بسم الله الرّحمن الرّحيم

ان الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد فهذا شرح عقيدة الامام أبي جعفر الطحاوي ، نقدمه في طبعة جديدة الى الراغبين في الوقوف على عقيدة السلف الصالح ، والتوحيد الخالص ، الذي بعث الله تعالى به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام. ونستطيع أن نقول : إن هذا الكتاب القيم يقلّ نظيره في التحقيق والبيان ، والعمق والاحاطة ، والتزام منهج الحق الذي كان عليه السلف الصالح.

لذلك لاقت هذه العقيدة مدح عدد كبير جدا من العلماء (١) وشرحها عدد كبير منهم أيضا ، وكان أحسن شروحها المعروفة هذا الشرح ، وهو يمثل عقيدة السلف أحسن تمثيل. والمؤلف يكثر من النقل عن كتب شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من غير احالة عليها. ولعل له عذرا في ذلك (٢) ، وهو : أن عقيدة السلف كانت تحارب من المتعصبين والحشويين وعلماء السوء الذين كان لهم تأثير كبير على

__________________

(١) ومما يدلك على ذلك كلمة العلامة الشيخ عبد الوهاب السبكي في كتابه «معيد النعم ومبيد النقم» التي نقلنا ملخصها على غلاف الكتاب وهي : «وهذه المذاهب الأربعة ـ ولله تعالى الحمد ـ في العقائد واحدة ، إلا من لحق منها بأهل الاعتزال والتجسيم ، وإلا فجمهورها على الحق يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول».

(٢) قلت هذا منذ ثلاثين سنة ، ثم تيقنت ذلك بعد معرفة صاحب الشرح وهو العلامة ابن أبي العز الحنفي ، والتأكد من شرحه لها ، وما لاقى في سبيل عقيدته من ظلم أهل الابتداع والضلال.

بعض الحكام ، مما جعل بعض أصحاب هذه العقيدة لا يتظاهرون بها ـ غالبا ـ في تلك الأيام التي كان فيها بعض الناس مغرما بإتلاف كتب شيخ الاسلام. الأمر الذي أدى الى فقدان أو ندرة بعض مؤلفات هذا الامام العظيم مما حفز ابن عروة الحنبلي الدمشقي الى حفظها في مجموعه الضخم المعروف ب «الكواكب الدراري في ترتيب مسند الامام أحمد الشيباني» فإنه أدخل فيه العديد من كتب شيخ الاسلام لأدنى مناسبة.

وقد استمرت هذه المحنة حتى العصور المتأخرة. فقد كان أحد المتنفذين في دمشق في أواخر القرن الماضي يتلف ما يستطيع جمعه من كتب شيخ الاسلام وتلامذته وما وجد من كتبهم على رأيهم.

مستخدما في ذلك ما له من جاه وسلطان انتصارا لمذهبه واعتقاده في «الحلول والاتحاد» (١).

وظني أن هذه المحنة وهذا العداء لعقيدة السلف الصالح كانا وراء خفاء اسم المؤلف لهذا الشرح المبارك ، وكانا وراء خفاء اسم شيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم من الشرح ، مع انه نقل عنهما في كتابه نقولا جمة ، ربما تبلغ في بعض المواطن صفحات.

وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع مرتين (٢). لكن طبعتنا هذه تمتاز بأنها مقابلة

__________________

(١) انشر مقدمة كتاب «الكلم الطيب» ص ٤ طبع المكتب الاسلامي.

(٢) كنت أولاهما في مكة المشرفة ١٣٤٩ ه‍ وقد قامت بها لجنة من العلماء برئاسة العلامة الشيخ عبد الله ابن حسن بن حسين آل الشيخ رحمه‌الله تعالى ، واعتمدوا فيها على نسخة خطية ، كثيرة الغلط وتحريف ، لم يتيسر لهم لوقوف على غيرها ، فلم يألوا جهدا في تصحيحها ، وتقويم ما انحرف عن الثواب فيها جزاهم الله اخير ، ولكن طبعتهم مع ذلك لم تخل من اغلاط كثيرة. ثم تصدى للنشر ثانية أستاذي العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه‌الله ، فقام بطبعها في القاهرة سنة ١٣٧٣ ه‍ معتمدا على الطبعة السالفة ، واجتهد في تصحيح كلام الشارح ، وقابل بالحديث والآثار ، فجاءت طبعته أمثل من سابقتها وأقرب الى الصحة. إلا أن في كلتا الطبعتين عيب لم يكن للقائمين عليهما حية لتداركه ، فإن النسخة الخطية التي طبع عنها الكتاب في كلا المرتين لم يصر فسادها على ما فشا فيها من الغلط والتحريف ، بل وقع فيها أيضا سقط وخروم في مواطن كثيرة يبلغ بعضها ورقة كاملة ، اختل بذلك سياق الكلام ، واضطرب نظامه ، وأصبح فهم شطر كبير من هذا الكتاب متعذرا على أكثر القراء.

