بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله تعالى
نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسئيات أعمالنا ، من يهده
الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة. من يطع
الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أمّا بعد فإن أصدق
الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلىاللهعليهوسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
ثم أما بعد أيضا
فهذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعته مراعيا فيه حاجة المسلمين
اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذى هو مصدر شريعتهم ، وسبيل هدايتهم وهو عصمتهم
من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء ، قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). وقال تعالى (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ومراعيا فيه أيضا رغبة المسلمين اليوم في دراسة كتاب الله
وفهمه والعمل به ، وهى رغبة لم تكن لهم منذ قرون عدة حيث كان القرآن يقرأ على
الأموات دون الأحياء ويعتبر تفسيره خطيئة من الخطايا وذنبا من الذنوب ، إذ ساد بين
المسلمين القول : بأن تفسير القرآن : صوابه خطأ وخطأه كفر ، فلذا القارىء يقرأ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا
تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ، والناس حول ضريح الولى المدفون في ناحية المسجد يدعونه
بأعلى
أصواتهم : يا سيدى
يا سيدى كذا وكذا ولا يجرؤ أحد أن يقول : يا إخواننا لا تدعوا السيد فإن الله
تعالى يقول : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ويقرأ القارىء (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). ويسمعه من يسمعه ، ولا يخطر على باله أن الآية تصرح بكفر من
لم يحكم بما أنزل الله ، وأن أكثر المسلمين مورّطون فى هذا الكفر حيث تركوا تحكيم
الشريعة الاسلامية الى تحكيم القوانين الملفقة من قوانين الشرق والغرب وهكذا كان
يقرأ القرآن على أموات الأحياء وأحياء الأموات فلا يرى له أثر في الحياة.
هذا ونظرا لليقظة
الاسلامية اليوم فقد تعين وضع تفسير سهل ميسر يجمع بين المعنى المراد من كلام الله
، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. تبيّن فيه العقيدة السلفية المنجية ،
والأحكام الفقهية الضرورية. مع تربية ملكة التقوى فى النفوس ، بتحبيب الفضائل
وتبغيض الرذائل ، والحث على أداء الفرائض واتقاء المحارم. مع التجمل بالأخلاق
القرآنية والتحلى بالآداب الربانية. وقد هممت بالقيام بهذا المتعين عدة مرات في
ظرف سنوات ، وكثيرا ما يطلب منى مستمعوا دروسي فى التفسير في المسجد النبوى أن لو
وضعت تفسيرا للمسلمين سهل العبارة قريب الاشارة يساعد على فهم كلام الله تعالى ،
وكنت أعد أحيانا وأتهرب أحيانا أخرى ، حتى ختمت التفسير ثلاث مرات وقاربت الرابعة
، وأنا بين الخوف والرجاء وشاء الله تعالى أن أجلس في أواخر محرم عام ١٤٠٦ ه ،
الى فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح العبيد رئيس الجامعة الاسلامية ويلهم أن يقول لى
: لو أنك وضعت تفسيرا على غرار الجلالين يحل محله في المعاهد ودور الحديث تلتزم
فيه العقيدة السلفية التى خلا منها تفسير الجلالين فضرّ كثيرا بقدر ما نفع ، وصادف
في النفس رغبتها فأجبته بأن سأفعل ان شاء الله تعالى. وبهذا الوعد تعينت واستعنت
الله تعالى وشرعت وفي أوائل رجب من العام نفسه تم تأليف المجلد الأول الحاوى لثلث
القرآن الكريم وفي أول رمضان كان المجلد الأول قد طبع والحمد لله ، وواصلت التأليف
والله أسأل أن يتم في أقرب وقت ، وأن يتقبله منى وهو منه وله ، فينتفع به كل مسلم
يقرأه بنيّة معرفة مراد الله تعالى
من كلامه ليعرف
ربّه معرفة تكسبه خشيته ومحبته ويعرف محابه تعالى ليتقرب بفعلها إليه ، ويعرف
مساخطه ليتجنبها خوفا مما لديه.
هذا وإن مميزات
هذا التفسير التى بها رجوت أن يكون تفسير كل مسلم ومسلمة لا يخلو منه بيت من بيوت
المسلمين هي :
١ ـ الوسطيّة بين
الاختصار المخل ، والتطويل الممل.
٢ ـ اتباع منهج
السلف في العقائد والأسماء والصفات.
٣ ـ الالتزام بعدم
الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية.
٤ ـ اخلاؤه من
الإسرائيليات صحيحها وسقيمها. إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز
روايته لحديث .. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
٥ ـ إغفال
الخلافات التفسيرية.
٦ ـ الالتزام بما
رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية ، وقد لا آخذ
برأيه في بعض التوجيهات للآية.
٧ ـ إخلاء الكتاب
من المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية.
٨ ـ عدم التعرض للقراءات
الا نادرا جدا للضرورة حيث يتوقف معنى الآية على ذلك وبالنسبة للأحاديث فقد اقتصرت
على الصحيح والحسن منها دون غيرهما ، ولذا لم أعزها إلى مصادرها إلا نادرا
٩ ـ خلو هذا
التفسير من ذكر الأقوال وان كثرت والالتزام بالمعنى الراجح والذى عليه جمهور
المفسرين من السلف الصالح. حتى إن القارىء لا يفهم ان هناك معنى غير الذى فهم من
كلام ربه تعالى ، وهذه ميزة جليلة وذلك لحاجة جمع المسلمين على فكر اسلامى موحد
صائب سليم.
١٠ ـ التزمت في
هذا التفسير بالخطة التى مثلتها هذه المميزات رجاء أن يسهل على المسلمين تناول
كتاب الله دراسة وتطبيقا وعملا لا هم لهم إلا مرضاة الله بفهم كلامه والعمل به ،
والحياة عليه عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وقضاء وحكما ، فلذا أخليته من كل ما من
شأنه أن يشتت الذهن ، أو يصرف عن العمل الى القول والجدل.
ولذا فقد جعلت
الكتاب دروسا منظمة متسقة فقد أجعل الآية الواحدة درسا فأشرح كلماتها ، ثم أبين
معناها ، ثم أذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وقد أجعل الآيتين درسا ،
والثلاث آيات والأربع والخمس ولا أزيد على الخمس إلا نادرا ، وذلك طلبا لوحدة
الموضوع وارتباط المعنى به.
وقد جعلت الآيات
مشكولة على قراءة حفص وبخط المصحف وإنى أطالب المسلم أن يقرأ أولا الآيات حتى
يحفظها ، فإذا حفظها درس كلماتها حتى يفهمها ، ثم يدرس معناها حتى يعيه ، ثم يقرأ
هداياتها للعمل بها. فيجمع بين حفظ كتاب الله تعالى وفهمه والعمل به ، وبذلك يسود
ويكمل ويسعد إن شاء الله تعالى. وقد جاء في الحديث «أن الله تعالى
يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع آخرين» فمن قرأه بحسن نيّة فحفظه وفهمه وعمل به
وعلمه فقد يدعى في السماء عظيما ، وفي الحديث الصحيح «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
اللهم اجعلنى وسائر المؤمنين ممن يفوزون بهذه الخيرية فيتعلمون كتابك ويعملون به
ويعلمونه يا حىّ يا قيوم.
وأخيرا أطالب كل
مؤمن ومؤمنة يقرأ تفسيرى هذا المسمى : بأيسر التفاسير لكلام الله العلى الكبير أن
يستغفر لي ويترحم علىّ هذا حقى عليه اللهم وفقه لأدائه واغفر لى وله وارحمنى وإياه
وسائر المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه الراجى عفو
ربه ورضوانه أبو بكر جابر الجزائري
المدينة المنورة
١٧ رمضان ١٤٠٦ ه
__________________
بسم الله الرحمن
الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله ذي
الفضل والإنعام ، والصلاة والسّلام على محمد خير الأنام ، وآله الأماجد وصحبه
الكرام ، وبعد : فإنه نظرا إلى حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وكان «أيسر التفاسير» قد وضع وضعا خاصا ، إذ الباعث عليه كان تقريب معاني كتاب
الله تعالى إلى أفهام عامة المسلمين ، وتجلية الأحكام الشرعية لهم ليعبدوا ربهم
باعتقاد الحق ، وبالعمل بما شرع دون ما ابتدع مزكّين نفوسهم بذلك مكملين آدابهم
مهذبين أخلاقهم بما أودع الله جل جلاله كتابه من مناهج التربية الروحية والأخلاقية
والآداب النفسية ، وهو ما صرحت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن
خلق النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت : كان خلقه القرآن. إذ لم يقل الله تعالى ـ فيما
علمنا ـ في كتاب من كتبه (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) إلّا في القرآن الكريم ، ومرة أخرى أقول : إنه نظرا إلى
حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وضعت هذه الحاشية التي هي أشبه بتعليق على
«أيسر
التفاسير» وأسميتها (نهر
الخير) أودعت فيها مع مراعاة الاختصار بعض ما يرغب طالب العلم في معرفته والحصول
عليه من شاهد لغة ، أو بيان ، أو أثر جميل ، أو مستند حديث جليل ، أو كشف عن وجه
لآية ذات وجوه ، أو الوقوف على سر من أسرار القرآن أو عجيبة من عجائب القرآن ،
التي لا تنقضي بمرور الزمان ، ولا تنتهي بتعاقب الملوان. وأهم من ذلك تصويب رأي ،
أو تصحيح خطأ وقعا في التفسير ، مع إزالة إبهام ، أو إضافة بعض الأحكام.
والله تعالى أسأل
أن يكون عملي فيه صالحا ، ولوجهه تعالى خالصا ، وأن ينفع بنهر الخير كما نفع بأيسر
التفاسير إنه بر رحيم وعلى كل شيء قدير.
الجزء الأول
سورة الفاتحة
وهي مكية وآياتها سبع
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا
الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلا
الضَّالِّينَ (٧))
شرح الكلمات :
التفسير : لغة الشرح والبيان. واصطلاحا : شرح كلام الله ليفهم
مراده تعالى منه فيطاع في أمره ونهيه ، ويؤخذ بهدايته وارشاده. ويعتبر بقصصه ،
ويتعظ بمواعظه.
السورة
: السورة قطعة من كتاب الله تشتمل على ثلاث آيات فأكثر. وسور القرآن
الكريم مائة وأربع عشرة سورة أطولها «البقرة» وأقصرها «الكوثر».
الفاتحة
: فاتحة كل شىء
بدايته. وفاتحة القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين
__________________
ولذا سميت
الفاتحة. ولها أسماء كثيرة منها أم القرآن. والسبع المثانى. وأم الكتاب ، والصلاة.
مكية
: المكىّ من السور
: ما نزل بمكة ، والمدنىّ منه ما نزل بالمدينة. والسور المكية غالبها يدور على
بيان العقيدة وتقريرها والاحتجاج بها وضرب المثل لبيانها وتثبيتها. وأعظم أركان
العقيدة : توحيد الله تعالى في عبادته ، وإثبات نبوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة. والسور المدنية يكثر
فيها التشريع وبيان الأحكام من حلال وحرام.
: الآيات : جمع
آية وهى لغة : العلامة. وفي القرآن : جملة من كلام الله تعالى تحمل الهدى للناس
بدلالتها على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه ، وعلى نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ورسالته. وآيات القرآن الكريم ستّ آلاف ومائتا آية وزيادة . وآيات الفاتحة سبع بدون البسملة
الاستعاذة
أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم
شرح الكلمات
الاستعاذة
: قول العبد : أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم
أعوذ
: أستجير وأتحصن
بالله
: بربّ كل شىء
والقادر على كل شىء والعليم بكل شىء وإله الأولين والآخرين.
__________________
الشيطان
: إبليس لعنه الله.
الرجيم
: المرجوم المبعد
المطرود من كل رحمة وخير.
معنى الاستعاذة :
أستجير وأتحصن
بالله ربى من الشيطان الرجيم أن يلبّس علّى قراءتى. أو يضلّنى فأهلك وأشقى.
حكم الاستعاذة :
يسن لكل من يريد قراءة شىء من القرآن سورة فأكثر أن يقول أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ. كما يستحب لمن غضب ، أو خطر بباله خاطر سوء أن
يستعيذ كذلك.
البسملة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
شرح الكلمات :
البسملة
: قول العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
الاسم
: لفظ جعل علامة
على مسمّى يعرف به ويتميّز عن غيره.
(اللهِ) : إسم علم على ذات الربّ تبارك وتعالى يعرف به.
(الرَّحْمنِ)
: اسم من أسماء
الله تعالى مشتق من الرحمة دال على كثرتها فيه تعالى.
(الرَّحِيمِ) : إسم وصفة لله تعالى مشتق من الرحمة ومعناه ذو الرحمة
بعباده المفيضها عليهم في الدنيا والآخرة.
معنى البسملة :
ابتدىء قراءتى متبركا باسم الله الرحمن الرحيم مستعينا به عزوجل.
__________________
حكم البسملة :
مشروع للعبد مطلوب
منه أن يبسمل عند قراءة كل سورة من كتاب الله تعالى الا عند قراءة سورة التوبة
فإنه لا يبسمل وان كان في الصلاة المفروضة يبسمل سرا إن كانت الصلاة جهرية.
ويسن للعبد أن
يقول باسم الله . عند الأكل والشرب ، ولبس الثوب. وعند دخول المسجد والخروج
منه ، وعند الركوب. وعند كل أمر ذى بال.
كما يجب عليه أن
يقول بسم الله والله أكبر عند الذبح والنحر.
(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ)
شرح الكلمات :
(الْحَمْدُ) : الوصف بالجميل ، والثناء به على المحمود ذى الفضائل
والفواضل ، كالمدح والشكر
(لِلَّهِ) : اللام حرف جر ومعناها الاستحقاق أى أن الله مستحق لجميع
المحامد والله علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
الرب
: السيد المالك
المصلح المعبود بحق جل جلاله.
(الْعالَمِينَ) : جمع عالم وهو كل ما سوى الله تعالى ، كعالم الملائكة
وعالم الجن وعالم الانس وعالم الحيوان ، وعالم النبات.
__________________
معنى الآية :
يخبر تعالى أن
جميع أنواع المحامد من صفات الجلال والكمال هى له وحده دون من سواه ؛ إذ هو رب كل
شىء وخالقه ومالكه.
وأن علينا أن نحمده ونثنى عليه بذلك.
(٢) (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
تقدم شرح هاتين الكلمتين
في البسملة. وأنهما اسمان وصف بهما اسم الجلالة «الله» فى قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثناء على الله تعالى لاستحقاقه الحمد كلّه.
(٣) (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ)
شرح الكلمات :
(مالِكِ) : المالك : صاحب الملك المتصرف كيف يشاء
ملك
: الملك ذو السلطان
الآمر الناهى المعطى المانع بلا ممانع ولا منازع
(يَوْمِ الدِّينِ) : يوم الجزاء وهو يوم القيامة حيث يجزى الله كل نفس ما كسبت.
معنى الآية :
تمجيد لله تعالى
بأنه المالك لكل ما في يوم القيامة حيث لا تملك نفس لنفس شيئا والملك الذى لا ملك
يوم القيامة سواه.
__________________
هداية الآيات :
فى
هذه الآيات الثلاث من الهداية ما يلى :
١ ـ أن الله تعالى
يحب الحمد فلذا حمد تعالى نفسه وأمر عباده به.
٢ ـ أن المدح يكون
لمقتض. وإلا فهو باطل وزور فالله تعالى لما حمد نفسه ذكر مقتضى الحمد وهو كونه ربّ
العالمين والرحمن الرحيم ومالك يوم الدين.
(٤) (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
شرح الكلمات :
(إِيَّاكَ) : ضمير نصب يخاطب به الواحد
(نَعْبُدُ) : نطيع مع غاية الذل لك والتعظيم والحب
(نَسْتَعِينُ) : نطلب عونك لنا على طاعتك
معنى الآية :
علّمنا الله تعالى
كيف نتوسل إليه في قبول دعائنا فقال احمدوا الله واثنوا عليه ومجدوه ، والتزموا له
بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به وتستعينوه ولا تستعينوا بغيره.
هداية الآية :
من
هداية هذه الآية ما يلى :
١ ـ آداب الدعاء حيث يقدم السائل بين يدى دعائه حمد الله والثناء عليه
وتمجيده. وزادت
__________________
السنة الصلاة على
النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب له.
٢ ـ أن لا يعبد
غير ربه. وأن لا يستعينه إلّا هو سبحانه وتعالى.
(٥) (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ)
شرح الكلمات :
(اهْدِنَا) : أرشدنا وأدم هدايتنا
(الصِّراطَ) : الطريق الموصل إلى رضاك وجنّتك وهو الإسلام لك
(الْمُسْتَقِيمَ) : الذى لا ميل فيه عن الحق ولا زيغ عن الهدى
معنى الآية :
بتعليم من الله
تعالى يقول العبد في جملة إخوانه المؤمنين سائلا ربّه بعد أن توسل إليه بحمده
والثناء عليه وتمجيده ، ومعاهدته أن لا يعبد هو واخوانه المؤمنون إلا هو ، وان لا
يستعينوا إلا به. يسألونه أن يديم هدايتهم للإسلام حتى لا ينقطعوا عنه.
من هداية الآية :
الترغيب في دعاء
الله والتضرّع إليه وفي الحديث الدعاء هو العبادة.
(٦) (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
شرح الكلمات :
الصراط
: تقدم بيانه.
(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) : هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، وكل من أنعم الله
__________________
عليهم بالإيمان به
تعالى ومعرفته ، ومعرفة محابه ، ومساخطه ، والتوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.
معنى الآية :
لما سأل المؤمن له
ولاخوانه الهداية الى الصراط المستقيم ، وكان الصراط مجملا بيّنه بقوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهو المنهج القويم المفضى بالعبد إلى رضوان الله تعالى
والجنة وهو الاسلام القائم على الإيمان والعلم والعمل مع اجتناب الشرك والمعاصى.
هداية الآية :
من
هداية الآية ما يلى :
١ ـ الاعتراف
بالنعمة
٢ ـ طلب حسن
القدوة
(٧) (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
شرح الكلمات :
(غَيْرِ) : لفظ يستثنى به كإلّا.
(الْمَغْضُوبِ) عليهم : من غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم في الأرض
كاليهود.
(الضَّالِّينَ) : من اخطأوا طريق الحق فعبدوا الله بما لم يشرعه كالنصارى.
__________________
معنى الآية :
لما سأل المؤمن
ربّه الصراط المستقيم وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والعلم والعمل. ومبالغة في طلب الهداية الى الحق ، وخوفا
من الغواية استثنى كلا من طريق المغضوب عليهم ، والضالين.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
الترغيب في سلوك
سبيل الصالحين ، والترهيب من سلوك سبيل الغاوين.
[تنبيه أول] :
كلمة آمين ليست من الفاتحة. ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته
ويقولها المأموم ، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا أمن الإمام فأمنوا. أي قولوا آمين بمعنى اللهم استجب دعاءنا ، ويستحب الجهر
بها ؛ لحديث ابن ماجة : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد.
[تنبيه ثان] :
قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة ، أمّا المنفرد والإمام فلا خلاف في ذلك
، وأمّا المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السريّة دون
الجهرية لحديث : من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ويكون مخصصا لعموم حديث :
لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
__________________
سورة البقرة
مدنية
وآياتها مائتان وست أو سبع وثمانون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الم (١) ذلِكَ
الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ
(٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ
هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (٥))
(١) (الم)
شرح الكلمة :
(الم) : هذه من الحروف المقطعة تكتب الم. وتقرأ هكذا :
ألف لام مّيم.
والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم (ن) ومنها الأحادية مثل (ص). و (ق) ، و (ن) ، ومنها الثنائية مثل (طه) ، و (يس) ، و (حم) ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت في تفسيرها
عن النبى صلىاللهعليهوسلم شيء وكونها من المتشابه الذى استأثر الله تعالى بعلمه أقرب
إلى الصواب ولذا يقال
__________________
فيها : (الم) : الله أعلم بمراده بذلك.
وقد استخرج منها بعض
أهل العلم فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه
الحروف (حم). (طس). (ق). (كهيعص) وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون
فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية لما انكر
المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدّى لهم كأنها تقول لهم : ان
هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا انتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ
القرآن بعدها غالبا نحو (الم ذلِكَ الْكِتابُ). (الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) ، (طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ) ، كأنها تقول : إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا
أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
(ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
شرح الكلمات :
(ذلِكَ) : هذا ، وانما عدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة
بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
(الْكِتابُ) : القرآن الكريم الذى يقرأه رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الناس.
(لا رَيْبَ) : لا شك في أنه وحى الله وكلامه أوحاه الى رسوله.
__________________
(فِيهِ هُدىً) : دلالة على الطريق الموصل الى السعادة والكمال في
الدارين.
(لِلْمُتَّقِينَ) : المتقين أي عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب
نواهيه.
معنى الآية :
يخبر تعالى أن ما
أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتابا فخما عظيما لا يحتمل الشك ولا يتطرق
إليه احتمال كونه غير وحى الله وكتابه بحال ، وذلك لإعجازه ، وما يحمله من هدى
ونور لأهل الايمان والتقوى يهتدون بهما الى سبل السّلام والسعادة والكمال.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ تقوية الإيمان
بالله تعالى وكتابه ورسوله ، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
٢ ـ بيان فضيلة
التقوى وأهلها.
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ)
(وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ).
(أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
شرح الجمل :
(يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ) : يصدقون تصديقا جازما بكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالربّ تبارك وتعالى ذاتا وصفات والملائكة
والبعث ، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : يديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها
وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
__________________
(وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك باخراجهم لزكاة
أموالهم وبانفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء
والمساكين.
(يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : يصدقون بالوحى الذى أنزل إليك ايها الرسول وهو الكتاب
والسنة
(وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) : ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك
كالتوراة والانجيل والزبور.
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ) : وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب
هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم
اتقائهم.
(أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) : الإشارة الى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم
بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الايمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) : الإشارة الى أصحاب الهداية الكاملة والاخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذى هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
__________________
معنى الآيات :
ذكر تعالى في هذه
الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب واقام الصلاة وايتاء الزكاة ،
والايمان بما أنزل الله من كتب والايمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم
على أتم هداية من ربهم ، وانهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي
الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
دعوة المؤمنين
وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح ، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا
في دنياهم وأخراهم.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))
شرح الكلمات :
(كَفَرُوا) : الكفر : لغة التغطية والجحود ، وشرعا التكذيب بالله وبما جاءت به رسله عنه كلا أو بعضا.
(سَواءٌ) : بمعنى مستو انذارهم وعدمه ، إذ لا فائدة منه لحكم الله
بعدم هدايتهم.
(أَأَنْذَرْتَهُمْ) : الإنذار : التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد.
__________________
(خَتَمَ اللهُ) طبع إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على
الظرف حتى لا يعلم ما فيه ، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير.
(الغشاوة) : الغطاء يغشّى به ما يراد منع وصول شىء إليه.
(العذاب) : الألم يزيل عذوبة الحياة ولذتها.
مناسبة الآيتين
لما قبلهما ومعناهما :
لما ذكر أهل
الإيمان والتقوى والهداية والفلاح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلال والخسران فقال : [إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا] إلخ فأخبر بعدم استعدادهم للإيمان حتى استوى إنذارهم وعدمه وذلك لمضى سنة الله فيهم بالطبع على قلوبهم حتى لا
تفقه ، وعلى آذانهم حتى لا تسمع ، ويجعل الغشاوة على أعينهم حتى لا تبصر ،
وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر. وبذلك استوجبوا العذاب العظيم
فحكم به عليهم. وهذا حكم الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار في كل زمان
ومكان.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان. سنة
الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية وذلك
بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا.
٢ ـ التحذير من
الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
__________________
يُخادِعُونَ
اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ
(٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))
شرح الكلمات :
(وَمِنَ النَّاسِ) : من بعض الناس
(مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ) : صدقنا بالله ربّا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه.
(وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ) : صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة.
(يُخادِعُونَ اللهَ) : بإظهارهم الإيمان واخفائهم الكفر.
(وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) : إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله ولا على رسوله
ولا على المؤمنين.
(وَما يَشْعُرُونَ) : لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم.
(فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) : فى قلوبهم شك ونفاق والم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب
على أيديهم.
(فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) : شكا ونفاقا والما وخوفا حسب سنة الله في أن السيئة لا
تعقب إلّا سيئة.
(عَذابٌ أَلِيمٌ) : موجع شديد الوقع على النفس.
مناسبة الآية لما
قبلها وبيان معناها :
لما ذكر تعالى
المؤمنين الكاملين في ايمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر
__________________
منتهاه ذكر
المنافقين وهم المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن ، وهم شر من الكافرين
البالغين في الكفر أشده.
أخبر تعالى أن
فريقا من الناس وهم المنافقون يدعون الايمان بألسنتهم ويضمرون الكفر فى قلوبهم. يخادعون الله والمؤمنين بهذا النفاق. ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة
عليهم. كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به.
كما أخبر تعالى أن
في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف ، وأنه زادهم مرضا عقوبة لهم فى الدنيا
وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة بسبب كذبهم وكفرهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
التحذير من الكذب
والنفاق والخداع ، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها
إلا سيئة مثلها.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
شرح الكلمات :
الفساد
في الارض : الكفر وارتكاب
المعاصى فيها
الإصلاح
في الأرض : يكون بالإيمان
الصحيح والعمل الصالح ، وترك الشرك والمعاصى.
(لا يَشْعُرُونَ) : لا يدرون ولا يعلمون.
(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه : خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير.
__________________
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن
المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين لا تفسدوا فى الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا عليه
قائلين : إنما نحن مصلحون في زعمهم فأبطل الله تعالى هذا الزعم وقرر أنهم هم
وحدهم المفسدون لا من عرضوا بهم من المؤمنين ، إلا أنهم لا يعلمون ذلك لاستيلاء
الكفر على قلوبهم. كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين أصدقوا في
ايمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ردوا قائلين : أنؤمن إيمان السفهاء الذين لا رشد لهم ولا بصيرة فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن
المؤمنين الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ ذم الادعاء
الكاذب وهو لا يكون غالبا إلا من صفات المنافقين.
٢ ـ الإصلاح في
الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله ، والافساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم
٣ ـ العاملون
بالفساد في الأرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد.
(وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))
__________________
شرح الكلمات
(لَقُوا) : اللقاء : والملاقاة : المواجهة وجها لوجه.
(آمَنُوا) : الايمان الشرعى : التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول
الله عن الله ، وأهله هم المؤمنون بحق
(خَلَوْا) : الخلو بالشىء : الانفراد به.
(شَياطِينِهِمْ) : الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من
انسان أو جان والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد.
(مُسْتَهْزِؤُنَ) : الاستهزاء : الاستخفاف والاستسخار بالمرء
الطغيان
: مجاوزة الحد في
الأمر والاسراف فيه.
العمه
: للقلب كالعمى للبصر : عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة
والضلال
(اشْتَرَوُا) : استبدلوا بالهدى الضلالة اى تركوا الإيمان وأخذوا الكفر.
(تِجارَتُهُمْ) : التجارة : دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه ،
والمنافقون هنا دفعوا رأس ما لهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزا وغنى
في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم.
المهتدى
: السالك سبيلا
قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء والضال خلاف المهتدى وهو السالك
سبيلا غير قاصدة فلا تصل به الى مراده حتى يهلك قبل الوصول.
__________________
معنى الآيات :
مازالت الآيات
تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى
(١٤) أنهم لنفاقهم
وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما
جاء به من الدين ، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادّعوه
من الإيمان قالوا لهم إنا معكم على دينكم وما آمنا أبدا. وإنما أظهرنا الإيمان
استهزاء وسخرية بمحمد وأصحابه.
كما أخبر في الآية
الثانية (١٥) أنه تعالى يستهزىء بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقا ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم
واضطراب نفوسهم وضلال عقولهم. كما أخبر في الآية (١٦) أن أولئك البعداء في الضلال
قد استبدلوا الايمان بالكفر والإخلاص بالنفاق فلذلك لا تربح تجارتهم ولا يهتدون الى سبيل ربح أو نجح محال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التنديد
بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفى الحديث :
شراركم ذو الوجهين .
٢ ـ إن من الناس شياطين يدعون الى الكفر والمعاصى ، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
٣ ـ بيان نقم الله
، وانزالها بأعدائه عزوجل.
__________________
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))
شرح الكلمات :
(مَثَلُهُمْ) : صفتهم وحالهم.
(اسْتَوْقَدَ) : أوقد نارا
(صُمٌّ ، بُكْمٌ
عُمْيٌ) : لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.
الصيّب
: المطر.
الظلمات
: ظلمة الليل وظلمة
السحاب وظلمة المطر.
الرعد
: الصوت القاصف
يسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر.
البرق
: ما يلمع من نور
حال تراكم السحاب ونزول المطر.
(الصَّواعِقِ) : جمع صاعقة : نار هائلة تنزل اثناء قصف الرعد ولمعان
البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.
__________________
(حَذَرَ الْمَوْتِ) : توقيا للموت
(مُحِيطٌ) : المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.
(يَكادُ) : يقرب.
(يَخْطَفُ) : يأخذه بسرعة.
(أَبْصارَهُمْ) : جمع بصر وهو العين المبصرة.
معنى الآيات :
مثل هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الايمان مع ما هم مبطنون
من الكفر كمثل من أوقد نارا للاستضاءة بها فلما اضاءت لهم ما حولهم
وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا
دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي وبما يضمرون من الكفر اذا ماتوا
عليه يدخلون النار فيخسرون كل شىء حتى أنفسهم هذا المثل تضمنته الآية الأولى (١٧)
وأما الآية الثانية (١٨) فهى إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم
تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره وذلك لتوغلهم في الفساد
فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الايمان بحال من الأحوال. واما الآية الثالثة
والرابعة (١٩) (٢٠) فهما تتضمنان مثلا آخر لهؤلاء المنافقين. وصورة المثل العجيبة
والمنطبقة على حالهم هى مطر
__________________
غزير في ظلمات
مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل
أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذرا أن تنخلع قلوبهم فيموتوا ، ولم يجدوا مفرا
ولا مهربا لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته
وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون ، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا فى ضوئه واذا
انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لأنه
تعالى على كل شىء قدير هذه حال اولئك المنافقين والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات
وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد وبالحجج والبينات وهى كالبرق في قوة الاضاءة ،
وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وازاحة الستار عنهم فيؤخذوا ، فإذا نزل بآية لا
تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر. وإذا نزل بآيات فيها التنديد
بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولو شاء الله أخذ
أسماعهم وأبصارهم لفعل لأنهم لذلك أهل وهو على كل شىء قدير.
هداية الآيات :
من
هداية هذه الآيات ما يلى :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعانى إلى الأذهان.
٢ ـ خيبة سعى أهل
الباطل وسوء عاقبة أمرهم.
٣ ـ القرآن تحيا
به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.
٤ ـ شر الكفار
المنافقون.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ
__________________
وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ
بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً
لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٢٢))
شرح الكلمات :
(النَّاسُ) : لفظ جمع لا مفرد له من لفظه ، واحده إنسان.
(اعْبُدُوا) : أطيعوا بالإيمان والامتثال للأمر والنهى مع غاية الحب
لله والتعظيم.
(رَبَّكُمُ) : خالقكم ومالك أمركم وإلهكم الحق.
(خَلَقَكُمْ) : أوجدكم من العدم بتقدير عظيم.
(تَتَّقُونَ) : تتخذون وقاية تحفظكم من عذاب الله ، وذلك بالإيمان
والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصى.
(فِراشاً) : وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها.
(بِناءً) : مبنيّة كقبة فوقكم.
(الثَّمَراتِ) : جمع ثمرة وهو ما تخرجه الأرض من حبوب وخضر وتخرجه الأشجار من فواكه
(رِزْقاً لَكُمْ) : قوتا لكم تقتاتون به فتحفظ حياتكم إلى أجلها.
__________________
(أَنْداداً) : جمع ندّ : النظير والمثيل تعبدونه دون الله أو مع الله
تضادون به الرب تبارك وتعالى.
المناسبة ومعنى
الآيتين :
وجه المناسبة أنه
تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين ، والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين
المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين ثم على طريقة الالتفات نادى الجميع بعنوان
الناس ليكون نداء عاما للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان وأمرهم بعبادته ليقوا
أنفسهم من الخسران. معرفا لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلال والكمال فيكون ذلك أدعى
لاستجابتهم له فيعبدونه عبادة تنجيهم من عذابه وتكسبهم رضاه وجنته ، وختم نداءه
لهم بتنبيههم عن اتخاذ شركاء له يعبدونهم معه مع علمهم أنهم لا يستحقون العبادة لعجزهم عن نفعهم أو ضرهم.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب عبادة
الله تعالى ، اذ هى علة الحياة كلها.
٢ ـ وجوب معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
٣ ـ تحريم الشرك
صغيره وكبيره ظاهره وخفيه.
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
__________________
إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))
شرح الكلمات :
الريب
: الشك مع اضطراب
النفس وقلقها
(عَبْدِنا) : محمد صلىاللهعليهوسلم.
(مِنْ مِثْلِهِ) : مثل القرآن ومثل محمد في أمّيته.
(شُهَداءَكُمْ) : أنصاركم. وآلهتكم التى تدعون انها تشهد لكم عند الله
وتشفع.
(وَقُودُهَا) : ما تتقد به وتشتعل وهو الكفار والأصنام المعبودة مع الله
عزوجل.
(أُعِدَّتْ) : هيئت وأحضرت.
الكافرين
: الجاحدين لحق
الله تعالى في العبادة له وحده المكذبين برسوله وشرعه.
مناسبة الآية
ومعناها :
لما قرر تعالى في
الآية السابقة أصل الدين وهو التوحيد الذى هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه
الآية أصل الدين الثانى وهو نبوة رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وذلك من طريق برهانى وهو ان كنتم في شك من القرآن الذى
أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فاتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمى مثل عبدنا
في أميته فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالايمان بالوحى الإلهى وعبادة
الله تعالى بما شرع فيه.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ تقرير نبوة
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بإثبات نزول القرآن عليه.
٢ ـ تأكد عجز
البشر عن الاتيان بسورة مثل سور القرآن الكريم لمرور ألف سنة وأربعمائة
__________________
وست سنين والتحدى
قائم ولم يأتوا بسورة مثل سور القرآن لقوله تعالى «ولن تفعلوا».
٣ ـ النار تتقى
بالايمان والعمل الصالح وفي الحديث الصحيح ، «اتقوا النار ولو بشق تمرة» .
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))
شرح الكلمات :
(بَشِّرِ) : التبشير : الإخبار السّار وذلك يكون بالمحبوب للنفس.
(تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا) : تجرى الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هى أنهار
الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل.
(وَأُتُوا بِهِ
مُتَشابِهاً) : أعطوا الثمار وقدم لهم يشبه بعضه بعضا في اللون مختلف في
الطعم.
(مُطَهَّرَةٌ) : من دم الحيض والنفاس وسائر المعائب والنقائص
(خالِدُونَ) : باقون فيها لا يخرجون منها أبدا.
المناسبة والمعنى
:
لما ذكر تعالى
النار وأهلها ناسب أن يذكر الجنة وأهلها ليتم الترهيب والترغيب وهما أداة الهداية
والإصلاح.
فى هذه الآية
الكريمة أمر الله تعالى رسوله أن يبشر المؤمنين المستقيمين بما رزقهم من (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) لهم فيها أزواج مطهرات نقيات من كل أذى وقذر وهم فيها
__________________
خالدون. كما أخبر
عنهم بأنهم إذا قدم لهم أنواع الثمار المختلفة قالوا هذا الذى رزقنا مثله فى
الدنيا. كما أخبر تعالى أنهم اوتوه متشابها في اللون غير متشابه في الطعم زيادة في
حسنه وكماله. وعظيم الالتذاذ به.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ فضل الايمان
والعمل الصالح إذ بهما كان النعيم المذكور في الآية لأصحابهما.
٢ ـ تشويق
المؤمنين الى دار السّلام ، وما فيها من نعيم مقيم ليزدادوا رغبة فيها وعملا لها. بفعل
الخيرات وترك المنكرات.
(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))
شرح الكلمات :
(لا يَسْتَحْيِي) : لا يمنعه الحياء من ضرب الأمثال وإن صغرت كالبعوضة أو أصغر منها كجناحها
__________________
(أَنْ يَضْرِبَ
مَثَلاً) : أن يجعل شيئا مثلا لآخر يكشف عن صفته وحاله في القبح أو
الحسن
(ما بَعُوضَةً) : ما نكرة بمعنى شىء أيّ شىء كان يجعله مثلا ، أو زائدة.
وبعوضة المفعول الثانى. والبعوضة واحدة البعوض وهو صغار البق.
(الْحَقُ) : الواجب الثبوت الذى يحيل العقل عدم وجوده
الفاسقون
: الفسق الخروج عن
الطاعة ، والفاسقون : هم التاركون لأمر الله تعالى بالايمان والعمل الصالح ، وبترك
الشرك والمعاصى.
(يَنْقُضُونَ) : النقض الحلّ بعد الإبرام.
(عَهْدَ اللهِ) : ما عهد به إلى الناس من الإيمان والطاعة له ولرسوله صلىاللهعليهوسلم.
(مِنْ بَعْدِ
مِيثاقِهِ) : من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإشهاد عليه.
(يَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : من إدامة الإيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام.
(يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) : الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصى.
(الْخاسِرُونَ) : الكاملون في الخسران بحيث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة.
سبب النزول
والمعانى
لما ضرب الله
تعالى المثلين السابقين النارى والمائى قال المنافقون : الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل فانزل
الله تعالى ردا عليهم قوله (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي) الآية.
فأخبر تعالى أنه
لا يمنعه الاستحياء ان يجعل مثلا بعوضة فما دونها فضلا عما هو أكبر . وان الناس حيال ما يضرب الله من أمثال قسمان مؤمنون
فيعلمون أنه الحق من ربهم. وكافرون : فينكرونها ويقولون كالمعترضين : ماذا أراد
الله بهذا مثلا!؟.
كما أخبر تعالى أن
ما يضرب من مثل يهدى به كثيرا من الناس ويضل به كثيرا ، وانه لا يضل به إلا
الفاسقين الذين وصفهم بقوله : (الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
__________________
وَيَقْطَعُونَ
ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). وحكم عليهم بالخسران التام يوم القيامة فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)
هداية الآية
من
هداية الآيتين ما يلى :
١ ـ أن الحياء لا
ينبغى أن يمنع من فعل المعروف وقوله والأمر به.
٢ ـ يستحسن ضرب
الأمثال لتقريب المعانى الى الاذهان.
٣ ـ اذا أنزل الله
خيرا من هدى وغيره يزداد به المؤمنون هدى وخيرا ، ويزداد به الكافرون ضلالا وشرا ،
وذلك لاستعداد الفريقين النفسى المختلف.
٤ ـ التحذير من
الفسق وما يستتبعه من نقض العهد ، وقطع الخير ، ومنع المعروف.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))
شرح الكلمات :
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ) : الاستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ ، لعدم وجود
مقتض للكفر.
(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ) : هذا برهان على بطلان كفرهم ، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو
الذى خلقه بعد أن لم يك شيئا.
__________________
(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) : إن إماتة الحى واحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب
تعالى وقدرته.
(ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) : يريد بعد الحياة الثانية وهو البعث الآخر.
(خَلَقَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : أى أوجد ما أوجده من خيرات الأرض كل ذلك لأجلكم كي
تنتفعوا به في حياتكم
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) : علا وارتفع قهرا لها فكونها سبع سماوات.
(فَسَوَّاهُنَ) : أتمّ خلقهن سبع سماوات تامات.
(وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) : إخبار بإحاطة علمه تعالى بكل شىء ، وتدليل على قدرته
وعلمه ووجوب عبادته.
معنى الآيتين :
ما زال الخطاب مع
الكافرين الذين سبق وصفهم بأخس الصفات وأسوأ الأحوال حيث قال لهم على طريقة
الالتفات موبخا مقرعا : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الآية.
وذكر من أدلة
وجوده وكرمه. ما يصبح الكفر به من أقبح الأمور وصاحبه من احط الخلائق وأسوأهم حالا
ومآلا. فمن أدلة وجوده الاحياء بعد الموت والإماتة بعد الإحياء ومن أدلة كرمه
وقدرته أن خلق الناس في الأرض جميعا لتوقف حياتهم عليه وخلق السموات السبع ، وهو
مع ذلك كله علمه محيط بكل شىء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ إنكار الكفر
بالله تعالى.
٢ ـ إقامة البرهان
على وجود الله وقدرته ورحمته
__________________
٣ ـ حلّية كل ما في الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب الا ما حرمه الدليل
الخاص من الكتاب أو السنة لقوله : (خَلَقَ لَكُمْ
ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))
شرح الكلمات :
الملائكة
: جمع ملأك ويخفف
فيقال ملك وهم خلق من عالم الغيب أخبر النبى صلىاللهعليهوسلم ان الله تعالى خلقهم من نور.
الخليفة : من يخلف غيره ، والمراد به هنا آدم عليهالسلام.
(يُفْسِدُ فِيها) : الافساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصى.
(يَسْفِكُ) : يسيل الدماء بالقتل والجرح.
(نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : نقول سبحان الله وبحمده. والتسبيح : التنزيه عما لا يليق
بالله تعالى.
(وَنُقَدِّسُ لَكَ) : فننزهك عما لا يليق بك. والتقديس : التطهير والبعد عما
لا ينبغى. واللام فى لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسه.
__________________
معنى الآية
يأمر تعالى رسوله
أن يذكر قوله للملائكة انى جاعل في الأرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض ،
وان الملائكة تساءلت متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في
الأرض بالكفر والمعاصى قياسا على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه. فأعلمهم ربهم
أنه يعلم من الحكم والمصالح مالا يعلمون.
والمراد من هذا
التذكير : المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته
الموجبة للايمان به تعالى ولعبادته دون غيره.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ سؤال من لا
يعلم غيره ممن يعلم.
٢ ـ عدم انتهار
السائل وإجابته أو صرفه بلطف.
٣ ـ معرفة بدء
الخلق.
٤ ـ شرف آدم
وفضله.
(وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ
لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا
آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))
__________________
شرح الكلمات :
(آدَمَ) : نبىّ الله أبو البشر عليهالسلام.
(الْأَسْماءَ) : أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والانسان.
(عَرَضَهُمْ) : عرض المسميات أمامهم ، ولما كان بينهم العقلاء غلب
جانبهم ، وإلا لقال عرضها
(أَنْبِئُونِي) : أخبرونى.
(هؤُلاءِ) : المعروضين عليهم من سائر المخلوقات.
(سُبْحانَكَ) : تنزيها لك وتقديسا.
(غَيْبَ السَّماواتِ) : ما غاب عن الأنظار في السموات والأرض.
(تُبْدُونَ) : تظهرون من قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية.
(تَكْتُمُونَ) : تبطنون وتخفون يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله
تعالى وعدم طاعته.
(الْحَكِيمُ) : الحكيم الذى يضع كل شىء في موضعه ، ولا يفعل ولا يترك
الا لحكمة.
معنى الآيات :
يخبر تعالى في
معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم اسماء
الموجودات كلها ، ثم عرض الموجودات على الملائكة وقال أنبؤني بأسماء
هؤلاء إن
__________________
كنتم صادقين في
دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك وقالوا سبحانك لا
علم لنا إلا ما علمتنا ثم قال تعالى لآدم أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة
فأنبأهم بأسمائهم واحدا واحدا حتى القصعة والقصيعة .. وهنا ظهر شرف آدم عليهم ،
وعتب عليهم ربهم بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان قدرة
الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.
٢ ـ شرف العلم
وفضل العالم على الجاهل.
٣ ـ فضيلة
الاعتراف بالعجز والقصور.
٤ ـ جواز العتاب
على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))
شرح الكلمات :
(اسْجُدُوا) : السجود هو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، وقد يكون بانحناء الرأس
دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع.
(إِبْلِيسَ) : قيل كان اسمه الحارث ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله
أى أيأسه من كل خير ومسخه شيطانا
(أَبى) : امتنع ورفض السجود لآدم.
__________________
(اسْتَكْبَرَ) : تعاظم في نفسه فمنعه الاستكبار والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.
(الْكافِرِينَ) : جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشىء من آياته أو
بواحد من رسله أو أنكر طاعته.
معنى الآية :
يذكّر تعالى عباده
بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...) سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع
عن السجود الذى هو طاعة الله ، وتحية آدم. تكبرا وحسدا لآدم في شرفه فكان بامتناعه
عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله ، الأمر الذى استوجب ابلاسه وطرده.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ التذكير
بإفضال الله الأمر الذى يوجب الشكر ويرغب فيه.
٢ ـ التحذير من
الكبر والحسد حيث كانا سبب ابلاس الشيطان ، وامتناع اليهود من قبول الاسلام.
٣ ـ تقرير عداوة
ابليس ، والتنبيه الى انه عدوّ تجب عداوته أبدا.
٤ ـ التنبيه الى
أن من المعاصى ما يكون كفرا أو يقود الى الكفر.
(وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا
مِنْها رَغَداً
__________________
حَيْثُ
شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما
مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
(٣٦)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (٣٧))
شرح الكلمات :
(رَغَداً) : العيش الهنّي الواسع يقال له الرّغد.
(الشَّجَرَةَ) : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرما أو تينا أو
غيرهما ومادام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغى السؤال عنها.
(الظَّالِمِينَ) : لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.
(فَأَزَلَّهُمَا) : أوقعهما في الزلل ، وهو مخالفتهما لنهى الله تعالى لهما
عن الأكل من الشجرة
(مُسْتَقَرٌّ) : المستقر : مكان الاستقرار والاقامة.
(إِلى حِينٍ) : الحين : الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية
الحياة.
(فَتَلَقَّى آدَمُ) : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة.
(كَلِماتٍ) : هى قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ).
(فَتابَ عَلَيْهِ) : وفقه للتوبة فتاب وقبل توبته ، لأنه تعالى تواب رحيم.
__________________
معنى الآيات :
فى الآية الأولى (٣٥)
يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من
نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين.
وفي الآية الثانية
(٣٦) اخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من
الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلا للبقاء في الجنة فأهبطا الى
الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.
وفي الآية الثالثة
(٣٧) يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ
لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ كرامة آدم
وذريته على ربهم تعالى.
٢ ـ شؤم المعصية
وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة.
٣ ـ عداوة الشيطان
للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسته.
٤ ـ وجوب التوبة من الذنب وهى الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم
على فعله.
(قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))
__________________
شرح الكلمات :
(اهْبِطُوا مِنْها
جَمِيعاً) : إنزلوا من الجنة الى الأرض لتعيشوا فيها متعادين.
(فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدىً) : إن يجئكم من ربكم هدى : شرع ضمنه كتاب وبينه رسول.
(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) : أخذ بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه.
(فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : جواب شرط فمن اتبع هداى ، ومعناه إتباع الهدى يفضي
بالعبد الى ان لا يخاف ولا يحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة.
(كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) : كفروا : جحدوا شرع الله ، وكذبوا رسوله
(أَصْحابُ النَّارِ) : أهلها الذين لا يفارقونها بحيث لا يخرجون منها
معنى الآيتين :
يخبر تعالى أنه
أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا
من الشجرة ، وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا
فلن يخافوا ولن يحزنوا ، وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا
بالخلود فى النار.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ المعصية تسبب
الشقاء والحرمان.
__________________
٢ ـ العمل بكتاب
الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم يسبب الأمن والإسعاد ، والإعراض عنهما يسبب الخوف والحزن
والشقاء والحرمان.
٣ ـ الكفر
والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))
شرح الكلمات :
بنو إسرائيل : اسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهمالسلام وبنوه هم اليهود ، لأنهم يعودون في أصولهم الى أولاد يعقوب
الأثنى عشر.
النعمة : النعمة هنا اسم جنس بمعنى النعم ، ونعم الله تعالى على
بنى اسرائيل كثيرة ستمر أفرادها في الآيات القرآنية الآتية.
(أَوْفُوا بِعَهْدِي) : الوفاء بالعهد اتمامه وعهد الله عليهم أن يبينّوا أمر
محمد صلىاللهعليهوسلم ويؤمنوا به.
(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا
وعزكم فيها.
(وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) : اخشونى ولا تخشوا غيرى.
(آمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ) : القرآن الكريم
(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) : لا تعتاضوا عن بيان الحق في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(ثَمَناً قَلِيلاً) : متاع الحياة الدنيا.
(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) : واتقونى وحدى في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة نبيي محمد صلىاللهعليهوسلم أن أنزل بكم نقمتي.
(وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ) : أى لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به ، وذلك
قولهم : محمد نبىّ ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بنى إسرائيل.
(وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) : الركوع الشرعى : انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع
الكفين على الركبتين والمراد به هنا : الخضوع لله والإسلام له عزوجل.
مناسبة الآيات
ومعناها :
لما كان السياق في
الآيات السابقة في شأن آدم وتكريمه ، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكبره.
وحسده وكان هذا معلوما لليهود لأنهم أهل كتاب ناسب أن يخاطب الله تعالى بني
إسرائيل مذكرا إياهم بما يجب عليهم من الإيمان والاستقامة. فناداهم بعنوان بنوتهم
لإسرائيل عليهالسلام فأمرهم ونهاهم ، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى
بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد
لينجز لهم ما وعدهم ، وأمرهم أن يرهبوه ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم
، وان لا يكونوا أول من يكفر به. ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإيمان
برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ثمنا قليلا من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم
ان هم كتموا الحق ان ينزل بهم عذابه. ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعا للحق وبعدا
عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم
وأمرهم بإقام الصلاة وايتاء الزكاة والاذعان لله تعالى بقبول الاسلام
والدخول فيه كسائر المسلمين.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب ذكر
النعم لشكر الله تعالى عليها.
٢ ـ وجوب الوفاء
بالعهد لا سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى
٣ ـ وجوب بيان
الحق وحرمة كتمانه.
٤ ـ حرمة خلط الحق بالباطل تضليلا للناس وصرفهم عنه كقول اليهود : محمد
نبىّ ولكن للعرب خاصة حتى لا يؤمن به يهود.
(أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))
شرح الكلمات :
(بِالْبِرِّ) : البر لفظ جامع لكل خير. والمراد هنا : الايمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم والدخول في الاسلام
النسيان
: مقابل الذكر ،
وهو هنا الترك.
تلاوة
الكتاب : قراءته ، والكتاب
هنا التوراه التى بأيدى اليهود
العقل
: قوة باطنية يميز
بها المرء بين النافع والضار ، والصالح والفاسد
الاستعانة
: طلب العون للقدرة
على القول والعمل
(بِالصَّبْرِ) : حبس النفس على ما تكره
الخشوع
: حضور القلب وسكون
الجوارح ، والمراد هنا الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه.
__________________
(يَظُنُّونَ) : يوقنون
(مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : بالموت ، راجعون إليه يوم القيامة.
معنى الآيتين :
ينعى الحق تبارك
وتعالى في الآية الأولى (٤٤) على علماء بنى اسرائيل أمرهم بعض العرب بالإيمان
بالإسلام ونبيه ، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة ،
وفيها بعث النبى محمد والأمر بالإيمان به واتباعه ويقرعهم موبخا لهم بقوله : أفلا
تعقلون ، إذ العاقل يسبق الى الخير ثم يدعو إليه.
وفي الآيتين
الثانية والثالثة (٤٥ ـ ٤٦) يرشد الله تعالى بنى اسرائيل الى الاستعانة بالصبر
والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها وهى الإيمان بمحمد والدخول في
دينه ، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبة شاقة على النفس لا يقدر عليها الا المخبتون لربهم الموقنون
بلقاء الله ، والرجوع إليه.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ قبح سلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله.
٢ ـ السيئة قبيحة
وكونها من عالم أشد قبحا.
٣ ـ مشروعية
الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة ، إذ كان النبى صلىاللهعليهوسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة.
__________________
٤ ـ فضلية الخشوع
لله والتطامن له ، وذكر الموت ، والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا
يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))
شرح الكلمات :
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) : تقدم شرح هذه الجملة
(فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ) : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من
الناس وذلك على عهد موسى عليهالسلام وفي أزمنة صلاحهم واستقامتهم.
(اتَّقُوا يَوْماً) : المراد باليوم يوم القيامة بدليل ما وصف به. واتقاؤه هو
اتقاء ما يقع فيه من الاهوال والعذاب. وذلك بالايمان والعمل الصالح.
(لا تَجْزِي نَفْسٌ) : لا تغنى نفس عن نفس أخرى أى غنى. ما دامت كافرة.
(وَلا يُقْبَلُ مِنْها
شَفاعَةٌ) : هذه النفس الكافرة اذ هى التى لا تنفعها شفاعة الشافعين
(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها
عَدْلٌ) : على فرض أنها تقدّمت بعدل وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها
(وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) : بدفع العذاب عنهم
معنى الآيتين :
ينادى الله سبحانه
وتعالى بنى إسرائيل مطالبا إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها بالإيمان برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وقبول ما جاء به من الدين الحق وهو الإسلام ، محذرا إياهم
من عذاب يوم القيامة ، آمرا لهم باتقائه بالايمان وصالح الأعمال. لأنه يوم عظيم لا
تقبل فيه شفاعة
__________________
لكافر ، ولا يؤخذ
منه عدل أي فداء ، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب ذكر
النعم لتشكر بحمد الله وطاعته.
٢ ـ وجوب اتقاء
عذاب يوم القيامة بالايمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصى
٣ ـ تقرير أن
الشفاعة لا تكون لنفس كافرة. وأنّ الفداء يوم القيامة لا يقبل أبدا
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))
شرح الكلمات :
النجاة
: الخلاص من الهلكة
، كالخلاص من الغرق. والخلاص من العذاب.
(آلِ فِرْعَوْنَ) : أتباع فرعون. وفرعون ملك مصر على عهد موسى عليهالسلام
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه
__________________
(يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة ، ويذبحون الأولاد خوفا
منهم إذا كبروا
بلاء عظيم : ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق
(فَرَقْنا بِكُمُ
الْبَحْرَ) : صيرناه فرقتين ، وما بينهما يبس لا ماء فيه لتسلكوه
فتنجوا والبحر هو بحر القلزم (الأحمر)
(اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ) : عجل من ذهب صاغه لهم السامرى ودعاهم الى عبادته فعبده
أكثرهم ، وذلك في غيبة موسى عنهم
الشكر
: اظهار النعمة
بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها فى مرضاته
(الْكِتابَ
وَالْفُرْقانَ) : الكتاب : التوراه ، والفرقان : المعجزات التى فرق الله
تعالى بها بين الحق والباطل
(تَهْتَدُونَ) : إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا.
معنى الآيات :
تضمنت هذه الآيات
الخمس أربع نعم عظمى انعم الله تعالى بها على بنى اسرائيل وهى التى امرهم بذكرها
ليشكروه عليها بالايمان برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ودينه الاسلام.
فالنعمة
الأولى : انجاؤهم من فرعون
وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب ، من ذلك :
ذبح الذكور من أولادهم وترك البنات لاستخدامهن في المنازل كرقيقات.
__________________
والثانية
: فلق البحر لهم
وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون.
والثالثة
: عفوه تعالى عن
أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها وهى اتخاذهم عجلا صناعيا الها وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم
بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون سواه.
والرابعة
: ما أكرم به نبيهم
موسى عليهالسلام من التوراة التى فيها الهدى والنور والمعجزات التى أبطلت
باطل فرعون ، وأحقت دعوة الحق التى جاء بها موسى عليهالسلام.
هذه النعم هى
محتوى الآيات الخمس ، ومعرفتها معرفة لمعانى الآيات في الجملة اللهم الا جملة [وفي
ذلكم بلاء من ربكم عظيم] فى الآية الأولى فانها : اخبار بأن الذى حصل لبنى اسرائيل
من عذاب على أيدى فرعون وملئه انما كان امتحانا من الله واختبارا عظيما لهم. كما
أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة بنى اسرائيل أربعين ليلة وهى القعدة وعشر الحجة ليعطيه
التوراه يحكم بها بنى اسرائيل فحدث في غيابه ان جمع السامرى حلى نساء
بني إسرائيل وصنع منه عجلا ودعاهم الى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله
منّ عليهم بالعفو ليشكروه.
هداية الآيات :
من
هداية هذه الآيات :
١ ـ ذكر النعم
يحمل على شكرها ، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.
٢ ـ أن الله تعالى
يبتلى عباده لحكم عالية فلا يجوز الاعتراض على الله تعالى فيما يبتلى به عباده
٣ ـ الشرك ظلم لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
__________________
٤ ـ إرسال الرسل
وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه
فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ
قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))
شرح الكلمات
ظلم
النفس : تدسيتها بسّيئة الجريمة
(بِاتِّخاذِكُمُ
الْعِجْلَ) : بجعلكم العجل الذى صاغه السامرى من حلّى نسائكم إلها
عبدتموه
البارى
: الخالق عزوجل
(فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) : أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم
(نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : نراه عيانا
__________________
(الصَّاعِقَةُ) : نار محرقة كالتى تكون مع السحب والأمطار والرعود
(بَعَثْناكُمْ) : أحييناكم بعد موتكم
(الْغَمامَ) : سحاب رقيق أبيض
(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : الْمَنَ : مادة لزجة حلوة كالعسل ، وَالسَّلْوى : طائر يقال له السّمانى
الطيبات
: الحلال
المناسبة ومعنى
الآيات :
لما ذكّر الله
تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالبا إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا
ببعض ذنوب اسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلها وعبادتهم له.
وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى ، وتركه هارون خليفة
له فيهم ، فصنع السامرى لهم عجلا من دهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه
فأطاعه أكثرهم وعبدوا العجل فكانوا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم ان يقتل
من لم يعبد العجل من عبده فقتلوا منهم سبعين الفا فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم
انه هو التواب الرحيم كما ذكرهم بحادثة أخرى وهى انه لما عبدوا العجل وكانت ردة
اختار موسى بامر الله تعالى منهم سبعين رجلا من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة
عبادة العجل ، وذهب بهم الى جبل الطور ليعتذروا الى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة
إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه فأسمعهم قوله
: إنى أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا
غيرى. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ، قالوا : لن
نؤمن لك أى لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله
جهرة وكان هذا منهم ذنبا عظيما لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة
فأهلكتهم فماتوا واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة ، وذلك
ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى وهى اكرامه لهم وانعامه عليهم
بتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ
__________________
والسلوى أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) إشارة الى ان محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد
وجرأتهم على نبيّهم اذ قالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). وما ظلمهم فى محنة التيه ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ عبادة المؤمن
غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه وشركا.
٢ ـ مشروعية قتال
المرتدين ، وفي الحديث : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، ولكن بعد استتابته.
٣ ـ علة الحياة
كلها شكر الله تعالى بعبادته وحده.
٤ ـ الحلال ، من
المطاعم والمشارب وغيرها ، ما احله الله والحرام ما حرمه الله عزوجل.
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا
هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
__________________
غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ
بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))
شرح الكلمات :
(الْقَرْيَةَ) : مدينة القدس.
(رَغَداً) : عيشا واسعا هنيئا
(سُجَّداً) : ركّعا متطامنين لله خاضعين شكرا لله على نجاتهم من التيه.
(حِطَّةٌ) : حطّة : فعلة مثل ردة وحدة من رددت وحددت ، أمرهم أن يقولوا حطة
بمعنى احطط عنا خطايانا ورفع (حطة) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دخولنا الباب سجدا حطة
لذنوبنا.
(نَغْفِرْ) : نمحو ونستر.
(خَطاياكُمْ) : الخطايا جمع خطيئة : الذنب يقترفه العبد.
(فَبَدَّلَ) : غيروا القول الذى قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا : حبّة في شعرة .
(رِجْزاً) : وباء الطاعون.
(يَفْسُقُونَ) : يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم ، وهو يوشع عليهالسلام.
معنى الآيتين :
تضمنت الآية
الأولى (٥٨) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها
__________________
نعمة الله على بنى
اسرائيل وهى حال تستوجب الشكر ، وذلك أنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من
موسى وهارون وخلفهما في بنى اسرائيل فتى موسى يوشع بن نون وغزا بهم العمالقة وفتح
الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه
القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا. واشكروا لى هذا الإنعام بان تدخلوا باب المدينة
راكعين متطامنين قائلين. دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا التى اقترفناها بنكولنا عن
الجهاد على عهد موسى وهارون. نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثوابا كما
تضمنت الآية الثانية (٥٩) حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة
رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذى أمروا به والقول الذى قيل لهم فدخلوا الباب
زاحفين على أستاههم قائلين : حبه في شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فأنزل على
الظالمين منهم طاعونا أفنى منهم خلقا كثيرا جزاء فسقهم عن أمر الله عزوجل. وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ تذكير الأبناء
بأيام الآباء للعظة والاعتبار.
٢ ـ ترك الجهاد
إذا وجب يسبب للامة الذل والخسران.
٣ ـ التحذير من
عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع.
٤ ـ حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.
٥ ـ فضيلة الاحسان
فى القول والعمل.
__________________
(وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها
وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))
شرح الكلمات :
(اسْتَسْقى) : طلب لهم من الله تعالى السقيا أى الماء للشرب وغيره
(بِعَصاكَ الْحَجَرَ) : عصا موسى التى كانت معه منذ خرج من بلاد مدين. وهل هى من
شجر الجنة هبط بها آدم كذا قيل والله أعلم. والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع
الكذّان رخو كالمدر. وهل هو الذى فر بثوب موسى فى حادثة معروفة كذا قيل او هو حجر من سائر الأحجار؟ الله أعلم.
__________________
(فَانْفَجَرَتْ) : الانفجار : الانفلاق فانفجرت : انفلقت من العصا العيون
(مَشْرَبَهُمْ) : موضع شربهم.
(رِزْقِ اللهِ) : ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية
(وَلا تَعْثَوْا) : العثيّ والعثيّ : أكبر الفساد وفعله عثي كرضي يعثي كيرضي
وعثا يعثو كعدا يعدو.
(مُفْسِدِينَ) : الافساد : العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات
الحياة.
البقل
: وجمعه البقول
سائر أنواع الخضر كالجزر والخردل والبطاطس ونحوها.
القثاء
: الخيار والقته
ونحوهما.
الفوم
: الفوم : الحنطة
وقيل الثوم لذكر البصل بعده.
(أَتَسْتَبْدِلُونَ) : الاستبدال ترك شىء وأخذ آخر بدلا عنه.
(أَدْنى) : اقل صلاحا وخيريه ومنافع كاستبدال المن والسلوى بالفوم
والبقل
(مِصْراً) : مدينة من المدن قيل لهم هذا وهم في التيه كالتعجيز لهم والتحدى
لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فاصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) : احاطت بهم ولازمتهم الذلة وهى الصغار والاحتقار.
(وَالْمَسْكَنَةُ) : والمسكنة وهى الفقر والمهانة
(باؤُ بِغَضَبٍ) : رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم
وبئس ما رجعوا به.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) : ذلك اشارة الى ما أصابهم . من الذلة والمسكنة والغضب وبأنهم أى بسبب كفرهم وقتلهم
الأنبياء وعصيانهم ، فالباء سببية.
الاعتداء
: مجاوزة الحق الى
الباطل ، والمعروف إلى المنكر. والعدل الى الظلم.
__________________
معنى الآيتين :
يذكّر الله تعالى
اليهود المعاصرين لنزول القرآن بالمدينة النبوية بأياديه في أسلافهم وأيامه عزوجل فيهم وفي الآية الأولى رقم (٦٠) ذكرهم بأنهم لما عطشوا في
التيه استسقى موسى ربه فسقاهم بأمر خارق للعادة ليكون لهم ذلك آية
ليلزموا الايمان والطاعة وهو أن يضرب موسى عليهالسلام بعصاه الحجر فيتفجر الماء منه من اثنى عشر موضعا كل موضع يمثل عينا
يشرب منها سبط من أسباطهم الاثنى عشر حتى لا يتزاحموا فيتضرروا أكرمهم
الله بهذه النعمة ، ونهاهم عن الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي.
وفي الآية الثانية
(٦١) ذكرهم بسوء أخلاق كانت في سلفهم منها عدم الصبر ، والتعنت وسوء التدبير
والجهالة بالخير ، والرعونة وغيرها. وهذا ظاهر في قولهم يا موسى بدل يا نبى الله
او رسول الله لن نصبر على طعام واحد. وقولهم أدع لنا ربك بدل ادع الله تعالى لنا
أو ادع لنا ربنا عزوجل. وفي مللهم اللحم والعسل وطلبهم الفوم والبصل بدلا عنهما
وفي قول موسى عليهالسلام أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ما يقرر ذلك كما ذكرهم بالعاقبة المرة التي كانت لهم نتيجة
كفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء ، واعتدائهم وعصيانهم ، وهى أن ضرب الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم.
كل هذا وغيره مما
ذكّر الله تعالى اليهود به في كتابه من أجل أن يذكروا فيتعظوا ويشكروا فيؤمنوا
بنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ويدخلوا في دينه فيكملوا ويسعدوا بعد ان ينجوا مما حاق بهم
من الذلة والمسكنة والغضب في الدنيا ، ومن عذاب النار يوم القيامة.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ استحسان الوعظ
والتذكير بنعم الله تعالى ونقمه في الناس.
__________________
٢ ـ مطالبة ذى
النعمة بشكرها ، وذلك بطاعة الله تعالى بفعل أوامره. وترك نواهيه.
٣ ـ ذم الأخلاق
السيئة والتنديد بأهلها للعظة والاعتبار.
٤ ـ التنديد
بكبائر الذنوب كالكفر وقتل النفس بغير الحق لا سيما قتل الأنبياء أو خلفائهم وهم
العلماء الآمرون بالعدل في الأمة.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))
شرح الكلمات :
(الَّذِينَ آمَنُوا) : هم المسلمون آمنوا بالله ووحدوه وآمنوا برسوله واتبعوه.
(الَّذِينَ هادُوا) : هم اليهود سموا يهودا لقولهم : انا هدنا اليك اى تبنا ورجعنا.
(النَّصارى) : الصليبيون سموا نصارى إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم
بولدها عيسى قرية الناصرة ، والواحد نصران أو نصرانى وهو الشائع على الألسنة.
الصابئون
: امة كانت بالموصل
يقولون لا إله إلا الله. ويقرأون الزبور. ليسوا يهودا ولا نصارى واحدهم صابيء ، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله الا الله صابيء أي
مائل عن دين آبائه الى دين جديد وحّد فيه الله تعالى.
__________________
مناسبة الآية
ومعناها :
لما كانت الآية في
سياق دعوة اليهود إلى الاسلام ناسب أن يعلموا أن النّسب لا قيمة لها وانما العبرة
بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكى للروح البشرية والمطهر لها فلذا المسلمون
واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله
واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحا مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم
بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تركوا من الدنيا ، إذ الآخرة خير
وأبقى.
والإيمان الصحيح
لا يتم لأحد إلا بالايمان بالنبى الخاتم محمد صلىاللهعليهوسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبى الخاتم في
كتابه وما أوحى إليه ، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها
فهى لا تزكى النفس ولا تطهرها. والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ العبرة
بالحقائق لا بالألفاظ فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم ، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم
بجوارحه لا تغنى النسبة عنه شيئا ، واليهودى والنصرانى والصابىء وكل ذى دين نسبته
إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكى النفس ، هذه النسبة لا تنفعه ،
وانما الذى ينفع الايمان الصحيح والعمل الصالح.
٢ ـ أهل الإيمان
الصحيح والاستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى
الخوف حصل الأمن واذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة.
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ
وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ
__________________
بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
(٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ
يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))
شرح الكلمات :
الميثاق
: العهد المؤكد
باليمين.
(الطُّورَ) : جبل أو هو الجبل الذى ناجى الله تعالى عليه موسى عليهالسلام
(بِقُوَّةٍ) : بجد وحزم وعزم
(تَوَلَّيْتُمْ) : رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة
اعتدوا
في السبت : تجاوزوا الحدّ
فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا
(قِرَدَةً) : القردة جمع قرد حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في
السبت على نحوه
__________________
(خاسِئِينَ) : مبعدين عن الخير ذليلين مهانين.
(نَكالاً) : عقوبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سببا
فيه.
(لِما بَيْنَ يَدَيْها
وَما خَلْفَها) : لما بين يدى العقوبة من الناس ، ولمن يأتى بعدهم.
(وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) : يتعظون بها فلا يقدمون على معاصى الله عزوجل.
معنى الآيات :
يذكر الحق عزوجل اليهود بما كان لاسلافهم من أحداث لعلهم يعتبرون فيذكرهم
بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى
فوقهم جبلا فأصبح كالظلة فوق رؤسهم حينئذ أذعنوا غير أنهم تراجعوا بعد ذلك ولم
يفوا بما التزموا به فاستوجبوا الخسران لو لا رحمة الله بهم.
كما يذكرهم بجريمة
كانت لبعض أسلافهم وهى أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت فاحتالت طائفة منهم
على الشرع واصطادوا فنكل الله تعالى بهم فمسخهم قردة ، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الوفاء
بالعهود والمواثيق.
٢ ـ يجب أخذ أحكام
الشرع بحزم ، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها.
٣ ـ لا تتم التقوى
لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم.
٤ ـ حرمة الاحتيال لإباحة المحرّم وسوء عاقبة المحتالين المعتدين.
__________________
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ
لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا
فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا
ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها
بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ
شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ
تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))
شرح الكلمات :
البقرة
: واحدة البقر
والذكر ثور والانثى بقرة
الذبح
: قطع الودجين
والمارن.
الهزؤ
: السخرية واللعب.
الجاهل : الذى يقول او يفعل ما لا ينبغى قوله أو فعله.
__________________
الفارض : المسنة ، والبكر الصغيرة التى لم تلد بعد. والعوان :
النّصف وسط بين المسنة والصغيرة.
(فاقِعٌ) : يقال : أصفر فاقع شديدة الصفرة كأحمر قانىء وأبيض ناصع.
الذلول
: الرّيّضة التى
زالت صعوبتها فاصبحت سهلة منقادة.
(تُثِيرُ الْأَرْضَ) : تقلبها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى أنها لم تستعمل في
الحرث ولا في سقاية الزرع أى لم يسن عليها ، وذلك لصغرها.
(مُسَلَّمَةٌ) : سليمة من العيوب كالعور والعرج.
(لا شِيَةَ فِيها) : الشية العلامة أى لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض.
معنى الآيات :
واذكر يا رسولنا
لهؤلاء اليهود عيبا آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزّون بهم وهو سوء سلوكهم مع
أنبيائهم فيكون توبيخا لهم لعلهم يرجعون عن غيهم فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى
ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذى قتله ابن أخيه استعجالا لإرثه ثم ألقاه تعمية
في حى غير الحى الذى هو منه ، ولما اختلفوا في القاتل قالوا نذهب الى موسى يدعو
لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل فجاءوه فقال لهم ان الله تعالى يأمركم ان تذبحوا
بقرة من أجل ان يضربوا القتيل بجزء منها فينطق مبينا من قتله فلما قال لهم ذلك
قالوا أتتخذنا هزؤا فوصفوا نبى الله بالسخرية واللعب وهذا ذنب قبيح وما زالوا
يسألونه عن البقرة ويتشددون حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذى كادوا معه لا
يذبحون مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم . ولكن شددوا فشدد الله عليهم فعثروا على البقرة المطلوبة
بعد جهد جهيد وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهبا.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ما كان
عليه قوم موسى من بنى اسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون.
٢ ـ حرمة الاعتراض
على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهى وعلتها.
٣ ـ الندب الى
الأخذ بالمتيسر وكراهة التشدد في الأمور.
٤ ـ بيان فائدة
الاستثناء بقول إن شاء الله ، إذ لو لم يقل اليهود ان شاء الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة.
٥ ـ ينبغي تحاشي
الكلمات التى قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم الآن جئت بالحق ، اذ مفهومه
أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت!!
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ
__________________
مِنْها
لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))
شرح الكلمات :
(نَفْساً) : نفس الرجل الذى قتله وارثه استعجالا للإرث.
(فَادَّارَأْتُمْ
فِيها) : تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الآخر.
ما
تكتمون : من أمر القاتل
سترا عليه دفعا للعقوبة والفضيحة.
(بِبَعْضِها) : ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلا.
معنى الآيات :
يقول تعالى لليهود
موبخا لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه فاختصم في شأن القتل كل جماعة
تنفي أن يكون القاتل منها ، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة إحقاقا
للحق وفضيحة للقاتلين فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة فيحيا ويخبر عن
قاتله ففعلتم وأحيا الله القتيل وأخبر بقاتله فقتل به فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة
على حلمه وعلمه وقدرته وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا فى إيمانكم
وأخلاقكم وطاعتكم ، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة
فهى لا ترق ولا تلين ولا تخشع على عكس الحجارة إذ منها ما تتفجر منه العيون ،
ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى ،
وكما اضطرب أحد تحت قدمى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون
من الذنوب والآثام وسيجزيكم به جزاء عادلا إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ صدق نبوة
الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم وتقريرها أمام اليهود إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم
__________________
يكن يعلمها غيرهم
وذلك إقامة للحجة عليهم.
٢ ـ الكشف عن
نفسيات اليهود وانهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع.
٣ ـ اليهود من
أقسى البشر قلوبا الى اليوم ، اذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون.
٤ ـ من علامات
الشقاء قساوة القلوب ، وفي الحديث : «من لا يرحم لا يرحم»
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ
بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا
يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))
شرح الكلمات :
(أَفَتَطْمَعُونَ) : الهمزة للانكار الاستبعادى ، والطمع تعلق النفس بالشىء
رغبة فيه
(يُؤْمِنُوا لَكُمْ) : يتابعونكم على دينكم (الإسلام).
(كَلامَ اللهِ) : فى كتبه كالتوراة والإنجيل والقرآن
(يُحَرِّفُونَهُ) : التحريف الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه كما
قالوا في نعت
__________________
الرسول صلىاللهعليهوسلم في التوراة : اكحل العينين ربعة جعد الشعر حسن الوجه قالوا
: طويل أزرق العينين سبط الشعر.
(إِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا) : إذا لقي منافقوا اليهود المؤمنين قالوا آمنا بنبيكم
ودينكم
(أَتُحَدِّثُونَهُمْ) : الهمزة للاستفهام الانكارى ، وتحديثهم إخبار المؤمنين
بنعوت النبى فى التوراة
(بِما فَتَحَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) : إذا خلا منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم اخبارهم
المؤمنين بنعوت النبى صلىاللهعليهوسلم في التوراة ، وهو مما فتح الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم.
(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) : يقولون لهم لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من
العلم حتى لا يحتجوا عليكم به فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله.
(أُمِّيُّونَ) : الأمي : المنسوب إلى أمه كأنه ما زال في حجر أمه لم
يفارقه فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة.
(أَمانِيَ) : الآمانى جمع أمنية وهى إمّا ما يتمناه المرء في نفسه من
شىء يريد الحصول عليه ، وإما القراءة من تمنى الكتاب اذا قرأه.
معنى الآيات :
ينكر تعالى على
المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم ، ويذكر وجه استبعاده بما عرف
به اليهود سلفا وخلفا من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله تعمية وتضليلا حتى
لا يهتدى الى وجه الحق فيه ومن كان هذا حاله يبعد جدا تخلصه من النفاق والكذب
وكتمان الحق (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) وهم كاذبون واذا خلا بعضهم ببعض أنكروا
__________________
على أنفسهم ما فاه
به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه متعللين بأن مثل هذا الاعتراف
يؤدى الى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة وسبحان الله كيف فسد ذوق القوم
وساء فهمهم حتى ظنوا ان ما يخفونه يمكن اخفاؤه على الله قال تعالى فى التنديد بهذا
الموقف الشائن (أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)؟
ومن جهل بعضهم بما
في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) أى إلّا مجرّد قراءة فقط أما إدراك المعانى الموجبة لمعرفة
الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب ، وما يقولونه ويتفوهون به لم يعد
الخرص والظّنّ الكاذب.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ أن ابعد الناس
عن قبول الحق والاذعان له اليهود.
٢ ـ قبح إنكار
الحق بعد معرفته.
٣ ـ قبح الجهل
بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى.
٤ ـ ما كل من يقرأ
الكتاب يفهم معانيه فضلا عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد
على هذا فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلا عن غير الحافظين له.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَعْدُودَةً قُلْ
__________________
أَتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ
ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١))
شرح الكلمات :
(فَوَيْلٌ) : الويل : كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب.
(الْكِتابَ) : ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه الى الله
تعالى ليتوصلوا به الى أغراض دنيّة من متاع الدنيا القليل.
(مِنْ عِنْدِ اللهِ) : ينسبون ما كتبوه بأيديهم الى التوراه بوصفها كتاب الله ووحيه الى موسى عليهالسلام.
(يَكْسِبُونَ) : الكسب يكون في الخير ، وهو هنا في الشر فيكون من باب
التهكم بهم.
(أَيَّاماً
مَعْدُودَةً) : أربعين يوما وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن
الاسلام.
(أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ
اللهِ عَهْداً) : الهمزة للاستفهام الانكارى ، والعهد : الوعد المؤكد.
(سَيِّئَةً) : هذه سيئة الكفر والكذب على الله تعالى.
(أَحاطَتْ بِهِ) : الإحاطة بالشيء : الالتفاف به والدوران عليه.
__________________
(خَطِيئَتُهُ) : الخطيئة واحدة الخطايا وهى الذنوب عامة.
الخلود
: البقاء الدائم
الذى لا تحول معه ولا ارتحال.
معنى الآيات :
يتوعد الرب تبارك
وتعالى بالعذاب الأليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلام الله ، ويكتبون
أمورا من الباطل وينسبونها الى الله تعالى ليتوصلوا بها الى أغراض دنيوية سافلة.
وينكر عليهم
تبجحهم الفارغ بأنهم لا يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود
إلا أربعين يوما ثم يخرجون ، وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من الله تعالى قطعه
لهم به ولكن أين العهد؟ إنما هو الادعاء الكاذب فقط ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه
وتعالى حكمه في مصير الإنسان بدخول النار أو الجنة ذلك الحكم القائم على العدل
والرحمة البعيد عن التأثر بالأنساب والأحساب فيقول بلى ، ليس الأمر كما تدعون ،
وإنما هى الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فخبّثت نفسه ولوّثتها فهذا لا يلائم خبث نفسه إلا النار ،
ومن آمن وعمل صالحا فزكى بالإيمان والعمل الصالح نفسه وطهرها فإنه لا يلائم طهارة
روحه وزكاة نفسه إلا الجنة دار النعيم. أما الحسب والنسب والادعاءات الكاذبة فلا
تأثير لها البتة.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ التحذير
الشديد من الفتاوى الباطلة التى تحرم ما أحل الله أو تحلل ما حرم ليتوصل بها
صاحبها الى غرض دنيوي كمال ، أو حظوة لدى ذى سلطان.
٢ ـ إبطال
الإنتفاع بالنّسب والإنتساب ، وتقرير أن سعادة الإنسان كشقائه مردهما في السعادة
إلى الإيمان والعمل الصالح. وفي الشقاوة إلى الشرك والمعاصي.
٣ ـ التنبيه على
خطر الذنوب صغيرها وكبيرها ، وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح قبل أن
تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة والعياذ بالله.
__________________
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
__________________
وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))
شرح الكلمات :
الميثاق
: العهد المؤكد باليمين.
(حُسْناً) : حسن القول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة
باللين ، والكلم الطيب الخالي من البذاءة والفحش.
(تَوَلَّيْتُمْ) : رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن لا تتوبوا.
سفك
الدماء : إراقتها وصبها بالقتل والجراحات.
(تَظاهَرُونَ) : قرىء تظّاهرون ، وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون.
(بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) : الإثم : الضار الموجب للعقوبة ، والعدوان الظلم.
(أُسارى) : جمع أسير : من أخذ في الحرب.
الخزي
: الذل والمهانة.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تذكير اليهود بما كان لأسلافهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو كانوا
يهتدون ، فقد ذكرهم في الآية (٨٣) بما أخذ الله تعالى عليهم في التوراة من عهود
ومواثيق على أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا في عبادته سواه. وأن يحسنوا للوالدين
ولذى
__________________
القربى واليتامى
والمساكين وأن يقولوا للناس الحسن من القول ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وندّد
بصنيعهم حيث نقض هذا العهد والميثاق أكثرهم ولم يفوا به وفي الآية الثانية (٨٤)
ذكرهم بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضا وهو الإسرائيلي لا يقتل الإسرائيلي
ولا يخرجه من داره بغيا وعدوانا عليه ، وإذا وقع في الأسر وجب فكاكه بكل وسيلة ولا
يجوز تركه أسيرا بحال ، أخذ عليهم بهذا ميثاقا غليظا وأقروا به وشهدوا عليه وفي
الآية الثالثة (٨٥) وبّخهم على عدم وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل اليهودي ويخرجه من داره بغيا وعدوانا عليه. وفي نفس الوقت
إن أتاهم يهودي أسيرا فدوه بالغالي والرخيص ، فندد الله تعالى بصنيعهم هذا الذي
هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعا لأهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض
ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وفي الآية الرابعة (٨٦) أخبر أنهم
بصنيعهم ذلك اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكان جزاؤهم عذاب الآخرة حيث لا يخفف
عنهم ولا ينصرون فيه بدفعه عنهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية تذكير
الناس ووعظهم بما يكون سببا لهدايتهم.
٢ ـ وجوب عبادة
الله وتوحيده فيها.
٣ ـ وجوب الإحسان
إلى الوالدين ولذوي القربى واليتامى والمساكين.
٤ ـ وجوب معاملة
الناس بحسن الأدب.
__________________
٥ ـ تعرض أمة
الإسلام لخزي الدنيا وعذاب الآخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها البعض
الآخر.
٦ ـ كفر من يتخير
أحكام الشرع فيعمل ما يوافق مصالحه وهواه ، ويهمل ما لا يوافق.
٧ ـ كفر من لا
يقيم دين الله إعراضا عنه وعدم مبالاة به.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ
بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ
بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا
جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠))
__________________
شرح الكلمات :
(مُوسَى) : موسى بن عمران نبي مرسل إلى بني إسرائيل :
(الْكِتابَ) : التوراة.
(قَفَّيْنا) : أرسلناهم يقفو بعضهم بعضا أي واحدا بعد واحد.
(بِالرُّسُلِ) : جمع رسول : ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
(الْبَيِّناتِ) : المعجزات وآيات الله في الإنجيل.
(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل عليهالسلام.
(غُلْفٌ) : عليها غلاف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه ، أو هي
أوعية للعلم فلا نحتاج معها إلى أن نتعلم عنك.
(كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) : القرآن الكريم.
(يَسْتَفْتِحُونَ) : يطلبون الفتح أي النصر.
(بِئْسَمَا) : بئس كلمة ذمّ ، ضدها نعم فإنها للمدح.
(بَغْياً) : حسدا وظلما.
(فَباؤُ بِغَضَبٍ) : رجعوا والغضب ضد الرضا ، ومن غضب الله عليه أبعده ومن
رضي عنه قربه وأدناه.
(مُهِينٌ) : عذاب فيه إهانة وصغار وذل للمعذب به.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر إنعام الله تعالى على بني إسرائيل ، وذكر معايبهم وبيان مثالبهم لعل
ذكر الإنعام يحملهم على الشكر فيؤمنوا ، وذكر المعايب يحملهم على الإصلاح والتوبة
فيتوبوا ويصلحوا ففي الآية (٨٧) يذكر تعالى منته بإعطاء موسى التوراة وإرسال
__________________
الرسل بعده بعضهم
على أثر بعض ، وبإعطاء عيسى البينات وتأييده بروح القدس جبريل عليهالسلام ومع هذا فإنهم لم يستقيموا بل كانوا يقتلون الأنبياء
ويكذبونهم فوبخهم الله تعالى على ذلك بقوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ
بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً
تَقْتُلُونَ). وفي الآية الثانية (٨٨) يذكر تعالى تبجحهم بالعلم
واستغناءهم به ، ويبطل دعواهم ويثبت علة ذلك وهي أن الله لعنهم بكفرهم فلذا هم لا
يؤمنون وفي الآية الثالثة (٨٩) يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيّه بعد أن كانوا قبل
بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم يقولون للعرب إن نبيا قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونقاتلكم
معه وننتصر عليكم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله عليهم لأنهم كافرون. وفي الآية الرابعة (٩٠) يقبّح الله
تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة ، باعوها بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيّه
حسدا أن يكون في العرب نبي يوحى إليه ورسول يطاع ويتبع ، فرجعوا من طول رحلتهم في
الضلال بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى ، وبغضب عظيم سببه كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ واجب النعمة الشكر
، وواجب الذنب التوبة.
٢ ـ قبح رد الحق
لعدم موافقته لهوى النفس.
٣ ـ فظاعة جريمة
القتل والتكذيب بالحق.
٤ ـ سوء عاقبة
التبجح بالعلم وإدعاء عدم الحاجة إلى المزيد منه.
٥ ـ ذم الحسد وأنه
أخو البغي وعاقبتهما الحرمان والخراب.
٦ ـ شر ما يخاف
منه سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.
__________________
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ
بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))
شرح الكلمات :
(بِما أَنْزَلَ اللهُ) : من القرآن.
(بِما أُنْزِلَ
عَلَيْنا) : التوراة.
(وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً) : القرآن الكريم
مقرر لأصول الأديان الإلهية كالتوحيد والنبوات والبعث والجزاء في الدار الآخرة.
(بِالْبَيِّناتِ) : المعجزات.
__________________
(اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ) : يريد إلها عبدتموه في غيبة موسى عليهالسلام.
(وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) : أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بني إسرائيل وتقريعهم على سوء أفعالهم ففي الآية الأولى (٩١) يخبر تعالى
أن اليهود إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن يدّعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد
بحجة أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل الله تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير
التوراة وهو القرآن مع أن القرآن حق والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة
ثم أمر الله رسوله أن يبطل دعواهم موبخا إياهم بقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ
مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذ قتل الأنبياء يتنافى مع الإيمان تمام المنافاة.
