرّه إلى صاحبها الدين وشرائعه التى قد تقيد من الإسراف فى ذلك.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥))

__________________

(١) (أَمْ) المنقطعة تفسر ببل للاضراب الانتقالي والاستفهام محذوف الأداة تخفيفا أي أأبرموا أمرا والاستفهام تقريري والمراد بالأمر ما يبيتونه من مكر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجمعوا عليه وهو قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في دار الندوة فأبرم الله أمرا فأهلكهم فى بدر.

(٢) السر : ما يسرونه في أنفسهم من وسائل المكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفي.

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) : أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الزاعمين أن الملائكة بنات الله إن كان للرحمن ولد فرضا.

(فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) : أي فأنا أول من يعبده تعظيما لله واجلالا ولكن لا ولد له فلا عبادة إذا لغيره.

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) : أي تنزّه وتقدس

(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي عما يصفون به الله تعالى من ان له ولدا وشركاء.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) : أي اتركهم يا رسولنا يخوضوا فى باطلهم ويلعبوا فى دنياهم.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) : أي معبود فى السماء.

(وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) : أي ومعبود فى الأرض.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) : أي تعاظم وجل جلال الذى له ملك السموات.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي عنده علم وقت مجيئها.

معنى الآيات :

سبق أن بكّت تعالى المشركين فى دعواهم أن الملائكة بنات الله وتوعدهم بالعذاب على قولهم الباطل وهنا قال لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهم إن كان للرحمن (١) ولد كما تفترون فرضا وتقديرا فأنا أول العابدين له (٢) ، ولكن لم يكن للرحمن ولد. فلم أكن لأعبد غير الله تعالى ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). وقوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه تعالى نفسه وقدسها وهو رب السموات والأرض ورب العرش أي مالك ذلك كله وسلطانه عليه جميعه عما يصفه المشركون به من أن له ولدا وشركاء. وهنا قال تعالى لرسوله إذا أصروا على باطلهم من الشرك والعذاب على الله والافتراء عليه فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا فى دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون وهو يوم عذابهم المعد لهم وذلك يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي معبود فى السماء ومعبود فى الأرض أي معظم غاية التعظيم ، ومحبوب غاية الحب ومتذلل له غاية الذل فى الأرض والسماء وهو الحكيم فى صنعه وتدبيره العليم بأحوال خلقه فهل مثله تعالى يفتقر الى زوجة وولد تعالى

__________________

(١) يروى عن ابن عباس والحسن والسدي أن. إن ليست شرطية وهي نافية بمعنى ما وتقدير الكلام ما كان للرحمن ولد. وهنا تم الكلام ثم قال فأنا أول العابدين وهذا الرأي ضعيف ويتنافي مع السياق وما في التفسير هو الصواب.

(٢) له أي لذلك الولد لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد إلا أنه لا ولد له ولا ينبغي له لغناه المطلق.

الله عن ذلك علوا كبيرا. وقوله (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ (١) مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تعاظم وجل جلاله وعظم سلطانه الذي له (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) والدنيا والآخرة ، وعنده علم الساعة وإليه ترجعون أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ، وهو على كل شىء قدير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية التلطف فى الخطاب والتنزل مع المخاطب لإقامة الحجة عليه كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وكما هنا قل إن كان للرحمن ولد من باب الفرض والتقدير فأنا أول العابدين له ولكن لا ولد له فلا أعبد غيره سبحانه وتعالى.

٢ ـ تهديد المشركين بعذاب يوم القيامة.

٣ ـ إقامة البراهين على بطلان نسبه الولد إلى الله تعالى.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) : أي يعبدونهم.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله.

(الشَّفاعَةَ) : أي لأحد.

(إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) : أي لكن الذى شهد بالحق فوحد الله تعالى على علم هذا الذى تناله شفاعة الملائكة والأنبياء.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته.

(وَقِيلِهِ) : أي قول النبى يا رب إن هؤلاء.

__________________

(١) تعاظم وتسامى عما يصفه به المشركون من الشريك والصاحبة والولد وتبارك هو خبر لفظا وإنشاء معنى إذ هو لفظ أريد به المدح العظيم لذي الخير العظيم.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) : أي أعرض عنهم.

(وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ) : أي امرى سلام منكم ، فسوف تعلمون عاقبة كفركم.

معنى الآيات :

لما أعلم تعالى فى الآية السابقة أن رجوع الناس إليه يوم القيامة ، وكان المشركون يزعمون ان آلهتهم من الملائكة وغيرها تشفع لهم يوم القيامة واتخذوا هذا ذريعة لعبادتهم فأعلمهم تعالى فى هذه الآية (٨٦) أن من يدعونهم بمعنى يعبدونهم من الأصنام والملائكة وغيرهم (١) من دون الله لا يملكون الشفاعة لأحد ، فالله وحده هو الذى يملك الشفاعة ويعطيها لمن يشاء هذا معنى قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي استثنى الله تعالى أن من شهد بالحق أي بأنه لا إله إلا الله ، وهو يعلم ذلك علما يقينا فهذا قد يشفع له الملائكة أو الأنبياء فقال عزوجل (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فالموحدون تنالهم الشفاعة بإذن الله تعالى. وقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلفهم لأجابوك قائلين الله. فسبحان الله كيف يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد العبادة فلذا قال تعالى : (فَأَنَّى (٣) يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته يعرفون أن الله هو الخالق لهم ويعبدون غيره ويتركون عبادته.