على نسخة خطية كاملة وقعت لي ويسر الله تملكي لها جلية الخط ، حسنة الضبط. أما ما وقع فيها من غلط في بعض المواضع ، فإنه من النوع الذي يسهل تداركه. وقد جاء في ختامها ما نصه : «قد تم تحريرها على يد الفقير الحقير خادم العلماء الاعلام ، والمحرري الكتب في جامع مدرسة مرجان عليه الرحمة والرضوان ، عبد المحيي بن عبد الحميد بن الحاج محمد مكي الشيخلي البغدادي ، يوم الاثنين التاسع من شهر رجب الأصم من شهور سنة اثني (كذا) وعشرين وثلاثمائة بعد الألف ..

فاستظهرنا من أنّ الأصل الذي نسخت ، عنه ينبغي أن يكون في بغداد ، فحرصت على أن أظفر بصورة. منه ، وكتبت في ذلك الى علامة العراق الشيخ بهجة الأثري ، مع تزكية لطلبي من استاذي الجليل الشيخ بهجة البيطار. غير أنّ الأستاذ الأثري لم يوفق في الحصول على الأصل ، أو معرفة شيء عنه ، واستعنت بعدد من الأفاضل ومنهم الصديق الأديب الدكتور عبد الله جبوري ، والاستاذ الفاضل الدكتور عبد الكريم زيدان ، وغيرهم جزاهم الله كل خير. وزرت العراق أكثر من مرة وبحثت عنها فلم أوفق الى شيء حتى الآن.

ولما كانت الطبعة الأولى خلوا من اسم المؤلف. تبعا للأصل الذي طبعت عنه. وفي الطبعة الثانية استظهر استاذنا الشيخ أحمد شاكر (١) أن مؤلفه هو علي بن علي بن محمد ابن أبي العز الحنفي (٢) اعتمادا على ما أرشده إليه العالم الكريم الفاضل الشيخ محمد بن حسين نصيف (٣) ، من أن السيد مرتضى الزبيدي نقل عن هذا الكتاب قطعة في «شرح الأحياء» (٢ / ١٤٦) وعزاها الى ابن أبي العز المذكور.

وأما نسختنا فقد كان اسم مؤلفها مثبتا على الورقة الأولى منها ، إلا أنّ بعض

__________________

(١) توفي عليه رحمة الله في ذي الحجة ١٣٧٧ تموز ١٩٥٨.

(٢) انظر ترجمته في الصفحة ١٦.

(٣) انتقل الشيخ محمد نصيف الى رحمة الله تعالى في ٨ جمادى الثانية سنة ١٣٩١ ه‍ الموافق ٣١ تموز (يوليو) ١٩٧١ م.

الأيدي قد لعبت فيه بالمحو والكتابة أكثر من مرة ، وأخيرا أثبت عليه ما أثبته الشيخ أحمد شاكر.

وقد استطعنا ان نتبين من بقايا الكتابة الاولى الكلمات التالية «جمال الدين ... ابن صلاح الدين أبي البركات موسى بن محمد الملطي الحنفي» فاستظهرنا انه : يوسف بن موسى بن محمد أبو المحاسن جمال الدين الملطي المتوفى سنة ٨٠٣ ه‍ وترجمته في «الضوء اللامع» للسخاوي (١٠ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦) و «شذرات الذهب» لابن العماد (٧ / ٤٠) وابن اياس في تاريخه (٣١٥) وغيرهم.

ولكن حال دون القطع بذلك ان صاحب هذا الشرح ـ كما ذكر هو نفسه في غير موضع من الكتاب ـ من تلامذة ابن كثير ، ولم يذكر أحد ممن ترجموا للملطي المذكور انه تلميذ لابن كثير ، كما لم يذكروا أيضا ان له شرحا على الطحاوية ، ويبعد ان يؤلف مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي الشريف وهو القائل كما في «شذرات الذهب» ٧ / ٤٠ : من نظر في البخاري فقد تزندق.

فبقيت المسألة معلقة تنتظر الدليل القاطع للبت في طبعتنا الثالثة ، وأما في طبعتنا هذه تيقنا انها لابن أبي العز جزاه الله خيرا عن الاسلام وأهله (١).