وفي الآية الثالثة
(٩٣) يذكّر تعالى اليهود بما أخذه على أسلافهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء في
التوراة عند ما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديدا لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه
كأنهم قالوا سمعنا وعصينا ، فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقبّح ما ادّعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل
الأنبياء وعبادة العجل ، والتمرد والعصيان.
هداية الأيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية توبيخ
أهل الجرائم على جرائمهم إذا أظهروها.
٢ ـ جرأة اليهود
على قتل الأنبياء والمصلحين من الناس.
٣ ـ وجوب أخذ أمور
الشرع بالحزم والعزم والقوة.
٤ ـ الإيمان الحق
لا يأمر صاحبه إلا بالمعروف ، والإيمان الباطل المزيف يأمر صاحبه بالمنكر.
(قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ
خالِصَةً مِنْ
__________________
دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ
(٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ
عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))
شرح الكلمات :
(الدَّارُ الْآخِرَةُ) : المراد منها نعيمها وما أعد الله تعالى فيها لأوليائه.
(خالِصَةً) : خاصة لا يدخلها أحد سواكم.
(فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ) : تمنّوه في نفوسكم واطلبوه بألسنتكم فإن من كانت له الدار
الآخرة لا خير له في بقائه في الدنيا.
(إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) : أي في دعوى أن نعيم الآخرة خاص بكم لا يشارككم فيه
غيركم.
(حَياةٍ) : التنكير فيها لتعم كل حياة ولو كانت ذميمة.
(يَوَدُّ) : يحب
__________________
(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم غير أهل الكتاب من سائر الكفار.
(بِمُزَحْزِحِهِ) : بمبعده من العذاب.
(أَنْ يُعَمَّرَ) : تعميره ألف سنة.
(لِجِبْرِيلَ) : روح القدس الموكل بالوحي يتنزل به على رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(نَزَّلَهُ عَلى
قَلْبِكَ) : نزل جبريل القرآن على قلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) : القرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صلىاللهعليهوسلم والبشارة به ومن التوحيد ووجوب الاسلام لله تعالى.
(مِيكالَ) : ميكال وميكائيل : ملك من أعاظم الملائكة وقيل معناه عبيد
الله.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الرد على اليهود وإبطال جججهم الواهية ففي الآية الأولى (٩٤) أمر الله
تعالى الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم مباهلا إياهم : إن كانت الدار الآخرة خالصة
لكم لا يدخل الجنة معكم احد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا
ومكابدة العيش فيها فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار ، وفعلا
ما تمنوا الموت ولو تمنوه لماتوا عن آخرهم.
وفي الآية الثانية
(٩٥) أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبدا وذلك بسبب ما قدموه من الذنوب
والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة والله عليم بالظالمين
وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم.
وفي الآية الثالثة
(٩٦) يخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين الذين يود
الواحد منهم أن يعيش ألف سنة ، فكيف يتمنون الموت إذا وهم على هذا الحال من الحرص
على الحياة ، وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا. كما يخبر تعالى أن الكافر لا
ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة ، ثم هدد الله تعالى اليهود
وتوعدهم بقوله (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) من الشر والفساد وسيجزيهم به.
__________________
وفي الآية الرابعة
(٩٧) يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم : لو كان الملك الذى يأتيك بالوحي
ميكائيل لآمنا بك ، ولكن لما كان جبريل فجبريل عدونا لأنه ينزل بالعذاب ، بقوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) فليمت غيظا وحنقا فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه
على قلب رسوله مصدقا ـ القرآن ـ لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به
المؤمنون الصالحون.
وفي الآية الخامسة
(٩٨) يخبر تعالى أن من يعاديه عزوجل ويعادي أولياءه من الملائكة والرسل وبخاصة جبريل فإنه كافر ، والله عدو له
ولسائر الكافرين.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ صحة الإسلام ،
وبطلان اليهودية ، وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت.
٢ ـ المؤمن الصالح
يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت.
٣ ـ صدق القرآن
فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة إذ هذا أمر
مشاهد منهم إلى اليوم.
٤ ـ عداوة الله
تعالى للكافرين. ولذا وجب على المؤمن معاداة أهل الكفر لمعاداتهم لله ، ومعاداة
الله تعالى لهم.
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما
عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
__________________
لا
يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))
شرح الكلمات :
(آياتٍ بَيِّناتٍ) : هي آيات القرآن الكريم الواضحة فيما تدل عليه من معان.
(يَكْفُرُ بِها) : يجحد بكونها كتاب الله ووحيه الى رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم.
(الْفاسِقُونَ) : الخارجون عما يجب أن يكونوا عليه من الإيمان بالله
والإسلام له ظاهرا وباطنا.
(أَوَكُلَّما عاهَدُوا) : الهمزة للإستفهام الإنكاري والواو عاطفة على تقديره
أكفروا بالقرآن ونبيه وكلما عاهدوا الخ ..
العهد
: الوعد الملزم.
(نَبَذَهُ) : طرحه وألقاه غير
آبه به ولا ملتفت إليه.
(رَسُولٌ) : التنكير للتعظيم والرسول هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، ومن قبله عيسى عليهالسلام.
(لِما مَعَهُمْ) : من نعت الرسول صلىاللهعليهوسلم وتقرير نبوته ، وسائر أصول الدين في التوراة.
(كِتابَ اللهِ) : التوراة لدلالتها على نبوة النبي محمد صلىاللهعليهوسلم وصحة دينه الإسلام.
(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) : أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون
عليه من الكفر بالنبي محمد صلىاللهعليهوسلم كأنهم لا يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير نبوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعموم رسالته والرد على اليهود وإظهار
__________________
ما هم عليه من
الفسق والكفر والظلم ففي الآية الأولى (٩٩) يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي
للرسول صلىاللهعليهوسلم ما جئتنا بشيء بقوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) كالأعور بن صوريا اليهودي وفي الآية الثانية (١٠٠) ينكر
الحق سبحانه وتعالى على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم
إيمان أكثرهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ). وفي الآية الثالثة (١٠١) ينعى البارىء عزوجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما رأوا فيها من تقرير
نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وإثباتها فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ) (فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لا يَعْلَمُونَ).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ الفسق العام
ينتج الكفر ، إن العبد إذا فسق وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن
ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
٢ ـ اليهود لا
يلتزمون بوعد ولا يفون بعهد ، فيجب أن لا يوثق في عهودهم أبدا.
٣ ـ التوراة أحد
كتب الله عزوجل المنزلة أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران عليهالسلام.
٤ ـ قبح جريمة من
تنكّر للحق بعد معرفته ، ويصبح وكأنه جاهل به.
(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا
الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ
__________________
سُلَيْمانُ
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (١٠٣))
شرح الكلمات :
(ما تَتْلُوا
الشَّياطِينُ) : الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر.
(عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) : على عهد ملك سليمان ووقت حكمه.
(الشَّياطِينُ) : جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير.
__________________
(السِّحْرَ) : هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين
الناس أو نفوسهم أو أبدانهم.
(هارُوتَ وَمارُوتَ) : ملكان وجدا للفتنة.
(فَلا تَكْفُرْ) : لا تتعلم منا السحر لتضر به فتكفر بذلك.
(بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ) : بين الرجل وامرأته.
(اشْتَراهُ) : اشترى السحر بتعلمه والعمل به.
الخلاق
: النصيب والحظ.
(ما شَرَوْا) : ما باعوا به أنفسهم.
(لَمَثُوبَةٌ) : ثواب وجزاء.
معنى الآيتين :
ما زال السياق
الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد ففي الآية الأولى (١٠٢) يخبر تعالى
أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وتأكيدها لصحة دينه اتبعوا الأباطيل والترهات التي جمعها
شياطين الإنس والجن في صورة رقى وعزائم وكانوا يحدثون بها ، ويدّعون أنها من عهد
سليمان بن داود عليهماالسلام وأنها هي التى كان سليمان يحكم بها الإنس والجن ، ولازم
هذا أن سليمان لم يكن رسولا ولا نبيا وإنما كان ساحرا كافرا فلذا نفى الله تعالى
عنه ذلك بقوله : (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ) وأثبته للشياطين فقال : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ). كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت ببابل العراق من ضروب السحر وفنونه وهنا أخبرنا تعالى عن
ملكى الفتنة أنهما يقولان لمن جاءهما يريد تعلم السحر : إنما نحن فتنة فلا تكفر
بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه
__________________
بوضوح أن أقوال
الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم الله وشرعه قطعا.
كما أخبر تعالى في
هذه الآية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل وامرأته
، وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن الله تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات ،
ولو شاء الله أن يوجد مانعا يمنع من حصول الأمر بالضرر لفعل وهو على كل شىء قدير.
فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. وفي آخر
الآية يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى
أنهم لا نصيب لهم في الآخرة من النعيم المقيم فيها فلذا هم كفار قطعا.
وأخيرا يقبح تعالى
ما باع به اليهود أنفسهم ، ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
وفي الآية الثانية
(١٠٣) يفتح تعالى على اليهود باب التوبة فيعرض عليهم الإيمان والتقوى فيقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ الاعراض عن
الكتاب والسنة لتحريمهما الشر والفساد والظلم يفتح أمام المعرضين أبواب الباطل من
القوانين الوضعية ، والبدع الدينية ، والضلالات العقلية قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ) (سبيل السّعادة والكمال) (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
٢ ـ كفر الساحر وحرمة تعلم السحر ، وحرمة استعماله.
__________________
٣ ـ الله تعالى
خالق الخير والضّير ولا ضرر ولا نفع إلا بإذنه فيجب الرجوع إليه في جلب النفع ، ودفع الضر بدعائه
والضراعة إليه.
٤ ـ العلم المبهم
كالظّن الذي لا يقين معه لا يغير من نفسية صاحبه شيئا فلا يحمله على فعل خير ولا
على ترك شر بخلاف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم
الرهبة ما يدفعه إلى الإيمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي. وهذا ظاهر في نفي
الله تعالى العلم عن اليهود في هاتين الآيتين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (١٠٥))
شرح الكلمات :
(راعِنا) : أمهلنا وانظرنا حتى نعى ما تقول.
(انْظُرْنا) : أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ.
الكافرين
: الجاحدين
المكذبين لله ورسوله المستهزئين بهما أو بأحدهما.
(أَلِيمٌ) : كثير الألم شديد الإيجاع.
(مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) : اليهود والنصارى والوثنيين من العرب وغيرهم.
(مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) : من الوحي الإلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع
الهداية وطرق الإسعاد والإكمال في الدارين.
__________________
(الْفَضْلِ) : ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه ، والله عزوجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو
في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبدا.
معنى الآيتين :
أما الآية الأولى (١٠٤)
فقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يراعوا الأدب في مخاطبة نبيّهم صلىاللهعليهوسلم تجنبا للكلمات المشبوهة ككلمة راعنا ، إذ قد تكون من
الرعونة ، ولما تدل عليه صيغة المفاعلة إذ كأنهم يقولون راعنا نراعك ، وهذا لا
يليق أن يخاطب به الرسول صلىاللهعليهوسلم.
وأرشدهم تعالى إلى
كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا ، وأمرهم أن يسمعوا لنبيّهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى
مراجعته ؛ إذ الاستهزاء بالرسول والسخرية منه ومخاطبته بما يفهم الاستخفاف بحقه
وعلوّ شأنه وعظيم منزلته كفر بواح.
وفي الآية الثانية
(١٠٥) أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من
المشركين الوثنيين لا يحبون أن ينزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآنا يحمل
أسمى الآداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال ، أو كان غير ذلك من سائر
أنواع الخيرات ، وذلك حسدا منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من
يشاء من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم
بذلك.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب التأدب
مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مخاطبته بعدم استعمال أي لفظة قد تفهم غير الإجلال
والإكبار له صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ وجوب السماع
لرسول الله بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله تعالى
بمعايشته والوجود معه.
__________________
٣ ـ التحذير من الكافرين كتابيين أو مشركين لأنهم أعداء حسدة للمؤمنين
فلا يحل الركون إليهم والإطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم ، إذ الريبة لا تفارقهم.
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))
شرح الكلمات :
(نَنْسَخْ) : نبدّل أو نزيل.
(مِنْ آيَةٍ) : من آيات القرآن : جملة كلمات تحمل معنى صحيحا كالتحريم
أو التحليل ، أو الإباحة.
(نُنْسِها) : نمحها من قلب النبي صلىاللهعليهوسلم.
(أَلَمْ تَعْلَمْ) : الاستفهام للتقرير.
(وَلِيٍ) : حافظ يحفظكم بتولي أموركم.
__________________
(نَصِيرٍ) : ناصر يدفع عنكم المكروه.
(أَمْ تُرِيدُونَ) : بل أتريدون ، إذ أم هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى بل
والهمزة ، وما سئله موسى هو قول بني إسرائيل له : (أرنا الله جهرة).
(سَواءَ السَّبِيلِ) : وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق.
معنى الآيات :
يخبر تعالى رادا
على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل
حكما شاقا على المسلمين إلى حكم أخف كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى
الثبوت إلى إثنين. أو حكما خفيفا إلى شاق زيادة في الأجر كنسخ يوم عاشوراء بصيام
رمضان ، أو حكما خفيفا إلى حكم خفيف مثله كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،
أو حكما إلى غير حكم آخر كنسخ صدقة من أراد أن يناجى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلا عنه ، أو نسخ الآية
بإزالتها من التلاوة ويبقى حكمها كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة
نكالا من الله فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو بنسخ الآية وحكمها. وهذا
معنى قوله أو ننسها وهي قراءة نافع ، فقد ثبت أن قرآنا نزل وقرأه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظا ومعنى فمحاه من
القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال
عليه قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وهو أيضا مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله :
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو تعالى يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله
بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم :
ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
أما قوله تعالى في
آية (١٠٨) : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ، فهو توبيخ لمن طالب
__________________
الرسول صلىاللهعليهوسلم بأمور ليس في مكنته ، وإعلام بأن من يجري على أسلوب التعنت
وسوء الأدب مع الرسول صلىاللهعليهوسلم قد يصاب بزيغ القلب فيكفر ، دلّ على هذا قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ ثبوت النسخ في
القرآن الكريم ، كما هو ثابت في السنة ، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا
إجماع.
٢ ـ رأفة الله
تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
٣ ـ وجوب التسليم
لله والرضا بأحكامه ، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
٤ ـ ذم التنطع في
الدين وطرح الأسئلة المحرجة والتحذير من ذلك.
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
__________________
مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))
شرح الكلمات :
(وَدَّ) : أحبّ.
(أَهْلِ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى.
(حَسَداً) : الحسد تمني زوال النعمة على من هي به.
(تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُ) : عرفوا أن محمدا رسول الله وأنّ دينه هو الدين الحق.
(فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا) : لا تؤاخذوهم ولا تلوموهم ، إذ العفو ترك العقاب والصفح
الإعراض عن المذنب.
(حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) : أي الإذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة وهم بنو
قينقاع وبنو النضير ، وبنو قريظة.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : إقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها مستوفاة الشروط والأركان
والسنن.
(وَآتُوا الزَّكاةَ) : أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم
من الطاعات.
معنى الآيتين :
في الآية الأولى (١٠٩)
يخبر تعالى المؤمنين بنفسيّة كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في أن يتخلى
المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية لا
ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور الإيمان بدل ظلمات الكفر ، وبعد أن أعلم عباده
المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم ، أمرهم بالعفو والصفح لأن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا حان الوقت
قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم.
وفي الآية الثانية
(١١٠) أمر الله تعالى المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات
__________________
تهذيبا لأخلاقهم
وتزكية لنفوسهم وواعدهم بحسن العاقبة بقوله : (إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ اليهود
والنصارى يعلمون أن الإسلام حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم ثم
عداوتهم ، والعمل على تكفيرهم .. وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء
المسلمين إلى اليوم.
٢ ـ في الظرف الذي
لم يكن مواتيا للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإعداد للجهاد ، وذلك بتهذيب
الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء
على طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
٣ ـ تقوية الشعور بمراقبة الله تعالى ليحسن العبد نيته وعمله.
(وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))
__________________
شرح الكلمات :
(الْجَنَّةَ) : دار النعيم وتسمى دار السّلام وهي فوق السماء السابعة.
(هُوداً) : يهودا.
(نَصارى) : صليبيين مسيحيين.
(أَمانِيُّهُمْ) : جمع أمنية ما يتمناه المرء بدون ما يعمل للفوز به ،
فيكون غرورا.
البرهان
: الحجة الواضحة.
(بَلى) : حرف إجابة يأتي بعد نفي مقرون باستفهام غالبا نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)؟ بلى أي هو أحكم الحاكمين ، ولما ادعى اليهود والنصارى أن
الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا قال تعالى : بلى أي ليس الأمر كما
تزعمون فلا يدخل الجنة يهودي ولا نصراني ولكن يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن أي
عبد آمن فصدق وعمل صالحا فأحسن.
ليست
على شيء : أي من الدين الحق.
(يَتْلُونَ الْكِتابَ) : أي التوراة والإنجيل.
الذين
من قبلهم : هذا اللفظ صادق
على مشركي العرب ، وعلى غيرهم من أمم جاهلة سبقت.
سبب نزول الآيتين
ومعناهما :
لما جاء وفد نصارى
نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة لا يدخلها
إلا من كان يهوديا ، وادعت النصارى أن الجنة لا بدخلها إلا من كان نصرانيا فرد
الله تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى
دخول الجنة لمن زكى نفسه بالإيمان الصحيح والعمل الصالح
__________________
فقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ) يريد قلبه وجوارحه فآمن ووحد وعمل صالحا فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره
على إيمانه وصالح أعماله ، فلا هو يخاف ولا يحزن.
هذا معنى الآيتين
الأولى (١١١) والثانية (١١٢) وأما الآية الثالثة (١١٣) فقد سجلت كفر كل من اليهود
والنصارى ، بشهادتهم على بعضهم بعضا فقد كفرّ اليهود النصارى بقولهم : إنهم ليسوا
على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له ، وكفرّ النصارى اليهود بقولهم :
ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل فلذا كان تكفيرهم لبعضهم
البعض حقا وصدقا. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من
الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم ، وأخبر تعالى أنه
سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال تأثير
النّسب في السعادة والشقاء ، وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها
إلى تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح ، وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى
الشرك ، وارتكاب الذنوب. فلا نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تغني عن صاحبها
، وإنما المغني بعد فضل الله ورحمته الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك
والمعاصي.
٢ ـ كفر اليهود
والنصارى وهو شر كفر لأنه كان على علم.
٣ ـ الإسلام
الصحيح القائم على أسسه الثلاثة الإيمان والإسلام والإحسان هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.
__________________
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها
أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ
عَلِيمٌ (١١٥))
شرح الكلمات :
(وَمَنْ أَظْلَمُ) : الاستفهام للإنكار والنفي ، والظلم وضع الشيء في غير
محله مطلقا.
(سَعى فِي
خَرابِها) : عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو بمنع الصلاة فيها وصرف
الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضا.
الخزي
: الذل والهوان .
(فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) : هناك الله تعالى إذ الله عزوجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا
وجد الله تعالى ، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن
الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، فليس هناك جهة تخلو من علم الله
تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ
عَلِيمٌ) ، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل
شيء لأنه محيط بكل شيء.
شرح الآيتين :
ففي الآية الأولى (١١٤)
ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلما ممن منع مساجد الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها ، لأن العبادة هي علة
الحياة فمن منعها كان كمن أفسد
__________________
الحياة كلها
وعطلها ، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشا بصدهم
النبي وأصحابه عن المسجد الحرام ، أو فلطيوس ملك الروم الذى خرّب المسجد الأقصى أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلا ،
ولذا ضمن تعالى قوله ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ، أمر المسلمين بجهاد
الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.
وفي الآية الثانية
(١١٥) يخبر تعالى رادا على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بيت المقدس
إلى الكعبة ، مؤذنا بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت فأخبر
تعالى أن له المشرق والمغرب خلقا وملكا وتصرفا ، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها
شرقا أو غربا جنوبا أو شمالا ، فلا اعتراض عليه ولا إنكار وأنّ الله تعالى محيط
بالكائنات فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى ، إلا أنه تعالى
أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة فمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم جريمة من
يتعرض للمساجد بأي أذى أو إفساد.
٢ ـ وجوب حماية
المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون.
٣ ـ صحة صلاة النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها.
٤ ـ وجوب استقبال
القبلة إلا عند العجز فيسقط هذا الواجب.
٥ ـ العلم بإحاطة
الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلما فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزه
آخر.
__________________
(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ
وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ
أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا
أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ
الْجَحِيمِ (١١٩))
شرح الكلمات :
(سُبْحانَهُ) : تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد.
(قانِتُونَ) : خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.
(بَدِيعُ السَّماواتِ) : مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق.
(قَضى أَمْراً) : حكم بإيجاده.
(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) : كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.
(وَلا تُسْئَلُ) : قرىء بالتاء للمجهول ، ولا نافية والفعل مرفوع وقرىء
بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.
(الْجَحِيمِ) : دركة من دركات النار وهي أشدها عذابا.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها
ويبطلها نهائيا ففي الآيتين الأولى (١١٦) والثانية (١١٧) يذكر تعالى قول
__________________
أهل الكتاب
والمشركين في أن الله اتخذ ولدا إذ قالت اليهود العزير ابن الله وقالت النصارى
المسيح ابن الله وقال بعض مشركي العرب الملائكة بنات الله ، ذكر تعالى قولهم اتخذ
الله ولدا ثم نزّه نفسه عن هذا القول الباطل والفرية الممقوتة ، وذكر الأدلة المنطقية العقلية على بطلان
الدعوى.
فأولا : ملكية
الله تعالى لما في السموات والأرض ، وخضوع كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلا مع اتخاذ
ولد منهم.
ثانيا : قدرة الله
تعالى المتجلية في إبداعه السموات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها
احتياجه إلى الولد ، وهو مالك كل شيء وربّ كل شيء وفي الآية الثالثة (١١٨)
يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا فأخبر تعالى أن مثل هذا
الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والإنتكاس ، فقد قال اليهود لموسى
أرنا الله جهرة ، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة
الامتحان والتكليف ولذا لم يجب إليه أحدا من قبلهم ولا من بعدهم ، وأما الآيات فما
أنزل الله تعالى وبيّنه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته
وتوحيده فيها ، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية
آية مادية يريدونها ، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم
وذلك لعدم إيقانهم ، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
وفي الآية الرابعة
(١١٩) يخفف تعالى على نبيّه همّ مطالبة المشركين بالآيات بأنه غير مكلف بهداية أحد
ولا ملزم بإيمان آخر ، ولا هو مسئول يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس ، إذ مهمته محصورة في
التبشير والإنذار تبشير من آمن وعمل صالحا بالفوز بالجنة
__________________
والنجاة من النار
، وإنذار من كفر وعمل سوءا بدخول النار والعذاب الدائم فيها.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة نسبة أي
شيء إلى الله تعالى بدون دليل من الوحي الإلهي إذ أنكر تعالى نسبة الولد إليه
أنكره على أهل الكتاب والمشركين معا.
٢ ـ تشابه قلوب
أهل الباطل في كل زمان ومكان لاستجابتهم للشيطان وطاعتهم له.
٣ ـ لا ينتفع
بالآيات إلا أهل اليقين لصحة عقولهم وسلامة قلوبهم.
٤ ـ على المؤمن أن
يدعو إلى الله تعالى ، وليس عليه أن يهدى ، إذ الهداية بيد الله ، وأما الدعوة فهي
في قدرة الإنسان ، وهو مكلّف بها.
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى
اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ
أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(١٢١))
شرح الكلمات :
(مِلَّتَهُمْ) : دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية.
قل
ان الهدى هدى الله : الهدى ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو الإسلام ، لا ما ابتدعه اليهود
والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية.
__________________
(مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) : الولي من يتولاك ويكفيك أمرك والنصير من ينصرك ويدفع عنك
الأذى.
(يَتْلُونَهُ حَقَ تِلاوَتِهِ) : لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه
من نعت الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم وغيره.
(فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) : المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا
والآخرة.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون ففي الآية الأولى (١٢٠)
يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم
الباطلة وهي اليهودية أو النصرانية ، وفي هذا نهى عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن
الهدى هدى الله الذي هو الإسلام وليس اليهودية ولا النصرانية إذ هما
بدعتان من وضع أرباب الأهواء والأطماع الماديّة.
ثم يحذر الله
رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم من العلم والنعمة التي أتمها
عليهم وهي الإسلام فيقول : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ).
وفي الآية الثانية
(١٢١) يخبر تعالى أن الذين آتاهم الله الكتاب التوراة والإنجيل فكانوا يتلونه حق
تلاوته فلا يحرفون ولا يكتمون هؤلاء يؤمنون بالكتاب حق الإيمان أما الذين يحرفون
كلام الله ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صلىاللهعليهوسلم فهؤلاء لا يؤمنون به وهم الخاسرون دون غيرهم ، ومن آمن من أهل الكتاب بكتابه وتلاه حق تلاوته سوف يؤمن بالنبي
الأمي ويدخل في دينه قطعا.
هداية الآيات
من
هداية الآيتين :
١ ـ لا يحصل
المسلم على رضا اليهود والنصارى إلا بالكفر بالإسلام واتباع دينهم الباطل
__________________
وهذا ما لا يكون
للمسلم أبدا فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم لا يحل أبدا.
٢ ـ لا دين حق إلا الإسلام فلا ينبغي أن يلتفت إلى غيره بالمرة.
٣ ـ من يوالي
اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.
٤ ـ طريق الهداية
في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبرّه هداية ويؤمن بحكمه
ومتشابهه ، ويحلل حلاله ويحرم حرامه ، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(١٢٣))
شرح الكلمات :
(إِسْرائِيلَ) : لقب يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهمالسلام.
وبنو
إسرائيل : هم اليهود.
(الْعالَمِينَ) : البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقا.
(لا تَجْزِي) : لا تقضي ولا تغني.
العدل
: الفداء.
(شَفاعَةٌ) : وساطة أحد.
__________________
معنى الآيتين :
يعظ الرحمن عزوجل اليهود فيناديهم بأشرف ألقابهم ويأمرهم بذكر نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة ،
ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم والمراد من ذكر النعم شكرها
فهو تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه وذلك بالإيمان به وبرسوله والدخول في دينه
الحق (الإسلام).
كما يأمرهم باتقاء
عذاب يوم القيامة حيث لا تغني نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها فداء ولا تنفعها
شفاعة وهذه هي نفس الكافر والمشرك حيث لا شفاعة تنال الكافر أو المشرك ، ولا يوجد
لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون بالإيمان بالله
ورسوله والعمل الصالح ، بعد التخلي عن الكفر والمعاصي.
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب ذكر نعم
الله على العبد ليجد بذلك دافعا نفسيا لشكرها ، إذ غاية الذكر هي الشكر.
٢ ـ وجوب اتقاء
عذاب يوم القيامة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان.
٣ ـ استحالة
الفداء يوم القيامة ، وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك لا بإخراجه من النار
، ولا بتخفيف العذاب عنه.
(وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ
__________________
فَأَتَمَّهُنَّ
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))
شرح الكلمات :
(ابْتَلى) : اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
(بِكَلِماتٍ) : متضمنة أوامر ونواهي.
(فَأَتَمَّهُنَ) : قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.
(إِماماً) : قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
(الظَّالِمِينَ) : الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
معنى الآية
الكريمة :
بعد ذلك الحجاج
الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذا
المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى
لنبيه وخليله إبراهيم عليهالسلام بما كّلفه به من أوامر ونواهي فقام بها خير قيام فأنعم
عليه بأكبر إنعام وهو أنه جعله إماما للناس ، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه
الوثنيين ، وتحطيم أوثانهم ، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قربانا
لله ، وبناء البيت ، وحجه والدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة وفي هذا
تبكيت للفرق الثلاثة العرب المشركين واليهود والنصارى إذ كلهم يدعي انتماءه
لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون ، عادل وهم ظالمون ،
متّبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في
أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا
تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين
العتاة.
__________________
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ الإمامة لا
تنال إلا بصحة اليقين والصبر على سلوك سبيل المهتدين.
٢ ـ مشروعية ولاية
العهد ، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإيمان والعلم والعمل والعدل
والصبر.
٣ ـ القيام
بالتكاليف الشرعية قولا وعملا يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.
(وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى
عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))
شرح الكلمات :
(الْبَيْتَ) : الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
(مَثابَةً) : مرجعا يثوب إليه العمّار والحجاج.
(أَمْناً) : مكانا آمنا يأمن فيه كل من دخله.
(مَقامِ إِبْراهِيمَ) : الحجر الذي كان قد قام عليه ابراهيم أيام كان يبني البيت
وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء
الجدران فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
__________________
(مُصَلًّى) : مكان يصلى فيه أو عنده أو إليه.
(عَهِدْنا) : وصينا وأمرنا.
تطهير
البيت : تنزيهه عن
الأقذار الحسية كالدماء والأبوال ومعنوية كالشرك والبدع والمفاسد.
(أَضْطَرُّهُ) : ألجئه مكرها إلى العذاب.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
تذكير المشركين وأهل الكتاب معا بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليهالسلام ، ومآثره الطيبة الحميدة ، ومواقفه الإيمانية العظيمة
ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذبا
وزورا إذ هو موحد وهم مشركون وهو مؤمن وهم كافرون فقال تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس يثوبون إليه في كل زمان حجاجا وعمارا ، وأمنا دائما من
دخله أمن على نفسه وماله وعرضه. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلى خلف المقام ركعتين ، كما أوصينا من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجس
معنويا كالأصنام وعبادة غير الله تعالى أو حسيا كالأقذار والأوساخ من دم أو بول
حتى يتمكن الطائفون والعاكفون والمصلون من أداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو
يضايقهم.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (١٢٥) أما الآية الثانية (١٢٦) فقد تضمنت أمر الله تعالى لرسوله أن
يذكر دعوة إبراهيم ربّه بأن يجعل مكة بلدا آمنا من دخله يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه ، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من
الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا أن الكافرين لا يحرمون الرزق في
الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث
__________________
يلجئهم تعالى
مضطرا لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه ـ وهو النار ـ
من مصير.
هداية الآيات
من
هداية الآيتين :
١ ـ منة الله
تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمنا توجب حمد الله على كل مؤمن.
٢ ـ سنة صلاة
ركعتين خلف المقام لمن طاف بالبيت.
٣ ـ وجوب حماية
البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع
وساجد.
٤ ـ بركة دعوة
إبراهيم لأهل مكة ، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة.
٥ ـ الكافر لا
يحرم الرزق لكفره بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.
٦ ـ مصير من مات
كافرا إلى النار ، لا محالة ، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئا.
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
__________________
وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ) : ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره أذكر وقت كذا
وكذا.
(الْقَواعِدَ) : جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه.
(الْبَيْتِ) : الكعبة حماها الله وطهرها.
(إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهما.
(مُسْلِمَيْنِ) : منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك راضين بحكمك عابدين لك.
(أَرِنا مَناسِكَنا) : علمنا كيف نحج بيتك ، تنسكا وتعبدا لك.
(تُبْ عَلَيْنا) : وفقنا للتوبة إذا زللنا واقبلها منا.
(وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً) : هذا الدعاء استجابه الله تعالى ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم هو ما طلباه.
(الْكِتابَ) : القرآن.
(الْحِكْمَةَ) : السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.
(يُزَكِّيهِمْ) : يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم ، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم
من الكتاب والحكمة ، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
(الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) : العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره
بوضع كل شيء في موضعه.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليهالسلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإيمان والطاعة ،
وعظيم الرغبة في الخير والرحمة فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما
يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
__________________
كما يسألانه عزوجل أن يجعلهما مسلمين له وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة ، وأن
يعلمهما مناسك حج بيته العتيق ليحجاه على علم ويتوب عليهما ، كما سألاه عزوجل أن يبعث في ذريتهما رسولا منهم يتلو عليهم آيات الله
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بالإيمان وصالح الأعمال ، وجميل الخلال وطيب
الخصال.
وقد استجاب الله
تعالى دعاءهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر
المحجلين نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم وقد قرر هذا صلىاللهعليهوسلم بقوله : «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ... عليهم جميعا السّلام».
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل الإسهام
بالنفس في بناء المساجد .
٢ ـ المؤمن البصير
في دينه يفعل الخير وهو خائف أن لا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه
وصفاته أن يتقبله منه.
٣ ـ مشروعية سؤال
الله للنفس وللذرية الثبات على الإسلام حتى الموت عليه.
٤ ـ وجوب تعلم
مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.
٥ ـ وجوب طلب
تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح ، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.
٦ ـ مشروعية
التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه
فلان كما هو شأن المبتدعة والضلال ففي هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل
بالجمل التالية :
١ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
__________________
٢ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
٣ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي
قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها
ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))
شرح الكلمات :
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) : الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه وملة إبراهيم هي
عبادة الله وحده بما شرع لعباده.
__________________
(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) : لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل
قدر نفسه فأذلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها وهي الإسلام.
(اصْطَفَيْناهُ) : اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا ، ومن ثم رفعنا شأنه
وأعلينا مقامه.
(أَسْلِمْ) : انقد لأمرنا ونهينا فاعبدنا وحدنا ولا تلتفت إلى غيرنا.
(اصْطَفى لَكُمُ
الدِّينَ) : اختار لكم الدين الإسلامي ورضيه لكم فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون.
(يَعْقُوبَ) : هو اسرائيل بن اسحق بن إبراهيم وبنوه هم يوسف وإخوته.
أمة
خلت : جماعة أمرها
واحد. (خَلَتْ) : مضت إلى الدار الآخرة.
(لَها ما كَسَبَتْ) : أجر ما كسبته من الخير.
(وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ) : من خير أو غيره.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى في
الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصا وعملا صالحا وصدقا
ووفاء فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ) تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب
عنها إلا عبد جهل قدر نفسه ، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإكمال
والإسعاد وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من
الإصطفاء في الدنيا والإسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.
وفي الآية الثانية
(١٣١) يذكر تعالى أن ذاك إلا اصطفاء تم لإبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإسلام
حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة (١٣٢) يذكر تعالى إقامة الحجة على
__________________
المشركين وأهل
الكتاب معا إذ ملة الإسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه ، كما وصى
بها يعقوب بنيه وقال لهم : لا تموتن إلا على الإسلام فأين الوثنية العربية
واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم ، ألا فليثب العقلاء إلى رشدهم.
وفي الآية الرابعة
(١٣٣) يوبخ تعالى اليهود القائلين كذبا وزورا للنبي صلىاللهعليهوسلم : ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية فقال تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي أكنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهما
إياهم : ما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بلسان واحد : (نَعْبُدُ إِلهَكَ
وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ) فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا وإن قالوا
لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية ، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا
باليهودية.
وفي الآية الأخيرة
(١٣٤) ينهي تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ) ـ يعني إبراهيم وأولاده
ـ لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال ، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من
الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن
أعمالكم وتجزون بها ، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في آخرتكم وهو الإيمان
الصحيح والعمل الصالح ، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام فأسلموا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا يرغب عن
الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
٢ ـ الإسلام دين
البشرية جمعاء ، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
٣ ـ استحباب
الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.
٤ ـ كذب اليهود
وبهتانهم وصدق من قال : اليهود قوم بهت.
__________________
٥ ـ يحسن بالمرء
ترك الإعتزاز بشرف وصلاح الماضين ، والإقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.
٦ ـ سنة الله في
الخلق أن المرء يجزى بعمله ، ولا يسأل عن عمل غيره.
٧ ـ يطلق لفظ الأب
على العم تغليبا وتعظيما.
(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ
نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى
وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ
بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))
شرح الكلمات :
(تَهْتَدُوا) : تصيبوا طريق الحق.
__________________
(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : دين إبراهيم الذي كان عليه.
(حَنِيفاً) : مستقيما على دين الله تعالى موحدا فيه لا يشرك بالله
شيئا.
(ما أُوتِيَ مُوسى) : التوراة.
وما
أوتي عيسى : الإنجيل
(فِي شِقاقٍ) : خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
(صِبْغَةَ اللهِ) : دينه الذي طهرنا به ظاهرا وباطنا فظهرت آثاره علينا كما
يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه. كونوا يهودا تهتدوا إلى الحق ، وقالت النصارى من
وفد نجران كذلك كونوا نصارى تهتدوا فحكى الله تعالى قولهم ، وعلم رسوله أن يقول
لهم لا نتبع يهودية ولا نصرانية بل نتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى
السعادة والكمال.
وفي الآية الثانية
(١٣٦) أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة وهي
الإيمان بالله وما أنزل من القرآن ، وما أنزل على الأنبياء كافة ، وما أوتي موسى
وعيسى من التوراة والإنجيل خاصة ، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر
والباطن لله رب العالمين.
وفي الآية الثالثة
(١٣٧) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيمانا صحيحا كإيمانكم فقد اهتدوا ، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو
شقاقا وحربا لله ورسوله ، والله تعالى سيكفيكهم بما يشاء وهو السميع لأقوالهم
الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة ، وقد أنجز تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز
مع ما
__________________
جللهم به من الخزي
والعار.
وفي الآية الرابعة
(١٣٨) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين ردا على اليهود والنصارى قولوا لهم : نتبع صبغة الله التي صبغنا بها وفطرته التي فطرنا عليها وهي
الإسلام ، ونحن له تعالى عابدون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا هداية إلا
في الإسلام ولا سعادة ولا كمال إلا بالإسلام.
٢ ـ الكفر برسول ،
كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى ، وكفر النصارى بمحمد صلىاللهعليهوسلم فأصبحوا بذلك كافرين ، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا
بذلك مؤمنين.
٣ ـ لا يزال
اليهود والنصارى في عداء للإسلام وحرب على المسلمين ، والمسلمون يكفيهم الله تعالى
شرهم إذا هم استقاموا على الإسلام عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وحكما.
٤ ـ الواجب على من
دخل في الإسلام أن يغتسل غسلا كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة الله تعالى ، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود
يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء انه طهر بذلك ولا يحتاج إلى
الختان.
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
__________________
وَالْأَسْباطَ
كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ
وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها
ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
(١٤١))
شرح الكلمات :
(أَتُحَاجُّونَنا فِي
اللهِ) : أتجادلوننا في دينه والإيمان به وبرسوله ، والإستفهام
للإنكار.
(لَهُ مُخْلِصُونَ) : مخلصون العبادة له ، لا نشرك غيره فيها ، وأنتم مشركون.
(شَهادَةً عِنْدَهُ
مِنَ اللهِ) : المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان
بالنبي محمد صلىاللهعليهوسلم عند ظهوره.
الغافل
: من لا يتفطن
للأمور لعدم مبالاته بها.
معنى الآيات :
يأمر تعالى رسوله
أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول
والمؤمنين وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، فعلّم الله رسوله كيف يرد عليهم منكرا
عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده
كانوا هودا أو نصارى ، إذ قال له قل لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ
أَمِ اللهُ؟) فإن قالوا نحن أعلم ، كفروا وإن قالوا الله أعلم انقطعوا
لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبدا يهودا ولا نصارى ، ولكن كانوا مسلمين ، ثم
هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم
__________________
نعوت الرسول
والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ، وما
الله بغافل عما تعملون.
ثم أعاد لهم ما
أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلا لذلك
فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم
ولا نافع فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان ،
أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به ، وأنتم لكم ما كسبتم
وستجزون به ، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الإخلاص
وهو عدم الإلتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.
٢ ـ كل امرىء يجزى
بعمله ، وغير مسئول عن عمل غيره ، إلا إذا كان سببا فيه.
٣ ـ اليهودية
والنصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.
٤ ـ تفاوت الظلم
بحسب الآثار المترتبة عليه.
٥ ـ حرمة كتمان الشهادة لا سيما شهادة من الله تعالى.
٦ ـ عدم الاتكال
على حسب الآباء والأجداد ، ووجوب الإقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإيمان
الصحيح والعمل الصالح.
__________________
الجزء الثاني
(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ
النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))
شرح الكلمات :
(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر
نجم عنه فساد خلق وسوء سلوك.
(ما وَلَّاهُمْ) : ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة
بمكة.
القبلة
: الجهة التي
يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
(أُمَّةً وَسَطاً) : وسط كل شيء خياره ، والمراد منه أن أمة محمد صلىاللهعليهوسلم خير الأمم وأعدلها.
(يَنْقَلِبُ عَلى
عَقِبَيْهِ) : يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
(لَكَبِيرَةً) : شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهد كبير وهي التحويلة
من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
__________________
(إِيمانَكُمْ) : صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى
الكعبة.
(لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) : يدفع الضرر عنكم ويفيض الإحسان عليكم.
معنى الآيتين :
يخبر الله تعالى
بأمر يعلمه قبل وقوعه ، وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين
إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
فقال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟) وحصل هذا لما حوّل الله تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال
بيت المقدس في الصلاة إلى الكعبة تحقيقا لرغبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك ولعلة الاختبار التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء
من اليهود والمنافقين والمشركين وعلّم المؤمنين كيف يردون على السفهاء ، فقال : قل
لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث
يشاء ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي الآية الثانية
(١٤٣) يقول تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً) خيارا عدولا أي كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليهالسلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم
يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأنتم لذلك لا تشهد
عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به عليم ، ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه
نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجاري السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه
التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على النفس إلا على الذين هداهم الله
__________________
إلى معرفته ومعرفة
محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة
إلى قبلة ، مادام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيرا طمأنهم
تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهرا بأنه لا يضيعها لهم
بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حيي حتّى صلى
إلى الكعبة وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ جواز النسخ في
الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة
المكرمة.
٢ ـ الأراجيف
وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة فعلى
المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزعوا حتى يظهر الباطل وينكشف الزيف وتنتهي الفتنة.
٣ ـ أفضلية أمة
الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها.
٤ ـ جواز امتحان
المؤمن وجريانه عليه.
٥ ـ صحة صلاة من
صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه اعادتها ولو صلى شهورا
إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أدّاه اجتهاده.
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
__________________
الْحَرامِ
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ
بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))
شرح الكلمات :
(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّماءِ) : تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظارا لنزول الوحي.
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) : فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
(فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ) : حوّل وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
(الْحَرامِ) : بمعنى المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
الشطر
: هنا الجهة
واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام ، لأن الشطر لغة :
النصف أو الجزء مطلقا.
(أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ) : أي تحول القبلة جاء منصوصا عليه في الكتب السابقة.
__________________
(آيَةٍ) : حجة وبرهان.
(يَعْرِفُونَهُ) : الضمير عائد إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أي يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته
الواضحة القطعية.
(مِنَ الْمُمْتَرِينَ) : الشاكين والامتراء : الشك وعدم التصديق.
معنى الآيات :
يعلم الله تعالى
رسوله أنه كان يراه وهو يقلّب وجهه في السماء انتظارا لوحي يؤمر فيه باستقبال
الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم إذ هي
أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) ، وبهذا الأمر الإلهي تحولت القبلة وروي أنه كان يصلي
الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه
ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان
بالمدينة قال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أي في نواحي البلاد وأقطار الأرض (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي شطر المسجد الحرام كما أخبر تعالى في هذه الآية أن
علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من
التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغافل
عما يعملونه.
وفي الآية الثانية
(١٤٥) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلىاللهعليهوسلم لو أتى اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه وأحقية القبلة إلى
الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك ويصلوا إلى قبلته كما أن النصارى لم يكونوا
ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود ، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة
النصارى ، كما أن النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين لم يكونوا أبدا ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم
بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم. وأخيرا يحذر الله رسوله أن يتبع
أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من
الحق ، وحاشاه صلىاللهعليهوسلم أن يفعل ولو فعل لكان من الظالمين.
__________________
وفي الآية الثالثة
(١٤٦) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما جاء به هو الحق
معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم ، ولكن فريقا كبيرا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون أنه
الحق ، وفي الآية الرابعة (١٤٧) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو
الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب استقبال
القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه إلى جهة مكة.
٢ ـ كفر كثير من
أهل الكتاب كان على علم ايثارا للدنيا على الآخرة.
٣ ـ حرمة موافقة
المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
٤ ـ علماء أهل
الكتاب المعاصرون للنبي صلىاللهعليهوسلم يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم واعرضوا عن
الايمان به وعن متابعته إيثارا للدنيا على الآخرة.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ
جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
__________________
اللهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً
مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ (١٥٢))
شرح الكلمات :
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها) : التنوين في (كل) دال على محذوف ، هو لكل أهل ملة
كالإسلام ، واليهودية والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.
(الْخَيْراتِ) : البر والطاعة لله ورسوله.
الحجة
: الدليل القوي
الذي يظهر به صاحبه على من يخاصمه.
(نِعْمَتِي) : نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الاسلام وإتمامها بمواصلة
التشريع والعمل به إلى نهاية الكمال ، وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية
: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً).
__________________
(رَسُولاً) : هو محمد صلىاللهعليهوسلم والتنكير فيه للتعظيم.
(يُزَكِّيكُمْ) : يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة.
(الْحِكْمَةَ) : السنة وهي كل قول صالح لا ينتهي صلاحه ونفعه بمرور
الزمن.
الشكر
: إظهار النعمة بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.
والكفر
: جحد النعمة
وإخفاؤها وصرفها في غير ما يحب الله تعالى.
معنى الآيات :
بعد تقرير تلك
الحقيقة التي تضمنتها آية (وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ .... وهي أن النبي صلىاللهعليهوسلم لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما
تبعوا قبلته ، وما هو بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اليهود
يستقبلون مطلع الشمس ولا النصارى يستقبلون بيت المقدس. أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة
مولية وجهها إليها في صلاتها ، فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة
وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكرا لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة
أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم بأعمالكم إنه على
كل شيء قدير ، هذا
ثم أمر الله رسوله
أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن
تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فلا يتردد فيه.
هذا ما تضمنته
الآيتان (١٤٨) و (١٤٩) وأما الآية (١٥٠) فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا
وجوههم شطر المسجد الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا
يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة ، إذ يقول اليهود : ينكرون ديننا ويستقبلون
قبلتنا ، ويقول المشركون : يدعون أنهم على ملة ابراهيم ويخالفون قبلته. هذا
بالنسبة للمعتدلين منهم أما الظالمون والمكابرون فإنهم لا سبيل إلى اقناعهم إذ
قالوا بالفعل : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه ،
فمثل هؤلاء لا يبالى بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
فَلا تَخْشَوْهُمْ) (وَاخْشَوْنِي). فاثبتوا على قبلتكم الحق
__________________
لأتم نعمتي عليكم
بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها ، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم
بإرسال رسولي ، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من
أمور الدين والدنيا معا وفي الآية الأخيرة (١٥٢) أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره ،
ونهاهم عن نسيانه وكفره ، فقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) لما في ذكره بأسمائه وصفاته ووعده ووعيده من موجبات محبته
ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلاة وأداء سائر العبادات من مقتضيات رحمته وفضله
ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الاعراض عن
جدل المعاندين ، والاقبال على الطاعات تنافسا فيها وتسابقا إليها إذ هو أنفع وأجدى
من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.
٢ ـ وجوب استقبال
القبلة في الصلاة وسواء كان في السفر أو في الحضر إلا أن المسافر يجوز أن يصلي
النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها.
٣ ـ حرمة خشية الناس ووجوب خشية الله تعالى.
٤ ـ وجوب شكر الله
تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة.
٥ ـ وجوب تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي
نفسه.
٦ ـ وجوب ذكر الله بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته.
٧ ـ حرمة نسيان
ذكر الله ، وكفران نعمه بترك شكرها.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (١٥٣)
__________________
وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))
شرح الكلمات
الاستعانة
: طلب المعونة
والقدرة على القول أو العمل.
(بِالصَّبْرِ) : حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور
: الاحساس بالشيء
المفضي إلى العلم به.
الابتلاء
: الاختبار
والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
(الْأَمْوالِ) : جمع مال وقد يكون ناطقا وهو المواشي ويكون صامتا وهو
النقدان وغيرهما
المصيبة
: ما يصيب العبد من
ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات
: جمع صلاة وهي من
الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
(وَرَحْمَةٌ) : الرحمة الإنعام وهو جلب ما يسر ودفع ما يضر ، وأعظم ذلك
دخول الجنة بعد النجاة من النار.
(الْمُهْتَدُونَ) : إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى
لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات :
نادى الرب تعالى
عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى
__________________
ما يكون عونا لهم
على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم ، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره
فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر ، وترك
النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام
الصلاة ، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة ، فإذا صبروا نالهم عون
الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣) أما الآية الثانية (١٥٤)
فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين إن من قتل في سبيل الله ميت إذ هو حي
في البرزخ وليس بميت بل هو حي يرزق في الجنة كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث
شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش». (رواه مسلم). فلذا لا يقال لمن قتل في
سبيل الله مات ولكن استشهد وهو شهيد وحيّ عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر
بها لمفارقتها للحياة في هذه الدار. وأما الآية الثالثة (١٥٥) فإنه يقسم تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف بواسطة اعدائه واعدائهم وهم الكفار عند ما يشنون الحروب
عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب ، وبنقص الأموال كموت الماشية للحرب
والقحط ، وبالأنفس كموت الرجال ، وبفساد الثمار بالجوائح ، كل ذلك لإظهار من يصبر
على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله
وأجره ، ثم أمر رسوله بأن يبشر الصابرين ، وبين في الآية الرابعة (١٥٦) حال
الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله ، فله أن يصيبنا بما شاء لأنّا
ملكه وعبيده ، وإنا إليه راجعون بالموت فلا جزع إذا ولكن تسليم لحكمه ورضا بقضائه وقدره ، وفي الآية الخامسة (١٥٧) أخبر تعالى
مبشرا أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم ، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم
وكمالهم ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الصبر
والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف وفي الحديث كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
٢ ـ فضل الشهداء
على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.
٣ ـ قد يبتلى
المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال ليصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
٤ ـ فضيلة
الاسترجاع عند المصيبة وهو قول : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، وفي الصحيح يقول صلىاللهعليهوسلم : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله
في مصيبته وأخلف له خيرا منها». (رواه مسلم)
(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))
شرح الكلمات :
(الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ) : جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية ، والمروة
جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (٧٦٠) ذراعا.
(شَعائِرِ اللهِ) : أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة على عبادة الله تعالى
فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
الحج : زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكا.
__________________
العمرة
: زيارة بيت الله
تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح
: الاثم وما يترتب
على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهى عنه.
(يَطَّوَّفَ) : يسعى بينهما ذاهبا جائيا.
(خَيْراً) : الخير اسم لكل ما يجلب المسرة ، ويدفع المضرة والمراد به
هنا العمل الصالح.
معنى الآية
الكريمة :
يخبر تعالى مقررا
فرضية السعي بين الصفا والمروة ، ودافعا ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في
السعي بينهما نظرا إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له إساف ، وآخر على
المروة يقال له نائلة يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة فقال تعالى : إن الصفا
والمروة يعني السعي بينهما من شعائر الله أي عبادة من عباداته إذ تعبد بالسعي
بينهما نبيه ابراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء
فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسع بينهما أداء لركن الحج والعمرة ولا
إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين : اساف ونائلة.
ثم أخبر تعالى
واعدا عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه عليه ،
لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك
الأعمال ونيات أصحابها ، هذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).
هداية الآية
الكريمة
من
هداية هذه الآية :
١ ـ وجوب السعي
بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجا أو معتمرا ، وقد قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» . (رواه الدار قطني ولم يعل) وسعى
__________________
صلىاللهعليهوسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك.
٢ ـ لا حرج في
الصلاة في كنيسة حولت مسجدا ، ولا يضر كونها كانت معبدا للكفار.
٣ ـ الترغيب في
فعل الخيرات من غير الواجبات ، وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام
والصدقات والرباط والجهاد.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))
شرح الكلمات :
(يَكْتُمُونَ) : يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشىء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ
به.
(الْبَيِّناتِ) : جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته ، والمراد به
هنا ما يثبت نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.
(الْهُدى) : ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه
والمراد به هنا ما جاء به رسول الله من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال
والسعادة في الدنيا والآخرة.
__________________
(فِي الْكِتابِ) : التوراة والانجيل.
اللعنة
: الطرد والبعد من
كل خير ورحمة.
(اللَّاعِنُونَ) : من يصدر عنهم اللعن كالملائكة والمؤمنين.
(أَصْلَحُوا) : ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه
والايمان بما كذبوا به وأنكروه.
(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي بأن يمهلوا ليعتذروا ، كقوله تعالى : ولا يؤذن لهم
فيعتذرون
معنى الآيات :
عاد السياق بعد
الاجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم
علماء أهل الكتاب ، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والايمان به فأخبر تعالى أن
الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى في التوراة والانجيل من صفات الرسول
محمد صلىاللهعليهوسلم والأمر بالايمان به وبما جاء به من الدين ، هؤلاء البعداء
يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٩) وفي الآية التي بعدها (١٦٠)
استثنى تعالى من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعدما عرفوه
فبينوا وأصلحوا فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم.
وفي الآية الثالثة
(١٦١) والرابعة (١٦٢) أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه
ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولذا فهم مطرودون
مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها ، ولا
يمهلون فيعتذرون.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات
١ ـ حرمة كتمان
العلم وفي الحديث الصحيح «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار». وقال أبو هريرة
رضي الله عنه في ظروف معينة : (لو لا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثا) وتلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) إلخ ...
٢ ـ يشترط لتوبة
من أفسد في ظلمه وجهله اصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير ، وإظهار ماكتم ،
وأداء ما أخذه بغير الحق.
٣ ـ من كفر ومات
على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالدا في العذاب مخلدا لا يخفف عنه
ولا ينظر فيعتذر ، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.
٤ ـ جواز لعن المجاهرين بالمعاصي كشراب الخمر والمرابين ، والمتشبهين من
الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.
(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))
شرح الكلمات :
الإله
: المعبود بحق أو بباطل ، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود
بحق.
__________________
(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) : في ذاته وصفاته ، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا
مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.
(اخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) : بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون
النهار دائما ولا الليل دائما.
(وَبَثَّ فِيها مِنْ
كُلِّ دَابَّةٍ) : وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.
(تَصْرِيفِ الرِّياحِ) : باختلاف مهابها مرة صبا ومرة دبور ومرة شمالية ومرة غربية
أو مرة ملقحة ومرة عقيم.
معنى الآيتين :
لما أوجب الله على
العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم وأن
هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته
وأسمائه وصفاته ، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة : وإلهكم إله واحد
قالوا : هل من دليل ـ يريدون على أنه لا إله إلا الله ـ فأنزل الله
تعالى هذه الآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله (يَعْقِلُونَ) مشتملة على ستّ آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع
على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من
سواه.
الأولى
: خلق السموات والأرض وهو خلق عظيم لا يتأتي إلا للقادر الذي لا يعجزه
شىء.
الثانية
: اختلاف الليل
والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك.
الثالثة
: جريان الفلك ـ السفن ـ في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل
مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم.
الرابعة
: إنزاله تعالى
المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها.
__________________
الخامسة
: تصريف الرياح حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة ، شرقية وغربية وشمالية
وجنوبية بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم.
السادسة
: السحاب المسخر بين السماء والأرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر
ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم.
ففي هذه الآيات
الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وهو
لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره ولا إله سواه. إلا أن الذي
يجد هذه الأدلة ويراها ماثلة في الآيات المذكورة هو العاقل أما من لا عقل له لأنه
عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والإدراك ، واستعمل بدل العقل الهوى فإنه
أعمى لا يبصر شيئا وأصم لا يسمع شيئا ، وأحمق لا يعقل شيئا ، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ لا إله إلا
الله فلا تصح العبادة لغير الله تعالى ، لأنه لا إله حق إلا هو.
٢ ـ الآيات
الكونية في السموات والأرض تثبت وجود الله تعالى ربا وإلها موصوفا بكل كمال منزها
عن كل نقصان.
٣ ـ الآيات
التنزيلية القرآنية تثبت وجود الله ربا وإلها وتثبت النبوة المحمدية وتقرر
رسالته صلىاللهعليهوسلم
٤ ـ الانتفاع
بالآيات مطلقا ـ آيات الكتاب أو آيات الكون ـ خاص بمن يستعملون عقولهم دون
أهوائهم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ
__________________
وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ
(١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ
يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ
النَّارِ (١٦٧))
شرح الكلمات :
(أَنْداداً) : جمع ند وهو المثل والنظير والمراد بالأنداد هنا الشركاء
يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات كالدعاء والنذر لها والحلف بها.
التبرؤ
: التنصل من الشيء
والتباعد عنه لكرهه.
(الَّذِينَ اتُّبِعُوا) : المعبودون والرؤساء المضلون.
الذين
اتبعوا : المشركون
والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.
(الْأَسْبابُ) : جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين
شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.
(كَرَّةً) : رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.
الحسرات
: جمع حسرة وهي
الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.
معنى الآيات :
لما تقرر في
الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم
ومعبودهم واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان
والوضوح
يوجد ناس يتخذون
من دون الله آلهة أصناما ورؤساء يحبونهم كحبهم لله تعالى أي يسوون بين حبهم وحب الله تعالى ، والمؤمنون أشد منهم حبا لله
تعالى ، كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة
لرأوا أمرا فظيعا يعجز الوصف عنه ، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب إذ
تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة
المقلّدين وعاينوا العذاب أمامهم وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم ، وتمنى
التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم
في الدنيا كما تبرءوا هم منهم في الآخرة ، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه ،
يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها
النار فلا يخرجون منها أبدا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب حب الله وحبّ كل ما يحبّ الله عزوجل بحبه تعالى.
٢ ـ من الشرك الحب
مع الله تعالى ، ومن التوحيد الحب بحب الله عزوجل.
٣ ـ يوم القيامة
تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه
٤ ـ تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في
الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد ، وليس بنافعهم ذلك شيئا.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا
مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا
__________________
خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ
اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))
شرح الكلمات :
الحلال
: ما انحلت عقدة
الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.
الطيب
: ما كان طاهرا غير
نجس ، ولا مستقذر تعافه النفوس.
(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الخطوات جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي والمراد بها
هنا مسالك الشيطان وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.
(عَدُوٌّ مُبِينٌ) : عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من
الجنة وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه.
(بِالسُّوءِ) : كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر
الذنوب.
(الْفَحْشاءِ) : كل خصلة قبيحة كالزنا واللواط والبخل وسائر المعاصي ذات
القبح الشديد.
(أَلْفَيْنا) : وجدنا.
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض
لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها وهي الخلود في عذاب
النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية جمعاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي
__________________
الْأَرْضِ) ، وهو عطاؤه وإفضاله ، حلالا طيبا حيث أذن لهم فيه ، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير
لهم في أكله لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معا ، ثم نهاهم عن اتباع آثار
عدوه وعدوهم فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم ، وأعلمهم وهو
ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء
النفس والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا
على الله فيقولوا عليه مالا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله ، والله في
ذلك برىء وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى ، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم
واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وحرموا وشرعوا
ما لم يأذن به الله ربهم ، وقال لهم رسول الله اتبعوا ما أنزل الله قالوا لا ، بل
نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، يا سبحان الله يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان
باطلا ، وضلالا ، أيقلدون أباءهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من أمور الشرع والدين
، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات
١ ـ وجوب طلب
الحلال والاقتصار على العيش منه ولو كان ضيقا قليلا.
٢ ـ الحلال ما
أحله الله ، والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يستقل العقل بشىء من ذلك.
٣ ـ حرمة اتباع
مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى الله تعالى عنه.
٤ ـ وجوب الابتعاد
عن كل سوء وفحش لأنهما مما يأمر بهما الشيطان.
٥ ـ حرمة تقليد من
لا علم له ولا بصيرة في الدين.
٦ ـ جواز اتباع
أهل العلم والأخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
__________________
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))
شرح الكلمات :
(مَثَلُ) : المثل الصفة والحال.
(يَنْعِقُ) : يصيح والاسم النعيق وهو الصياح ورفع الصوت.
الدعاء
: طلب القريب كدعاء
المؤمن ربه يا رب. يا رب.
النداء
: طلب البعيد كأذان الصلاة.
الصم
: جمع أصم فاقد
حاسة السمع فهو لا يسمع.
البكم
: جمع أبكم فاقد
حاسة النطق فهو لا ينطق.
(لا يَعْقِلُونَ) : لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة
الإدراك عندهم وهي العقل.
معنى الآية
الكريمة :
لما نددت الآية
قبل هذه (١٧٠) بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول
لهم رؤساؤهم ويطبقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت
هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في
كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء فإذا نعق بها داعيا لها
أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها ، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي
لا تدري لم نوديت إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد الطويل والاتباع بدون دليل.
__________________
فقال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في جمودهم وتقليد ابائهم في الشرك والضلال كمثل غنم ينعق بها راعيها الأمين عليها فهو إذا صاح فيها داعيا لها
أو مناديا لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها
العقل. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو
مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي ينعق إلخ .....
هداية الآية
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ تسلية الدعاة
إلى الله تعالى عند ما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال.
٢ ـ حرمة التقليد
لأهل الأهواء والبدع.
٣ ـ وجوب طلب
العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك.
٤ ـ لا يتابع إلا
أهل العلم والبصيرة في الدين ، لأن اتباع الجهال يعتبر تقليدا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))
__________________
شرح الكلمات :
الطيبات
: جمع طيب وهو
الحلال.
(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) : اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في
مرضاته.
(إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.
(حَرَّمَ) : حظر ومنع.
(الْمَيْتَةَ) : ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.
(الدَّمَ) : المسفوح السائل ، لا المختلط باللحم.
(الْخِنْزِيرِ) : حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.
(وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) : الإهلال : رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
(اضْطُرَّ) : ألجىء وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.
(غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) : الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي المعتدي
المجاوز لما له إلى ما ليس له.
الإثم : أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
معنى الآيتين
الكريمتين
بعد أن بينت الآية
السابقة (١٧١) حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام
حيث سيبوا للآلهة السوائب ، وحموا لها الحامات ، وبحروا لها البحائر ، نادى الجبار
عزوجل عباده المؤمنين : يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وإلها
وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ربكم ما أنعم
به عليكم من حلال اللحوم ، ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين ، فإنه تعالى لم
يحرم عليكم إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره
تعالى. ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط
أن لا يكون في سفره باغيا على المسلمين ولا عاديا بقطع الطريق عليهم وذلك لأن الله
غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ الندب إلى أكل
الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.
٢ ـ وجوب شكر الله
تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.
٣ ـ حرمة أكل
الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
٤ ـ جواز الأكل من
المذكورات عند الضرورة وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو «غير باغ
ولا عاد».
٥ ـ أذن النبي صلىاللهعليهوسلم في أكل السمك والجراد وهما من الميتة ، وحرّم أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))
__________________
شرح الكلمات :
(يَكْتُمُونَ) : يجحدون ويخفون.
(ما أَنْزَلَ اللهُ
مِنَ الْكِتابِ) : الكتاب التوراة وما أنزل الله فيه صفة النبي محمد صلىاللهعليهوسلم والأمر بالإيمان به.
(لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) : لسخطه عليهم ولعنه لهم.
(وَلا يُزَكِّيهِمْ) : لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عنهم.
(الضَّلالَةَ) : العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب.
الشقاق
: التنازع والعداء
حتى يكون صاحبه في شق ومنازعه في آخر
(بَعِيدٍ) : يصعب انهاؤه والوفاق بعده.
معنى الآيات :
هذه الآيات الثلاث
نزلت قطعا في أحبار أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم
العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس من الدنيا يجحدون أمر النبي صلىاللهعليهوسلم ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم
المالية ، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم فهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو
النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
كما أخبر تعالى
عنهم في الآية (١٧٥) أنهم وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالايمان ،
والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة ، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله ، وعلى التقحم
في النار فلذا قال تعالى فما أصبرهم على النار. وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء
__________________
الكفرة ، لأن الله
نزّل الكتاب بالحق مبينا فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم
ومبينا سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.
وفي الآية الآخيرة
(١٧٦) أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والانجيل وهم اليهود
والنصارى لفي عداء واختلاف بينهم بعيد ، وصدق الله فما زال اليهود
والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم ، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله
وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة كتمان
الحق ، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالا أو رياسة.
٢ ـ تحذير علماء
الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وافتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.
٣ ـ التحذير من
الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
__________________
وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))
شرح الكلمات :
(الْبِرَّ) : اسم جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ) : البر الحق برّ من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر
الصفات.
(وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) : أعطى المال حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه له فآثر ما يحب الله على ما يحب
(ذَوِي الْقُرْبى) : أصحاب القرابات ، الأقرب فالأقرب.
(الْيَتامى) : جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث.
(الْمَساكِينَ) : جمع مسكين ، فقير معدم أسكنته الحاجة فلم يقدر على التصرف.
(ابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله.
(السَّائِلِينَ) : جمع سائل : الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع
غائلة الحاجة عن نفسه.
(فِي الرِّقابِ) : الرقاب جمع رقبة والإنفاق منها معناه في عتقها.
(الْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ) : البأساء : شدة البؤس من الفقر ، والضراء : شدة الضر أو
المرض.
(وَحِينَ الْبَأْسِ) : عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) : أي في دعواهم الايمان والبر والبرور
معنى الآية
الكريمة :
في الآيات الثلاث
السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من
غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن
__________________
يكتموا العلم على
الناس طلبا لحظوظ الدنيا الفانية ، وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب
أيضا تبجحهم بالقبلة وادّعاء هم الايمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم
بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة
النصارى فقال تعالى : ليس البر كل البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ، وفي
هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من
واجبات وما ارتكب من منهيات ، بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الايمان والإسلام
والاحسان فقال : (وَلكِنَّ الْبِرَّ) أي ذا البر أو البار بحق هو (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها (القضاء والقدر) ، (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وهما من أعظم أركان الاسلام ، وأنفق المال في سبيل الله مع
حبه له وضنّه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من
لا يرجو منه جزاء ولا مدحا ولا ثناء كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي
الخصاصة والمسغبة ، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى وأقام الصلاة أدامها وعلى
الوجه الأكمل في أدائها وأتى الزكاة المستحقين لها ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
من أعظم قواعد الاسلام ، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف
وأشد الأحوال ، فقال تعالى : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
وَحِينَ الْبَأْسِ) وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه
وهو يزاول عبادته ، ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الايمان
والاسلام وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه ، جعلنا الله منهم ، فقال تعالى
مشيرا لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ).
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ الاكتفاء ببعض
أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه مؤمنا ولا ناجيا.
__________________
٢ ـ أركان الايمان هي المذكورة في هذه الآية ، والمراد بالكتاب في الآية الكتب.
٣ ـ بيان وجوه
الانفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ ...
٤ ـ بيان عظم شأن
الصلاة والزكاة.
٥ ـ وجوب الوفاء
بالعهود.
٦ ـ وجوب الصبر
وخاصة عند القتال.
٧ ـ التقوى هي
ملاك الأمر ، والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (١٧٩))
شرح الكلمات :
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ) : كتب فرض والقصاص : إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.
(فِي الْقَتْلى) : الفاء سببية أي بسبب القتل والقتلى جمع قتيل وهو الذي
أزهقت روحه فمات بأي آلة.
__________________
(الْحُرُّ) : الحر خلاف العبد والعبد هو الرقيق المملوك.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) : فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.
فاتباع
بمعروف : فالواجب أن تكون
مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.
(وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ) : وأن يكون أداء الدية بإحسان خاليا من المماطلة والنقص.
(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) : أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلا من
القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط ،
وأنتم مخيرون بين العفو والدية والقصاص.
(فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) : يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير.
(الْقِصاصِ) : المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضا.
(حَياةٌ) : إبقاء شامل عميم ، إذ من يريد أن يقتل يذكر أنه سيقتل
فيترك القتل فيحيا ، ويحيا من أراد قتله ، ويحيا بحياتهما خلق كثير ، وعدد كبير.
(أُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة ، واحد الألباب : لبّ وهو في
الانسان العقل.
(لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) : ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في
الدنيا والآخرة.
معنى الآية
الكريمة :
هذه الآية نزلت في
حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر فلذا يقتل الحر بالعبد ،
والرجل بالمرأة تطاولا وكبرياء فحدث بين الحيين قتل وهم في الاسلام فشكوا ذلك إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل الجاهلية وتقرر مبدأ العدل
__________________
والمساواة في الاسلام فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) ، فلا يقتل بالرجل رجلان ، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان
ولا بالعبد حر ولا عبدان.
فمن تنازل له أخوه
وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقا فليتبع ذلك ولا يقل لا أقبل
إلا القصاص بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو ، وليطلب
ولي الدم الدية بالرفق والأدب ، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص
منها شيئا.
ثم ذكر تعالى
منّته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيرا بين ثلاثة
العفو أو الدية أو القود (القصاص) في حين أن اليهود كان مفروضا عليهم القصاص فقط ،
والنصارى الدية فقط وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القضية وهو أن من أخذ الدية وعفا
عن القتل ثم تراجع وقتل فقال : (فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا بالقتل ،
أو هو عذاب الآخرة ، ومن هنا قال مالك والشافعي حكم هذا المعتدي كحكم القاتل
ابتداء إن عفي عنه قبل ، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى ، وقال آخرون ترد منه الدية
ويترك لأمر الله ، وقال عمر بن عبد العزيز رحمهالله يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه بما يحقق المصلحة العامة ثم
أخبر تعالى : أن في القصاص الذي شرع لنا وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما
فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء فقال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا
أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ حكم القصاص في
الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة
__________________
والمرأة بالرجل
والرجل بالمرأة ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث : «المرء مقتول بما قتل به».
ولما كان العبد
مقوما بالمال فإنه لا يقتل به الحر بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة
والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وخالف أبو حنيفة فرأى القود
فيقتل الحر بالعبد أخذا بظاهر هذه الآية.
٢ ـ محاسن الشرع
الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص.
٣ ـ بلاغة القرآن
الكريم ، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون : القتل أنفى للقتل ، فقال القرآن
: (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ). فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظا وواقعا.
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ
مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))
شرح الكلمات :
(كُتِبَ) : فرض وأثبت.
(خَيْراً) : مالا نقدا أو عرضا أو عقارا.
(الْوَصِيَّةُ) : الوصية ما يوصى به من مال وغيره.
__________________
(بِالْمَعْرُوفِ) : ما تعارف عليه الناس كثيرا أو قليلا بحيث لا يزيد على
الثلث.
التبديل
: التغيير للشيء
بآخر.
(جَنَفاً أَوْ إِثْماً) : الجنف : الميل عن الحق خطأ ، والإثم تعمد الخروج عن الحق
والعدل.
معنى الآيات :
بمناسبة ذكر آية
القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله ، ذكر
تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى : كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت
إن ترك مالا الوصية أي الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث ، ويقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فلا وصية لوارث» ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين
الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثا فأقل فإن زادت وأجازها
الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدار قطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء
الورثة ، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية
بالثلث ، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديونا لازمة ، وحقوقا
واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح «ما
حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ، هذا ما
تضمنته الآية الأولى (١٨٠) وأما الآية الثانية
(١٨١) فيقول تعالى
لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل
نوعا بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغيّر ، وختم هذا الحكم بقوله
أن الله سميع عليم تهديدا ووعيدا لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء
وفي الآية الأخيرة (١٨٢) أخبر تعالى أن من خاف من موص جنفا أو ميلا عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون
تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إثما على الموصى حيث جار
__________________
وتعدى على علم في
وصيته فأصلح بينهم أي بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح
الخطأ وتصويب الخطأ والغلط ، وختم هذا الحكم بقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) وعدا بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ نسخ الوصية
للوارثين مطلقا إلا بإجازة الورثة.
٢ ـ استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالا كثيرا يوصي به في وجوه البر
والخير.
٣ ـ تأكد الوصيّة
حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم
بإضاعتها.
٤ ـ حرمة تبديل
الوصية وتغييرها إلى غير الصالح.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ
مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١٨٤))
شرح الكلمات :
(كُتِبَ) : فرض وأثبت.
__________________
(الصِّيامُ) : لغة الامساك والمراد به هنا الامتناع عن الأكل والشرب
وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
(أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوما بحسب شهر رمضان.
(فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) : فعلى من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر
بعدد الأيام التي أفطر فيها.
(يُطِيقُونَهُ) : أي يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه.
(فِدْيَةٌ طَعامُ
مِسْكِينٍ) : فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم
مسكينا ، ولا قضاء عليه.
(فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) : أي زاد على المدين أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.
(وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) : الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الافطار مع
الطعام.
معنى الآيتين :
لما هاجر الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة وأصبحت دار إسلام أخذ التشريع ينزل ويتوالى
ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله في ذلك ، وكان من أعظم ما
يكون في المؤمن من ملكة التقوى الصيام فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة
الثانية للهجرة فناداهم بعنوان الايمان يا آيها الذين آمنوا وأعلمهم أنه كتب عليهم
الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) وعلل ذلك بقوله : لعلكم تتقون أي ليعدكم به للتقوى التي هي
امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى ، وقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ذكره ليهوّن به عليهم كلفة الصوم ومشقته ، إذ لم يجعله
شهورا ولا أعواما. وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد
الصحة أو العودة من السفر فقال لهم : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.) كما أن غير المريض والمسافر إذا
__________________
كان يطيق الصيام بمشقة
وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكينا وأعلمهم أن الصيام في هذه الحال
خير. ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله في الآية الآتية : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) يريد : تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والأخروية وهي كثيرة
أجلها مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فرضية الصيام
وهو شهر رمضان.
٢ ـ الصيام يربي
ملكة التقوى في المؤمن.
٣ ـ الصيام يكفّر
الذنوب لحديث : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
٤ ـ رخصة الإفطار
للمريض والمسافر.
٥ ـ المرأة الحامل
أو المرضع دل قوله وعلى الذين يطيقونه أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء وكذا الشيخ
الكبير فإنه يفطر ولا يقضي والمريض مرضا لا يرجى برؤه كذلك. إلا أن عليهما أن
يطعما عن كل يوم مسكينا بإعطائه حفنتي طعام كما أن المرأة الحامل والمرضع
إذا خافت على
حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكينا.
٦ ـ في الصيام
فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ إن كنتم تعلمون.
من هذه الفوائد :
١ ـ يعود الصائم
الخشية من الله تعالى في السر والعلن.
٢ ـ كسر حدة
الشهوة ولذا أرشد العازب إلى الصوم.
٣ ـ يربي الشفقة
والرحمة في النفس.
٤ ـ فيه المساواة
بين الأغنياء والفقراء والأشراف والأوضاع.
__________________
٥ ـ تعويد الأمة
النظام والوحدة والوئام.
٦ ـ يذهب المواد
المترسبة في البدن وبذلك تتحسن صحة الصائم.
(شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى
وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))
شرح الكلمات :
(شَهْرُ رَمَضانَ) : هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية ، ولفظ الشهر
مأخوذ من الشهرة ، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا حرّ جوفه من العطش.
(الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ) : هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه
القرآن وذلك في ليلة القدر منه لآية (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وآية (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء
الدنيا ثم نزل نجما بعد نجم ، وابتدىء نزوله على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في رمضان أيضا.
__________________
(هُدىً لِلنَّاسِ) : هاديا للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
(وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ) : البينات جمع بينة والهدى الارشاد ، والمراد أن القرآن
نزل هاديا للناس ومبينا لهم سبيل الهدى موضحا طريق الفوز والنجاة فارقا لهم بين
الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
شهد
الشهر : حضر الإعلان عن رؤيته.
(فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) : فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضا أو مسافرا.
(وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) : وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة
وعشرين يوما.
(وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) : وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من
صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير ، وصفته المشهورة الله أكبر الله أكبر لا
إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
(وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) : فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من
الشاكرين لله تعالى على نعمه لأن الشكر هو الطاعة.
معنى الآية
الكريمة :
لما ذكر تعالى أنه
كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات بيّن في هذه الآية
أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هاديا
وموضحا طرق الهداية ، وفارقا به بين الحق والباطل ، فقال تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى
وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) يريد شهر رمضان ومعنى شهد كان حاضرا غير مسافر لما أعلن عن
رؤية هلال رمضان ، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفا. ثم ذكر عذر المرض والسفر
، وأن على من أفطر بهما قضاء ما
__________________
أفطر بعدده وأخبر
تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة ولا يريد بها
العسر فله الحمد وله المنة فقال تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)
ثم علل تعالى
للقضاء بقوله ولتكملوا العدة أي عدة أيام رمضان هذا أولا وثانيا لتكبروا الله على
ما هداكم عند ما تكملون الصيام برؤية هلال شوال وأخيرا ليعدكم بالصيام والذكر
للشكر وقال عزوجل (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ).
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ فضل شهر رمضان وفضل القرآن.
٢ ـ وجوب صيام
رمضان على المكلفين والمكلف هو المسلم العاقل البالغ مع سلامة المرأة من دمي الحيض
والنفاس.
٣ ـ الرخصة للمريض
الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه ، والمسافر مسافة قصر.
٤ ـ وجوب القضاء
على من أفطر لعذر .
٥ ـ يسر الشريعة
الإسلامية وخلوها من العسر والحرج.
٦ ـ مشروعية
التكبير ليلة العيد ويومه وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.
٧ ـ الطاعات هي
الشكر فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكرا فيعد مع الشاكرين.
(وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))
__________________
شرح الكلمات :
الداعي
: السائل ربه
حاجته.
(فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي) : أي يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل
المأمور وترك المنهى والتقرب إلّي بفعل القرب وترك ما يوجب السخط.
(يَرْشُدُونَ) : بكمال القوتين العلمية والعملية إذ الرشد هو العلم بمحاب
الله ومساخطه ، وفعل المحاب وترك المساخط ، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه
الغاوي والضال الهالك.
معنى الآية
الكريمة :
ورد أن جماعة من
الصحابة سألوا النبي قائلين : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله
تعالى قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) الآية ، ومعنى المناجاة المكالمة بخفض الصوت ، والمناداة
برفع الصوت ، وإجابة الله دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه . وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم بالايمان به
وبطاعته في أمره ونهيه وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين
الدنيا والآخرة.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ قرب الله
تعالى من عباده إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه ولا يبعد عن الله شىء من
خلقه إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه ، وهذه حقيقة القرب.
٢ ـ كراهية رفع الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والاقامة.
٣ ـ وجوب
الاستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
٤ ـ الرشد في طاعة
الله والغيّ والسفه في معصيته تعالى.
__________________
(أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ
حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))
شرح الكلمات :
(لَيْلَةَ الصِّيامِ) : الليلة التي يصبح العبد بعدها صائما.
(الرَّفَثُ) : الجماع.
(لِباسٌ لَكُمْ) : كناية عن اختلاط بعضكم ببعض كاختلاط الثوب بالبدن.
(تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ) : بتعريضها للعقاب ، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة
الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك
(بَاشِرُوهُنَ) : جامعوهن ، أباح لهم ذلك ليلا.
(وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) : اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم ، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
(الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ) : الفجر الكاذب وهو بياض يلوح في الأفق كذنب السرحان .
__________________
(الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ) : سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماما.
(الْفَجْرِ) : انتشار الضوء أفقيا ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء
الأفق كله.
(عاكِفُونَ فِي
الْمَساجِدِ) : منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرّبا إلى الله تعالى.
(حُدُودُ اللهِ) : جمع حد وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلا أو تركا.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ آياتِهِ) : أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من
أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة.
معنى الآية
الكريمة :
كان في بداية فرض
الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية. كأن
الصيام يبتدىء من النوم لا من طلوع الفجر ، ثم إن ناسا أتوا نساءهم وأخبروا بذلك
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب
والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر ، فقال تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي الاختلاط بهن إذ لا غنى للرجل عن امرأته ولا للمرأة عن
زوجها (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ). يسترها وتستره كالثوب يستر الجسم ، وأعلمهم أنه تعالى علم
منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلا بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة
أو المنع فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم فقال تعالى : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ). وأعلن لهم عن الإباحة بقوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). يريد من الولد ، لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة بل للإنجاب
والولد. وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس
فقال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم فلا يحل
للرجل وهو
__________________
معتكف أن يخرج من
المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه ووجب عليه قضاؤه قال تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ وَأَنْتُمْ
عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) وأخبرهم أن ما بيّنه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده
تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها فقال عزوجل : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
فَلا تَقْرَبُوها) ثم قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فامتنّ تعالى على المسلمين بهذه النعمة وهي بيان الشرائع
والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين للتقوى
، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم. وقد فعل فله الحمد
وله المنة.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ إباحة الأكل
والشرب والجماع في ليال الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
٢ ـ بيان ظرف
الصيام وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
٣ ـ بيان ما يسمك
عنه الصائم وهو الأكل والشرب والجماع.
٤ ـ مشروعية
الإعتكاف وخاصة في رمضان ، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف حتى
تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها.
٥ ـ استعمال
الكناية بدل التصريح فيما يستحى من ذكره ، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
٦ ـ حرمة انتهاك
حرمات الشرع وتعدي حدوده.
٧ ـ بيان الغاية
من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عزوجل.
٨ ـ ثبت بالسنة :
سنة السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر ، واستحباب تعجيل الفطر.
(وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ
__________________
أَمْوالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))
شرح الكلمات :
(بِالْباطِلِ) : خلاف الحق .
(تُدْلُوا) : الإدلاء بالشىء إلقاؤه ، والمراد هنا إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم
بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
(فَرِيقاً) : أي طائفة وقطعة من المال.
(بِالْإِثْمِ) : المراد به هنا بالرشوة وشهادة الزور ، واليمين الفاجرة
أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.
معنى الآية
الكريمة :
لما أخبر تعالى في
الآية السابقة أنه يبيّن للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي بيّن في هذه
الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل ، وأنه حرام فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه
بغير طيب نفس منه. وذكر نوعا هو شر أنواع أكل المال بالباطل ، وهو دفع الرشوة إلى
القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق
ويأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها
المرء كاذبا.
وقال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً
مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون حرمة ذلك.
هداية الآية
من
هداية الآية
١ ـ حرمة أكل مال
المسلم بغير حق سواء كان بسرقة أو بغصب أو غش ، أو احتيال ومغالطة.
__________________
٢ ـ حرمة الرشوة
تدفع للحاكم ليحكم بغير الحق.
٣ ـ مال الكافر
غير المحارب كمال المسلم في الحرمة إلا أن مال المسلم اشد حرمة لحديث «كل المسلم
على المسلم حرام دمه وعرضه ، وماله» . ولقوله تعالى في هذه الآية (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ) وهو يخاطب المسلمين.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ
الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (١٨٩))
شرح الكلمات :
(الْأَهِلَّةِ) : جمع هلال وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام
الأولى من الشهر لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت
: جمع ميقات :
الوقت المحدد المعلوم للناس.
إتيان
البيوت من ظهورها : أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشيا أن يدخل من الباب.
(وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقى) : البر الموصل إلى رضوان الله برّ عبد اتقى الله تعالى
بفعل أوامره واجتناب نواهيه فليس البر دخول البيوت من ظهورها.
الفلاح
: الفوز وهو النجاة
من النار ودخول الجنة.
__________________
معنى الآية
الكريمة :
روي أن بعض
الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائلين : ما بال الهلال يبدو دقيقا ، ثم يزيد حتى يعظم
ويصبح بدرا ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه
الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم : هي مواقيت للناس وعلّة بدءها صغيرة ثم
تتكامل ثم تنقص حتى المحاق هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء ونعرف
الشهور فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته ، كما نعرف آجال العقود في البيع
والإيجار ، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم
بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله
نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبرا
فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عزوجل : (وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ). بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من
أبوابها فقال : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوابِها) ، وأمرهم بتقواه عزوجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ).
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية :
١ ـ أن يسأل المرء
عما ينفعه ويترك السؤال عما لا يعنيه.
٢ ـ فائدة الشهور
القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات.
٣ ـ حرمة الابتداع
في الدين ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر.
٤ ـ الأمر بالتقوى
المفضية إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين.
__________________
(وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ
مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا
تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى
الظَّالِمِينَ (١٩٣))
شرح الكلمات :
(سَبِيلِ اللهِ) : الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام والمراد إعلاء
كلمة الله
(الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ) : المشركون الذين يبدؤونكم بالقتال.
(وَلا تَعْتَدُوا) : لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزال
القتال.
(ثَقِفْتُمُوهُمْ) : تمكنتم من قتالهم.
(الْفِتْنَةُ) : الشرك
(الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) : المراد به مكة والحرم من حولها.
(وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) : بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى.
(فَلا عُدْوانَ) : أي لا إعتداء بالقتل والمحاربة إلا على الظالمين. أما من
أسلم فلا يقاتل.
معنى الآيات :
هذه الآيات الثلاث
: (وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) من أوائل ما نزل في شأن قتال المشركين
__________________
وهي متضمنة الأذن
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم ، وقال
تعالى ، وقاتلوا في سبيل الله أي في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده. الذين
يقاتلونكم ، واقتلوهم حيث تمكنتم منهم ، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها
المهاجرون من دياركم ، ولا تتحرجوا من القتل ، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على
الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل. (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) (عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فلا تكونوا البادئين فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك القتل
والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم. فإن انتهوا عن الشرك
والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم لأن الله تعالى غفور رحيم.