وقوله (وَقِيلِهِ (٤) يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم تعالى قيل رسوله وشكواه وهي يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لما شاهد من عنادهم وتصلبهم شكاهم الى ربه تعالى فأمره ربه عزوجل أن يصفح (٥) عنهم أي يتجاوز عما يلقاه منهم من شدة وعنت وأن يقول لهم سلام وهو سلام متاركة لا سلام تحية وتعظيم أى قل لهم أمرى سلام. فسوف تعلمون (٦) عاقبة : هذا الإصرار على الكفر والتكذيب فكان هذا منه تهديدا لهم بذكر ما ينتظرهم من أليم العذاب إن ماتوا على كفرهم.

__________________

(١) مثل عيسى والعزيز.

(٢) (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الجملة حالية وفي هذا دليل على أن من لم يفهم معنى لا إله إلا الله ويقولها لا تنفعه ولا ينال بها الشفاعة يوم القيامة إذ لا بد من فهمه ما ذا نفى وما ذا أثبت ولذا إيمان المقلد اختلف في صحته أهل العلم.

(٣) (فَأَنَّى) اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية أي إلى أي مكان يصرفون؟ وماضي (يُؤْفَكُونَ) أفك يأفك أفكا على وزن ضرب يضرب ضربا وأفكه كضربه.

(٤) هذا على قراءة نافع وهي نصب قيله أما على قراءة حفص (وَقِيلِهِ) مجرور عطفا على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيل رسوله كذا. وهو (قيل) مصدر قال كالقول ، وأصله قول فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح والضمير في قيله يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو القائل يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لطول ما دعاهم وهو معرضون عن الحق مصرون على الكفر.

(٥) مثل هذا (فاصفح وقل سلام) منسوخ بآيات القتال التي نزلت بالمدينة النبوية بعد الهجرة.

(٦) قرأ نافع تعلمون بالتاء وقرأ حفص والجمهور (يَعْلَمُونَ) بالياء فالأول مما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله للمشركين ، والثاني على أنه وعد من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ينتقم من المكذبين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحد إلا الله تعالى فمن أذن له شفع ومن لم يأذن له لا يشفع ، ولا يشفّع إلا لأهل التوحيد خاصة أما أهل الشرك والكفر فلا شفاعة لهم.

٢ ـ مشركو العرب على عهد النبوة موحدون فى الربوبية مشركون فى العبادة.

٣ ـ مشروعية الصفح والتجاوز عند العجز عن إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله تعالى.

فهرس المجلد الرابع

سورة النمل من الآية (١)....................................................... ٤

الجزء العشرون.................................................................. ٣٢

سورة النمل من الآية (٥٦)................................................... ٣٢

سورة القصص من الآية (١).................................................. ٥٠

سورة العنكبوت من الآية (١)................................................ ١٠٨

الجزء الحادي والعشرون........................................................ ١٤٠

سورة العنكبوت من الآية (٤٦).............................................. ١٤٠

سورة الروم من الآية (١).................................................... ١٥٧

سورة لقمان من الآية (١)................................................... ١٩٦

سورة السجدة من الآية (١)................................................. ٢٢١

سورة الأحزاب من الآية (١)................................................. ٢٣٨

الجزء الثاني والعشرون.......................................................... ٢٦٥

سورة الأحزاب من الآية (٣١)............................................... ٢٦٥

سورة سبأ من الآية (١)..................................................... ٣٠٠

سورة فاطر من الآية (١).................................................... ٣٣٥

سورة يس من الآية (١)..................................................... ٢٦٤

الجزء الثالث والعشرون......................................................... ٣٧٣

سورة يس من الآية (٢٨)................................................... ٣٧٣

سورة الصافات من الآية (١)................................................ ٣٩٦

سورة ص.................................................................. ٤٣٥

سورة الزمر................................................................. ٤٦٥

الجزء الرابع والعشرون.......................................................... ٤٨٦

سورة الزمر من الآية (١).................................................... ٤٨٦

سورة غافر................................................................. ٥١٢

سورة فصلت.............................................................. ٥٥٩

الجزء الخامس والعشرون........................................................ ٥٨٧

سورة فصلت من الآية (٤٧)................................................ ٥٨٧

سورة الشورى.............................................................. ٥٩٢

سورة الزخرف.............................................................. ٦٢٦

الفهرس................................................................... ٦٦٣

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ٤

المؤلف: أبي بكر جابر الجزائري
الصفحات: 664
  • سورة النمل من الآية (1) 4
  • الجزء العشرون 32
  • سورة النمل من الآية (56) 32
  • سورة القصص من الآية (1) 50
  • سورة العنكبوت من الآية (1) 108
  • الجزء الحادي والعشرون 140
  • سورة العنكبوت من الآية (46) 140
  • سورة الروم من الآية (1) 157
  • سورة لقمان من الآية (1) 196
  • سورة السجدة من الآية (1) 221
  • سورة الأحزاب من الآية (1) 238
  • الجزء الثاني والعشرون 265
  • سورة الأحزاب من الآية (31) 265
  • سورة سبأ من الآية (1) 300
  • سورة فاطر من الآية (1) 335
  • سورة يس من الآية (1) 264
  • الجزء الثالث والعشرون 373
  • سورة يس من الآية (28) 373
  • سورة الصافات من الآية (1) 396
  • سورة ص 435
  • سورة الزمر 465
  • الجزء الرابع والعشرون 486
  • سورة الزمر من الآية (1) 486
  • سورة غافر 512
  • سورة فصلت 559
  • الجزء الخامس والعشرون 587
  • سورة فصلت من الآية (47) 587
  • سورة الشورى 592
  • سورة الزخرف 626
  • الفهرس 663