هذا وقد قمنا بمقابلة مخطوطتنا على مطبوعة مكة ، ومطبوعة الشيخ احمد شاكر ، وبما أننا قد جعلنا مخطوطتنا هي الأصل ، فكل زيادة كانت فيها ، ادرجت دون الاشارة إليها ، وهو كثير (٢) وما كان من زيادة في احدى المطبوعتين اثبتناه ضمن حاضرتين هكذا [] كما أننا قمنا بترقيم الآيات والعناية بالطبع ، والتصحيح ومراجعة النصوص على اصولها ، وضبط ما اشكل منها قدر المستطاع.

ثم يسر الله لي مصورتين لمخطوطتين لم نكن نعرف عنا شيئا.

كما اننا قابلنا المتن على عدد كبير من المخطوطات وقد قام استاذنا الجليل

__________________

(١) انظر صورة مخطوط المغرب صفحة ٦٦.

(٢) انظر مثلا السطر الثامن من الصفحة ٨١ من مطبوعتنا المقابلة للصفحة ٢٣ من مطبوعة شاكر تلاحظ سقطا مقداره ٣٤ سطرا غير موجود في مطبوعة مكة وشاكر.

المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الالباني بتخريج ما فيها من الاحاديث وأعاد النظر في تخريجه مرة أخرى بما زاد طبعتنا هذه حسنا وافادة.

وساعد على مقابلتها واعدادها للطبع ، وتحقيق نصوصها ، وضبط ألفاظها في طبعتها الثالثة ـ الأولى بالنسبة لنا ـ كل من الاساتذة الافاضل : عبد الرحمن الباني ، وهبي سليمان غاوجي ، سعيد الطنطاوي ، شعيب الارناؤوط ، عبد القادر الأرناءوط (١) ، مساهمة منهم في نشر العلم ، جزاهم الله كل خير.

وقد تلقى العلماء طبعتنا بالقبول. كما قرر تدريسها في المعاهد والكليات بالرياض ، والجامعة الاسلامية بالمدينة استاذنا الجليل المفتي الاكبر الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ ـ عليه رحمة الله ـ.

وقامت كلية الدراسات الاسلامية في بغداد بتدريسها ثم اختصارها ـ بإذن منا ـ وكذلك اعتمدها مرجعا لا غنى عنه في كلية الشريعة بجامعة دمشق استاذنا المفضال الدكتور مصطفى السباعي عميد كلية الشريعة آنذاك ـ عليه رحمة الله ـ.

وقد امتازت طبعتنا هذه بإضافات جليلة القدر ، عظيمة النفع منها :

ـ تعليق سماحة استاذي العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز الذي تجده في الصفحة ١٠٩.

ـ حالات استاذي العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي على كتب شيخ الاسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم مما هو مثبت في هذا الشرح.

ـ اعادة النظر في تخريج الأحاديث من قبل استاذي المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، مع الابقاء على مقدمته القيمة.

__________________

(١) وقد طبعتها مصورة مرات ، غير أن بعض من لا خلاق لهم عمدوا الى سرقتها تصويرا ، أو طباعة بعد حذف أشياء منها ، وبعضهم حذف اسم المكتب والبعض أبقاه. فالله سبحانه وتعالى حسيبهم. كما أن بعضهم صوّر مطبوعة الأستاذ شاكر مزاحمة ومضاهاة ، ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه‌الله ـ بما كان يتمتع به من علم وإنصاف ، اطلع على طبعتنا هذه لكان من المحبذين لها ، والمفضلين لها على طبعته. لأننا أثبتنا فوائد طبعته وزدنا عليها الكثير.

ـ كذلك ابقائي للتوضيح ، الذي دعت الحاجة الى نشره ، رغم رغبتي وسعيي الحثيث لرفعه مع المقدمة ، ولكن الذين بدءوا الاعتداء وعملوا على نشر الباطل في تقريرهم ، واسمرار مسعاهم في نشر الرسائل والتعليقات والمقالات ، والعمل على طبع شرح الطحاوية محرفا ومدلسا على الناس أنه طبعتنا ، وما زلت عند قولي في «التوضيح» (١).

وإليك بعض ما ذكرت في مقدمتي «للعقيدة الطحاوية ـ شرح وتعليق» للمحدث الألباني :

فإن عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي ، هي عقيدة أهل السنة والجماعة المتفق على اتباعها من علماء الأمة. لأنها وافقت معتقد علماء هذه الملة ، خلال قرون متعددة. ومنهم أبو حنيفة النعمان ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأكثر أتباعهم. كما أنها عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري ، التي استقر عليها أخيرا بالجملة. ولم يشذ عنها إلا من أشرب في قلبه ، نوع من الاعتزال ، والجهمية ، ومناصبة السنّة العداوة.