أما الآية الرابعة
(١٩٣) وهي قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهي مقررة لحكم سابقاتها إذ فيها الأمر بقتال المشركين
الذين قاتلوهم قتالا يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون
الدين كله لله فلا يعبد غيره ، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن أسلموا ووحدوا فكفوا
عنهم ولا تقاتلوهم ، إذ لا عدوان إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب قتال من
يقاتل المسلمين ، والكف عمن يكف عن قتالهم وهذا قبل نسخ هذه الآية.
٢ ـ حرمة الاعتداء
في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن.
٣ ـ حرمة القتال
عند المسجد الحرام أي مكة والحرم إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه فيقاتل.
٤ ـ الإسلام يجب
ما قبله لقوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
٥ ـ وجوب الجهاد
وهو فرض كفاية ما وجد مؤمن يضطهد لإسلامه أو يفتن في دينه.
__________________
(الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ
اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))
شرح الكلمات :
(الشَّهْرُ الْحَرامُ) : الشهر المحرم القتال فيه والاشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد
وواحد فرد فالثلاثة هي القعدة والحجة ومحرم والرابع الفرد رجب.
(الْحُرُماتُ) : جمع حرمة كالشهر الحرام ، والبلد الحرام ، والإحرام.
(أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ) : المتقون هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى
ومخالفة سننه في الحياة وكونه تعالى معهم : يسددهم ويعينهم وينصرهم.
(التَّهْلُكَةِ) : الهلكة والهلاك مثلها.
الاحسان
: اتقان الطاعة
وتخليصها من شوائب الشرك ، وفعل الخير أيضا.
معنى الآيتين :
الآية الأولى (١٩٤)
في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من
قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام ، ومن قاتلهم في الحرم
فليقاتلوه في الحرم ، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم ، وهكذا الحرمات
قصاص
__________________
بينهم ومساواة.
ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليهم ، وأمرهم بتقواه عزوجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر.
وأما الآية
(١٩٥) فقد أمرهم
بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا والمقاتلين ونهاهم أن يتركوا
الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن
ألقى بيده في الهلاك ، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم
وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال
إتقانها وتجويدها ، وتنقيتها من الخلل والفساد ، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم
بتأييدهم ونصرهم فقال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ احترام الشهر
الحرام وسائر الحرمات.
٢ ـ جواز المقاصة
والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء.
٣ ـ رد الإعتداء
والنيل من المعتدي الظالم البادي بالظلم والإعتداء.
٤ ـ معيّة الله
تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان.
٥ ـ فضيلة الإحسان
لحب الله تعالى للمحسنين.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ
__________________
الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))
شرح الكلمات :
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : فإتمامهما أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما
على الوجه المطلوب من الشارع ، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) : الحصر والإحصار أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو
يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة .
(فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) : أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة
أو بعير.
(وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) : لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدى
فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
(فَفِدْيَةٌ) : فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
(فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) : فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر
الحج وحج فعلا فالواجب ما استيسر من الهدي.
__________________
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) : فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هديا لعجزه عنه فالواجب صيام
عشرة أيام ثلاثة في مكة وسبعة في بلده.
(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز وهو لغير أهل الحرم
أما سكان مكة والحرم حولها وهم أهل الحرم فلا يجب عليهم شىء إن تمتعوا.
معنى الآية
الكريمة :
يأمر تعالى عباده
المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب
وأن يريدوا بهما الله تعالى ، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامهما
فالواجب عليهم أن يذبحوا أو ينحروا ما تيسر لهم فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من
إحرامهم ، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره ، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضا أو
به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس فالواجب بعد أن
يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير : صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة
مساكين لكل مسكين حفنتان من طعام ، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى
الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن
لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة
أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عزوجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه وحذرهم من إهمال أمره
والإستخفاف بشرعه فقال : و (اتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ وجوب إتمام
الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالإحرام من الميقات ، وإن كان الحج تطوعا والعمرة غير واجبة.
__________________
٢ ـ بيان حكم
الإحصار وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير
، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام
عام الحديبية.
٣ ـ بيان فدية
الأذى وهي أن من ارتكب محظورا من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطا أو غطى
رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
٤ ـ بيان حكم
التمتع مفصلا وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا
أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقى في مكة وحجّ من عامه أن عليه ذبح شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
٥ ـ الأمر بالتقوى
وهى طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه ، والتحذير من (تركها لما يترتب
عليه من العقاب الشديد)
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا
جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ
يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
__________________
لَمِنَ
الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))
شرح الكلمات :
(أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) : هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
(فَرَضَ) : نوى الحج وأحرم به.
(فَلا رَفَثَ) : الرفث الجماع ومقدماته.
(وَلا فُسُوقَ) : الفسق والفسوق الخروج من طاعة الله بترك واجب أو فعل
حرام.
الجدال
: المخاصمة
والمنازعة.
الجناح
: الإثم
(تَبْتَغُوا فَضْلاً) : تطلبوا ربحا في التجارة من الحج.
(أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفاتٍ) : الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك
بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
(الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) : مزدلفة وذكر الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء
جمعا بها وصلاة الصبح.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم
بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق والجدال حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره ، وانتدب الحاج
__________________
إلى فعل الخير من
صدقة وغيرها فقال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا
لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال فقال : وتزوّدوا ، وأرشد
إلى خير الزاد وهو التقوى ، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج
وأمرهم بتقواه عزوجل ، أي بالخوف منه حتى لا يعصوه في أمره ونهيه فقال : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، والله أحق أن يتقى لأنه الواحد القهار ، ثم أباح لهم
الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) يريد رزقا حلالا بطريق التجارة المباحة ، ثم أمرهم بذكر
الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة
بعد غروب الشمس فقال عز من قائل : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه
وانتدبهم إلى شكره وذلك بالإكثار من ذكره فقال تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ). ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والإفاضة منها
فليقفوا كلهم بعرفات ، وليفيضوا جميعا منها فقال عزوجل (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، وذلك أن الحمس كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا
من الحطمة. وأخيرا أمرهم باستغفار الله أي طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله
: (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
هداية الايات
من
هداية الايات :
١ ـ حرمة الرفث
والفسوق والجدال في الاحرام.
٢ ـ استحباب فعل
الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه.
٣ ـ إباحة الاتجار
والعمل للحاج طلبا للرزق على أن لا يحج لأجل ذلك.
٤ ـ وجوب المبيت بمزدلفة لذكر الله تعالى.
__________________
٥ ـ وجوب شكر الله
تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه.
٦ ـ وجوب المساواة
في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فلا يتميز بعضهم عن بعض في أي شعيرة من شعائر
الحج.
٧ ـ الترغيب في
الاستغفار والاكثار منه.
(فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ
آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ
النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))
شرح الكلمات :
(قَضَيْتُمْ) : أديتم وفرغتم منها.
المناسك
: جمع منسك وهي
عبادات الحج المختلفة.
الخلاق
: الحظ والنصيب.
__________________
(حَسَنَةً) : حسنة الدنيا كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح
ورزق حلال وحسنة الاخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
(قِنا) : احفظنا ونجنا من عذاب النار.
(نَصِيبٌ) : حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
الأيام
المعدودات : أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
تعجل
في يومين : رمى يوم الأول
والثاني وسافر.
(وَمَنْ تَأَخَّرَ) : رمى الأيام الثلاثة كلها.
(فَلا إِثْمَ) : أي لا ذنب في التعجل ولا في التأخر.
(لِمَنِ اتَّقى) : للذي اتقى ربّه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
(تُحْشَرُونَ) : تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة.
معنى الآيات :
بهذه الآيات
الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ففي الآية الأولى : (٢٠٠) يرشد تعالى المؤمنين
إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الافاضة واستقروا
بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمى الجمرات ، وعند
الخروج من الصلوات ذكرا مبالغا في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية
يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه
الدنيا فهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها ، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في
الجاهلية ، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون
فيقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي) (الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء
الجامع والقصد الصالح النافع فلله الحمد والمنة وفي الآية (٢٠٢) يخبر تعالى أن
لأهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون الموحدون نصيبا من الأجر على أعمالهم التي كسبوها
في الدنيا ،
__________________
وهو تعالى سريع
الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة وفي الآية (٢٠٣) يأمر تعالى عباده الحجاج
المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات
إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى
أهله بعد رمي اليوم الثاني ، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى
: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فالأمر على التخيير وقيد نفي الإثم بتقواه عزوجل فمن ترك واجبا أو فعل محرما فإن عليه إثم معصيتة ولا يطهره
منها إلا التوبة فنفي الإثم مقيد بالتعجل وعدمه فقط. فكان قوله تعالى لمن اتقى
قيدا جميلا ، ولذا أمرهم بتقواه عزوجل ، ونبههم إلى مصيرهم الحتمي وهو الوقوف بين يديه سبحانه
وتعالى فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص على طاعته.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الذكر
بمنى عند رمي الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلا الله أكبر.
٢ ـ فضيلة الذكر والرغبة فيه لأنه من محاب الله تعالى
٣ ـ فضيلة سؤال
الله تعالى الخيرين وعدم الاقتصار على أحدهما ، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحطامها.
٤ ـ فضيلة دعاء (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ). فهي جامعة للخيرين معا ، فكان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط.
٥ ـ وجوب المبيت
ثلاث ليالي بمنى ووجوب رمي الجمرات إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي
أيام التشريق.
٦ ـ الرخصة في
التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
٧ ـ الأمر بتقوى
الله وذكر الحشر والحساب والجزاء إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عزوجل.
__________________
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ
(٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))
شرح الكلمات :
(يُعْجِبُكَ) : يروق لك وتستحسنه.
في
الدنيا : إذا تحدث في أمور
الدنيا.
(أَلَدُّ الْخِصامِ) : قوي الخصومة شديدها لذلاقة لسانه.
(تَوَلَّى) : رجع وانصرف ، أو كانت له ولاية.
(الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ) : الحرث : الزرع ، والنسل : الحيوان.
(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
بِالْإِثْمِ) : أخذته الحميّة والأنف بذنوبه فهو لا يتقي الله.
(يَشْرِي نَفْسَهُ) : يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله.
معنى الآيات :
يخبر تعالى رسوله
والمؤمنين عن حال المنافقين ، والمؤمنين الصادقين فقال تعالى مخاطبا الرسول صلىاللهعليهوسلم : ومن الناس رجل منافق يحسن القول وإذا قال يعجبك قوله لما
عليه من طلاء
__________________
ورونق وذلك إذا
تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول
فيها لأنه كافر ، وعند ما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول فيقول للرسول صلىاللهعليهوسلم يعلم الله أني مؤمن وأني احبك ، ويشهد الله أني كذا ...
وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك (سَعى) (فِي الْأَرْضِ) أي مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم
فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل
وعمله هذا مبغوض لله تعالى فلا يحبه ولا يحب فاعله. كما أخبر تعالى أن هذا المنافق
إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر فقيل له اتق الله لا تفعل كذا او اترك كذا تأخذه
الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها فلا يتقي الله ولا يتوب إليه فيكفيه
جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشا لا يبرح منها أبدا ولبئس المهاد
جهنم.
كما يخبر تعالى عن
المؤمن الصادق فيقول من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى
طلبا لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السّلام فقال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) رحيم بهم.
قيل أن الرجل
المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى هو الأخنس بن شريق ، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية
الرابعة (٢٠٧) هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى إذ المشركون لما علموا به أنه
سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه قالوا لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد فلن نسمح لك
بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله فاعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة ورآه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : ربح البيع أبا يحيى ربح البيع. والآيات وإن نزلت
في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالأخنس مثل سوء لكل
من يتصف بصفاته ، وصهيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التحذير من
الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
٢ ـ شر الناس من
يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فسادا وهلاكا للناس والمواشي.
٣ ـ قول الرجل
يعلم الله ، ويشهد الله يعتبر يمينا فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه
أنه كاذب.
٤ ـ إذا قيل
للمؤمن اتق الله يجب عليه أن لا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف
بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فورا.
٥ ـ الترغيب في
الجهاد بالنفس والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله
تعالى ولا يعد ذلك اسرافا ولا تبذيرا إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي
والذنوب.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))
شرح الكلمات :
(السِّلْمِ) : الإسلام
__________________
(كَافَّةً) : جميعا لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد ، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء.
(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبيح.
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) : وقعتم في الزلل وهو الفسق والمعاصي.
(الْبَيِّناتُ) : الحجج والبراهين.
(هَلْ يَنْظُرُونَ) : ما ينظرون : الاستفهام للنفي
الظلل
: جمع ظلة ما يظلل
من سحاب أو شجر ونحوهما.
(الْغَمامِ) : السحاب الرقيق الأبيض.
معنى الآيتين
ينادي الحق تبارك
وتعالى عباده المؤمنين آمرا إيّاهم بالدخول في الإسلام دخولا شموليا بحيث لا
يتخيرون بين شرائعه وأحكامه ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به ، وما لم
يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه ، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة
، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر ، إذ هو الذي زين
لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل لحم الإبل بحجة أن هذا من دين الله
الذي كان عليه صلحاء بني اسرائيل فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين
بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه ، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك
التام وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية (٢٠٨) أما
الآية الثانية (٢٠٩) فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض
شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر وقد عرف أن الإسلام حق ، وشرائعه أحق فقال
تعالى (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) يحملها كتاب الله القرآن ويبينها رسول الله محمد صلىاللهعليهوسلم فإن الله سينتقم
__________________
منكم لأنه تعالى
غالب على أمره حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيده وأما الآية الثالثة (٢١٠) فقد
تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة
وظهرت ولاحت المحجة فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينظرون (إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) وعند ذلك يؤمنون ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث
يكون العذاب لزاما. بقضاء الله العادل ، قال تعالى (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم
وانتهى كل شيء فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه
بالسّلم لأن الدخول فيه حقا سلم ، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقا حرب عليهم أن
يدخلوا في الإسلام ألا إلى الإسلام يا عباد الله! فإن السلم خير من الحرب!
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.
٢ ـ ما من مستحل
حراما ، أو تارك واجبا إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.
٣ ـ وجوب توقع
العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر الله.
٤ ـ إثبات صفة
المجىء للرب تعالى : لفصل القضاء يوم القيامة.
٥ ـ حرمة التسويف
والمماطلة في التوبة.
(سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))
__________________
شرح الكلمات :
(سَلْ) : إسأل : سقطت منه الهمزتان للتخفيف.
(بَنِي إِسْرائِيلَ) : ذريّة يعقوب بن اسحق بن إبراهيم واسرائيل لقب يعقوب.
(آيَةٍ) : خارقة للعادة كعصا موسى تدل على أن من أعطاه الله تلك
الآيات هو رسول الله حقا. وآيات بني إسرائيل التي آتاهم الله تعالى منها فلق البحر
لهم ، وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم.
(نِعْمَةَ اللهِ) : ما يهبه لعبده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة
ونعم الله كثيرة.
(يَسْخَرُونَ) : يحتقرون ويستهزئون.
معنى الآيتين :
يأمر الله تعالى
رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتاهم الله ، وكيف كفروا بها
فلم تنفعهم شيئا ، والمراد تسليته صلىاللهعليهوسلم من الألم النفسي الذي يحصل له من عدم إيمان أهل الكتاب
والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على كفرهم
بآيات الله وإصرارهم على عدم الدخول في الإسلام. ثم أخبر تعالى أن من يبدل نعمة
الله التي هي الإسلام بالكفر به وبنبيّه محمد صلىاللهعليهوسلم فإن عقوبة الله تعالى تنزل به لا محالة في الدنيا أو في
الآخرة لأن الله شديد العقاب .
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢١١) وأما الآية الثانية (٢١٢) فقد أخبر تعالى أن الشيطان زين للذين
كفروا بالله ورسوله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لم يروا
غيرها ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين فيها لعلمهم بزوالها وقلة نفعها فلم
يكرسوا كل جهدهم لجمعها والحصول عليها بل أقبلوا على طاعة ربهم وأنفقوا ما في
أيديهم في سبيل الله طلبا لرضاه. كما أخبر أن المؤمنين المتقين سيجازيهم يوم
القيامة خير الجزاء وأوفره فيسكنهم دار السّلام في عليين ، ويخزي أعداءهم الساخرين
منهم ويهينهم فيسكنهم الدرك الأسفل من النار.
__________________
وهو تعالى المتفضل
ذو الإحسان إذا رزق يرزق بغير حساب وذلك لواسع فضله وعظيم ما عنده.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ التحذير من
كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب ومن أجلّ النعم نعمة
الإسلام فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها وما حلّ ببني
إسرائيل من ألوان الهون والدون دهرا طويلا شاهد قوي وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا
عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضا.
٢ ـ التحذير من
زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها ونسيان الدار الآخرة وترك العمل لها.
فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة ، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان
والتقوى سيكونون يوم القيامة فوقهم درجات إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل
النيران.
(كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))
__________________
شرح الكلمات :
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً) : كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
النبيون
: جمع نبيّ والمراد
بهم الرسل إذ كل نبي رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة
والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
(الْكِتابَ) : اسم جنس يدخل فيه كل الكتب الإلهية.
(أُوتُوهُ) : أعطوه.
(الْبَيِّناتُ) : الحجج والبراهين تحملها الرسل إليهم وتورثها فيهم شرائع
وأحكاما وهدايات عامة.
(بَغْياً) : البغي الظلم والحسد.
الصراط
المستقيم : الإسلام المفضي
بصاحبه إلى السعادة والكمال في الحياتين.
معنى الآية
الكريمة :
يخبر تعالى أن
الناس كانوا ما بين آدم ونوح عليهماالسلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم
إلا الله تعالى حتى زيّن الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال
فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحا عليهالسلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك ، وتوالت الرسل تحمل
كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه. ثم أخبر تعالى عن سنته
في الناس وهي أن الذين يختلفون في الكتاب أي فيما
__________________
يحويه من الشرائع
والأحكام هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة
، والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب ، واليهود هم المثل لهذه
السنة فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العديدين
من أنبيائهم ورسلهم واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام وكان الحامل لهم على ذلك
البغي والحسد والعياذ بالله.
وهدى الله تعالى
أمة محمد صلىاللهعليهوسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى فقال تعالى (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق هداهم بإذنه ولطفه وتوفيقه فله الحمد وله المنة. ومن ذلك الحق الذي
اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه :
١ ـ الإيمان بعيسى
عبد الله ورسوله حيث كفر به اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله؟ وألّهه
النصارى ، وجعلوه إلها مع الله ، وقالوا فيه إنه ابن الله. تعالى الله عن الصاحبة
والولد.
٢ ـ يوم الجمعة
وهو أفضل الأيام أخذ اليهود السبت والنصارى الأحد وهدى الله تعالى إليه أمة
الإسلام.
٣ ـ القبلة قبلة
أبي الأنبياء ابراهيم استقبل اليهود بيت المقدس واستقبل النصارى مطلع الشمس وهدى
الله أمة الإسلام إلى استقبال البيت العتيق قبلة ابراهيم عليهالسلام. والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ الأصل هو
التوحيد والشرك طارىء على البشرية.
__________________
٢ ـ الأصل في مهمة
الرسل البشارة لمن آمن واتقى؟ والنذارة لمن كفر وفجر ، وقد يشرع لهم قتال
من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ من علامات
خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها فيحرفون كلام الله
ويبدلون شرائعه طلبا للرئاسة وجريا وراء الأهواء والعصبيّات ، وهذا الذي تعانى منه
أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم ، وكان سبب دمار بني إسرائيل.
٤ ـ أمة الإسلام
التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ بِإِذْنِهِ).
٥ ـ الهداية بيد
الله فليطلب العبد دائما الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر أن يهديه دائما إلى
الحق .
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ (٢١٤))
شرح الكلمات :
(أَمْ حَسِبْتُمْ) : أظننتم ـ أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة ، والاستفهام
انكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
(لَمَّا) : بمعنى لم النافية
(مَثَلُ) : صفة وحال الذين من قبلكم.
__________________
(الْبَأْساءُ
وَالضَّرَّاءُ) : (الْبَأْساءُ) : الشدة ، من الحاجة وغيرها و (الضَّرَّاءُ) : المرض والجراحات والقتل.
(مَتى نَصْرُ اللهِ) : الاستفهام للإستبطاء.
معنى الآية
الكريمة
ينكر تعالى على
المؤمنين وهم في أيام شدة ولأواء ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون
امتحان وابتلاء في النفس والمال بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من (الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) والزلزال وهو الاضطراب والقلق من الأهوال حتى يقول الرسول
والمؤمنون معه ـ استبطاءا للنصر الذي وعدوا به : متى نصر الله؟ فيجيبهم ربهم تعالى
بقوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ).
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية
١ ـ الابتلاء
بالتكاليف الشرعية ، ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
٢ ـ الترغيب في
الإتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر.
٣ ـ جواز الأعراض
البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظارا له.
٤ ـ بيان ما أصاب
الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم.
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))
__________________
شرح الكلمات :
(مِنْ خَيْرٍ) : من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
(الْأَقْرَبِينَ) : كالأخوة والأخوات وأولادهم ، والأعمام والعمات وأولادهم
والأخوال والخالات وأولادهم.
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) : ما : شرطية ومن : بيانية والخير هنا لسائر أنواع البر
والإحسان.
(فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) : الجملة علّة لجواب الشرط المحذوف والمقدر يثبكم عليه.
معنى الآية
الكريمة
سأل عمرو بن
الجموح وكان ذا مال سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماذا ينفق وعلى من ينفق فنزلت الآية جوابا لسؤاله فبينت أن
ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان والأقربون ، واليتامى والمساكين وأبناء السبيل. وأعلمهم
تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير
مطلقا.
هداية الآية
الكريمة :
من
هداية الآية :
١ ـ سؤال من لا
يعلم حتى يعلم وهذا طريق العلم ، ولذا قالوا : (السؤال نصف العلم).
٢ ـ أفضلية
الإنفاق على المذكورين في الآية إن كان المنفق غنيّا وهم فقراء محتاجون
٣ ـ الترغيب في
فعل الخير والوعد من الله تعالى بالجزاء الأوفى عليه
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا
__________________
شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))
شرح الكلمات :
(كُتِبَ) : فرض فرضا مؤكدا حتى لكأنه مكتوب كتابة.
(الْقِتالُ) : قتال الكافرين بجهادهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
(كُرْهٌ) : مكروه في نفوسكم طبعا.
(عَسى) : هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه
مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم ، إلّا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد
اليقين.
معنى الآية
الكريمة :
يخبر تعالى رسوله
وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال المشركين والكافرين وهو يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه
من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس ، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيرا ،
وأن ما يحبونه قد يكون شّرا ، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من
عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة كما أن ترك
الجهاد محبوب لهم وهو شّر لهم لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم ،
وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من
حبهم لأشياء وهي شّر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به
قبل خلقه ، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب
ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
__________________
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية :
١ ـ وجوب الجهاد
على أمة الإسلام ما بقيت فتنة في الأرض وشرك فيها.
٢ ـ جهل الإنسان
بالعواقب يجعله يحب المكروه ، ويكره المحبوب.
٣ ـ أوامر الله
كلها خير ، ونواهيه كلها شرّ. فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))
شرح الكلمات
(الْحَرامِ قِتالٍ
فِيهِ) : أي المحرم. قتال بدل اشتمال من الحرام ، إذ السؤال عن
القتال في الشهر الحرام (رجب).
(كَبِيرٌ) : أي ذنب عظيم
(صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) : صرف عن دين الله.
__________________
(وَكُفْرٌ بِهِ) : كفر بالله تعالى
(الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) : مكة والمسجد الحرام فيها
(أَهْلِهِ) : النبي صلىاللهعليهوسلم والمهاجرون.
(أَكْبَرُ) : أعظم وزرا.
(الْفِتْنَةُ) : الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا.
(حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) : بطل أجرها فلا يثابون عليها لردتهم.
(هاجَرُوا) : تركوا ديارهم خوف الفتنة والاضطهاد في ذات الله.
معنى الآيتين :
لما أخبر تعالى
أنه كتب على المؤمنين القتال ارسل النبي صلىاللهعليهوسلم سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال
الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيرا لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم
رجلا يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين واخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في
آخر يوم من جمادى الثانية وهي أول ليلة من رجب. فثارت ثائرة قريش وقالت : محمد يحل
الشهر الحرام بالقتال فيه ، وردّد صوتها اليهود والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول
صلىاللهعليهوسلم وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشىء ، وتعرض عبد الله
بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس ، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله
تعالى هاتين الآيتين (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ
فِيهِ) أي عن القتال فيه ، اجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه
وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى وكذا الصد عن المسجد الحرام ،
وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزرا في حكم الله تعالى ،
كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عن دينهم الحق إلى
الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافا إلى كل هذا عزمهم
على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين
محذرا إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات
كافرا فإن
__________________
أعماله الصالحة
كلها تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبدا. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما
الآية الثانية (٢١٨) (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى
على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك ، وانهم
يرجون رحمة الله أى الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم ، وذلك لإيمانهم
وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله ، وقال تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ
اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة الشهر
الحرام والبلد الحرام.
٢ ـ نسخ القتال في
الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صلىاللهعليهوسلم هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما في الأشهر الحرم.
٣ ـ الكشف عن
نفسيّة الكافرين وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن الإسلام
ويخرجوهم منه.
٤ ـ الردة محبطة للعمل فإن تاب المرتد يستأنف العمل من جديد ، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل
النار الخالدين فيها أبدا.
٥ ـ بيان فضل
الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.
__________________
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))
شرح الكلمات :
(الْخَمْرِ) : كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل ،
ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
(الْمَيْسِرِ) : القمار وسمي ميسرا لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم
: كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو
العرض.
المنافع : جمع منفعة وهي ما يسّر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال
والموادّ.
(الْعَفْوَ) : العفو هنا : ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
(تَتَفَكَّرُونَ) : فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعملون لدنياكم ما يصلحها
، وتعملون لآخرتكم ما يسعدكم فيها ، وينجيكم من عذابها.
تخالطونهم
: تخلطون ما لهم مع
ما لكم ليكون سواء.
(لَأَعْنَتَكُمْ) : العنت المشقة الشديدة يقال أعنته إذا كلّفه مشقة شديدة.
__________________
معنى الآيتين :
كان العرب في
الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان
بالبعث الآخر إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة ، ولما هاجر الرسول صلىاللهعليهوسلم والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعا إسلاميا
وأخذت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فحدث يوما أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان
فخلط في القراءة فنزلت آية النساء (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة وهنا كثرت
التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فأجابهم الله تعالى بقوله (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فترك الكثير كلا من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان
عمر يتطلع إلى منعهما منعا باتا ويقول : (اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا) فاستجاب
الله تعالى له ونزلت آية المائدة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) فقال عمر : (انتهينا ربنا) وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر
تحريما قطعيا كاملا ووضع الرسول صلىاللهعليهوسلم حدّ الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث
وقال : «مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه في ثلاثة نفر وهم العاقّ
لوالديه ، ومسبل إزاره ، ومدمن شرب الخمر».
وقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ) فهو كما قال تعالى فقد بيّن في سورة المائدة منشأ الإثم
وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة
وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين ، والإعراض عن ذكر الله
وتضييع الصلاة حقا إن فيهما لإثما كبيرا ، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم
قليلة ومنها الربح في تجارة الخمر وصنعها ، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح
والسخاء والشجاعة ، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب
وانتفاع بعض الفقراء به إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى
للفقراء والمساكين.
__________________
أما قوله تعالى في
الآية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ) فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل
الله فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله : (قُلِ الْعَفْوَ) أي مازاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا
قال الرسول صلىاللهعليهوسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» رواه البخاري. وقوله (الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال
والحرام ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون
لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على
حسب ذلك.
وهذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢١٩) أما الآية الثانية (٢٢٠) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى) الآية فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد وفصل من كان
في بيته يتيم يكفله فصل طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة
وتساءلوا عن المخرج فنزلت هذه الآية وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى
وليس هو فصله أو خلطه فقال تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
....) مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح ودفع الحرج في الخلط
فقال : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) ، والأخ يخالط أخاه في ماله ، وأعلمهم أنه تعالى يعلم
المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائما على حذر ، وكل هذا حماية لمال
اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم يرفع الحرج في المخالطة فقال
تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) أي أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال
يتاماكم وقوله إن الله عزيز أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
__________________
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة الخمر والميسر حيث نسخت هذه الآية بآية المائدة لقوله
تعالى فيها فاجتنبوه وقوله فهل أنتم منتهون.
٢ ـ بيان أفضل
صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو العفو في هذه الآية.
٣ ـ استحباب
التفكر في أمر الدنيا والآخرة لإعطاء الأولى بقدر فنائها والآخرة بحسب بقائها.
٤ ـ جواز خلط مال
اليتيم بمال كافله إذا كان أربح له وأوفر وهو معنى الإصلاح في الآية.
٥ ـ حرمة مال
اليتيم ، والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصا فيه أو إفسادا
(وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))
شرح الكلمات :
(وَلا تَنْكِحُوا) : لا تتزوجوا.
الأمة
: خلاف الحرة.
(وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ) : أي أعجبكم حسنها وجمالها.
(يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ) : بحالهم ومقالهم وأفعالهم.
(آياتِهِ) : أحكام دينه ومسائل شرعه.
__________________
معنى الآية
الكريمة :
ينهى الله تعالى
المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمنّ بالله ورسوله ، فإن آمنّ جاز نكاحهن ،
وأعلمهم منفرا من نكاح المشركات مرغبا في نكاح المؤمنات فقال : ولأمة مؤمنة فضلا
عن حرة خير من حرة مشركة ، ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها ، كما نهاهم محرما
عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم
بناتهم ونساءهم فقال تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) وقال منفرا مرغبا ولعبد مؤمن خير من حر مشرك ولو أعجبهم
المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه ، وعلل لذلك بقوله. أولئك أي المشركات والمشركون
يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة لا سيما بالتزوج منهم ، والله عزوجل يدعو إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح ، وإلى المغفرة
بالتوبة الصادقة فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. كما أنه تعالى
يبيّن آياته للناس ليعدهم للتذكر والاتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه
والجنة ، ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية :
١ ـ حرمة نكاح
المشركات ، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة إذ قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ).
٢ ـ حرمة نكاح
المؤمنة الكافر مطلقا مشركا كان أو كتابيا.
٣ ـ شرط الولاية
في نكاح المرأة لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين فهو هنا يخاطب أولياء النساء
المؤمنات ، ولذا لا يصح نكاح إلا بولي .
٤ ـ التنفير من مخالطة
المشركين والترغيب في البعد عنهم لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم ،
وبذلك هم يدعون إلى النار.
__________________
٥ ـ وجوب موالاة
أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال لأن الأولين يدعون إلى الجنة والآخرين
يدعون إلى النار.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
(٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))
شرح الكلمات :
(الْمَحِيضِ) : مكان الحيض وزمنه والحيض دم يخرج من رحم المرأة إذا خلا
من الجنين.
(أَذىً) : ضرر يضر المجامع في أيامه.
(فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) : اتركوا جماعهن أيام الحيض.
(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ) : أي لا تجامعوهن حتى ينقطع دم حيضهن.
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) : أي إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه.
__________________
(فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) : أي جامعوهن في قبلهن ، وهن طاهرات متطهرات .
(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) : يريد مكان إنجاب الأولاد فشبه النساء بالحرث لأن الأرض
إذا حرثت أنبتت الزرع ، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.
(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) : إذن بجماع لمرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في القبل
الذي هو منبت الزرع ، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.
(وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) : يريد الأعمال الصالحة ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة
بالجماع وإرادة انجاب الأولاد الصالحين الذين يوحدون الله ويدعون لوالديهم طوال
حياتهم.
معنى الآيتين :
يخبر تعالى رسوله
بأن بعض المؤمنين سألوه عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر
بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية ، وأمره أن يقول لهم الحيض أذى
يضر بالرجل المواقع فيه ، وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط لا في
المعاشرة والمآكلة والمشاربة ، وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم بل لا بأس
بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا
المنع بقوله لهم : ولا تقربوهن أي لا تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والاغتسال بعده
لقوله فإذا تطهرن أي اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله باتيانهن وهو القبل لا الدبر
فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات
والأقذار فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عزوجل هذا معنى الآية الأولى : (٢٢٢) أما الأية الثانية (٢٢٣)
وهي قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) فهي تضمنت جواب سؤال وهو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن
يأتيها الرجل من ورائها إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلا فأخبر تعالى
__________________
أنه لا مانع من ذلك
إذا كان في القبل وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس ، وسمىّ المرأة حرثا
لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة ومادام الأمر كذلك فليأت
الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد.
فقوله تعالى أنّى
شئتم يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا الدبر . ثم وعظ تعالى عباده بقوله : وقدّموا لأنفسكم من الخير ما
ينفعكم في آخرتكم واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته إذ
هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم. وأخيرا أمر رسوله أن يبشر
المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحا مثمرا التقوى والعمل
الصالح.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة الجماع
أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر ، ولقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
٢ ـ حرمة وطء
المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل ، لقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ).
٣ ـ حرمة نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ) وهو القبل.
٤ ـ وجوب التطهير
من الذنوب بالتوبة ، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء.
٥ ـ وجوب تقديم ما
أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة لقوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ).
٦ ـ وجوب تقوى
الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.
٧ ـ بشرى الله
تعالى على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم لكل مؤمن ومؤمنة.
__________________
(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا
بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))
شرح الكلمات :
العرضة
: ما يوضع مانعا من شىء ، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل
خيرا.
الأيمان
: جمع يمين نحو
والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلنّ كذا.
البرور
: الطاعة وفعل
البر.
اللغو
: الباطل ، وما لا
خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه ، أو ما يجري
على لسانه من أيمان من غير إرادة الحلف.
(كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) : ما تعمّد القلب وقصد اليمين لأجله لفعله حتما أو منعه.
(يُؤْلُونَ) : الإيلاء : الحلف على عدم وطء الزوجة.
التربص
: الانتظار
والتمهل.
(فاؤُ) : رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.
(الطَّلاقَ) : فك رابطة الزوجية وحلها بقوله هي طالق أو مطلقة أو
طلقتك.
__________________
معنى الآيات :
ينهى الله تبارك
وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعا من فعل الخير وذلك كأن يحلف العبد
أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلانا أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى ولا
تجعلوا الله يريد الحلف به عرضة لأيمانكم أي مانعا لكم من فعل خير أو ترك إثم أو اصلاح بين الناس.
وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عزوجل.
ثم أخبرهم أنه
تعالى لا يؤاخذهم باللغو في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا فيظهر
على خلاف ما ظن ، أو أن يجري على لسانه ما لا يقصده من الحلف كقوله لا ، والله ،
بلى والله فهذا مما عفا الله عنه لعباده فلا إثم فيه ولا كفارة تجب فيه. لكن
يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الإثم وذلك كأن يحلف المرء كاذبا ليأخذ حق أخيه المسلم
بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وهذه
لا تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن لا يفعل أو يفعل ثم حنث ، وإنما على
صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والاعتراف بذنبه ورد الحق الذي أخذه بيمينه
الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر الله تعالى له ويرحمه ، والله غفور رحيم.
وبمناسبة ذكر
اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن لا يطأها فأخبر تعالى أن على
المولي تربص أربعة أشهر فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت ، وعليه
أن يكفر عن يمينه ، وإن لم يفىء إلى وطئها وأصرّ على ذلك فإن على القاضي أن يوقفه
أمامه ويطالبه بالفىء فإن أبى طلقها عليه.
قال الله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم
لتوبتهم.
وإن عزموا الطلاق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا ، والله سميع لأقوالهم
عليم بما في قلوبهم. فليحذروه بعدم فعل ما يكره ، وترك فعل ما يحب.
__________________
هداية الآيات :
١ ـ كراهية منع
الخير بسبب اليمين وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيرا فليكفر عن يمينه وليفعل الخير
لحديث الصحيح «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي
هو خير».
٢ ـ لغو اليمين
معفو عنها ولها صورتان الأولى أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف
نحو لا والله ، وبلى والله ، والثانية أن يحلف على شىء يظنه كذا فيتبين خلافه ،
مثل أن يقول والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شىء
من ذلك ، ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.
٣ ـ اليمين
المؤاخذ عليها العبد هي أن يحلف متعمدا الكذب قاصدا له من أجل الحصول على منفعة
دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وتسمى باليمين الغموس ، واليمين الفاجرة.
٤ ـ اليمين التي
تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل أو يحلف أن
لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل ، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله ، والكفارة مبيّنة في
آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام
ثلاثة أيام.
٥ ـ بيان حكم
الإيلاء وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعا عن الوطء ،
إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن يمينه ، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفىء إلى
زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطا غير راض.
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
__________________
بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي
أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))
شرح الكلمات :
(الْمُطَلَّقاتُ) : جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو
القاضي.
(يَتَرَبَّصْنَ) : ينتظرن.
(قُرُوءٍ) : القرء إما مدة الطهر ، أو مدة الحيض.
(ما خَلَقَ اللهُ فِي
أَرْحامِهِنَ) : من الأجنّة فلا يحل للمطلقة أن تكتم ذلك.
(وَبُعُولَتُهُنَ) : أزواجهن واحد البعولة : بعل كفحل ونخل.
(بِرَدِّهِنَّ فِي
ذلِكَ) : أي في مدة التربص والانتظار.
(وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَ) : يريد على الزوجة حقوق لزوجها ، ولها حقوق على زوجها.
(وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) : هي درجة القوامة أن الرجل شرعا هو القيم على المرأة.
معنى الآية
الكريمة :
بمناسبة طلاق
المؤلى إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ) الخ أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر فلا تتعرض للزواج مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها زوجها فلها
أن تتزوج وهذا الانتظار يسمى عدة وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها ، إذ له الحق
أن يراجعها فيها وهذا معنى قوله تعالى في الآية : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُ
__________________
بِرَدِّهِنَّ
فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً).
كما أن على
المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول : ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثا
تريد بذلك الرجعة لزوجها ، ولا تقول حضت ثلاثا وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى
زوجها ، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده
وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، يريد من
حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذلِكَ) يريد والزوج أحقّ بزوجته المطلقة مادامت في عدّتها وعلى
شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لا بد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب
العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى : (إِنْ أَرادُوا
إِصْلاحاً) ، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضا.
ثم أخبر تعالى أن
للزوجة من الحقوق على زوجها ، مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن
لها وهي القيوميّة المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) وختمت الآية بجملة (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) إشعارا بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة الله تعالى وحكمته
فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب أن يسلم له في شرعه لأنه صالح نافع غير ضار.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ بيان عدة
المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلاثة حيض أو أطهار.
٢ ـ حرمة كتمان
المطلقة حيضا أو حملا خلقه الله تعالى في رحمها ، ولأي غرض كان.
٣ ـ أحقية الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها ، حتى قيل
الرجيعة زوجة بدليل أنها لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه. وأنه لا يحل أن تخطب
أو تتزوج مادامت في عدتها.
٤ ـ اثبات حقوق كل
من الزوجين على صاحبه.
__________________
٥ ـ تقرير سيادة
الرجل على المرأة لما وهبه الله من ميزات الرجولة المفقودة في المرأة.
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))
شرح الكلمات :
(الطَّلاقُ) : الاسم من طلّق وهو أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق أو
طلقتك.
(مَرَّتانِ) : يطلقها ، ثم يردها ، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج
الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجا غيره.
(فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) : حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي
حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت ،
ويسمى هذا خلعا.
(حُدُودَ اللهِ) : ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة الله ولا يتجاوزه.
__________________
الظالم
: المتجاوز لما حدّ
الله تعالى ، والظلم وضع الشىء في غير موضعه.
معنى الآية
الكريمة
ما زال السياق في
بيان أحكام الطلاق فيقرر تعالى في هذه الآية أن الطلاق الذي يملك الزوج الرجعة فيه
هو طلقتان أولى ، وثانية فقط ، ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين إما أن
يمسك زوجته بمعروف ، أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
هذا معنى قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من حقوق ، أو تسريح أي
تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان ، ويمتعها بشىء من المال ولا يذكرها
بسوء.
وقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) : حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئا بدون
رضاها ، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه وهو غير
ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالا ويطلقها ويسمى هذا خلعا وهو حلال على الزوج غير الظالم ، وهذا معنى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللهِ) وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أى لا إثم فيما فدت به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها
مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.
وقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يريد أحكام شرعه فلا يحل تجاوز الحلال إلى الحرام ، ولا
تجاوز الإحسان إلى الإساءة ، ولا المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم
نفسه عرضها للعذاب ، وما ينبغي له ذلك.
__________________
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ حرمة الطلاق
الثلاث بلفظ واحد ، لأن الله تعالى قال الطلاق مرتان.
٢ ـ المطلقة ثلاث
طلقات لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ويطلقها أو يموت عنها.
٣ ـ مشروعية الخلع
وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه عوضا عما
أنفق عليها في الزواج بها.
٤ ـ وجوب الوقوف
عند حدود الله وحرمة تعديها.
٥ ـ تحريم الظلم
وهو ثلاثة أنواع : ظلم الشرك وهذا لا يغفر للعبد إلا بالتوبة منه وظلم العبد لأخيه
الإنسان وهذا لا بد من التحلل منه ، وظلم العبد لنفسه بتعدّي حد من حدود الله وهذا
أمره إلى الله إن شاء غفره وإن شاء واخذ به
(فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))
شرح الكلمات
(فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ) : الطّلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد ان تنكح زوجا غيره
(فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) : أي لا إثم ولا حرج عليهما في الزواج من جديد
(أَنْ يَتَراجَعا) : ان يرجع كل منهما لصاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة
حدود الله فيهما ، وإلا فلا يجوز نكاحهما.
معنى الآية
الكريمة :
يقول تعالى مبينا
حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة : فإن طلقها فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ،
ويكون النكاح صحيحا ويبني بها الزوج الثاني لحديث «حتى تذوقي عسيلته
__________________
ويذوق عسيلتك» ،
فإن طلقها الثاني بعد البناء والخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى
الأول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود الله فيهما بإعطاء كل
واحد حقوق صاحبه مع حسن العشرة وإلا فلا مراجعة تحل لهما. ولذا قال
تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله ثم نوّه الله تعالى بشأن تلك الحدود فقال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وهي شرائعه ، يبينها سبحانه وتعالى لقوم يعلمون ، إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ولا يتعدونها
فيسلمون من وصمة الظلم وعقوبة الظالمين.
هداية الآية
من
هداية الآية
١ ـ المطلقة ثلاثا
لا تحل لمطلقها إلا بشرطين الأول أن تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويبني بها
ويطأها والثاني أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك
الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.
٢ ـ موت الزوج الثاني
كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.
٣ ـ إن تزوجت
المطلقة ثلاثا بنيّة التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلّها هذا
النكاح لأجل التحليل ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم أبطله وقال : «لعن الله المحلل والمحلل له» ويسمّى بالتيس
المستعار ، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثا بقصد أن يحلها للأول.
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))
__________________
شرح الكلمات :
(أَجَلَهُنَ) : أجل المطلقة مقاربة انتهاء ايام عدتها
(أَوْ سَرِّحُوهُنَ) : تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها
وتبين من زوجها.
(ضِراراً) : مضارة لها وإضرارا بها.
(لِتَعْتَدُوا) : لتتجاوزوا حد الإحسان إلى الإساءة.
(هُزُواً) : لعبا بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها.
(نِعْمَتَ اللهِ) : هنا هي الإسلام.
(الْحِكْمَةِ) : السنة النبوية.
(يَعِظُكُمْ بِهِ) : بالذي أنزله من أحكام الحلال والحرام ؛ لتشكروه تعالى
بطاعته.
معنى الآية
الكريمة
ما زال السياق في
بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا
طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها بمعروف ، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي
عدتها ويسرحها بمعروف فيعطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث
شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امرأته من أجل أن يضرّ بها فلا هو يحسن إليها ولا
يطلقها فتستريح منه ، فقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً لِتَعْتَدُوا) يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي
نفسها منه بمال وأخبر تعالى : أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب
الأخروي.
كما نهى تعالى
المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية ، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ
هُزُواً) وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث منّ
__________________
عليهم بالإسلام
دين الرحمة والعدالة والإحسان وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
كما عليهم أن
يذكروا نعمة الله عليهم زيادة على الإسلام وهي نعمة انزال الكتاب. والحكمة ليعظهم
بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم ، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم : ثم
أمرهم بتقواه عزوجل ، فقال (وَاتَّقُوا اللهَ) وأعلمهم أنه أحق أن يتقى لأنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه
من أمرهم شيء فيلحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ لا يحل للمطلق
أن يراجع امرأته من أجل أن يضرّ بها ويظلمها حتى تخالعه بمال.
٢ ـ حرمة التلاعب
بالأحكام الشرعية بعدم مراعاتها ، وتنفيذها.
٣ ـ وجوب ذكر نعمة
الله على العبد وذلك بذكرها باللسان ، والاعتراف بها في الجنان.
٤ ـ وجوب تقوى
الله تعالى في السر والعلن.
٥ ـ مراقبة الله
تعالى في سائر شؤون الحياة لأنه بكل شىء عليم.
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))
شرح الكلمات :
(فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) : أى انتهت عدتهن.
__________________
(فَلا تَعْضُلُوهُنَ) : أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل
الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
(إِذا تَراضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : إذا رضى الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.
(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) : أي النهي عن العضل يكلف به أهل الإيمان إذ هم القادرون
على الطاعة.
(ذلِكُمْ أَزْكى
لَكُمْ) : أى ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم ؛ إذ العضل
قد يسبب ارتكاب الفاحشة.
معنى الآية
الكريمة :
ينهى الله تعالى
أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها
الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها ، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو
به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار
رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.
وقوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم
الآخر فهم الأحياء الذين يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.
وأخيرا أخبرهم
تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم ، حالا ومآلا وأطهر لقلوبهم
ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه ،
والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ حرمة العضل أي
منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها.
٢ ـ وجوب الولاية على المرأة ، لأن الخطاب في الآية كان للأولياء (وَلا تَعْضُلُوهُنَ).
__________________
٣ ـ المواعظ تنفع
أهل الإيمان لحياة قلوبهم.
٤ ـ في امتثال
أوامر الله واجتناب نواهيه الخير كله ، والطهر جميعه.
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ
لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ
تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))
شرح الكلمات :
(حَوْلَيْنِ) : عامين.
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ) : أي على الأب
(بِالْمَعْرُوفِ) : بحسب حاله يسارا وإعسارا.
(وُسْعَها) : طاقتها وما تقدر عليه.
(لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) : أي لا يحل أن تؤذى أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها ، أو
بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها ، أو موت زوجها.
__________________
(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ) : أي ولا يضار الوالد كذلك بأن يجبر على ارضاع الولد من أمه المطلقة أو
يطالب بأجرة لا يطيقها.
(وَعَلَى الْوارِثِ) : الوارث هو الرضيع نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته.
(فِصالاً) : فطاما للولد قبل نهاية العامين.
معنى الآية
الكريمة :
بمناسبة بيان
أحكام الطلاق وقد تطلق المرأة أحيانا وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع وقال تعالى
: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت
هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة ، وأن على المولود له وهو الأب ان كان موجودا نفقة
المرضعة طعاما وشرابا وكسوة بالمعروف بحسب حال الوالد من الغنى والفقر ، إذ لا
يكلف الله نفسا إلا ما آتاها من قدرة.
ثم نبّه تعالى على
أنه لا يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره على
ارضاعه وهي لا تريد ذلك ، أو تحرم النفقة مقابل الإرضاع أو يضيق عليها فيها كما لا
يجوز أن يضار أي يؤذى المولود له وهو الأب : بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد
طلقها ولا أن يطالب بنفقة باهظة لا يقدر عليها. وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن
كان له مال. فإن لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور الأقرب فالأقرب أى عليهم أجرة
الإرضاع فإن لم يكن للولد مال وليس له عصبة وجب على الأم أن ترضعه مجانا لأنها
أقرب الناس إليه ثم ذكر تعالى رخصتين في الارضاع الأولى إن أراد الأبوان فطام
الولد قبل عامين فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير مصلحة الولد من هذا
الفطام المبكر. فقال تعالى : (وَإِنْ
__________________
أَرادا
فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا تضييق ولا حرج. والثانية إن أراد المولود له أن
يسترضع لولده من مرضعا غير أمه فله ذلك إن طابت به نفس الأم قال تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) بشرط أن يسلم
الأجرة المتفق عليها بالمعروف بلا إجحاف ولا مماطلة ، وأخيرا وعظ
الله كلا من المرضع والمرضع له بتقواه في هذه الحدود التي وضعها لهما ، وأعلمهم
أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره ، وارتكاب نهيه. فسبحانه من إله عظيم بر
رحيم.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ وجوب إرضاع
الأم ولدها الرضعة الأولى «اللّبا» إن كانت مطلقة وسائر الرضاع إن كانت غير مطلقة.
٢ ـ بيان الحد
الأعلى للرضاع وهو عامان تامان. ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعا.
٣ ـ جواز أخذ
الأجرة على الإرضاع.
٤ ـ وجوب نفقة
الأقارب على بعضهم في حال الفقر.
٥ ـ جواز ارضاع
الوالد ولده من مرضع غير والدته.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ
__________________
وَلكِنْ
لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))
شرح الكلمات :
(يُتَوَفَّوْنَ) : يوفيهم الله تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون.
(وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً) : يتركون زوجات لهم.
(يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَ) : ينتظرن حتى انقضاء عدتهن وهي أربعة أشهر وعشر ليال.
(بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : بلغن انتهاء العدة.
(فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) : لا حرج عليكم أيها الأولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس
الطيب والتجمل والتعرض للخطاب.
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) : لا اثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة ، كما لا
إثم في اضمار الرغبة في النفس.
(حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ) : أي حتى تنتهى العدة.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
بيان أحكام الطلاق والعدد والنفقات ففي هذه الآية (٢٣٤) أن على من مات عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة أو
نصف المدة إن كانت أمة فلا تتجمل ولا تمس طيبا ولا تتعرض للخطاب بحال حتى تنقضي
عدتها المذكورة في الآية إلا أن تكون حاملا فإن عدتها تنقضي بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلاق : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإذا بلغت أجلها أي انتهت المدة التي هي
__________________
محدة فيها فلا
جناح على ذوي زوجها المتوفى ولا على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك الإحداد والتعرض للخطاب للتزوج هذا معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي بما هو مباح لهن ووعظهم في ختام الآية بقوله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فاحذروه فلا تعملون إلا ما أذن فيه لكم.
أما الآية الثانية
(٢٣٥) فقد تضمنت تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق أو وفاة فلا يحل خطبتها لما في
ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن
تدعى المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض ، وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة
المراجعة وهذا كله ضرر محرم. كما تضمنت الآية في صدرها رفع الحرج أى الإثم في
التعريض بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون فيما عرضتم من خطبة النساء المعتدات نحو
قوله : إني راغب في الزواج ، أو إذا انقضت عدتك تشاورنيني إن أردت الزواج. كما
تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) مبدين رغبتكم في الزواج منهن فرخص لكم في التعريض دون
التصريح ، ولكن لا تواعدوهن سرا هذ اللفظ هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة
أو من طلاق بائن ، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه تعريضا ولا تصريحا لأنها
في حكم الزوجة ، وقوله إلا أن تقولوا قولا معروفا هو الإذن بالتعريض.
كما تضمنت هذه
الآية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، والمراد من الكتاب المدة التي كتب الله على المعتدة أن
تتربص فيها. وختمت الآية بوعظ الله تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن الله
يعلم ما في أنفسهم ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر
فلا يخالفوه في أمره ولا في نهيه. كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد
الذنب حليم عليهم لا يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة.
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان عدة
الوفاة وهي أربعة أشهر وعشر ليال ، وبينت السنّة أن عدة الأمة على النصف.
٢ ـ وجوب الإحداد
على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزيّن ومسّ الطيب وعدم التعرض للخطاب وملازمة
المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فلا تخرج منه إلا لضرورة قصوى.
٣ ـ حرمة خطبة
المعتدة ، وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح.
٤ ـ حرمة عقد
النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها وهذا من باب أولى مادام الخطبة محرمة ومن عقد
على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما.
٥ ـ وجوب مراقبة
الله تعالى في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم.
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا
__________________
الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما
عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))
شرح الكلمات :
الجناح
: الإثم المترتب
على المعصيّة.
(ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) : ما لم تجامعوهنّ
(أَوْ تَفْرِضُوا) : تقدّروا لهن مهرا
(الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) : ذو الوسع في المال ، وقدره : ما يقدر عليه ويستطيعه.
(الْمُقْتِرِ) : الضيّق العيش.
(الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ) : هو الزوج
(وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) : أى المودة والإحسان
(حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ) : بأدائها في أوقاتها في جماعة مع استيفاء شروطها واركانها
وسننها.
(الصَّلاةِ الْوُسْطى) : صلاة العصر ، أو الصبح فتجب المحافظة على كل الصلوات
وخاصة العصر والصبح لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم «من صلى البردين ـ العصر والصبح ـ دخل الجنة».
(قانِتِينَ) : خاشعين ساكنين .
(فَرِجالاً) : مشاة على أرجلكم أو ركبانا على الدواب وغيرها مما يركب.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بيان أحكام الطلاق وما يتعلق به ففي هذه الآية (٢٣٦) : يخبر تعالى عباده
المؤمنين أنه لا إثم ولا حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن ، وقبل أن
يسموا لهن مهورا أيضا وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم تكن قد أعطيت مهرا ولا
سمى لها فيعرف مقداره في هذه الحال وقد تكون نادرة يجب على الزوج المطلق جبرا
لخاطرها أن يعطيها مالا على قدر غناه وفقره تتمتع به أياما عوضا عما فاتها من
التمتع بالزواج ، فقال تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).
وأما الآية
الثانية (٢٣٧) فإنه تعالى يخبر أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقا
قل أو كثر فإنّ عليه أن يعطيها وجوبا نصفه إلا أن تعفو عنه المطلقة فلا تأخذه
تكرما ، أو يعفو المطلّق تكرما فلا يأخذ منه شيئا فيعطيها إياه كاملا فقال عزوجل : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ـ أي فالواجب نصف ما
فرضتم ـ إلا أن يعفون ـ المطلقات ـ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج. ثم
بعد تقرير هذا الحكم العادل الرحيم دعا تعالى الطرفين إلى العفو ، وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عزوجل : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والإحسان بينهما فقال :
(وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
وأما الآية
الثانية (٢٣٨) فإنه تعالى يرشد عباده المؤمنين إلى ما يساعدهم على الالتزام بهذه
الواجبات الشرعية والآداب الإسلامية الرفيعة وهو المحافظة على إقامة الصلوات الخمس
عامة والصلاة الوسطى خاصة فقال تعالى : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، وكانوا قبلها يتكلمون في الصلاة فمنعهم من ذلك بقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أى ساكنين خاشعين. وإن حصل خوف لا يتمكنون معه من أداء الصلاة
على الوجه
__________________
المطلوب من السكون
والخشوع فليؤدوها وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم ، حتى إذا زال الخوف
وحصل الأمن فليصلوا على الهيئة التي كانوا يصلون عليها من سكون وسكوت وخشوع فقال
تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما
عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يريد الله تعالى بالذكر هنا إقام الصلاة أولا ، ثم الذكر
العام مذكرا إياهم بنعمة العلم مطالبا إياهم بشكرها وهو أن يؤدوا الصلاة على أكمل
وجوهها وأتمها لأنها المساعد على سائر الطاعات وحسبها أنها تنهى عن الفحشاء
والمنكر. هذا ما تضمنته الآية الرابعة (٢٣٩).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان حكم
المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر ، وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من غنى
وفقر.
٢ ـ بيان حكم
المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوبا إلا أن تتنازل عنه برضاها
فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمّى كاملا فله ذلك.
٣ ـ الدعوة إلى
إبقاء المودة والفضل والإحسان بين الأسرتين أسرة المرأة المطلقة وأسرة الزوج
المطلق ، حتى لا يكون الطلاق سببا في العداوات والتقاطع.
٤ ـ وجوب المحافظة
على الصلوات الخمس وبخاصة صلاة العصر وصلاة الصبح «الصلاة الوسطى» .
٥ ـ منع الكلام في
الصلاة لغير إصلاحها.
٦ ـ وجوب الخشوع
في الصلاة.
__________________
٧ ـ بيان صلاة
الخائف من عدو وغيره وأنه يجوز له أن يصلي وهو ماش أو راكب.
٨ ـ الأمر بملازمة
ذكر الله ، والشكر على نعمه وبخاصة نعمة العلم بالإسلام.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً
إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))
شرح الكلمات :
(الْحَوْلِ) : العام.
(فَإِنْ خَرَجْنَ) : من بيت الزوج المتوفي قبل نهاية السنة.
(مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) : أي متعة لا مبالغة فيها ، ولا تقصير.
(حَقًّا) : متعينا على المطلقين الأتقياء.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
بيان حقوق النساء المطلقات والمتوفى عنهن ففي هذه الآية (٢٤٠) يخبر تعالى أن الذين
يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجا فإن لهن من الله تعالى وصيّة على ورثة الزوج
المتوفى أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل
وتشرب إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إلا إذا رغبت
في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك ، هذا معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ
__________________
وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم معناه ،
وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج. وما
ختمت به الآية والله عزيز حكيم إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي
متعيّنة التحقيق والتنفيذ.
وأما الآية
الثانية (٢٤١) (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ففيها حكم آخر وهو أن المطلقة المبني بها على مطلقها أن
يمتعها بشىء من المال كثياب أو دابة أو خادمة ، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقيل
تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها والمطلقة قبل البناء وقد سمى
لها المهر فإن لها نصف المهر لا غير ، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في
هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب لأنها لها المهر كاملا.
وقوله تعالى في
الآية الثالثة (٢٤٢) (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معناه كهذا التبين لأحكام الطلاق والخلع والرضاع والعدد
والمتع يبين تعالى لنا آياته المتضمنة أحكام شرعه لنعقلها ونعمل بها فنكمل عليها
ونسعد في الحياتين الدنيا والآخرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الإبقاء على
المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء العدة
الواجبة فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوما جاء في هذه الوصية إلا أن جمهور أهل
العلم يقولون بنسخ هذه الوصيّة ، وعدم القول بالنسخ أولى ، لأختلافهم في الناسخ
لها.
٢ ـ حق المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف.
٣ ـ منة الله على
هذه الأمة ببيان الأحكام لها لتسعد بها وتكمل عليها ، فلله الحمد والشكر.
__________________
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ
لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ
إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ) : ألم ينته إلى علمك ... فالرؤية قلبية والإستفهام
للتعجيب.
(أُلُوفٌ) : جمع ألف ، وهي صيغة كثرة فهم إذا عشرات الألوف.
(فِي سَبِيلِ اللهِ) : الطريق الموصل إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره
واجتناب نهيه ومن ذلك جهاد الكفار والظالمين حتى لا تكون فتنة.
(يُقْرِضُ اللهَ) : يقتطع شيئا من ماله وينفقه في الجهاد لشراء السلاح
وتسيير المجاهدين.
يقبض
ويبسط : يضيق ويبسط يوسع
، يقبض ابتلاء ، ويبسط امتحانا.
معنى الآيات :
يخاطب الله تعالى
رسوله صلىاللهعليهوسلم فيقول ألم ينته إلى علمك قصة لذين خرجوا من ديارهم فرارا
من الموت وهم ألوف وهم أهل مدينة من مدن بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم
أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليهالسلام ، فهل أنجاهم فرارهم من الموت ، فكذلك من يفر من القتال هل
ينجيه فراره من
__________________
الموت؟ والجواب لا
، وإذا فلم الفرار من الجهاد إذا تعيّن؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم
بإحيائها فضل من الله عليها عظيم ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وإذا فقاتلوا أيها
المسلمون في سبيل الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال ،
واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه ، ثم فتح تعالى باب
الاكتتاب المالي للجهاد فقال (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللهَ قَرْضاً حَسَناً) لا شائبة شرك فيه لأحد والنفس طيبة به فإن الله تعالى
يضاعفه له أضعافا كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلاء
كلمة الله ، ولا تخافوا الفقر فإن ربكم يقبض ويبسط : يضيق على العبد ابتلاء ويوسع
امتحانا ، فمنعكم الإنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إذا نزل
الوباء ببلد لا يجوز الخروج فرارا منه ، بهذا ثبتت السنة.
٢ ـ وجوب ذكر
النعم وشكرها.
٣ ـ وجوب القتال
في سبيل الله إذا تعين.
٤ ـ فضل الإنفاق
في سبيل الله.
٥ ـ بيان الحكمة
في تضييق الله على العبد رزقه ، وتوسيعه ، وهو الابتلاء لأجل الصبر والامتحان لأجل
الشكر ، فيالخيبة من لم يصبر ، عند التضييق عليه ، ولم يشكر عند التوسعة له.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا
__________________
مِنْ
دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ (٢٤٧))
شرح الكلمات :
(الْمَلَإِ) : أشراف الناس من أهل الحل والعقد بينهم إذا نظر المرء
إليهم ملأوا عينه رواء وقلبه هيبة.
عسى
: كلمة توقع وترجّ.
(كُتِبَ) : فرض ولزم
(مَلِكاً) : يسوسهم في السلم والحرب.
(أَنَّى يَكُونُ) : الاستفهام للإنكار بمعنى كيف يكون له الملك.
(اصْطَفاهُ) : فضله عليكم واختاره لكم.
بسطة
في الجسم : أى طولا زائدا
يعلو به من عداه.
معنى الآيات :
لقد فرض الله
تعالى على المؤمنين القتال ، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر وكان لا بد من
المال والرجال الأبطال الشجعان ، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر
لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معا ، ومن هنا
لمطاردة الجبن والبخل وهما من شر الصفات في الرجال ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت
التاركين ديارهم
لغيرهم كيف أماتهم الله ولم ينجيهم فرارهم ، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم
فالفرار من الموت لا يجدي وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر ، ثم أمر تعالى
المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتابا
ماليّا وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به ، ثم قدم لهم هذا العرض
التفصيلي لحادثة أخرى تحمل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين
الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى : وهو يخاطبهم
في شخص نبيهم صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إيّاك قول أشراف بني
إسرائيل ـ بعد وفاة موسى ـ لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد
سيادتنا ونحكم شريعة ربّنا. ونظرا إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن
لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال : (هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) بتعيين الملك القائد أن لا تقاتلوا!؟ فدفعتهم الحميّة
فقالوا : ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله والحال أنّا قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، وذلك أن العدوّ وهم البابليون لما غزوا
فلسطين بعد أن فسق بنوا إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا
الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا
لاجئين.
وما كان من نبي
الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتا معنويا رجلا منهم هو طالوت
وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى اكثرهم منهزمين قبل القتال ، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا).
__________________
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٤٦) من هذا القصص أمّا الآية الثانية (٢٤٧) فقد تضمنت اعتراض ملإ
بني اسرائيل على تعيين طالوت ملكا عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة ، وأنهم
أحق بهذا المنصب منه ، ورد عليهم نبيّهم حجتهم الباطلة بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ
وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
، وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). كان هذا رد شمويل على قول الملأ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ). وكأنهم لما دمغتهم الحجة وهي أن الله تعالى قد اختار
طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة
الجسم ، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس
وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت طالبوا على عادة
بني إسرائيل في التعنت طالبوا بآية تدل على أن الله حقا اختاره لقيادتهم فقال لهم
الخ وهي الآية (٢٤٨) الآتية.
(وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))
شرح الكلمات :
(نَبِيُّهُمْ) : شمويل.
(آيَةَ مُلْكِهِ) : علامة أن الله تعالى ملكه عليكم.
(التَّابُوتُ) : صندوق خشبي فيه بقية من آثار آل موسى وآل هارون.
(سَكِينَةٌ) : طمأنينة القلب وهدوء نفسي.
__________________
(بَقِيَّةٌ) : بقية الشيء ما تبقى منه بعد ذهاب أكثره وهي هنا رضاض من
الألواح التي تكسرت ، وعصا موسى وشىء من آثار أنبيائهم.
(تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ) : من أرض العمالقة فتضعه بين يدي بني اسرائيل في مخيماتهم.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ) : أي في إتيان التابوت الذي أخذه العدو بالقوة منكم في رده
إليكم علامة قوية على اختيار الله تعالى لطالوت ملكا عليكم.
معنى الآية
الكريمة
قد أصبح بشرح
الكلمات معنى الآية واضحا وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى
لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المغصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر
استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون كرضاض الألواح وعصا
موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه. فكان هذا
التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا لقتال حملوه معهم إلى داخل
المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم ، ومن هنا
وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه
معهم في قتالهم فتسكن به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى
، (أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشائموا بالتابوت
عندهم إذ ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا
التابوت لبني إسرائيل وساق الله أقدارا لأقدار ، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو
فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني اسرائيل فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني
__________________
إسرائيل) فكانت
آية وأعظم آية وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت ، وبسم الله تعالى قادهم وفي الآية
التالية (٢٤٩) بيان السير إلى ساحات القتال.
(فَلَمَّا فَصَلَ
طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا
طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ
وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩))
شرح الكلمات :
(فَصَلَ طالُوتُ) : انفصل من الديار وخرج يريد العدو.
(بِالْجُنُودِ) : العسكر وتعداده ـ كما قيل : سبعون ألف مقاتل.
(مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ) : مختبركم بنهر جار لعله هو نهر الأردن الآن.
(وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ) : لم يشرب منه.
(غُرْفَةً) : الغرفة بالفتح المرة وبالضم الاسم من الاغتراف
(الَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ) : هم الذين لم يشربوا من النهر ، أما من شرب فقد كفر
وأشرك.
__________________
(أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللهِ) : أي يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الآخر
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ) : كم للتكثير والفئة : الجماعة يفيىء بعضها إلى بعض.
(وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) : يسددهم ويعينهم وينصرهم.
معنى الآية :
إنه لما خرج طالوت
بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون
إليه وهم في حرّ شديد وعطش شديد ، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة
واحدة فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن ومن عصى وشرب غير المأذون به فهو الكافر. ولما
وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون كالبهائم إلا قليلا منهم. وواصل طالوت السير
فجاوز النهر هو ومن معه ، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو وكان قرابة مائة ألف
قال الكافرون والمنافقون : (لا طاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فأعلنوا انهزامهم ، وانصرفوا فارين ، وقال المؤمنون
الصادقون وهم الذين قال الله فيهم (قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو وفي الآيتين
التاليتين (٢٥٠) و (٢٥١) بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين
الصادقين قال تعالى :
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا
دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
__________________
بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ
آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))
شرح الكلمات :
(بَرَزُوا لِجالُوتَ) : ظهروا في ميدان المعركة وجالوت قائد قوات العمالقة.
(أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً) : أصبب الصبر في قلوبنا صبّا حتى تمتلىء فلم يبق للخوف
والجزع موضع.
(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) : في أرض المعركة حتى لا ننهزم وذلك بتقوية قلوبنا والشد
من عزائمنا.
(داوُدُ) : هو نبي الله ورسوله داود ، وكان يومئذ غير نبي ولا رسول في جيش طالوت.
(وَآتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) : كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك.
(وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ) : فعلمه صنعة الدروع ، وفهم منطق الطير هو وولده سليمان عليهماالسلام.
(لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) : وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد ، وأهل الكفر على
أهل الإيمان.
معنى الآيات :
لما التقى الجيشان
جيش الإيمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج له داود من جيش طالوت فقتله والتحم الجيشان فنصر الله جيش
طالوت وكان عدد أفراده ثلثمائة وأربعة عشر مقاتلا لا غير لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم لأهل بدر «إنكم على عدة أصحاب طالوت» وكانوا ثلثمائة
وأربعة عشر رجلا فهزم الله جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر
كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت
__________________
كل من النبي شمويل
والملك طالوت قال تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ
جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ).
وختم الله القصة
ذات العبر والعظات العظيمة بقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بالجهاد والقتال ، لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك
والمعاصي ، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضا على بعض ، ويدفع بعضا ببعض
منّة منه وفضلا. كما قال عزوجل (وَلكِنَّ اللهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).
ثم التفت إلى
رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وقال له : تقريرا لنبوته وعلو مكانته تلك آيات الله التي
تقدمت في هذا السياق نتلوها عليك بالحق ، وإنك لمن المرسلين صلىاللهعليهوسلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الجهاد الشرعي
يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية.
٢ ـ يشترط للولاية
الكفاءة وأهم خصائصها العلم ، وسلامة العقل والبدن.
٣ ـ جواز التبرك
بآثار الأنبياء كعمامة النبي أو ثوبه أو نعله مثلا.
٤ ـ جواز اختبار
أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه.
٥ ـ فضيلة الإيمان
بلقاء الله ، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله.
٦ ـ بيان الحكمة
في مشروعية الجهاد ، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل ، لتنتظم
الحياة ويعمر الكون.
__________________
الجزء الثالث
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ
مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما
يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))
شرح الكلمات :
(تِلْكَ الرُّسُلُ) : أولئك الرسل الذين قص الله تعالى على رسوله بعضا منهم
وأخبره أنه منهم في قوله (وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) في الآية قبل هذه.
(مَنْ كَلَّمَ اللهُ) : كموسى عليهالسلام.
(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ) : وهو محمد صلىاللهعليهوسلم حيث فضله تفضيلا على سائر الرسل.
(الْبَيِّناتِ) : المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته.
(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل عليهالسلام كان يقف دائما إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه
الله تعالى إليه.
(اقْتَتَلُوا) : قتل بعضهم بعضا.
(أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ) : النفقة الواجبة وهي الزكاة ، ونفقة التطوع المستحبة.
__________________
(لا بَيْعٌ فِيهِ) : لا يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب.
(وَلا خُلَّةٌ) : أي صداقة تنفع صاحبها.
(وَلا شَفاعَةٌ) : تقبل إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
(وَالْكافِرُونَ) : بمنع الزكاة والحقوق الواجبة لله تعالى ولعباده هم
الظالمون.
معنى الآيتين :
بعد أن قص الله
تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم
ملكا يقودهم إلى الجهاد ، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثا من غير الممكن أن
يعلمها أميّ مثل محمد صلىاللهعليهوسلم بدون ما يتلقّاها وحيا يوحيه الله تعالى إليه وختم القصة
بتقرير نبوته ورسالته بقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) أخبر تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض ، منهم من
فضله بتكليمه كموسى عليهالسلام ومنهم من فضله بالخلّة كإبراهيم عليهالسلام ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ومنهم من آتاه الملك والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليهالسلام ، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وسخر له الجن وعلمه منطق
الطير كسليمان عليهالسلام ، ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح القدس وهو عيسى عليهالسلام. فقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) كنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته ، وبتفضيل أمته
، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته وبتكليمه ومناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم
القيامة. ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد رسلهم ولم
يقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات وذلك لعظيم قدرته ، وحرّية إرادته فهو يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد. هذا بعض ما أفادته الآية الأولى (٢٥٣) أما الآية الثانية (٢٥٤)
فقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين وأمرهم بالانفاق في سبيل الله تقرّبا إليه
وتزودا للقائه قبل يوم القيامة حيث لا
__________________
فداء ببيع وشراء ،
ولا صداقة تجدي ولا شفاعة تنفع ، والكافرون بنعم الله وشرائعه هم الظالمون
المستوجبون للعذاب والحرمان والخسران.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تفاضل الرسل
فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم الله تعالى له من الكمال.
٢ ـ صفة الكلام
لله تعالى حيث كلّم موسى في الطور ، وكلم محمدا في الملكوت الأعلى.
٣ ـ الكفر
والإيمان والهداية والضلال ، والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته.
٤ ـ ذم الاختلاف
في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب.
٥ ـ وجوب الانفاق
في سبيل الله مما رزق الله تعالى عبده.
٦ ـ التحذير من
الغفلة والأخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث لا فداء ولا خلّة تنفع ولا شفاعة ومن
أقوى الأسباب الإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقربا إلى الله تعالى في الجهاد
وغيره.
(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا
يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))
__________________
شرح الكلمات :
(اللهُ) : علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : الإله المعبود ، ولا معبود بحق إلا الله ، إذ هو الخالق
الرزاق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء ، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون
حق فهي باطلة.
(الْحَيُ) : ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة
للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.
(الْقَيُّومُ) : القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليّه ، القائم على
كل نفس بما كسبت.
السنة
: النعاس يسبق
النوم.
(كُرْسِيُّهُ) : الكرسي : موضع القدمين ، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
(يَؤُدُهُ) : يثقله ويشق عليه.
معنى الآية
الكريمة :
لما أخبر تعالى عن
يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون ، أخبر عن
جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال
يوم القيامة فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ) : أي أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. (الْقَيُّومُ) : العظيم القيّوميّة على كل شيء ، لولا قيّوميّته على
الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) : إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال
المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها ، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له
القيومية على
__________________
الخلائق ولا يسعها
حفظا ورزقا وتدبيرا. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) : خلقا وملكا وتصرفا ، (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) : ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض ينفي
أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة.
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : لكمال عجزهم. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) : لكمال ذاته. (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) : ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما وما
بينهما. (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) : العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء ،
العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية هذه الآية :
١ ـ أنها أعظم آية
في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسما لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر ،
وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه
وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
٢ ـ تستحب قراءتها
بعد الصلاة المكتوبة ، وعند النوم ، وفي البيوت لطرد الشيطان.
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))
__________________
شرح الكلمات :
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) : لا يكره المرء على الدخول في الدين ، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره.
(الرُّشْدُ) : الهدى الموصل إلى الإسعاد والإكمال.
(الْغَيِ) : الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران.
(بِالطَّاغُوتِ) : كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو
غيرهما.
(بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(لَا انْفِصامَ لَها) : لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال.
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) : متوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه.
(الظُّلُماتِ) : ظلمات الجهل والكفر.
(النُّورِ) : نور الإيمان والعلم.
(أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ) : المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان
فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل.
معنى الآيتين :
يخبر الله تعالى
بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه ، وذلك حين أراد
بعض الأنصار إكراه من تهوّد أو تنصّر من أولادهم على الدخول في دين الإسلام ، ولذا
فإن أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه
إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة ، أما الوثنيّون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر
فيقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام انقاذا لهم من الجهل والكفر وما لازمهم من الضلال
والشقاء.
ثم أخبر تعالى أنه
بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أوليائه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل ،
وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد استمسك من الدين بأمتن عروة وأوثقها ، ومن يصرّ على الكفر بالله
والإيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت. والله
__________________
سميع لأقوال عباده
عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلا بكسبه. ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده
المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان فيكملون ويسعدون ،
وأن الكافرين أولياؤهم الطاغوت من شياطين الجن والإنس الذين حسنوا لهم الباطل
والشرور ، وزيّنوا لهم الكفر والفسوق والعصيان ، فأخرجوهم بذلك من النور إلى
الظلمات فأهّلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ لا يكره أهل
الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرّون على
دينهم.
٢ ـ الإسلام كلّه رشد ، وما عداه ضلال وباطل.
٣ ـ التخلي عن
الرّذائل مقدّم على التحلي بالفضائل.
٤ ـ معنى لا إله
إلا الله ، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.
٥ ـ ولاية الله
تعالى تنال بالإيمان والتقوى.
٦ ـ نصرة الله
تعالى ورعايته لأوليائه دون أعدائه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(٢٥٨))
__________________
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ) : ألم ينته إلى علمك يا رسولنا ، والاستفهام يفيد التعجب
من الطاغية المحاج لإبراهيم.
(حَاجَ) : جادل ومارى وخاصم.
(فِي رَبِّهِ) : في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق
كلهم.
(آتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ) : أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلاده وديار قومه.
(إِبْراهِيمَ) : هو أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام.
(فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) : انقطع عن الحجّة متحيّرا مدهوشا ذاك الطاغية الكافر وهو
النمرود البابلي.
معنى الآية
الكريمة :
لما ذكر الله
تعالى ولايته لأوليائه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر
مثالا لذلك وهو محاجة النمرود البابلي لإبراهيم عليهالسلام فقال تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم في ربه أي ألم ينته إلى علمك حجاج ذاك الطاغية الذي بطرته نعمة الملك
الذي آتيناه امتحانا له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبينا إنه لأمر عجب. إذ
قال له إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، وأنت لا تحيي ولا تميت فقال أنا أحيي وأميت ، فرد عليه إبراهيم حجته قائلا : ربي يأتي بالشمس من
المشرق فأت بها أنت من المغرب فاندهش وتحير وانقطع وأيد الله وليه إبراهيم فانتصر ، فهذا مثال لإخراج الله تعالى أولياءه من ظلمة الجهل إلى
نور العلم.
__________________
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ النعم تبطر
صاحبها إذا حرم ولاية الله تعالى.
٢ ـ نصرة الله
لأوليائه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم.
٣ ـ إذا ظلم العبد
ووالى الظلم حتى أصبح وصفا له يحرم هداية الله تعالى فلا يهتدي أبدا.
٤ ـ جواز المجادلة
والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة.
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ
بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))
شرح الكلمات :
(قَرْيَةٍ) : مدينة لم يذكر الله تعالى اسمها فلا يبحث عنها لعدم جدوى
معرفتها.
(خاوِيَةٌ) : فارغة من سكانها ساقطة عروشها على مبانيها وجدرانها.
(أَنَّى يُحْيِي) : كيف يحيي .
__________________
(بَعْدَ مَوْتِها) : بعد خوائها وسقوطها على عروشها
(لَبِثْتَ) : مكثت وأقمت.
(لَمْ يَتَسَنَّهْ) : لم يتغير بمر السنين عليه.
(آيَةً) : علامة على قدرة الله على بعث الناس أحياء يوم القيامة.
(نُنْشِزُها) : في قراءة ورش ننشرها بمعنى نحييها بعد موتها. وننشزها
نرفعها ونجمعها لتكون حمارا كما كانت.
معنى الآية :
هذا مثل آخر معطوف
على الأول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولاية الله لإبراهيم حيث أيده بالحجة القاطعة
ونصره على عدوه النمرود قال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المارّ بها
مستبعدا حياتها مرة ثانية : كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته الله
مائة عام ثم أحياه ، وسأله : كم لبثت؟ قال : حسب عادة من نام في يوم واستيقظ فيه
فإنه يرى أنه نام يوما أو بعض يوم. فأجابه مصوّبا له فهمه : بل لبثت مائة عام ،
ولكي تقتنع بما أخبرت به فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين ، وشرابك وكان عصيرا من
عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه وقد مر عليه قرن من الزمن ، وانظر إلى حمارك فإنه
هلك بمرور الزمن ولم يبق منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفنائه
لمرور مائة سنة عليه ، وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحما فإذا هي حمارك
الذي كنت تركبه من مائة سنة ونمت وتركته إلى جانبك يرتع ، وتجلت قدرة الله تعالى
في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد وهو سلة التين وشراب
العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام ، وهو
الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتا لم يعثر
عليه أحد طيلة مائة عام. وقال له الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته
فعلنا هذا بك لنريك قدرتنا على إحياء القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في
قصتك هذه آية للناس ،
__________________
تهديهم إلى
الإيمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الآخر الذي لا ريب فيه لتجزى
كل نفس بما كسبت.
وأخيرا لما لاحت
أنوار ولاية الله في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه خراب القرية فاستبعد
حياتها قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فهذا مصداق قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ).
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ جواز طروء
استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن ، كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية
حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها.
٢ ـ عظيم قدرة
الله تعالى بحيث لا يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير.
٣ ـ ثبوت البعث
الآخر وتقريره.
٤ ـ ولاية الله
تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن
باستبعاده قدرة الله على إحياء القرية ، فأراه الله تعالى من مظاهر قدرته ما صرح
به في قوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))
__________________
شرح الكلمات :
(إِبْراهِيمُ) : هو خليل الرحمن أبو الأنبياء عليهالسلام.
(لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) : يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفيّة.
(فَصُرْهُنَ إِلَيْكَ) : أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.
(سَعْياً) : مشيا سريعا وطيرانا.
(عَزِيزٌ) : غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.
(حَكِيمٌ) : لا يخلق عبثا ولا يوجد لغير حكمة ، ولا يضع شيئا في غير
موضعه اللائق به.
معنى الآية
الكريمة :
هذا مثل ثالث يوجه
الى الرسول والمؤمنين حيث تتجلّى لهم ولايته تعالى لعباده المؤمنين بإخراجهم من
الظلمات إلى النور حتى مجرّد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة الله تعالى ، أو تطلع الى
كيفيّة إيجاد شيء ومعرفة صورته. فقال تعالى : اذكروا (إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). سأل إبراهيم ربّه أن يريه طريقة الإحياء كيف تتم هل هي
جارية على نواميس معيّنة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون ، فسأله ربه
وهو عليم به أتقول الذي تقول ولم تؤمن؟ قال إبراهيم : بلى أنا مؤمن بأنك على كل
شيء قدير ، ولكن أريد أن أرى صورة لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق
إلى معرفة المجهول لدي. فأمره تعالى إجابة له لأنه وليّه فلم يشأ أن يتركه يتطلع
إلى كيفيّة إحياء ربه الموتى ، أمره بأخذ أربعة طيور وذبحها وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضا ثم وضعها على
أربعة جبال على كل جبل ربع الأجزاء المخلوطة ، ففعل ، ثم أخذ برأس كل طير على حدّة
__________________
،
وشاهد قطعهن قوله صار الشيء يصوره إذا قطعه ومنه قول الشاعر :
ودعاه فاجتمعت
اجزاؤه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في
السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربّه العزيز الحكيم. سبحانه لا إله غيره
ولا رب سواه.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ غريزة الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.
٢ ـ ولاية الله
تعالى لإبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمأن به قلبه وسكنت له نفسه.
٣ ـ ثبوت عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء للحساب والجزاء.
٤ ـ زيادة الإيمان
واليقين كلما نظر العبد إلى آيات الله الكونية ، أو قرأ وتدبر آيات الله القرآنية.
(مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ
مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ
حَلِيمٌ (٢٦٣))
__________________
شرح الكلمات :
(مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ) : صفتهم المستحسنة العجيبة.
(سَبِيلِ اللهِ) : كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى من الإيمان وصالح
الأعمال.
(يُضاعِفُ) : يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان.
(مَنًّا وَلا أَذىً) : المنّ : ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدّق بها عليه على وجه
التفضل عليه. والأذى : التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابيه أو التي
تمس كرامته وتحط من شرفه.
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : كلام طيب يقال للسائل المحتاج نحو : الله يرزقنا وإياكم
، الله كريم. الله يفتح علينا وعليك.
(وَمَغْفِرَةٌ) : ستر على الفقير بعدم إظهار فقره ، والعفو عن سوء خلقه إن
كان كذلك.
(غَنِيٌ) : غنى ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبدا.
(حَلِيمٌ) : لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح.
معنى الآيات :
يخبر تعالى مرغبا
في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس لأن العدة أولا والرجال ثانيا ، أن مثل
ما ينفقه المؤمن في سبيل الله وهو هنا الجهاد ، في نمائه وبركته وتضاعفه ، كمثل
حبة برّ بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة
حبة ، وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل الله يضاعف إلى سبعمائة
__________________
ضعف ، وقد يضاعف
إلى أكثر لقوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٦١) وأما الآية الثانية (٢٦٢) فهي تحمل بشرى الله تعالى للمنفقين
في سبيله الذين لا يتبعون ما أنفقوه منّا به ولا أذى لمن أنفقوه عليه بأن لا خوف
عليهم فيما يستقبلونه من حياتهم ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون. وهذه
هي السعادة حيث خلت حياتهم من الخوف والحزن وحل محلها الأمن والسرور. وأخيرا الآية
الثالثة (٢٦٣) وهي (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
....) فإن الله تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح
لها صدره وتطيب لها نفسه خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة
الفقر أكثر ، وألم الحاجة أشد ، ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحتة أو عفو عن سوء
خلقه كإلحاحه في المسألة ، خير أيضا من صدقة يفضح به ويعاتب ويشنع عليه بها. وقوله في آخر الآية : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أي مستغن عن الخلق حليم لا يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل النفقة في
الجهاد وأنها أفضل النفقات.
٢ ـ فضل الصدقات
وعواقبها الحميدة.
٣ ـ حرمة المن
بالصدقة وفي الحديث : «ثلاثة لا يدخلون الجنة ...» وذكر من بينهم المنان.
٤ ـ الرد الجميل
على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه ، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من
الصدقة يتبعها أذى وفي الحديث : «الكلمة الطيبة صدقة».
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ
__________________
تُرابٌ
فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))
شرح الكلمات :
إبطال
الصدقة : الحرمان من ثوابها
المن والأذى : تقدم معناهما.
(رِئاءَ النَّاسِ) : مراءاة لهم ليكسب محمدتهم ، أو يدفع مذمتهم.
(صَفْوانٍ) : حجر أملس.
(وابِلٌ) : مطر شديد.
(صَلْداً) : أملس ليس عليه شيء من التراب.
(لا يَقْدِرُونَ) : يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
معنى الآية :
بعد أن رغّب تعالى
في الصدقات ونبّه إلى ما يبطل أجرها وهو المنّ والأذى نادى عباده المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) ناهيا عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى) مشبها حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن
بالله واليوم الآخر في بطلانها فقال : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ
رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وضرب مثلا لبطلان صدقات من يتبع صدقاته منّا أو أذى أو
يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ
تُرابٌ)
__________________
أي حجر أملس عليه
تراب ، (فَأَصابَهُ وابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عاريا
ليس عليه شيء ، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم
القيامة ، فقال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي مما تصدقوا به ، (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما يسعدهم ويكملهم لأجل كفرانهم به تعالى.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ حرمة المن
والأذى في الصدقات وفسادها بها.