وقد امتنّ الله عليّ ، فيسّر لي طبع «شرح العقيدة الطحاوية» للعلامة ابن أبي العزّ الحنفي ، بعد حصولي على مخطوطة قيّمة (٢).

ولم أجزم في طبعتنا بنسبة الشرح لابن أبي العزّ ـ رحمه‌الله ـ غير أن أستاذي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، في سفرته الأولى إلى المغرب سنة ١٣٩٥ ، أهدى إليه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أبو خبزة مدير مكتبة مدينة «تطون» من المملكة

__________________

(١) وقد دعت الضرورة أن نطبع كمية من النسخ خالية من المقدمة والتوضيح بناء على رغبة جهة كريمة ، لا أشك برغبتها بصدق نيتها في الاصلاح.

(٢) أنظر ذلك ، في طبعتنا هذه التي بين يديك ، في ثوبها الجديد ، ففيها ما يعرفك بالكثير مما يلزمك ، ولا تغتر بالطبعات المسروقة عن طبعتنا الرابعة الخالية من «التوضيح» ومن «مقدمة الشيخ ناصر الدين الألباني» ، ولا بالمصوّرة عن طبعة العلامة الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه‌الله ـ فإن في كل ذلك النقص والتحريف. ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر ، أطلع على طبعتنا ، لكان من المحبذين لها ، لما كان يتمتع به من علم وإنصاف.

المغربية ، رسالة مصوّرة عن مخطوط ، ذكر تحت عنوانها ، أن مؤلف شرح العقيدة الطحاوية ، هو ابن أبي العزّ الحنفي.

وهذا مما حداني إلى مراجعة ما سبق وجمعته بشأن معرفة الشارح ، واستبعدت أن يكون جمال الدين يوسف بن موسى الملطي ، كما كان ظاهرا من بعض الكلمات الممحية من المخطوطة ، لاستبعاد أن يؤلف الملطي مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي الشريف ، وهو القائل كما في «شذرات الذهب» (٧ / ٤٠) : من نظر في صحيح البخاري فقد تزندق؟!

وكان يفتي بأكل الحشيشة ، ووجوه الحيل في أكل الربا ، زاعما أن يخرج ذلك على نصوص مذهبه ، هو بلا شك ، افتراء منه ، ومن أتباعه حتى يومنا هذا ، على الإمام أبي حنيفة ورجال مذهبه الأفاضل الاتقياء.

وقد أشار ابن الشحنة إلى ذلك ، حيث هجاه بقوله :

عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى

وما راقب الرحمن يوما وما اتقى

يرى جائزا أكل الحشيشة والربا

ومن يستمع للوحي حقا تزندقا؟

ثم اتضح أن السبب في إخفاء ابن أبي العز ، أو النسّاخ لاسمه ، هو الخوف من الهجمة الشرسة ، التي كانت سائدة في عصره من قبل المخرّفين ، والمتعصبين ، مؤيّدين بقوة السلاطين الجاهلين ... الظاهر برقوق ، وابنه الناصر فرج ، ولاجين بن عبد الله الشركسي وأمثالهم ، وكانوا على عقيدة سيئة ، فضلا عما في سلوكهم من انحراف ، وكانوا يقربون أصحاب وحدة الوجود ، وأهل السحر ، والزيج ، وضرب الرمل. ولا تكاد تجد من المقربين إليهم إلا من اشتهر بذلك أو بما هو أسوأ!!

ولا أدلّ على هذا مما رواه ابن حجر وإليك كلامه بنصه (١) :

وفي سنة ٧٨٤ كانت واقعة الشيخ صدر الدين علي بن أبي العز الحنفي

__________________

(١) أنظر «إنباء الغمر» ١ / ٢٥٨ و ٢ / ٧٥ طبع إحياء التراث. تحقيق الاستاذ حسن حبشي. «الضوء اللامع» ٥ / ٦٦٥ «النجوم» ٦ / ١٣٨ توجد نسخة محفوظة باسم «تحفة العالم في سيرة سيد العوالم» لنصر الدين ابي عبد الله محمد بن أيبك بن عبد الله الفأفاء الذي عاش حوالي ٧٨٢ «محلة المجمع» ٥٣ / ٢ / ٤٥٠

.