٢ ـ بطلان صدقة
المان والمؤذي والمرائي بهما.
٣ ـ حرمة الرياء
وهي من الشرك لحديث : «إياكم والرياء فإنه الشرك الأضغر».
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))
__________________
شرح الكلمات :
المثل
: الصفة المستملحة
المستغربة.
(ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) : طلبا لرضا الله تعالى.
(تَثْبِيتاً) : تحقيقا وتيقنا بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في
سبيله.
(جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) : بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.
(ضِعْفَيْنِ) : مضاعفا مرتين ، أو ضعفي ما يثمر غيرها.
الوابل
: المطر الغزير
الشديد.
الظل
: المطر الخفيف.
(إِعْصارٌ) : ريح عاصف فيها سموم.
معنى الآيتين :
لما ذكر الله
تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذرا المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغبا في
النفقة التي يريد بها العبد رضا الله وما عنده من الثواب الأخروي فقال ضاربا لذلك
مثلا : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لمرضاته (وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) أي تحققا وتيقنا منهم بأن الله تعالى سيثيبهم عليها مثلهم
في الحصول على ما أمّلوا من رضا الله وعظيم الأجر كمثل جنّة بمكان مرتفع عال
أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها من البساتين ولما كانت هذه الجنة
بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى والمطر اللين الخفيف
كاف في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفا مرتين ، وختم تعالى هذا الكلام الشريف
بقوله : (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتا من أنفسهم بعظم
الأجر وحسن المثوبة ، وأوعد به المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى
والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران.
كان هذا معنى
الآية الأولى (٢٦٥) وأما الآية الثانية (٢٦٦) فإنه تعالى يسائل عباده تربية
__________________
لهم وتهذيبا
لأخلاقهم وسمّوا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أي أيحب أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة الله تعالى أن
يكون له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات والحال
أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخا كبيرا ، ومع هذا العجز فإن له ذريّة صغارا لا
يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم ، وأصاب ذلك البستان الذي هو مصدر عيش الوالد
وأولاده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم فأتت على ذلك البستان فأحرقته ، كيف يكون حال الرجل الكبير وأولاده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء الناس يخسرها
كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار ، وذلك يوم القيامة وأخيرا يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من
الآيات في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها
الى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى : (كَذلِكَ) أي كذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) .
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال تقريبا للمعاني الى الأذهان لينتفع بها.
٢ ـ مضاعفة أجر
الصدقة الخالية من المن والأذى ومراءاة الناس.
٣ ـ بطلان صدقات
المان والمؤذي والمرائي وعدم الانتفاع بشيء منها.
٤ ـ وجوب التفكر
في آيات الله لا سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والأحكام والآداب والأخلاق.
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))
شرح الكلمات :
(مِنْ طَيِّباتِ ما
كَسَبْتُمْ) : من جيّد أموالكم وأصلحها.
(وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : من الحبوب وأنواع الثمار.
(وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ) : لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.
(إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ) : إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه
بتساهل منكم وتسامح.
(حَمِيدٌ) : محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض
ويفيض من النعم على خلقه.
(يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) : يخوفكم من الفقر ليمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
(وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ) : يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح.
(الْحِكْمَةَ) : فهم أسرار الشرع ، وحفظ الكتاب والسنّة.
(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها.
__________________
معنى الآيات :
بعد ما رغب تعالى
عباده المؤمنين في الانفاق في سبيله في الآية السّابقة ناداهم هنا بعنوان الإيمان
وأمرهم بإخراج زكاة أموالهم من جيد ما يكسبون فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ،
وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يريد الحبوب والثمار كما أن ما يكسبونه يشمل النقدين
والماشية من إبل وبقر وغنم ، ونهاهم عن التصدق بالرّديء من أموالهم فقال : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يريد لا ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم لو اعطيتموه في
حق لكم ما كنتم لتقبلوه لو لا أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله ، وهذا منه تعالى
تأديب لهم وتربية. وأعلمهم أخيرا أنه تعالى غنّي عن خلقه ونفقاتهم فلم يأمرهم
بالزكاة والصدقات لحاجة به ، وإنما أمرهم بذلك لإكمالهم وإسعادهم ، وأنه تعالى
حميد محمود بماله من إنعام على سائر خلقه كان هذا معنى الآية (٢٦٧) أما الآية (٢٦٨)
فإنه تعالى يحذر عباده من الشيطان ووساوسه فأخبرهم أن الشيطان يعدهم الفقر أي يخوفهم منه حتى لا يزكوا ولا يتصدقوا ويأمرهم بالفحشاء
فينفقون أموالهم في الشر والفساد ويبخلون بها في الخير ، والصالح العام أما هو
تعالى فإنه بأمره إياهم بالإنفاق يعدهم مغفرة ذنوبهم لأن الصدقة تكفر الخطيئة ،
وفضلا منه وهو الرزق الواسع الحسن ، وهو الواسع الفضل العليم بالخلق. فاستجيبوا
أيها المؤمنون لنداء الله تعالى ، وأعرضوا عن نداء الشيطان فإنه عدوكم لا يعدكم
إلا بالشر ، ولا يأمركم إلا بالسوء والباطل ، كان هذا ما تضمنته الآية الثانية أما
الآية الثالثة (٢٦٩) فإن الله تعالى يرغّب في تعلّم العلم النافع ، العلم الذي
يحمل على العمل الصالح ، ولا يكون ذلك إلا علم الكتاب والسنة حفظا وفهما وفقها
فيهما فقال
__________________
تعالى : (يُؤْتِي) أي هو تعالى (الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ممن طلبها وتعرض لها راغبا فيها سائلا الله تعالى أن يعلمه
، وأخبر أخيرا أن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فليطلب العاقل الحكمة قبل طلب الدنيا هذه تذكرة (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الزكاة
في المال الصامت من ذهب وفضة وما تقوم مقامهما من العمل وفي الناطق من الإبل
والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله : (ما كَسَبْتُمْ) وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.
٢ ـ وجوب الزكاة
في الحرث : الحبوب والثمار وذلك فيما بلغ نصابا ، وكذا في المعادن إذ يشملها لفظ
الخارج من الأرض. ٣ ـ قبح الإنفاق من الرديء وترك الجيد.
٤ ـ التحذير من
الشيطان ووجوب مجاهدته بالإعراض عن وساوسه ومخالفة أوامره.
٥ ـ إجابة نداء
الله والعمل بإرشاده. ٦ ـ فضل العلم على المال.
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))
__________________
شرح الكلمات :
(مِنْ نَفَقَةٍ) : يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء.
(مِنْ نَذْرٍ) : النذر التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع ، كأن يقول : لله
علىّ أن أتصدق بألف ؛ أو أصوم شهرا أو أصلي كذا ركعة أو يقول : إن حصل لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات.
(إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ) : أي تظهروها.
(فَنِعِمَّا هِيَ) : فنعم تلك الصدقة التي أظهرتموها ليقتدى بكم فيها.
(وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ
مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) : يكفر بمعنى يسترها ولا يطالب بها ، ومن للتبعيض إذ حقوق
العباد لا تكفرها الصدقة.
معنى الآية
الكريمة :
بعد ما دعا تعالى
عباده إلى الإنفاق في الآية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده فإن كان
المنفق جيدا صالحا يعلمه ويجزي به وإن كان خبيثا رديئا يعلمه ويجزي به وقال تعالى
مخاطبا عباده المؤمنين : (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فما كان مبتغى به وجه الله ومن جيد المال فسوف يكفر به
السيئات ويرفع به الدرجات ، وما كان رديئا ونذرا لغير الله تعالى فإن أهله ظالمون
وسيغرمون أجر نفقاتهم ونذورهم لغير الله ولا يجدون من يثيبهم على شيء منها لأنهم
ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها ، (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ). هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٧٠).
__________________
أما الآية الثانية
(٢٧١) فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علنا
وجهرة هو مال رابح ، ونفقة مقبولة ، يثاب عليها صاحبها ، إلا أنّ ما يكون من تلك
النفقات سرا ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيرا لصاحبه لبعده من شائبة الرياء ،
ولإكرام الفقراء ، وعدم تعريضهم لمذلة التصدق عليهم وأنه تعالى يكفّر عن المنفقين
سيئاتهم بصدقاتهم ، وأخبر أنه عليم بأعمالهم فكان هذا تطمينا لهم على الحصول على
أجور صدقاتهم ، وسائر أعمالهم الصالحة.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ الترغيب في
الصدقات ولو قلّت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الأموال.
٢ ـ جواز إظهار
الصدقة عند سلامتها من الرياء.
٣ ـ فضل صدقة
السّر وعظم أجرها ، وفي الحديث الصحيح : «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه». ذكر من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ
أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
__________________
لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))
شرح الكلمات :
(هُداهُمْ) : هدايتهم إلى الإيمان وصالح الأعمال.
(مِنْ خَيْرٍ) : من مال.
(فَلِأَنْفُسِكُمْ) : ثوابه العاجل بالبركة وحسن الذكر والآجل يوم القيامة
عائد على أنفسكم.
(يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) : يرد أجره كاملا لا ينقص منه شيء.
(أُحْصِرُوا) : حبسوا ومنعوا من التصرف لأنهم هاجروا من بلادهم.
(ضَرْباً فِي
الْأَرْضِ) : أي سيرا فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو
لهم.
(بِسِيماهُمْ) : علامات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه.
(مِنَ التَّعَفُّفِ) : ترك سؤال الناس ، والكف عنه.
(إِلْحافاً) : إلحاحا وهو ملازمة السائل من يسأله حتى يعطيه.
معنى الآيات :
لما أمر تعالى
بالصدقات ورغب فيها وسألها غير المؤمنين من الكفار واليهود فتحرج الرسول
__________________
والمؤمنون من
التصدق على الكافرين فأذهب الله تعالى عنهم هذا الحرج وأذن لهم بالتصدق على غير
المؤمنين والمراد من الصدقة صدقة التطوع لا الواجبة وهي الزكاة فقال تعالى مخاطبا
رسوله وأمته تابعة له : (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ) لم يوكل إليك أمر هدايتهم لعجزك عن ذلك وإنما الموكل إليك
بيان الطريق لا غير وقد فعلت فلا عليك أن لا يهتدوا ، ولو شاء الله هدايتهم لهداهم
، وما تنفقوا من مال تثابوا عليه ، سواء كان على مؤمن أو كافر إذا أردتم به وجه
الله وابتغاء مرضاته ، وأكّد تعالى هذا الوعد الكريم بقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ) والحال أنكم لا تظلمون بنقص ما أنفقتم ولو كان النقص
قليلا. كان هذا معنى الآية الأولى (٢٧٢) أما الآية الثانية وهي : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ ...)
فقد بين تعالى
فيها أفضل جهة ينفق فيها المال ويتصدق به عليها وهي فقراء المهاجرين الذين أخرجوا
من ديارهم وأموالهم وأحصروا في المدينة بجوار رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة ولا للعمل ، ووصفهم
تعالى بصفات يعرفهم بها رسوله والمؤمنون ولولا تلك الصفات لحسبهم لعفتهم وشرف
نفوسهم الجاهل بهم أغنياء غير محتاجين فقال تعالى : (يَحْسَبُهُمُ
الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) لا يسألون الناس مجرد سؤال فضلا عن أن يلحّوا ويلحفوا. ثم في نهاية الآية أعاد
تعالى وعده الكريم بالمجازاة على ما ينفق في سبيله فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ولازمه أن يثيبكم عليه أحسن ثواب فأبشروا واطمئنوا.
وأما الآية
الثالثة (٢٧٤) فهي آخر آيات الدعوة إلى الانفاق جاءت تحمل أعظم بشر للمنفقين في كل
أحوالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية بأن أجر نفقاتهم مدخر لهم عند ربهم يتسلمونه
يوم يلقونه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والبرزخ والآخرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ جواز التصدق
على الكافر المحتاج بصدقة التطوع لا الزكاة فإنها حق المؤمنين.
__________________
٢ ـ ثواب الصدقة
عائد على المتصدق لا على المتصدق عليه فلذا لا يضر إن كان كافرا.
٣ ـ وجوب الإخلاص
في الصدقة أي يجب أن يراد بها وجه الله تعالى لا غير.
٤ ـ تفاضل أجر
الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدق عليه.
٥ ـ فضيلة التعفف
وهو ترك السؤال مع الاحتياج ، وذم الإلحاح في الطلب من غير الله تعالى أما الله عزوجل فإنه يحب الملحين في دعائه.
٦ ـ جواز التصدق
بالليل والنهار وفي السر والعلن إذ الكل يثيب الله تعالى عليه ما دام قد أريد به
وجهه لا وجه سواه.
٧ ـ بشرى الله
تعالى للمؤمنين المنفقين بادخار أجرهم عنده تعالى ونفي الخوف والحزن عنهم مطلقا.
(الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٢٧٧))
__________________
شرح الكلمات :
(يَأْكُلُونَ الرِّبا) : يأخذونه ويتصرفون فيه بالأكل في بطونهم ، وبغير الأكل
والربا هنا ربا النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر
على تسديده تقول له : أخر وزد فتؤخره أجلا وتزيد في رأس المال قدرا معينا ، هذا هو
ربا الجاهلية والعمل به اليوم في البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغا الى أجل
ويزيدون قدرا آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع
وسواء كان ربا فضل أو ربا نسيئة.
(لا يَقُومُونَ) : من قبورهم يوم القيامة.
(يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) : يضربه الشيطان ضربا غير منتظم.
(مِنَ الْمَسِ) : المس الجنون ، يقال : بفلان مسّ من جنون.
(مَوْعِظَةٌ) : أمر أو نهي بترك الربا.
(فَلَهُ ما سَلَفَ) : ليس عليه أن يرد الأموال التي سبقت توبته.
(يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) : أي يذهبه شيئا فشيئا حتى لا يبقى منه شيء كمحاق القمر
آخر الشهر.
(وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) : يبارك في المال الذي أخرجت منه ، ويزيد فيه ، ويضاعف
أجرها أضعافا كثيرة.
(كَفَّارٍ أَثِيمٍ) : الكفار : شديد الكفر ، يكفر بكل حق وعدل وخير ، أثيم :
منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها.
__________________
معنى الآيتين :
لما حث الله على
الصدقات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضاعفة الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون
مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدّون طرق البر ، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل
أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات ، فذكر تعالى حالهم عند القيام من
قبورهم وهم يقومون ، ويقعدون ، ويغفون ويصرعون ، حالهم حال من يصرع في الدنيا بمس الجنون ، علامة
يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم
قال تعالى : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ، وذكر تعالى سبب هذه النقمة عليهم فقال (ذلِكَ) أي أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردّوا علينا حكمنا
بتحريم الربا وقالوا انما البيع مثل الربا ، إذ الربا الزيادة في نهاية الأجل ،
والبيع في أوله ، ورد تعالى عليهم فقال : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا) فما دام قد حرم الربا فلا معنى للاعتراض ، ونسوا أن
الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص ، وهي جارية على قانون الإذن في
التجارة ، وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط. ثم قال تعالى مبّينا
لعباده سبيل النجاة محذرا من طريق الهلاك : (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه فانتهى عنه فله ما سلف
قبل معرفته للتحريم ، أو قبل توبته منه ، وأمره بعد ذلك إلى الله إن شاء ثبته على
التوبة فنجاه ، وإن شاء خذله لسوء عمله ، وفساد نيّته فأهلكه وأرداه وهذا معنى
قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). أخبر تعالى أنه بعدله يمحق الربا ، وبفضله يربي الصدقات ، وأنه لا يحب كل كفار لشرع
الله وحدوده ، أثيم بغشيانه الذنوب وارتكابه المعاصي. كان هذا معنى الآية الأولى (٢٧٥)
أما الآية الثانية (٢٧٦) فهي وعد رباني صادق وبشرى الهية سارة لكل من آمن وعمل
صالحا وأقام الصلاة على الوجه الذي تقام به وآتى الزكاة بأنّ له أجره واف عند ربّه
يتسلمه يوم الحاجة إليه في عرصات القيامة وأنه لا يخاف مما يستقبله في الحياة
الدنيا والآخرة ولا يحزن أيضا في الدنيا ولا في الآخرة.
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان عقوبة
آكل الربا يوم القيامة لاستباحتهم الربا وأكلهم له وعدم التوبة منه.
٢ ـ تحريم الربا
وكل مال حرام لما جاء في الآية من الوعيد الشديد.
٣ ـ صفة الحب لله
تعالى وأنه تعالى يحب أولياءه وهم أهل الإيمان به وطاعته ويكره أعداءه وهم أهل
الكفر به ومعاصيه من أكل الربا وغيره من كبائر الذنوب.
٤ ـ حلية البيع إن
تم على شروطه المبيّنة في كتب الفقه.
٥ ـ من تاب من
الربا تقبل توبته ، ويحل له ما أفاده منه قبل التوبة بشرط سيأتي في الآيات بعد
هذه.
٦ ـ وعيد الله
تعالى بمحق الربا ووعده بإرباء الصدقة.
٧ ـ بشرى الله
تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح مع إقامتهم للصلاة وإيتائهم للزكاة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٢٨١))
شرح الكلمات :
(اتَّقُوا اللهَ) : خافوا عقابه بطاعته بأن تجعلوا طاعته وقاية تقيكم غضبه
وعقابه.
__________________
(وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا) : اتركوا ما بقي عندكم من المعاملات الربويّة.
(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) : اعلموا بحرب من الله ورسوله واحملوا سلاحكم ولا ينفعكم سلاح فإنكم المهزومون الهالكون.
(فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ) : بعد التوبة مالكم إلا رأس المال الذي عند المدين لكم
فخذوه واتركوا زيادة الربا.
العسرة
: الشدة والضائقة
المالية.
(فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ) : أي انتظار للمدين إلى أن ييسر الله عليه فيعطيكم رأس
مالكم الذي أخذه منكم.
(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) : وأن تتصدقوا على المعسر بترك ما لكم عليه فذلك خير لكم.
معنى الآيات :
بمناسبة ذكر عقوبة
آكلي الربا في الآيات السابقة نادى الله تعالى عباده المؤمنين آمرا إياهم بتقواه
تعالى ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملات
الربويّة مذكرا إياهم بايمانهم إذ من شأن المؤمن الاستجابة لنداء ربه وفعل ما
يأمره به وترك ما ينهاه عنه فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) ، ثم هدد المتباطئين بقوله : فإن لم تفعلوا فاعلموا بحرب قاسية ضروس من الله ورسوله ، ثم بيّن لهم طريق التوبة
وسبيل الخلاص من محنة الربا وفتنته بقوله : وإن تبتم بترك الربا فلكم رؤوس أموالكم لا غير لا تظلمون بأخذ زيادة ، ولا تظلمون بنقص من
رأس مالكم. وإن وجد مدين لكم في حالة إعسار فالواجب انتظاره إلى ميسرته ، وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن ديونكم
كلّها تطهيرا لأموالكم التي لامسها الربا وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة. ثم ذكر
تعالى سائر عباده بيوم القيامة وما فيه من أهوال ومواقف
__________________
صعبة حيث يتم
الحساب الدقيق وتجزى فيه كل نفس مؤمنة أو كافرة بارة أو فاجرة ما كسبته من خير وشر
وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم فقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وهذا التوجيه الذي حملته هذه الآية ذات الرقم (٢٨٠) آخر
توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى إذ هذه آخر ما نزل من السماء على رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب التوبة
من الربا ومن كل المعاصي.
٢ ـ المصر على
المعاملات الربوية يجب على الحاكم أن يحاربه بالضرب على يديه حتى يترك الربا.
٣ ـ من تاب من
الربا لا يظلم بالأخذ من رأس ماله بل يعطاه وافيا كاملا إلا أن يتصدق بالتنازل عن
ديونه الربوية فذلك خير له حالا ومآلا.
٤ ـ وجوب ذكر
الدار الآخرة والاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح وترك الربا والمعاصي.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ
كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ
كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
__________________
أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا
الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً
حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))
شرح الكلمات :
(تَدايَنْتُمْ) : داين بعضكم بعضا في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
(بِالْعَدْلِ) : بلا زيادة ولا نقصان ولا غش أو احتيال بل بالحق
والإنصاف.
(وَلا يَأْبَ) : لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُ) : لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
(وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً) : لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره
كله.
__________________
(سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً) : السفيه : الذي لا يحسن التصرفات المالية ، والضعيف : العاجز
عن الإملاء كالأخرس ، أو الشيخ الهرم.
(وَلِيُّهُ) : من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.
(مِنْ رِجالِكُمْ) : أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار.
(أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) : تنسى أو تخطىء لقصر إدراكها.
(وَلا تَسْئَمُوا) : لا تضجروا أو تملّوا من الكتابة ولو كان الدين صغيرا
مبلغه.
(أَقْسَطُ عِنْدَ
اللهِ) : أعدل في حكم الله وشرعه.
(وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ) : أثبت لها وأكثر تقريرا لأن الكتابة لا تنسى والشهادة
تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.
(وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا) : أقرب أن لا تشكّوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.
(تُدِيرُونَها
بَيْنَكُمْ) : أي تتعاطونها ، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي
النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
(وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) : إذا باع أحد أحدا دارا أو بستانا أو حيوانا يشهد على ذلك
البيع.
(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ) : بأن يكلف مالا يقدر عليه بأن يدعى ليشهد في مكان بعيد
يشق عليه أو يطلب إليه أن يكتب زورا أو يشهد به.
(فُسُوقٌ بِكُمْ) : أي خروج عن طاعة ربكم لا حق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم
القيامة.
(اتَّقُوا اللهَ) : في أوامره فافعلوها ، وفي نواهيه فاتركوها ، وكما علمكم
هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم ، وسيجزيكم بها وهو
بكل شيء عليم.
__________________
معنى الآية
الكريمة :
لما حث تعالى على
الصدقات ، وحرم الربا ، ودعا إلى العفو على المعسر ، والتصدّق عليه بإسقاط الدين
الأمر الذي قد يتبادر الى الذهن أنّ المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه
الآية ، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقّه ، وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة
فقررت واجب الحفاظ عليه ، وذلك بكتابة الديون ، والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم ،
وكون الشهود رجلين مسلمين حرّين ، فإن انعدم رجل من الاثنين قامت إمرأتان مقامه ، واستحث الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من
أمره ، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخّلوا عنها ، وحرم على
المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة فقال تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي
يدفع فيها السلعة في المجلس ، ويقبض الثمن فيه فقال : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ..) وأمر بالإشهاد على البيع فقال : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ..) ونهى عن الإضرار بالكاتب ، أو الشهيد ، بأن يلزم الكاتب أن
يكتب إذا كان في شغله ، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله ، أو أن
يدعى الى مسافات بعيدة تشقّ عليه إذ أمره تطوع ، وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد
غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذّر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في
الكتابة ، والإضرار بالكاتب والشهيد فقال : (وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ..) وأكّد ذلك بأمره بتقواه فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ ..) بامتثال أمره ، ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا
العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...)
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ وجوب كتابة
الديون سواء كانت بيعا ، أو شراء ، أو سلفا ، أو قرضا هذا ما قرره ابن جرير ،
__________________
ورد القول
بالإرشاد والندب .
٢ ـ رعاية النعمة
بشكرها لقوله تعالى للكاتب : كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره
منها.
٣ ـ جواز النيابة
في الإملاء لعجز عنه ، وعدم قدرة عليه.
٤ ـ وجوب العدل
والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
٥ ـ وجوب الإشهاد
على الكتابة لتأكّدها به ، وعدم نسيان قدر الدّين وأجله.
٦ ـ شهود المال لا يقلّون عن رجلين عدلين من الأحرار المسلمين لا غير ، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض
شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
٧ ـ الحرص على
كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيرا تافها.
٨ ـ الرخصة في عدم
كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
٩ ـ وجوب الإشهاد
على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
١٠ ـ حرمة الإضرار
بالكاتب والشهيد.
١١ ـ تقوى الله
تعالى تسبب العلم ، وتكسب المعرفة بإذن الله تعالى.
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
__________________
وَما
فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))
شرح الكلمات :
السفر
: الخروج من الدار
والبلد ظاهرا بعيدا بمسافة أربعة برد فأكثر.
(وَلَمْ تَجِدُوا
كاتِباً) : من يكتب لكم ، أو لم تجدوا أدوات الكتابة من دواة وقلم.
(فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) : فاعتاضوا عن الكتابة الرهن فليضع المدين رهنا لدى
الدائن.
(فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : فلا حاجة الى
الرهن.
فليؤد
المؤتمن أمانته : أي فليعط الدين الذي أوتمن عليه حيث تعذّرت الكتابة ولم يأخذ دائنه منه رهنا
على دينه.
(آثِمٌ قَلْبُهُ) : لأن الكتمان من عمل القلب فنسب الإثم الى القلب.
(وَإِنْ تُبْدُوا) : تظهروا.
معنى الآيتين :
لما أمر تعالى
بالاشهاد والكتابة في البيوع والسّلم والقروض في الآيات السّابقة أمر هنا ـ عند
تعذّر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر ـ أمر بالاستعاضة عن
الكتابة بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهنا لدى دائنه عوضا عن الكتابة يستوثق به
دينه هذا في حال عدم ائتمانه ، والخوف منه ، وأمّا إن أمن بعضهم بعضا فلا بأس بعدم
الارتهان فقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ..) والرهان جمع رهن . وقال (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فلم تأخذوا رهانا (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في ذلك. ثم
__________________
نهى تعالى نهيا
جازما الشهود عن كتمان شهادتهم فقال : (وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهادَةَ ..) وبيّن تعالى عظم هذا الذنب فقال : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ ...) وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه ، وهو تهديد
ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها. هذا معنى الآية
الأولى (٢٨٣) أما الآية الثانية (٢٨٤) فإنه تعالى قد أخبر بأن له جميع ما في
السموات ، وجميع ما في الأرض خلقا وملكا وتصرفا ، وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في
نفسه من خير أو شر أو يخفه يحاسب به ، ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من
أهل الإيمان والتقوى ، ويعذب من يشاء من أهل الشرك والمعاصي ، له كامل التصرف ،
لأنّ الجميع خلقه وملكه وعبيده.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ جواز أخذ
الرهن في السفر والحضر توثيقا من الدائن لدينه.
٢ ـ جواز ترك أخذ
الرهن إن حصل الأمن من سداد الدين وعدم الخوف منه.
٣ ـ حرمة كتمان
الشهادة والقول بالزور فيها وأن ذلك من أكبر الكبائر كما في الصحيح.
٤ ـ محاسبة العبد
بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء الله وحب لأعدائه
، ومؤاخذته بذلك ، والعفو عن الهمّ بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب والبغض
من المؤمن الصادق الإيمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة : «إن الله تجاوز لي عن
أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل».
(آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا
__________________
وَأَطَعْنا
غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا
طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))
شرح الكلمات :
(آمَنَ) : صدق جازما بصحة الخبر ولم يتردد أو يشك فيه قط.
(الرَّسُولُ) : نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم.
(كُلٌ) : كل من الرسول والمؤمنين.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) : نؤمن بهم جميعا ولا نكون كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ،
ونكفر ببعض.
(سَمِعْنا) : سماع فهم واستجابة وطاعة.
(الْمَصِيرُ) : المرجع أي رجوعنا إليك يا ربنا فاغفر لنا.
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً) : التكليف الإلزام مما فيه كلفة ومشقة تحتمل.
(إِلَّا وُسْعَها) : إلا ما تتسع لها طاقتها ويكون في قدرتها.
(لَها ما كَسَبَتْ) : من الخير.
(وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ) : من الشر.
__________________
(لا تُؤاخِذْنا) : لا تعاقبنا.
(إِنْ نَسِينا) : فتركنا ما أمرتنا به أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسيانا منا
غير عمد.
(أَوْ أَخْطَأْنا) : فعلنا غير ما أمرتنا خطأ منا بدون إرادة فعل منا له ولا
عزيمة.
(إِصْراً) : تكليفا شاقا يثقل علينا ويأسرنا فيحبسنا عن العمل.
(مَوْلانا) : مالكنا وسيدنا ومتولي أمرنا لا مولى لنا سواك.
معنى الآيتين :
ورد أنه لما نزلت
الآية (٢٨٤) (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ ..) وفيها (... وَإِنْ تُبْدُوا
ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ..) اضطربت لها نفوس المؤمنين ، وقالوا من ينجو منا إذا كنا
نؤاخذ بما يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صلىاللهعليهوسلم بالرضا بحكم الله تعالى والتسليم به فقال لهم : قولوا
سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كاليهود : (قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا ...) فلما قالوها صادقين أنزل الله تعالى هاتين الآيتين : (آمَنَ الرَّسُولُ ...) فأخبر عن ايمانهم مقرونا بإيمان نبيهم تكريما لهم وتطمينا
فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
..) وأخبر عنهم بقولهم الذي كان سبب استجابة الله تعالى لهم
فقال عنهم : (... وَقالُوا
سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
وأخبرهم تعالى أنه
لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه لا يكلف نفسا إلا ما تتسع له طاقتها وتقدر على
فعله ، وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيرا وعليها ما اكتسبت من الشر فتجزى به
شّرا إلا أن يعفو عنها ويغفر لها فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ..)
وعلمهم كيف يدعونه
ليقول لهم قد فعلت ، كما صح به الخبر فقال قولوا : (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا
طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وفعلا
__________________
قد عفا عنهم في
النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج ، وعفا عنهم
وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان
فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تقرير أركان
الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.
٢ ـ وجوب الإيمان
بكافة الرسل وحرمة الإيمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بالله تعالى.
٣ ـ وجوب طاعة
الله ورسوله والتسليم والرضا بما شرع الله ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك.
٤ ـ رفع الحرج عن هذه الأمة رحمة بها.
٥ ـ عدم المؤاخذة
بالنسيان أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فلا إثم عليه أو
أخطأ فقتل فلا إثم عليه.
٦ ـ العفو عن حديث
النفس لنزول الآية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل.
٧ ـ تعليم هذا
الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وقد ورد من قرأ هاتين الآيتين عند النوم كفتاه (آمَنَ الرَّسُولُ
....) السورة.
سورة آل عمران
مدنية
وآياتها مائتا آية
بلا خلاف
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(الم (١) اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ
__________________
بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ
قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦))
شرح الكلمات :
(الم) : تقدم الكلام على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك.
(اللهُ) : المعبود بحق .
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق سواه.
(الْحَيُ) : ذو الحياة المستلزمة للارادة والعلم والسمع والبصر
والقدرة.
(الْقَيُّومُ) : القيّم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.
(الْكِتابَ) : القرآن.
(بِالْحَقِ) : متلبّسا به إذ كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من
الوجوه.
(مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) : من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها لأن مصدر الجميع
واحد هو الله تعالى.
(التَّوْراةَ) : كتاب موسى عليهالسلام ومعناه بالعبرية الشريعة.
__________________
(الْإِنْجِيلَ) : كتاب عيسى عليهالسلام ومعناه باليونانية : التعليم الجديد.
(الْفُرْقانَ) : ما فرق الله به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية
والمعجزات الإلهية والعقول النيّرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود
والهوى.
(يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ) : التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل ، والأرحام
جمع رحم : مستودع الجنين.
معنى الآيات :
أخرج ابن جرير
الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد نجران والمكون من ستين راكبا فيهم أشرافهم وأهل الحلّ
والعقد منهم ، وفدوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحاجّونه في أمر المسيح عليهالسلام ويريدون أن يثبتوا الهيّته بالادعاء الباطل فأنزل الله
تعالى نيّفا وثمانين آية من فاتحة السورة آلم إلى ما يقارب الثمانين. وذلك ردا
لباطلهم ، وإقامة للحجة عليهم ، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحا جليّا في
السياق القرآنى في هذه الآيات.
فقد قال تعالى (الم ، اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فأخبر أنه تعالى لا معبود بحق إلا هو ، فأبطل عبادة المسيح
عليهالسلام وعبادة كل معبود سوى الله تعالى من سائر المعبودات ، وقال
الحيّ القيوم فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره وهو كونه تعالى حيّا أزلا
وأبدا وكل حيّ غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء ، فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عزوجل والمسيح عليهالسلام مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء فكيف يكون إلها؟ وقال تعالى
القيوم أى القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية والحفظ والتدبير والرزق ، وما
عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلها مع الله؟ ودليل ذلك أنه نزل
عليك الكتاب : القرآن بالحق مصحوبا به ليس فيه
__________________
من الباطل شيء
فآياته كلها مثبتة للألوهية لله نافية لها عما سواه ، فكيف يكون المسيح إلها مع
الله أو يكون هو الله ، أو ابن الله كما يزعم نصارى نجران وغيرهم من نصارى اليونان
والرومان وغيرهم نزله مصدقا لما بين يديه من الكتب التى سبقته لا يخالفها ولا
يتناقض معها فدل ذلك أنه وحى الله ، وأنزل من قبله التوراة والإنجيل هدى للناس
وأنزل الفرقان ففرق به بين الحق والباطل في كل ما يلبس أمره على الناس
فتبين أن الرب الخالق الرازق المدبر للحياة المحييى المميت الحى الذى لا يموت هو
الإله الحق وما عداه مربوب مخلوق لا حق له في الألوهية والعبادة وإن شفى مريضا أو
أنطق أبكم أو أحيا ميتا بإذن الله تعالى فإن ذلك لا يؤهله لأن يكون إلها مع الله
كعيسى بن مريم عليهالسلام فإن ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء بعض الموتى
كان بقدرة الله وإذنه بذلك لعيسى وإلا لما قدر على شيء من ذلك شأنه شأن كل عباد
الله تعالى ، ولما رد الوفد ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكد بذلك
كفرهم فتوعدهم الرب تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ
، وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) وهذا وعيد شديد لكل من كذب بآيات الله وجحد بالحق الذى
تحمّله من توحيد الله تعالى ووجوب طاعته وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فلو كان هناك من يستحق الألوهية معه لعلمه وأخبر عنه ، كما
قرر بهذه الجملة أن عزته تعالى لا ترام وأنه على الانتقام من أهل الكفر به لقدير. وذكر
دليلا آخر على بطلان ألوهية المسيح فقال : (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) وعيسى عليهالسلام قد صوّر في رحم مريم فهو قطعا ممن صور الله تعالى فكيف
يكون إذا إلها مع الله أو إبنا لله كما يزعم النصارى؟ وهنا قرر الحقيقة فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) فالعزّة التى لا ترام والحكمة التى لا تخطىء هما مقتضيات
ألوهيته الحقة التى لا يجادل فيها إلا مكابر ولا يجاحد فيها إلا معاند كوفد نصارى
نجران ومن على شاكلتهم من أهل الكفر والعناد.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير ألوهية
الله تعالى بالبراهين ونفي الألوهية عن غيره من سائر خلقه.
٢ ـ ثبوت رسالة
النبي محمد صلىاللهعليهوسلم بإنزال الله تعالى الكتاب عليه.
٣ ـ إقامة الله
تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها ببيان الحق والباطل في كل شؤون
الحياة.
٤ ـ بطلان ألوهية
المسيح لأنه مخلوق مصور في الأرحام كغيره صوره الله تعالى على ما شاء فكيف يكون
بعد ذلك إلها مع الله أو ابنا له تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))
__________________
شرح الكلمات :
(مُحْكَماتٌ) : الظاهرة الدلالة البيّنة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى
واحدا ، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود ، وعبادات ، وعبر وعظات.
(مُتَشابِهاتٌ) : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخين
في العلم القول فيها وهي كفواتح السور ، وكأمور الغيب . ومثل قول الله تعالى في عيسى عليهالسلام : (..... وَكَلِمَتُهُ
أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ ..) وكقوله تعالى : (.. إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ ، ..).
(فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ) : الزيغ : الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
(ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ) : أي طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
(ابْتِغاءَ
تَأْوِيلِهِ) : طلبا لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
(وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
(الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في
معرفة الحق فلا يزلّون ولا يشتطّون في شبهة أو باطل.
(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) : أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعا.
(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.
(رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا) : أي لا تمل قلوبنا عن الحق بعد ما هديتنا إليه وعرّفتنا
به فعرفناه.
(هَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ) : أعطنا من عندك رحمة.
__________________
معنى الآيات :
ما زال تعالى يقرر
ربوبيته وألوهيته ونبوّة رسوله ويبطل دعوى نصارى نجران في ألوهية المسيح عليهالسلام فيقول : هو أي الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب ،
أي القرآن ، منه آيات محكمات ، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في
دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمّه وأصله ، ومنه آيات أخر
متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار كالامتحان بالحلال
والحرام ، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته ، ويزيغ في
إيمانه ويضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ ..) أي ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث
ادعوا أن الله ثالث ثلاثة لأنه يقول نخلق ونحيي ، ونميت وهذا كلام جماعة فأكثر ،
وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى : (.. وَرُوحٌ مِنْهُ ..) أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى (.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ..)
فلا يجوز لأحد أن
يحكم في شيء وكفروا عليّا وخرجوا عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على
ومعاوية وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم
فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا
هو سبحانه وتعالى. وأن الراسخين في العلم يفوّضون أمره إلى الله منزله فيقولون : (.. آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ، ويسألون ربهم الثبات
__________________
على الحق فيقولون
: (.. رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ..)
ترحمنا بها في
دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب ، لا إله غيرك ولا ربّ سواك ، ويقررون مبدأ
المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين (رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ
حيث آمنا بك وبرسولك وبكتابك محكم آيه ومتشابهه ، إنك لا تخلف الميعاد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ في كتاب الله
المحكم والمتشابه ، فالمحكم يجب الإيمان به والعمل بمقتضاه ، والمتشابه يجب
الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال : (.. آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ..).
٢ ـ أهل الزيغ
الذين يتبعون ما تشابه يجب هجرانهم والإعراض عنهم لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
٣ ـ استحباب
الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزّيغ ورؤية الفتن والضلال.
٤ ـ تقرير مبدأ
المعاد والدار الآخرة.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ
__________________
وَتُحْشَرُونَ
إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
شرح الكلمات :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) : هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون.
(لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ) : لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب الله إذا حلّ بهم.
(وَقُودُ النَّارِ) : الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز.
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ) : كعادتهم وسنتهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في
الدنيا والآخرة.
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) : هم يهود المدينة بنو قينقاع.
(آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) : علامة واضحة والفئتان : المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.
(يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) : يقوّى.
(لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ) : العبرة العظة وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو.
معنى الآيات :
لما أصرّ وفد
نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من اي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء
التأويل من الحق والخروج عنه. توعّد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب
وعجم فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
..) بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة لا لبس فيها ولا
__________________
غموض ولكن منعهم
من قبوله الحفاظ على المناصب والمنافع هؤلاء جميعهم سيعذبهم الله تعالى في نار
جهنم ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا ، واعلم أنهم وقود
النار ، التي مهدوا لها بكفرهم وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم. ثم أخبر تعالى أنهم في
كفرهم وعنادهم حتى يأتيهم العذاب كدأب وعادة آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم
التي كذبت رسلها كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح حتى أخذهم الله بالعذاب في الدنيا
بالهلاك والدمار ، وفي الآخرة بعذاب النار وبئس المهاد ، وكان ذلك بذنوبهم لا بظلم
الله تعالى ثم أمر الله تعالى رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول لا يغرنك أنك
قاتلت من لا يحسن الحرب فانتصرت عليهم يريدون قريشا في موقعة بدر ، إنك إن قابلتنا
ستعلم أنا نحن الناس ، لما قالوا قولتهم هذه يهددون بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين أمره أن يقول لهم (سَتُغْلَبُونَ) يريد في المعركة وتنهزمون وتموتون ، وبعد موتكم تحشرون إلى
جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها لأنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته. وفتح
أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما تورطوا في حرب الرسول حتى هزمهم وقتل من قتل منهم
وأجلى من أجلاهم. وهي أن المسلمين الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم
كانوا أقلّ عدد وأنقص عدة ، ومع ذلك انتصروا لأنهم يقاتلون في سبيل الله والكافرون
يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان ونصر الله الفئة القليلة المسلمة وهزم الفئة الكافرة الكثيرة فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة
لما تورطوا في حرب مع الرسول صلىاللهعليهوسلم أبدا. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور وهي البصائر. فقال تعالى لهم : (قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) ـ في بدر ـ فئة ـ
جماعة ـ تقاتل في سبيل الله ـ إعلاء لكلمته ـ وأخرى فئة كافرة تقاتل في سبيل
الطاغوت (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ
__________________
رَأْيَ
الْعَيْنِ) لقربهم منهم. ومع هذا نصر الله الأقلية المسلمة وهزم
الأكثرية الكافرة ، وذلك لأن الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء ، فأيد أولياءه وهزم
أعداءه ، وإن في هذه الحادثة لعبرة وعظة ومتفكر ولكن لمن كان ذا بصيرة ، أما من لا
بصيرة له فإنه لا يرى شيئا حتى يقع في الهاوية قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور لهم : (.. لَعِبْرَةً
لِأُولِي الْأَبْصارِ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الكفر مورّث
لعذاب يوم القيامة والكافر معذّب قطعا.
٢ ـ الأموال
والأولاد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس الله شيئا إذا أراده
بالكافرين في الدنيا والآخرة.
٣ ـ الذنوب بريد
العذاب العاجل والآجل.
٤ ـ ذم الفخر
والتعالي وسوء عاقبتهما.
٥ ـ العاقل من
اعتبر بغيره ، ولا عبرة لغير أولى الأبصار أى البصائر.
٦ ـ صدق خبر
القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم ، فكان هذا دليل صدق على أن القرآن وحى
الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الاسلام دين الله الحق.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
(١٤))
شرح الكلمات :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَواتِ) : جعل حبها مستحسنا في نفوسهم لا يرون فيه قبحا ولا دمامة.
__________________
(الشَّهَواتِ) : جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعا وغريزة كالطعام والشراب
اللذيذين.
(الْقَناطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ) : القنطار الف ومائة أوقية فضة والمقنطرة الكثيرة بعضها
فوق بعض.
(الْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ) : ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.
(الْأَنْعامِ) : الابل والبقر والغنم وهى الماشية.
(الْحَرْثِ) : الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.
(ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي ذلك المذكور من النساء والبنين الخ متاع الحياة
الدنيا يريد يستمتع به فيها ويموت صاحبها ويتركها.
معنى الآية
الكريمة :
لما ذكر تعالى
عناد من كفر من النصارى ، واليهود ، والمشركين ، وجحودهم ، وكفرهم ، ذكر علة الكفر
وبيّن سببه ألا وهو ما زينه تعالى لبنى البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب
الشهوات أى المشتهيات بالطبع البشرى من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل
المسومة والأنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات الغذائية
والعطرية وغيرها. هذا الذى جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه لأنه يحول بينهم وبين
هذه المشتهيات غالبا فلا يحصلون عليها ، ولم يعلموا انها مجرد متاع زائل فلا
يبيعوا بها الجنة دار الخلد والسّلام ولذا قال تعالى ذلك اى ما ذكر من أصناف
المحبوبات متاع الحياة الدنيا لا غير اما الآخرة فلا ينفع فيها شىء من ذلك بل لا
ينفع فيها الا الزهد فيه والإعراض عنه إلا ما لا بد منه للبلغة به إلى عمل الدار
الآخرة وهو الإيمان وصالح الأعمال ، والتخلى عن الكفر والشرك وسائر الذنوب
والمعاصى.
__________________
وختم تعالى الآية
بقوله مرغبا في العمل للدار الآخرة داعيا عباده الى الزهد في المتاع الفانى لتتعلق
قلوبهم بالنعيم الباقى فقال : (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآبِ) ، أي المرجع الحسن ، والنزل الكريم والجوار الطيب السعيد.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ يزين الله
تعالى بمعنى يجعل الشىء زينا محبوبا للناس للابتلاء والاختبار قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ويزين الشيطان للاضلال والاغواء ، فالله يزين الزين ويقبح
القبيح ، والشيطان يزين القبيح ، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.
٢ ـ المزينات في
هذه الآية من تزيين الله تعالى للابتلاء ، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح
إلا إذا طلبت من غير حلّها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها
فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.
٣ ـ كل ما في
الدنيا مجرد متاع والمتاع دائما قليل وزائل فعلى العاقل ان ينظر اليه كما هو فلا
يطلبه بما يحرمه حسن المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن
يا رحيم.
(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ
مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))
__________________
شرح الكلمات :
(أَأُنَبِّئُكُمْ) : أخبركم بنبأ عظيم لأن النبأ لا يكون إلا بالأمر العظيم.
(بِخَيْرٍ مِنْ
ذلِكُمْ) : أى المذكور في الآية السابقة من النساء والبنين الخ.
(اتَّقَوْا) : خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله.
(مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) : من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء ، وأنهار اللبن وأنهار العسل وأنهار الخمر.
خالدين
فيها أبدا : مقيمين فيها
اقامة لا يرحلون بعدها أبدا.
(أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : زوجات هى الحور العين نقيات من دم الحيض والبول وكلّ أذى
وقذر.
(الصَّابِرِينَ) : على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون ، وعن
المعاصى لا يقارفونها.
(الصَّادِقِينَ) : فى إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.
(الْقانِتِينَ) : العابدين المحسنين الداعين الضارعين.
(وَالْمُنْفِقِينَ) : المؤدين الزكاة والمتصدقين بفضول أموالهم.
(الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) : السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.
معنى الآيات :
لما بيّن تعالى ما
زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
إلى آخر ما ذكر تعالى ، وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه بالايمان
والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة اؤنبئكم بخير من ذلكم المذكور لكم. وبينه
بقوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
__________________
وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ...) وهو رضاه عزوجل عنهم وهو أكبر من النعيم المذكور قبله قال تعالى في آية
أخرى : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ ...)
ثم أخبر تعالى أنه
بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب ، والعامل المحسن والعامل المسيىء
وسيجزى كلا بعدله وفضله ، ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم
فقال : (الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فذكر صفة الايمان والخشية والضراعة والدعاء لهم ثم ذكر
باقى الصفات الكمالية فقال : (الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ) ، يتهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الاستغفار
وهو طلب المغفرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ نعيم الآخرة
خير من نعيم الدنيا مهما كان.
٢ ـ نعيم الآخرة
خاصّ بالمتقين الأبرار ، ونعيم الدنيا غالبا ما يكون للفجّار.
٣ ـ التقوى وهى
ترك الشرك والمعاصى هى العامل الوراثي لدار السّلام.
٤ ـ استحباب
الضراعة والدعاء والاستغفار فى آخر الليل.
٥ ـ الصفات
المذكورة لأهل التقوى هنا كلها واجبة في الجملة لا يحلّ ان لا يتصف بها مؤمن ولا
مؤمنة في الحياة.
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً
بِالْقِسْطِ
__________________
لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ
اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
شرح الكلمات :
(شَهِدَ) : أخبر عن علم بحضوره الأمر المشهود به.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله تبارك
وتعالى.
(أُولُوا الْعِلْمِ) : أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم الأنبياء
والعلماء.
(بِالْقِسْطِ) : العدل في الحكم والقول والعمل.
(الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) : الغالب ذو العزة التي لا تغلب ، الحكيم في كل خلقه وفعله
وسائر تصرفاته.
(الدِّينَ) : ما يدان لله تعالى به أي يطاع فيه ويخضع له به من
الشرائع والعبادات.
(الْإِسْلامُ) : الإنقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك والمراد به هنا
ملة الإسلام.
(بَغْياً) : ظلما وحسدا.
(حَاجُّوكَ) : جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية.
__________________
(أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ) : أخلصت كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده لا شريك له.
(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) : كذلك اخلصوا لله كل أعمالهم له وحده لا شريك له.
(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.
(الْأُمِّيِّينَ) : العرب المشركين سمّوا بالأميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم.
(أَأَسْلَمْتُمْ) : الهمزة الأولى للإستفهام والمراد به الأمر أي أسلموا
خيرا لكم لظهور الحق وانبلاج نوره بينكم بواسطة كتاب الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
(فَإِنْ أَسْلَمُوا) : فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) : أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عنه بعد معرفته فلا
يضرك أمرهم إذ ما عليك الا البلاغ وقد بلّغت.
معنى الآيات :
يخبر الجبار عزوجل أنه شهد أنه لا إله إلا هو وأن الملائكة وأولى العلم يشهدون
كذلك شهادة علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتى والفعلى وأنه تعالى قائم في
الملكوت كله ، علويّه وسفليّه ، بالعدل ، فلا رب غيره ولا إله سواه ، العزيز في
ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه فلا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به. فرد
بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران ، ومكر اليهود ، وشرك العرب ، وأبطل كلّ باطلهم
سبحانه وتعالى ، ثم أخبر أيضا أن الدين الحق الذي لا يقبل تعالى دينا سواه ، هو
الاسلام ، القائم على مبدأ الانقياد الكامل لله تعالى بالطاعة ، والخلوص التامّ من
سائر أنواع الشرك فقال : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ) في حكمه وقضائه الإسلام ، وما عداه فلا يقبله ولا يرضاه. ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران ، المجادلين
لرسوله ، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال (وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ) يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته
ولكن كان عن علم حقيقى وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن
__________________
والحروب وضياع
الدين البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها دون
غيرها ، وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا ، وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون بعد القرون المفضلة أيضا ، والتاريخ شاهد. ثم قال تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ
اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يتوعد تعالى ويهدد كل من يكفر بآياته الحاملة لشرائعه
فيجحدها ويعرض عنها فإنه تعالى يحصي عليه ذنوب كفره وسيآت عصيانه ويحاسبه بها
ويجزيه وإنه لسريع الحساب لأنه لا يشغله شيء عن آخر ولا يعييه إحصاء ولا عدد ثم
يلتفت بالخطاب إلى رسوله قائلا له فإن حاجوك يريد وفد نجران النصراني فاختصر
الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم داعيا إياهم إلى الإسلام الذي عرفوه وأنكروه
حفاظا على الرئاسة والمنافع بينهم فقل لهم : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أيضا أسلم وجهه لله فليس فينا شيء لغير الله وقلوبنا
وأعمالنا وحياتنا كلها لله فأسلموا أنتم يا أهل الكتاب ويا أميّون (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) وإن تولوا وأعرضوا فلا يضرك إعراضهم ، إذ ما كلفت إلا
البلاغ وقد بلغت ، أما الحساب والجزاء فهو إلى الله تعالى البصير بأعمال عباده
العليم بنياتهم وسوف يجزيهم بعلمه ويقضى بينهم بحكمه وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ اعتبار
الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلا لذلك بأن كان مسلما
عدلا.
٢ ـ شهادة الله
أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.
٣ ـ بطلان كل دين
بعد الإسلام وكل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله : (.. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية (٨٥) من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله
تعالى.
٤ ـ الخلاف بين
أهل العلم والدين يتم عند ما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في
__________________
المطاعم والمشارب
، ويتشوقون إلى الكراسى والمناصب ، ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون بغيا بينهم
وحسدا لبعضهم بعضا.
٥ ـ من أسلم قلبه
لله وجوارحه وأصبح وقفا في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسّلام.
٦ ـ من علق قلبه
بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على
الله وسيلقى جزاءه.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))
شرح الكلمات :
(يَكْفُرُونَ) : يجحدون ويكذّبون.
(النَّبِيِّينَ) : جمع نبي وهو ذكر من بني آدم أوحي إليه الله تعالى.
(بِالْقِسْطِ) : العدل والحق والخير والمعروف.
(فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) : أخبرهم إخبارا يظهر أثره على بشرة وجوههم ألما وحسرة.
(حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) : بطلت وذهبت ، لم يجنوا منها شيئا ينفعهم ، ويهلكون بذلك
ويعدمون الناصر لهم لأن الله خذلهم وأراد إهلاكم وعذابهم في جهنم.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
هتك أستار الكفرة من أهل الكتابين اليهود والنصارى فذكر تعالى هنا ان الذين يكفرون
بآيات الله وهي حججه وأعلام دينه ، وما بعث بها رسله ، ويقتلون مع
__________________
ذلك النبيين بغير
حق ولا موجب للقتل ، ويقتلون الذين يأمرونهم بالعدل من أتباع الأنبياء المؤمنين الصالحين ، هذه جرائم
بعض أهل الكتاب فبشرهم بعذاب أليم ، ثم أخبر أن أولئك البعداء في مهاوي الشر
والفساد والظلم والعناد حبطت أعمالهم في الدنيا فلا يجنون منها عاقبة حسنة ولا
مدحا ولا ثناء بل سجلت لهم بها عليهم لعنات في الحياة والممات ، والآخرة كذلك وليس
لهم فيها من ناصرين ينصرونهم فيخلصونهم من عذاب الله وهيهات هيهات أن يوجد من دون
الله ولي أو نصير.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ الكفر والظلم
من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.
٢ ـ قتل الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الجرم.
٣ ـ الشرك محبط
للأعمال مفسد لها في الدنيا والآخرة.
٤ ـ من خذله الله
تعالى لا ينصره أحد ، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ
__________________
لِيَوْمٍ
لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))
شرح الكلمات :
(أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتابِ) : اعطوا حظا وقسطا من التوراة.
(يُدْعَوْنَ) : يطلب إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم
الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.
(يَتَوَلَّى) : يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.
(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) : هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوما تلك التي
عبدوا فيها العجل بعد غياب موسى عليهالسلام عنهم.
(يَفْتَرُونَ) : يكذبون.
(لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
فِيهِ) : هو يوم القيامة.
(ما كَسَبَتْ) : ما عملت من خير أو شر.
(لا يُظْلَمُونَ) : بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر
والمعاصي.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم فيقول تعالى لرسوله حاملا له على التعجب من
حال اليهود ألم تر يا رسولنا الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أى ألم ينته إلى علمك أمرهم حيث يدعون إلى
التحاكم الى كتاب الله تعالى فيما انكروه واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبوّتك ورسالتك ، ثم يتولى عدد
منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق والإقرار به. إنها حال تدعو الى التعجب
حقا ، وصارفهم عن قبول الحق
__________________
ومراجعته هو
اعتقادهم الفاسد بأن النار لا تمسهم إذا ألقوا فيها إلا مدة أربعين يوما وهي المدة
التى عبد فيها أسلافهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور.
وهذه الدعوى باطلة لا أساس لها من الصحة بل يخلدون في النار لا بعبادة أسلافهم
العجل أربعين يوما بل بكفرهم وظلمهم وجحودهم وعنادهم ، ويبين تعالى الحقيقة لرسوله
والمؤمنين وهي أن هذه الدعوى اليهودية ما هى إلا فرية افتراها علماؤهم ليهوّنوا عليهم ارتكاب الجرائم وغشيان عظائم
الذنوب. كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ الإسلام حيث أصبح مشايخ
التصوف يدجّلون على المريدين بأنهم سيستغفرون لهم ويغفر لهم.
ثم قال تعالى
مستعظما حالهم مهوّلا موقفهم : فكيف أي حالهم. إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القيامة
كيف تكون حالهم انها حال يعجز الوصف عنها ، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من خير أو شر وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم إن كانت لهم
حسنات ، ولا بالزيادة في سيئآتهم وما لهم إلا السّيئات.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ من الإعراض عن
الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). سورة النساء / ٦٥.
٢ ـ أفسد شيء
للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والإبتداع عليها والقول فيها
بغير علم.
٣ ـ مضرّة
الإغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات
والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.
٤ ـ فضيلة ذكر
أهوال يوم القيامة وما يلاقى فيها أهل الظلم والشر والفساد وفي القرآن (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ) سورة ص / ٤٦.
__________________
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ
فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))
شرح الكلمات :
(اللهُمَ) : يا الله حذف حرف النداء «يا» وعوّض عنه الميم المشدّدة
وهو خاصّ بنداء الله تعالى
(مالِكَ) : المالك : الحاكم المتصرّف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم
ما يريد لعظم سلطانه وقوة إرادته.
(الْمُلْكِ) : المملوك : والمقصود به ما سوى المالك عزوجل ، من سائر الكائنات.
(تُؤْتِي الْمُلْكَ) : السلطان والتصرف في بعض الملكوت.
(تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) : تدخل الليل في النهار فلا يبقى ليل ، وتولج النهار في
الليل فلا يبقى نهار
(تُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) : أي تخرج جسما حيا من جسم ميت في المحسوسات كالدجاجة من
البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من
المؤمن.
(بِغَيْرِ حِسابٍ) : بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.
__________________
معنى الآيتين :
من المناسبات التى
قيلت في نزول هاتين الآيتين : أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث
صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم
وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول : (اللهُمَ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ..) الخ .. أمره أن يقول ذلك ليعطيه ما وعده به من إتساع ملك
أمته حتى يشمل ملك فارس والروم ، وليرد على ضلال النصارى في تأليه عيسى عليهالسلام ، إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه من هو
مالك الملك كله ، ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء ، وينزع ممن أعطاهم
ما شاء ومتى شاء لا يحول دون تصرفه حائل ، ولا يقف دون إعطائه أو نزعه واقف. يعز
الذليل متى شاء ويذل العزيز متى شاء ، بيده الخير لا بيد غيره يفيضه على من يشاء ، ويمنعه عمّن يشاء وهو على
كل شيء قدير. يولج النهار في الليل فلا يبقى نهار ، ويولج الليل في النهار فلا
يبقى ليل ، مظهر من مظاهر القدرة الموجبة لألوهيته وطاعته ومحبته ، ويدخل ساعات من
الليل في النهار فيقصر الليل ويطول النهار ، ويدخل ساعات من النهار في الليل فيطول
، مظهر من مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة ، يخرج الحي من الميت الانسان من النطفة
والنبتة من الحبة ويخرج الميت من الحي النطفة من الإنسان الحي ، والبيضة من
الدجاجة ، والكافر الميت من المؤمن الحي ، والعكس كذلك ، هذه مظاهر ربوبيته
المستلزمة لألوهيته فتقرر أنه الإله الحق ، لا رب غيره ولا إله سواه ، وبذلك تأكد
أمران : الأول : أن الله قادر على اعطاء رسوله ما وعده لأمته ، وقد فعل ، والثاني
: أن عيسى لم يكن إلا عبدا مربوبا لله بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ فضل الدعاء بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول : رحمن الدنيا
والآخرة ورحيمهما
__________________
تعطي منهما من
تشاء ، وتمنع من تشاء اقض عنى ديني ، فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة
له من حوائج الدنيا والآخرة.
٢ ـ استجابة الله
تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم وإنجازه ما وعده في أمته.
٣ ـ بطلان ألوهية
عيسى عليهالسلام وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته.
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ
تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ
نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))
شرح الكلمات :
(لا يَتَّخِذِ) : لا يجعل.
(أَوْلِياءَ) : جمع وليّ يتولّونهم بالنصر والمحبة والتأييد.
(فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) : أي بريء الله تعالى منه ، ومن برىء الله منه هلك.
__________________
(تُقاةً) : وقاية باللسان وهى الكلمة الملينة للجانب ، المبعدة
للبغضاء.
(مُحْضَراً) : حاضرا يوم القيامة.
(أَمَداً بَعِيداً) : مدى وغاية بعيدة.
(وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) : أي يخوفكم عقابه إن عصيتموه.
معنى الآيات :
ينهى تعالى عباده
المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي أعوانا وانصارا يبادلونهم
المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين ، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برىء
الله تعالى منه وذلك لكفره ورّدته حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه ، فقال تعالى
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي برىء الله تعالى منه وانقطعت صلته وانبتّ حبل الولاية
بينه وبين الله تعالى ، ويا هلاكه ثم رخص تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون
تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلاوة لسانهم دون قلوبهم وأعمالهم فيتقون بذلك شرهم وأذاهم ، وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة
قال تعالى : (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ...) ولما كان أمر البراء والولاء ذا خطر عظيم قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد اوليائه وأخبرهم أن
المصير إليه لا إلى غيره فليحذر العصاة من وقوفهم بين يدي الله فقال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٨) وأما الآية الثانية (٢٩) فقد أمر تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم ان يقول للناس مؤمنهم وكافرهم (.. إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ ..) من حب أو بغض ، من رضى أو سخط فلا تنطقوا به ولا تظهروه
بحال من الأحوال ، أو أن تظهروه بقول أو عمل أو حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في
السموات وما في الأرض ، ويحاسب به ويجزى عليه وهو
__________________
على كل شيء قدير.
ألا فليراقب الله العاقل وليتقه ، فلا يقدم على معاصيه ، وخاصة موالاة أعدائه على
أوليائه. وأما الآية الثالثة (٣٠) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ..) ففيها يذكر تعالى عباده بيوم القيامة ليقصروا عن الشر
ويرعووا من الظلم والفساد فيقول أذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا أي
حاضرا تجزى به ، وما عملت من سوء وشر حاضرا أيضا ويسوءها مرآه فتود بكل قلبها لو
ان بينها وبينه غاية من المسافة لا تدرك وينهي تعالى تذكيره وإرشاده سبحانه وتعالى
بقوله (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) مؤكدا التحذير الأول به ، ويختم الآية بقوله والله رؤوف
بالعباد ، ونعم ما ختم به إذ لولاه لطارت قلوب العالمين فزعا وخوفا فذو الرأفة
بعباده لا يوأس من رحمته.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة موالاة
الكافرين مطلقا.
٢ ـ موالاة
الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى.
٣ ـ جواز التقيّة
في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين.
٤ ـ وجوب الحذر من
عذاب الله تعالى وذلك بطاعته تعالى.
٥ ـ خطورة الموقف
يوم القيامة ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))
شرح الكلمات :
(تُحِبُّونَ اللهَ) : لكمال ذاته وإنعامه عليكم.
__________________
(يُحْبِبْكُمُ اللهُ) : لطاعتكم إيّاه وطهارة أرواحكم بتقواه.
(يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) : يسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن الإيمان والطاعة.
معنى الآيتين :
لما ادعى وفد
نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حبّ الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم أمر الله تعالى
رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية أن يقول لهم : إن كنتم تحبون الله تعالى
ليحبكم فاتبعونى على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى ، ويغفر لكم
ذنوبكم أيضا وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألّهوا المسيح عليهالسلام الا طلبا لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل
طريق للحصول على حب الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان
والتوحيد والعبادة المزكية للروح المورثة لحب الله تعالى وهذا ما تضمنته الآية
الأولى (٣١). وأما الآية الثانية (٣٢) فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى
نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال
والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه
عليهم لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ محبة العبد
للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم : «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من النعم وأحبونى بحب الله تعالى». وقوله صلىاللهعليهوسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله
__________________
أحب إليه مما
سواهما».
٢ ـ محبة الله
تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.
٣ ـ طريق الحصول
على محبّة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلىاللهعليهوسلم بالإيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره
، للآية (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) إذ ليس الشأن أن يحبّ العبد ، وإنما الشأن أن يحبّ!
٤ ـ دعوى محبة
الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا
وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما
دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))
شرح الكلمات :
(اصْطَفى آدَمَ) : اختار ، وآدم هو أبو البشر عليهالسلام.
__________________
(آلَ إِبْراهِيمَ) : آل الرجل أهله وأتباعه على دينه الحق.
(عِمْرانَ) : رجل صالح من صلحاء بنى إسرائيل في عهدهم الأخير هو زوج
حنّة وأبو مريم عليهمالسلام.
(الْعالَمِينَ) : هم الناس المعاصرون لهم.
(امْرَأَتُ عِمْرانَ) : حنّة
(نَذَرْتُ لَكَ ما فِي
بَطْنِي) : ألزمت نفسها أن تجعله لله يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت
المقدس.
(مُحَرَّراً) : خالصا لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبدا.
(مَرْيَمَ) : خادمة الرب تعالى.
(أُعِيذُها بِكَ) : احصّنها واحفظها بجنابك من الشيطان.
(وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) : زكريا أبو يحيى عليهماالسلام وكانت امرأته أختا لحنّة.
(الْمِحْرابَ) : مقصورة ملاصقة للمسجد.
(أَنَّى لَكِ هذا؟) : من أين لك هذا ، أي من أين جاءك.
معنى الآيات :
لما ادعى نصارى
وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليهالسلام من تأليهه وتأليه أمّه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبيّن
فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر
أنهم ذريّة بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم ، ولم تتباين فضائلهم
وكمالاتهم الروحيّة وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع
عليم أي سميع لقول إمرأة عمران عليم بحالها لما قالت : (.. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً ..) ، وذلك أنها كانت لا تلد فرأت في حديقة منزلها طائرا يطعم
أفراخه فحنّت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولدا وتجعله له يعبده ويخدم بيته
فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهى
__________________
حبلى وقالت ما قص
الله تعالى عنها في قوله : (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) (لَكَ ما فِي بَطْنِي
مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وحان وقت الولادة
فولدت ولكن انثى لا ذكرا فتحسرت لذلك ، وقالت : (رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) وكيف لا يعلم وهو الخلاق العليم. وقالت : (.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ..) في باب الخدمة في بيت المقدس فلذا هي آسفة جدا ، وأسمت
مولودتها مريم أي خادمة الله ، وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم
واستجاب الله تعالى لها فحفظها وحفظ ولدها عيسى عليهالسلام فلم يقربه شيطان قط. وتقبل الله تعالى ما نذرته له وهو مريم فأنبتها نباتا حسنا فكانت
تنمو نماء عجيبا على خلاف المواليد ، وكفلها زكريا فتربت في بيت خالتها وذلك أن
حنة لما وضعتها أرضعتها ولفّتها في قماطها وبعثت بها الى صلحاء بنى إسرائيل
يسندونها إلى من يرون تربيتها في بيته ، لأن أمها نذرتها لله تعالى فلا يصح منها
أن تبقيها في بيتها ووالدها مات أيضا ، فأحب كل واحد أن يكفلها فكفلها زكريا
وأصبحت في بيت خالتها بتدبير الله تعالى لها ، ولما كبرت أدخلها المحراب لتتعبد
فيه ، وكان يأتيها بطعامها ، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في
الصيف فيعجب لذلك ويسألها قائلا : (يا مَرْيَمُ أَنَّى
لَكِ هذا؟) فتجيبه قائلة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وتعلل لذلك فتقول : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان إفضال
الله تعالى وإنعامه على من يشاء.
٢ ـ بيان أن عيسى عليهالسلام ليس بابن الله ولا هو الله ، ولا ثالث ثلاثة بل هو عبد
الله ورسوله أمه مريم ، وجدته حنّة ، وجدّه عمران من بيت شرف وصلاح في بني
اسرائيل.
٣ ـ استجابة الله
تعالى لدعاء أوليائه كما استجاب لحنّة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان
الرجيم.
__________________
٤ ـ مشروعية النذر لله تعالى وهو التزام المؤمن الطاعة تقربا إلى الله
تعالى.
٥ ـ بيان فضل
الذّكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات.
٦ ـ جواز التحسّر
والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذى كان يأمله.
٧ ـ ثبوت كرامات
الأولياء كما تم لمريم في محرابها.
٨ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم إذ مثل هذه القصص لا يتأتّى لأمّي أن يقصه إلا أن يكون
رسولا يوحى إليه. ولهذا ختمه بقوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ).
(هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي
فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ
اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))
شرح الكلمات :
(هُنالِكَ) : ثمّ عند ما رأى كرامة الله لمريم عليهاالسّلام.
(زَكَرِيَّا) : أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.
(هَبْ لِي) : أعطني.
__________________
(مِنْ لَدُنْكَ) : من عندك.
(ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) : أولادا أطهارا صالحين.
(بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) : هى عيسى عليهالسلام ، لأنه كان بكلمة الله تعالى «كن».
(وَسَيِّداً وَحَصُوراً) : شريفا ذا علم وحلم ، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.
(غُلامٌ) : ولد ذكر.
(عاقِرٌ) : عقيم لا تلد لعقمها وعقرها.
(آيَةً) : علامة استدل بها على بداية الحمل لأشكر نعمتك.
(إِلَّا رَمْزاً) : إلا إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلام.
(الْإِبْكارِ) : أول النهار ، والعشي آخره.
معنى الآيات :
لما شاهد زكريا من
كرامات الله لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ذكر
أن الله تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونيّة فكبر سنّه
وعقم امرأته لا يمنعان أن يعطيه الله تعالى ولدا ، فسأل ربّه الولد فاستجاب له ربّه فبشرته الملائكة بالولد وهو قائم يصلى في محرابه
قائلة إن الله يبشرك بولد اسمه يحيى مصدّقا بكلمة من الله يريد أنه يصدق بعيسى بن مريم ويكون
على نهجه ، لأن عيسى هو الكلمة إذ كان بقول الله تعالى له «كن» فكان ، ووصفه بأنّه
سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور لا يأتي النساء ، ونبيّ من الصالحين. فلما سمع البشارة من الملائكة
جاءه الشيطان وقال له : إن الذي سمعته من البشرى هو من الشيطان ولو كان من الرحمن
لأوحاه إليك وحيا ، وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ
بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
__________________
عاقِرٌ؟) فأوحى إليه : أن هذا فعل الله والله يفعل ما يشاء. وهنا
قال زكريا رب اجعل لي آية يريد علامة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة
بالشكر فأجابه ربه قائلا : (آيَتُكَ : أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلام لمدة ثلاثة أيام ، فلا
تقدر أن تخاطب أحدا إلا بالإشارة وهي الرمز فيفهم عنك ، وأمره تعالى أن يقابل هذا
الإنعام بالشكر التام فقال له (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً وَسَبِّحْ) يريد صلّ بالعشي آخر النهار والإبكار أوله.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الاعتبار
بالغير ، إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لمريم.
٢ ـ مشروعية
الدعاء وكونه سرا أقرب إلى الإجابة ، وكونه في الصلاة كذلك.
٣ ـ جواز تلبيس
إبليس على المؤمن ، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته.
٤ ـ جواز سؤال
الولد الصالح.
٥ ـ كرامات الله
تعالى لأوليائه ـ باستجابة دعاءهم.
٦ ـ فضل الإكثار
من الذكر ، وفضيلة صلاتى الصبح والعصر وفي الحديث : «من صلى البردين دخل الجنة».
(وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي
مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))
__________________
شرح الكلمات :
(وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ) : أذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل
على صحة نبوّتك ، وصدقك في أمر التوحيد ، وعدم ألوهية عيسى.
(اصْطَفاكِ) : اختارك لعبادته وحسن طاعته.
(وَطَهَّرَكِ) : من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى.
(وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ) : أي فضلك على نساء العالمين بما أهّلك له من كرامة ولادة
عيسى من غير أب.
(اقْنُتِي) : أطيعي ربك واقنتي له واخشعي.
(وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) : اشهدى صلاة الجماعة في بيت المقدس.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ) : أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب.
(لَدَيْهِمْ) : عندهم وبينهم.
(إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ) : جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاؤها لأجل الاقتراع بها على
كفالة مريم.
(يَخْتَصِمُونَ) : فى شأن كفالة مريم عليها وعليهمالسلام.
معنى الآيات :
يقول تعالى لنبيه
اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح إذ قالت الملائكة مخاطبة مريم أم
المسيح بما أهّلها الله تعالى له وأكرمها به من اصطفاء الله تعالى لها لتكون من صالحى عباده ، وتطهيره إياها من
سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلا لها على نساء عالمها حيث برأها وأكرمها وأظهر
آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة الله وليس على سنته
__________________
تعالى في تناسل
البشر من ذكر وأنثى ، وأمرها بمواصلة الطاعة والاخبات والخشوع لله تعالى فقال : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي) (وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) ، وخص الصلاة بالذكر لأهميتها وذكرها بأعظم أركانها وهو
السجود والركوع وفي بيت المقدس مع الراكعين.
هذا معنى الآيتين
الأولى (٤٢) والثانية (٤٣). أما الآية الثالثة (٤٤) فقد خاطب الرب تبارك وتعالى
رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم مشيرا إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة
ومريم وزكريا ويحيى ومريم أخيرا بأنه كله من انباء الغيب واخباره يوحيه تعالى إليه
فهو بذلك نبيّه ورسوله ، وما جاء به من الدين هو الحق ، وما عداه فهو باطل ، وبذلك
تقرر مبدأ التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله ، وبطل باطل أهل الكتاب فلا عزير ابن
الله ، ولا المسيح بن الله ، ولا هو إله مع الله ، وإنما هو عبد الله ورسول الله.
ثم تقريرا لمبدأ الوحي وتأكيدا له قال تعالى لرسوله أيضا ، وما كنت لديهم أي عند
علماء بني اسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم ، وهم يقترعون على النذيرة «مريم» من
يكفلها فرموا بأقلامهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله
فألقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي
أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى فكفلها زكريا ،
بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول
الله ، وأن الدين الحق هو الاسلام. وما عداه فباطل وضلال!
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل مريم
عليهاالسّلام وأنها وليّة صديقة وقد أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم أنها من كمّل النساء ففي
__________________
الصحيح «كمل من
الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية إمرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة
على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
٢ ـ أهل القرب من
الله هم أهل طاعته القانتون له.
٣ ـ الصلاة سلم
العروج الى الملكوت الأعلى.
٤ ـ ثبوت الوحي
المحمدي وتقريره.
٥ ـ مشروعية
الاقتراع عند الاختلاف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا
والحمد لله.
(إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ
الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))
شرح الكلمات :
(يُبَشِّرُكِ) : يخبرك بخبر سار مفرح لك.
(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) : هو المسيح عليهالسلام وسمي كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى (كُنْ).
(الْمَسِيحُ) : لقب عيسى عليهالسلام ومن معانيه الصديق.
الوجيه
: ذو الجاه والقدر
والشرف بين الناس.
__________________
(فِي الْمَهْدِ) : المهد مضجع الصبي وهو رضيع.
(وَكَهْلاً) : الكهولة سنّ ما بين الشباب والشيخوخة.
(وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ) : تريد لم يقربها ذكر لا للوقاع ولا لغيره ، وذلك لعقمها
وبعدها عن الرجال الأجانب.
(قَضى أَمْراً) : أراده وحكم بوجوده.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في حجّاج وفد نصارى نجران إذ قال الله تعالى لرسوله واذكر لهم إذ قالت الملائكة يا مريم (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِنْهُ) الآية ، حيث أخبرتها الملائكة أي جبريل عليهالسلام بأن الله تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة الله تعالى اسمه
المسيح عيسى ابن مريم ، وأنه ذو جاه وشرف في الدنيا وفي الآخرة ومن المقربين ، وأنه
يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه ، كما يكلمهم في شبابه وكهولته ، وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله تعالى وحقوق
عباده وافية غير منقوصة فردت مريم قائلة : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ
لِي وَلَدٌ) أي كيف يكون لي ولد ولم يغشنى بشر بجماع وسنة الله في خلق
الولد الغشيان فأجابها جبريل قائلا : الأمر هكذا سيخلق الله تعالى منك ولدا من غير
أب ، وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء وإذا حكم بوجود شيء من غير ذوات الأسباب
فإنما يقول له كن فهو يكون كما قضى الله تعالى وأراد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان شرف مريم
وكرامتها على ربها إذ كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشرا.
٢ ـ بيان شرف عيسى
عليهالسلام ووجاهته في الدنيا والآخرة وأنه من المقربين والصالحين.
٣ ـ تكلم عيسى في
المهد آية من آيات الله تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه.
__________________
٤ ـ جواز طلب
الإستفسار عما يكون مخالفا للعادة لمعرفة سرّ ذلك أو علته أو حكمته.
(وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي
إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ
اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ
(٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))
شرح الكلمات :
(الْكِتابَ) : الخط والكتابة.
(الْحِكْمَةَ) : العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع
الإلهي.
(وَرَسُولاً) : أي وابعثه رسولا.
آية : علامة دالة على رسالته وصدق نبوته.
(أَخْلُقُ لَكُمْ) : أي أصور لكم ، لا الخلق الذي هو الإنشاء والاختراع إذ
ذاك لله تعالى.
(كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) : كصورة الطير.
__________________
(الْأَكْمَهَ) : الذي ولد أعمى.
(الْأَبْرَصَ) : ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث ،
والبرص بياض يصيب الجلد البشري.
(تَدَّخِرُونَ) : تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.
(لِما بَيْنَ يَدَيَ) : من قبلي.
(إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ) : إلهي وإلهكم فاعبدوه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
بيان حقيقة عيسى عليهالسلام ، وأنه عبد الله ورسوله وليس بابن الله ولا بإله مع الله
فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقد فعل
، وأنه يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من
ربهم تدل على صدق رسالته وهذه الآية هي أنه يخلق لهم من الطين على صورة الطير وينفخ فيها فتكون
طيرا بإذن الله ، وأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله وفعلا كان يمسح
على ذي العاهة المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فورا ، وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن
نوح فأحياه بإذن الله ، وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون فما يخطىء
أبدا ، ثم قال لهم : إن في ذلك المذكور لآية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين
فآمنوا بي ولا تكذبونى وقد جئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم بعض
الذي حرم عليكم ، وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي ، فكذبوه فقال
لهم : اتقوا الله واطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيرا أن الله تعالى هو ربّه
وربهم وأن عليهم أن يعبدوه ليكملوا ويسعدوا وأن عبادة الله تعالى وحده وبما شرع هي
الصراط المستقيم المفضي بالسالكين إلى الكمال والإسعاد في الحياتين.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ شرف الكتابة
وفضلها
٢ ـ فضل الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور.
٣ ـ الغيب لله ،
ويعلم أنبياءه منه ما يشاء.
٤ ـ ثبوت معجزات
عيسى عليهالسلام.
٥ ـ لا إله إلا
الله ، ومحمد رسول الله ، وعيسى كلمة الله وروح منه ورسول إلى بني اسرائيل.
٦ ـ الأمر بالتقوى
وطاعة الرسول لتوقف السعادة والكمال عليهما.
(فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________________
الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))
شرح الكلمات :
أحس منهم
الكفر : علم منهم الكفر
به وبما جاء به ، وهمهم بأذيتّه.
(الْحَوارِيُّونَ) : جمع حواري ، والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه.
(مُسْلِمُونَ) : منقادون لأمر الله ورسوله مطيعون.
(الشَّاهِدِينَ) : الذين يشهدون أن لا إله إلا الله ، ويعبدونه بما يجب أن
يعبد به.
(مَكَرُوا) : دبروا القتل للمسيح عليهالسلام.
(وَمَكَرَ اللهُ) : دبر تعالى لإنجائه وخيّبهم فيما عزموا عليه.
(خَيْرُ الْماكِرِينَ) : أحسن المدبرين لإنقاذ أوليائه وإهلاك أعدائه.
(مُتَوَفِّيكَ) : متمم لك ما كتبت لك من أيام بقائك مع قومك.
(وَرافِعُكَ إِلَيَ) : إلى جواري في الملكوت الأعلى.
(وَمُطَهِّرُكَ) : منزهك ومبعدك من رجسهم وكفرهم.
(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) : ذلك المذكور من أمر عيسى نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن
الحكيم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحجاج مع وفد نصارى نجران فذكر تعالى من شأنه أنه لما علم عيسى بكفر
قومه وهمّهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلا : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) فأجابه الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) آمنا بالله واشهد يا روح الله بأنّا مسلمون (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا
مَعَ الشَّاهِدِينَ) لك بالوحدانية
__________________
ولرسلك بالرسالة.
قال تعالى ونفذ
اليهود مكرهم في محاصرتهم منزل عيسى ليأخذوه ويصلبوه ، ومكر الله تعالى وهو خير
الماكرين إذ قال لعبده ورسوله عيسى إني متوفيك أي قابضك ورافعك إلى جواري فقبضه
تعالى فأخرجه من روزنة المنزل ورفعه إليه وألقى الشبه على رئيس شرطة المهاجمين فظنوه هو المسيح
فقتلوه وصلبوه فسبحان المدبر الحكيم ، وهكذا (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)
وقوله له ومطهرك
من الذين كفروا يريد منزهه من تهم اليهود الباطلة إذ قالوا ساحر وابن زنى ، ومبعده
من ساحة مجتمعهم الذي تعفن بكفرهم والخبث والشر والفساد وواعده بأنه سيجعل الذين
اتبعوه فيما جاء به من الإيمان والاسلام والإحسان فوق الذين كفروا بذلك إلى يوم
القيامة وقد أنجز الله تعالى وعده فأعز أهل الإسلام ونصرهم ، وأذل اليهود والكفار
وأخزاهم. كما واعده أيضا أن يرد الجميع إليه يوم القيامة ويحكم بينهم فيما اختلفوا
فيه في الدنيا من الإيمان والكفر ، والصلاح والفساد ويجزي كل فريق بما كسب من خير
أو شر فقال : (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالقتل والسباء والذلة والمسكنة ، وفي الآخرة
بعذاب النار ، وما لهم من ناصرين يخلصونهم من عذابنا ، وأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فيوفيهم أجور إيمانهم وصالح أعمالهم في الدنيا نصرا وتمكينا وفي الآخرة
جنّات ونعيما ، والله عزوجل لا يحب الظالمين فكيف يظلم عباده إذ جازاهم بأعمالهم؟ إنه
لا يظلم أحدا من عباده مؤمنهم وكافرهم مثقال ذرة بل يجزي بعدله ويرحم بفضله.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ قيام الحجّة
على نصارى نجران إذ أخبرهم الرسول صلىاللهعليهوسلم بالوحي فقرّر به بطلان ألوهية عيسى عليهالسلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه ، وكرامة الله تعالى له ،
ولأتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة.
__________________
٢ ـ الإسلام دين
الأنبياء وسائر الأمم البشرية ولا دين حق غيره فكل دين غيره باطل.
٣ ـ تقرير حديث
الرسول صلىاللهعليهوسلم في أن لكل نبيّ حواريين وأنصارا.
٤ ـ فضل أهل لا
إله إلا الله إذ هم الشاهدون بالحق والناطقون به.
٥ ـ تقرير قبض
الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حيا. ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمنا ثم يموت الموتة
التي كتب الله على كل إنسان ، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين. هذا دليل أنه
رفع إلى السماء حيّا لا ميّتا.
٦ ـ صادق وعد الله
تعالى بعزة أهل الإسلام ، وذلة اليهود على مدى الحياة.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))
شرح الكلمات :
المثل : الصفة المستغربة البديعة.
(الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ) : أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى هو الحق الثابت من ربك.
__________________
(الْمُمْتَرِينَ) : الشاكين ، إذ الامتراء : الشك.
(حَاجَّكَ) : جادلك بالحجج.
(نَبْتَهِلْ) : نلتعن أي نلعن الكاذب منا.
(الْقَصَصُ الْحَقُ) : ما قصه الله تعالى هو القصص الحق الثابت الذى لا شك فيه.
المفسدون : الذين
يعملون بمعاصي الله تعالى في الأرض من الشرك وكبائر الذنوب.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير عبوديّة عيسى ورسالته دون ربوبيّته وألوهيته ، فقد روي أن وفد
نجران قالوا للرسول صلىاللهعليهوسلم فيما قالوا : كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل
الله تعالى على رسوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) فإذا هو كائن فأيّ داع لاتخاذ عيسى إلها ، ألكونه خلقه
الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم ، وإنما كان بكلمة الله ، فكذلك عيسى
خلق بكلمة الله التي هي «كن» فكان ، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى
عليهالسلام فلا تكونن من الشاكين فيه ، وحاشاه صلىاللهعليهوسلم أن يشك . ولما أكثروا عليه صلىاللهعليهوسلم من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم
وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق : اللهم العن الكاذب منا ، ومن كان كاذبا
منهم يهلك على الفور فقال له ربّه تعالى : فإن حاجوك (فَقُلْ : تَعالَوْا
..)
(هلموا) (نَدْعُ أَبْناءَنا) (وَأَبْناءَكُمْ
وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) وخرج في الغد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لا عنوا هلكوا
فهربوا من الملاعنة ، ودعاهم الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الإسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم
ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل. ثم قال
تعالى (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُ) بالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليهالسلام ، وإنه عبد الله ورسوله وكلمته
__________________
ألقاها إلى مريم
وروح منه ، وأنه لا إله إلا الله أي لا مبعود بحق إلا هو تعالى ، وإن الله لهو
العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده ، الحكيم في خلقه وتدبيره ثم توعد نصارى
نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم ، وينزل
لعنته عليهم وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ولاية الله
تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي آلمه وأتعبه.
٢ ـ مشروعية
المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم.
٣ ـ تقرير ألوهية
الله تعالى دون سواه وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليهالسلام.
٤ ـ تهديد الله
تعالى لأهل الفساد في الأرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما
أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً
مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))
شرح الكلمات :
(أَهْلَ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى لأن اليهود عندهم التوراة والنصارى
عندهم الإنجيل.
(إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) : الكلمة السّواء هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا
شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
(أَرْباباً) : الأرباب جمع ربّ وهو المألوه المطاع بغير طاعة الله
تعالى.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن التوحيد.
(اشْهَدُوا) : اعلموا علم رؤية ومشاهدة بأنا مسلمون.
(تُحَاجُّونَ) : تجادلون بحجج باطلة.
(يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا) : لم يكن إبراهيم على ملة اليهود ، ولا على ملة النصارى.
(كانَ حَنِيفاً
مُسْلِماً) : مائلا عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
(أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْراهِيمَ) : أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالاته الذين اتبعوه على
التوحيد.
(وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ) : متولي أمرهم وناصرهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
إبطال باطل أهل الكتابين إذ قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى
تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها الى كلمة سواء كلمة عدل نصف
بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فيفرض طاعته على غيره ويلزمه بالسجود له تعظيما وتقديسا فإن أبوا عليك ذلك
__________________
وتولوا عنه فقولوا
أيها المؤمنون : اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون. وفي هذا تعريض بل
تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين.
هذا معنى الآية
الأولى (٦٤) أما الآية الثانية (٦٥) فيأمر تعالى رسوله أيضا أن يقول للمتولين عن
الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدّعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان
على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة ، والنصرانية ما كانت إلا
بعد نزول الإنجيل ، وإبراهيم كان قبل نزول الكتابين بمئات السنين ، ما لكم تقولون
بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلا لهم : اسمعوا يا
هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلون فيما ليس لكم
به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدء التوحيد وإخلاص العبادة
لله وحده ، والله يعلم من شأن إبراهيم ودينه مالا تعلمون أنتم فليس من حقكم القول فيما
لا تعلمونه. ثم أكذبهم بعد أن وبخهم فقال ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا وإنما
كان حنيفا موّحدا مطيعا لربه مسلما له ولم يكن من المشركين. وبعد أن وبخ تعالى
المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن
يعلموها ويقرّوا بها وهي أن أحق الناس بالنسبة الى إبراهيم والانتماء اليه هم الذين اتبعوه
على ملة التوحيد وعبادة الله تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صلىاللهعليهوسلم والذين آمنوا معه واتبعوا الهدى الذي جاء به ، والله تعالى
وليّ المؤمنين ، وعدو الكافرين والمشركين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا يصلح حال
البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ : الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها
وحده لا تشرك به سواه ، وأن لا يعلو بعضها على بعض تحت أيّ قانون أو شعار.
٢ ـ حجيّة التاريخ
وبيان الحاجة إليه ، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان
على دينهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا الا بعد وفاته فكيف يكون يهوديا أو
نصرانيا.
__________________
٣ ـ ذم من يجادل فيما لا علم له به ، ولا شأن له فيه.
٤ ـ اليهودية
كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى ، وإنما هما بدعتان لا غير.
٥ ـ المؤمنون
بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم والله وليّ المؤمنين.
(وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ
بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))
شرح الكلمات :
(وَدَّتْ طائِفَةٌ) : أحبّت فرقة وهم الأحبار والرؤساء فيهم.
(لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) : أي تمنّوا إيقاعكم في الضلال لتشقوا وتهلكوا مثلهم.
(وَما يَشْعُرُونَ) : أي وما يدرون ولا يعلمون بأنهم بمحاولة إضلال المؤمنين
إنما هم يضلون أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب.
لبس
الحق بالباطل : خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى لا يعرف فيؤخذ
به ، ويهتدى عليه.
معنى الآيات :
يخبر تعالى عباده
المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنّت لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه
الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود
__________________
والنصارى يودون
إضلال المسلمين حسدا لهم على الحق الذي هم عليه ، وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم هلاك
المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ولا يعلمون به وقال عزوجل : (وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)
هذا معنى الآية (٦٩)
أما الآية (٧٠) فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم ضلالهم فقال :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ) أي لم تجحدون الآيات التي بها نعت الرسول وصفته لله في
التوراة والإنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وأنها منطبقة عليه؟ أليس
هذا قبحا منكم وشرا تعود عاقبته عليكم؟ وفي الآية (٧١) وبخهم أيضا على خلطهم الحق
بالباطل حتى لا يعرف ويؤخذ به ويهتدى عليه فقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم المبينّة في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فقال : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه الحق من الله.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان رغبة
كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.
٢ ـ عاقبة الشر
والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر.
٣ ـ قبح من يكتم
الحق وهو يعرفه.
٤ ـ حرمة التدليس
والتلبيس في كل شيء لا سيما في دين الله تعالى لابعاد الناس عنه.
٥ ـ حرمة كتمان
الحق في الشهادة وغيرها.
(وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا
إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
__________________
الْهُدى
هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ
رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (٧٤))
شرح الكلمات :
وجه
النهار وآخره : أوله وهو الصباح وآخره وهو المساء.
(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا
لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) : أي لا تصدقوا إلا من كان على ملتكم.
(الْهُدى هُدَى اللهِ) : البيان الحق والتوفيق الكامل بيان الله وهداه لا ما يخلط
اليهود ويلبسون تضليلا للناس.
(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) : أن يعطى أحد نبوة ودينا وفضلا.
(أَوْ يُحاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) : يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم.
(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) : قل إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بيد الله لا بيد
غيره.
(وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) : ذو سعة بفضله ، عليم بمن يستحق فضله فيمن عليه.
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن كيد
اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول : (وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله
قالا لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة ، وصلوا العصر الى
الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم لم عدلتم
__________________
عن الكعبة بعد ما
صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبيّن لنا أن الحق هو استقبال الصخرة لا الكعبة. هذا
معنى قوله تعالى فيهم (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يعني في شأن القبلة ، (وَجْهَ النَّهارِ) أي صباحا ، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) أي واجحدوا به مساء ، (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي إلى استقبال الصخرة بدلا عن الكعبة ، والغرض هو بلبلة
أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم
وقوله تعالى عنهم
: (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تصدقوا أحدا إلا من تبع
دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن الإسلام وقبوله ، أي لا تصدقوا
المسلمين فيما يقولون لكم ، وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا إن الهدى هدى
الله ، لا ما يحتكره اليهود من الضلال ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة
اليهودية وقوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ). هو قول اليهود معطوف على قولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ) أما قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْهُدى
...) فهو كلام معترض بين كلام اليهود الذي قدّم تعجيلا للردّ
عليهم ، ومعنى قولهم : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
..) الخ. أي كراهة أن يعترف من قبلكم بأن محمدا نبيّ حق وأن
دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه فيسلمون ، أو على الأقل يثبت المسلمون عليه
، ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا الى دين آبائهم ، أو يحاجوكم عند ربكم
يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم بأن نبيهم حق ودينهم
حق ، فلذا واصلوا الإصرار أنه لا دين حق إلا اليهودية وأن ما عداها باطل. وهنا أمر
تعالى رسوله أن يقول لهم مبكّتا لهم : (إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) ، لا بيد اليهود (يُؤْتِيهِ) أي الفضل الذى هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من
خير الدنيا والآخرة ، (مَنْ يَشاءُ) من عباده ويحرمه من يشاء ، وهو الواسع الفضل العليم بمن
يستأهله ويحق له (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تسجيل المكر
والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللازمة لهم إلى يوم القيامة.
٢ ـ الكشف عن
التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل ، والإعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر
التضليل اليهودي.
٣ ـ سذاجة اليهود
المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها الى اليوم ، وإلا فأي مؤمن بالله
واليوم الآخر يقول : لا تعترفوا للمسلمين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم
باعترافكم يوم القيامة؟.
إن الله تعالى
يعلم أن اليهود يجحدون الاسلام وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم وسيعذبهم في
نار جهنم يخلدون فيها ، فكونهم لا يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون أنهم
على الحق في دينهم ينجيهم هذا من عذاب الله على كفرهم بالإسلام؟ اللهم لا. فما
معنى قولهم لا تعترفوا بالإسلام حتى لا يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم القيامة؟؟
إنه الجهل والسذاجة في الفهم. وسبحان الله ماذا في الخلق من عجائب!!
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))
شرح الكلمات :
(إِنْ تَأْمَنْهُ) : ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
(بِقِنْطارٍ) : وزن معروف والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
(إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) : أي ملازما له تطالبه به ليل نهار.
(الْأُمِّيِّينَ) : العرب المشركين.
(سَبِيلٌ) : أي لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم لأنهم مشركون.
(بَلى) : أي ليس الأمر كما يقول يهود من أنه ليس عليهم حرج ولا
إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإثم والمؤاخذة .
(لا خَلاقَ لَهُمْ) : أي لا حظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
(لا يُزَكِّيهِمْ) : لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرها عنهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسيّاتهم المريضة وصفاتهم الذميمة ففي هذه
الآية (٧٥) يخبر تعالى أن في اليهود من إن أمنته على أكبر مال أداه إليك وافيا
كاملا ، ومنهم من إذا أمنته على دينار فأقل خانك فيه وأنكره عليك فلا يؤديه إليك
إلا بمقاضاتك له وملازمتك إياه .. فقال تعالى في خطاب رسوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) أي لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب لأنهم مشركون
فلا نؤاخذ بأكل أموالهم وكذّبهم الله تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنه كذب على الله ولكن يكذبون ليسوّغوا كذبهم وخيانتهم.
وفي الآية الثانية
(٧٦) يقول تعالى : (بَلى) أي ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإثم
__________________
والحرج والمؤاخذة
، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله تعالى فآمن برسوله وبما
جاء به ، واتقى الشرك والمعاصي فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه لأنه عزوجل يحب المتقين. وأما الآية الأخيرة (٧٧) فيتوعد الرب تعالى
بأشد أنواع العقوبات أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون من أجل حطام
الدنيا ومتاعها القليل فيقول (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أى لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة ولا يكلمهم
تشريفا لهم وإكراما ، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم ، ولهم
عذاب مؤلم في دار الشقاء وهو عذاب دائم مقيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ يجب أن لا
يغتّر باليهود ولا يوثق فيهم لما عرفوا به من الخيانة.
٢ ـ من كذب على
الله أحرى به أن يكذب على الناس.
٣ ـ بيان اعتقاد
اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم
؛ لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار.
٤ ـ عظم ذنب من
يخون عهده من أجل المال ، وكذا من يحلف كاذبا لأجل المال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان».
(وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))
شرح الكلمات :
(وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً) : طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم بالمدينة النبويّة.
__________________
(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) : يحرفون ألسنتهم بالكلام كأنهم يقرأون الكتاب.
(وَما هُوَ مِنَ
الْكِتابِ) : وليس هو من الكتاب.
(وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) : أي يكذبون على الله لأغراض ماديّة.
معنى الآية :
ما زال السياق في
اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتهم بمعنى يحرفون نطقهم
بالكلام تمويها على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل الله فيها ، وليس هو
من الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البحت ، ويقولون لكم إنه من عند الله وما هو
من عند الله ، ويقولون على الله الكذب لأجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة
الكاذبة.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ بيان مكر
اليهود وتضليلهم للناس وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.
٢ ـ جرأة اليهود
على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشدّ وظلم أعظم.
٣ ـ التحذير
للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيويّة
الفاسدة.
(ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))
__________________
شرح الكلمات :
(ما كانَ لِبَشَرٍ) : لم يكن من شأن الإنسان الذى يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة.
(الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) : الكتاب : وحي الله المكتوب والحكم : بمعنى الحكمة وهي
الفقه في أسرار الشرع ، والنّبوة : ما يشّرف الله تعالى به عبده من إنبائه بالغيب
وتكليمه بالوحي.
(رَبَّانِيِّينَ) : جمع ربّانى : من ينسب إلى الربّ لكثرة عبادته وغزارة
علمه ، أو إلى الربان وهو الذي يربّ الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
(أَرْباباً) : جمع ربّ بمعنى السيد المعبود.
(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) : الإستفهام للإنكار ، والكفر هنا الردة عن الإسلام.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
الرد على أهل الكتاب وفي هذه الآية (٧٩) الرد على وفد نصارى نجران خاصة وهم الذين يؤلهون
المسيح عليهالسلام. قال تعالى : ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب أي
ينزل عليه كتابا ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره ويشرفه بالنبوة
فيوحى اليه ، ويجعله في زمرة أنبيائه ، ثم هو يدعو الناس الى عبادة نفسه فيقول للناس كونوا عبادا لى من
دون الله. إن هذا ما كان ولن يكون أبدا. ولا مما هو متصور الوقوع أيضا فما لكم
أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليهالسلام؟ إن من أوتى مثل هذا الكمال لا يقول للناس كونوا عبادا لى
ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم الى ربهم ليكملوا بطاعته
ويسعدوا عليها ، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته.
هذا معنى الآية (٧٩)
أما الآية (٨٠) فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم أنه لا يأمر الناس بعبادة غير ربّه تعالى سواء كان ذلك
الغير ملكا مكرما أو نبيّا مرسلا ، وينكر على من
__________________
نسبوا ذلك إليه صلىاللهعليهوسلم فيقول : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فهذا لا يصح منه ولا يصدر عنه بحال.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ لم يكن من
الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه
فضلا عن عبادة غيره.
٢ ـ سادات الناس
هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم.
٣ ـ عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه.
٤ ـ السجود لغير
الله تعالى كفر لما ورد أن الآية نزلت ردا على من أرادوا أن يسجدوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال تعالى : (أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟!
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))
شرح الكلمات :
الميثاق : العهد
المؤكد باليمين.
__________________
(لَما آتَيْتُكُمْ) : مهما آتيتكم.
(لَتُؤْمِنُنَ) : لتصدقن برسالته.
(أَأَقْرَرْتُمْ) : الهمزة الأولى للاستفهام التقريري وأقررتم بمعنى
اعترفتم.
(إِصْرِي) : عهدي وميثاقي.
(فَمَنْ تَوَلَّى) : رجع عما اعترف به وأقرّ.
(الْفاسِقُونَ) : الخارجون عن طاعة الله ورسوله.
(أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ) : الاستفهام للإنكار ، ويبغون بمعنى يطلبون.
(وَلَهُ أَسْلَمَ) : انقاد وخضع لمجاري أقدار الله وأحكامه عليه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله أذكر لهم ما أخذ الله على النّبيين
وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من
النور والهدى ليؤمننّ به ولينصرنه على أعدائه ومناوئيه من أهل الكفر وأنه تعالى
قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشهدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال : (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
ثم أكد تعالى ذلك
مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقا ويلقى جزاء الفاسقين
فقال تعالى : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
وقد نقض هذا
الميثاق كلّ من اليهود والنصارى ، إذ لم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبما جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به ، وبنصره ،
فكفروا به ، وخذلوه ، فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله.
__________________
ثم وبخ تعالى أهل
الكتاب قائلا : (أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ) ـ يريد الاسلام ـ (يَبْغُونَ) أي يطلبون ، ولله أسلم أي انقاد وخضع من في السموات من
الملائكة والأرض من سائر المخلوقات الأرضية طوعا أو كرها : طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنّكم ترجعون إليه فيحاسبكم ،
ويجزيكم بأعمالكم.
هذا ما تضمنته
الآية الأخيرة (٨٣) إذ قال تعالى (أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة الله
تعالى في الأنبياء السابقين وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضا.
٢ ـ كفر أهل
الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق وتوليهم عن الإسلام وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبيّ
محمد صلىاللهعليهوسلم وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه.
٣ ـ بيان عظم شأن
العهود والمواثيق عند الله تعالى.
٤ ـ الإنكار على
من يعرض عن دين الله الإسلام. مع أن الكون كلّه خاضع منقاد لأمر الله ومجاري
أقداره مسلم له.
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))
__________________
شرح الكلمات :
(الْأَسْباطِ) : جمع سبط والسّبط الحفيد ، والمراد بالأسباط هنا أولاد
يعقوب الاثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.
(يَبْتَغِ) : يطلب ويريد دينا غير الدين الإسلامي.
(الْخاسِرِينَ) : الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى
أنفسهم.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في الآيات السابقة أفغير دين الله
تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا : نعم فقل أنت يا رسولنا آمنا بالله وما أنزل علينا من وحي وشرع وآمنا
بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على ولديه اسماعيل واسحق ، وما أنزل
على يعقوب واولاده الاسباط ، وآمنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل ،
وما أوتى النبيّون من ربهم لا نفرق بين أحد من أنبيائه بل نؤمن بهم وبما جاءوا به
فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى. ونحن لله تعالى
مسلمون أي منقادون مطيعون لا نعبده بغير ما شرع ولا نعبد معه سواه. هذا معنى الآية
الأولى (٨٤). أما الآية الثانية (٨٥) فإن الله تعالى يقرر أن كل دين غير الاسلام
باطل ، وان من يطلب دينا غير الاسلام لن يقبل منه بحال ويخسر في الآخرة خسرانا
كبيرا فقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وذلك هو الخسران
المبين.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ لا يصح إيمان
عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض ، كما لا يصح ايمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله
تعالى على رسله ويكفر ببعض.
__________________
٢ ـ الإسلام : هو
الإنقياد والخضوع لله تعالى وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه اليهم.
٣ ـ بطلان سائر
الأديان والملل سوى الدين الإسلامى وملة محمد صلىاللهعليهوسلم
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))
شرح الكلمات :
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً) : الاستفهام هنا للاستبعاد ، والهداية الخروج من الضلال.
(الْبَيِّناتُ) : الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبيّنة للحق في
المعتقد والعمل.
(الظَّالِمِينَ) : المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفا
لازما لهم.
(لَعْنَةَ اللهِ) : طرد الله لهم من كل خير ، ولعنة الملائكة والناس دعاؤهم
عليهم بذلك.
(وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) : ولا هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجّل بعذابه.
(أَصْلَحُوا) : أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق في
أهل الكتاب وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن الإسلام من بعض الأنصار ثم
عاد إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه ففي كل هؤلاء يقول تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ) فقد كفر اليهود بعيسى عليهالسلام ، وشهدوا أن الرسول محمدا حق وجاءتهم الحجج والبراهين على
صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق ، والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف
في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعا من طباعه فلهذا كانت هداية من هذه حاله
مستبعدة للغاية ، وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعدا لهم فقال : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها) أي في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ولا يمهلون ليعتذروا ، أولا يخفف عنهم العذاب. ثم لما
لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى
فاتحا باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ) الكفر والظلم ، (وَأَصْلَحُوا) نفوسهم بالإيمان صالح الأعمال (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فكان هذا كالوعد منه سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم
ويرحمهم بدخول الجنة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التوغل في
الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنبا أن
يتوب منه فورا ، ولا يواصله مصرا عليه خشية ان يحال بينه وبين التوبة.
٢ ـ التوبة مقبولة
متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك الإقلاع عن الذنب فورا ، والندم على
ارتكابه ، والاستغفار والعزم على عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه ، وإصلاح ما
أفسده مما يمكن إصلاحه.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ
افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
شرح الكلمات :
الكفر
: الجحود لله تعالى
والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع.
(بَعْدَ إِيمانِهِمْ) : اي ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر.
(الضَّالُّونَ) : المخطئون طريق الهدى.
(مِلْءُ الْأَرْضِ) : ما يملأها من الذهب.
(وَلَوِ افْتَدى بِهِ) : ولو قدمه فداء لنفسه من النار ما قبل منه.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم
كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة. ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن فلن تقبل توبتهم إلا إذا تابوا بالإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم إذا
مع اصرارهم على الكفر ، ولذا أخبر تعالى أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في
الضلال ومن كانت هذه حاله فلا يتوب ولا تقبل توبته ، ثم قرر مصيرهم بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً) يريد يوم القيامة مع أنه لا مال يومئذ ولكن من باب الفرض
والتقدير لا غير. فلو أن لأحدهم ماء الأرض ذهبا وقبل منه فداء لنفسه من عذاب الله
لافتدى ، ولكن
__________________
هيهات هيهات إنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، ولكن من جاء ربّه بقلب
سليم من الشرك والشك وسائر أمراض القلوب نجا من النار ودخل الجنة بإذن الله تعالى.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ سنة الله فيمن
توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا بعيدا أنه لا يتوب.
٢ ـ اليأس من نجاة
من مات كافرا يوم القيامة.
٣ ـ لا فدية تقبل
يوم القيامة من أحد ولا فداء لأحد فيه.
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))
شرح الكلمات :
(لَنْ تَنالُوا) : لن تحصلوا عليه وتظفروا به.
(الْبِرَّ) : كلمة جامعة لكل خير ، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.
(تُنْفِقُوا) : تتصدقوا.
(مِمَّا تُحِبُّونَ) : من المال الذي تحبونه لأنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم.
(مِنْ شَيْءٍ) : يريد قلّ أو كثر.
(فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) : لازمه أنه يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته.
معنى الآية
الكريمة :
يخبر تعالى عباده
المؤمنين الراغبين في بره تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن
يظفروا بمطلوبهم من برّ ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبّها
إليهم. ثم أخبرهم مطمئنا لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل
__________________
أو كثير نفيس أو
خسيس هو به عليم وسيجزيهم به ، وبهذا حبّب إليهم الإنفاق ورغبهم فيه فجاء أبو طلحة
رضى الله عنه يقول يا رسول الله ان الله تعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإن من أحب أموالي إليّ بيرحا (حديقة) فاجعلها حيث أراك
الله يا رسول الله ، فقال له صلىاللهعليهوسلم مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك فجعلها في أقربائه
حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ البر وهو فعل
الخير يهدي إلى الجنّة.
٢ ـ لن يبلغ العبد
برّ الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله اليه.
٣ ـ لا يضيع
المعروف عند الله تعالى قل أو كثر طالما أريد به وجهه تعالى.
__________________
الجزء الرابع
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ
آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))
شرح الكلمات :
(الطَّعامِ) : اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.
حلٌّ
: الحل : الحلال ،
وسمي حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.
(لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الأثني
عشر إلى يومنا هذا.
(حَرَّمَ) : حظر ومنع.
(التَّوْراةُ) : كتاب أنزل على موسى عليهالسلام وهو من ذريّة إسرائيل.
(فَاتْلُوها) : اقرأوها على
رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.
افترى الكذب : اختلقه وزوره وقاله.
(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع ، ونبذ الشرك والبدع.
(حَنِيفاً) : مائلا عن الشرك إلى التوحيد.
__________________
(بِبَكَّةَ) : مكة.
(لِلْعالَمِينَ) : للناس أجمعين.
(مَقامُ إِبْراهِيمَ) : آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت
فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
(مَنْ دَخَلَهُ) : الحرم الذى حول البيت بحدوده المعروفة.
(آمِناً) : لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
الحج
: قصد البيت للطواف
به وأداء بقية المناسك.
(سَبِيلاً) : طريقا والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام
بالمناسك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلىاللهعليهوسلم كيف تدعى أنك على دين إبراهيم ، وتأكل ما هو محرم في دينه
من لحوم الإبل وألبانها فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله : كل الطعام
كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل ، ولم يكن هناك شيء
محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم اسرئيل «يعقوب» على نفسه خاصة وهو
لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض مرضا آلمه فنذر لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه ، وكانت
لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى ، هذا معنى
قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) من قبل أن تنزل التوراة ، إذ التوراة نزلت على موسى بعد
إبراهيم ويعقوب بقرون عدة ، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا
يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود
إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعا من الأطعمة ، وذلك بعد إبراهيم
ويعقوب
__________________
بقرون طويلة. قال
تعالى في سورة النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا) (اليهود) (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ،
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الآية.
ولما طولبوا
بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عليهم. وقوله تعالى : فمن افترى على الله الكذب بعد قيام
الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئا من الطعام
والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل
وألبانها ، فأولئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر
الله تعالى رسوله أن يقول : صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من
الله ، إذا فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبدا من
المشركين.
هذا ما تضمنته
الآيات الثلاث : ٩٣ ـ ٩٤ ـ ٩٥ وأما قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) فإنه متضمن الرّد على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع
للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة
الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله
مباركا يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف
به يجدها ويحظى بها ، كما جعله هدى للعالمين فالمؤمنون يأتون حجاجا وعمارا فتحصل
لهم بذلك أنواع من الهداية ، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في
صلاتهم ، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية
وقوله تعالى فيه آيات بينات يريد : في المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام
إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع
أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات
ومنها الأمن التام لمن دخله فلا
__________________
يخاف غير الله
تعالى. قال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا
حد لها ، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه
أو يعتمره ، وقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، لمّا ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات
وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية ،
ففرضه بصيغة ولله على الناس وهي أبلغ صيغ الإيجاب ، واستثنى العاجزين عن حجه
واعتماره بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام
السفر.
وقوله تعالى في
آخر الآية : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد
ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه أما الله تعالى فلا يضره
شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغنى عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ثبوت النسخ في
الشرائع الإلهية ، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلا لهم.
٢ ـ إبطال دعوى
اليهود أن إبراهيم كان محرما عليه لحوم الإبل وألبانها.
٣ ـ تقرير النبوة
المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ البيت الحرام
كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به
٥ ـ مشروعية طلب
البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
٦ ـ وجوب الحج على
الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
٧ ـ الإشارة إلى
كفر من يترك الحج وهو قادر عليه ، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة.
__________________
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ
(٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(٩٩))
شرح الكلمات :
الكفر : الجحود.
آيات
الله : ما أنزل تعالى من
الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وما أنزله تعالى في التوراة والإنجيل من صفات النبي صلىاللهعليهوسلم ونعوته الموجبة للإيمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء
به وهو الإسلام.
(شَهِيدٌ عَلى ما
تَعْمَلُونَ) : عليم به مطلع عليه ، وما يعملونه هو الكفر والشر
والفساد.
(تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) : تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن الإسلام الذي هو
سبيل الله تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين.
(تَبْغُونَها عِوَجاً) : تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل
سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.
(وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) : بعلمكم بأن الإسلام حق ، وأن ما تبغونه له من الإضلال
لأهله والتضليل هو كفر وباطل.
معنى الآيتين :
بعد أن دحض الله
تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في الآيات السابقة أمر تعالى رسوله
__________________
أن يقول لهم موبخا
مسجلا عليهم الكفر يا أهل الكتاب لم تكفرون بحجج الله تعالى وبراهينه المثبتة
لنبوة نبيّه محمد صلىاللهعليهوسلم ودينه الإسلام تلك الحجج والبراهين التي جاء بها القرآن
والتوراة والإنجيل معا؟ والله جل جلاله مطلع على كفركم عليم به ، أما تخافون عقابه
أما تخشون عذابه؟.
كما أمر تعالى
رسوله أيضا أن يقول لهم مؤنبّا موبخا لهم على صرفهم المؤمنين عن الإسلام بأنواع
الحيل والتضليل : يا أهل الكتاب أي يا أهل العلم الأول لم تصرفون المؤمنين عن الإسلام الذي
هو سبيل الله بما تثيرونه بينهم من الشكوك والأوهام تطلبون للإسلام العوج لينصرف
المؤمنون عنه ، مع علمكم التام بصحة الإسلام وصدق نبيّه محمد عليه الصلاة والسّلام
أما تخافون الله ، أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم
وغشكم وخداعكم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ شدة قبح كفر
وظلم من كان عالما من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغيا وحسدا.
٢ ـ حرمة صرف
الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع.
٣ ـ علم الله
تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلا منه وعدلا.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ
عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))
شرح الكلمات :
(فَرِيقاً) : طائفة من الحاقدين على الإسلام العاملين على الكيد له والمكر به
وبأهله.
(يَرُدُّوكُمْ) : يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم.
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) : الاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم.
(آياتُ اللهِ) : آيات القرآن الكريم.
(يَعْتَصِمْ) : يتمسك بشدة.
(حَقَّ تُقاتِهِ) : باستفراغ الوسع في إمتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وتقاته هي تقواه.
(بِحَبْلِ اللهِ) : كتابه القرآن ودينه الإسلام ، لأن الكتاب والدين هما
الصلة التي تربط المسلم بربه ، وكل ما يربط ويشد شيئا بآخر هو سبب وحبل.
(فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ) : جمعها على أخوة الإيمان ووحد بينها بعد الاختلاف
والنفرة.
(شَفا حُفْرَةٍ) : شفا الحفرة حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع
فيها.
__________________
(فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها) : بهدايتكم إلى الإسلام وبذلك أنجاكم من النار.
معنى الآيات :
بعد أن وبخ تعالى
اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك ، نادى المؤمنين
محذرا إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) وذلك أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس
يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمرّ بهم شاس بن
قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة
من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب فأمر شاس شابا
أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحميّة القبلية بينهم فتسابوا
وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صلىاللهعليهوسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم فهدأوا ، وذهب الشر
ونزلت هذه الآيات : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى ، وأنكر عليهم
ما حدث منهم حاملا لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم فقال عزوجل : وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله صباح مساء في
الصلوات وغيرها ، وفيكم رسوله هاديا ومبشرا ونذيرا وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر
المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال فقال : ومن يعتصم بالله أي بكتابه
وسنة نبيّه فقد هدي إلى صراط مستقيم ثم كرر تعالى نداءه لهم بعنوان الإيمان تذكيرا لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم
في تقوى الله عزوجل وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضا
لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه فلا يبدلوا ولا يغيروا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وأمرهم بالتمسك
بالإسلام عقيدة وشريعة ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى
عليهم بالألفة
__________________
والمحبة التي كانت
ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام ، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين فألّف بين
قلوبهم فأصبحوا بها إخوانا متحابين متعاونين ، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى
الإيمان على شفا جهنم لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالدا أبدا ، وكما أنعم عليهم
وأنقذهم من النار ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه
ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها فقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ طاعة كثير من
علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي
بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.
٢ ـ العصمة في
التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فمن تمسك بهما لم يضل.
٣ ـ الأخذ
بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال وأخيرا من الهلاك
والخسران.
٤ ـ وجوب التمسك
بشدة بالدين الإسلامي وحرمة الفرقة والاختلاف فيه.
٥ ـ وجوب ذكر
النعم لأجل شكر الله تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم.
٦ ـ القيام على
الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتما بقضاء الله
وحكمه.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا
__________________
تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
(١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))
شرح الكلمات :
الأمة
: أفراد من البشر
أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحدا والمراد بالأمة هنا
المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(الْخَيْرِ) : الإسلام وكل ما ينفع الإنسان في حياته الأولى والآخرة من
الإيمان والعمل الصالح.
(بِالْمَعْرُوفِ) : المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلاحه للفرد أو
الجماعة.
(الْمُنْكَرِ) : ضد المعروف ، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد ، للفرد
أو الجماعة.
(كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا) : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
(يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ) : هذا يوم القيامة.
(فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) : رحمة الله هنا : الجنّة جعلنا الله تعالى من أهلها ،
آمين.
__________________
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) : هذه آياتنا نقرأها عليك متلبسة بالحق ، لا باطل فيها
أبدا.
(وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) : إلى الله تصير الأمور فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد
فضلا وعدلا.
معنى الآيات :
بعد ما أمر الحق
تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والاختلاف
وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الآية (١٠٤) بأن يوجدوا من
أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام وذلك بعرضه على الأمم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول
فيه ، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله فقال تعالى
مخاطبا إياهم : ولتكن منكم أي يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير أي الإسلام ،
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي
الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال : فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من
العار والنار ، وبدخول الجنة مع الأبرار.
وفي الآيات (١٠٥) (١٠٦)
(١٠٧) نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين
فيهلكوا هلاكهم فقال تعالى : مخاطبا إياهم : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سببا في
الفرقة والخلاف ، وهما أداة الوحدة والائتلاف ، وأعلمهم بجزاء المختلفين
من أهل الكتاب ليعتبروا فلا يختلفوا ولا يتفرقوا فقال تعالى : وأولئك لهم عذاب
عظيم لا يقادر قدره ولا يعرف مداه ، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم
وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة
، وتسود وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء ، فقال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
__________________
وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ) وبيّن جزاء الفريقين فقال : فأما الذين اسودت وجوههم من
سوء ما عاينوه من أهوال الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار فيقال
لهم تقريعا وتوبيخا : أكفرتم بعد إيمانكم؟ إذ هذه وجوه من تلك حالهم ، فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون بالله وشرائعه.
وأما الذين ابيضت
وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ).
وفي الآية (١٠٨)
شرف الله تعالى نبيّه محمدا صلىاللهعليهوسلم بخطابه والوحي إليه فقال : (تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِ) أي هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق
الثابت الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك
نجا ومن أعرض هلك ، وما الله يريد ظلما للعالمين. فلا يعذب إلا بعد الإعلام
والإنذار.
وفي الآية الأخيرة
(١٠٩) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقا وتصرفا وتدبيرا ، وأن مصير
الأمور إليه وسيجزى المحسن بالحسنى والمسيء بالسّوأى.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب وجود
طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام وتعرضه عليهم وتقاتلهم إن
قاتلوها عليه ، ووجوب وجود هيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى
المسلمين.
٢ ـ حرمة الفرقة
بين المسلمين والاختلاف في دين الله.
٣ ـ أهل البدع
والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.
٤ ـ أهل السنة
والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم.
__________________
٥ ـ كرامة الرسول
على ربّه وتقرير نبوّته. وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.
٦ ـ مرد الأمور
إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله
عهدا بالإيمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ
يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ
لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))
شرح الكلمات :
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) : وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.
(أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) : أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.
(أَذىً) : الأذى الضرر اليسير.
(يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ) : ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم أي ظهورهم.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) : أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.
(وَباؤُ بِغَضَبٍ) : رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) .. الخ : ذلك : إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة
وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب. (فالباء) في بأنهم
سببية أي بسبب
فعلهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر.
(يَعْتَدُونَ) : الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والشر والفساد.
معنى الآيات :
لما أمر الله
تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون
إلى الإسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم
: (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كما قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كنتم خير الناس للناس ..» ووصفهم بما كانوا به خير أمة
فقال تأمرون بالمعروف وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيّه صلىاللهعليهوسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش
، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان
به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب الى
الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عزوجل ، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإسلام
لكان خيرا لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنهم بأن منهم
المؤمنين الصادقين في إيمانهم كعبد الله بن سلام وأخيه ، وثعلبة بن سعيد وأخيه ،
وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك
أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأميّ واتباعه على ما يجيء به من الاسلام ثم أخبر
المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيرا كإسماعهم الباطل وقولهم
الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارّين من القتال ثم لا
ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.
كما أخبر تعالى في
الآية (١١٢) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أيّ البلاد وجدوا
لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو
حبل الله ، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل الناس. كما أخبر تعالى عنهم
__________________
أنهم رجعوا من
عنادهم وكفرهم بغضب من الله ، وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر
المعبر عنها بالمسكنة ، وفي الآخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم وأنها
الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي لا ينقطع
فقال تعالى (ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات خيرية
أمة الإسلام وفي الحديث : «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله».
٢ ـ بيان علة
خيرية أمة الإسلام وهي الإيمان بالله والجهاد والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
٣ ـ وعد الله
تعالى لأمة الإسلام ـ ما تمسكت به ـ بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم.
٤ ـ صدق القرآن في
إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا.
٥ ـ بيان جرائم
اليهود التي كانت سببا في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر ، وقتل الأنبياء بغير
حق والعصيان والاعتداء على حدود الشرع.
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ
__________________
فِي
الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))
شرح الكلمات :
(لَيْسُوا سَواءً) : غير متساوين.
(أُمَّةٌ قائِمَةٌ) : جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.
(يَتْلُونَ آياتِ
اللهِ) : يقرأون القرآن.
(آناءَ اللَّيْلِ) : ساعات الليل جمع إني وإني.
(وَهُمْ يَسْجُدُونَ) : يصلون
(يُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ) : يبتدرونها خشية الفوات.
(فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) : فلن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون به وافيا.
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى
حال أهل الكتاب وأنهم فريقان مؤمن صالح ، وكافر فاسد. ذكر هنا في هذه الآيات
الثلاث : (١١٣ ، ١١٤ ، ١١٥) أن أهل الكتاب ليسوا سواء أي غير متساوين في الحال ، وأثنى على أهل الصلاح منهم
فقال جل ذكره (لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي على الإيمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا.
يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل أي ساعات الليل في صلاة العشاء
وقيام الليل وهم يسجدون وهذا ثناء عليهم بالسجود إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله
تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعوة إلى عبادة
الله تعالى بعد الإيمان به والإسلام الظاهر والباطن له. وينهون عن المنكر وهو
الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عزوجل : (يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إليها قبل فواتها والخيرات هي كل قول وعمل صالح
من سائر القربات. وشهد
__________________
تعالى لهم بالصلاح
فقال : (وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ).
وأخيرا في الآية
الأخيرة (١١٥) أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه بل
يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء ، لأنهم متقون والله عليم بالمتقين فلن يضيع
أجرهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل الثبات
على الحق والقيام على الطاعات.
٢ ـ فضل تلاوة
القرآن الكريم في صلاة الليل.
٣ ـ فضل الإيمان
والدعوة إلى الإسلام.
٤ ـ فضل المسابقة
في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.
٥ ـ فضيلة الكتابي
إذا أسلم وحسن إسلامه ، وفي الصحيحين يقول الرسول صلىاللهعليهوسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه
وأدرك النبي صلىاللهعليهوسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران» الحديث ..
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (١١٧))
شرح الكلمات :
(كَفَرُوا) : كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
(لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ) : لن تجزى عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب
الله شيئا ، إذ لا مال يومئذ ينفع ، ولا بنون.
__________________
(مَثَلُ) : أي صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام ، أو للتصدق
به.
الصر : الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده.
الحرث
: ما تحرث له الأرض
وهو الزرع.
(ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) : حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار.
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى حال
مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في هاتين الآيتين
ما توعد به أهل الكفر من الكتابيين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في
الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية فقال : إن الذين كفروا أي
كذبوا الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحّدوا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم أي في الدنيا والأخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئا من
الإغناء ، لأن الله تعالى غالب على أمره عزيز ذو انتقام ، وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ). فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في
الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا
يفارقونها أبدا ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها ، ولا أولادهم الذين
كانوا يعتزون بهم ويستنصرون ، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم : سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية
: (١١٦) أما الآية (١١٧) فقد ضرب تعالى فيها مثلا لبطلان نفقات الكفار والمشركين
وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلا : ريحا باردة
شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يحصدوهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح
وقضت عليه نهائيا فلم ينتفعوا بشيء منه ، قال تعالى في هذا المثل : مثل ما ينفقون ـ
أي أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا أي مما يرونه نافعا لهم من بعض أنواع البر.
كمثل ريح فيها صرّ أي برد شديد أصابت ـ أي تلك الريح الباردة حرث قوم أي
زرعهم النابت
__________________
فأهلكته أي
أفسدته. فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون ، وما ظلمهم حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم ، إذ لم يفعل الله
تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد فجزاهم الله بالحرمان وبذلك
كانوا هم الظالمين لأنفسهم. قال تعالى : (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ لن يغني عن
المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
٢ ـ أهل الكفر هم
أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدّر عليهم لا نجاة منه.
٣ ـ بطلان العمل
الصالح بالشرك والموت على الكفر.
٤ ـ استحسان ضرب
الأمثال في الكلام لتقريب المعاني إلى الأذهان.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا
خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ (١٢٠))
__________________
شرح الكلمات :
(بِطانَةً) : بطانة الرجل الذين يطلعهم على باطن أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
(مِنْ دُونِكُمْ) : من غيركم أي من غير المسلمين كالكفار وأهل الكتاب.
(لا يَأْلُونَكُمْ) : لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
(خَبالاً) : فسادا في أمور دينكم ودنياكم.
(وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) : أحبّوا عنتكم أي مشقتكم.
(بَدَتِ الْبَغْضاءُ) : ظهرت شدة بغضهم لكم.
(أُولاءِ) : هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
(بِالْكِتابِ كُلِّهِ) : أي بالكتب الإلهية كلها.
(عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) : من شدة الغيظ عليكم ، لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ يعض
أصبعه على عادة البشر ، والغيظ : شدة الغضب.
(حَسَنَةٌ) : ما يحسن من أنواع الخير كالنصر والتأييد والقوة والخير.
(سَيِّئَةٌ) : ما يسوءكم كالهزيمة أو الموت أو المجاعة.
(كَيْدُهُمْ) : مكرهم بكم وتبييت الشر لكم.
(بِما يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ) : علما به وقدرة عليه ، إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم
سلطانه.
معنى الآيات :
لما أخبر تعالى عن
مصير الكافرين في الآخرة ، وأن ذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم وظلمهم حذر
المؤمنين من موالاتهم دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ
والبغضاء للمسلمين الذين لا يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين
__________________
يسوءهم أن يروا
المسلمين متآلفين متحابين أقوياء ظاهرين منصورين على أهل الشرك والكفر ، ويسرهم
أيضا أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين. فقال تعالى ـ وقوله الحق
ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلىاللهعليهوسلم نبيّا ورسولا. (لا تَتَّخِذُوا
بِطانَةً) أي أفرادا من دونكم أي من غير أهل دينكم ، كاليهود والنصارى والمنافقين
والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم ، ووصفهم تعالى تعريفا
بهم فقال : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) يعني لا يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية.
(وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي أحبوا عنتكم ومشقتكم ، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما
يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة ، ألا
وهو ظهور البغضاء من أفواههم بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله
، وما يخفونه من ذلك في صدورهم هو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عزوجل تحذيره للمؤمنين فيقول : (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ) المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي الخطاب وما يتلى عليكم ويقال لكم. ثم يقول تعالى معلما
محذرا ها أنتم أيها المسلمون تحبونهم ولا يحبونكم. قد علم الله أن من بين المؤمنين
من يحب بعض الكافرين لعلاقة الإحسان الظاهرة بينهم فأخبر تعالى عن هؤلاء كما أن
رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لأعدائه فلذا ذكر تعالى هذا وأخبر به وهو الحق ،
وقال : (تُؤْمِنُونَ
بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي وهم لا يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم وبينهم
فكيف إذا تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم. وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا
لقوا المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا انفردوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا
عليهم حتى يعضوا
__________________
أطراف أصابعهم من شدة الغيظ. فقال تعالى (وَإِذا لَقُوكُمْ
قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) (مِنَ الْغَيْظِ) وهنا أمر رسوله أن يدعو عليهم بالهلاك فقال له : قل يا
رسولنا لهم (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلذا أخبر عنهم كاشفا الغطاء عما تكنه نفوسهم ويخفونه في
صدورهم.
هذا ما تضمنته
الآيتان الأولى (١١٨) والثانية (١١٩) وأما الآية الثالثة (١٢٠) فقد تضمنت أيضا
بيان صفة نفسيّة للكافرين المنهى عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه
من حسن حال المسلمين كإتلافهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم ،
كما هو أيضا فرحهم وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلاف بين المسلمين أو وقوع هزيمة
لجيش من جيوشهم ، أو تغير حال عليهم بما يضر ولا يسر وهذه نهاية العداوة وشدة البغضاء
فهل مثل هؤلاء يتخذون أولياء؟ اللهم لا. فقال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) (تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ
تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها). ولما وصف تعالى هؤلاء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة قال
لعباده المؤمنين مبعدا الخوف عنهم : وإن تصبروا على ما يصيبكم وتتقوا الله تعالى
في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه لا يضركم كيدهم شيئا ، لأن الله تعالى وليّكم مطلع على تحركاتهم
وسائر تصرفاتهم وسيحبطها كلها ، دل على هذا المعنى قوله في الجملة التذيلية (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة اتخاذ
مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامّة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية ،
والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
٢ ـ بيان رحمة
المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
٣ ـ بيان نفسيات
الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين.
٤ ـ الوقاية من
كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين
__________________
ثم تقوى الله
تعالى بإقامة دينه ولزوم شرعه والتوكل عليه ، والأخذ بسننه في القوة والنصر.
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ غَدَوْتَ) : أي واذكر إذ غدوت ، والغدوّ : الذهاب أول النهار.
(مِنْ أَهْلِكَ) : أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتداء الغاية إذ خرج صلىاللهعليهوسلم صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء.
(تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ) : تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها
من ساحة المعركة.
(هَمَّتْ) : حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجّهت إرادتها إلى
ذلك.
(طائِفَتانِ) : هما بنو سلمة ، وبنو حارثة من الأنصار.
(تَفْشَلا) : تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون
المعركة وحدهم.
(وَاللهُ وَلِيُّهُما) : متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى
المعركة.
(بِبَدْرٍ) : بدر اسم رجل وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء وهو
الآن قرية تبعد عن المدينة النبويّة بنحو من مائة وخمسين ميلا «كيلومتر»
(وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) : لقلة عددكم وعددكم وتفوّق العدو عليكم.
__________________
معنى الآيات :
لما حذر الله
تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ، وأخبرهم أنهم متى صبروا
واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئا ذكرهم بموقفين أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا
فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد ، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم
وهو غزوة بدر ، فقال تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي اذكر يا رسولنا لهم غدوّك صباحا من بيتك الى ساحة
المعركة بأحد ، تبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال أي تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال
الملائمة لخوض المعركة ، والله سميع لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى
العدو ، أو عدمه وقتاله داخل المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم ومن ذلك همّ بني سلمة وبني
حارثة بالرجوع من الطريق لو لا أن الله سلم فعصمهما من الرجوع لأنه وليهما. هذا
معنى قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو ، والله وليهما فعصمهما
من ذنب الرجوع وترك الرسول صلىاللهعليهوسلم يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنو سلمة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) فتوكلت الطائفتان على الله وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه. والحمد لله.
هذا موقف والمقصود
منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة واستشهد
من الأنصار سبعون ومن المهاجرين أربعة وشج رأس النبي صلىاللهعليهوسلم وكسرت رباعيته واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه.
والموقف الثاني هو
غزوة بدر حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم الله وأنجز لهم ما
وعدهم لأنهم صبروا واتقوا ، فقتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة
قال تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) فاتقوا الله بالعمل بطاعته ، ومن ذلك
__________________
ترك اتخاذ بطانة
من اعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نعم الله عليكم فيزيدكم ، فذكر تعالى في هذا
الموقف النصر لأنه خير ، فقال (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ولم يقل في الموقف الأول ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة
، لأنه تعالى حيي كريم فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط وهم يذكرون هزيمتهم فيها
ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الصبر
والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحياة.
٢ ـ استحسان
التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ.
٣ ـ ولاية الله
تعالى للعبد تقيه مصارع السوء ، وتجنبه الأخطار.
٤ ـ تقوى الله
تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هى الشكر الواجب على العبد.
(إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ
يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧))
شرح الكلمات :
(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) : الاستفهام انكاري أي ينكر عدم الكفاية. ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم.
__________________
(أَنْ يُمِدَّكُمْ) : أي بالملائكة عونا لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم
بالعدد والعتاد.
(الْمَلائِكَةِ) : واحدهم ملاك وهم عباد لله مكرمون مخلقون من نور لا يعصون
الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.
(بَلى) : حرف إجابة أي يكفيكم.
(مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) : أي من وجههم في وقتهم هذا.
(مُسَوِّمِينَ) : معلمين بعلامات تعرفونهم بها.
(إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) : البشرى : الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.
ولتطمئن
به قلوبكم : اطمئنان القلوب
سكونها وذهاب الخوف والقلق عنها.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً) : الطرف الطائفة ، يريد ليهلك من جيش العدو طائفة.
(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) : أي يخزيهم ويذلهم.
(فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ) : يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أمّلوه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تذكير الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في
بدر فقال : (إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ) عند ما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي
يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابك فقلت : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) بلى : أي يكفيكم. (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا) أي من وجههم ووقتهم هذا (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) بعلامات وإشارات خاصة بهم ، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد
عن إمداد قريش بالمقاتلين لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة
فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة جاء ذلك
في سورة
__________________
الأنفال في قوله
تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) فهذه الألف هي التي نزلت فعلا وقاتلت مع المؤمنين وشوهد
ذلك وعلم به يقينا ، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم لأنه كان مشروطا بإمداد
كرز لقريش فلما لم يمدهم ، لم يمد الله تعالى المؤمنين ، فقال تعالى (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الامداد المذكور (إِلَّا بُشْرى) للمؤمنين تطمئن به قلوبهم وتسكن له نفوسهم فيزول القلق
والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين ، ولذا قال تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز أي الغالب ، الحكيم الذي يضع النصر في موضعه فيعطيه
مستحقه من أهل الصبر والتقوى (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد فعل فأهلك من المشركين سبعين ، أو يكبتهم أي يخزيهم
ويذلهم إذ أسر منهم سبعون (فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ) لم يحققوا النصر الذي أرادوه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سبب
هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخلالهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة أمر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن
الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد ، وكان الوعد مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا ولم
يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم.
٢ ـ النصر وإن
كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد الله تعالى فقد ينصر الضعيف
ويخذل القوى ، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولا قبل إعداد العدد. وتحقيق
الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عزوجل.
٣ ـ ثبوت قتال
الملائكة مع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بدر قتالا حقيقيا ، لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون
على خيول ، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم. ولا يقولنّ قائل : الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر ، فكيف يعقل
اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل ، وذلك أن الله تعالى
أنزلهم في صورة بشر فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة
__________________
البشر ، ويدل على
ذلك ويشهد له أنّ ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى
عليهالسلام ففقأ عينه ، وعاد إلى ربّه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما
معا السّلام. من رواية البخارى.
(لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
(١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))
شرح الكلمات :
(الْأَمْرِ) : الشأن والمراد هنا توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم.
(شَيْءٌ) : شيء نكرة متوغلة في الإيهام. وأصل الشيء : ما يعلم ويخبر
به.
(أَوْ) : هنا بمعنى حتى أي فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
(لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ ...) : أي ملكا وخلقا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم كما يريد.
(لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا) : لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلا أو
شربا أو لباسا.
(الرِّبَوا) : لغة : الزيادة ، وفي الشرع نوعان : ربا فضل وربا نسيئة
ربا الفضل : يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس
بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم التأخير ،
__________________
وربا
النسيئة : هو أن يكون على
المرء دين الى أجل فيحل الأجل ولم يجد سدادا لدينه فيقول له أخرني وزد في الدين.
(أَضْعافاً مُضاعَفَةً) : لا مفهوم لهذا لأنه خرج مخرج الغالب ، إذ الدرهم الواحد
حرام كالألف ، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى
يتضاعف الدين فيصبح أضعافا كثيرة.
(تُفْلِحُونَ) : تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة.
(أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) : هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
(لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) : لترحموا فلا تعذّبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية.
معنى الآيات :
صح أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب ، وقال يوم أحد
لما شج رأسه وكسرت رباعيته : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟» فأنزل الله تعالى
عليه قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون ولله ما
في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد فإن عذب فبعدله
وإن رحم فبفضله ، وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب.
هذا ما تضمنته
الآيتان الأولى (١٢٨) والثانية (١٢٩) وأما الآية الثالثة (١٣٠) فإن الله تعالى
نادى عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام بأن يتركوا أكل
الربا وكل تعامل به فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا) أي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً
مُضاعَفَةً) إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به
فيأتي إلى دائنه ويقول أخّر ديني وزد عليّ وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعد
ما كان عشرا عشرين وثلاثين. وهذا معنى قوله أضعافا مضاعفة ، ثم أمرهم بتقواه عزوجل
__________________
وواعدهم بالفلاح
فقال عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفلحوا بالنجاة من العذاب والحصول على الثواب وهو
الجنة.
وفي الآية الرابعة
(١٣١) أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين فهي مهئية محضرة لهم ،
واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم فقال عزوجل : (وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، أي المكذبين بالله ورسوله فلذا لم يعملوا بطاعتهما لأن
التكذيب مانع من الطاعة ، وفي الآية الأخيرة (١٣٢) أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله
ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله في أحد وهم الرماة الذين تخلوا
عن راكزهم الدفاعية فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة فقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي كي يرحمكم فيتوب عليكم ويغفر لكم ويدخلكم دار السّلام والنعيم
المقيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استقلال الرّب
تعالى بالأمر كله فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد.
٢ ـ الظلم مستوجب
للعذاب ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه.
٣ ـ حرمة أكل
الربا مطلقا مضاعفا كان أو غير مضاعف.
٤ ـ بيان ربا
الجاهلية إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله : (لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا).
٥ ـ وجوب التقوى
لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.
٦ ـ وجوب اتقاء
النار ولو بشق تمرة.
٧ ـ وجوب طاعة
الله ورسوله للحصول على الرحمة الإلهية وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة.
__________________
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))
شرح الكلمات :
(وَسارِعُوا) : المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توان ولا تراخ.
(إِلى مَغْفِرَةٍ) : المغفرة : ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها. والمراد هنا :
المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب ، وكثرة الاستغفار وفي الحديث : «ما من ، رجل
يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له».
(وَجَنَّةٍ) : الجنة دار النعيم فوق السموات ، والمسارعة إليها تكون
بالإكثار من الصالحات.
(أُعِدَّتْ) : هيّئت وأحضرت فهي موجودة الآن مهيّأة.
(لِلْمُتَّقِينَ) : المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب
ولا
__________________
بفعل محرم ، وإن
حدث منهم ذنب تابوا منه فورا.
(فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) : السراء الحال المسرة وهي اليسر والغنى والضراء الحال
المضرة وهي الفقر.
(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) : كظم الغيظ : حبسه ، والغيظ ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء
في بدنه أو عرضه أو ماله ، وحبس الغيظ : عدم إظهاره على الجوارح بسبب أو ضرب
ونحوهما للتشفي والانتقام.
(وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) : العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك.
(يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) : المحسنون هم الذين يبّرون ولا يسيئون في قول أو عمل.
(فاحِشَةً) : الفاحشة : الفعلة القبيحة الشديدة القبح كالزنى وكبائر
الذنوب.
(أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) : بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلما لها.
(وَلَمْ يُصِرُّوا) : أي يسارعون إلى التوبة ، لأن الإصرار هو الشد على الشيء
والربط عليه مأخوذ من الصر ، والصرة معروفة.
(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : أي أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب ، أو بفعلهم ما
حرم.
(وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) : الذي هو الجنة.
معنى الآيات :
لما نادى الله
تعالى المؤمنين ناهيا لهم عن أكل الربا آمرا لهم بتقواه عزوجل ، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي
الموجبة لعذاب الله تعالى ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله كي يرحموا في دنياهم
وأخراهم. أمرهم في الآية الأولى (١٣٣) بالمسارعة إلى شيئين
__________________
الأول مغفرة
ذنوبهم وذلك بالتوبة النصوح ، والثاني دخول الجنة التي وصفها لهم ، وقال تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي أحضرت وهيئت للمتقين والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة
إلى موجبات دخولها وهي الإيمان والعمل الصالح إذ بهما تزكوا الروح وتطيب فتكون
أهلا لدخول الجنة.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى وأما الآيتان الثانية (١٣٤) والثالثة (١٣٥) فقد تضمنتا صفات المتقين
الذين أعدت لهم الجنة دار السّلام فقوله تعالى : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) هذا وصف لهم بكثرة الانفاق في سبيل الله ، وفي كل أحايينهم
من غنى وفقر وعسر ويسر وقوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وصف لهم بالحلم والكرم النفسي وقوله : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرما ، وفعلهم
هذا إحسان ظاهر ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم فقال تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل وقوله
: (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة ، ولذا إذا فعلوا
فاحشة ذنبا كبيرا أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى ونهيه عما فعلوا فبادروا
الى التوبة وهى الاقلاع عن الذنب والندم عن الفعل والعزم على عدم العودة إليه ،
واستغفار الله تعالى منه. وقوله تعالى (وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وصف لهم بعدم الإصرار أى المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم
يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب ، أو فعلهم لحرام ، وأما الآية الرابعة (١٣٦)
فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وتقواهم وما اتصفوا به من كمالات نفسية ،
وطهارة روحية الا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم
__________________
وجنات تجرى من
تحتها الأنهار خالدين فيها. ومدح المنان عزوجل ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم
المقيم فقال : (وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب تعجيل
التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى : (سارِعُوا).
٢ ـ سعة الجنة ، وانها مخلوقة الآن لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ).
٣ ـ المتقون هم
أهل الجنة وورثتها بحق.
٤ ـ فضل استمرار
الانفاق في سبيل الله ، ولو بالقليل.
٥ ـ فضيلة خلة كظم
الغيظ بترك المبادرة الى التشفى والانتقام.
٦ ـ فضل العفو عن
الناس مطلقا مؤمنهم وكافرهم بارهم وفاجرهم.
٧ ـ فضيلة
الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ولحديث : «ما أصر من استغفر ولو عاد في
اليوم سبعين مرة». رواه الترمذى وابو داود. وحسنه ابن كثير.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
(١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ (١٤١))
__________________
شرح الكلمات :
(قَدْ خَلَتْ) : خلت : مضت.
(سُنَنٌ) : جمع سنة وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو
الجماعة ، وسنن الله تعالى في خلقه قانونه الماضى في الخلق.
(فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) : الأمر للارشاد ، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين
لتعتبروا.
(عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) : عاقبة أمرهم وهي ما حل بهم من الدمار والخسار كعاد
وثمود.
(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) : أي ما ذكر في الآيات بيان للناس به يتبينون الهدى من
الضلال وما لازمهما من الفلاح ، والخسران.
(مَوْعِظَةٌ) : الموعظة الحال التى يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة.
(وَلا تَهِنُوا) : لا تضعفوا.
(قَرْحٌ) : القرح : أثر السلاح في الجسم كالجرح ، وتضم القاف فيكون
بمعنى الألم.
(الْأَيَّامُ) : جمع يوم والليالى معها والمراد بها ما يجريه الله من
تصاريف الحياة من خير وغيره وإعزاز وإذلال.
(شُهَداءَ) : جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله وشاهد وهو من يشهد
على غيره.
(لِيُمَحِّصَ) : ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب.
(وَيَمْحَقَ) : يمحو ويذهب آثار الكفر والكافرين.
معنى الآيات :
لما حدث ما حدث من
انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر ، والطاعة اللازمة للقيادة ذكر تعالى تلك الأحداث
مقرونة بفقهها لتبقى هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين وبدأها بقوله :
__________________
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم
كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فقد ارسل الله تعالى اليهم رسله فكذبوهم فأمضى تعالى
سننه فيهم فأهلك المكذبين وانجى المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين ،
وستمضي سنته اليوم كذلك ، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم. وإن ارتبتم
فسيروا في الأرض وقفوا على آثار الهالكين ، وانظروا كيف كانت عاقبتهم ، ثم قال
تعالى : هذا الذى ذكرت في هذه الآيات بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل والهدى
من الضلال ، وهدى يهتدون به إلى سبيل السّلام وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم
بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون هذا ما تضمّنته
الآيتان الأولى (١٣٧) والثانية (١٣٨) وأما الآيتان الثالثة (١٣٩) والرابعة (١٤٠) فقد
تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد إذ قال تعالى مخاطبا لهم (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل ، ولا تحزنوا على
ما فاتكم من رجالكم ، وأنتم الأعلون أي الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم ، وذلك
فيما مضى وفيما هو آت مستقبلا بشرط إيمانكم وتقواكم واعلموا أنه إن يمسسكم قرح
بموت أو جراحات لا ينبغى أن يكون ذلك موهنا لكم قاعدا بكم عن مواصلة الجهاد فإن
عدوكم قد مسّه قرح مثله وذلك في معركة بدر ، والحرب سجال يومّ لكم ويومّ عليكم وهى
سنة من سنن ربكم في الحياة. هذا معنى قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علّة هذا
الحدث الجلل ، والسر فيه وقال : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين وفعلا
فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول
، والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء
وكانوا نحوا من سبعين شهيدا منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد
المطلب عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومصعب بن عمير ، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي أوجد هذا الذى أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصا
__________________
للمؤمنين من
ذنوبهم وتطهيرا لهم ليصفوا الصفاء الكامل ، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء
وجودهم.
إن هذا الدرس نفع
المؤمنين فيما بعد فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم ، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا
ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عاقبة
المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال.
٢ ـ في آي القرآن
الهدي والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى.
٣ ـ أهل الإيمان
هم الأعلون في الدنيا والآخرة.
٤ ـ الحياة دول
وتارات فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر.
٥ ـ الفتن تمحص
الرجال ، وتودي بحياة العاجزين الجزعين.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ
__________________
ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥))
شرح الكلمات :
(أَمْ حَسِبْتُمْ) : بل أظننتم فلا ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالإستفهام
إنكاري.
(وَلَمَّا يَعْلَمِ) : ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور من يجاهد منكم ممن لا يجاهد كما هو عالم به في باطن الأمر
وخفيّه.
(خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ) : أي مضت من قبله الرسل بلغوا رسالتهم وماتوا.
(أَفَإِنْ ماتَ
أَوْ قُتِلَ) : ينكر تعالى على من قال عند ما أشيع أن النبي قتل هيا بنا
نرجع الى دين قومنا ، فالإستفهام منصبّ على قوله (انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ ..) لا على فإن مات أو قتل ، وإن دخل عليها.
(انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ) : رجعتم عن الإسلام إلى الكفر.
(كِتاباً مُؤَجَّلاً) : كتب تعالى آجال الناس مؤقتة بمواقيتها فلا تتقدم ولا
تتأخر.
(ثَوابَ الدُّنْيا) : الثواب : الجزاء على النية والعمل معا ، وثواب الدنيا
الرزق وثواب الآخرة الجنة.
(الشَّاكِرِينَ) : الذين ثبتوا على إسلامهم فاعتبر ثباتهم شكرا لله ، وما
يجزيهم به هو الجنة ذات النعيم المقيم ، وذلك بعد موتهم.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق
متعلقا بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد ايمانهم يدخلون الجنة
بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصا لهم وإظهارا للصادقين منهم في دعوى
الإيمان والكاذبين فيها ، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال
تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ)
ثم عابهم تعالى
على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكرا إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر
، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنمية بأنهم إذا قدّر لهم قتال في يوم
ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا
وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فلم انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما
تضمنته الآيتان الأولى (١٤٢) والثانية (١٤٣) وأما الآية الثالثة (١٤٤) فقد تضمنت
عتابا شديدا لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في
المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن
قميئة ـ أقمأه الله ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته ، وأعلن أنه قتل محمدا
فانكشف المسلمون وانهزموا ، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله ، وقال
بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان
، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وما دام رسولا كغيره من الرسل ، وقد مات الرسل قبله فلم
ينكر موته ، أو يندهش له إذا؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى
بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى
المدينة ، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون فقال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فعاتبهم
__________________
منكرا على
المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم ، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن
يضر الله تعالى شيئا فالله غنّي عن إيمانهم ونصرهم ، وأنه تعالى سيجزي الثابتين
على إيمانهم وطاعة ربهم ورسوله صلىاللهعليهوسلم وسيجزيهم دنيا
وآخرة بأعظم الأجور وأحسن المثوبات.
هذا ما تضمنته
الآية الثالثة أما الآية الرابعة (١٤٥) فقد تضمنت حقيقتين علميتين : الأولى : أن
موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه فلا يموت أحد بدون علم الله
تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك ،
وشيء آخر وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلا عن اليوم والساعة ،
وذلك في كتاب خاص فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من
الأحوال ، هذه حقيقة يجب أن تعلم ، من قول الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً).
والثانية : أن من
دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عزوجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له ، وليس له من ثواب الآخرة شيء
، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير فالله عزوجل يعطيه في الدنيا
ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن الله تعالى
سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة
التي تضمنها قولة تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الابتلاء
بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان.
٢ ـ تقرير رسالة
النبي محمد صلىاللهعليهوسلم وبشريته المفضلّة ، وموتته المؤلمة لكل مؤمن.
__________________
٣ ـ الجهاد وخوض
المعارك لا يقدم أجل العبد ، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضا.
٤ ـ ثواب الأعمال
موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم.
٥ ـ فضيلة الشكر
بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا
وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ
وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))
شرح الكلمات :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍ) : كثير من الأنبياء. وتفسر كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير.
(رِبِّيُّونَ) : ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون.
(فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ) : ما ضعفوا عن القتال ولا انهزموا لأجل ما أصابهم من قتل
وجراحات.
(وَمَا اسْتَكانُوا) : ما خضعوا ولا ذلوا لعدوهم.
الإسراف
: مجاوزة الحد في
الأمور ذات الحدود التي ينبغي أن يوقف عندها.
(فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا) : أعطاهم الله تعالى ثواب الدنيا النصر والغنيمة.
(الْمُحْسِنِينَ) : الذين يحسنون نياتهم فيخصلون أعمالهم لله ، ويحسنون
أعمالهم فيأتون بها موافقة لما شرعت عليه في كيفياتها وأعدادها وأوقاتها.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات
السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم
: إلّي عباد الله إلّي عباد الله فثاب إليه رجال. فقال تعالى مخبرا بما يكون عظة
للمؤمنين وعبرة لهم : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍ) أي وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة
من العلماء والاتقياء والصالحين فما وهنوا أي ما ضعفوا ولا ذلوا لعدوهم ولا خضعوا
له كما همّ بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون ، فصبروا على القتال مع انبيائهم متحملين
آلام القتل والجرح فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (١٤٦) ونصها : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) ، (وَما ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكانُوا وَاللهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك
الربيين وحالهم اثناء الجهاد في سبيله تعالى فقال : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين لم لا تكونوا انتم
مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة وهى الضراعة لله تعالى بدعائه واستغفاره
لذنوبهم الصغيرة والكبيرة والتى كثيرا ما تكون سببا للهزائم والانتكاسات كما حصل
لكم أيها المؤمنون فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم ربنا اغفر لنا
ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فسألوا الله
مغفرة ذنوبهم وتثبيت أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا والنصرة على
القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوا وهو ثواب
الدنيا بالنصر والتمكين وحسن ثواب الآخرة وهى رضوانه الذى أحله عليهم وهم في الجنة
دار المتقين والأبرار هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة (١٤٨) (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا
وَحُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الترغيب في
الائتساء بالصالحين في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم.
٢ ـ فضيلة الصبر
والإحسان ، لحب الله تعالى الصابرين والمحسنين.
٣ ـ فضيلة
الاشتغال بالذكر والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء
التحسرات والتمنيات ، وشر من ذلك التسخط والتضجر والبكاء والعويل.
٤ ـ كرم الله
تعالى المتجلي في استجابة دعاء عباده الصابرين المحسنين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما
أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))
شرح الكلمات :
(إِنْ تُطِيعُوا
الَّذِينَ كَفَرُوا) : المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والأخذ بارشاداتهم.
(يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ) : يرجعوكم الى الكفر بعد الإيمان.
(خاسِرِينَ) : فاقدين لكل خير في الدنيا ، ولأنفسكم واهليكم يوم
القيامة.
__________________
(بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ) : بل اطيعوا الله ربكم ووليكم ومولاكم فإنه خير من يطاع
واحق من يطاع.
(الرُّعْبَ) : شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه.
(مَأْواهُمُ) : مقر إيوائهم ونزولهم.
(مَثْوَى) : المثوى مكان الثوى وهو الإقامة والاستقرار.
(الظَّالِمِينَ) : المشركين الذين اطاعوا غير الله تعالى وعبدوا سواه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
احداث غزوة أحد فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين فى أحد قال في
المؤمنين ارجعوا الى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل إلى آخر ما من شأنه
أن يقال في تلك الساعة الصعبة من الاقتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء الإلهي
للمؤمنين وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عزوجل (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ
عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فلا شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعتهم بتنفيذ بعض
الاقتراحات التى ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة ، فنهاهم الله تعالى عن
طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة فإنه عام في المسلمين على مدى
الحياة فلا يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو
يقترحونه ، ومن أطاعهم ردّوه عن دينه إلى دينهم فينقلب : يرجع خاسرا في دنياه
وآخرته ، والعياذ بالله هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٤٩) وأما الآية الثانية (١٥٠)
فقد تضمنت الأمر بطاعته تعالى ، إذ هو أولى بذلك لأنه ربهم ووليهم ومولاهم فهو أحق
بطاعتهم من الكافرين فقال تعالى : (بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ) فاطيعوه ، ولا تطيعوا اعداءه وان اردتم أن تطلبوا النصر
بطاعة الكافرين فان الله تعالى خير الناصرين فاطلبوا النصر منه بطاعته فإنه ينصركم
وفي الآية الثالثة (١٥١) لما امتثل المؤمنون أمر ربهم فلم يطيعوا
__________________
الكافرين وعدهم
ربهم سبحانه وتعالى بأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرعب وهو الخوف والفزع والهلع حتى تتمكنوا من قتالهم والتغلب
عليهم وذلك هو النصر المنشود منكم ، وعلل تعالى فعله ذلك بالكافرين بأنهم اشركوا
به تعالى آلهة عبدوها معه لم ينزل بعبادتها حجة ولا سلطانا وقال تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وأخيرا مأواهم النار اى محل اقامتهم النار ، وذم تعالى
الإقامة في النار فقال ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ، يريد النار بئس المقام
للظالمين وهم المشركون. .
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تحرم طاعة
الكافرين في حال الاختيار.
٢ ـ بيان السر في
تحريم طاعة الكافرين وهو أنه يترتب عليها الردة والعياذ بالله.
٣ ـ بيان قاعدة من
طلب النصر من غير الله أذله الله.
٤ ـ وعد الله
المؤمنين بنصرهم بعد القاء الرعب في قلوب أعدائهم ، إذ هم أبو سفيان بالعودة الى
المدينة بعد إنصرافه من أحد ليقضى عمن بقى في المدينة من الرجال كذا سولت له نفسه
، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى.
٥ ـ بطلان كل دعوى
ما لم يكن لأصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها.
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ
__________________
ما
تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا
تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(١٥٣))
شرح الكلمات :
(صَدَقَكُمُ اللهُ
وَعْدَهُ) : أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا
اماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
(تَحُسُّونَهُمْ) : تقتلونهم إذ الحس القتل يقال حسه اذا قتله فابطل حسّه.
(بِإِذْنِهِ) : بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
(فَشِلْتُمْ) : ضعفتم وجبنتم عن القتال
(تُصْعِدُونَ) : تذهبون في الأرض فارين من المعركة يقال أصعد إذا ذهب فى
صعيد الأرض.
(وَلا تَلْوُونَ عَلى
أَحَدٍ) : لا تلوون رؤوسكم على احد تلتفتون إليه.
(وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) : أي يناديكم من خلفكم الّى عباد الله ارجعوا الّى عباد
الله ارجعوا.
__________________
(فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍ) : جزاكم على معصيتكم وفراركم غما على غم. والغم الم النفس
وضيق الصدر.
(ما فاتَكُمْ) : من الغنائم.
(وَلا ما أَصابَكُمْ) : من الموت والجراحات والآلام والاتعاب.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
أحداث احد فقد تقدم في السياق قريبا نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في
كل ما يقترحون ، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سيلقى الرعب فى قلوب الكافرين وقد
فعل فله الحمد حيث عزم ابو سفيان على أن يرجع الى المدينة ليقتل من بها ويستأصل
شأفتهم فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب اتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة
ثانية وذهبوا الى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان
وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث انجزهم ما وعدهم من النصر
فقال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) ، وذلك أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين راميا وجعل عليهم
عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال وقال لهم : إنا لا
نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك ، وفعلا دارت
المعركة وانجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون امامهم تاركين كل شىء هاربين
بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حسّا أي يقتلونهم قتلا بإذن الله وتأييده لهم ولما رأى
الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم قالوا : ما قيمة بقائنا هنا
والناس يغنمون فهيّا بنا ننزل الى ساحة المعركة لنغنم ، فذكرهم عبد الله بن جبير
قائدهم بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتأولوه ونزلوا الى ساحة المعركة يطلبون الغنائم ، وكان
على خيل المشركين خالد بن الوليد فلما رأى الرماة أخلوا مراكزهم الا قليلا منهم
كرّ بخيله عليهم فاحتل اماكنهم وقتل من بقى فيها ، ورمى المسلمين من ظهورهم
فتضعضعوا لذلك فعاد المشركون اليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين
الهائجين فوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن
__________________
بينهم حمزة عم
الرسول صلىاللهعليهوسلم وجرح رسول الله في وجهه وكسرت رباعيته وصاح الشيطان قائلا
ان محمدا قد مات وفر المؤمنون من ميدان المعركة الا قليلا منهم وفي هذا يقول تعالى
: (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) ، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير حيث نهاهم
عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا ،
وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا واعداءهم قد انهزموا ، وهو معنى قوله تعالى : (وَعَصَيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي من النصر. (مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين نزلوا الى الميدان يجمعون الغنائم ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى
استشهدوا فيها وقوله تعالى (ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) وذلك اخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا
أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم ،
وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره ، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ،
والصابر من الجزع ، وقوله تعالى (وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ) يريد انه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم امر رسولهم فسلط عليهم
المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يبقوا منهم أحدا إذ تمكنوا منهم تماما ولكن الله سلم.
هذا معنى (وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٢) أما الآية الثانية (١٥٣)
فهى تصور الحال التى كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة فيقول تعالى (إِذْ تُصْعِدُونَ) أى عفا عنكم فى الوقت الذى فررتم مصعدين في الأودية هاربين
من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم الّى عباد الله ارجعوا ، وأنتم فارون لا
تلوون على أحد ، أي لا تلتفتوا اليه. وقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍ) يريد جزاكم على معصيتكم غما والغم ألم النفس لضيق الصدر
وصعوبة
__________________
الحال. وقوله بغم أى
على غم ، وسبب الغم الأول فوات النصر والغنيمة والثانى القتل والجراحات وخاصة
جراحات نبيّهم ، وإذاعة قتله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ
وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ما أصابكم بالغم الثانى الذى هو خبر قتل الرسول صلىاللهعليهوسلم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة ، ولا على ما
أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثانى ما غمكم به الغم الأول الذى هو
فوات النصر والغنيمة. وقوله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار ،
وترك للنبي صلىاللهعليهوسلم في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به
وسيجزى به المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته او يعفو عنه ، والله عفو كريم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ مخالفة
القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة.
٢ ـ معصية الله
ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثارا سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم
وذهاب الدولة والسلطان.
٣ ـ ما من مصيبة
تصيب العبد إلّا وعند الله ما هو أعظم منها فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم
تكن أعظم.
٤ ـ ظاهر هزيمة أحد
النقمة وباطنها النعمة ، وبيان ذلك أن علم المؤمنون ان النصر والهزيمة يتمان حسب
سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
٥ ـ بيان حقيقة
كبرى وهى ان معصية الرسول صلىاللهعليهوسلم مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل
وهزائم وفوات خير كبير وكثير فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل
أوامره ونواهيه وهم يضحكون ولا يبكون ، وآمنون غير خائفين.
__________________
(ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(١٥٥))
شرح الكلمات :
(أَمَنَةً نُعاساً) : الأمنة : الأمن ، والنعاس : استرخاء يصيب الجسم قبل
النوم.
(يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ) : يصيب المؤمنين ليستريحوا ولا يصيب المنافقين.
(أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) : أي لا يفكرون إلا في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه.
(ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) : هو اعتقادهم ان النبيّ قتل أو أنه لا ينصر.
(هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ) : أي ما لنا من الأمر من شيء.
__________________
(ما لا يُبْدُونَ لَكَ) : أي مالا يظهرون لك.
(لَبَرَزَ الَّذِينَ) : لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك.
(كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقَتْلُ) : يريد كتب في كتاب المقادير أي اللوح المحفوظ.
(مَضاجِعِهِمْ) : جمع مضجع وهو مكان النوم والاضطجاع والمراد المكان الذي
صرعوا فيه قتلى.
(لِيَبْتَلِيَ) : ليختبر.
(وَلِيُمَحِّصَ) : التمحيص : التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار الإيمان
من النفاق ، والحب من الكره.
(اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ) : أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من
الجهاد.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الآية الأولى (١٥٤) عن أمور عظام الأول أنه
تعالى بعد الغم الذى أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمنا كاملا فذهب
الخوف عنهم حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) والثانى ان أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك
الأمنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم والغم يسيطر على نفوسهم وهم لا يفكرون إلا في
أنفسهم كيف ينجون من الموت وهم المعنيون بقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) والثالث ان الله تعالى قد كشف عن سرائرهم فقال يظنون بالله
غير الحق ظن الجاهلية ، والمراد من ظنهم بالله غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون
أن الاسلام باطل وأن محمدا ليس رسولا ، وان المؤمنين سينهزمون ويموتون وينتهى
الاسلام ومن يدعو إليه. والرابع أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
مِنْ شَيْءٍ) هذا القول قالوه سرا فيما بينهم ، ومعناه ليس لنا من الأمر
من شيء
__________________
ولو كان لنا ما
خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا فأطلعه الله تعالى على سرهم وقال له : رد
عليهم بقولك : إن الأمر كله لله. ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال :
يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك أي يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك
ولأصحابك مالا يظهرونه لك. والرابع لما تحدث المنافقون فى سرهم وقالوا لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا هاهنا
: يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين لأنهم إخوانهم في الشرك
والكفر ، ولا قتلوا مع من قتل في أحد فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله :
قل لو كنتم في بيوتكم بالمدينة لبرز أي ظهر الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم
وصرعوا فيها وماتوا ، لأن ما قدره الله نافذ على كل حال ، ولا حذر مع القدر. ولا بد أن يتم خروجكم الى أحد بتدبير الله تعالى
ليبتلى الله أي يمتحن ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم فيظهر ما كان غيبا لا يعلمه
إلا هو الى عالم المشاهدة ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون ، وهذا لعلم
الله تعالى بذات الصدور. هذا معنى قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ ، وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
هذا ما تضمنته
الآية الأولى أما الآية الثانية (١٥٥) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة
ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فرّوا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب الشيطان
هو الذي أوقعهم في هذه الزلة وهي توليّهم عن القتال بسبب بعض الذنوب كانت لهم ، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم
بهذه الزلة ، وذلك لأن الله غفور حليم فلذا يمهل عبده حتي يتوب فيتوب عليه ويغفر
له ولو لم يكن حليما لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحدا من التوبة
والنجاة. هذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) أي عن القتال ، يوم التقى الجمعان أي جمع المؤمنين وجمع
الكافرين بأحد. إنما استزلهم الشيطان ببعض ما
__________________
كسبوا ، ولقد عفا
الله عنهم فلم يؤاخذهم إن الله غفور حليم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ إكرام الله
تعالى لأوليائه بالأمان الذى أنزله في قلوبهم.
٢ ـ إهانة الله
تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به اولياءه وهم في مكان واحد.
٣ ـ تقرير مبدأ
القضاء والقدر ، وأن من كتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه.
٤ ـ أفعال الله
تعالى لا تخلو أبدا من حكم عالية فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه.
٥ ـ الذنب يولد
الذنب ، والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى فلذا وجبت التوبة من الذنب فورا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ
(١٥٨))
شرح الكلمات :
(آمَنُوا) : صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من وعد ووعيد.
(لِإِخْوانِهِمْ) : هذه أخوة
العقيدة لا أخوة النسب وهى هنا أخوة النفاق.
(ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ) : ضربوا في الأرض بأقدامهم مسافرين للتجارة غالبا.
__________________
(غُزًّى) : جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب.
الحسرة : ألم يأخذ بخناق النفس بسب فوت مرغوب أو فقد محبوب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة ففي هذه الآية (١٥٦) ينادى الله المؤمنين
الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله تعالى ووعيده يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية ومن ذلك قول
الكافرين لإخوانهم في الكفر إذا هم ضربوا في الأرض لتجارة أو لغزو فمات من مات
منهم أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره ، لو كانوا عندنا أى ما فارقونا وبقوا في
ديارنا ما ماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر ، وحسب سنة الله تعالى
فإن هذا القول منهم يتولد ، لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم وقد
تودى بحياتهم ، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت ، فلا السفر ولا
القتال يميتان ، ولا القعود في البيت جبنا وخورا يحيى هذا معنى قوله تعالى في هذه
الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا ، لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، وَاللهُ
يُحْيِي وَيُمِيتُ) وقوله تعالى في ختام هذه الآية : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية ووعيد
ان لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيرا ، وبالشر إن لم يعف شرا. أما الآية الثانية (١٥٧)
فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبرا إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو
ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع
للحطام الذي جعلهم يجبنون عن القتال والخروج في سبيل الله فقال تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ
مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) وفي الآية الثالثة (١٥٨) يؤكد تلك الخيرية التى تضمنتها
الآية السابقة فيقول : (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ)
__________________
فى سبيلنا (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) حتما ، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا
، ولنعم ما تجزون به في جوارنا الكريم.
هداية الآيات :
١ ـ حرمة التشبه
بالكفار ظاهرا وباطنا.
٢ ـ الندم يولد
الحسرات والحسرة غم وكرب عظيمان ، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى
على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.
٣ ـ موتة في سبيل
الله خير من الدنيا وما فيها.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
(١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(١٦٠))
شرح الآيتين :
(لِنْتَ لَهُمْ) : كنت رفيقا بهم تعاملهم بالرفق واللطف.
(فَظًّا) : خشنا في معاملتك شرسا في اخلاقك وحاشاه صلىاللهعليهوسلم.
(لَانْفَضُّوا) : تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ) : يريد إن زلوا أو أساءوا.
(وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) : اطلب مشورتهم في الأمر ذى الأهمية كمسائل الحرب والسلم.
__________________
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد ففي هذه الآية (١٥٩) يخبر تعالى عما وهب
رسوله من الكمال الخلقى الذى هو قوام الأمر فيقول : (فَبِما رَحْمَةٍ
مِنَ اللهِ) أي فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت لهم ، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي قاسيا جافا جافيا قاسى القلب غليظه (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي تفرقوا عنك ، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا
فاعف عن مسيئهم ، واستغفر لمذنبهم ، وشاور ذوى الرأى منهم ، وإذا بدا لك رأي راجح
المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلا على ربك فإنه يحب المتوكلين ، والتوكل الإقدام على
فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير
فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى اما الآية الثانية (١٦٠) فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل
دائما بمقتضاها وهى أن النصر بيد الله ، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى
، ولا يرهب خذلان الا منه عزوجل ، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له ،
وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه
الآية (إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ
مِنْ بَعْدِهِ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ كمال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم الخلقى.
٢ ـ فضل الصحابة
رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى.
٣ ـ تقرير مبدأ
المشورة بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.
__________________
٤ ـ فضل العزيمة الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى.
٥ ـ طلب النصر من
غير الله خذلان ، والمنصور من نصره الله ، والمخذول من خذله الله عزوجل.
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ
(١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))
شرح الكلمات :
(أَنْ يَغُلَ) : أي يأخد من الغنيمة خفية ، إذ الغلّ والغلول بمعنى السرقة
من الغنائم قبل قسمتها.
(تُوَفَّى) : تجزى ما كسبته في الدنيا وافيا تاما يوم القيامة.
(رِضْوانَ اللهِ) : المراد به ما يوجب رضوانه من الإيمان والصدق والجهاد.
وسخط الله : غضبه
الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(مَنَ) : أنعم وتفضل.
(رَسُولاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) : هو محمد صلىاللهعليهوسلم.
(يُزَكِّيهِمْ) : بما يرشدهم إليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة
والآداب العالية.
(الْحِكْمَةَ) : كل قول صالح نافع أبدا ومنه السنة النبوية.
معنى الآيات :
الغل والغلول والاغلال بمعنى واحد وهو أخذ المرء شيئا من الغنائم قبل
قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه ، ففي
الآية الأولى (١٦١) ينفى تعالى أن يكون من شأن الأنبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم
الإغلال وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا ، ولذا قرىء في السبع أن
يغل بضم الياء وفتح الغين أي يفعله اتباعه بأخذهم من الغنائم بدون
إذنه. هذا معنى قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَ) ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل وقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئا يأت به يوم القيامة يحمله
حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في الحديث ، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزى به ، كما تجزى كل نفس بما
كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئا لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله. هذا مضمون
الآية الأولى أما الثانية (١٦٢) ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى
بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهى ، كحال المتبع لسخط الله
تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات فكانت
جهنم مأواه ، وبئس المصير جهنم. هذا معنى قوله تعالى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ ، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) ثم ذكر تعالى أن
كلا من
__________________
أهل الرضوان ،
وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله ، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفا فقال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ
بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم. هذا ما دلت عليه الآية
(١٦٣) أما الآية الأخيرة (١٦٤) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب
ببعثه رسوله فيهم ، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من
أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به ، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال
وفاضل الأخلاق وسامى الآداب ، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة
التى هى فهم أسرار الكتاب ، والسنة ، وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب
في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأخيرة :
(لَقَدْ مَنَ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا
مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تحريم الغلول وأنه من كبائر الذنوب .
٢ ـ طلب رضوان
الله واجب ، وتجنب سخطه واجب كذلك ، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني
يكون بترك الشرك والمعاصي.
٣ ـ الاسلام أكبر
نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.
٤ ـ فضل العلم
بالكتاب والسنة.
__________________
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما
أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا
قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً
لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٦٨))
شرح الكلمات :
المصيبة
: إحدى المصائب :
ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.
(مِثْلَيْها) : ضعفيها اذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين.
(أَنَّى هذا؟) : أي من أين أتانا هذا الذي أتانا من القتل والهزيمة.
(فَبِإِذْنِ اللهِ) : أي بإرادته تعالى وتقديره بربط المسببات بأسبابها.
(نافَقُوا) : أظهروا من الإيمان ما لا يبطنون من الكفر.
(أَوِ ادْفَعُوا) : أي ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولادكم ، ان لم
تريدوا ثواب الآخرة.
ادرأوا
: أي إدفعوا.
(إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) : في دفع المكروه بالحذر.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في أحداث غزوة أحد ففي الآية الأولى : ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم
بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة : (أَنَّى هذا) أي من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل
الله ومع رسوله؟ فقال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) بأحد قد أصبتم مثليها ببدر لأن ما قتل من المؤمنين بأحد
كان سبعين ، وما قتل من المشركين ببدر كان سبعين قتيلا وسبعين أسيرا ، وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجيبهم : قل هو من عند أنفسكم ، وذلك بمعصيتكم لرسول
الله حيث خالف الرماة أمره ، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال.
وقوله (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث
لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٥)
أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع
المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره ، وعلته إظهار
المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وانهم صادقون في إيمانهم ، ولذا قال تعالى
وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولا
وثانيا ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم
أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين فقال عنهم في الآيتين الثالثة (١٦٧)
والرابعة (١٦٨) (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا) وهم عبد الله بن ابى بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين
رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ، وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد
جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة ، وان لم تريدوا ثواب الآخرة
فادفعوا عن أنفسكم واهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا
ويدفع عنا خطر العدو الداهم فأجابوا قائلين : لو نعلم قتالا سيتم لاتبعانكم ،
فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال (هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله
والمؤمنين وارادة السوء بالمؤمنين ، وأن قلوبهم
__________________
مع الكافرين
الغازين.
ثم أخبر تعالى
عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لإخوانهم في النفاق ـ وهم في مجالسهم
الخاصة ـ : ـ لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا. فأمر الله تعالى
رسوله أن يرد عليهم قائلا : (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم إن كنتم صادقين في دعواكم
أنهم لو قعدوا ما قتلوا.
من هداية الآيات :
١ ـ المصائب ثمرة الذنوب.
٢ ـ كل الأحداث
التي تتم في العالم سبق بها علم الله ، ولا تحدث إلا بإذنه.
٣ ـ قد يقول المرء
قولا أو يظن ظنا يصبح به على حافة هاوية الكفر.
٤ ـ الحذر لا يدفع
القدر.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))
شرح الكلمات :
(وَلا تَحْسَبَنَ) : ولا تظنن.
(قُتِلُوا) : استشهدوا.
(أَحْياءٌ) : يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب.
__________________
(فَرِحِينَ) : مسرورين.
(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : لما وجدوا من الأمن التام عند ربهم.
(وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) : على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في
الجنة.
(يَسْتَبْشِرُونَ) : يفرحون
(وَفَضْلٍ) : وزيادة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (وَلا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها
أمواتا لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون
أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم
فرحون بما أكرمهم الله تعالى به ، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم
في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما
يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها. إن الشهداء جميعا مستبشرون
فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين
شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الشهداء أحياء
والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.
٢ ـ الشهداء يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد
بأنهم اذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.
__________________
٣ ـ لا خوف ينال
المؤمن الصالح إذا مات ولا حزن يصيبه.
(الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً
وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ
فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))
شرح الكلمات :
(اسْتَجابُوا) : اجابوا الدعوة وقبلوا الأمر.
(الْقَرْحُ) : ألم الجراحات.
(أَحْسَنُوا) : أعمالهم واقوالهم أتوا بها وفق الشرع واحسنوا الى غيرهم.
(اتَّقَوْا) : ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم
عنه.
(جَمَعُوا لَكُمْ) : جمعوا الجيوش لقتالكم.
(حَسْبُنَا اللهُ) : يكفينا الله ما أرادونا به من الأذى.
(وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) : نعم الوكيل الله نوكل إليه أمورنا ونفوضها اليه.
(فَانْقَلَبُوا) : رجعوا من حمراء الأسد الى المدينة.
اولياء الشيطان :
أهل طاعته والاستجابة اليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد.
__________________
معنى الآيات :
ما زال السياق في
أحداث غزوة أحد وما لابسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين
حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبى سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم
محمد صلىاللهعليهوسلم ، وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت
بأحد ، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذنا يؤذن بالخروج في طلب أبى سفيان وجيشه ، فاستجاب
المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح ، وإن أخوين جريجين كان أحدهما يحمل
أخاه على ظهره فاذا تعب وضعه فمشى قليلا ، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، وألقى الله تعالى الرعب في قلب
أبى سفيان فارتحل هاربا الى مكة ، وقد حدث هنا أن معبدا الخزاعى مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في
طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم ، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفا من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، فأقام الرسول صلىاللهعليهوسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء
وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع وهذا نصها :
الآية (١٧٢) (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) يريد في أحد واستجابوا : لبوا نداء الرسول صلىاللهعليهوسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبى سفيان ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم ، ألا وهو الجنة الآية
الثانية (١٧٣) (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). المراد من الناس القائلين هم نفر من عبد القيس مروا بأبي
سفيان وهو عازم على العودة الى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو
سفيان أخبر محمدا وأصحابه أنى ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإنى جامع
جيوشي وقادم عليهم ، والمراد من الناس الذين جمعوا هم أبو سفيان فلما بلغ هذا
الخبر الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه زادهم إيمانا فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم ، وقالوا
: حسبنا الله أي يكفينا الله شرهم ، ونعم الوكيل الذى يكفينا ما أهمنا
__________________
ونفوض أمرنا إلى
الله. الآية الثالثة (١٧٤) (فَانْقَلَبُوا) أي رجعوا من حمراء الأسد لأن أبا سفيان القى الله الرّعب
في قلبه فانهزم وهرب ، رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة الإيمان والاسلام والنصر ، (وَفَضْلٍ) حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أى أذى ، (وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللهِ) بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله وهو الخروج في سبيل الله
لملاحقة أبي سفيان وجيشه. وقوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ) وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه الآية الرابعة (١٧٥)
(إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (فَلا تَخافُوهُمْ
وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب
إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه (طابور) يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين
عرفوا أنها مكيدة وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فنزلت الآية : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من
أوليائه أبى سفيان وجمعه ، فلا تخافوهم فنهاههم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى فلا يجبنوا ويخرجوا الى قتال أبى سفيان وكذلك فعلوا
لأنهم المؤمنون بحق رضى الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات
١ ـ فضل الإحسان
والتقوى وأنهما مفتاح كل خير.
٢ ـ فضل أصحاب
رسول الله على غيرهم ، وكرامتهم على ربهم.
٣ ـ فضل كلمة «حسبنا
الله ونعم الوكيل» قالها رسول الله وقالها ابراهيم من قبل فصلّى الله عليهما
وسلم.
٤ ـ بيان أن
الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه ، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير
ربهم تعالى فى الحياة ، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه ، وهو حسبهم ونعم الوكيل
لهم.
__________________
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا
اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))
شرح الكلمات :
الحزن
: غمّ يصيب النفس
لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه
(الْكُفْرِ) : الكفر تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر
به.
(يُسارِعُونَ) : يبادرون.
(حَظًّا) : نصيبا.
(اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) : اعتاضوا الكفر عن الايمان.
(نُمْلِي لَهُمْ) : الإملاء : الإمهال والارخاء بعدم البطش بهم وترك الضرب
على أيديهم بكفرهم.
(إِثْماً) : الإثم : كل ضار قبيح ورأسه : الكفر والشرك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
أحداث غزوة أحد ففي هذه الآيات الثلاث ـ وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة حيث ظهر
النفاق مكشوفا لا ستار عليه ، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ـ يخاطب الله تعالى رسوله قائلا له : لا يحزنك مسارعة هؤلاء المنافقين فى
__________________
الكفر ، وقال في
الكفر ولم يقل الى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه لأن اسلامهم كان نفاقا فقط ،
(إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، والله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا من نعيم الآخرة فلذا
تركهم في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه ، وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٧٦). أما الآية الثانية (١٧٧)
فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر ،
ويشترون الضلالة بالهدى حكم عليهم بأنهم لن يضروا الله شيئا من الضرر ، ولهم عذاب أليم فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) والعذاب الأليم هو عذاب النار إذ لا آلم ولا أشد إيجاعا
منه.
وأما الآية
الثالثة (١٧٨) فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عند ما يمهلهم ويمدّ
في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خير لهم ، لا ، بل هو شر لهم ، إذ كلما
تأخروا يوما اكتسبوا فيه إثما فبقدر ما تطول حياتهم يعظم ذنبهم وتكثر آثامهم ،
وحينئذ يوبقون ويهلكون هلاكا لا نظير له قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَ) (الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة ، لأنهم كانوا ذوى كبر وعلو في الأرض وفساد ،
فلذا ناسب أن يكون في عذابهم اهانات لهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا ينبغى
للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق ، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئا ، وسيجزى
الله الكافر والفاسق بعدله.
٢ ـ لا ينبغى
للعبد أن يغره إمهال الله له ، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك
إهمال وإنما هو إمهال.
٣ ـ الموت للعبد خير من الحياة ، لأنه إذا كان صالحا فالآخرة خير له من
الدنيا وإن كان غير
__________________
ذلك حتى لا يزداد
اثما فيوبق بكثرة ذنوبه.
(ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ
شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))
شرح الكلمات :
(لِيَذَرَ) : ليترك.
(يَمِيزَ) : يميزّ ويبيّن.
(الْخَبِيثَ) : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصى.
(الطَّيِّبِ) : من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.
(الْغَيْبِ) : ما غاب فلم يدرك بالحواس.
(يَجْتَبِي) : يختار ويصطفي.
(يَبْخَلُونَ) : يمنعون ويضنون.
يطوقون
به : يجعل طوقا في عنق
أحدهم.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
أحداث وقعة أحد ، وما لازمها من ظروف وأحوال فاخبر تعالى في هذه الآية (١٧٩) انه
ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق
__________________
في إيمانه ،
والكاذب فيه وهو المنافق. بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها كالجهاد
والهجرة والصلاة والزكاة ، وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميز المؤمن الصادق
وهو الطيب الروح ، من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح ، قال تعالى (ما كانَ
اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب
فيميز المؤمن من المنافق ، والبار من الفاجر ، وانما يبتلى بالتكاليف ويظهر بها
المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء
فيطلعه على الغيب ، ويظهره على مواطن الأمور وبناء على هذا فآمنوا بالله ورسوله حق الإيمان ، فإنكم إن آمنتم صادق
الإيمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الأجور وهو الجنة دار الحبور
والسرور هذا ما دلت عليه الآية (١٧٩) أما الآية الثانية (١٨٠) فإن الله تعالى يخبر
عن خطا البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول : ولا يحسبنّ أي ولا يظنن
الذين يبخلون بما آتاهم الله من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير
لأنفسهم كما يظنون بل هو أى البخل شرّ لهم ، وذلك لسببين الأول ما يلحقهم في
الدنيا من معرة البخل وآثاره السئية على النفس ، والثانى أن الله تعالى سيعذبهم به
بحيث يجعله طوقا من نار في أعناقهم ، أو بصورة ثعبان فيطوقهم ، ويقول لصاحبه : «أنا مالك أنا كنزك» كما جاء في الحديث.
فعلى من يظن هذا الظن الباطل ان يعدل عنه ، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا فى
البخل. وأن ما يبخل به هو مال الله ، وسيرثه ، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في
الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن ذلك
خير لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ من حكم
التكليف اظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب.
٢ ـ استئثار الرب
تعالى بعلم الغيب دون خلقه الا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك.
٣ ـ ثمن الجنة
الإيمان والتقوى.
٤ ـ البخل بالمال
شر لصاحبه ، وليس بخير له كما يظن البخلاء.
٥ ـ من أوتي مالا
ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية التوبة وحديث البخارى : «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته
مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ـ أى شدقيه ـ يقول
أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ ...) الآية».
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا
أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ
قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ
(١٨٤))
__________________
شرح الكلمات :
(عَذابَ الْحَرِيقِ) : هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) : أى ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم.
(عَهِدَ إِلَيْنا) : أمرنا ووصانا في كتابنا (التوراة).
(أَلَّا نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ) : أي لا نتابعه ، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.
(بِقُرْبانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ) : القربان : ما يتقرب به الى الله تعالى من حيوان وغيره
يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.
(بِالْبَيِّناتِ) : الآيات والمعجزات.
(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) : أي من القربان.
(فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ) : الاستفهام للتوبيخ ، وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى
عليهماالسلام.
(الزُّبُرِ) : جمع زبور وهو الكتاب كصحف ابراهيم.
(الْكِتابِ الْمُنِيرِ) : الواضح البين كالتوراة والزبور والإنجيل.
معنى الآيات :
لما نزل قول الله
تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه بيت (المدراس) واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص
فدعاه أبو بكر الى الإسلام ، فقال فنحاص : إن ربا يستقرض نحن أغنى منه! ينهانا
صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودى فجاء الى رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلا : «ما حملك على ما
صنعت»؟ فقال إنه قال : إن الله فقير ونحن أغنياء فأنكر اليهودى فأنزل الله تعالى الآية (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) ، أي نكتبه أيضا ، ونقول لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، وقولنا ذلك بسبب ما
__________________
قدمته أيديكم من
الشر والفساد ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ، فلم يكن جزاؤكم مجافيا للعدل ولا
مباعدا له أبدا لتنزه الرب تعالى عن الظلم لعباده هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨١)
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) والآية الثانية (١٨٢) (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وأما الآية الثالثة (١٨٣) وهى قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ
النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي
قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة باطلة لا صحة لها البتة ،
والرد عليها فالدعوى هى قولهم إنّ الله قد أمرنا موصيا لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على
ما جاء به ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع
أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته ، وأنت يا محمد ما
اتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك ، وأما الرد فهو قول الله تعالى
لرسوله صلىاللهعليهوسلم قل يا رسولنا : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) وهى المعجزات ، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو قربان تأكله النار فلم قتلتموهم ، إذ قتلوا زكريا
ويحيى وحاولوا قتل عيسى ، إن كنتم صادقين في دعواكم؟ وأما الآية الرابعة (١٨٤)
فانها تحمل العزاء لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ يقول له ربه تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فلم يؤمنوا بك ، فلا تحزن ولا تأسى لأنك لست وحدك الذي
كذبت ، فقد كذبت رسل كثر كرام ، جاءوا أقوامهم بالبينات أي المعجزات ، وبالزبر ،
والكتاب المنير كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء
اليهود والمشركون معهم فاصبر ولا تحزن.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كفر اليهود
وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين.
٢ ـ تقرير جريمة
قتل اليهود للأنبياء وهى من أبشع الجرائم.
__________________
٣ ـ بيان كذب
اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار.
٤ ـ تعزية الرسول صلىاللهعليهوسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم.
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))
شرح الكلمات :
(ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : أي ذائقة موت جسدها أما هي فانها لا تموت.
(تُوَفَّوْنَ) : تعطون جزاء أعمالكم خيرا أو شرا وافية لا نقص فيها.
(زُحْزِحَ) : نجّي وأبعد.
(فازَ) : نجا من مرهوبه وهو النار ، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.
(مَتاعُ الْغُرُورِ) : المتاع كل ما يستمتع به ، والغرور : الخداع ، فشبهت
الدنيا بمتاع خادع غارّ صاحبه ، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.
__________________
(لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) : لتختبرنّ في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها ، أو
بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة كالجهاد والحج ، او المرض والموت.
(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.
(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : العرب.
(فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) : يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التى هى عزائم
وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تعزية الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له ، وفي هذه الآية
أعظم تسلية وعزاء ، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت لا محالة ، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هى دار كسب
وعمل ، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون ، ولا ينالهم مكروه ، وقد يحسن
فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب ، وفي هذا تسلية عظيمة وأخرى :
العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور ، أي متاع زائل
غار ببهرجه ، وجمال منظره ، ثم لا يلبث ان يذهب ويزول. هذا ما دلت عليه الآية
الأولى (١٨٥) أما الآية الثانية (١٨٦) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا
محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم. في أموالهم بالجوائح ، وبالواجبات ، وفي
أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة كالجهاد والحج والصيام ، وانهم لا بد وأن
يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيرا كما قال فنحاص : الله فقير و نحن أغنياء أو كما قال النصارى : المسيح ابن الله ، وكما
قال المشركون : اللات والعزى ومناة آلهة مع الله. ثم حثهم تعالى على الصبر
__________________
والتقوى فقال وإن
تصبروا وتتقوا فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب
والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ليست الدار
الدنيا بدار جزاء وانما هى دار عمل.
٢ ـ تعريف الفوز
الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
٣ ـ بيان حقيقة
هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث ان يتلاشى ويضمحل.
٤ ـ الابتلاء
ضرورى فيجب الصبر والتقوى فإنها من عزائم الأمور لا من رخصها.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))
شرح الكلمات :
الميثاق
: العهد المؤكد
باليمين.
(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.
الكتمان
: إخفاء الشيء
وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.
(فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ) : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه وهو ما أخذ عليهم العهد
والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبما جاء به عن الإسلام.
__________________
(وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) : اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل اذ كتموه ،
ابقاء على منافعهم الدنيوية.
(أَنْ يُحْمَدُوا بِما
لَمْ يَفْعَلُوا) : أي يثنى عليهم ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم
ذلك.
(بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ) : بمنجاة من العذاب في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
اليهود فيقول تعالى لنبيه ، واذكر لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب وهم
اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلىاللهعليهوسلم في كتابهم ، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من
الهدى ودين الحق وهو الإسلام ، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه
واستبدلوا بذلك ثمنا قليلا وهو الجاه والمنصب والمال قال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وذم الله تعالى ذلك الثمن القليل فقال فبئس ما يشترون هذا
ما تضمنته الآية الأولى (١٨٧) وأما الآية الثانية (١٨٨) (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما
لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ). فإن الله تعالى يقول لرسوله صلىاللهعليهوسلم لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما اتوا من الشر والفساد
بتحريف كلامنا وتبديل اوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي
يشكروهم ويثنوا عليهم ، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو
الشر والفساد فهؤلاء من اليهود ولا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب ، ولهم
عذاب أليم يوم القيامة. وأما الآية الثالثة (١٨٩) فقد أخبر تعالى أن له ملك
السموات والأرض ، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم
والانتقام منهم ، وانه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ أخذ الله
الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به ، ويحرم عليهم
كتمانه أو تأويله ارضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالا أو
جاها أو سلطانا.
٢ ـ لا يجوز
للمسلم ان يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف ، بل من الكمال أن لا يرغب
المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن
يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب ان يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحيى فلان ....
٣ ـ ملك الله
تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا
غافلون ، وبه جاهلون.
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما
خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ
مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
(١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ
__________________
آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا
عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ
(١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الثَّوابِ (١٩٥))
شرح الكلمات :
(فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي في وجودهما من العدم.
(وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : تعاقبهما هذا يجىء وذاك يذهب ، هذا مظلم وذاك مضىء.
(لَآياتٍ) : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته
ورحمته.
(لِأُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول التى تدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة
(رَبَّنا) : يقولون : ربنا الخ ..
(باطِلاً) : لا لشيء مقصود منه ، وإنما هو من باب اللعب.
(سُبْحانَكَ) : تنزيها لك عن العبث واللعب ، وعن الشريك والولد.
(فَقِنا عَذابَ
النَّارِ) : أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال
الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار.
(أَخْزَيْتَهُ) : أذللته وأشقيته.
__________________
(كَفِّرْ عَنَّا) : استر وامح.
(الْأَبْرارِ) : جمع برّ أو بار وهم المتمسكون بالشريعة.
(عَلى رُسُلِكَ) : على ألسنة رسلك من النصر والتأييد.
(الْمِيعادَ) : الوعد.
(هاجَرُوا) : تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
(أُوذُوا فِي سَبِيلِي) : آذاهم المشركون من اجل الإيمان بى ورسولى وطاعتنا.
(ثَواباً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) : أي أجرا جزاء كائنا من عند الله ، وهو الجنات بعد تكفير
السيئات.
معنى الآيات :
لما قال اليهود
تلك المقالة السيئة : ان الله تعالى فقير ونحن أغنياء ، وحرفوا الكتاب وبدلوا
وغيروا ويحبون ان يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم ،
وضلال في عقولهم ، فذكر تعالى من الآيات الكونيّة ما يدل على غناه ، وافتقار عباده
إليه ، كما يدل على ربوبيته على خلقه ، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم ، وانه
ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه الا أرباب
العقول الحصيفة والبصائر النيرة فقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) نعم ان في ايجاد السموات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل
والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء ، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائل
واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه. والوهيته لهم.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٩٠) وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفا لأولى
الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهتدون الى معرفة الربّ تعالى
فيذكرونه ويشكرونه. فقال تعالى عنهم : (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبِهِمْ) وهذا شامل لحالهم في الصلاة
__________________
وخارج الصلاة.
وقال عنهم : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي في إيجادهما وتكوينهما وإبداعهما ، وعظيم خلقهما ،
وما أودع فيهما من مخلوقات. فلا يلبثون أن يقولوا : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً) أي لا لحكمة مقصودة ولا لهدف مطلوب ، بل خلقته بالحق
وحاشاك ان تكون من اللاعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما
خلقت لحكم عالية خلقته لأجل أن تذكر وتشكر ، فتكرم الشاكرين الذاكرين ، فى دار
كرامتك وتهين الكافرين في دار عذابك ، ولذا قالوا : في الآية (١٩٢) (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ). والظالمون هم الكافرون ، ولذا يعدمون النصير ويخزون
بالعذاب المهين ، وقال عنهم في الآية (١٩٣) (رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) ، والمنادى هو القرآن الكريم والرسول صلىاللهعليهوسلم وتوسلوا بإيمانهم لربهم طالبين أشرف المطالب واسماها مغفرة
ذنوبهم ووفاتهم مع الأبرار فقالوا (رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) وهو ما جاء في الآية (١٩٣) وأما الآية الخامسة (١٩٤) فقد
سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله من النصر والتمكين في الأرض ، هذا
في الدنيا ، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بتعذيبهم في النار ، فقالوا : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، أي وعدك الحق وفي الآية السادسة (١٩٥) ذكر تعالى
استجابته لهم فقال لهم : (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بل أجازى الكل بعمله لا أنقصه له ذكرا كان أو أنثى لأن
بعضكم من بعض الذكر من الأنثى والانثى من الذكر فلا معنى للتفرقة بينكم ، وذكر
تعالى بعض أعمالهم الصالحة التى استوجبوا بها هذا الإنعام فقال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا ، وَأُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) ، وواعدهم قائلا : (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) ، وكان ذلك ثوابا منه تعالى على أعمالهم الصالحة ، والله
عنده حسن الثواب ، فليرغب إليه ، وليطمع فيه ، فإنه البر الرحيم.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب التفكر
في خلق السموات والأرض للحصول على المزيد من الإيمان والإيقان.
٢ ـ استحباب تلاوة
هذه الآيات : إن في خلق السموات الى آخر السورة وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل
لثبوت ذلك في الصحيح عنه صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ استحباب ذكر
الله في كل حال من قيام أو قعود أو اضطجاع.
٤ ـ استحباب
التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة في العمر.
٥ ـ مشروعية
التوسل الى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
٦ ـ فضل الهجرة
والجهاد في سبيل الله.
٧ ـ المساواة بين
المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.
٨ ـ استحباب الوفاة
بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش
بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم.
(لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ
__________________
سَرِيعُ
الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))
شرح الكلمات :
(لا يَغُرَّنَّكَ) : لا يكن منك اغترار ، المخاطب الرسول صلىاللهعليهوسلم والمراد أصحابه واتباعه.
(تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل
والمشارب.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ) : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواما وينتهى.
(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) : مآلهم بعد التمتع القليل الى جهنم يأوون اليها فيخلدون
فيها أبدا.
(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) : النّزل : ما يعد للضيف من قرى : طعام وشراب وفراش.
الأبرار : جمع بار وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
(وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) : القرآن والسنة ، وما أنزل اليهم التوراة والإنجيل.
(خاشِعِينَ لِلَّهِ) : مطيعين مخبتين له عزوجل.
(لا يَشْتَرُونَ
بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع
تحصل لهم.
(اصْبِرُوا وَصابِرُوا) : الصبر حبس النفس على طاعة الله ورسوله ، والمصابرة : الثبات
والصمود أمام العدو.
(وَرابِطُوا) : المرابطة : لزوم الثغور منعا للعدو من التسرب الى ديار
المسلمين.
(تُفْلِحُونَ) : تفوزون بالظفر المرغوب ، والسلامة من المرهوب في الدنيا
والآخرة.
__________________
معنى الآيات :
ينهى الله تبارك
وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صلىاللهعليهوسلم أن يغرّهم اى يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب
وأرباح وما يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب ، فيظنوا أنهم على هدى أو أن الله
تعالى راض عنهم وغير ساخط عليهم ، لا ، لا ، إنما هو متاع في الدنيا قليل ، ثم
يردون الى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التى طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصى
، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الاولى والثانية
وهما قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ) ، أما الآية الثالثة (١٩٨) ، وهى قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ
عِنْدِ اللهِ ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) فإنها قد تضمنت استدراكا حسنا وهو لما ذكر في الآية قبلها
مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد ، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو
خير مآل : (جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السّلام خير
لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم ان يكونوا فقراء ، معسرين ،
وأهل الكفر أغنياء موسرين أما الآية الرابعة (١٩٩) وهى قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية فانها تضمنت الرد الإلهى على بعض المنافقين الذين
انكروا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين صلاتهم على النجاشى بعد موته ، إذ قال بعضهم
انظروا الى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم ، وهم
يريدون بهذا الطعن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله : وإن من أهل الكتاب
أي اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله ، وما أنزل اليكم أيها المؤمنون ، وما أنزل
__________________
اليهم في التوراة
والانجيل خاشعين لله ، أي خاضعين له عابدين ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا
كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويبدلونه ويخفون منه ما يجب ان يظهروه
ويبينوه حفاظا على منصب أو سمعة أو منفعة مادية ، أما هؤلاء وهم عبد الله بن سلام
من اليهود وأصحمة النجاشى من النصارى ، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون
حقا المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم
إياه يوم القيامة إن الله سريع الحساب ، إذ يتم حساب الخلائق كلهم في مثل نصف يوم
من أيام الدنيا.
هذا ما تضمنته
الآية الرابعة (١٩٩) أما الآية الخامسة والأخيرة (٢٠٠) وهى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للامة الرحيمة
بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر اعداءها حتى يستلموا او يسلموا
القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا
يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سببا فى فوزها وفلاحها بهذه الرحمة
الربانية ختمت سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تنبيه
المؤمنين وتحذيرهم من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش
فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم ، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب
سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
٢ ـ ما أعد لأهل
الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها.
٣ ـ شرف مؤمنى أهل
الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشى.
__________________
٤ ـ وجوب الصبر
والمصابرة والتقوى والمرابطة للحصول على الفلاح الذى هو الفوز المرغوب والسلامة من
المرهوب في الدنيا والآخرة.
سورة النّساء
مدنية
وآياتها
١٧٦ آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))
شرح الكلمات :
(النَّاسُ) : البشر ، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.
(اتَّقُوا رَبَّكُمُ) : خافوه ان يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.
(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : هى آدم عليهالسلام.
(وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) : خلق حواء من آدم من ضلعه .
(وَبَثَ) : نشر وفرق في الأرض من آدم وزوجه رجالا ونساء كثرا.
(تَسائَلُونَ بِهِ) : كقول الرجل لأخيه أسألك بالله أن تفعل لى كذا.
(وَالْأَرْحامَ) : الأرحام جمع رحم ، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم
قطعها.
(رَقِيباً) : الرقيب : الحفيظ العليم.
__________________
معنى الآية
الكريمة :
ينادى الرب تبارك
وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم : يا أيها الناس ويأمرهم بتقواه عزوجل وهى اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإسلام التام إليه
ظاهرا وباطنا. واصفا نفسه تعالى بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهى آدم الذي
خلقه من طين ، وخلق من تلك النفس زوجها و هي حواء ، وأنه تعالى بث منهما أى نشر منهما في الأرض
رجالا كثيرا ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى إذ هى ملاك الأمر فلا كمال ولا سعادة
بدون الالتزام بها قائلا واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام ، أي اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد
أحدكم من أخيه شيئا قال له أسألك بالله إلا اعطيتنى كذا .. واتقوا الأرحام ان تقطعوها فإن في قطعها فسادا كبيرا وخللا عظيما يصيب
حياتكم فيفسدها عليكم ، وتوعدهم تعالى ان لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا
أرحامهم بقوله إن الله كان عليكم رقيبا مراعيا لأعمالكم محصيا لها حافظا يجزيكم
بها ألا أيها الناس فاتقوه.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ فضل هذه الآية
إذ كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا خطب في حاجة تلا آية آل عمران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وتلا هذه الآية ، ثم آية الأحزاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ثم يقول أما بعد ويذكر حاجته.
٢ ـ أهمية الأمر
بتقوى الله تعالى اذ كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.
٣ ـ وجوب صلة
الأرحام وحرمة قطعها.
٤ ـ مراعاة الأخوة
البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات.
__________________
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))
شرح الكلمات :
(الْيَتامى) : جمع يتيم ذكرا كان أو أنثى وهو من مات والده وهو غير
بالغ الحلم.
(وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) : الخبيث الحرام والطيب الحلال والمراد بها هنا الردىء
والجيد.
(حُوباً كَبِيراً) : الحوب الاثم الكبير العظيم.
ان
لا تقسطوا : ان لا تعدلوا.
(مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) : أي اثنتين أو ثلاث ، أو أربع إذ لا تحل الزيادة على
الأربع.
ادنى
ان لا تعولوا : أقرب ان لا تجوروا بترك العدل بين الزوجات.
(صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً) : جمع صدقة وهى الصداق والمهر ، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.
(هَنِيئاً) : الهنيء : ما يستلذ به عند أكله.
(مَرِيئاً) : المريء : ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثارا سيئة.
__________________
معنى الآيات :
لما أمر تعالى
بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى ان
يعطوا اليتامى أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد فقال
تعالى وآتوا اليتامى أموالهم. ونهاهم محرما عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى
الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث أي الردىء من أموالكم
بالطيب من أموالهم ، لما في ذلك من أذية اليتيم في ماله ، ونهاهم أيضا أن يأكلوا
أموال يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق فقال تعالى
: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عزوجل : إنه ـ أي الأكل ـ كان حوبا كبيرا. والحوب الإثم. هذا
معنى الآية الأولى (٢) (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ
إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) وأما الآية الثانية (٣) فقد أرشد الله تعالى أولياء
اليتيمات ان هم خافوا ان لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم الى أن
يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى ، وثلاث ورباع . يريد اثنتين اثنتين أو ثلاث ثلاث أو أربع أربع كل بحسب
قدرته ، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها. هذا معنى قوله
تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). وقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه
فليكتف بواحدة ولا يزد عليها غيرها أو يتسرّى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا
أقرب الى أن لا يجور المؤمن ويظلم نساءه. هذا معنى قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَواحِدَةً ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.) وفي الآية الرابعة والأخيرة يأمر تعالى المؤمنين بأن يعطوا
النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على
__________________
الرجل لامرأته ،
فلا يحل له ولا لغيره أن يأخذ منها شيئا إلا برضى الزوجة فإن هى رضيت فلا حرج في
الأكل من الصداق لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كل مال حرام
فهو خبيث وكل حلال فهو طيب.
٢ ـ لا يحل للرجل
ان يستبدل جيدا من مال يتيمه بمال رديء من ماله كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة
أو يأخذ تمرا جيدا ويعطيه رديئا خسيسا.
٣ ـ لا يحل خلط
مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعا لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما.
٤ ـ جواز نكاح
أكثر من واحد إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور.
٥ ـ وجوب مهور
النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج وهو المقصود
في الآية أو الأب والأقارب.
(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ
أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى
حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))
شرح الكلمات :
(لا تُؤْتُوا) : لا تعطوا.
__________________
(السُّفَهاءَ) : جمع سفيه وهو من لا يحسن التصرف في المال.
(قِياماً) : القيام : ما يقوم به الشيء فالأموال جعلها الله تعالى
قياما أي تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضا.
(قَوْلاً مَعْرُوفاً) : أي قولا تطيب به نفسه فلا يغضب ولا يحزن.
(وَابْتَلُوا
الْيَتامى) : أي اختبروهم كي تعرفوا هل اصبحوا يحسنون التصرف في
المال.
(بَلَغُوا النِّكاحَ) : أي سن الزواج وهى البلوغ.
(آنَسْتُمْ) : أبصرتم الرشد في تصرفاتهم .
(إِسْرافاً وَبِداراً) : الإسراف الإنفاق في غير الحاجة الضرورية ، والبدار :
المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.
(فَلْيَسْتَعْفِفْ) : أي يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.
(فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) : أي بقدر الحاجة الضرورية.
(وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) : شاهدا لقرينة فأشهدوا عليهم.
معنى الآيتين :
ما زال السياق
الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين الى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا ،
ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى (٥) (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التى هى قوام معاشهم
السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه وهو قلة البصيرة بالأمور المالية ،
والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها أو يفسدوها بأي نوع من
الإفساد ، كالإسراف ونحوه ، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم ، وقال فيها ولم يقل
منها إشارة الى أن المال ينبغى أن ينمى في تجارة أو صناعة أو
__________________
زراعة فيبقى رأس
المال والأكل يكون من الربح فقط كما أمرهم ان يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال
أن يقولوا لهم قولا معروفا كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة ، هذا ما تضمنته الآية
الأولى أما الثانية (٦) فقد أمرهم تعالى باختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ بأن يعطوهم شيئا من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو
يشتروا فاذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا اليهم أموالهم وأشهدوا عليهم ، حتى لا يقول
أحدهم في يوم من الأيام ما أعطيتني مالى ، وكفى بالله حسيبا أي شاهدا ورقيبا
حفيظا. ونهاهم عزوجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ويريد لا
تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء بطريق الإسراف وهو الانفاق الزائد على قدر الحاجة ،
والمبادرة هى المسارعة قبل أن يرشد السفيه وينقل إليه المال. ثم أرشدهم الى أقوم
الطرق وأسدها في ذلك فقال ومن كان منكم غنيا فليكفّ عن مال اليتيم ولا يأكل منه
شيئا ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وذلك بان يستقرض منه ثم يرده اليه بعد الميسرة
، وإن كان الولى فقيرا جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال ، وان كان غنيا فليعمل
مجانا احتسابا وأجره على الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ مشروعية الحجر
على السفيه لمصلحته.
٢ ـ استحباب تنمية
الأموال في الأوجه الحلال لقرينة (وَارْزُقُوهُمْ فِيها).
٣ ـ وجوب اختبار
السفيه قبل دفع ماله إليه ، إذ لا يدفع إليه المال الا بعد وجود الرشد.
٤ ـ وجوب الإشهاد
على دفع المال الى اليتيم بعد بلوغه ورشده.
٥ ـ حرمة أكل مال
اليتيم والسفيه مطلقا.
٦ ـ الوالى على
اليتيم ان كان غنيا فلا يأكل من مال اليتيم شيئا ، وإن كان فقيرا استقرض ورد عند
الوجد واليسار ، وان كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولى ان يعمل
بأجرة المثل.
__________________
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))
شرح الكلمات :
(نَصِيبٌ) : الحظ المقدر في كتاب الله.
(الْوالِدانِ) : الأب والأم.
(الْأَقْرَبُونَ) : جمع قريب وهو هنا الوارث بسب أو مصاهرة أو ولاء.
(نَصِيباً مَفْرُوضاً) : قدرا واجبا لازما.
(أُولُوا الْقُرْبى) : أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودى النسب.
(فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) : أعطوهم شيئا يرزقونه.
(قَوْلاً مَعْرُوفاً) : لا إهانة فيه ولا عتاب ، ولا تأفيف.
الخشية
: الخوف في موضع
الأمن.
(قَوْلاً سَدِيداً) : عدلا صائبا.
(ظُلْماً) : بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم.
__________________
(وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) : سيدخلون سعيرا نارا مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها.
معنى الآيات :
لقد كان أهل
الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرسا ولا
تحمل كلّا ولا تنكى عدوا ، يكسب ولا تكسب ، وحدث أن امرأة يقال لها أم كحّة مات زوجها وترك
لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإرث فشكت ام كحة الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية الكريمة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ، وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ومن ثم اصبحت المرأة كالطفل الصغير يرثان كالرجال ، وقوله
تعالى : مما قل منه اى من المال المتروك او كثر حال كون ذلك نصيبا مفروضا لا بد من
اعطائه الوارث ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا. والمراد من الوالدين الأب والأم ،
والأقربون كالأبناء والإخوان والبنات والاخوات ، والزوج والزوجات هذا
ما تضمنته الآية الأولى (٧) وأما الآية الثانية (٨) فقد تضمنت فضيلة
جميلة غفل عنها المؤمنون وهى أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك ، وقدمت
تركته للقسمة بين الورثة ، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين
من المعروف ان يعطوا شيئا من تلك التركة قبل قسمتها وان تعذر العطاء لأن الورثة
يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار
جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ـ أي من المال ـ
المتروك وقولوا لهم قولا معروفا إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل. أما الآية
الثالثة
__________________
وهي قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمن الذى يحضر مريضا على
فراش الموت بأن لا يسمح له ان يحيف في الوصية بأن يوصى لوارث أو يوصى بأكثر من
الثلث او يذكر دينا ليس عليه وإنما يريد حرمان الورثة. فقال تعالى آمرا عباده
المؤمنين وليخش الذين لو تركوا من خلفهم أى من بعد موتهم ، ذرية ضعافا خافوا
عليهم. أي فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته. كما يخشونها على
أولادهم. إذا فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم. وليقولوا لمن حضروا وفاته
ووصيته قولا سديدا : صائبا لا حيف فيه ولا جور معه. هذا ما تضمنته الآية الثالثة (٩)
أما الآية الرابعة (١٠) فقد تضمنت وعيدا شديدا لمن يأكل مال اليتيم ظلما إذ قال
تعالى فيها : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً
إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). والمراد من الظلم انهم أكلوها بغير حق اباح لهم ذلك كأجرة
عمل ونحوه ، ومعنى يأكلون في بطونهم نارا انهم يأكلون النار يوم القيامة فقوله
إنما يأكلون في بطونهم نارا هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم ، والعياذ
بالله من نار السعير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ
التوارث في الإسلام.
٢ ـ استحباب إعطاء
من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم صرفوا بالكلمة الطيبة
، وفي الحديث الكلمة الطيبة صدقة.
٣ ـ وجوب النصح
والإرشاد للمحتضر حتى لا يجور في وصيته عند موته.
٤ ـ على من يخاف
على أطفاله بعد موته أن يحسن الى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم.
٥ ـ حرمة أكل مال
اليتامى ظلما ، والوعيد الشديد فيه.
__________________
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))
شرح الكلمات :
(يُوصِيكُمُ) : يعهد إليكم.
(فِي أَوْلادِكُمْ) : في شأن أولادكم والولد يطلق على الذكر والأنثى.
(حَظِّ) : الحظ الحصة أو النصيب.
(نِساءً) : بنات كبيرات أو صغيرات.
(ثُلُثا ما تَرَكَ) : الثلث واحد من ثلاثة ، والثلثان اثنان من ثلاثة.
(السُّدُسُ) : واحد من ستة.
(إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ) : ذكرا كان أو أنثى ، او كان له ولد ولد أيضا ذكرا أو أنثى
فالحكم واحد.
(فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ) : اثنان فأكثر.
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ) : أي يخرج الدين ثم الوصية ويقسم الباقى على الورثة.
(لا تَدْرُونَ) : لا تعملون.
(فَرِيضَةً) : فرض الله ذلك عليكم فريضة.
__________________
(عَلِيماً حَكِيماً) : عليما بخلقه وما يصلح لهم ، حكيما في تصرفه في شؤون خلقه
وتدبيره لهم.
معنى الآية
الكريمة :
هذه الآية الكريمة
(١١) (يُوصِيكُمُ اللهُ
فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الخ والتي بعدها (١٢) وهي قوله تعالى (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) إلخ نزلت لتفصيل حكم الآية (٧) والتي تضمنت شرعية التوارث
بين الأقارب المسلمين ، فالآية الأولى (١١) يسن تعالى فيها توارث الأبناء مع
الآباء فقال تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) أي في شأن أولادكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يريد إذا مات الرجل وترك أولادا ذكورا وإناثا فإن التركة
تقسم على أساس أن للذكر مثل نصيب الأنثيين فلو ترك ولدا وبنتا وثلاثة دنانير فإن
الولد يأخذ دينارين والبنت تأخذ دينارا وإن ترك بنات اثنين أو أكثر ولم يترك معهن
ذكرا فإن للبنتين فأكثر الثلثين والباقى للعصبة إذ قال تعالى (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ). وإن ترك بنتا واحدة فإن لها النصف والباقى للعصبة وهو
معنى قوله تعالى (وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، وإن كان الميت قد ترك أبويه أي أمه وأباه وترك أولادا
ذكورا أو إناثا فان لكلم واحد من أبويه السدس والباقى للأولاد ، وهو معنى قوله
تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ، يريد ذكرا كان أو أنثى . فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد فلأمه الثلث وان كان له أخوة اثنان فأكثر فلأمه السدس ، هذا معنى قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). أي تسقط من الثلث الى السدس وهذا
__________________
يسمى بالحجب
فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث الى السدس. وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ) يريد أن قسمة التركة على النحو الذى بين تعالى يكون بعد
قضاء دين الميت واخراج ما أوصى به ان كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ). وقوله تعالى (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) معناه نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله ولا
تحاولوا ان تفضلوا أحدا على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم ولا تدرون
أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا والآخرة ، ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة
فان الله تعالى هو القاسم والمعطى عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره
لشؤونهم فليفوض الأمر إليه ، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ ان الله تعالى
تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغير منها شيئا.
٢ ـ الاثنان
يعتبران جمعا.
٣ ـ ولد الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.
٤ ـ الأب عاصب فقد
يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقى يرثه بالتعصيب لقوله صلىاللهعليهوسلم ألحفوا الفرائض بأهلها فما ابقت الفرائض فالأولى رجل ذكر.
(وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
__________________
مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))
شرح الكلمات :
(أَزْواجُكُمْ) : الأزواج هنا الزوجات.
(وَلَدٌ) : المراد هنا بالولد ابن الصلب ذكرا كان أو أنثى وولد
الولد مثله.
(الرُّبُعُ) : واحد من أربعة.
(كَلالَةً) : الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولدا ولا والدا ويرثه
إخوته لأمه.
(لَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ) : أى من الأم.
(غَيْرَ مُضَارٍّ) : بهما ـ أي الوصية والدين ـ احدا من الورثة.
(حَلِيمٌ) : لا يعاجل بالعقوبة على المعصية.
معنى الآية
الكريمة :
كانت الآية قبل
هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة والوارثون
بالمصاهرة الزوج والزوجات قال تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم فمن ماتت وتركت
مالا ولم تترك ولدا ولا ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف ،
وإن تركت ولدا او ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير
لقول الله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ). وهذا من بعد سداد الدين ان كان على الهالكة دين ، وبعد
اخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء ، لقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ
__________________
بِها
أَوْ دَيْنٍ). هذا ميراث الزوج أما ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن
لم يترك الزوج ولدا ولا ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فان ترك ولدا أو ولد ولد فللزوجة
الثمن ، وهذا معنى قوله تعالى (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ
دَيْنٍ). هذا وان كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في
الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد ، وان كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه
بالتساوى وقوله تعالى وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة اى تورث كلالة أيضا ، والموروث
كلالة وهو من ليس له والد ولا ولد ، وإنما يرثه إخوته لأمه كما في هذه الآية أو
إخوته لأبيه وأمه كما في آية الكلالة في آخر هذه السورة ، فإن كان له أخ من أمه
فله السدس وكذا إن كانت له أخت فلها السدس ، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث لقوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ، وله أخ
أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا اكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصيّة يوصى بها او دين غير مضار ، بأن يوصى بأكثر من الثلث ، أو يقر بدين وليس عليه دين
وانما حسدا للورثة أو بغضا لهم لا غير ، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد
الدين وتقسم التركة كلها على الورثة ، وقوله تعالى : وصّية من الله أى وصاكم أيها
المؤمنون بهذا وصيّة فهى جديرة بالاحترام والامتثال. والله عليم بنياتكم وأحوالكم
وما يضركم وما ينفعكم فسلموا له قسمته واطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة
فلا يغركم حلمه ان بطشه شديد وعذابه أليم.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ بيان ميراث
الزوج من زوجته ، والزوجة والزوجات من زوجهن.
٢ ـ بيان ميراث
الكلالة وهو من لا يترك والدا ولا ولدا فيرثه إخوته فقط يحوطون به إحاطة
__________________
الإكليل بالرأس
فلذا سميّت الكلالة.
٣ ـ إهمال الوصيّة
أو الدين ان علم إن الغرض منها الإضرار بالورثة فقط.
٤ ـ عظم شأن المواريث
فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ
عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))
شرح الكلمات :
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : تلك اسم إشارة أشير به الى سائر ما تقدم من أحكام النكاح
وكفالة اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم ، وقسمة التركات. وحدود الله هى ما حده لنا
وبينه من طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدى له.
(الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : هو النجاة من النار ودخول الجنة.
العذاب
المهين : ما كان فيه اهانة
للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك.
معنى الآيتين :
لما بين تعالى ما
شاء من احكام الشرع وحدود الدين أشار الى ذلك بقوله : تلك حدود الله قد بينتها لكم وأمرتكم بالتزامها ، ومن يطع الله
ورسوله فيها وفي غيرها من الشرائع والأحكام فجزاؤه أنه يدخله جنات تجرى من تحتها
الأنهار ، أنهار العسل واللبن والخمر والماء ، وهذا هو الفوز العظيم حيث نجاه من
النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبدا. ومن يعص الله تعالى ورسوله بتعد تلك الحدود
وغيرها من الشرائع والأحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن
__________________
يدخله نارا يخلد
فيها وله عذاب مهين. والعياذ بالله من عذابه وشر عقابه.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان حرمة
تعدي حدود الله تعالى.
٢ ـ بيان ثواب
طاعة الله ورسوله وهو الخلود في الجنة.
٣ ـ بيان جزاء
معصية الله ورسوله وهو الخلود فى النار والعذاب المهين فيها.
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ
كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ
يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))
__________________
شرح الكلمات :
(اللَّاتِي) : جمع التى اسم موصول للمؤنث المفرد واللاتى للجمع المؤنث.
(الْفاحِشَةَ) : المراد بها هنا الزنى.
(مِنْ نِسائِكُمْ) : المحصنات
(سَبِيلاً) : طريقا للخروج من سجن البيوت.
(يَأْتِيانِها) : الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها.
(فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) : اتركوا أذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما.
(التَّوْبَةُ) : أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع
تركه ، والعزم على عدم العودة إليه.
(السُّوءَ) : كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا السيئات.
(بِجَهالَةٍ) : لا مع العمد والإصرار وعدم المبالاة.
(أَعْتَدْنا) : أعددنا وهيأنا.
(أَلِيماً) : موجعا شديد الإيجاع.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى
بحدوده وذكر جزاء متعديها ، ذكر هنا معصية من معاصيه وهى فاحشة الزنى ، ووضع لها
حدا وهى الحبس في البيوت حتى الموت او الى ان ينزل حكما آخر يخرجهن من الحبس وهذا
بالنسبة الى المحصنات. فقال تعالى (وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ) أى من المسلمين يشهدون بأن فلانة زنت بفلان
__________________
فامسكوهن في
البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. أما غير المحصنات وهن
الأبكار فقد قال تعالى في شأنهن ، واللذان يأتيانها منكم فآذوها أى بالضرب الخفيف
والتقريع والعتاب ، مع الحبس للنساء أما الرجال فلا يحبسون وانما يكتفى بأذاهم الى
ان يتوبوا ويصلحوا فحينئذ يعفى عنهم ويكف عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ
كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).
ولم يمض على هذين
الحدين الا القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلا فقد صح أنه صلىاللهعليهوسلم كان جالسا بين أصحابه حتى أنزل الله تعالى عليه الحكم
النهائى فى جريمة الزنى فقال صلىاللهعليهوسلم : خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب
جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والمراد من الثيب
بالثيب اى إذا زنى ثيب بثيب وكذا البكر بالبكر. وبهذا اوقف الحد الأول في النساء
والرجال معا ومضى الثانى أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة فقد رجم ما عز ،
والغامدية بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو حد قائم الى يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآيتان
الأولى (١٥) والثانية (١٦) وأما الآيتان بعدهما وهما (١٧) (١٨) فقد أخبر تعالى أن
الذين يستحقون التوبة وثبتت لهم من الله تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية
بسبب جهالة منهم ، ثم يتوبون من قريب لا يسوفون التوبة ولا يؤخرونها أما الذين
يجترحون السيآت مع علم منهم وإصرار ، ولا يتوبون إثر غشيان الذنب فلا توبة تضمن
لهم فقد يموتون بلا توبة شأنهم شأن الذين يعملون السيئآت ولا يتوبون حتى إذا مرض
احدهم وظهرت عليه علامات الموت وأيقن انه ميت لا محالة قال انه تائب كشأن الكافرين
اذا تابوا عند معاينة الموت فلا تقبل
__________________
منهم توبة أبدا.
هذا معنى الآيتين الكريمتين الأولى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أى يقبل توبتهم لأنه عليم بضعف عباده حكيم يضع كل شىء في
موضعه اللائق به ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجهالة لا بعناد ومكابرة وتحد ، ثم
تابوا من فريب لم يطيلوا مدة المعاصى والثانية (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ، كما هى ليست للذين يعيشون على الكفر فإذا جاء أحدهم
الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق قال آمنت انه لا إله الا الذى
آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فرد الله تعالى عليه : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ
مِنَ الْمُفْسِدِينَ). وقوله تعالى (أُولئِكَ أَعْتَدْنا
لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إشارة الى كل من مات على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب ،
أو بكفر وشرك ، الا أن المؤمن الموحد يخرج من النار بإيمانه ، والكافر يخلد فيها.
نعوذ بالله من النار وحال أهلها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم قبح فاحشة
الزنى.
٢ ـ بيان حد الزنى
قبل نسخه بآية سورة النور ، وحكم الرسول صلىاللهعليهوسلم في رجم المحصن والمحصنة.
٣ ـ التوبة التى
تفضل الله بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة لا بعلم وإصرار ثم
تاب من قريب زمن.
٤ ـ الذين يسوفون
التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن لا يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك فيكونون
من أهل النار ، وقد يتوب أحدهم ، لكن بندرة وقلة وتقبل توبته اذا لم يعاين امارات
الموت لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم «ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذى وأحمد
وغيرهما واسناده حسن.
٥ ـ لا تقبل توبة
من حشرجت نفسه وظهرت عليه علامات الموت ، وكذا الكافر من باب أولى لا تقبل له توبة
بالإيمان اذا عاين علامات الموت كما لم تقبل توبة فرعون.
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ
قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))
شرح الكلمات :
(كَرْهاً) : بدون رضاهن.
العضل
: المنع بشدة كأنه
امساك بالعضلات أو من العضلات.
(بِبَعْضِ ما
آتَيْتُمُوهُنَ) : أى من المهور.
الفاحشة
: الخصلة القبيحة
الشديدة القبح كالزنى.
(مُبَيِّنَةٍ) : ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء.
(بِالْمَعْرُوفِ) : ما عرفه الشرع واجبا أو مندوبا أو مباحا.
(قِنْطاراً) : اى من الذهب أو الفضة مهرا وصداقا.
__________________
(بُهْتاناً وَإِثْماً) : أى كذبا وافتراء ، واثما حراما لا شك في حرمته لأنه ظلم.
(أَفْضى بَعْضُكُمْ
إِلى بَعْضٍ) : اى خلص الزوج الى عورة زوجته والزوجة كذلك.
(مِيثاقاً غَلِيظاً) : هو العقد وقول الزوج : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
معنى الآيات :
تضمنت هذه الآية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ
كَرْهاً) ابطال ما كان شائعا بين الناس قبل الاسلام من الظلم اللاحق
بالنساء فقد كان الرجل إذا مات والده على زوجته ورثها أكبر اولاده من غيرها فان
شاء زوجها وأخذ مهرها وان شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله
تعالى قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) ، فبطل ذلك الحكم الجاهلى بهذه الآية الكريمة وأصبحت
المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت زوجها فاذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها
مالها وما ورثته من زوجها أيضا وقوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). فهذا حكم آخر وهو أنه يحرم على الزوج إذا كره زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدى منه ببعض مهرها ، اذ
من معانى العضل المضايقة والمضارة ، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنى ، او
تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت
بفاحشة مبينة لا شك فيها او نشزت نشوزا بينا فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدى
منه بمهرها او بأكثر حتى يطلقها ، وذلك لقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) ، ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف
وهو العدل والاحسان ، فقال : (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) ، وان فرض ان أحدا منكم كره زوجته وهى لم تأت بفاحشة مبينة
فليصبر عليها ولا يطلقها فلعل الله تعالى يجعل في بقائها في عصمته خيرا كثيرا له
نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها ، فقد يرزق منها ولدا ينفعه ،
وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة. والمراد أن الله تعالى ارشد
المؤمن
__________________
ان كره زوجته ان
يصبر ولا يطلق لما في ذلك من العاقبة الحسنة ، لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا
مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير
الكثير. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٩) أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا : تحريم
أخذ شىء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لاتيانها بفاحشة ولا لنشوزها ، ولكن
لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها في هذه الحال لا يحل له أن يضارها لتفتدى منه
بشىء ولو قل ، ولو كان قد أمهرها قنطارا فلا يحل أن يأخذ منه فلسا فضلا عن دينار
أو درهم هذا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ قِنْطاراً
فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) ، أتأخذونه بهتانا أى ظلما بغير حق وكذبا وافتراء وإثما
مبينا أى ذنبا عظيما ، ثم قال تعالى منكرا على من يفعل ذلك : وكيف تأخذونه أى بأى
وجه يحل لكم ذلك ، والحال أنه قد افضى بعضهم إلى بعض أى بالجماع ، اذ ما استحل الزوج فرجها الا
بذلك المهر فكيف اذا يسترده أو شيئا منه بهتانا وإثما مبينا ، فقال تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)؟ وقوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا يعنى عقد النكاح فهو
عهد مؤكد يقول الزوج نكحتها على مبدأ : إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ، فأين
التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل له عن مهرها أو عن شيء منه ، هذا ما
أنكره تعالى بقوله وكيف تأخذونه إذ هو استفهام إنكارى.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال قانون
الجاهلية القائم على ان ابن الزوج يرث امرأة أبيه.
٢ ـ حرمة العضل من
أجل الافتداء بالمهر وغيره.
٣ ـ الترغيب في
الصبر.
__________________
٤ ـ جواز أخذ
الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هى أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها كالزنى
أو النشوز.
٥ ـ جواز غلاء
المهر فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أكثر بركة.
٦ ـ وجوب مراعاة
العهود والوفاء بها.
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ
وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ
اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (٢٣))
شرح الكلمات :
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) : لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد.
(إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) : إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم.
__________________
(إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً) : أى زواج نساء الآباء فاحشة شديدة القبح.
(مَقْتاً) : ممقوتا مبغوضا للشارع ولكل ذى فطرة سليمة.
(وَساءَ سَبِيلاً) : أي قبح نكاح أزواج الآباء طريقا يسلك.
(أُمَّهاتُكُمْ) : جمع أم فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت.
(وَرَبائِبُكُمُ) : الربائب جمع ربيبة هى بنت الزوجة.
(وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) : الحلائل جمع حليلة وهى امرأة الابن من الصلب.
معنى الآيتين :
ما زال السياق
الكريم في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالارث والنكاح وعشرة النساء. وفي هاتين
الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب ، والرضاع والمصاهرة فبدأ بتحريم امرأة
الأب وان علا فقال : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) ، ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التى
كانت متبعة عندهم في الجاهلية. ولذا قال الا ما قد سلف فى الجاهلية فانه معفو عنه
بالاسلام بعد التخلى عنه وعدم المقام عليه ، وبهذه اللفظ حرمت امرأة الأب والجد
على الابن وابن الابن ولو لم يدخل بها الأب ثم ذكر محرمات النسب فذكر الامهات
والبنات والاخوات والعمات والخالات وبنات الأخ ، وبنات الأخت فهؤلاء سبع محرمات من
النسب قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) فمن رضع من امرأة خمس رضعات وهو في سن الحولين تحرم عليه ويحرم عليه امهاتها
وبناتها واخواتها وكذا بنات زوجها واخواته وامهاته حتى
__________________
قيل يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة
فقال : وامهات نسائكم فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد ان يعقد على بنتها تصبح
أمها حراما. وقال وربائبكم التى في حجوركم فالربيية هى بنت الزوجة اذا نكح الرجل
امرأة وبنى بها لا يحل له الزواج من ابنتها أما إذا عقد فقط ولم يبن فان البنت تحل
له لقوله : من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أى
لا إثم ولا حرج.
ومن المحرمات
بالمصاهرة امرأة الابن بنى بها ام لم يبن لقوله تعالى : وحلائل ابنائكم الذين من
اصلابكم أى ليس ابنا بالتبنى ، اما الإبن من الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب ،
لأن اللبن الذى تغذى به هو السبب فكان اذا كالولد للصلب ، ومن المحرمات بالمصاهرة
أيضا أخت الزوجة فمن تزوج امرأة لا يحل له أن يتزوج أختها حتى يموت او يفارقها
وتنتهى عدتها لقوله تعالى وان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف في الجاهلية فانه
عفو بشرط عدم الإقامة عليه.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تحريم مناكح
الجاهلية الا ما وافق الإسلام منها ، وخاصة أزواج الآباء فزوجة الأب محرمة على
الابن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها او مات عنها.
٢ ـ بيان المحرمات
من النسب وهن سبع الأمهات والبنات والاخوات ، والعمات والخالات وبنات الأخ وبنت
الأخت.
٣ ـ بيان المحرمات
من الرضاع وهن المحرمات من النسب فالرضيع يحرم عليه امه المرضع له وبناتها وأخواتها وعماته وخالاته ، وبنات
أخيه وبنات أخته.
٤ ـ بيان المحرمات
من المصاهرة وهن سبع أيضا : زوجة الأب بنى بها أو لم يبن ، أم امرأته بنى بابنتها
أو لم يبن ، وبنت امرأته وهى الربيبة اذا دخل بأمها ، وامرأة الولد من الصلب
__________________
بنى بها الولد أو
لم يبن ، وكذا ابنه من الرضاع ، وأخت امرأته ما دامت اختها تحته لم يفارقها
بطلاق أو وفاة. والمحصنات من النساء أى المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن
وانقضاء عددهن.
__________________
الجزء الخامس
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما
عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))
شرح الكلمات :
(الْمُحْصَناتُ) : جمع محصنة والمراد بها هنا المتزوجة.
(إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) : المملوكة بالسبي والشراء ونحوهما.
(ما وَراءَ ذلِكُمْ) : أي ما عداه أي ما عدا ما حرم عليكم.
(غَيْرَ مُسافِحِينَ) : المسافح : الزاني ، لأن السفاح هو الزنى.
__________________
(أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً) : مهورهن نحلة.
(طَوْلاً) : سعة وقدرة على المهر.
(الْمُحْصَناتِ) : العفيفات.
(أُجُورَهُنَ) : مهورهن.
(وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ) : الخدين الخليل الذي يفجر بالمرأة سرا تحت شعار الصداقة.
(فَإِذا أُحْصِنَ) : بأن أسلمن أو تزوجن إذ الإحصان يكون بهما.
(الْعَنَتَ) : العنت الضرر في الدين والبدن.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز ففي الآية الأولى (٢٤) عطف تعالى على المحرمات في
المصاهرة المرأة المتزوجة فقال (وَالْمُحْصَناتُ) أي ذوات الأزواج فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج
بطلاق أو وفاة ، وبعد انقضاء العدة أيضا واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة
باليمين وهي المرأة تسبى في الحرب الشرعية وهي الجهاد في سبيل الله فهذه من الجائز
أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها
وأصبحت مملوكة أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين. ولذا ورد
أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبى فيها المسلمون
النساء والذراري ، فتحرّج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة ومنهن المتزوجات فأذن
لهم في غشيانهنّ بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة ، أما قبل إسلامها فلا تحل
لأنها مشركة ، هذا معنى قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وقوله : (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) يريد ما حرمه تعالى من المناكح قد كتبه على المسلمين كتابا
وفرضه فرضا لا يجوز إهماله أو التهاون به. فكتاب الله منصوب على المصدرية.
وقوله تعالى : (وَأُحِلَ لَكُمْ
ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب
__________________
وبالرضاع
وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول
السورة (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) : وقوله تعالى (أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي لا حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرّم
عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير مسافحين ، وذلك بأن يتم النكاح
بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود ، إذ أن نكاحا يتم بغير هذه الشروط فهو
السفاح أي الزنى وقوله تعالى (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) يريد تعالى : أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها أي وطئها
إلا وجب لها المهر كاملا ، أما التي لم يتم الاستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء
فليس لها إلا نصف المهر المسمى ، وإن لم يكن قد سمى لها فليس لها إلا المتعة ،
فالمراد من قوله (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) أي بنيتم بهن ودخلتم عليهن. وقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها وهو المهر
كاملا فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها ، أو تؤجله
أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته كما تقدم (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء / ٤]
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) المراد منه إفهام المؤمنين بأن الله تعالى عليم بأحوالهم
حكيم في تشريعه لهم فليأخذوا بشرعه ورخصه وعزائمه فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل ،
ولنعم تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٤) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً ....) فقد تضمنت بيان رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين إذ رخص
لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده ، مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه
بالزنى ، أو في بدنه
__________________
بإقامة الحد عليه
رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة ، وأن يتزوجها بإذن مالكها وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الإحصان
الذي هو الزواج بشروطه لا السفاح ، الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) ، ولا الخفيّ المشار إليه بكلمة (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي أخلاء هذا معنى قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً) أي قدرة مالية أن ينكح المحصنات أي العفائف من (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي من إمائكم المؤمنات لا الكافرات بحسب الظاهر أما الباطن
فعلمه إلى الله ولذا قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ) وقوله (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) فيه تطييب لنفس المؤمن إذا تزوج للضرورة الأمة فإن الإيمان
أذهب الفوارق بين المؤمنين وقوله : (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ
مُسافِحاتٍ) فيه بيان للشروط التي لا بد منها وقد ذكرناها آنفا.
وقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) ـ أي الإماء ـ
بالزواج وبالإسلام (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ) أي زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو
جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر ، لأن الحرة إن زنت وهي بكر تجلد مائة وتغرب سنة. أما الرجم والذي هو الموت
فإنه لا ينصف فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد لا الرجم وهو إجماع لا
خلاف فيه وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) يريد أبحت لكم ذلك لمن خاف على نفسه الزنى إذا لم يقدر على
الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا
.....) أي على العزوبيّة خير لكم من نكاح الإماء. وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ولذا رخّص لهم في نكاح
الإماء عند خوف العنت ، وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر فلله الحمد وله المنّة.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ تحريم المرأة
المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها.
__________________
٢ ـ جواز نكاح
المملوكة باليمين وإن كان زوجها حيّا في دار الحرب إذا أسلمت ، لأن الإسلام فصل
بينهما.
٣ ـ وجوب المهور ،
وجواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها شيئا.
٤ ـ جواز التزوج
من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر.
٥ ـ وجوب إقامة
الحد على من زنت من الإماء إن أحصنّ بالزواج والإسلام.
٦ ـ الصبر على
العزوبة خير من الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك.
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً
(٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))
شرح الكلمات :
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) : يريد الله أن يبيّن لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما
يكملكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم.
(سُنَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ) : طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا
نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم.
(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) : يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية
الإسلام.
(الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) : من اليهود والنصارى والمجوس والزناة.
__________________
(أَنْ تَمِيلُوا
مَيْلاً عَظِيماً) : تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر
بارتكاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعدا عظيما.
(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) : لا يصبر عن النساء ، فلذا رخّص تعالى لهم في الزواج من
الفتيات المؤمنات.
معنى الآيات :
لما حرم تعالى ما
حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله (يُرِيدُ اللهُ) أي بما شرع ليبيّن ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا
النافع وتتركوا الضار ، كما يريد أن يهديكم طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء
ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكلموا وتسعدوا في الحياتين ، كما يريد بما بين لكم أن (يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام فتعيشوا
على الطهر والصلاح ، وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه
بلزوم طاعته ، والبعد عن معصيته.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٦) أما الآية الثانية (٢٧) فقد تضمنت الإخبار بأن الله تعالى يريد
بما بيّنه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث
والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل
رحيم. وأنّ الذين يتّبعون الشهوات من الزناة واليهود والنصارى وسائر المنحرفين عن
سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات
البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم ، وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو
هدايتهم.
هذا معنى الآية
الثانية أما الثالثة (٢٨) فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح
الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير عن المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف
الإنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة
__________________
الميل إلى أنثاه
لحفظ النوع ولحكم عالية وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) .
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ منّة الله
تعالى علينا في تعليله الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب
خاطر.
٢ ـ منة الله
تعالى على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم.
٣ ـ منته تعالى في
تطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات.
٤ ـ الكشف عن
نفسية الإنسان ، إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناه والمنحرفون يودون أن
ينحرف الناس مثلهم ، وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس
مثله ، كما أن الطاهر الصالح يود أن يطهر ويصلح كل الناس.
٥ ـ ضعف الإنسان
أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ
كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ
نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))
__________________
شرح الكلمات :
(آمَنُوا) : صدقوا الله والرسول.
(بِالْباطِلِ) : بغير حق يبيح أكلها.
(تِجارَةً) : بيعا وشراء فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل
لصاحب النقود أخذ البضاعة ، إذا لا باطل.
(تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) : أي تزهقوا أرواح بعضكم بعضا.
(عُدْواناً وَظُلْماً) : اعتداء يكون فيه ظالما.
(نُصْلِيهِ ناراً) : ندخله نار جهنم يحترق فيها.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
بيان ما يحل وما يحرم من الأموال والأعراض والأنفس ففي هذه الآية (٢٩) ينادي الله
تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) وينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو
القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم العديدة فيقول : (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، أي بغير عوض مباح ، أو طيب نفس ، ثم يستثنى ما كان حاصلا
عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث «إنما البيع عن تراض» و «البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا» فقال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) فلا بأس بأكله فإنه حلال لكم. هذا ما تضمنته هذه الآية كما
قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم بعضا فقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) والنهي شامل لقتل الإنسان نفسه وقتله أخاه المسلم لأن
المسلمين كجسم واحد فالذي يقتل مسلما منهم كأنما قتل نفسه. وعلل تعالى هذا التحريم
لنا فقال إن الله كان بكم رحيما ، فلذا حرّم عليكم قتل بعضكم بعضا.
__________________
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (٢٩) أما الآية الثانية (٣٠) فقد تضمنت وعيدا شديدا بالإصلاء بالنار
والإحراق فيها كل من يقتل مؤمنا عدوانا وظلما أي بالعمد والإصرار والظلم المحض ، فقال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي القتل (عُدْواناً وَظُلْماً
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ، وَكانَ ذلِكَ) أي الإصلاء والاحراق في النار (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لكمال قدرته تعالى فالمتوعد بهذا العذاب إذا لا يستطيع أن
يدفع ذلك عن نفسه بحال من الأحوال.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة مال
المسلم ، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا.
٢ ـ إباحة التجارة
والترغيب فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة
التوكل.
٣ ـ تقرير مبدأ «إنما
البيع عن تراض ، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا».
٤ ـ حرمة قتل
المسلم نفسه أو غيره من المسلمين لأنهم أمة واحدة.
٥ ـ الوعيد الشديد
لقاتل النفس عدوانا وظلما بالإصلاء بالنار.
٦ ـ إن كان القتل
غير عدوان بأن كان خطأ ، أو كان غير ظلم بأن كان عمدا ولكن بحق كقتل من قتل والده
أو ابنه أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد.
(إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))
شرح الكلمات :
(إِنْ تَجْتَنِبُوا) : تبتعدوا لأن الاجتناب ترك الشيء عن جنب بعيدا عنه لا
يقبل عليه ولا يقربه.
__________________
(كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) : الكبائر : ضد الصغائر ، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد
فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليها ، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حدّ
يقام على صاحبها ، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر ، وعلى المؤمن
أن يعلم ذلك ليجتنبه.
(نُكَفِّرْ) : نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها.
(مُدْخَلاً كَرِيماً) : المدخل الكريم هنا : الجنة دار المتقين.
معنى الآية
الكريمة :
يتفضل الجبار جل
جلاله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه الأمة المسلمة بأن وعدها وعد
الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار السّلام
وخلع عليه حلل الرضوان فقال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ما أنهاكم عنه أنا ورسولي (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) التي هي دون الكبائر وهي الصغائر ، (وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) الذي هو الجنة ولله الحمد والمنة. لهذا كانت هذه الآية من
مبشرات القرآن لهذه الأمة.
هداية الآية :
من
هداية الآية :
١ ـ وجوب الابتعاد
عن سائر الكبائر ، والصبر على ذلك حتى الموت.
٢ ـ الذنوب قسمان
كبائر وصغائر ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك ، ومن زل
فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
٣ ـ الجنة لا
يدخلها إلا ذوو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب
والآثام والفواحش.
__________________
(وَلا تَتَمَنَّوْا ما
فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))
شرح الكلمات :
(وَلا تَتَمَنَّوْا) : التمني : التشهي والرغبة في حصول الشيء ، وأداته : ليت ،
ولو ، فإن كان مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد.
ما
فضل الله بعضكم : أي ما فضل الله به أحدا منكم فأعطاه علما أو مالا أو جاها أو سلطانا.
(نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا) : أي حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية.
(مَوالِيَ) : الموالي من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب.
(عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) : أي حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة
واليمين.
(فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ) : من الرفادة والوصيّة والنصرة لأنهم ليسوا ورثة.
معنى الآيتين :
صح أو لم يصح أن
أم سلمة رضي الله عنها قالت : ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال
فإن الله سميع عليم ، والذين يتمنون حسدا وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى
__________________
الله تعالى في هذه
الآية الكريمة (٣٢) عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض
فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اقتضت ذلك ، ومن أظهرها الابتلاء بالشّكر والصبر ، فقال
تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما
فَضَّلَ اللهُ بِهِ) ـ من علم أو مال.
أو صحة أو جاء أو سلطان ـ (بَعْضَكُمْ عَلى
بَعْضٍ) وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل
فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح ، ولا يتمنى
ذلك تمنيا ، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة
تمنيا كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسننه المنوطة به ولا يتمنى فقط فإن
التمنى كما قيل بضائع النوكى أي الحمقى ، فلذا قال تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ، فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب الإنسان. كقوله تعالى
: (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ثم بين تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب وهي دعاء
الله تعالى فقال (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فمن سأل ربّه وألح عليه موقنا بالاجابة أعطاه فيوفقه للإتيان بالأسباب ،
ويصرف عنه الموانع ، ويعطيه بغير سبب إن شاء ، وهو على كل شىء قدير ، بل ومن
الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى أما الآية الثانية (٣٣) فإن الله تعالى يخبر مقررا حكما شرعيا قد
تقدم في السياق وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثونه إذا مات فقال (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا) (مَوالِيَ) أي أقارب يرثونه إذا مات ، وذلك من النساء والرجال أما
الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء فقط أي ليسوا من أولي الأرحام فالواجب إعطاؤهم
نصيبهم من النصرة والرفادة. والوصية لهم بشىء إذا لا حظ لهم في الإرث لقوله تعالى
: (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) ، ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع
فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أنه على كل شىء شهيد فلا يخفى عليه من أمر الناس شىء
فليتق ولا يعص.
__________________
فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً) لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ولا تعصوه.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ قبح التمني
وترك العمل.
٢ ـ حرمة الحسد.
٣ ـ فضل الدعاء
وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد.
٤ ـ تقرير مبدأ
التوارث في الإسلام.
٥ ـ من عاقد أحدا
على حلف أو آخى أحدا وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن يوصي له بما
دون الثلث ، أما الإرث فلا حق له لنسخ ذلك.
٦ ـ وجوب مراقبة
الله تعالى ، لأنه بكل شىء عليم ، وعلى كل شيء شهيد.
(الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما
حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ
بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ
يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً
(٣٥))
__________________
شرح الكلمات :
(قَوَّامُونَ) : جمع قوام : وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحا.
(بِما فَضَّلَ اللهُ
بَعْضَهُمْ) : بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة.
(وَبِما أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوالِهِمْ) : وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء
فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي
الرئاسة.
(فَالصَّالِحاتُ) : جمع صالحة : وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها.
(قانِتاتٌ) : مطيعات لله ولأزواجهن.
(حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) : حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن.
(نُشُوزَهُنَ) : النشوز : الترفع عن الزوج وعدم طاعته.
(فَعِظُوهُنَ) : بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية.
(فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) : أي لا تطلبوا لهن طريقا تتوصلون به إلى ضربهن بعد أن
أطعنكم.
(شِقاقَ بَيْنِهِما) : الشقاق : المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق
مقابل.
(حَكَماً) : الحكم : الحاكم ، والمحكم في القضايا للنظر والحكم فيها.
معنى الآيتين :
يروى في سبب نزول
هذه الآية أن سعد بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها فشكاه وليها
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كأنه يريد القصاص فأنزل الله تعالى هذه الآية (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). فقال ولّي المرأة أردنا أمرا وأراد الله غيره ، وما أراده
الله خير. ورضي بحكم الله تعالى وهو أن الرجل
__________________
ما دام قواما على
المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها ، وعلم أغزر من
علمها غالبا وبعد نظر في مبادىء الأمور ونهاياتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه
دفع مهرا لم تدفعه ، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشىء منها فلما وجبت له الرئاسة
عليها وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو يكسر عضوا
فيكون ضربه لها كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على
زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها
فقال : (فَالصَّالِحاتُ) ، وهن : الائي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام (قانِتاتٌ) : أي مطيعات لله تعالى ، وللزوج ، (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي حافظات مال الزوج وعرضه لحديث : «وإذا غاب عنها حفظته
في نفسها وماله» ، (بِما حَفِظَ اللهُ) أي بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها
لا تستطيع حفظ شىء وإن قل. وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمنا وذلك أن
الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان
إليها والرفق بها لضعفها ، وهذا ما ذكرته أولا نبهت عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية
الكريمة ، وقد ذكره غير واحد من السلف.
وقوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً). فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت
أي ترفعت على زوجها ولم تؤدي إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما ، فيقول (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا
تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي ، فاسلكوا معهن السبيل الآتي : (فَعِظُوهُنَ) أولا ، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه ،
وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه ، وبما قد ينجم من إهمالها في
ضربها أو طلاقها فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات ، وترهيب من عقوبة المفسدات
العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي أن يهجرها الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد
وقد
__________________
أعطاها ظهره فلا
يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معا وإن
أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش ، فالثالثة وهي أن يضربها ضربا غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر عضوا. وأخيرا فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب
الزوج طريقا إلى أذيّتها لا بضرب ولا بهجران لقوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي الأزواج (فَلا تَبْغُوا) أي تطلبوا (عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) لأذيتهنّ باختلاق الأسباب وإيجاد العلل والمبررات
لأذيتهنّ. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيًّا كَبِيراً) تذييل للكلام بما يشعر من أراد أن يعلو على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش
الله وليترك من علوه وكبريائه.
هذا ما تضمنته هذه
الآية العظيمة (٣٤) أما الآية الثانية (٣٥) فقد تضمنت حكما جتماعيا آخر وهو إن حصل
شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا
وفاق ولا وئام وذلك لصعوبة الحال فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى
إليه ، وهو أن يبعث ولي الزوجة حكما من قبله ، ويبعث ولي الزوج حكما من قبله ، أو
يبعث الزوج نفسه حكما وتبعث الزوجة أيضا حكما من قبلها ، أو يبعث القاضي كذلك الكل
جائز لقوله تعالى : (فَابْعَثُوا) وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلا عالما
بصيرا حتى يمكنه الحكم والقضاء بالعدل. فيدرس الحكمان القضية أولا مع طرفي النزاع
ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوجين من رضى وحب ، وكراهية وسخط ثم
يجتمعان على اصلاح ذات البين فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضا الزوجين. مع
العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم فإن كان
الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما وجب عليه ، وإن كانت المرأة هي الظالمة
فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها هذا معنى قوله تعالى (وَإِنْ
__________________
خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما) ، والخوف هنا بمعنى التوقع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح
من دلائل فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد (فَابْعَثُوا حَكَماً
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) ، لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما وقوله تعالى (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) فإنه يعني الحكمين ، (يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) أي إن كان قصدهما الإصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة
الشقاق والخلاف بينهما فإن الله تعالى يعينهما على مهمتها ويبارك في مسعاهما
ويكلله بالنجاح. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً خَبِيراً). ذكر تعليلا لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين ،
إذ لو لم يكن عليما خبيرا ما عرف نيات الحكمين وما يجرى في صدورهما من إرادة
الإصلاح أو الإفساد.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تقرير مبدأ
القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته.
٢ ـ وجوب إكرام
الصالحات والإحسان إليهن.
٣ ـ بيان علاج
مشكلة نشوز الزوجة وذلك بوعظها أولا ثم هجرانها في الفراش ثانيا ، ثم
بضربها ثالثا.
٤ ـ لا يحل اختلاق
الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب وبغيره.
٥ ـ مشروعية
التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك.
(وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ
اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ
__________________
النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ
النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ
بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))
شرح الكلمات
(اعْبُدُوا اللهَ) : الخطاب للمؤمنين ومعنى اعبدوا : أطيعوه في أمره ونهيه مع
غاية الذل والحب والتعظيم له عزوجل.
(لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) : أي لا تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي
تعبد الله تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها.
ذوي
القربى : أصحاب القرابات.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) : المسافر استضاف أو لم يستضف.
(وَالْجارِ ذِي
الْقُرْبى) : أي القريب لنسب أو مصاهرة.
(الْجارِ الْجُنُبِ) : أي الأجنبي مؤمنا كان أو كافرا.
(الصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) : الزوجة ، والصديق الملازم كالتلميذ والرفيق في السفر.
(وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) : من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات.
مختال
فخور : الاختيال : الزهو
في المشي ، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد ذلك وذكره.
__________________
(يَبْخَلُونَ) : يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقا.
(وَيَكْتُمُونَ) : يجحدون ما أعطاهم الله من علم ومال تفضلا منه عليهم.
(قَرِيناً) : القرين : الملازم الذي لا يفارق صاحبه كأنه مشدود معه
بقرن أي بحبل.
(وَما ذا عَلَيْهِمْ) : أي أي شىء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هم آمنوا؟
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في هداية المؤمنين ، وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا
ويسعدوا ففي الآية الأولى (٣٦) يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده فيها وبالإحسان إلى الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم ،
ودفع الأذى عنهم ، وكذا الأقرباء ، واليتامى ، والمساكين ، والجيران مطلقا أقرباء أو أجانب ، والصاحب الملازم الذي لا يفارق
كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب ونحو ذلك من الملازمة التي لا
تفارق إلا نادرا إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب. وكذا ابن السبيل وما ملكت
اليمين من أمة أو عبد والمذكورون الإحسان إليهم آكد وإلا فالإحسان معروف يبذل لكل
الناس كما قال تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً) ، وقال (وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) دال على أن منع الإحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف
ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٦).
وأما الآية
الثانية (٣٧) وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر التنديد ببخل بعض أهل الكتاب
وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضا قال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من مال وعلم وقد كتموا نعوت النبي
__________________
صلىاللهعليهوسلم وصفاته الدالة عليه في التوراة والإنجيل ، وبخلوا بأموالهم
وأمروا بالبخل بها ، إذ كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا
نخشى عليكم الفقر ، وخبر الموصول الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقا دلّ عليه
قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً). هذا ما جاء في هذه الآية الثانية.
أما الآيتان
الثالثة (٣٨) والرابعة (٣٩) فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير
اليهود وهم المنافقون فقال تعالى : (وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) أي مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة. (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ). لأنهم كفار مشركون وإنما أظهروا الإسلام تقية فقط ولذا
كان إنفاقهم رياء لا غير. وقوله : (وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي بئس القرين له الشيطان وهذه الجملة : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ ...) دالة على خبر الموصول المحذوف اكتفى بها عن ذكره كما في
الموصول الأول وقد يقدر بمثل : الشيطان قرينهم هو الذي زين لهم الكفر بالله واليوم الآخر.
هذا ما تضمنته
الآية الثانية (٣٩) وهي قوله تعالى (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ
آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ؟؟) فقد تضمنت الإنكار والتوبيخ لأولئك المنافقين الذين ينفقون
رياء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر بسبب فتنة الشيطان لهم وملازمته
إياهم ، فقال تعالى (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الآجل ، لو
صدقوا الله ورسوله وانفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله ، وفي الخطاب دعوة ربانية
لهم لتصحيح إيمانهم واستقامتهم بالخروج من دائرة النفاق التي أوقعهم فيها القرين
عليه لعائن الله ، فلذا لم يذكر تعالى وعيدا لهم ، وإنما قال (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً ،) وفي هذه تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم
فإن علم الله بهم يستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات
١ ـ تقرير عشرة
حقوق والأمر بأدائها فورا وهي عبادة الله وحده والاحسان بالوالدين ، وإلى كل
المذكورين في الآية الأولى.
٢ ـ ذم الاختيال الناجم عن الكبر وذم الفخر وبيان كره الله تعالى لهما.
٣ ـ حرمة البخل والأمر به وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي منه.
٤ ـ حرمة الرياء
وذم صاحبها.
٥ ـ ذم قرناء
السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرناءهم حتى قيل :
عن المرء لا
تسأل وسل عن قرينة
|
|
فكل قرين
بالمقارن يقتدى.
|
(إِنَّ
اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا
جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))
شرح الكلمات :
الظلم
: وضع شىء في غير
موضعه.
__________________
(مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : المثقال : الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل ،
والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة.
الحسنة
: الفعلة الجميلة
من المعروف.
(يُضاعِفْها) : يريد فيها ضعفها.
(مِنْ لَدُنْهُ) : من عنده.
(أَجْراً عَظِيماً) : جزاء كبيرا وثوابا عظيما
الشهيد
: الشاهد على الشىء
لعلمه به
(يَوَدُّ) : يحب
(تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) : يكونون ترابا مثلها.
(وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) : أي لا يخفون كلاما.
معنى الآيات :
لما أمر تعالى في
الآيات السابقة بعبادته والإحسان إلى من ذكر من عباده. وأمر بالانفاق في سبيله ،
وندد بالبخل والكبر والفخر ، وكتمان العلم ، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيرا أو
شرا ذكر في هذه الآية (٤٠) (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، ذكر عدله في المجازاة ورحمته ، فأخبر أنه عند الحساب لا
يظلم عبده وزن ذرة وهي أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة ، ولا يزيد في
سيئاته سيئة ، وان توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من
عنده بدون مقابل أجرا عظيما لا يقادر قدره فلله الحمد والمنة هذا ما تضمنته الآية
الأولى (٤٠) أما الآية الثانية (٤١) فإنه تعالى لما ذكر الجزاء والحساب الدال عليه
السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه ، فخاطب رسوله صلىاللهعليهوسلم قائلا : (فَكَيْفَ إِذا
جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟) ومعنى الآية الكريمة فكيف تكون حال أهل الكفر والشر
والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد عليها فيما أطاعت وفيما عصت
__________________
ليتم الحساب بحسب
البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات ، وجئنا بك أيها
الرسول الخليل صلىاللهعليهوسلم شهيدا على هؤلاء أى على أمته صلىاللهعليهوسلم من آمن به ومن كفر
إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلىاللهعليهوسلم. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (٤٢) فإنه
تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية (٤١) ذكر مثلا لذلك الهول وهو
أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لو يسوون بالأرض فيكونون ترابا حتى لا
يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم. وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاما ؛ إذ جوارحهم
تنطق فتشهد عليهم. قال تعالى (يَوْمَئِذٍ) أى يوم يؤتى من كل أمة بشهيد (يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) فيكونون ترابا مثلها. مرادهم أن يسووا هم بالأرض فيكونون ترابا وخرج الكلام على
معنى أدخلت رأسي في القلنسوة والأصل أدخلت القلنسوة في رأسي وقوله (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) اخبار عن عجزهم عن كتمان شىء عن الله تعالى لأن جوارحهم
تشهد عليهم بعد أن يختم على أفواههم ، كما قال تعالى من سورة يس (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان عدالة
الله تعالى ورحمته ومزيد فضله.
٢ ـ بيان هول يوم
القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان ترابا.
٣ ـ معرفة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بآثار الشهادة على العبد يوم القيامة إذ أخبر عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما «إقرأ عليّ القرآن فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال :
أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ) حتى وصلت هذه الآية (فَكَيْفَ) (إِذا جِئْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) الآية وإذا عينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تذرفان الدموع وهو يقول : حسبك أي كفاك ما قرأت علّي.
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))
شرح الكلمات :
(لا تَقْرَبُوا) : لا تدنوا كناية عن الدخول فيها ، أو لا تدنوا من
مساجدها.
(سُكارى) : جمع كسران وهو من شرب مسكرا فستر عقله وغطاه.
(تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ) : لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن وقت الصلاة وهذا كان قبل
تحريم الخمر وسائر المسكرات.
(وَلا جُنُباً) : الجنب : من به جنابة وللجنابة سببان جماع ، أو احتلام.
(عابِرِي سَبِيلٍ) : مارين بالمسجد مرورا بدون جلوس فيه.
(الْغائِطِ) : المكان المنخفض للتغوط : أي التبرز فيه.
(لامَسْتُمُ النِّساءَ) : جامعتموهن.
(فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) : اقصدوا ترابا طاهرا.
(عَفُوًّا غَفُوراً) : عفوا : لا يؤاخذ على كل ذنب ، غفورا : كثير المغفرة
لذنوب عباده التائبين إليه.
معنى الآية
الكريمة :
لا شك أن لهذه
الآية سببا نزلت بمقتضاه وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
__________________
حسب رواية الترمذي
أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي
بهم فقرأ بسورة الكافرون وكان ثملان فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ،
وهذا باطل وواصل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا
.......) أي يا من صدقتم بالله ورسوله ، (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) أي لا تدخلوا فيها ، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت
يومئذ حلالا غير حرام ، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا
ما تقولون في صلاتكم. ولا تقربوا مساجد الصلاة للجلوس فيها وأنتم جنب حتى تغتسلوا
اللهم إلا من كان منكم عابر سبيل ، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد
النبوي. (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضا لا تقدرون معه على
استعمال الماء للوضوء أو الغسل ، أو كنتم (عَلى سَفَرٍ
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بمضاجعتهن أو مسستموهن بقصد الشهوة (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) تغتسلون به إن كنتم جنبا أو تتوضأون به إن كنتم محدثين
حدثا أصغر (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) أي اقصدوا ترابا طاهرا (فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) مرة واحدة فإن ذلك مجزيء لكم عن الغسل والوضوء فإن صح
المريض أو وجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لا نتفاء الرخصة بزوال المرض
أو وجود الماء. وقوله تعالى في ختام الآية (إِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا غَفُوراً) يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده
المؤمنين إذا خالفوا أمره ، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه ، ولذا هو عزوجل لم يؤاخذهم لما صلّوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون ،
وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليما لهم وهداية لهم.
هداية الآية
الكريمة :
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ تقرير مبدأ
النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة.
٢ ـ حرمة مكث الجنب في المسجد ، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث.
__________________
٣ ـ وجوب الغسل
على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء أو جامع أهله فأولج ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ماء.
وكيفية الغسل : أن
يغسل كفيه قائلا : بسم الله ناويا رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فرجيه وما
حولهما ، ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلاثا ، ثم يتمضمض ويستنشق الماء ، ويستثره ثلاثا ،
ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى
الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه ، ثم يحثو الماء على رأسه
يغسله بكل حثوة ، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يغسله ، ثم على شقه الأيسر يغسله.
من أعلاه إلى أسفله ، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء كالسرة
وتحت الركبتين .
٤ ـ إذا لم يجد
المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم
يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح.
٥ ـ بيان عفو الله
وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
__________________
وَطَعْناً
فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ) : ا لم تبصر أي بقلبك أي تعلم.
(نَصِيباً) : حظا وقسطا.
(يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ) : أي الكفر بالايمان.
الأعداء
: جمع عدو وهو من
يقف بعيدا عنك يود ضرك ويكره نفعك.
(هادُوا) : أي اليهود قيل لهم ذلك لقولهم : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا ورجعنا.
(يُحَرِّفُونَ) : التحريف : الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل
(الْكَلِمَ) : الكلام وهو كلام الله تعالى في التوراة.
(وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ) : أي اسمع ما تقول لا أسمعك الله. وهذا كفر منهم صريح.
(وَطَعْناً فِي
الدِّينِ) : سبهم للرسول صلىاللهعليهوسلم هو الطعن الأعظم في الدين.
(وَانْظُرْنا) : وأمهلنا حتى نسمع فنفهم.
(أَقْوَمَ) : أعدل وأصوب.
(لَعَنَهُمُ اللهُ
بِكُفْرِهِمْ) : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم.
معنى الآيات :
روي أن هذه الآيات
نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة ، كان إذا كلم رسول صلىاللهعليهوسلم لوّى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في
الاسلام وعابه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ،) وهذا شرحها : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ
وَيُرِيدُونَ أَنْ
__________________
تَضِلُّوا
السَّبِيلَ) أي ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على
التعجب : العلم بالدين أتوا نصيبا من الكتاب وهم رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود ،
أعطوا حظا من التوراة فعرفوا صحة الدين الإسلامي ، وصدق نبيه صلىاللهعليهوسلم (يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ) وهو الكفر يشترونها بالايمان ، حيث جحدوا نعوت النبي
وصفاته في التوراة للإبقاء على مركزهم بين قومهم يسودون ويتفضلون ، ويريدون مع ذلك
أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل سبيل الحق والرشد وهو الإيمان بالله ورسوله والعمل
بطاعتهما للإسعاد والإكمال. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) الذين يودون ضركم ولا يودون نفعكم ، ولذا أخبركم بهم
لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم. (وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا) لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه. (مِنَ الَّذِينَ
هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي هم من اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، والكلام
هو كلام الله تعالى في التوراة وتحريفه بالميل به عن القصد ، أو بتبديله وتغييره
تضليلا للناس وإبعادا لهم عن الحق المطلوب منهم الإيمان به والنطق والعمل به.
ويقولون للنبي صلىاللهعليهوسلم كفرا وعنادا (سَمِعْنا وَعَصَيْنا ،
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي لا أسمعك الله (وَراعِنا) وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول الله صلىاللهعليهوسلم سبا وشتما له قبحهم الله ولعنهم وقطع دابرهم وقوله تعالى :
(لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بها حتى لا تظهر
عليهم ، ويطعنون بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) أي انتظرنا بدل راعنا لكان خيرا لهم وأقوم أي أعدل وأكثر
لياقة وأدبا ولكن لا يقولون هذا لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب
كفرهم ومكرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلا. أي إيمانا لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح
أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مكر
اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم.
٢ ـ في كفاية الله
للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عزوجل.
٣ ـ الكشف عن سوء
نيات وأعمال اليهود إزاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ الإيمان القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً
(٤٧))
شرح الكلمات :
(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى ، والمراد بهم هنا اليهود لا غير.
(بِما نَزَّلْنا
مُصَدِّقاً) : القرآن.
(نَطْمِسَ وُجُوهاً) : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها.
(فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها) : نجعل الوجه قفا ، والقفا وجها.
(كَما لَعَنَّا
أَصْحابَ السَّبْتِ) : لعنهم مسخهم قردة خزيا لهم وعذابا مهينا.
(وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) : أمر الله : مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه
شيء.
معنى الآية
الكريمة :
ما زال السياق في
اليهود المجاورين للرسول صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك
__________________
وتعالى بعنوان
العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمرا إياهم بالإيمان بكتابه
أي بالقرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلىاللهعليهوسلم إذ الإيمان بالمنزّل إيمان بالمنزّل عليه ضمنا. فقال : (آمِنُوا) بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول
والأمر بالإيمان به ونصرته خفّوا إلى الإيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما
حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قردة وخنازير (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونغلق أفواهها فتصبح
الوجوه أقفاء ، والأقفاء وجوها يمشون القهقراء وهو معنى قوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ، أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أي الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه وهو محرم
عليهم فمسخهم قردة خاسئين. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أي مأموره (مَفْعُولاً) ناجزا ، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شىء
وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من
هداية الآية
١ ـ المفروض أن ذا
العلم يكون أقرب إلى الهداية ، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره
الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم ، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله
تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا.
٢ ـ وجوب تعجيل
التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإنسان من عذاب ونكال.
٣ ـ قد يكون المسخ
في الوجوه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء وهذا الذي حصل ليهود
المدينة. فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصرارهم على الكفر
وعداء الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين.
(إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً
(٤٨))
__________________
شرح الكلمات :
(لا يَغْفِرُ) : لا يمحو ولا يترك المؤاخذة
(أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) : أي يعبد معه غيره تأليها له بحبه وتعظيمه وتقديم
القرابين له ، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له.
(وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ) : أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي
ليست شركا ولا كفرا.
(لِمَنْ يَشاءُ) : أي لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك
والكفر.
(افْتَرى إِثْماً
عَظِيماً) : افترى : اختلق وكذب كذبا بنسبته العبادة إلى غير الرب
تعالى ، والإثم : الذنب العظيم الكبير.
معنى الآية
الكريمة :
يروى أنه لما نزل
قول الله تعالى من سورة الزمر (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) قام رجل فقال والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك
والكفر ، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم
يعذبه بها ، وإن شاء آخذه بها وعذبه ، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب
العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأله من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل
بالزور وعامل بالباطل ، ومن هنا كان ذنبه عظيما.
هداية الآية
الكريمة :
من
هداية الآية :
١ ـ عظم ذنب الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما.
٢ ـ الشرك ذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه.
__________________
٣ ـ سائر الذنوب
دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
٤ ـ الشرك زور وفاعله
قائل بالزور فاعل به.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))
شرح الكلمات :
تزكية النفس :
تبرئتها من الذنوب والآثام.
(يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي
النفس ، وإعانته عليه.
الفتيل
: الخيط الأبيض
يكون في وسط النواة ، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل
الأشياء وأتفهها.
(الْكَذِبَ) : عدم مطابقة الخبر للواقع.
معنى الآيتين :
عاد السياق إلى
الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا
يزكي نفسه حتى يزكيه غيره فاليهود والنصارى قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقالت اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة ولما أنكر تعالى عليهم هذا
الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وأخبر تعالى أنه عزوجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده وذلك بتوفيقه إلى الإيمان
وصالح الأعمال التي تزكو عليها النفس البشرية فقال تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي أقل قليل فلا يزاد
__________________
في ذنوب العبد ولا
ينقص من حسناته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى
وهم يكذبون على الله تعالى ، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفا. وكفى
بالكذب إثما مبينا. يغمس صاحبه في النار.
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة تزكية
المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك إما طلبا للرئاسة ، وإما تخليا عن العبادة والطاعة
بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته ورضي الله تعالى عنه.
٢ ـ الله يزكي
عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى ، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من
صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية النفس البشرية وتطهيرها.
٣ ـ عدالة الحساب
والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً).
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً
(٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ
نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)
__________________
فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))
شرح الكلمات :
(بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ) : الجبت : اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغوت سواء كانا
صنمين أو رجلين.
أهدى
سبيلا : أكثر هداية في
حياتهما وسلوكهما.
(نَقِيراً) : النقير : نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
الحسد
: تمني زوال النعمة
عن الغير والحرص على ذلك.
(الْحِكْمَةَ) : السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع
الإلهي.
معنى الآيات :
روى أن جماعة من
اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فلما نزلوا مكة قالت قريش : نسألهم فإنهم أهل كتاب عن
ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى
منه وممن اتبعه فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله (عَظِيماً). وهذا شرحها : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) الم ينته إلى علمك أيها الرسول أن الذين أوتوا حظا من
العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية
عبادتها على عبادة الله تعالى (وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وهم مشركوا قريش : دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقا
في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب
والتعجب لأهل العلم والمعرفة بالدين الحق إذ يقرّون الباطل ويصدقون به؟ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة البعيدون في أغوار الكفر
والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى ، (وَمَنْ
__________________
يَلْعَنِ
اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ) يا رسولنا (نَصِيراً) ينصره من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت
به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد
ثم قال تعالى في
الآية (٥٣) (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيراً). أي ليس لهم نصيب من الملك كما يدعون فالاستفهام للانكار
عليهم دعوة أن الملك يؤول إليهم ، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحدا
أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نقرة نواة وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم
الجهل وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد. وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أم بمعنى بل كسابقتها للاضراب ـ الانتقالي من حال سيئة إلى
أخرى ، والهمزة للإنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين على النبوة والدولة ، وهو المراد من الناس وقوله
تعالى (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) كصحف ابراهيم والتوراة والزبور والانجيل «والحكمة» التي هي
السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحيا من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم
صائب سديد والملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهماالسلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون
محمدا والمسلمين والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل
مع العلم.
وقوله تعالى في
الآية (٥٥) (فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلىاللهعليهوسلم من آمن بالنبي محمد ورسالته ، وهم القليل ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
صَدَّ عَنْهُ) أي انصرف وصرف الناس عنه وهم الأكثرون (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) لمن كفر حسدا وصد عن سبيل الله بخلا ومكرا ، أي حسبه جهنم
ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل. والعياذ بالله تعالى.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الكفر
بالجبت والطاغوت.
٢ ـ بيان مكر
اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل.
٣ ـ ذم الحسد
والبخل.
٤ ـ إيمان بعض
اليهود بالإسلام ، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإسلام ووجوب الإيمان به والدخول
فيه.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً
حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ
فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))
شرح الكلمات :
(نُصْلِيهِمْ ناراً) : ندخلهم نارا يحترقون بها.
(نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) : اشتوت فتهرت وتساقطت.
(لِيَذُوقُوا
الْعَذابَ) : ليستمر لهم العذاب مؤلما.
(عَزِيزاً حَكِيماً) : غالبا ، يعذب من يستحق العذاب.
(تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : تجري من خلال اشجارها وقصورها الأنهار.
(مُطَهَّرَةٌ) : من الأذى والقذى مطلقا
(ظِلًّا ظَلِيلاً) : الظل الظليل : الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد به.
__________________
معنى الآيتين :
على ذكر الإيمان
والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد الوعيد لأهل
الكفر والوعد لأهل الإيمان فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) تهرت وسقطت بدلهم الله تعالى فورا جلودا غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم
به ، وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ كانَ
عَزِيزاً حَكِيماً) تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم ، لأن العزيز الغالب
لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه ، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به
والخروج عن طاعته هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٦) من وعيد لأهل الكفر.
وأما الآية
الثانية (٥٧) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإيمان وصالح الأعمال ، مع اجتناب
الشرك والمعاصي فقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي بعد تركهم الشرك والمعاصي (سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ) يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يخل
بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائط ودم الحيض. وقوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) وارفا كنينا يقيهم الحر والبرد وحدث يوما رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الجنة فقال : «في الجنة شجرة تسمى شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها».
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ الكفر
والمعاصي موجبات للعذاب الأخروي
٢ ـ بيان الحكمة
في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب.
٣ ـ الإيمان
والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروى.
__________________
٤ ـ الجنة دار
النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها.
(إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))
شرح الكلمات :
(أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) : أداء الأمانة : تسليمها إلى المؤتمن ، والأمانات جمع
أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع
(بِالْعَدْلِ) : ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة.
(نِعِمَّا يَعِظُكُمْ) : نعم شيء يعظكم أي يأمركم به أداء الأمانات والحكم
بالعدل.
(وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) : أولوا الأمر : هم الأمراء والعلماء من المسلمين.
(تَنازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ) : اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشىء من يد الفريق
الآخر
(فَرُدُّوهُ إِلَى
اللهِ وَالرَّسُولِ) : أي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم.
(وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) : أحسن عاقبة ، لأن تأويل الشىء ما يؤول إليه في آخر
الأمر.
معنى الآيتين :
روي أن الآية
الأولى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) نزلت في شأن عثمان بن
__________________
طلحة الحجبي حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادنا فطلبه رسول الله صلىاللهعليهوسلم منه صبيحة يوم الفتح فصلى في البيت ركعتين وخرج فقال
العباس رضي الله عنه اعطينيه يا رسول الله ليجمع بين السقاية والسدانة فأنزل الله
تعالى هذه الآية والتي بعدها فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الآية على الناس ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح. غير
أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على
شىء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه إلى صاحبه والآية تتناول حكام المسلمين أولا بقرينة (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الذي هو القسط وضد الجور ومعناه إيصال الحقوق إلى مستحقيها
من أفراد الرعايا. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ) يريد أن أمره تعالى أمة الإسلام حكاما ومحكومين بأداء
الأمانات والحكم بالعدل هو شىء حسن ، وهو كذلك إذ قوام الحياة الكريمة هو النهوض
بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
سَمِيعاً بَصِيراً) فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في
النفس ، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فلم
يكذب وفي عمله فلم يفرط. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٨) ،
أما الآية الثانية
(٥٩) ، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق
الرعية ، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولا
ثم بطاعة ولاة الأمور ثانيا فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) ، والطاعة لأولى الأمر مقيدة بما كان معروفا للشرع أما في
غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث : «إنما الطاعة في المعروف ، ولا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق». وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فهو خطاب عام للولاة والرعية فمتى حصل خلاف في أمر من أمور
الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبما حكما فيه وجب قبوله حلوا كان أو مرا ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
__________________
بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه أن الإيمان يستلزم الإذعان لقضاء الله ورسوله ، وهو
يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير الشرع قادح في إيمان المؤمن وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها
إلى الكتاب والسنة هو خير حالا ومآلا ، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة
متحابة متعاونة.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب رد
الأمانات بعد المحافظة عليها.
٢ ـ وجوب العدل في
الحكم وحرمة الحيف والجور فيه.
٣ ـ وجوب طاعة
الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء فقهاء ، لأن طاعة الرسول من طاعة الله ، وطاعة الوالي من
طاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم لحديث : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقط أطاعني ،
ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني».
٤ ـ وجوب رد
المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما.
٥ ـ العاقبة
الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإسلام ما تتنازع فيه إلى كتاب ربها
وسنة نبيها صلىاللهعليهوسلم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً
(٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ
__________________
اللهُ
وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١)
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ
إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))
شرح الكلمات :
(يَزْعُمُونَ) : يقولون كاذبين.
(بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) : القرآن ، وما أنزل من قبلك : التوراة
(الطَّاغُوتِ) : كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة والمراد به هنا كعب
بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب.
(الْمُنافِقِينَ) : جمع منافق : وهو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان خوفا من
المسلمين.
(يَصُدُّونَ) : يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك
(مُصِيبَةٌ) : عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم
إن
يريدون : أي ما يريدون
(إِلَّا إِحْساناً) : أي صلحا بين المتخاصمين
(وَتَوْفِيقاً) : جمعا وتأليفا بين المختلفين
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : أي اصفح عنهم فلا تؤاخذهم
(وَعِظْهُمْ) : مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم
(قَوْلاً بَلِيغاً) : كلاما قويا يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته.
__________________
معنى الآيات :
روي أن منافقا
ويهوديا اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلىاللهعليهوسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة ، وقال المنافق
نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فتحاكما إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقضى لليهودي فنزلت فيهما هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والمراد بهذا المنافق ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) والمراد به اليهودي والاستفهام للتعجب ألم ينته إلى علمك
موقف هذين الرجلين (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) «كعب بن الأشرف» ، أو الكاهن الجهني ، وقد أمرهم الله أن يكفروا
به (وَيُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) حيث زين لهم التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) ليحكم بينكم رأيت يا للعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضا
هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وحلت بهم قارعة بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ) قائلين ، ما أردنا إلا الإحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين
المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث ، وأما الرابعة وهي قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما
فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلاً بَلِيغاً) فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة
والانحطاط فيقول (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب ، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم ، (وَعِظْهُمْ) آمرا إياهم بتقوى الله والإسلام له ظاهرا وباطنا مخوفا
إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت ، وقل لهم في
خاصة أنفسهم قولا بليغا ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة التحاكم
إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم إذا وجد عالم بهما.
٢ ـ وجوب الكفر
بالطاغوت أيا كان نوعه.
٣ ـ وجوب الدعوة
إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.
٤ ـ استحباب
الإعراض عن ذوي الجهالات ، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))
شرح الكلمات :
(بِإِذْنِ اللهِ) : إذن الله : إعلامه بالشىء وأمره به.
(ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) : بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم التحاكم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(فَاسْتَغْفَرُوا
اللهَ) : طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا ، أو
استغفروا الله.
(يُحَكِّمُوكَ) : يجعلونك حكما بينهم ويفوضون الأمر إليك.
(فِيما شَجَرَ
بَيْنَهُمْ) : أي اختلفوا فيه لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ
والباطل.
(حَرَجاً) : ضيقا وتحرّجا.
(مِمَّا قَضَيْتَ) : حكمت فيه.
(وَيُسَلِّمُوا) : أي يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليما تاما.
__________________
معنى الآيتين :
بعد تقرير خطأ
وضلال من أرادا أن يتحاكما إلى الطاغوت كعب بن الأشرف اليهودي وهما اليهودي
والمنافق في الآيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل رسولا من رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته
واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فما
شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك
متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول أي سألت
الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم
فوجدوه عزوجل (تَوَّاباً رَحِيماً). هذا معنى الآية (٦٤) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً.)
وأما الآية
الثانية (٦٥) (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فإن الله تعالى يقول (فَلا) أي ليس الأمر كما يزعمون ، ثم يقسم تعالى فيقول (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ) أيها الرسول أي يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم
من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدورهم أدنى شك في صحة حكمك وعدالته ، وفي
التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله ، (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب طاعة
الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما يأمر به وينهى عنه.
٢ ـ بطلان من يزعم
أن في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلىاللهعليهوسلم لأن
__________________
قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية نزلت في الرجلين اللّذين أرادا التحاكم إلى كعب بن
الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم واستغفارهما الله تعالى ، واستغفار الرسول لهما ، وبذلك
تقبل توبتهما ، وإلا فلا توبة لهما أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
٣ ـ كل ذنب كبر أو
صغر يعتبر ظلما للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته
بحال من الأحوال.
٤ ـ وجوب التحاكم
إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.
٥ ـ وجوب الرضا بحكم الله ورسوله والتسليم به.
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ
قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً
عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
(٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))
__________________
شرح الكلمات :
(كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) : فرضنا عليهم وأوجبنا
(أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي قتل أنفسهم
(ما فَعَلُوهُ إِلَّا
قَلِيلٌ مِنْهُمْ) : أي ما فعل القتل إلا قليل منهم.
(ما يُوعَظُونَ بِهِ) : أي ما يؤمرون به وينهون عنه
(وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) : أي للإيمان في قلوبهم
(الصِّدِّيقِينَ) : جمع صديق : وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله
لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق.
(وَالشُّهَداءِ) : جمع شهيد : من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإسلام
بالحجة والبرهان.
والصالحون
: جمع صالح : من
أدى حقوق الله تعالى وأدى حقوق العباد ، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على
فساده.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا
به فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي بقتل بعضكم بعضا كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا
كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم. ثم قال تعالى داعيا لهم مرغبا لهم في الهداية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما
يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يذكرون به ترغيبا وترهيبا من أوامر الله تعالى لهم
بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيرا في الحال والمآل ، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم ، لأن الإيمان يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية والحسنة تنتج حسنة ، والسيئة تتولد عنها سيئة. ويقول تعالى
: (وَإِذاً
لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرناهم به من
الطاعات ، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجرا عظيما يوم
يلقوننا ولهديناهم في الدنيا (صِراطاً مُسْتَقِيماً) ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين
وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه
__________________
وعدم الخروج عنه.
هذا ما دلت عليه الآيات (٦٦ ـ ٦٧ ـ ٦٨).
أما الآية (٦٩)
وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) (وَالشُّهَداءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) فقد روى ابن جرير في تفسيره أنها نزلت حين قال بعض الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا
فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ) الآية. وما أنعم الله تعالى عليه هو الإيمان بالله تعالى
ومعرفته عزوجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل المحاب وترك المساخط
هذا في الدنيا ، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار
النعيم. والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخبر به والشهداء جمع شهيد وهو من قتل في سبيل الله
والصالحون جمع صالح وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة
وقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور
في مجالسهم ، لأنهم ينزلون إليهم ، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم
الرفيعة. وقوله تعالى : (ذلِكَ الْفَضْلُ
مِنَ اللهِ) يريد أن ذلك الالتقاء مع من ذكر تم لهم بفضل الله تعالى ،
لا بطاعتهم. وقوله (وَكَفى بِاللهِ
عَلِيماً) أي بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين
، ولذلك يتم الجزاء عادلا رحيما.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قد يكلف الله
تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا
يطاق.
٢ ـ الإيمان يزيد
بالطاعات وينقص بالمعصيات.
__________________
٣ ـ الطاعات تثمر
قوة الإيمان وتؤهل لدخول الجنان.
٤ ـ مواكبة
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صلىاللهعليهوسلم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً
(٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ
أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
(٧٣))
شرح الكلمات :
(خُذُوا حِذْرَكُمْ) : الحذر والحذر : الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.
(فَانْفِرُوا ثُباتٍ) : النفور : الخروج في اندفاع وانزعاج ، والثبات : جمع ثبة
وهي الجماعة.
(لَيُبَطِّئَنَ) : أي يتباطأ في الخروج فلا يخرج.
(مُصِيبَةٌ) : قتل أو جراحات وهزيمة.
(شَهِيداً) : أي حاضرا الغزوة معهم.
(فَضْلٌ) : نصر وغنيمة.
(مَوَدَّةٌ) : صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة.
(فَوْزاً عَظِيماً) : نجاة من معرة التخلف عن الجهاد ، والظفر بالسلامة
والغنيمة.
__________________
معنى الآيات :
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ
فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين وهم في فترة يستعدون فيها
لفتح مكة وإدخالها في حضيرة الإسلام خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم
وأنتم ضعفاء ، قوته أشد من قوتكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم أي من عدادهم وأفراد
مواطينهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معا لأنه لا يريد لكم
نصرا لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من
الرجال الرخيص فيقول : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ) أيها المؤمنون الصادقون (مُصِيبَةٌ) قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه :
لقد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم حاضرا فيصبني ما أصابهم ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وغنيمة (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ
لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي معرفة ولا صلة يا ليتني متمنيا حاسدا ـ كنت معهم في
الغزاة (فَأَفُوزَ فَوْزاً
عَظِيماً) بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالما.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب أخذ
الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.
٢ ـ وجوب وجود
خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة.
٣ ـ وجود منهزمين
روحيا مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم.
__________________
(فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ
يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))
شرح الكلمات :
(سَبِيلِ اللهِ) : الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده
، ولا يضطهد مسلم في دينه ، ولا من أجل دينه.
(يَشْرُونَ) : يبيعون ، إذ يطلق الشراء على البيع أيضا.
(الْمُسْتَضْعَفِينَ) : المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.
(الْقَرْيَةِ) : القرية في عرف القرآن المدينة الكبيرة والجامعة والمراد
بها هنا مكة المكرمة.
(فِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ) : أي في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ، ونشر الفساد.
معنى الآيتين :
بعد ما أمر الله
تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ
الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقا
فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلبا للفوز بالدار الآخرة مقاتلون من لا يؤمن بالله ولا
بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه ، ثم أخبرهم
أن من يقاتل
استجابة لأمره تعالى فيقتل أي يستشهد أو يغلب العدو وينتصر على كلا الحالين فسوف
يؤتيه الله تعالى أجرا عظيما وهو النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٧٤).
أما الآية الثانية
(٧٥) فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة
بقوله : (وَما لَكُمْ لا
تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) ليعبد وحده ويعز أولياؤه (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى
صرخوا وجأروا بالدعاء إلى ربهم قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا) يلي أمرنا ويكفينا ما أهمنا ، (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على أعدائنا أي شىء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال
في سبيل الله ، ليعبد وحده ، وليتخلص المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟
ثم في الآية
الثالثة (٧٦) اخبر تعالى عباده المؤمنين حاضا لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله
: (الَّذِينَ آمَنُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) وهو الكفر والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم
، ولا بما لديه من عذاب ونكال (فَقاتِلُوا
أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وهم الكفار ، ولا ترهبوهم (إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطانِ كانَ) وما زال (ضَعِيفاً) ، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة ، أمام جيش الإيمان
أولياء الرحمن.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فرضية القتال
في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالا للباطل.
٢ ـ المقاتل في
سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة ، ولنعم البيع.
٣ ـ المجاهد يؤوب
بأعظم صفقة سواء قتل ، أو انتصر وغلب وهي الجنة.
٤ ـ لا يمنع
المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم ، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
(٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ
فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))
شرح الكلمات :
(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) : أي عن القتال وذلك قبل أن يفرض.
(كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتالُ) : فرض عليهم
(يَخْشَوْنَ) : يخافون
(لَوْ لا أَخَّرْتَنا) : هلّا أخرتنا.
(فَتِيلاً) : الفتيل خيط يكون في وسط النواة.
(بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) : حصون مشيدة بالشيد وهو الجص.
(مِنْ حَسَنَةٍ) : الحسنة ما سرّ ، والسيئة ما ضرّ.
معنى الآيات :
روى أن بعضا من
أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم طالبوا بالإذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب
القتال فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما يأذن الله تعالى لرسوله
بقتال المشركين ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) متعللين بعلل واهية فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين (٧٧) و (٧٨)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي عن القتال (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته ، فلما فرض
القتال ونزل قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) جبنوا ولم يخرجوا للقتال ، وقالوا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدوا خورا
وجبنا فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم : (مَتاعُ الدُّنْيا) (قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله ، وسوف
تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الثانية فقد
قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ) إذ الموت طالبكم ولا بد أن يدرككم كما قال تعالى لأمثالهم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) ، ولو دخلتم حصونا ما فيها كوة ولا نافذة
__________________
فإن الموت يدخلها
عليكم ويقبض أرواحكم ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم
فقال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أو خصب ورخاء قالوا هذه
من عند الله لا شكرا لله وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئا من خير كان
ببركته وحسن قيادته ، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون هذه من عندك أي أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله قل لهم (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الحسنة والسيئة هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها.
ثم عابهم في نفسياتهم الهابطة فقال : (فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الثالثة
والأخيرة في هذا السياق وهي قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ) (مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ) الآية فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلىاللهعليهوسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى إذ هو الآمر بقولها أو
فعلها وموجد أسبابها والموفق للحصول عليها ، أما السيئة فمن النفس إذ هي التي تأمر
بها ، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه ، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله
تعالى. وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يسلى به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء
أخلاق بعضهم كالذين ينسبون إليه السيئة تطيرا به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة
وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج
عن طاعتك وكفى بالله شهيدا.
هداية الآية :
من
هداية الآيات :
١ ـ قبح الاستعجال
والجبن وسوء عاقبتهما.
٢ ـ الآخرة خير
لمن اتقى من الدنيا.
__________________
٣ ـ لا مفر من
الموت ولا مهرب منه بحال من الأحوال.
٤ ـ الخير والشر
كلاهما بتقدير الله تعالى.
٥ ـ الحسنة من
الله والسيئة من النفس إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها ،
وأبعد الموانع عنها والسيئة من النفس لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها ، ولم
يوفق إليها ولم يعن عليها فهى من النفس لا من الله تعالى.
(مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))
شرح الكلمات :
(حَفِيظاً) : تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها.
(طاعَةٌ) : أي أمرنا طاعة لك.
(بَرَزُوا) : خرجوا.
__________________
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ) : تدبر القرآن قراءة الآية أو الآيات وإعادتها المرة بعد
المرة ليفقه مراد الله تعالى منها.
(أَذاعُوا بِهِ) : افشوه معلنينه للناس
(يَسْتَنْبِطُونَهُ) : يستخرجون معناه الصحيح.
معنى الآيات :
في قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمدا صلىاللهعليهوسلم ما أطاع الله تعالى ، إن أمر الرسول من أمر الله ونهيه من
نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم. وقوله تعالى : (وَمَنْ تَوَلَّى) أي عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه فدعه ولا تلتفت إليه
إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها إن عليك إلا البلاغ
وقد بلغت فأعذرت. وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السّيئو الفهم لما
تقول : طاعة أي أمرنا طاعة لك أي ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت
فنحن مطيعون لك (فَإِذا بَرَزُوا) أي خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه
دون الذي وافقوا عليه أمامك وفي مجلسك والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته الكرام
الكاتبين ما يبيتونه من الشر والباطل. وعليه (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تبال بهم (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٨٢) (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم إذ لو تدبروا القرآن
وهو يتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما جاء به حق فآمنوا
وأسلموا وحسن إسلامهم ، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم ، إن تدبر
القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق
__________________
من الباطل وأقرب
ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر ، إذ لو كان كلام
بشر لوجد فيه التناقض والإختلاف والتضاد ، ولكنه كلام خالق البشر ، فلذا هو متسق
الكلم متآلف الألفاظ والمعاني محكم الآى هاد إلى الإسعاد والكمال ، فهو بذلك كلام
الله حقا ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبدا للكفر بعد هذا والإصرار عليه
، ومنافقة المسلمين فيه. هذا معنى قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) وهي الآية الرابعة (٨٣) فإن الله تعالى يخبر عن أولئك
المرضى بمرض النفاق ناعيا عليهم ارجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ) أي إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا
بإفشائه وإذاعته ، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر لأن
حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسدا أو
طمعا ، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعا وخوفا لأنهم جبناء كما
تقدم وصفهم ، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون
في حال الحرب. (وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ) القائد الأعلى ، (وَإِلى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم أمراء السرايا المجاهدة (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعا
أذاعوه ، وإن كان ضارا أخوفه. ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أيها المؤمنون (لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطانَ) في قبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة (إِلَّا قَلِيلاً) منكم من ذوى الآراء الصائبة والحصافة العقلية إذ مثلهم
لاتثيرهم الدعاوي ، ولا تغيرهم الأراجيف ، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار
رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب طاعة
الرسول صلىاللهعليهوسلم فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عزوجل.
__________________
٢ ـ وجوب تدبر
القرآن لتقوية الإيمان.
٣ ـ آية أن القرآن
وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
٤ ـ تقرير مبدأ أن
أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف
المجاهدين والأمة كذلك.
٥ ـ أكثر الناس
يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي.
(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً
(٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ
رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))
شرح الكلمات :
(حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ) : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.
(بَأْسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) : قوتهم الحربية.
(وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) : أقوى تنكيلا والتنكيل : ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة
لمثله فينكل عن الظلم.
الشفاعة : الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي
الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة.
__________________
(كِفْلٌ مِنْها) : نصيب منها.
(مُقِيتاً) : مقتدرا عليه وشاهدا عليه حافظا له.
(بِتَحِيَّةٍ) : تحية الإسلام هي السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أَوْ رُدُّوها) : أي يقول وعليكم السّلام.
(حَسِيباً) : محاسبا على العمل مجازيا به خيرا كان أو شرا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
السياسة الحربية ففي هذه الآية (فَقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) يأمر تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد
وحده وينتهي إضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله (لا تُكَلَّفُ إِلَّا
نَفْسَكَ) أي لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها ، أما من عداك فليس عليك
تكليفه بالقتال ، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه.
وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهذا وعد من الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط
عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل وله الحمد والمنة وهو تعالى (أَشَدُّ بَأْساً) من كل ذي بأس (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) من غيره بالظالمين من أعدائه.
هذا ما دلت عليه
الآية (٨٤) أما الآية (٨٥) وهي قوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً
سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته
مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سريّة تقاتل في سبيل الله ، أو يتوسط لأحد في قضاء
حاجته فإن للشافع
__________________
قسطا من الأجر
والمثوبة كما أن (مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً سَيِّئَةً) بأن يؤيد باطلا أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه
نصيب من الوزر ، لأن الله تعالى على كل شىء مقتدر وحفيظ عليم. هذا ما دلت عليه
الآية المذكورة.
أما الآية الأخيرة
(٨٦) فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن
لم يكن بأحسن فبالمثل ، فمن قال : السّلام عليكم فليقل الراد وعليكم السّلام ورحمة
الله ، ومن قال السّلام عليكم ورحمة الله فليرد عليه وعليكم السّلام ورحمة الله
وبركاته ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم
ويجزيهم به.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان شجاعة
النبي صلىاللهعليهوسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل.
٢ ـ ليس من حق
الحاكم أن يجند المواطنين تجنيدا إجباريا ، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد
ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.
٣ ـ فضل الشفاعة
في الخير ، وقبح الشفاعة في الشر.
٤ ـ تأكيد سنة
التحية ، ووجوب ردّها بأحسن أو بمثل.
٥ ـ تقرير ما جاء
في السنة بأن السّلام عليكم : يعطى عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله : عشر
حسنات. وبركاته : عشر كذلك.
(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ
مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ
أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
__________________
أَضَلَّ
اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا
قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))
شرح الكلمات :
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق إلا هو.
(فِئَتَيْنِ) : جماعتين الواحدة فئة أي جماعة.
(أَرْكَسَهُمْ) : الارتكاس : التحول من حال حسنة إلى حال سيئة كالكفر بعد
الإيمان أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا.
(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى هدايتهم.
__________________
(وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) : الولي : من يلي أمرك ، والنصير : من ينصرك على عدوك.
(يَصِلُونَ) : أي يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.
(مِيثاقٌ) : عهد.
(حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) : ضاقت.
(السَّلَمَ) : الاستسلام والانقياد.
(الْفِتْنَةِ) : الشرك.
(ثَقِفْتُمُوهُمْ) : وجدتموهم متمكنين منهم.
(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة بينة على جواز قتالهم.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى
الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب أي القادر على الحساب والجزاء أخبر عزوجل أنه الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود دون سواه لربوبيته
على خلقه إذ الإله الحق ما كان ربا خالقا رازقا مدبرا بيده كل شىء وإليه مصير كل
شيء وأنه جامع الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه
الآية الكريمة (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ولما كان هذا خبرا يتضمن وعدا ووعيدا أكد تعالى إنجازه
فقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) اللهم إنه لا أحد أصدق منك.
أما الآيات الأربع
الباقية وهي (٨٨) و (٨٩) و (٩٠) و (٩١) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية
معنية أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهو ضليعون في موالاة
الكافرين ، وقد يكونون في مكة ، وقد يكونون في المدينة فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب
على أيديهم وإنهاء نفاقهم ، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ماداموا يدعون الإيمان
لعلهم
__________________
بمرور الأيام
يتوبون ، فلما اختلفوا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ومعنى الآية أي شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله
تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام. أتريدون أيها المسلمون
أن تهدوا من أضل الله ، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف ، ومن يضلل
الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هاد ، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.
ثم أخبر تعالى عن
نفسيّة أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة (٨٩) (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَواءً) أي أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم وفيه لازم وهو
انتهاء الإسلام ، وظهور الكفر وانتصاره.
ومن هنا قال تعالى
محرما موالاتهم إلى أن يهاجروا فقال : (فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) تعولون عليهم في
نصرتكم على إخوانهم في الكفر. وظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة وهو
كذلك. وقوله تعالى (حَتَّى يُهاجِرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) ، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر فيفتر
عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح
إلى النفاق والكفر فأعلنوا الحرب عليهم (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) لأنهم بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.
ثم في الآية (٩٠)
استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فلا يأخذونهم أسرى ولا
يقاتلونهم ، الصنف الأول الذين ذكرهم تعالى بقوله (إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ) أي يلجأون (إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) (مِيثاقٌ) فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى
لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم ،
__________________
وقتال قومهم
فهؤلاء الذين لم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا
تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم ، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم
هذا الصنف هو المعني بقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ، وَلَوْ
شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم. هذا
معنى قوله تعالى : (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ). أي المسالمة والمهادنة (فَما جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً). لأخذهم وقتالهم. هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته
في الآية الخامسة والأخيرة وهي قوله تعالى : (٩١) (سَتَجِدُونَ) قوما (آخَرِينَ) غير الصنفين السابقين (يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) فهم إذا يلعبون على الحبلين كما يقال (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي إلى الشرك (أُرْكِسُوا فِيها) أي وقعوا فيها منتكسين إذ هم منافقون إذا كانوا معكم عبدوا
الله وحده وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون
إلى الشرك ، وهو معنى قوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السّلام وهو الإذعان
والإنقياد لكم ، ويكفوا أيديهم فعلا عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم
وعلى أي حال. هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد
نسخ بآيات براءة إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه
نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر ، ولكن خارج جزيرة العرب إذ لا ينبغي أن
يجتمع فيها دينان.
هداية الآيات
من
هداية الآيات
١ ـ وجوب توحيد
الله تعالى في عبادته.
٢ ـ الإيمان
بالبعث والجزاء.
__________________
٣ ـ خطة حكيمة
لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والأحوال.
٤ ـ تقرير النسخ
في القرآن.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ
جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً (٩٣))
شرح الكلمات :
(إِلَّا خَطَأً) : أي إلا قتلا خطأ وهو أن لا يتعمد قتله كأن يرمي صيدا
فيصيب إنسانا.
(رَقَبَةٍ) : أي مملوك عبدا كان أو أمة.
(مُسَلَّمَةٌ) : مؤداة وافية.
(إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا) : أي يتصدقوا بها على القاتل فلا يطالبوا بها ولا يأخذوها
منه.
__________________
(مِيثاقٌ) : عهد مؤكد بالأيمان.
(مُتَعَمِّداً) : مريدا قتله وهو ظالم له.
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى في
الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن الصادق
في إيمانه خطأ وعمدا وبيان حكم ذلك فذكر تعالى في الآية الأولى (٩٢) أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا في حال الخطأ أما في حال العمد
فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن لأن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة
قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه فلا يقدم على ذلك اللهم إلا في
حال الخطأ فهذا وارد وواقع ، وحكم من قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكرا كانت أو أنثى
مؤمنة وأن يدفع الديّة لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا
يقبلونها والدية مائة من الإبل ، أو ألف دينار ذهب ، أو إثنا عشر ألف درهم فضة. هذا
معنى قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلَّا خَطَأً ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) فإن كان القتيل مؤمنا ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين
فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ، إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها
على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين
قومه معاهدة ، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله ، فمن لم يجد الرقبة صام
شهرين متتابعين فذلك توبته لقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ
اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عليما بما يحقق المصلحة لعباده
__________________
حكيما في تشريعه
فلا يشرع إلا ما كان نافعا غير ضار ، ومحققا للخير في الحال والمآل.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى أما الثانية (٩٣) فإنها بنيت حكم من قتل مؤمنا عمدا عدوانا ، وهو أن
الكفارة لا تغني عنه شيئا لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال
تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) إلا أن الدية أو القصاص لا زمان ما لم يعف أولياء الدم فإن
عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا إذ هذا حقهم وأما
حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده فمن قتله فالله تعالى رب العبد خصمه
وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها ، والعياذ بالله تعالى وذلك حقه قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذاباً عَظِيماً).
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان أن
المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن.
٢ ـ بيان جزاء
القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله.
٣ ـ إذا كان
القتيل مؤمنا وكان من قوم كافرين محاربين فالجزاء تحرير رقبة ولا دية.
٤ ـ إذا كان
القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم مثياق فالواجب الدية وتحرير رقبة.
٥ ـ من لم يجد
الرقبة صام شهرين متتابعين.
٦ ـ القتل العمد
العدوان يجب له أحد شيئين القصاص أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا فلهم ذلك
وأجرهم على الله تعالى ، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا عنه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
__________________
عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً (٩٤))
شرح الكلمات :
(إِذا ضَرَبْتُمْ) : خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.
(فَتَبَيَّنُوا) : فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلما تحسبونه كافرا.
(السَّلامَ) : الإستسلام والانقياد.
(تَبْتَغُونَ) : تطلبون.
(فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْكُمْ) : بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين.
معنى الآية
الكريمة :
روي أن نفرا من
أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرجوا فلقوا رجلا يسوق غنما من بني سليم فلما رآهم سلم
عليهم قائلا السّلام عليكم فقالوا له ما قلتها إلا تقيّة لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه
فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد (فَتَبَيَّنُوا) ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم أو كافرين
فتقاتلوهم ، (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً) فتكذبونه في دعواه الإسلام لتنالوا منه : (تَبْتَغُونَ) بذلك (عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أي متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله
مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون
وقوله (كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ) أي مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفا من قومكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم. وعليه
فتبينوا
__________________
مستقبلا ، ولا
تقتلوا أحدا حتى تتأكّدوا من كفره وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) تذييل يحمل الوعد والوعيد ، الوعد لمن أطاع والوعيد لمن
عصى إذ لازم كونه تعالى خبيرا بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها ، وهو على كلّ
شيء قدير.
هداية الآية
من
هداية الآية.
١ ـ مشروعية السير
في سبيل الله غزوا وجهادا.
٢ ـ وجوب التثبت
والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.
٣ ـ ذم الرغبة في
الدنيا لا سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.
٤ ـ الاتعاظ بحال
الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.
(لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
(٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً
(٩٦))
شرح الكلمات :
أولوا
الضرر : هم العميان
والعرج والمرضى.
(دَرَجَةً) : منزلة عالية في الجنة.
(الْحُسْنى) : الجنة.
__________________
معنى الآيتين :
روي أن ابن أم
مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
...) الآية. أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فأدخلت بين جملتي (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُجاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ومعنى الآية : إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر
والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلا بماله. وضنا بنفسه ،
واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا
لحسن نياتهم ، وعدم استطاعتهم فلذا قال (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) التي هي الجنة ، وقوله : (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر
درجة ، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى. وقوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى
الْقاعِدِينَ) لغير عذر (أَجْراً عَظِيماً)
وهو الدرجات العالية مع المغفرة والرحمة ، وذلك لأن الله تعالى كان أزلا
وأبدا غفورا رحيما ، ولذا غفر لهم ورحمهم ، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان فضل
المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون.
٢ ـ أصحاب الأعذار
الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام
بهم من أعذار وللمجاهدين فعلا درجة تخصهم دون ذوي الأعذار.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ
أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ
مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))
شرح الكلمات :
(تَوَفَّاهُمُ) : تقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
(فِيمَ كُنْتُمْ) : في أي شيء كنتم من دينكم؟
(مَصِيراً) : مأوى ومسكنا.
(حِيلَةً) : قدرة على التحول.
(مُراغَماً) : مكانا ودارا لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره.
(وَسَعَةً) : في رزقه.
(وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللهِ) : وجب أجره في هجرته على الله تعالى.
معنى الآيات :
لما كانت الهجرة
من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر
__________________
تعالى في هذه
الآيات الهجرة وأحكامها فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهوان يضطهدهم العدو
ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم. هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم
الملائكة عند قبض أرواحهم (فِيمَ كُنْتُمْ) ؟ تسألهم هذا السؤال لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك
على الصالحات ، فيقولون معتذرين : (كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإيمان وصالح الأعمال ، فترد
عليهم الملائكة قولهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله تعالى عن الحكم فيهم بقوله :
فأولئك البعداء (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) وساءت جهنم مصيرا يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه. ثم استثنى
تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز
من قائل : (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) ، واستضعاف الرجال يكون بالعلل والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم ، هؤلاء الذين لا
يستطيعون حيلة أي لا قدرة لهم على التحول والإنتقال لضعفهم ، (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى
ورجاهم بقوله : (فَأُولئِكَ) المذكورون (عَسَى اللهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرحمهم لضعفهم
وكان الله غفورا رحيما.
هذا ما دلت عليه
الآيات الثلاث.
أما الآية الرابعة
(١٠٠) فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دنيا يصيبها أو
امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهبا يذهب إليه ودارا ينزل بها ورزقا
واسعا يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده ، فقال تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجرا
__________________
في سبيل الله أي
لأجل عبادته ونصرة دينه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب
أجره على الله تعالى وسيوفاه كاملا غير منقوص ، ويغفر الله تعالى له ما كان من
تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته. إذ قال تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمن وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا
لها.
٢ ـ ترك الهجرة
كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار.
٣ ـ أصحاب الأعذار
كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
٤ ـ فضل الهجرة في
سبيل الله تعالى
٥ ـ من مات في
طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملا غير منقوص وهو الجنة.
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ
الَّذِينَ
__________________
كَفَرُوا
لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ
اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ
فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً
مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا
يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))
شرح الكلمات :
(ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ) : أي مسافرين مسافة قصر وهي أربعة برد أي ثمانية وأربعون
ميلا.
(أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) : بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين ، والعشاء ركعتين
لطولها.
(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ) : هذا خرج مخرج الغالب ، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما
الشرط السفر.
(حِذْرَهُمْ) : الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو.
وأسلحتكم
: جمع سلاح ما
يقاتل به من أنواع الأسلحة.
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) : أي لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة
__________________
(قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) : أديتموها وفرغتم منها.
(فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) : أي ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن.
(كِتاباً مَوْقُوتاً) : فرضا ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه.
(وَلا تَهِنُوا) : أي لا تضعفوا.
(تَأْلَمُونَ) : تتألمون.
معنى الآيات :
بمناسبة الهجرة
والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى
ركعتين فقال تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ) أي سرتم فيها مسافرين (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) أي حرج وإثم في (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالبي فقط
، وقال تعالى : (إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين فلذا شرع لهم
هذه الرخصة.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (١٠١) أما الآيتان بعدها فقد بيّنت صلاة الخوف وصورتها : أن ينقسم
الجيش قسمين قسم يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة ، ويقف الإمام مكانه
فيتمون لأنفسهم ركعة ، ويسلمون ويقفون وجاه العدو ، ويأتي القسم الذي كان واقفا
تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون ، وفي
كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم
عزل فيكبدهم خسائر فادحة هذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
__________________
وَرائِكُمْ) يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) وقوله تعالى : (وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) (فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) سيق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر
بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة ، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم
جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم فقال عزوجل : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) تذييل لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره فإن
الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم ولذا أعد الله لهم عذابا مهينا ، وإنما وضع الظاهر
مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في
آية (١٠٣) (فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ
قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لا سيما في
وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها فلا
يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله
في كل حال وقوله تعالى : (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا
الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة ، لا تخفيف فيها كما كانت في حال
الخوف إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلى إيماء وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون
بأعدائهم. وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) تعليل للأمر بإقام الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على
المؤمنين وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في
آية (١٠٤) (وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تضعفوا في طلب العدو
__________________
لإنزال الهزيمة
به. ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) من النصر والمثوبة العظيمة (ما لا يَرْجُونَ) فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقتالهم حتى النصر
عليهم وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد ، لأن علمهم بأن
الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم
يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية صلاة
القصر وهي رخصة أكدها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
٢ ـ مشروعية صلاة
الخوف وبيان كيفيتها.
٣ ـ تأكد صلاة
الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال.
٤ ـ استحباب ذكر الله
تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع.
٥ ـ تقرير فرضية
الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها.
٦ ـ حرمة الوهن
والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه.
(إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ
__________________
مِنَ
اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ
اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))
شرح الكلمات :
(بِما أَراكَ اللهُ) : أي بما علمكه بواسطة الوحي.
(خَصِيماً) : أي مخاصما بالغا في الخصومة مبلغا عظيما.
(تُجادِلْ) : تخاصم.
(يَخْتانُونَ
أَنْفُسَهُمْ) : يحاولون خيانة أنفسهم.
(يَسْتَخْفُونَ) : يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
(وَهُوَ مَعَهُمْ) : بعلمه تعالى وقدرته.
(يُبَيِّتُونَ) : يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
(وَكِيلاً) : الوكيل من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.
معنى الآيات :
روي أن هذه الآيات
نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته وكان قد سرق درعا من دار جار له يقال له قتادة وودعها عند
يهودي يقال له يزيد بن السمين ، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها
اليهودي وقالوا هو السارق ، وأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات
تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة ، ولما افتضح طعمة وكان منافقا أعلن عن ردته وهرب
إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافرا .. وهذا
تفسير لآيات قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن ، أيها الرسول (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
__________________
النَّاسِ
بِما أَراكَ اللهُ) أي بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين
وعاتبه ربه تعالى بقوله (وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي مجادلا عنهم ، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة ، لأنهم
خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي ، (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فيغفر لك ما هممت به ويرحمك (وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) حيث اتهموا اليهودي كذبا وزورا ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
خَوَّاناً أَثِيماً) كطعمة بن أبيرق (يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ) حياء منهم ، (وَلا يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللهِ) ولا يستحيون منه ، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا
يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البرىء ، وعزموا أن يحلفوا على
براءة أخيهم وإتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى .. وقوله عزوجل : (وَكانَ اللهُ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم
اتهامهم اليهودي ، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى والله به
محيط ، فسبحانه من إله عليم عظيم. وقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي يا هؤلاء (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون
عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) ، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة (فَمَنْ يُجادِلُ
اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا
والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعا شديدا حتى لا يقف أحد بعد موقفا مخزيا كهذا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا يجوز الحكم
بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ لا يجوز
الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم.
__________________
٣ ـ وجوب
الاستغفار من الذنب كبيرا كان أو صغيرا.
٤ ـ وجوب بغض
الخوّان الأثيم أيّا كان.
٥ ـ استحباب الوعظ
والتذكير بأحوال يوم القيامة.
(وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)
وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))
شرح الكلمات :
(سُوءاً) : السوء : ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
(أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ) : ظلم النفس : بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
(إِثْماً) : الإثم : ما كان ضارا بالنفس فاسدا.
(بَرِيئاً) : البرىء : من لم يجن جناية قد اتهم بها.
(احْتَمَلَ بُهْتاناً) : تحمل بهتانا : وهو الكذب المحير لمن رمي به.
(الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) : الكتاب : القرآن والحكمة السنة.
معنى الآيات :
هذا السياق معطوف
على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق وهو يحمل الرحمة الإلهية لأولئك الذين تورطوا في
الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل
سوءا يؤذي به غيره
أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإنابة
إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية (١١٠) (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر له ويرحمه.
قوله تعالى (مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) أي ذنبا من الذنوب صغيرها وكبيرها (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) إذ هي التي تتدسّى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها. ولا
يؤاخذ به غيرها وكان الله عليما أي بذنوب عباده حكيما أي في مجازاتهم بذنوبهم فلا
يؤاخذ نفسا بغير ما اكتسبت ويترك نفسا قد اكتسبت (١١٢) يخبر تعالى أن من يرتكب
خطيئة ضد أحد ، أو يكسب إثما ويرمي به أحدا بريئا منه قد تحمل تبعة عظيمة قد تصليه
نار جهنم وهو معنى قوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
وفي الآية (١١٣)
يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتنا عليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) ، والمراد بالطائفة التي ذكر الله تعالى هم بنو أبيرق أخوة
طعمة وقوله (وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ، فهو كما قال عزوجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكَ عَظِيماً) امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن
أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم ، وما أوحي
إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين ، وعلمه من المعارف الربانية ما
لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيما فلله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ
التوبة تجب ما قبلها ، ومن تاب تاب الله عليه.
٢ ـ عظم ذنب من
يكذب على البرءاء ، ويتهم الأمناء بالخيانة.
__________________
٣ ـ تأثير الكلام
على النفوس حتى أن الرسول صلىاللهعليهوسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرىء الخائن ويدين البرىء إلا أن
الله عصمه.
٤ ـ عاقبة الظلم
عائدة على الظالم.
(لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))
شرح الكلمات :
(نَجْواهُمْ) : النجوى : المسارة بالكلام ، ونجواهم : أحاديثهم التي
يسرها بعضهم إلى بعض.
(أَوْ مَعْرُوفٍ) : المعروف : ما عرفه الشرع فأباحه ، أو استحبه أو أوجبه.
(ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) : أي طلبا لمرضاة الله أي للحصول على رضا الله عزوجل.
(نُؤْتِيهِ) : نعطيه والأجر العظيم : الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
(يُشاقِقِ الرَّسُولَ) : يحاده ويقاطعه ويعاديه. كمن يقف في شق ، والآخر في شق.
(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي يخرج عن إجماع المسلمين.
(نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) : نخذله فنتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى
يهلك فيه.
__________________
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) : أي ندخله النار ونحرقه فيها.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
بني أبيرق ففي الآية الأولى (١١٤) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أولئك
المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها
بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين ، أو معروف استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإحسان أو إصلاح بين
الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك
المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس طلبا لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب
ألا وهو الجنة دار السّلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى أما الثانية (١١٥) فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق فيقول
جل ذكره : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ) أي يخالفه ويعاديه (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي من بعد ما عرف أنه رسول الله حقا جاء بالهدى ودين الحق
، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم هذا الشقي الخاسر (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) أي نتركه لكفره وضلاله خذلانا له في الدنيا ثم نصله نار
جهنم يحترق فيها ، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة تناجي
إثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.
٢ ـ الاجتماعات
السرية لا خير فيها إلا اجتماعا كان لجمع صدقة ، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين
متنازعين من المسلمين مختلفين.
٣ ـ حرمة الخروج
عن أهل السنة والجماعة ، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام إلا في دوائر
ضيقة كالروافض ونحوهم ..
__________________
(إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧)
لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ
الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ
الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))
شرح الكلمات :
(أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) : أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت.
(إِنْ يَدْعُونَ) : أي ما يدعون.
(إِلَّا إِناثاً) : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة ، أو أمواتا لأن الميت يطلق
عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع.
(مَرِيداً) : بمعنى مارد على الشر والإغواء للفساد.
(نَصِيباً مَفْرُوضاً) : حظا معينا. أو حصة معلومة.
(فَلَيُبَتِّكُنَ) : فليقطعن.
(خَلْقَ اللهِ) : مخلوق الله أي ما خلقه الله تعالى.
(الشَّيْطانَ) : الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنيا أو إنسيا.
__________________
(يُمَنِّيهِمْ) : يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.
معنى الآيات :
قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك
لموته على الشرك ، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن
شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر. وقوله تعالى (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً) أي ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعدا كبيرا
وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.
وقوله تعالى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً). هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله فأخبر تعالى أن
المشركين ما يعبدون إلا أمواتا لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون. إذ
أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة
ونائلة ، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطانا مريدا إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة
الأصنام فعبدوها فهم إذا عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان ، ولذا قال
تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً)
لعنه الله وأبلسه
عند إبائه السجود لآدم ، (وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي عددا كبيرا منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم معلومون
معروفون بمعصيتهم إياك ، وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلا : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) يريد عن طريق الهدى (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون
عذابا أو أنه سيغفر لهم. (وَلَآمُرَنَّهُمْ) فيطيعوني (فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذانَ الْأَنْعامِ) أي ليجعلون لآلهتهم نصيبا مما رزقتهم ويعلمونها بقطع
آذانها لتعرف أنها للآلهة كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة ، (وَلَآمُرَنَّهُمْ) أيضا فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع
__________________
والشرك ، والمعاصي
كالوشم والخصي. هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد. ثم قال تعالى (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا
مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) لأن من والى الشيطان عادى الرحمن ومن عادى الرحمن تم له
والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى (يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ) فيعوقهم عن طلب النجاة والسعادة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا
غُرُوراً) إذ هو لا يملك من الأمر شيئا فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة
إذا؟
وهذا حكم الله
تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا أو مهربا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ سائر الذنوب
كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه.
٢ ـ عبدة الأصنام
والأوهام والشهوات والأهواءهم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه.
٣ ـ من مظاهر طاعة
الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها.
٤ ـ حرمة الوشم
والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع.
٥ ـ سلاح الشيطان
العدة الكاذبة والأمنية الباطلة ، والزينة الخادعة.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً (١٢٢))
شرح الكلمات :
(آمَنُوا) : صدقوا بالله ورسوله.
(وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) : الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح.
__________________
(قِيلاً) : أي قولا.
معنى الآية
الكريمة :
لما بين تعالى
جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عزوجل ، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها
وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبدا وعدهم
ربهم بهذا وعد الصدق ، وليس هناك من هو أصدق وعدا ولا قولا من الله تعالى.
هداية الآية
من
هداية الآية
١ ـ الإيمان
الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها.
٢ ـ صدق وعد الله
تعالى ، وصدق قوله عزوجل.
٣ ـ وجوب صدق
الوعد من العبد لأن خلف الوعد من النفاق لحديث «وإذا واعد أخلف».
٤ ـ وجوب صدق
القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب.
(لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ
__________________
أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))
شرح الكلمات :
(بِأَمانِيِّكُمْ) : جمع أمنية : وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما
يتعذر غالبا تحقيقه.
(أَهْلِ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى.
(سُوءاً) : كل ما يسىء من الذنوب والخطايا.
(وَلِيًّا) : يتولى أمره فيدفع عنه المكروه.
(نَقِيراً) : النقير : نقرة في ظهر النواة.
(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى.
(خَلِيلاً) : الخليل : المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من
الحبيب.
(مُحِيطاً) : علما وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه.
معنى الآيات :
روي أن هذه الآية
نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل
كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل ، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله
تعالى بينهما بقوله : (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ) أيها المسلمون (وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ) من يهود ونصارى أي ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب ،
وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على
النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل سوءا من الشرك والمعاصي ، كمن عمل صالحا من التوحيد
والطاعات يجز بحسبه
__________________
فالسوء يخبث النفس
فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار
، ويبعدها عن مجاورة الفجار. وقوله تعالى : (وَلا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها
بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد ، ولا يضر صاحب الحسنات آخر. وقوله تعالى
: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء
بحسب حال النفس زكاة وطهرا وتدسية وخبثا ، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر
نفسه ذكرا كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة ، ولا يظلم مقدار نقير فضلا عما هو
أكثر وأكبر وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان
إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع
الإحسان الكامل وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى واتباع ملة
إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة. وقوله (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي
اتخذه ربه خليلا وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته
وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو
له حاجة إليه ، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقا وملكا وإبراهيم في
جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شىء وملكه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ما عند الله
لا ينال بالتمنى ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان.
٢ ـ الجزاء أثر
طبيعي للعمل وهو معنى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) ، ومن يعمل من
__________________
الصَّالِحاتِ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)
٣ ـ فضل الإسلام
على سائر الأديان.
٤ ـ شرف إبراهيم عليهالسلام باتخاذه ربه خليلا.
٥ ـ غنى الله
تعالى عن سائر مخلوقاته ، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عزوجل.
(وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ
إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ
اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))
__________________
شرح الكلمات :
(يَسْتَفْتُونَكَ) : يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن.
(وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) : يقرأ عليكم في القرآن.
(ما كُتِبَ لَهُنَ) : ما فرض لهن من المهور والميراث.
(بِالْقِسْطِ) : بالعدل
(نُشُوزاً) : ترفعا وعدم طاعة.
(وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) : جبلت النفوس على الشح فلا يفارقها أبدا.
(فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ) : فتتركوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة.
(مِنْ سَعَتِهِ) : من رزقه الواسع.
(وَكانَ اللهُ واسِعاً
حَكِيماً) : واسع الفضل حكيما يعطي فضله حسب علمه وحكمته.
معنى الآيات :
هذه الآيات الأربع
كل آية منها تحمل حكما شرعيا خاصا فالأولى (١٢٧) نزلت إجابة لتساؤلات من بعض
الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لأن العرف الذي كان سائدا في الجاهلية
كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا
يحفظ لهم حق كامل فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل
في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتامى وكثرت التساؤلات لعل قرآنا ينزل إجابة
لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول
السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه ، فقال تعالى وهو يخاطب
نبيه صلىاللهعليهوسلم (وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ) أي وما زالوا يستفتونك في النساء ، أي في شأن ما لهن وما
عليهن من حقوق كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن وما عليهن. وقوله تعالى :
(وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما
كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كاف لكم
لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضا إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا
يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من
__________________
شاء ، ولا يحل له
أن يحبسها في بيته لأجل مالها ، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر
مثيلاتها ولا يبخسها من مهرها شيئا. وقوله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ) أي وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في
المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافيا في آية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية.
فلم هذه المراجعات
والاستفتاءات؟؟ وقوله تعالى (وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي وما تلى عليكم في أول السورة كان آمرا إياكم بالقسط
لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) وقوله تعالى في ختام الآية (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة
واليتيم زيادة على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها. هذا ما دلت عليه الآية
الكريمة (وَيَسْتَفْتُونَكَ
.....) إلخ.
أما الآية الثانية
(١٢٨) (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ
مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فقد تضمنت حكما عادلا رحيما وإرشادا ربانيا سديدا وهو أن
الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزا أي ترفعا عليها أو إعراضا عنها ، وذلك لكبر سنها
أو لقلة جمالها وقد تزوج عليها غيرها في هذا الحال في الإمكان أن تجري مع زوجها
صلحا يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن
بعض ما كان واجبا لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال تعالى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وقوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَ) يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة
كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقوقها من زوجها.
إذا فليراع الزوج هذا ولذا قال تعالى (وَإِنْ تُحْسِنُوا) أيها الأزواج إلى نسائكم (وَتَتَّقُوا) الله تعالى
__________________
فيهن فلا تحرموهن
ما لهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان إحسانا وبالخير خيرا
فإنه تعالى (بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً).
هذا ما دلت عليه
الآية (١٢٨) وأما الآية الثالثة (١٢٩) وهي قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته
اللائي في عصمته فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبدا والمراد
بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا
مستطاع له ، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميلة النفس كما
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» والمحرم على
الزوج هو الميل الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن ، لأن ذلك يؤدي أن تبقى
المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمتع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج
من رجل آخر تسعد بحقوقها معه وهذا معنى قوله تعالى (فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ) وقوله تعالى (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أي أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا
الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل ، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه
تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الله
تعالى كان وما زال غفورا للتائبين رحيما بالمؤمنين.
هذا ما دلت عليه
الآية الثالثة أما الآية الرابعة (١٣٠) وهي قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ
اللهُ واسِعاً حَكِيماً) فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما
لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف
أن يغني كلا منهما من سعته وهو الواسع الحكيم فالمرأة يرزقها زوجا خيرا من زوجها
الذي فارقته ، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيرا ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ
إرث النساء والأطفال ، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها.
٢ ـ استحباب الصلح
بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به.
٣ ـ تعذر العدل بين
الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش
والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف.
٤ ـ الترغيب في
الإصلاح والتقوى وفعل الخيرات.
٥ ـ الفرقة بين
الزوجين إن كانت على مبدأ الإصلاح والتقوى أعقبت خيرا عاجلا أو آجلا.
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ
قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))
__________________
شرح الكلمات :
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا.
(وَصَّيْنَا) : عهدنا إليهم بذلك أي بالتقوى.
(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.
الوكيل
: من يفوض إليه
الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه.
(ثَوابَ الدُّنْيا) : جزاء العمل لها.
ثواب
الآخرة : جزاء العمل لها
وهو الجنة.
(سَمِيعاً بَصِيراً) : سميعا : لأقوال العباد بصيرا : بأعمالهم وسيجزيهم بها
خيرا أو شرا.
معنى الآيتين :
لما وعد تبارك
وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السموات
وما في الأرض ولذا فهو قادر على اغنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله ، ثم واجه بالخطاب
الكريم الأمة جمعاء ومن بينها بني أبيرق فقال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا
يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم ، ثم أعلمهم
أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئا ، لأنه ذو الغنى والحمد
، وكيف وله جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها
والمتصرف فيها.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (١٣١) أما الآية الثانية (١٣٢) فقد كرر تعالى فيها الإعلان عن
استحقاقه الحمد والغنى وذلك لملكه جميع ما في السموات وما في الأرض ولقيوميته
عليهما وكفى به تعالى حافظا ووكيلا. وفي الآية الثالثة (١٣٣) يخبر تعالى أنه قادر
على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير ، فقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ) (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته. وفي الآية الرابعة
والأخيرة في هذا السياق (١٣٤) يقول تعالى مرغبا عباده فيما عنده من خير الدنيا
والآخرة من كان يريد
__________________
بعمله ثواب الدنيا (فَعِنْدَ اللهِ
ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا ، وهو يعلم أن ثواب
الآخرة عند الله أيضا فليطلب الثوابين معا من الله تعالى ، وذلك بالإيمان والتقوى
والإحسان ، وسيجزيه تعالى بعمله ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الوصية
بالتقوى ، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإيمان وعمل الصالحات.
٢ ـ غنى الله
تعالى عن سائر خلقه.
٣ ـ قدرة الله
تعالى على إذهاب الناس كلهم والإتيان بغيرهم.
٤ ـ وجوب الإخلاص
في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
__________________
ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))
شرح الكلمات :
(قَوَّامِينَ) : جمع قوام : وهو كثير القيام بالعدل.
(بِالْقِسْطِ) : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.
(شُهَداءَ) : جمع شهيد : بمعنى شاهد.
(الْهَوى) : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
(تَلْوُوا) : أي ألسنتكم باللفظ تحريفا له حتى لا تتم الشهادة على
وجهها.
(تُعْرِضُوا) : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.
معنى الآيات :
قوله تعالى في هذه
الآية (١٣٥) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (شُهَداءَ لِلَّهِ) إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله
ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها ، وبناء على هذا فأقيموا
الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه
غنيا أو فقيرا فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها
، فالله تعالى ربهما أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا
أنكم إن تلووا ألسنتكم بالشهادة تحريفا لها وخروجا بها عن أداء ما يترتب
عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها
فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة
ألا فاحذروا.
هذه الآية الكريمة
يدخل فيها دخولا أوليا من شهدوا لأبناء أبيرق بالإسلام والصلاح كما هي
__________________
خطاب للمؤمنين إلى
يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهاداتهم.
أما الآية الثانية
(١٣٦) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة
فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين ، أما أهل الكتاب
فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح ، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم فلذا دعوا إلى
الإيمان الصحيح فقيل لهم (آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) محمد (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) وهو القرآن الكريم ، (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وهو التوراة والإنجيل ، لأن اليهود لا يؤمنون بالإنجيل ،
ثم أخبرهم محذرا لهم أن (مَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَ) طريق الهدى والسعادة (ضَلالاً بَعِيداً) لا ترجى هدايته ، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسرانا أبديا.
ثم أخبرهم تعالى
في الآية بعد هذه (١٣٧) مقررا الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) بمحمد صلىاللهعليهوسلم
وكتابه وبما جاء
به (لَمْ يَكُنِ اللهُ) أي لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا
ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه ، وإلا فالخلود في
نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب العدل في
القضاء والشهادة.
٢ ـ حرمة شهادة
الزور وحرمة التخلي عن الشهادة لمن تعينت عليه.
٣ ـ وجوب
الاستمرار على الإيمان وتقويته حتى الموت عليه.
٤ ـ بيان أركان
الإيمان وهي الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
__________________
٥ ـ المرتد يستتاب
ثلاثة أيام وإلا قتل كفرا أخذا من قوله : (ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا).
(بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ
بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))
شرح الكلمات :
(بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ) : البشارة : الخبر الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيرا
كان أو شرا.
والمنافق
: من يبطن الكفر
ويظهر الإيمان تقيّة ليحفظ دمه وماله.
(أَوْلِياءَ) : يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.
(الْعِزَّةَ) : الغلبة والمنعة.
(يُسْتَهْزَأُ بِها) : يذكونها استخفافا بها وإنكارا وحجودا لها.
(يَخُوضُوا) : يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.
(مِثْلُهُمْ) : أي في الكفر والإثم.
(يَتَرَبَّصُونَ
بِكُمْ) : ينتظرون متى يحصل لكم إنهزام أو إنكسار : فيعلنون عن
كفرهم.
(نَصِيبٌ) : أي من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على
المؤمنين نادر.
(نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ) : أي نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم
(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) يأمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة لأن المخبر به يسوء وجوهم
وهو العذاب الأليم وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل ، وأما في الآخرة فهو
أسوأ العذاب وأشده وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم ، ثم وصفهم تعالى بأخس
صفاتهم وشرها فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين ، ويمنعون ذلك
المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم ينرها عمل الإسلام ، ثم
وبخهم تعالى ناعيا عليهم جهلهم فقال : (أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي يطلبون العزة أي المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم
عملوا فلم يعرفوا (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل والعزة تطلب بالإيمان وصالح
الأعمال لا بالكفر والشر والفساد. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٣٨) والثانية (١٣٩).
أما الآية الرابعة
(١٤٠) فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث
نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ،
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين ، وهم في مكة
قبل الهجرة ، لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة ، وبدأ النفاق وأصبح
للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى
استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ
يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
__________________
يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً) أي إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله (مِثْلُهُمْ) في الإثم والجريمة والجزاء أيضا ، (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم ، وإن قلتم لا إذا فلا
تجالسوهم. ثم ذكر تعالى وصفا آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض
لهم فقال : (الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وغنيمة قالو : (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) فأشركونا في الغنيمة ، (وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) في النصر قالوا لهم (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي نستول عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) أن يقاتلوكم ، فأعطونا مما غنمتم ، وهكذا المنافقون يمسكون
العصا من الوسط فأي جانب غلب كانوا معه. ألا لعنة الله على المنافقين وما على
المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل فالله يحكم بينهم يوم القيامة.
أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى لهم على المؤمنين سبيلا لا لاستئصالهم
وإبادتهم ، ولا لا ذلا لهم والتسلط عليهم ماداموا مؤمنين صادقين في إيمانهم . وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة اتخاذ
الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
٢ ـ الباعث للناس
على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل فالعزة لله
ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.
٣ ـ حرمة مجالسة
أهل الباطل إذا كانوا يخضون في آيات الله نقدا واستهزاء وسخرية.
٤ ـ الرضا بالكفر
كفر ، والرضا بالإثم إثم.
٥ ـ تكفل الله
تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه
__________________
فيستأصلونهم ، أو
يذلونهم ويتحكمون فيهم.
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))
شرح الكلمات :
(يُخادِعُونَ اللهَ) : بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات ، وإخفائهم الكفر
والمعاصي.
(وَهُوَ خادِعُهُمْ) : بالسّتر عليهم وعدم فضيحتهم ، وبعدم إنزال العقوبة بهم.
(يُراؤُنَ) : أي يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم
بمؤمنين.
(مُذَبْذَبِينَ) : أي يترددون بين المؤمنين والكافرين فأى جانب عز كانوا
معه.
معنى الآيتين :
يخبر تعالى أن
المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم
غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله
تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو
العذاب المعد لهم عاجلا أو آجلا ، كما أخبر عنهم أنهم إذا قاموا
إلى أداء الصلاة قاموا كسالى متباطئين لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروى فلذا هم يراءون
بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر ، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى
إلا ذكرا قليلا في الصلاة وخارج الصلاة ،
__________________
وذلك لعدم إيمانهم
بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان
والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان والمؤمنين يسكنون ، ولا إلى الكفر والمنافقين
يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون ، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا
يوجد لهدايته سبيل.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان صفات
المنافقين .
٢ ـ قبح الرياء
وذم المرائين.
٣ ـ ذم ترك الذكر
والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإكثار منه في قوله (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً).
٤ ـ ذم الحيرة
والتردد في الأمور كلها.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما
يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً
عَلِيماً (١٤٧))
شرح الكلمات :
(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة واضحة لتعذيبكم.
__________________
(الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) : الدرك : كالطابق ، والدركة كالدرجة.
(وَأَصْلَحُوا) : ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.
(وَاعْتَصَمُوا
بِاللهِ) : تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه.
(وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ) : تخلوا عن النفاق والشرك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية (١٤٤)
يناديهم تعالى بعنوان الإيمان وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين
أولياء من دون المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم
والركون إليهم والتعاون معهم ، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى
بقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم ، أو
يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم. ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم
حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
مِنَ النَّارِ) ، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم القيامة ، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبدا ثم رحمة بعباده
تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقول لهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم (وَاعْتَصَمُوا
بِاللهِ) ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين ، (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) فلم يبقوا يراءون أحدا بأعمالهم. فأولئك الذين ارتفعوا إلى
هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد ، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا
عظيما وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.
__________________
وأخيرا في الآية (١٤٧)
يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الإنتقام فإن عبده مهما جنى وأساء
، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر. لا يعذبه أدنى عذاب إذ لا حاجة إلى تعذيب
عباده فقال عزوجل وهو يخاطب عباده (ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي سقيها كلبا عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة اتخاذ
الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
٢ ـ إذا عصى
المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف.
٣ ـ التوبة تجب ما
قبلها حتى إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه.
٤ ـ لا يعذب الله
تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة فالإيمان والشكر أمان الإنسان.
__________________
الجزء السّادس
(لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً
عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))
شرح الكلمات :
(بِالسُّوءِ) : ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به.
(سَمِيعاً عَلِيماً) : سميعا للأقوال عليما بالأعمال.
(إِنْ تُبْدُوا) : تظهروا ولا تخفوا.
(تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) : أي لا تؤاخذوا به.
معنى الآيتين :
يخبر تعالى أنه لا
يحب الجهر بالسوء ، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم
ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة ، ولما حرم تعالى على
عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب ، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكانَ اللهُ ـ (وما زال) ـ سَمِيعاً عَلِيماً) ألا فليتق فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله.
ثم انتدب عباده
المؤمنين الى فعل الخير في السر أو العلن ، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فسيكسب فاعل الخير خيرا أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب
العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله
تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه وكان الله (عَفُوًّا قَدِيراً).
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة الجهر
بالسوء والسر به كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء الى القلوب
والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير.
٢ ـ استحباب فعل
الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر.
٣ ـ استحباب العفو
عن المؤمن إذا بدا منه سوء ، ومن يعف يعف الله عنه.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))
شرح الكلمات :
(وَرُسُلِهِ) : الرسل جمع رسول وهم جم غفير قيل عددهم ثلثمائة وأربعة
عشر رسولا
(سَبِيلاً) : أي طريقا بين الكفر والإيمان ، وليس ثم إلا طريق واحد
وهو الإيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن ، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض
فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم.
__________________
(وَلَمْ يُفَرِّقُوا) : كما فرق اليهود فآمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم فهم لذلك كفار.
(أُجُورَهُمْ) : أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح وهو الجنة دار
النعيم.
معنى الآيات :
يخبر تعالى مقررا
حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه فيقول إن الذين يكفرون
بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ،
ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين الكفر بالبعض والإيمان بالبعض سبيلا أي طريقا
يتوصلون به الى مذهب باطل فاسد وهو التخيّر بين رسل الله فمن شاءوا الإيمان به
آمنوا ، ومن لم يشاءوا الإيمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفرا لا ريب
فيه ،
ولهم بذلك العذاب
المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم قال تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فسجل عليهم الكفر ثلاث مرات فالمرة الأولى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) والثانية بقوله (أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا) والثالثة بقوله (وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل
الكفر عليهم وللإشارة الى علة الحكم وهي الكفر.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (١٥١) أما الآية الثانية وهى قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها فالأولى
تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى ، وبالعذاب المهين لهم والثانية تضمنت
الحكم بإيمان المسلمين وبالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). فغفر لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة
أوليائه.
__________________
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تقرير كفر
اليهود والنصارى لفساد عقائدهم وبطلان أعمالهم.
٢ ـ كفر من كذب
بالله ورسوله ولو في شىء واحد مما وجب الإيمان به.
٣ ـ بطلان إيمان
من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.
٤ ـ صحة الدين
الإسلامى وبطلان اليهودية والنصرانية حيث اوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين
، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم.
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً (١٥٤))
شرح الكلمات :
(جَهْرَةً) : عيانا نشاهده ونراه بأبصارنا.
(الصَّاعِقَةُ) : صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.
(بِظُلْمِهِمْ) : بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي.
(اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) : أي الها فعبدوه.
(فَعَفَوْنا عَنْ
ذلِكَ) : أي لم يؤاخذهم به.
(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه.
__________________
(وَرَفَعْنا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ) : أي جبل الطور بسيناء.
(ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً) : أي راكعين متواضعين خاشعين لله شكرا لنعمه عليهم.
(لا تَعْدُوا) : لا تعتدوا أى لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل
الى العمل فيه.
(مِيثاقاً غَلِيظاً) : عهدا مؤكدا بالأيمان.
معنى الآيتين :
لما نعى الربّ
تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى
وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم كما كفر به اليهود أيضا ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا
سألوك أن تنزل عليهم كتابا من السماء فلا تعجب من قولهم ولا تحفل به إذ هذه
سنتهم وهذا دأبهم ، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا فقالوا له أرنا الله
جهرة فأغضبوا الله تعالى فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلها يعبدونه
في غياب موسى عليهم ، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البيّنات حيث فلق الله لهم البحر
وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم ، وآتى نبيهم سلطانا مبينا ، ولم
يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣) وهى قوله تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ
تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى
سُلْطاناً مُبِيناً). أما الآية الثانية (١٥٤) فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم
الطور تهديدا لهم ووعيدا وذلك لما امتنعوا ان يتعهدوا بالعمل بما في التوراة ،
فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقا غير أنهم نقضوه كما سيأتي
الإخبار بذلك. هذا
__________________
معنى قوله تعالى (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثاقِهِمْ) ، وقوله تعالى (وَقُلْنا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ..) كان هذا عند ما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس
فاتحا اوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل ان يدخلوا باب المدينة خاضعين
متطامنين شكرا لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين
متطامنين دخلوه زحفا على استاههم مكرا وعنادا والعياذ بالله. وقوله : (.. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ) أي ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصيانا
وتمردا ، وقوله تعالى (.. وَأَخَذْنا
مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلا وتحريما في التوراة
، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا ، إذا فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك
وليؤمنوا بك أن تنزل عليهم كتابا من السماء. هذا معنى قوله تعالى في الآية (١٥٤) (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ، وَقُلْنا لَهُمْ لا
تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ..) أي لا تتجاوزوا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم (... وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً ...)
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تعنت أهل
الكتاب ازاء الدعوة الإسلامية وكفرهم بها على علم انها دعوة حق.
٢ ـ بيان قبائح
اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم.
٣ ـ نقض اليهود
للعهود والمواثيق اصبح طبعا لهم لا يفارقهم أبدا ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم
ومواثيقهم.
(فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى
مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
__________________
اخْتَلَفُوا
فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ
وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))
شرح الكلمات :
(فَبِما نَقْضِهِمْ) : الباء سببية أي فبسبب نقضهم ميثاقهم ، والنقض : الحل بعد
الإبرام
(بِغَيْرِ حَقٍ) : أي بدون موجب لقتلهم ، ولا موجب لقتل الأنبياء قط.
(غُلْفٌ) : جمع اغلف وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم
إليه.
(بُهْتاناً عَظِيماً) : البهتان الكذب الذي يحير من قيل فيه والمراد هنا رميهم
لها بالزنى.
(وَما صَلَبُوهُ) : أي لم يصلبوه ، والصلب شده على خشبة وقتله عليها.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) : أي وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت
أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود ، ولا هو الله
ولا ابن الله كما يقول النصارى.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سببا في لعنهم وذلهم ، وغضب الله تعالى
عليهم ، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق
وهى (١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧).
__________________
١ ـ نقضهم العهود
والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة.
٢ ـ كفرهم بآيات
الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ قتلهم
الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.
٤ ـ قولهم قلوبنا
غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام ، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى
في هذه الدعوى ، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم ، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب
ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقادا وقولا وعملا هذا ما تضمنته
الآية الأولى وهى قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ ..) والباء سببية والميم صلة والأصل فبنقضهم أي بسبب نقضهم
وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها
بكفرهم ، (فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلاً) أي إيمانا قليلا كإيمانهم بموسى وهرون والتوراة والزبور
مثلا.
٥ ـ كفرهم أي
بعيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم أيضا.
٦ ـ قولهم على
مريم بهتانا عظيما حيث رموها بالفاحشة وقالوا عيسى ابن زنى لعنهم الله.
٧ ـ قولهم متبجحين
متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليهالسلام وهو رسول الله ، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله (.. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ،
وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ..) أى برجل آخر ظنوه انه هو فصلبوه وقتلوه ، وأما المسيح فقد
رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية (١٥٨) (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ
اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا على أمره حكيما في فعله وتدبيره.
وأما قوله تعالى :
(وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) ، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهى أن الذين طوقوا
منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا فى هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم
لم يجزموا أبدا بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليهالسلام ، ولذا قال تعالى (.. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً
بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
__________________
إِلَيْهِ
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
أما الآية الأخيرة
في هذا السياق (١٥٩) فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت
ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله ، وليس هو ابن زنى
ولا ساحر كما يعتقد اليهود ، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى ، ولكن
هذا الإيمان لا ينفع صاحبه لأنه حصل عند معاينة الموت قال تعالى (.. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ ..). هذا ما دلت عليه الآية الكريمة : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً) أي يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به ، ووصاهم عليه من
الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ودين الحق الذي جاء به.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان جرائم
اليهود.
٢ ـ بطلان اعتقاد
النصارى في أن عيسى صلب وقتل ، أما اليهود فإنهم وان لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون
على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليهالسلام.
٣ ـ تقرير رفع
عيسى عليهالسلام الى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا.
٤ ـ الإيمان
كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل وجودها كعدمها.
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ
وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ
عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
__________________
أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً
عَظِيماً (١٦٢))
شرح الكلمات :
(فَبِظُلْمٍ) : الباء سببية أي فبسبب ظلمهم.
(هادُوا) : اليهود إذ قالوا : انا هدنا إليك.
(طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ) : هي كل ذى ظفر وشحوم البقر والغنم.
(أَخْذِهِمُ الرِّبَوا) : قبوله والتعامل به وأكله.
(الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم
راسخة في نفوسهم ليست ظنيات بل هي يقيينات.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم ففي الآية الأولى
(١٦٠) سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعالى حيث حرم عليهم
طيبات كثيرة كانت حلالا لهم ، كما سجل عليهم أقبح الجرائم وهى صدهم أنفسهم وصد
غيرهم عن سبيل الله تعالى ، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله ، وقبولهم
الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية (١٦١)
فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهى أولا استباحتهم للربا وهو حرام وقد نهوا عنه وثانيا أكلهم أموال الناس بالباطل
كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها. وأما قوله تعالى في ختام الآية :
(... وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فهو زيادة على ما عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم
ومات على كفره عذابا أليما موجعا يعذبون به يوم القيامة. وأما الآية الثالثة (١٦٢)
فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى كالاستثناء
من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهى صفات جرائم
__________________
اكتسبوها ، وعظائم
من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم. ان الراسخين في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا
ظنية هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السّلام شأن المؤمنين
من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك وخاصة المقمين الصلاة وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر
هؤلاء جميعا وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذى لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه
فقال تعالى : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ
أَجْراً عَظِيماً).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ المعاصى تورث
الحرمان من خير الدنيا والآخرة.
٢ ـ حرمة الصد عن
الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة.
٣ ـ حرمة الربا
وانه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.
٤ ـ حرمة أكل
أموال الناس بالباطل كالسرقة والغش والرشوة.
٥ ـ من أهل الكتاب
صلحاء ربانيون وذلك كعبد الله بن سلام وآخرين.
٦ ـ الرسوخ في
العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.
٧ ـ فضل إقام
الصلاة لنصب والمقيمى الصلاة في الآية على المدح والتخصيص.
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
__________________
مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً
(١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ
يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))
شرح الكلمات :
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) : الوحى : الإعلام السريع الخفى ، ووحي الله تعالى الى أنبيائه
إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.
(الْأَسْباطِ) : أولاد يعقوب عليهمالسلام.
(زَبُوراً) : الزبور أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليهالسلام.
(قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ) : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولا وسبعة ذكروا
في سور أخرى وهم محمد صلىاللهعليهوسلم وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وإدريس وآدم
(حُجَّةٌ) : عذر يعتذرون به الى ربهم عزوجل.
معنى الآيات :
روى أن اليهود لما
سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا وقالوا
لم يوح الله تعالى الى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ ..) فذكر عددا من الأنبياء ، ثم قال ورسلا : أي وأرسلنا رسلا
قد قصصناهم عليك من قبل أي قص عليه اسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم وهم
__________________
يبلغون دعوة ربهم
، وأرسل رسلا لم يقصصهم عليه ، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليما فأسمعه كلاما بلا
واسطة ، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شىء وقد ارسلهم
تعالى رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالجنة ، ومنذرين من كفر واشرك وعمل سوء
بالنار وما فعل ذلك الا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما ارسلت
الينا رسولا هذا معنى قوله تعالى (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
..) أي بعد ارسالهم ، (وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً) غالبا لا يمانع في شيء اراده (حَكِيماً) في أفعاله وتدبيره ، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث (١٦٣
ـ ١٦٤ ـ ١٦٥) أما الآية الرابعة (١٦٦) وهي قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً).
فقد روي أن يهودا
جمعهم النبي صلىاللهعليهوسلم وابلغهم أنه رسول الله صدقا وحقا ودعاهم إلى الإيمان به
وبما جاء به من الدين الحق فقالوا : من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في
وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض ، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله : (لكِنِ اللهُ
يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ...) يريد إنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة ،
أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإرسال ، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في اكمالها
واسعادها إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت ان تأتى بمثله ، أليس هذا
كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة ، بلى ، والملائكة أيضا يشهدون (.. وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ
الوحى الإلهي.
٢ ـ أول الرسل نوح عليهالسلام وآخرهم محمد صلىاللهعليهوسلم.
__________________
٣ ـ إثبات صفة
الكلام لله تعالى.
٤ ـ بيان الحكمة
في ارسال الرسل وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة.
٥ ـ شهادة الرب
تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صلىاللهعليهوسلم.
٦ ـ ما حواه
القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلىاللهعليهوسلم بالنبوة والرسالة.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ
الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً
(١٧٠))
شرح الكلمات :
(كَفَرُوا وَصَدُّوا) : كفروا : جحدوا بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وصدوا : صرفوا الناس عن الإيمان به صلىاللهعليهوسلم بما يبذرون من بذور الشك.
(كَفَرُوا وَظَلَمُوا) : جحدوا نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغيا منهم وحسدا للعرب أن يكون
فيهم رسول يخرجهم من الظلمات الى النور.
(الرَّسُولُ) : هو محمد صلىاللهعليهوسلم الكامل في رسالته الصادق في دعوته.
(فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ) : أي يكون إيمانكم خيرا لكم.
معنى الآيات :
بعد أن أقام الله
تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته ، وشهادة القرآن لما
فيه من العلوم والمعارف الإلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين
كفروا وصدوا عن
سبيل الله وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق ، وهذا
ما تضمنته الآية الأولى (١٦٧) كما أخبر في الآية الثانية (١٦٨) أن الذين كفروا
وظلموا وهم أيضا اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا اللهم إلا طريق
جهنم وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى
الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإلهية ، لم يبق له من طريق يرجى
له سلوكه إلا طريق جهنم يخلد فيها خلودا أبديّا ، وقوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من
اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من
السهل اليسير أما الآية الأخيرة (١٧٠) فهي تتضمن إعلانا إليها موجها إلى الناس
كافة مشركين وأهل كتاب (... يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ ...) الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا به خيرا
لكم ، وإن أبيتم وأعرضتم ايثارا للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله
ما في السموات والأرض خلقا وملكا وتصرفا وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر
والضلال جهنم وساءت مصيرا فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع ، وبمن أعرض
فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به. فلا يجزي المحسن بالسوء ، ولا
المسيء بالإحسان.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ شر الكفر ما
كان مع الصد عن سبيل الله والظلم وهذا كفر اليهود والعياذ بالله تعالى.
٢ ـ سنة الله
تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال ، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة
فيموت على ذلك فيهلك.
__________________
٣ ـ الرسالة
المحمدية عامة لسائر الناس أبيضهم وأصفرهم.
٤ ـ إثبات صفتى
العلم والحكمة لله تعالى. وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً
(١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً
(١٧٣))
شرح الكلمات :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ) : المراد بهم هنا النصارى.
(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) : الغلو : تجاوز الحد للشيء فعيسى عليهالسلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.
__________________
(الْمَسِيحُ) : هو عيسى عليهالسلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب أي لا ذنب له قط.
(كَلِمَتُهُ أَلْقاها) : أي قول الله تعالى له (كُنْ) فكان ـ ألقاها إلى مريم : أوصلها لها وأبلغها إياها وهي
قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم.
(وَرُوحٌ مِنْهُ) : أي عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها.
(وَكِيلاً) : حفيظا وشاهدا عليما.
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ) : لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبرا.
(وَيَسْتَكْبِرْ) : يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجابا
وغرورا.
(وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) : أي لا يجدون يوم القيامة وليا يتولى الدفاع عنهم ولا نصيرا
ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها.
معنى الآيات :
ما زال السياق مع
أهل الكتاب ففي الآية الأولى (١٧١) نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب
الذي هو الإنجيل ونهاهم عن الغلوّ في دينهم من التنطع والتكلف كالترهب واعتزال
النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلوّ ، كما نهاهم عن قولهم على الله
تبارك وتعالى غير الحق ، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وأخبرهم
بأن عيسى لم يكن أبدا غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاما
زكيا ، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي (كُنْ) وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليهالسلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا الى الحق وآمنوا
بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا تقولوا زورا وباطلا : الله ثالث ثلاثة آلهة. انتهوا عن هذا القول الكذب يكن
__________________
انتهاؤكم خيرا لكم
حالا ومآلا ، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد. سبحانه
تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد ، ولم تكن له صاحبة ، ولم يكن ذا حاجة وله ما
في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وحكما وتدبيرا ، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلا
شاهدا عليما فحسبكم الله تعالى ربّا وإلها فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون
إلى غيره ولا تطلبون سواه.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (١٧١) وأما الآيتان الثانية (١٧٢) والثالثة (١٧٣) فقد أخبر تعالى أن
عبده ورسوله المسيح عليهالسلام لن يستنكف أبدا أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية
فيقال عبد الله ورسوله ، حتى الملائكة المقربون منهم فضلا عن غيرهم لا يستنكفون عن
عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته ، ثم توعد تعالى كل من
يستنكف عن عبادته ويستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعا ويحاسبهم على
أعمالهم فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنوا بألوهيّته تعالى وحده وعبدوه
وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهى الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم
كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعف الى سبعمائة ضعف. وأما الذين
استنكفوا واستكبروا أي حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع اليه فأصروا
على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذابا أليما أي موجعا ولا يجدون
لهم من دونه وليا ولا ناصرا فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الغلو في
الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع والضلال.
٢ ـ حرمة القول
على الله تعالى بدون علم مطلقا والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة.
٣ ـ بيان المعتقد
الحق في عيسى عليهالسلام ، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة
__________________
جبريل عليهالسلام.
٤ ـ حرمة
الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله.
٥ ـ بيان الجزاء
الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً
(١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ
فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))
شرح الكلمات :
(بُرْهانٌ) : البرهان : الحجة والمراد به هنا محمد صلىاللهعليهوسلم.
(نُوراً مُبِيناً) : هو القرآن الكريم.
(وَاعْتَصَمُوا) : أي تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.
(فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) : الجنة
(صِراطاً) : طريقا يفضى بهم الى جوار ربهم في دار الكرامة.
معنى الآيتين :
ينادى الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى
مخبرا إياهم قاطعا للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى
وعلمه وقدرته ووجوب الإيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة رسوله وأنه أنزل
عليه كتابه شافيا كافيا هاديا نورا مبيّنا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السّلام ، ويخرجه من الظلمات إلى النور. بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة
وقطع عليهم كل معذرة
__________________
وحجة ثم هم صنفان
مؤمن وكافر
فالذين آمنوا
بالله ربّا وإلها وبرسوله نبيّا ورسولا واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا
حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة منه وفضل وذلك بأن
ينجيهم من النار ويدخلهم الجنان وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى فمن زحزح عن
النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف
وجزاءهم معلوم فلا حاجة الى ذكره : إنه الحرمان والخسران.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الدعوة
الاسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.
٢ ـ إطلاق لفظ
البرهان على النبيّ محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشريّ أن يساميه فيه
برهان على وجود الله وعلمه ورحمته.
٣ ـ القرآن نور
لما يحصل به من الإهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال.
٤ ـ ثمن السعادة
ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة
المعبر عنه بالاعتصام.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))
شرح الكلمات :
(يَسْتَفْتُونَكَ) : يطلبون فتياك في كذا.
__________________
(يُفْتِيكُمْ) : يبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر الكلالة.
(الْكَلالَةِ) : أن يهلك الرجل ولا يترك ولدا ولا ولد ولد وإنما يترك أخا
أو أختا.
الحظ
: النصيب.
(أَنْ تَضِلُّوا) : كيلا تضلوا أي تخطئوا في قسمة التركة.
معنى الآية
الكريمة :
هذه الآية تسمى
آية الكلالة ، وآيات المواريث أربع الأولى في شأن الولد والوالد (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) والثانية في شأن الزوج والزوجة (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الخ .. وفي شأن الإخوة لأم (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الخ .. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء ،
والثالثة هي هذه (يَسْتَفْتُونَكَ) الخ. وهى في شأن ميراث الاخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم
يترك ولدا ولا ولد ولد .. وهو معنى الكلالة والرابعة في آخر سورة الانفال وهي في
شأن ذوى الأرحام وهى قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).
وهذه الآية نزلت
عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة فقال تعالى يسألونك أيها الرسول عن
الكلالة قل للسائلين الله يفتيكم في الكلالة وهذه فتواه : إن هلك امرؤ ذكرا كان أو
أنثى وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها
أيضا إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن
كانوا إخوة رجالا ونساء أي ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الانثتين وبعد أن بيّن
تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيّنا حكمة هذا البيان : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي كيلا تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة
أموالكم. (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا
__________________
يجهل شيئا ولا
يخفى عليه آخر وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ جواز سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له.
٢ ـ اثبات وجود
الله تعالى عليما قديرا سميعا بصيرا وتقرير نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم إذ سؤال الأصحاب واجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على
رسوله يقرر ذلك ويثبته.
٣ ـ بيان قسمة
تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك ،
والاختان لهما الثلثان ، والاخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين والاخ يرث أخته
إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد ، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ
الأنثيين إذا لم تترك ولدا ولا ولد ولد.
سورة المائدة
مدنيّة
وآياتها
مائة وعشرون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا
شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا
آمِّينَ الْبَيْتَ
__________________
الْحَرامَ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))
شرح الكلمات :
(أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) : العقود : هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين
العبد وأخيه والوفاء بها : عدم نكثها والاخلال بمقتضاها.
(بَهِيمَةُ
الْأَنْعامِ) : هي الإبل والبقرة والغنم.
(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : أي محرمون بحج أو عمرة.
(شَعائِرَ اللهِ) : جمع شعيرة وهي هنا مناسك الحج والعمرة ، وسائر اعلام دين
الله تعالى.
(الشَّهْرَ الْحَرامَ) : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
(الْهَدْيَ) : ما يهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
(الْقَلائِدَ) : جمع قلادة ما يقلد الهدى ، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر
الحرم ليأمن.
(آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ) : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
(وَإِذا حَلَلْتُمْ) : أي من إحرامكم.
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ) : أي لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.
(أَنْ صَدُّوكُمْ) : أي لأجل أن صدوكم.
(الْبِرِّ وَالتَّقْوى) : البر : كل طاعة لله ورسوله والتقوى : فعل ما أمر الله به
ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) : الإثم : سائر الذنوب ، والعدوان : الظلم وتجاوز الحدود.
(شَدِيدُ الْعِقابِ) : أي عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.
معنى الآيتين :
ينادى الحق تبارك
وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول يا أيها الذين آمنوا أي يا من آمنتم
بي وبرسولي ووعدي ووعيدى أوفوا بالعقود فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها ، فلا تتركوا واجبا ولا
ترتكبوا منهيا ، ولا تحرموا حلالا ولا تحلو حراما أحللت لكم بهيمة الأنعام هي
الإبل والبقر والغنم الا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ ...) فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تنازعوا فيما أحل
وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) .
أما الآية الثانية
فقد تضمنت أحكاما بعضها نسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به الى يوم الدين فمن
المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ،
ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب ، ولا بفعل محرم ، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة.
ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرما في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله
تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، ومن المنسوخ أيضا هدي المشركين
وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدى ، ولا يجيرهم
من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله
تعالى (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا
الْهَدْيَ وَلَا
الْقَلائِدَ وَلَا
آمِّينَ
__________________
الْبَيْتَ
الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً). والمراد بالفضل الرزق بالتجارة في الحج ، والمراد يالرضوان
ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في
حياتهم.
وقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ..) خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرما وهم
محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى (.. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية
عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه وهو قتالهم
إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى ، أي على
أداء الواجبات والفضائل ، وترك المحرمات والرذائل ، ونهاهم عن التعاون عن ضدها
فقال عزوجل : (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلا وتركا أمرهم بها ،
فقال واتقوا الله بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك ، وحذرهم من إهمال
أمره بقوله (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) فاحذروه بلزوم التقوى.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب الوفاء
بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافطة على العقود التي بين العبد
وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
٢ ـ إباحة أكل
لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
٣ ـ تحريم الصيد
في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر.
٤ ـ وجوب إحترام
شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه ، وتركا لما وجب تركه.
٥ ـ حرمة الاعتداء
مطلقا حتى على الكافر.
٦ ـ وجوب التعاون
بين المؤمنين على إقامة الدين ، وحرمة تعاونهم على المساس به.
__________________
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣))
شرح الكلمات :
(الْمَيْتَةُ) : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه أي بدون تذكية.
(وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : أي ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى مثل المسيح ، أو
الولي ، أو صنم.
(الْمُنْخَنِقَةُ) : أي بحبل ونحوه فماتت.
(الْمَوْقُوذَةُ) : أي المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
(الْمُتَرَدِّيَةُ) : الساقطة من عال إلى أسفل مثل السطح والجدار والجبل
فماتت.
(النَّطِيحَةُ) : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
(وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) : أي ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
(إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) : أي أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه بذبحة أو نحره.
(وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) : أي ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلها أو زعيما
أو عظيما ، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
__________________
(وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا) : أي وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله
ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنياء ، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم
وأسماء الجن والعفاريت.
(ذلِكُمْ فِسْقٌ) : أي ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام خروج عن
طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
(فَمَنِ اضْطُرَّ) : أي من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس
أن يأكل مما ذكر.
(فِي مَخْمَصَةٍ) : المخمصة شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
(غَيْرَ مُتَجانِفٍ) : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من
الميتة وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
معنى الآية
الكريمة :
هذه الآية الكريمة
هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة وهو قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما
يلى :
الميتة ، والدم ،
ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ،
والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذبح على النصب.
وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب
للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حيا وأنه مات بالذبح.
وقوله (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) يريد ولا يحل لكم الاستسقام بالأزلام ، ولا أكل ما يعطى
عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم
وهو رمح صغير لازج له ولا ريش فيه ، يضعونها في خريطة كالكيس ، وقد كتب على واحد
أمرني
__________________
ربي وآخر نهاني ثم
يجيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلما منها فإن وجده مكتوبا عليه أمرني ربي
مضى في عمله سفرا أو زواجا ، أو بيعا أو شراء ، وإن وجده مكتوبا عليه نهاني ربي
ترك ما عزم على فعله فجاء الإسلام فحرم الاستسقام بالأزلام ، وسنّ الاستخارة
وهي أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول : اللهم إني استخيرك بعلمك
واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت
علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري
وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في
ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم
أرضني به ، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه ، والذي يأتيه هو الخير بإذن
الله تعالى.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه.
وقوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) يخبر تعالى عباده المؤمنين أن الكافرين من المشركين وغيرهم
قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في
الإسلام ، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذا فلا تخشوهم بعد الآن
أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم وذلك بطاعتي وطاعة رسولي
ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي
لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتى.
وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم
منه وامتنان فأولا : إكمال الدين بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه
الآية نزلت عشية يوم عرفة عام
__________________
حجة الوداع ، ولم
يعش بعدها رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا احدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى وثانيا : إتمام
نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف ، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل
وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم وأبعد الكفر والكفار عنهم ، فعلمهم بعد جهل
وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتممها عليهم وثالثا رضاه بالإسلام دينا لهم
حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فبين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة
كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام
القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهرا وباطنا وذلك سلم العروج الى الكمالات ومرقى
كل الفواضل والفضائل والسعادات فلله الحمد وله المنة.
وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يريد تعالى من اضطر أي ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي
المخصمة والمسغبة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل
فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة
وأنواعها متعمدا المعصية مائلا إليها غير مبال بتحريمي لها فذاك الذي عصاني وتعرض
لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم ، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ حرمة الميتة
وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
٢ ـ حرمة
الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
٣ ـ حرمة الذبح
على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
٤ ـ جواز أكل ما
أدركه المسلم حيا من الحيوان المأكول فذكّاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على
الموت بأي سبب مميت.
__________________
٥ ـ وجوب خشية
الله تعالى وحرمة خشية الكفار.
٦ ـ حرمة الابتداع
في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإسلامي.
٧ ـ جواز أكل الميتة
للمضطر وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون
قاصدا المعصية مائلا إلى الإثم.
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))
شرح الكلمات :
(الطَّيِّباتُ) : ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين.
(الْجَوارِحِ) : جمع جارحة بمعنى كاسبة تجرح بمعنى تكسب.
(مُكَلِّبِينَ) : أي مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارجة كلبا أو
طيرا
(طَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) : ذبائح اليهود والنصارى.
(الْمُحْصَناتُ) : جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء.
__________________
(أُجُورَهُنَ) : مهورهن وصدقاتهن.
(غَيْرَ مُسافِحِينَ) : غير مجاهرين بالزنى.
(أَخْدانٍ) : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السريّ.
(وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ) : أي يرتدعن الإيمان فالباء بمعنى عن إذ يقال ارتد عن كذا
...
(حَبِطَ عَمَلُهُ) : بطل كل ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه.
معنى الآيتين :
ورد أن جبريل عليهالسلام أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فاستأذن فأذن له
النبي صلىاللهعليهوسلم فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال : (إنا لا ندخل
بيتا فيه كلب) فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم
من أمة الكلاب فأنزل الله تعالى هذه الآية : (يَسْئَلُونَكَ) (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ؟
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه ،
وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود
والنمور والطيور كالصقور ونحوها. مكلبين أي مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم ، (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ). أي تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به ،
وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت أي أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زجرت
انزجرت وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما
أولا أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول : بسم الله هاته مثلا ، والثاني
أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها ،
اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت
__________________
ثم ذكيت فعند ذلك
تحل بالتذكية لا بالاصطياد ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة
وأنواعها ، ومن صيد صاده غير معلّم من الجوارح ، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات
قبل التذكية. فلتتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٤) أما الآية الثانية (٥) وهي قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل
لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم
اليهود والنصارى خاصة فطعامهم أي ذبائحهم حل لكم ، وطعامكم حل لهم أي لا بأس أن
تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم. وأحل لكم أيضا نكاح المحصنات أي العفائف
من المؤمنات ، والمحصنات من نساء الذين أتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من
اليهوديات والنصرانيات ، على شرط إتيانهن أجورهن أي مهورهن حال كونكم محصنين أي
عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب
والقبول ، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه ، ولا
متخذي أخدان أيضا بأن تنكحوهن سرا بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى
فلا يحل بأجرة ولا بغير بأجرة وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد
تؤدي إلى الكفر ، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله أي بطل ثواب ما عمله في إسلامه
، حتى ولو راجع الإسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام ، وإن مات قبل
العودة إلى الإسلام فهو قطعا في الآخرة من الخاسرين بإلقائهم في نار جهنم خالدين
فيها أبدا.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ مشروعية سؤال
من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.
٢ ـ حلية الصيد إن
توفرت شروطه وهي أن يكون الجارح معلما وأن يذكر اسم الله تعالى عند
__________________
إرساله وأن لا
يأكل منه الجارح ، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتا فلم يذك.
٣ ـ إباحة طعام
وذبائح أهل الكتاب.
٤ ـ إباحة نكاح
الكتابيات بشرط أن تكون حرة عفيفة وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي
والشهود والمهر والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل زوجني فلانه فيقول
له قد زوجتكها.
٥ ـ حرمة نكاح
المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة.
٦ ـ المعاصي قد
تقود إلى الكفر.
٧ ـ المرتد عن
الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل
العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ
عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (٦)
__________________
وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))
شرح الكلمات :
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون أي على غير وضوء.
(فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ) : أي بعد غسل الكفين ثلاثا والمضمضة والاستنشاق والاستنثار
ثلاثا ثلاثا لبيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك.
(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) : أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف
ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين ، وذلك إن لبسه بعد
وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيما ، أو ثلاثة أيام إن كان
مسافرا بهذا جاءت السنة.
(وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً) : الجنب من قامت به جنابة وهي شيئآن : غياب رأس الذكر في
الفرج ، وخروج المنى بلذة في نوم أو يقظة.
(فَاطَّهَّرُوا) : يعني فاغتسلوا ، والغسل هو غسل سائر الجسد بالماء.
(الْغائِطِ) : كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو
ضراط ، أو بول أو مذى.
(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) : ملامسة النساء كناية عن الجماع ، كما أن من لامس امرأة
ليتلذذ بها
__________________
أو لا مسها لغير
قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة لذا
قال الرسول صلىاللهعليهوسلم «من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ».
(فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً) : اقصدوا ترابا أو حجرا أو رملا أو سبخة مما صعد على وجه
الأرض.
الحرج
: المشقة والعسر
والضيق.
(مِيثاقَهُ) : أي مثياق الله تعالى وهو عهده المؤكد والمراد به هنا :
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إذ بها وجب الالتزام بسائر
التكاليف الشرعية.
معنى الآيتين :
نادى الرب تعالى
عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة
وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلي يناجي ربه ، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء ، والكبرى
وهي الغسل ، وبين لهم ما ينوب عنهما إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا
عن استعماله وهو التيمم فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وحدّ الوجه طولا من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى
الذقن أسفل الوجه وحده عرضا من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين فيدخل في
الغسل المرفقان (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) واللفظ محتمل للكل والبعض والسنة بينت أن الماسح يقبل
بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه وهو أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه ، كما بينت
السنة مسح الأذنين ظاهرا وباطنا بعد مسح الرأس (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان النائتان عند
بداية الساق ، وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين ، كما بينت غسل الكفين
والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ، وكون
__________________
الغسل ثلاثا ثلاثا
على وجه الاستحباب ، وقول بسم الله عند الشروع أي البدء في الوضوء.
كما بينت السنة
وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول ، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن
بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية
حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء.
وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أي وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع
زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل أي لم يخرج منه المنىّ فقد أجنب كما أن من
احتلم فخرج منه منىّ فقد أجنب بل كلّ من خرج منه منىّ بلذة في نوم أو يقظة فقد
أجنب وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ، وقوله (فَاطَّهَّرُوا) يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي أن ينوي
المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلا بسم الله ويغسل فرجيه وما حولهما ،
ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف ، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه ، ثم يغسل رأسه
ثلاث مرات ، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله ، ثم
الأيسر ، ويتعاهد الأماكن التي قد ينبو عنها الماء فلا يمسها كالسرة وتحت الإبطين
، والرفقين وهما أصل الفخذين ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب
الانتقال منه إلى التيمم فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على
التحرك ، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض
بمس الماء ، وقوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من
الوضوء إلى التيمم ، وقوله عزوجل : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ).
__________________
ذكر في الجملة
الأولى نواقض الوضوء إجمالا وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي
كنى عنه بقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وهو مكان التغوط والتبول وذكر موجب الغسل وهو الجماع وكنىّ
عنه بالملامسة تعليما لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم ، وقوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا ،
اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيدا طيبا يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها
كالتراب والرمل والسبخة والحجارة وقوله : (طَيِّباً) يريد به طاهرا من النجاسة والقذر ، وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) بين فيه كيفية التيمم ، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر
وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه
ظاهرا وباطنا مرة واحدة وقوله تعالى : (مِنْهُ) أي من ذلك الصعيد وبهذا بين تعالى كيفية التيمم وهي التي
علمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء
والكبرى وهي الغسل ، وما ينوب عنهما عند العجز وهو التيمم ، ما يريد بذلك إيقاعنا
في الضيق والعنت ، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب ، لأن الوضوء
كفارة لذنب المتوضىء كما جاء بيانه في السنة وهو قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك
لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة وهو معنى
قوله (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ).
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٦) أما الآية الأخيرة (٧) وهي قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ،
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم
بهدايتهم إلى الإيمان ليشكروه بالإسلام ، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به وهو
العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم عند ما تعهد أن لا إله إلا الله وأن
__________________
محمدا رسول الله.
وأما قوله : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا
وَأَطَعْنا) قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وقد قالها كل مسلم
بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة. وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة
وعبادة وقضاء وأدبا وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه
في السر والعلن وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم
فله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ الأمر
بالطهارة و بيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل ، وكيفية التيمم .
٢ ـ بيان الأعذار
الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
٣ ـ بيان موجبات
الوضوء والغسل.
٤ ـ الشكر هو علة
الإنعام.
٥ ـ ذكر العهود
يساعد على التزامها والمحافظة عليها.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
__________________
الْجَحِيمِ
(١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))
شرح الكلمات :
(قَوَّامِينَ لِلَّهِ) : جمع قوام وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له
تعالى ، وبحقوق الغير أيضا لا يفرط في شيء من ذلك.
(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) : جمع شهيد بمعنى شاهد والقسط العدل.
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) : أي لا يحملنكم.
(شَنَآنُ) : بغض وعداوة.
العدل
: خلاف الجور ، وهو
المساواة بلا حيف ولا جور.
(هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى) : أي العدل أقرب للتقوى من الجور.
(هَمَّ قَوْمٌ) : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني
النضير.
(يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : أي ليقتلوا نبيكم صلىاللهعليهوسلم.
(فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ) : لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صلىاللهعليهوسلم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي الآية (٨) أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين
لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات ، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا
يجورون في شيء سواء كان المشهود عليه وليا أو عدوا ، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو
عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به ، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم
أقرب الناس إلى التقوى ، لأن من كانت ملكة العدل
__________________
صفة له كان أقدر
على أداء الحقوق والواجبات ، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات ثم أمرهم بالتقوى
مؤكدا شأنها لأنها ملاك الأمر ، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة
الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معا هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨)
أما الآية (٩) فقد تضمنت بشرى سارة لهم وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات
بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة ، وقلت بشرى سارة لهم ، لأنهم هم
أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وارضاهم ، أما الآية الثالثة (١٠) فقد
تضمنت وعيدا شديدا للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم
بها ، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا
بذلك أصحاب الجحيم الذين لا يفارقونها أبدا ، وأما الآية الرابعة (١١) فقد
ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه ، هي نجاة نبيهم محمد صلىاللهعليهوسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه
الآية ما خلاصته :
أن أولياء
العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما جاءوا يطالبون
بدية قتيليهم فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي
الله عنهم أجمعين خرجوا إلى بني النظير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب
عقد المعاهدة إذ من جملة موادها تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه
الحالة المالية فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكانا لائقا تحت جدار منزل من
منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود ، وقد خلوا ببعضهم وتآمروا على قتله صلىاللهعليهوسلم وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبدا وأمروا أحدهم أن يطلق
من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلىاللهعليهوسلم فتقتله ، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى
رسوله بالمآمرة الدنيئة فقام صلىاللهعليهوسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود
واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلاءهم من المدينة ، وقصتهم في سورة الحشر
، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ
__________________
آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ) أي بالقتل للنبي صلىاللهعليهوسلم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم
يظفروا بما أرادوا وهو معنى (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).
ثم أمر الله تعالى
المؤمنين بتقواه إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر
رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب القيام
بحق الله تعالى على العبد وهو ذكره وشكره بطاعته.
٢ ـ وجوب العدل في
الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.
٣ ـ تأكيد الأمر
بتقوى الله عزوجل.
٤ ـ الترغيب
والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين (٩) و (١٠).
٥ ـ وجوب ذكر
النعمة حتى يؤدى شكرها.
٦ ـ وجوب التوكل
على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.
(وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً
وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ
__________________
جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))
شرح الكلمات :
الميثاق
: العهد المؤكد
بالأيمان.
بنو
إسرائيل : اليهود.
(نَقِيباً) : نقيب القوم : من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
(وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) : أي نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
(وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ) : أي أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم
في سبيله.
(لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : أسترها ولم أو آخذكم بها.
(فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) : أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب
والنجاة من المرهوب.
معنى الآية
الكريمة :
لما طالب تعالى
المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني
إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة
للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم
غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صلىاللهعليهوسلم فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو قوله إني معكم الأتي ، (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ..) أي من كل قبيلة من قبائلهم الاثني عشرة قبيلة نقيبا يرعاهم
ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم ، وهم الذين بعثهم موسى عليه
__________________
السّلام إلى
فلسطين ليتعرفوا على أحوال الكنعانيين قبل قتالهم. وقال الله تعالى (إِنِّي مَعَكُمْ) وهذا بند الميثاق (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ) أي وعزتي وجلالي (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) صدقتموهم فيما جاءوكم به (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) بنصرتهم وتعظيمهم ، (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإنفاق وفي تزكية
النفس بالإيمان وصالح الأعمال (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) بعد ذلك التطهير (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) هذا جزاء الوفاء بالميثاق (فَمَنْ كَفَرَ) فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) أي أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، أي خرج عن الطريق
المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة.
هداية الآية
من
هداية الآية
١ ـ الحث على
الوفاء بالالتزامات الشرعية.
٢ ـ إبطال استغراب
واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.
٣ ـ إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله بها من قبل هذه الأمة.
٤ ـ وجوب تعظيم الرسول صلىاللهعليهوسلم ونصرته في أمته ودينه.
__________________
(فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ
عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى
أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))
شرح الكلمات :
نقض
الميثاق : حله بعدم
الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
(لَعَنَّاهُمْ) : طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال.
(يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) : يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة ، والكلم من
الكلام.
(وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا) : تركوا قسطا كبيرا مما ذكرهم الله تعالى به أي أمرهم به
في كتابهم.
(خائِنَةٍ) : خيانة أو طائفة خائنة منهم.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ) : أي لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسنا إليهم بذلك.
(إِنَّا نَصارى) : أي ابتدعوا بدعة النصرانية فقالوا إنا نصارى.
(فَأَغْرَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) : الإغراء : التحريش والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة
والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبدا.
معنى الآيتين :
ما زال السياق
الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة
(١٣) أن اليهود
الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليهالسلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين
ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثني عشر نقيبا قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم ،
وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) أي فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في
التوراة ويطيعوا رسولهم (لَعَنَّاهُمْ) أي أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسّلام (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) شديدة غليظة لا ترق لموعظة ، ولا تلين لقبول هدى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) فيقدمون ويأخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق
أهواءهم ، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلّى الله
عليهما وسلم في التوراة (وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وتركوا كثيرا مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين
عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها ، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر
والنقض والخيانة ، ولا تزال يا رسولنا (تَطَّلِعُ عَلى
خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فإنهم لا يخونون كعبد الله بن سلام وغيره ، وبناء على هذا (فَاعْفُ) (عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم بالقتل ، (وَاصْفَحْ) عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (١٣) أما الآية الثانية (١٤) في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن
النصارى وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيرا عنهم فقد أخذنا
ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيرا مما أخذ عليهم
العهد والميثاق فيه ، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة
لرأيها فثارت
__________________
بينهم الخصومات
وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم
الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق
لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ حرمة نقض
المواثيق ونكث العهود ولا سيما ما كان بين العبد وربه.
٢ ـ الخيانة وصف
لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.
٣ ـ استحباب العفو
عند القدرة ، وهو من خلال الصالحين.
٤ ـ حال النصارى لا تختلف كثيرا عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد.
وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر فهم في عداوة الإسلام والحرب عليه
متعاونون متواصون.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ
مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِينٌ (١٥))
شرح الكلمات :
(أَهْلَ الْكِتابِ) : هنا هم اليهود والنصارى معا.
__________________
(قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) : محمد صلىاللهعليهوسلم.
(تُخْفُونَ مِنَ
الْكِتابِ) : الكتاب التوراة والإنجيل ، وما يخفونه صفات النبي محمد صلىاللهعليهوسلم وبعض الأحكام ، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة كالرجم
مثلا.
(وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
(نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِينٌ) : النور محمد صلىاللهعليهوسلم ، والكتاب القرآن الكريم.
(إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) : الإسلام وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به. والمستقيم
الذي لا اعوجاج فيه.
معنى الآيتين :
ما زال السياق في
أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم وهو ربهم وأرحم
بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإيمان برسوله وكتابه ذلك
الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزى والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقي ،
فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) أي محمد صلىاللهعليهوسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) بوحينا (كَثِيراً) من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق
جحدتموه وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس ، وكحكم الرجم في
التوراة وما إلى ذلك. (وَيَعْفُوا) يترك كثيرا لم يذكر لعدم الداعى إلى ذكره يا أهل الكتاب (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ) ربكم (نُورٌ) هو رسولنا محمد صلىاللهعليهوسلم (وَكِتابٌ مُبِينٌ) وهو القرآن إذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما
تتوقف سعادة الإنسان وكماله عليه دنيا وأخرى (يَهْدِي بِهِ اللهُ) تعالى (مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عزوجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه
به (سُبُلَ السَّلامِ) أي طرق السعادة والكمال ، (وَيُخْرِجُهُمْ) أي المتبعين رضوان الله (مِنَ الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الكفر والشرك والشك ، إلى نور الإيمان الصحيح
والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم أي
أولئك الراغبين حقا في رضا الله (يَهْدِيهِمْ إِلى
صِراطٍ
__________________
مُسْتَقِيمٍ) لا يضلون معه ولا يشقون أبدا وهو دينه الحق الإسلام الذي
لا يقبل دينا غيره ، والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ نصح الله
تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السّلام بالدخول في الإسلام.
٢ ـ بيان جحود
اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكرا وحسدا حتى
لا يؤمن الناس بالإسلام ويدخلوا فيه.
٣ ـ اتباع السنة
المحمدية يهدي صاحبه الى سعادته وكماله.
٤ ـ القرآن حجة
على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.
٥ ـ طالب رضا الله بصدق يفوز بكل خير وينجو من كل ضير.
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ
الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
__________________
رَسُولُنا
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))
شرح الكلمات :
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ) : لأنهم جحدوا الحق وقالوا كذبا الله هو المسيح بن مريم.
(الْمَسِيحُ) : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليهالسلام.
(مَرْيَمَ) : بنت عمران من صلحاء بني إسرائيل والدة عيسى عليهالسلام.
(يُهْلِكَ) : يميت ويبيد.
(قَدِيرٌ) : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.
الأحباء
: واحده حبيب كما
أن الأبناء واحده ابن.
(عَلى فَتْرَةٍ) : الفترة زمن انقطاع الوحى لعدم إرسال الله تعالى رسولا.
(بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) : البشير : المبشر بالخير ، والنذير : المنذر من الشر وهو
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحديث عن أهل الكتاب ففي الآية الأولى (١٧) أخبر تعالى مؤكدا الخبر
بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم فقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ) ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوق المربوب هو الله الخالق
الرب لكل شيء وهو كفر من أقبح أنواع الكفر ، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى
فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها
يؤاخذون به ، لأن الرضا بالكفر كفر.
__________________
وقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) يعلم رسوله كيف يحتج على أهل هذا الباطل فيقول له : قل لهم
فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهماالسلام (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) والجواب قطعا لا أحد ، إذا فكيف يكون عبد الله هو الله أو
إلها مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه
له (مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) خلقا وتصرفا ، وأنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) خلقه بلا حجر عليه ولا حظر وهو على كل شيء قدير خلق آدم من
تراب بلا أب ولا أم ، وخلق حواء من آدم ، وخلق عيسى من مريم بلا أب ، ويخلق ما
يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليهالسلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلا ولا شرعا أن يكون هو
الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة مع الله كما هي عقيدة أكثر النصارى ، والعجب
من إصرارهم على هذا الباطل ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (١٨)
فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معا وهو دعواهم أنهم (أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إذ قال تعالى عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وهو تبجح وسفه وضلال فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم
بقوله : قل لهم يا رسولنا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ) فهل الأب يعذب أبناءه والحبيب يعذب محبيه ، وأنتم تقولون
نعذب في النار أربعين يوما بسبب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوما كما جاء
ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) والحقيقة أن هذا القول منكم من حملة الترهات والأباطيل
التي تعيشون عليها ، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة
مخلوق إلى خالق وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحا غفر له وأكرمه ، ومن كفر
منكم وعمل سوء عذبه كما هي سنته في سائر عباده ، ولا اعتراض عليه فإن له ملك
السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه ، واليه المصير فسوف ترجعون إليه
ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.
هذا ما دلت عليه الآية
الثانية أما الآية الثالثة (١٩) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل
__________________
الكتاب فقد ناداهم
الرب تبارك وتعالى بقوله يا أهل الكتاب وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من الرسل إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى
على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن
شرككم وكفركم وشركم وفسادكم : (ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) فها هو ذا البشير محمد صلىاللهعليهوسلم قد جاءكم فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا ، وإلا فالعذاب لازم لكم
والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كفر من ينسب
إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.
٢ ـ بطلان دعوى
اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.
٣ ـ نسبة
المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم
فيها بما يريد.
٤ ـ قطع عذر أهل
الكتاب بإرسال الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم على حين فترة من الرسل.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ
__________________
فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ
(٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى
اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣))
شرح الكلمات :
(نِعْمَتَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) : منها نجاتهم من فرعون وملائه.
(إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ) : منهم موسى وهرون عليهماالسلام.
(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) : أي مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.
(الْعالَمِينَ) : المعاصرين لهم والسابقين لهم.
(الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ) : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد
الكفار منها.
(وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ) : أي ترجعوا منهزمين إلى الوراء.
(قَوْماً جَبَّارِينَ) : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من
شاءوا.
(يَخافُونَ) : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.
(أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) : أي بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا
أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها ، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر.
معنى الآيات :
ما زال السياق مع
أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ قال الله تعالى لرسوله محمد
__________________
صلىاللهعليهوسلم واذكر (إِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ) كموسى وهرون عليهماالسلام (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عزوجل
(يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) للسّكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا
العدو فإنكم تغلبون (وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ) أي ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين ،
لا أمر الله بالجهاد أطعتم ، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم ، واسمع يا رسولنا
جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك ، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا
خير فيهم ، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليهالسلام : (يا مُوسى إِنَّ فِيها
قَوْماً جَبَّارِينَ) (وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)!! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار
مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول اللهم إلا
اثنين منهم وهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوحنا وهما اللذان قال تعالى عنهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي أمر الله تعالى (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) فعصمهما من إفشاء سر ما رأو من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليهالسلام قالا للقوم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
الْبابَ) أي باب المدينة (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) وذلك لعنصر المباغتة وهو عنصر مهم في الحروب ، (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه
البلاد والعيش بها ، لأنها أرض القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع ، وسنسمع رد
اليهود على الرجلين في الآيات التالية.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم.
٢ ـ فضح اليهود
بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.
٣ ـ بيان الأثر
السيء الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة ، وقد استعملت ألمانيا
النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحا كبيرا حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جدا.
٤ ـ بيان سنة الله
تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.
٥ ـ فائدة عنصر
المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.
(قالُوا يا مُوسى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ
نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))
شرح الكلمات :
(لَنْ نَدْخُلَها) : أي المدينة التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها.
(الْفاسِقِينَ) : أي عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبنا وخوفا.
(مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِمْ) : أي تحريما كونيا قضائيا لا شرعيا تعبديا.
(يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ) : أي في أرض سينا متحيرين فيها لا يدرون أين يذهبون مدة
أربعين سنة.
(فَلا تَأْسَ) : أي لا تحزن ولا تأسف.
__________________
معنى الآيات :
هذا هو جواب القوم
على طلب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو ، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء
وخسة : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها ..) أي المدينة (... أَبَداً ما
دامُوا فِيها ..) أي ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم يدافعوا ، (.. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا ..) أهل المدينة أما نحن فهاهنا قاعدون. أي تمرد وعصيان أكثر
من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئا
من القوم الفاسقين : رب أي يا رب (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا
نَفْسِي وَأَخِي ..) يريد هارون (.. فَافْرُقْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) فطلب بهذا البراءة منهم ومن صنيعهم ، إذ قد استوجبوا العذاب قطعا ، فأجابه
ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة (٢٦) (فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ..) أي الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلا ما دخلوها
إلا بعد مضي الفترة المذكورة (أربعين سنة) وكيف كانوا فيها؟ يتيهون في أرض سينا متحيرين في سيرهم لا يدرون أين يذهبون ولا من
أين يأتون ، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين إذ هذا جزاؤهم
من العذاب عجّل لهم فليذوقوه!!.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان جبن
اليهود ، وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.
٢ ـ وجوب البراءة
من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.
٣ ـ حرمة الحزن
والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم
لأنفسهم ولغيرهم.
__________________
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ
فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))
شرح الكلمات :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) : وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك.
(نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) : خبر ابني آدم هابيل وقابيل.
(قُرْباناً) : القربان ما يتقرب به الى الله تعالى كالصلاة والصدقات.
(بَسَطْتَ إِلَيَّ
يَدَكَ) : مددت إلّي يدك.
(أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك في
معاصيك.
(فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ) : شجعته على القتل وزينته له حتى فعله.
(غُراباً) : طائرا أسود معروف يضرب به المثل في السواد.
__________________
(يُوارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ) : يستر بالتراب جسد أخيه ، وقيل فيه سوءة ، لأن النظر إلى
الميت تكرهه النفوس ، والسوءة : ما يكره النظر إليها.
معنى الآيات :
ما زال السياق
القراني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه فالله تعالى يقول لرسوله واقرأ عليهم قصة ابني آدم
هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به ، توبيخا لهم ، وإظهارا
لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم ، وكنت معهم كخير
ابني آدم ، (.. إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً ..) ، أي قرب كل منهما قربانا لله تعالى فتقبل الله قربان أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة ، (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل لأنه كان من أردأ ماله ، ونفسه به متعلقة ، فقال
لأخيه هابيل لأقتلنك حسدا له ـ كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك ـ
فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عايد إلى نفسك لا إلى غيرك إنما يتقبل الله من
المتقين للشرك فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا
يتقبل إلا ما كان خالصا له ، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك ، فلم يتقبل منك. ووالله
قسما به (لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ، وعلل ذلك بقوله : (.. إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، أي أن ألقاه بدم أرقته ظلما. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا
أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي
، وإثمك الذي قارفته في حياتك كلها ، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها
الذين لا يفارقونها أبدا قال تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ ، فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أي شجعته عليه وزينته له فقتله (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به
__________________
فكان يحمله على
عاتقه ويمشي به حتى عفن ، وعندئذ بعث الله غرابا يبحث في الأرض أي ينبش الأرض
برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه : أي بعث الله الغراب ليريه
كيف يواري أي يستر سوءة أخيه أي جيفته ، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه
الغراب الميت قال متندما متحسرا يا ويلتا أي يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك ، ثم
وبخ نفسه قائلا : (أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) ، كما وارى الغراب سوءة أخيه ، وأصبح من النادمين على حمله
أو على قتله وعدم دفنه ومجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمدا لا تنجيه
من النار.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
التقرب الى الله تعالى بما يحب أن يتقرب به إليه تعالى.
٢ ـ عظم جريمة
الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة.
٣ ـ قبول الأعمال
الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى.
٤ ـ بيان أول من
سن جريمة القتل وهو قابيل ولذا ورد : ما من نفس تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن
آدم الأول كفل «نصيب» ذلك بأنه أول من سن القتل.
٥ ـ مشروعية الدفن
وبيان زمنه.
٦ ـ خير ابني آدم
المقتول ظلما وشرهما القاتل ظلما.
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ
__________________
جَمِيعاً
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))
شرح الكلمات :
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) : أي بسبب ذلك القتل
(كَتَبْنا) : أوحينا.
(أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ) : بحربه لله ورسوله والمؤمنين.
(وَمَنْ أَحْياها) : قدر على قتلها وهي مستوجبة له فتركها.
(بِالْبَيِّناتِ) : الآيات الواضحات حاملة للشرائع والدلائل.
(لَمُسْرِفُونَ) : مكثرون من المعاصي والذنوب.
معنى الآية
الكريمة :
يقول تعالى : إنه
من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها أوجبنا على
بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء فقد قتلوا الأنبياء والآمرين
بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل فقد قتلوا رسولين زكريا ويحيى وهموا
بقتل كل من المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم من أجل ذلك شددنا عليهم في العقوبة إذ من قتل منهم نفسا بغير نفس أي ظلما
وعدوانا ، أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين
فكأنما قتل الناس جميعا بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعا يوم القيامة ومن أحياها
بأن استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها فكأنما أحيا الناس جميعا يعني يعطى أجر من أحيا الناس جميعا كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيرا
__________________
لهم من القتل الذي
أصروا عليه ، وترغيبا لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه وقوله تعالى
: (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) يخبر تعالى عن حالهم مسليا رسوله محمدا عما يحمله من همّ
منهم وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لازم اليهود والفساد الذي أصبح وصفا
لازما لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة
منهم لا أبدا بل جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والشرائع القويمة والآداب الرفيعة
ولكنهم قوم بهت متمردون على الشرائع مسرفون في الشر والفساد ولذا فإن كثيرا منهم
والله لمسرفون في الشر والفساد ، وبنهاية هذه الآية ومن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ..) وهي الآية (١١) انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة
همهم بقتل الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وقد ذكر تسلية لرسول الله وأصحابه ، كما هو تسلية
لكل مؤمن يتعرض لمكر اليهود عليهم لعائن الله.
هداية الآية
من
هداية الآية :
١ ـ تأديب الرب
تعالى لبني إسرائيل ومع الأسف لم ينتفعوا به.
٢ ـ فساد بني إسرائيل
لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم بل كان اتباعا للأهواء وجريا وراء عارض الدنيا. فلذا
غضب الله عليهم ولعنهم لأنهم عالمون.
٣ ـ بالرغم من
تضعيف جزاء الجريمة على اليهود ، ومضاعفة أجر الحسنة لهم فإنهم أكثر الناس اسرافا
في الشر والفساد في الأرض.
(إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
__________________
وَأَرْجُلُهُمْ
مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))
شرح الكلمات :
(يُحارِبُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم
وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
(وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على
أعراضهم.
(أَوْ يُصَلَّبُوا) : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون ، أو بعد أن يقتلوا.
(مِنْ خِلافٍ) : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس.
(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ) : أي من أرض الإسلام.
(خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) : ذل ومهانة.
(عَذابٌ عَظِيمٌ) : عذاب جهنم.
(أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ) : أي تتمكنوا منهم بأن فروا بعيدا ثم جاءوا مسلمين.
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى ما
أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسرأ لحدة
جرءتهم على القتل والفساد ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في
ديارهم فقال تعالى : (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ) بالكفر بعد الإيمان
__________________
والقتل والسلب بعد
الأمان ، (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) بتخويف المسلمين ، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم ، والاعتداء
على حرماتهم وأعراضهم ، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ومعنى يقتلوا : يقتلون واحدا بعد واحد نكاية لهم وإرهابا
وتعزيرا لغيرهم ، ومعنى يصلبوا بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة
أيام ومعنى ينفوا من الأرض يخرجوا من دار الإسلام ، أو الى مكان ناء كجزيرة في بحر
أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وأذاهم ، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزيا وذلا
لهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار ، وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فهذا استثناء متصل من أولئك المحاربين بأن من عجزنا عنه
فلم نتمكن من القبض عليه ، وبعد فترة جاءنا تائبا فإن حكمه يختلف عمن قبله ، وقوله
تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه ، وذلك فإن كان
كافرا وأسلم فإن الإسلام يجب ما قبله فيسقط عنه كل ما ذكر في الآية من عقوبات ..
وإن كان مسلما فيسقط الصلب ويجب عليه ، رد المال الذي أخذه إن بقي في يده ، وإن
قتل أو فجر وطالب بإقامة الحد عليه أقيم عليه الحد ، وإلا ترك لله والله غفور
رحيم.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان حكم
الحرابة وحقيقتها : خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح
ولهم شوكة ، خروجهم إلى الصحراء بعيدا عن المدن والقرى ، يشنون هجمات على المسلمين
فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض ، هذه هي الحرابة وأهلها يقال لهم المحاربون
وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية الأولى (٣٣).
__________________
٢ ـ الإمام مخير
في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن ، إن قلنا أو في الآية للتخيير ، وإلا فمن
قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب ، ومن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن قتل وأخذ
مالا قطعت يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، ومن لم
يقتل ولم يأخذ مالا ينفى .
٣ ـ من تاب من
المحاربين قبل التمكن منه يعفا عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذويه
أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.
٤ ـ عظم عفو الله
ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ
عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ
عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))
شرح الكلمات :
(اتَّقُوا اللهَ) : خافوا عذابه فامتثلوا أمره وأمر رسوله واجتنبوا نهيهما.
(وَابْتَغُوا) : إطلبوا.
__________________
(الْوَسِيلَةَ) : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب منه.
(وَجاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ) : أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعلم ، وأعداءه
بدعوتهم إلى الإسلام وقتالهم على ذلك.
(تُفْلِحُونَ) : تنجون من النار وتدخلون الجنة.
(عَذابٌ مُقِيمٌ) : دائم لا يبرح ولا يزول.
معنى الآيتين :
ينادي الرب تبارك
وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من العذاب
فيجتنبوه ، وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ومعنى اتقوا الله خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره وأوامر
رسوله واجتناب نواهيهما فإن عذاب الله لا يتقى إلا بالتقوى. ومعنى (ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اطلبوا إليه القربة ، أي تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما
يكره تفوزوا بالقرب منه. ومعنى (جاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ) جاهدوا أنفسكم في طاعته والشيطان في معصيته ، والكفار في
الإسلام إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة. هذا ما دلت
عليه الآية الأولى (٣٥) أما الآية الثانية (٣٦) وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ..) الخ فإنها علة لما دعت إليه الآية الأولى من الأمر بالتقوى
وطلب القرب من الله تعالى وذلك بالإيمان وصالح الأعمال ، لأن العذاب الذي أمروا
باتقائه بالتقوى عذاب لا يطاق أبدا ناهيكم أن الذين كفروا (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من مال صامت وناطق (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وقبل منهم
__________________
فداء لأنفسهم من
ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم ، إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد الألم
إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار (وَما هُمْ بِخارِجِينَ
مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم لا يبرح ولا يزول.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب تقوى
الله عزوجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله.
٢ ـ مشروعية
التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
٣ ـ عظم عذاب يوم
القيامة وشدته غير المتناهية.
٤ ـ لا فدية يوم
القيامة ولا شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار.
٥ ـ حسن التعليل
للأمر والنهي بما يشجع على الامتثال والترك.
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))
شرح الكلمات :
(السَّارِقُ) : الذي أخذ مالا من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
(السَّارِقَةُ) : التي أخذت مالا من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
__________________
(فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما) : أي اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
(نَكالاً) : عقوبة من الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
(عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : عزيز : غالب لا يحال بينه وبين مراده ، حكيم : في تدبيره
وقضائه.
(بَعْدِ ظُلْمِهِ) : بعد ظلمه لنفسه بمعصية الله تعالى بأخذ أموال الناس.
(وَأَصْلَحَ) : أي نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح.
(فَإِنَّ اللهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ) : أي يقبل توبته ، ويغفر له ويرحمه إن شاء.
(لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خلقا وملكا وتدبيرا.
(يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) : أي تعذيبه لأنه مات عاصيا لأمره كافرا بحقه.
(وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) : ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه وتعالى.
معنى الآيات :
يخبر تعالى مقررا
حكما من أحكام شرعه وهو أن الذي يسرق مالا يقدر بربع دينار فأكثر
من حرز مثله خفية وهو عاقل بالغ ، ورفع إلى الحاكم ، والسارقة
كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع وكذا يد السارقة مجازاة لهما على
ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما ، (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ
أموال الناس بطريق السرقة المحرمة ، (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه. هذا معنى قوله تعالى :
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا) من الإثم (نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٣٩) (فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي تاب من السرقة بعد
__________________
أن ظلم نفسه بذلك (وَأَصْلَحَ) نفسه بالتوبة ومن ذلك رد المال المسروق (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ، وقوله تعالى في
الآية الثالثة (٤٠) (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يخاطب تعالى رسوله وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله
تعالى فيقول مقررا المخاطب (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والجواب بلى ، وإذا فالحكم له تعالى لا ينازع فيه فلذا هو
يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح. وهو على كل شيء
قدير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان حكم حد
السرقة وهو قطع يد السارق والسارقة.
٢ ـ بيان أن
التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه أي يقبل توبته.
٣ ـ إذا لم يرفع
السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده ، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع
فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
٤ ـ وجوب التسليم
لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم.
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
__________________
وَمَنْ
يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))
شرح الكلمات :
(لا يَحْزُنْكَ) : الحزن ألم نفس يسببه خوف فوات محبوب.
(يُسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ) : بمعنى يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر
أظهروه.
(قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ) : هؤلاء هم المنافقون.
(وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا) : أي اليهود.
(سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) : أي كثيرو الاستماع للكذب.
(يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) : يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم.
إذا
أوتيتم هذا : أي أعطيتم.
(فِتْنَتَهُ) : أي ضلاله لما سبق له من موجبات الضلال
(أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ) : من الكفر والنفاق.
(خِزْيٌ) : ذل.
(أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ) : كثيروا الأكل للحرام كالرشوة والربا.
(أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ) : أي لا تحكم بينهم.
(بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل.
(وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) : أي صدقا وحقا وإن ادعوه نطقا.
معنى الآيات :
قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ..) إلى قوله (.. عَذابٌ عَظِيمٌ) في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وتخفيفا مما كان يجده صلىاللهعليهوسلم من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود
فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها المنافقون واليهود معا : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الحق ، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه : (لا يَحْزُنْكَ) حال الذين (يُسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ) بتكذيبك فإنهم ما خرجوا من الكفر بل هم فيه منغمسون فإذا
سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزنا في نفسك. (مِنَ الَّذِينَ قالُوا
آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون
رسالتك ، (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) سماعون ليهود آخرين لم يأتوك كيهود خيبر وفدك أي كثيروا
السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهل قوم آخرين
ينقلون إليهم أخبارك كوسائط وهم لم يأتوك وهم يهود خيبر إذ أو عزوا إليهم أن
يسألوا لهم النبي صلىاللهعليهوسلم عن حد الزنى (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) ، أي يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام ، يقولون لهم إن
أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم
فاحذروا قبول ذلك. هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وقال تعالى لرسوله ، (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
__________________
فِتْنَتَهُ) أي إضلاله عن الحق لما اقترف من عظائم الذنوب وكبائر
الآثام (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) إذا أراد الله إضلاله إذا فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر ، (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت
دون قبول الإيمان والحق ، (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) أي ذل وعار ، (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) جزاء كفرهم وبغيهم. هذا ما دلت عليه الآية (٤١) أما الآية
الثانية (٤٢) فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافا إليه كثرة
أكلهم للسحت وهو المال الحرام أشد حرمة كالرشوة والربا ، فقال تعالى عنهم (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (فَإِنْ جاؤُكَ ..) أي للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بينهم بحكم الله. أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن
تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئا أي من الضرر ولو قل ، لأن الله تعالى وليك
وناصرك ، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي بالعدل ، لأن الله تبارك وتعالى
يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين ، وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٣)
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ). أي إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة
، وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتّباعا لأهوائهم ، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحباب ترك
الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
٢ ـ حرمة سماع
الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
٣ ـ حرمة تحريف
الكلام وتشويهه للإفساد.
__________________
٤ ـ الحاكم المسلم
مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.
٥ ـ وجوب العدل في
الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.
٦ ـ تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا
عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ
__________________
أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))
شرح الكلمات :
(التَّوْراةَ) : كتاب موسى عليهالسلام.
(هُدىً وَنُورٌ) : الهدى : ما يوصل إلى المقصود والنور : ما يهدى السائر
إلى غرضه.
(هادُوا) : اليهود.
(الرَّبَّانِيُّونَ) : جمع رباني : العالم المربي الحكيم.
(الْأَحْبارُ) : جمع حبر : العالم من أهل الكتاب.
(وَكَتَبْنا) : فرضنا عليهم وأوجبنا.
(قِصاصٌ) : مساواة.
(وَقَفَّيْنا) : أتبعناهم بعيسى بن مريم.
(الْفاسِقُونَ) : الخارجون عن طاعة الله ورسله.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحديث على بني إسرائيل إذ قال تعالى مخبرا عما آتى بني إسرائيل (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها
هُدىً وَنُورٌ) هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مخرج من ظلمات الجهل (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) من بني إسرائيل (النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا) لله قلوبهم ووجوههم فانقادوا لله ظاهرا وباطنا ، (لِلَّذِينَ هادُوا) ، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم والحكمة من بني
اسرائيل (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم كتابه التوراة فلا يبدلونه
ولا يغيرون فيه ، (وَكانُوا عَلَيْهِ
شُهَداءَ) بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود
فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلىاللهعليهوسلم والأمر بالإيمان به ، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة
ولا تخشوا
__________________
الناس في ذلك
واخشوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى ، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه
فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله
وكتابه. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فكيف ترضون بالكفر بدل الأيمان.
هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٤٤) أما الآية الثانية (٤٥) (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..) فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود
في النفس والقصاص في الجراحات فالنفس تقتل بالنفس ، العين تفقأ بالعين والأنف يجدع بالأنف ، والأذن تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت بالسن ، وتقلع به إن قلع ، والجروح بمثلها قصاص ومساواة وأخبر تعالى أن من تصدق على الجاني
بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه ، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته
بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائبا أي نادما على فعله مستغفرا ربه. وقوله تعالى
في ختام الآية : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أوفقأ
بالعين عينين كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم. هذا ما دلت
عليه الآية الثانية أما الثالثة (٤٦) وهي قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) فقد أخبر تعالى أنه أتبع أولئك الأنبياء السابقين من بني
إسرائيل عيسى بن مريم عليهالسلام أي أرسله بعدهم مباشرة (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) لم ينكرها أو يتجاهلها ، (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ) ، أي وأعطيناه الإنجيل وحيا أوحيناه إليه وهو كتاب مقدس
أنزله الله تعالى عليه فيه أي في الإنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من
الحلال
__________________
والحرام ، (وَمُصَدِّقاً) أي الإنجيل لما قبله من التوراة أي مقررا أحكامها مثبتا
لها إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإنجيل ، (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) أي يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم
الى الله تعالى والموعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة. هذا ما دلت عليه الآية
الثالثة أما الآية (٤٧) وهى قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل يريد وأمرنا أهل الإنجيل أن
يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ، وأخبرناهم أن من (لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلما وكفرا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب خشية
الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.
٢ ـ كفر من جحد
أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.
٣ ـ وجوب القود في النفس والقصاص في الجراحات لأن ما كتب على بني
إسرائيل كتب على هذه الأمة.
٤ ـ من الظلم أن
يعتدى في القصاص بأن يقتل بالواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين
الواحدة عينان مثلا وهو كفر مع الاستحلال وظلم في نفس الوقت.
٥ ـ مشروعية
القصاص في الإنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم
مؤمنون بها.
(وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما
__________________
آتاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما
أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ
(٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))
شرح الكلمات :
(الْكِتابَ) : القرآن الكريم.
(مِنَ الْكِتابِ) : اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله كالتوراة والإنجيل.
(مُهَيْمِناً عَلَيْهِ) : حاكما عليه أي محققا للحق الذي فيه ، مبطلا للباطل الذي
التصق به.
(شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) : شريعة تعملون بها وسبيلا تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من
سنن الهدى.
(أُمَّةً واحِدَةً) : لا اختلاف بينكم في عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء.
(فَاسْتَبِقُوا) : أي بادروا فعل
الخيرات ليفوز السابقون.
(أَنْ يَفْتِنُوكَ) : يضلوك عن الحق.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به.
(فَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ) : هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا
تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى
إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإنجيل وأنه أيضا فيه الهدى والنور
ناسب ذكر القرآن الكريم فقال : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) متلبسا به لا يفارقه الحق والصدق لخلوه من الزيادة
والنقصان حال كونه (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) من
__________________
الكتب السابقة ،
ومهيمنا عليها حفيظا حاكما فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله
منها. وعليه (فَاحْكُمْ) يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في ذلك وتترك ما جاءك من الحق ، واعلم أنا جعلنا لكل أمة
شرعة ومنهاجا أي شرعا وسبيلا خاصا يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل ، ولكن
نوع الشرائع فأوجب وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن
يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من العاصي والمهتدي من الضال ،
وعليه فهلمّ (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) أي بادروا الأعمال الصالحة وليجتهد كل واحد أن يكون سابقا
، فإن مرجعكم إليه تعالى (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت
عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (٤٩) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه
وحذره وأعلمه وندد بأعدائه أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من
القرآن فقال : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وحذره من أن يتبع بعض آرئهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا
يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال : (وَاحْذَرْهُمْ) (أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وأعلمه أن اليهود إن تولوا أي أعرضوا عن قبول حكمه وهو
الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من
الذنوب وما ارتكبوا من الخطايا فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ). وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون أي عصاة خارجون
عن طاعة الله تعالى ورسله فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ). فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده
__________________
من ألم تمرد
اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه. هذا ما دلت عليه
الآية الثانية أما الآية الثالثة (٥٠) فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم
أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين
عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة فقال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ). ثم أخبر تعالى نافيا أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من
حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعد له تعالى ورحمته فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الحكم
وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.
٢ ـ لا يجوز تحكيم
أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
٣ ـ التحذير من
اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق.
٤ ـ بيان الحكمة
من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء.
٥ ـ أكثر المصائب
في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب.
٦ ـ حكم الشريعة
الإسلامية أحسن الأحكام عدلا ورحمة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى
اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
__________________
وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))
شرح الكلمات :
(آمَنُوا) : صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
(أَوْلِياءَ) : لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.
(بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي اليهودي ولي أخيه اليهودي ، والنصراني ولي أخيه
النصراني.
(الظَّالِمِينَ) : الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله
ورسوله والمؤمنين.
(مَرَضٌ) : نفاق وشك وشرك.
(يُسارِعُونَ فِيهِمْ) : أي في البقاء على موالاتهم أي موالاة اليهود والنصارى.
(دائِرَةٌ) : تدور علينا من جدب ، أو انتهاء أمر الإسلام.
(بِالْفَتْحِ) : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك كفتح مكة.
(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أقصاها وأبلغها.
(حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) : بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء لأنها ما كانت لله
تعالى.
معنى الآيات :
ورد في سبب نزول
هذه الآية أن عبادة بن الصامت الأنصاري ، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من
يهود المدينة ، ولما انتصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ
عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبى ابن أبي ذلك
وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لكم من دون المؤمنين وقوله تعالى (بَعْضُهُمْ
__________________
أَوْلِياءُ
بَعْضٍ) تعليل لتحريم موالاتهم ، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على
المسلمين فكيف تجوز إذا موالاتهم ، وكيف يصدقون أيضا فيها فهل من المعقول أن يحبك
النصراني ويكره أخاه ، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي أيها المؤمنون (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حربا على الله ورسوله
والمؤمنين وبذلك يصبح منهم قطعا وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين
أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين ، والظلم وضع
الشيء في غير محله وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير
محلها حيث عادى الله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله
والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (٥٢) فقد تضمنت بعض ما
قال ابن أبي مبررا به موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود إذ قال تعالى
لرسوله وهو يخبره بحالهم : (فَتَرَى الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كابن أبي والمرض مرض النفاق (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من
دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون ، يقولون كالمعتذرين (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله
تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وعسى من الله تفيد تحقيق الوقوع فهي بشرى لرسول الله
والمؤمنين يقرب النصر و الفتح (أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا) أي أولئك الموالون لليهود (عَلى ما أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين (نادِمِينَ) حيث لا ينفعهم ندم. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية
الثالثة (٥٣) وهي قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا) عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين
وهزيمة الكافرين ، ويصبح المنافقون نادمين يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) أغلظ الأيمان (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنها لم تكن لله (فَأَصْبَحُوا
خاسِرِينَ).
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة موالاة
اليهود والنصارى وسائر الكافرين.
٢ ـ موالاة الكافر
على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.
٣ ـ موالاة
الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان فلذا تؤدي إلى الكفر.
٤ ـ عاقبة النفاق
سيئة ونهاية الكفر مريرة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))
شرح الكلمات :
(مَنْ يَرْتَدَّ) : أي يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.
(أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) : أرقاء عليهم رحماء بهم.
(أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكافِرِينَ) : أشداء غلاظ عليهم.
(لَوْمَةَ لائِمٍ) : عذل عاذل.
(حِزْبَ اللهِ) : أنصار الله تعالى.
__________________
معنى الآيات :
هذه الآية الكريمة
(٥٤) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) تضمنت خبرا من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق
ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقا وأن المنزل على رسوله صدقا فقد أخبر تعالى
أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عزوجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء
بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم ، ولا
عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى ارتد فئات من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع
الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه
ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم
، وقد روي بل وصح أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلىاللهعليهوسلم وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا ، وفعلا
بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم. وقوله
تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) الإشارة إلى ما أولى أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من
تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة على المؤمنين والشدة على الكافرين ، والجهاد
في سبيل الله ، وقوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) أي واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية
الأولى أما الثانية (٥٥) فقد تضمنت طمأنة الرب تعالى لعبادة بن الصامت
وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو
وليهم ورسوله والذين آمنوا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) أي خاشعون متطامنون وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير
لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين
وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله
ويكفه ما يهمه ، لأنه أصبح من حزب الله ، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم
الغالبون هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله
__________________
تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ
هُمُ الْغالِبُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إخبار القرآن
الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.
٢ ـ فضيلة أبي بكر
والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.
٣ ـ فضل حب الله
والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين ، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول
الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.
٤ ـ فضيلة إقام
الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.
٥ ـ ولاية الله
ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ
يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ
اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))
__________________
شرح الكلمات :
(هُزُواً وَلَعِباً) : الهزء : ما يهزأ به ويسخر منه. واللعب : ما يلعب به.
(أُوتُوا الْكِتابَ) : هم اليهود في هذا السياق.
(الْكُفَّارَ) : المشركون.
(إِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ) : أذنتم لها.
(هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا) : أي ما تنقمون منا ، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون
علينا.
(مَثُوبَةً) : جزاء.
(فاسِقُونَ) : خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.
(الْقِرَدَةَ) : جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.
(وَالْخَنازِيرَ) : جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الأكل.
(شَرٌّ مَكاناً) : أي منزلة يوم القيامة في نار جهنم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تحذير المؤمنين من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ) الإسلامي (هُزُواً) شيئا يهزءون به ، ولعبا أي شيئا يلعبون به (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود ، والكفار وهم المنافقون والمشركون (أولياء) أنصارا وأحباء وأحلافا واتقوا الله في ذلك أي في اتخاذهم أولياء إن كنتم مؤمنين
صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعداء الله ورسوله
والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٧) أما الآية الثانية (٥٨) فقد تضمنت
إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزوا ولعبا وهم أولئك
الذين إذا سمعوا الأذان ينادي للصلاة اتخذوه هزوا ولعبا فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر
يقول
__________________
هذا نهيق حمار قبح
الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ). حقا انهم لا يعقلون فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء
إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير
والمحبة والألفة نداء إلى ذكر الله وعبادته ، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم : (لا يَعْقِلُونَ) شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية
الثانية أما الآية الثالثة (٥٩) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك
اليهود والكفرة الفجرة يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون
منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا
القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل ، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل
هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا ، ولكنكم قوم لا تعقلون هذا معنى قوله
تعالى في هذه الآية : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أما الآية الرابعة في هذا السياق (٦٠) فقد تضمنت تعليم
الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم : لا نعلم
دينا شرا من دينكم ، وذلك أنهم سألوا النبي صلىاللهعليهوسلم : بمن تؤمن؟ فقال أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على
موسى وما أنزل على عيسى فلما قال هذا ، قالوا : لا نعلم دينا شرا من دينكم بغضا
لعيسى عليهالسلام وكرها له ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذلِكَ مَثُوبَةً) أي ثوابا وجزاء (عِنْدَ اللهِ؟) أنه (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) إذ مسخ طائفة منهم قردة ، وأخرى خنازير على عهد داود عليهالسلام ، وقوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان وذلك بطاعته
والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد ، إنه أنتم يا معشر يهود ،
إنكم لشر مكانا يوم القيامة وأضل سبيلا اليوم في هذه الحياة الدنيا.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة اتخاذ
اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم.
٢ ـ سوء أخلاق
اليهود وفساد عقولهم.
٣ ـ شعور اليهود
بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.
٤ ـ تقرير وجود
مسخ في اليهود قردة وخنازير.
٥ ـ اليهود شر
الناس مكانا يوم القيامة ، وأضل الناس في هذه الدنيا.
(وَإِذا جاؤُكُمْ
قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
(٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ
الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))
شرح الكلمات :
(يَكْتُمُونَ) : أي يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها.
(فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) : الإثم كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو
قول أو عمل ، والعدوان : الظلم.
(السُّحْتَ) : المال الحرام كالرشوة والربا ، وما يأخذونه من مال مقابل
تحريف الكلم وتأويله.
(الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ) : الربانيون هنا العباد المربون كمشايخ التصوف عندنا.
والأحبار
: العلماء.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في فضح اليهود وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر
__________________
تعالى في الآية
الأولى عن منافقيهم فقال : (وَإِذا جاؤُكُمْ) يريد : غشوكم في مجالسكم ، (قالُوا آمَنَّا) وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا يغر فقد دخلوا بالكفر في قلوبهم وخرجوا به ، (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد لكم. هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى
(٦١) (وَإِذا جاؤُكُمْ
قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)
وأما الآية
الثانية (٦٢) فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من
المعاصي ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت علنا لا يستترون
به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى على ذلك وقبح فعلهم فقال (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
وفي الآية الأخيرة
: أنكر على عبادهم وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضاهم بها مصانعة لهم ومداهنة
فقال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ) أي لم لا ينهونهم عن قولهم الإثم أي الكذب وأكلهم السحت
الرشوة والربا ، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله (لَبِئْسَ ما
كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت
المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها. والعياذ بالله.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجود منافقين
من اليهود على عهد الرسول صلىاللهعليهوسلم بالمدينة.
٢ ـ بيان استهتار
اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية.
٣ ـ قبح سكوت
العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه ، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية
أشد آية وأخطرها على العلماء.
__________________
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))
شرح الكلمات :
(يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) : دعاء عليهم بأن يحرموا الإنفاق في الخير وفيما ينفعهم.
(لُعِنُوا بِما قالُوا) : طردوا من رحمة الله بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل.
(بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) : لا كما قالوا لعنهم الله : يد الله مغلولة أي ممسكة عن
الإنفاق.
(طُغْياناً) : تجاوزا لحد الاعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد.
(وَأَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ) : أي بين اليهود والنصارى.
(أَوْقَدُوا ناراً) : أي نار الفتنة والتحريش والإغراء والعداوات للحرب.
__________________
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ) : اليهود والنصارى.
(مِنْ فَوْقِهِمْ
وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) : كناية عن بسط الرزق عليهم.
(أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) : معتدلة لا غالية مفرطة ، ولا جافية مفرطة.
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن كفر
اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل فيقول :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم ، فرد الله
تعالى عليهم بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وهو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإنفاق فيما ينفعهم (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم
الخبيث الفاسد. وأكذبهم تعالى في قولهم (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) فقال : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) كما قال عنه رسوله في الصحيح «يمين الله سحّاء تنفق الليل والنهار» ثم أخبر تعالى نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم ليسليه ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود
وخبثهم فقال : (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم
المخزية لهم. (طُغْياناً وَكُفْراً) أي إبعادا في الظلم والشر وكفرا بتكذيبك وتكذيب ما أنزل
إليك وذلك دفعا للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء
، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاما منهم فقال عز من قائل : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم
القيامة ، ثم أخبر عن اليهود أنهم (كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً لِلْحَرْبِ) وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم ،
وبالإغراء ، وقالة السوء ، (أَطْفَأَهَا اللهُ) تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه وقد أذلهم الله على يد رسوله
والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائما وأبدا في
الأرض بالفساد فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم ، لأنه تعالى لا يحب المفسدين ، هذا ما
دلت عليه الآية الأولى (٦٤) أما الآية الثانية (٦٥) وهي قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) من يهود ونصارى (آمَنُوا) بالله ورسوله وبما
__________________
جاء من الدين الحق
وعملوا به ، (وَاتَّقَوْا) الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش ، لكفر الله عنهم
سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم. وهذا وعد الله تعالى
لليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعا. وهو لا يخلف الميعاد.
أما الآية الأخيرة
(٦٦) في هذا السياق فهي تتضمن وعدا إلهيا آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقاموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم ، ومعنى أقاموا
ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآداب
الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى
عليهم الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما
وعدهم الله به. ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن
زنى ، ولكن قالت عبد الله ورسوله ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى عليهالسلام آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد
الله بن سلام وبعض اليهود ، والنجاشى من النصارى وخلق كثير لا يحصون عدا. وكثير من
أهل الكتاب ساء أي قبح ما يعملون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قبح وصف الله
تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله.
٢ ـ ثبوت صفة
اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى ، وعلى ما يليق بجلاله
وكماله.
٣ ـ تقرير ما هو
موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء وهو من تدبير الله تعالى.
٤ ـ سعي اليهود
الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإلحادي الشيوعي ،
وضربوها أيضا بالإباحية ومكائد الماسونية.
__________________
٥ ـ وعد الله لأهل
الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.
٦ ـ وعده تعالى
لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم
أي لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي
والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما
زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب أيضا.
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٦٩))
شرح الكلمات :
(الرَّسُولُ) : ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد
صلىاللهعليهوسلم.
(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) : من التوحيد والشرائع والأحكام.
(يَعْصِمُكَ) : يحفظك حفظا لا يصل إليك معه أحد بسوء.
__________________
(فَلا تَأْسَ) : لا تأسف ولا تحزن.
(هادُوا) : اليهود.
(الصَّابِئُونَ) : جمع صابىء وهم فرقة من أهل الكتاب.
معنى الآيات :
في الآية الأولى (٦٧)
ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظما له بقوله : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ) المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع
والأحكام فيقول (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). ويقول له : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي إن قصرت في شيء لم تبلغه لاي اعتبار من الاعتبارات (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي فكأنك لم تبلغ شيئا ، وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ) أي يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى ، ولذا فلا عذر لك في
ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم ولذا فلم يكتم رسول
الله شيئا مما أمر بإبلاغه البتة. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلىاللهعليهوسلم إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من
أذية رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولما نزلت هذه الآية قال صلىاللهعليهوسلم «لا تحرسوني فإن الله قد عصمني» هذا ما دلت عليه الآية
الأولى أما الثانية (٦٨) وهي قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريرا له وتأكيدا وهو
إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية
الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات
والصالحات مما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن أيضا. وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) هذا إخبار من الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم بأن كثيرا من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى
إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار
__________________
أهل الكتاب مما هو
بيان لذنوبهم وضلالهم. ومما هو أمر لهم بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على الدين
الحق الذي أرسل به يزيدهم ذلك طغيانا أي علوا وعتوا وكفرا فوق كفرهم. ولذا فلا تأس
أي لا تحزن على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون. أما
الآية الثالثة (٦٩) وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) فالذين آمنوا هم المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وهم
فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإيمان الحق بالله
وباليوم الآخر وأتى بلازم الإيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالا
وتروكا فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في
الحيوات الثلاث وعد الله حقا ومن أصدق من الله حديثا!
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب البلاغ
على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلىاللهعليهوسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.
٢ ـ عصمة الرسول
المطلقة.
٣ ـ كفر أهل
الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي محمد صلىاللهعليهوسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق.
٤ ـ أهل العناد
والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتوا ونفورا وطغيانا وكفرا.
٥ ـ العبرة
بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان.
(لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ بِما
__________________
لا
تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا
أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ
عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ
الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢))
شرح الكلمات :
الميثاق
: العهد المؤكد
باليمين.
(بِما لا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ) : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
(فَرِيقاً كَذَّبُوا) : أي كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى.
أن لا
تكون فتنة : أي أن لا
يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
(فَعَمُوا وَصَمُّوا) : عموا عن العبر وصموا عن سماع المواعظ.
(مَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ) : أي يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع
الله بأي نوع من أنواع العبادات.
(حَرَّمَ اللهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) : حكم بمنعه من دخولها أبدا إلا أن يتوب من الشرك.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل
وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل
__________________
إليهم رسله تترا كما جاءهم رسول بما لا يوافق أهواءهم كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه. أو قتلوه. وحسبوا أن لا
يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق وصموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من
سامهم سوء العذاب ، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم ثم عموا
وصموا مرة أخرى إلا قليلا منهم فسلط عليهم من سامهم سوء العذاب أيضا وها هم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما
يعملون وسوف ينزل بهم بأساءه إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين
الحق الذي هو الإسلام.
هذا ما تضمنته
الآيتان الأولى والثانية (٧٠ ـ ٧١) أما الآية الثالثة (٧٢) وهي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ) فقد أخبر تعالى مقررا حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى
رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله أن يكون
عبدا من عباده ، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله. وكيف
وهو القائل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان تاريخ
بني إسرائيل ، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.
٢ ـ إكرام الله
تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم ،
والمكر بهم.
__________________
٣ ـ تقرير كفر
النصارى بقولهم المسيح هو الله.
٤ ـ تقرير عبودية
عيسى عليهالسلام لربه تعالى.
٥ ـ تحريم الجنة
على من لقي ربه وهو يشرك به سواه.
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ
وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))
شرح الكلمات :
(ثالِثُ ثَلاثَةٍ) : الثلاثة هي الأب والابن وروح القدس : وكلها إله واحد.
(خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) : مضت قبله رسل كثيرون.
(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) : أي مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
بيان كفر النصارى ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ،
وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة إذ قال تعالى في هذه
__________________
الآية (٧٣) لقد
كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعنون الآب والابن وروح القدس ، وبعضهم يقول
الأب والابن والأم ، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا فقال رادا
باطلهم ، (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي وليس الأمر كما يكذبون ، وإنما الله إله واحد ، وأما
جبريل فأحد ملائكته وعيسى عبده ورسوله ومريم أمته فالكل عبد الله وحده الذي لا إله
غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعدا هؤلاء الكفرة الكذبة : ولئن لم ينتهوا عما
يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم
الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع. ثم لكمال رحمته عزوجل دعاهم في الآية الثانية (٧٤) إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر
لهم وهو الغفور الرحيم فقال عزوجل : (أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللهِ) بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه والله غفور
للتائبين رحيم بالمؤمنين ، وفي الآية الثالثة (٧٥) أخبر تعالى معلما رسوله
الاحتجاج على باطل النصارى فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ ، إِلَّا رَسُولٌ) ، فلم يكن ربا ولا إلها وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله
رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضا إلها كما يزعمون ، وإنما هي امرأة من
نساء بني إسرائيل صديقة كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها
وولدها عيسى عليهماالسلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام احتياجا إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل آكل الطعام
افتقارا إليه ، ثم يفرز فضلاته يصلح أن يكون إلها. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صلىاللهعليهوسلم أنظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على
بطلان كفرهم ، ثم انظر كيف يؤفكون عن الحق أي كيف يصرفون عنه وهو واضح بين. وفي الآية الأخيرة (٧٦)
أمر رسوله ان يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها
أمره أن يقول لهم موبخا لهم : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ
__________________
اللهِ
ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وهو عيسى وأمه ، وتتركون عبادة من يملك ذلك ، وهو الله
السميع العليم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال التثليث
في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.
٢ ـ إبراء عيسى
ووالدته عليهماالسلام من دعوى الألوهية للناس.
٣ ـ فتح باب
التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.
٤ ـ تقرير بشرية
عيسى ومريم عليهماالسلام بدليل احتياجهما إلى الطعام لقوام بنيتهما ، ومن كان
مفتقرا لا تصح ألوهيته عقلا وشرعا.
٥ ـ ذم كل من يعبد
غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضرا ولا نفعا ، ولا
تسمع دعاء من يدعوها ، ولا تعلم عن حاله شيئا ، والله وحده السميع لأقوال كل عباده
العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم ، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ
قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ
داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
(٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ
خالِدُونَ (٨٠)
وَلَوْ
كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))
شرح الكلمات :
(لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ) : الغلو : الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه فمثلا أمرنا
بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو أمرنا بتعظيم الرسول صلىاللهعليهوسلم فدعاؤه غلو في الدين.
(أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا) : جمع هوى ، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما
يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
(وَأَضَلُّوا كَثِيراً) : أي أضلوا عددا كثيرا من الناس بأهوائهم وأباطيلهم.
(عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) : سواء السبيل : وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى يمين ولا
إلى يسار.
(لُعِنَ) : دعى عليهم باللعنة التي هي الإبعاد من الخير والرحمة
وموجباتها.
(بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) : أي بسبب عصيانهم لرسلهم ، واعتدائهم في دينهم.
(لا يَتَناهَوْنَ) : أي لا ينهي بعضهم بعضا عن ترك المنكر.
لبئس
ما كانوا يعملون : قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(يَتَوَلَّوْنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) : يوادونهم ويتعاونون معهم دون المؤمنين.
(وَلَوْ كانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) : أي لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صلىاللهعليهوسلم ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن أهل الكتاب يهودا ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم (قُلْ) يا رسولنا : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) والمراد بهم هنا النصارى (لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ
__________________
غَيْرَ
الْحَقِ) ، أي لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم ،
فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها ، التشدد محمود في الحق الذي
أمر الله به اعتقادا وقولا وعملا لا في المحدثات الباطلة ، ولا تتبعوا أهواء قوم
قد ضلوا من قبل وهم اليهود إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر ،
وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيرا من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم ، وضلوا أي
وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم. هذا ما
تضمنته الآية الأولى (٧٧) أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني
إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور ، وعلى لسان عيسى بن
مريم في الإنجيل وعلى لسان محمد صلىاللهعليهوسلم في القرآن فقال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ). فقد مسخ منهم طائفة قردة ، (وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ) حيث مسخ منهم نفر خنازير كما لعنوا على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم في غير آية من القرآن الكريم ، وهذا اللعن الذي هو إبعاد
من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ). أي بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل
المحرمات ، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع ، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم
: وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال
: (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). أي كانوا عند ما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا
ينهى بعضهم بعضا كما أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان
الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من
الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده» فلما فعلوا ذلك ضرب
الله على قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «لعن الذين كفروا ـ إلى قوله فاسقون» ثم قال كلا والله
لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على
الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضر بن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما
لعنهم » وفي آخر الآية قبح الله تعالى
__________________
عملهم فقال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)
ثم قال لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (تَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ) أي من اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعنى من
المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون
أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ، ثم قبح تعالى عملهم فقال : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد ، وهو سخط
الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ) سَخِطَ
اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) لا يخرجون منه أبدا. ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم
وشرهم وفسادهم فقال : (وَلَوْ كانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) كما يجب الإيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى
ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين
والمنافقين أولياء ، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلا منهم ، والفاسق عن أمر
الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبدا ، هذا معنى قوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ
وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) .
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الغلو
والابتداع في الدين ، واتباع أهل الأهواء.
٢ ـ العصيان
والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.
٣ ـ حرمة السكوت
عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.
٤ ـ حرمة موالاة
أهل الكفر والشر والفساد
٥ ـ موالاة أهل
الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه.
__________________
الفهرس
المقدمة.............................................................................. ٤
سورة
الفاتحة.......................................................................... ٩
الجزء
الأول.......................................................................... ٩
سورة
البقرة من الآية (١)............................................................ ١٨
الجزء
الثاني....................................................................... ١٢٤
سورة
البقرة من الآية (١٤٢)....................................................... ١٢٤
الجزء
الثالث...................................................................... ٢٤١
سورة
البقرة من الآية (٢٥٣)....................................................... ٢٤١
سورة
آل عمران من الآية (١)...................................................... ٢٨١
الجزء
الرابع....................................................................... ٣٤٧
سورة
آل عمران من الآية (٩٣).................................................... ٣٤٧
سورة
النساء من الآية (١).......................................................... ٤٣٢
الجزء
الخامس.................................................................... ٤٥٩
سورة
النساء من الآية (٢٤)........................................................ ٤٥٩
الجزء
السادس.................................................................... ٥٦٤
سورة
النساء من الآية (١٤٨)...................................................... ٥٦٤
سورة
المائدة من الآية (١)......................................................... ٥٨٥
|