بدمشق ، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي ، عمل قصيدة لامية على وزن «بانت سعاد». وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوه ، ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين ابن أبي العز الحنفي ، ثم انتقد فيها أشياء ، فوقف عليها علي بن أيبك المذكور ، فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء ، فأنكر غالب من وقف عليها وشاع الأمر.

فالتمس ابن أيبك من ابن أبي العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع ، فدار على المخالفين وألّبهم عليه ، وشاع الأمر ، إلى أن انتهى إلى مصر فقام بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية للسلطان ، فكتب مرسوما طويلا منه :

«بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصيدة ، وأن علي ابن أبي العز اعترض عليه وأنكر أمورا منها التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك ، وأن العلماء بالديار المصرية ـ خصوصا أهل مذهبه من الحنفية ـ أنكروا ذلك فيتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ويعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره». وفي المرسوم أيضا :

«بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه ، منهم القرشي وابن ألجاي (كذا) (١) وابن الحسباني ، والياسوفي ، فيتقدم بطلبهم ، فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم ، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة». وفيه :

«وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية». فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية ، فطلب النائب القضاء وغيرهم ، فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتيين ، فقرئ عليهم المرسوم ، وأحضر خط ابن أبي العز فوجد فيه قوله : «حسبي رسول الله : هذا لا يقال إلا لله!» وقوله : «اشفع

__________________

(١) هي مصحفة غالبا عن (الجابي) فيكون أحمد بن عثمان الياسوفي الأصل ، الدمشقي المعروف بابن الجابي. مات سنة ٧٨٧.

لي» ، قال : «لا تطلب منه الشفاعة». ومنها «توسلت بك» فقال : «لا يتوسل به».

وقوله : «المعصوم من الزلل» ، قال : «إلا من زلة العتاب».

وقوله : «يا خير خلق الله» الراجح تفضيل الملائكة إلى غير ذلك.

فسئل فاعترف ثم قال : «رجعت عن ذلك ، وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولا» فكتب ما قال وانفصل المجلس.

ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضا ، وممن حضر القاضي شمس الدين الصرخدي ، والقاضي شرف الدين ابن الشريشي ، والقاضي شهاب الدين الزهري وجمع كثير ، وأعيد الكلام ، فقال بعضهم : «يعزّر» وقال بعضهم : «ما وقع معه من الكلام أولا كاف في تعزير مثله» وانفصلوا.

ثم طلبوا ثالثا ، وطلب من تأخر وكتبت أسماؤهم في ورقة ، فحضر القاضي الشافعي ، وحضر ممن لم يحضر أولا : أمين الدين الأتقى ، وبرهان الدين الصنهاجي ، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة.

ودار الكلام أيضا بينهم ثم انفصلوا ثم طلبوا.

وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضا. وممن حضر سعد الدين النووي وجمال الدين الكردي ، وشرف الدين الغزي ، وزين الدين ابن رجب ، وتقي الدين ابن مفلح ، وأخوه ، وشهاب الدين ابن حجي ، فتواردوا على الإنكار على ابن أبي العز في أكثر ما قاله.

ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر ، وإلى ابن تيمية ، فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في المسمون من جهة الاعتقاد إلا خيرا ، وتوقف ابن مفلح في بعضهم. ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن أبي العز ، إلا الحنبلي.

فسئل ابن أبي العز عما أراد بما كتب فقال : «ما أردت إلا تعظيم جانب

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامتثال أمره : أنه لا يعطى فوق حقه».

فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله ، وإن أساء في التعبير ، وكتب خطه بذلك.

وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره ، فحكم القاضي الشافعي بحبسه ، فحبس بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة ، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات ، ونفذه بقية القضاة.

ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر ، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن أبي العز ، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي ، والجوهرية على الملقب الأكبر ، واستمر ابن أبي العزّ في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة.

وأحدث من يومئذ ـ عقب صلاة الصبح ـ التوسل بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ، ففعلوه.

وفي الرابع من ذي القعدة طلب ابن الزهري شمس الدين محمد بن خليل الحريري المنصفي فعزره بسبب فتواه بمسألة الطلاق على رأي ابن تيمية ، وبسبب قوله : «الله في السماء».

وكان الذي شكاه القرشي فضربه بالدرة وأمر بتطويفه على أبواب دور القضاة ، ثم اعتذر ابن الزهري بعد ذلك وقال : «ما ظننته إلا من العوام لأنهم أنهوا إلي أن فلانا الحريري قال : كيت وكيت».

حكى ذلك ابن الحجي ، وهذا العذر دال على أنه تهوّر في أمره ولم يثبت. فلله الأمر.

ومن أطرف ما حكي عن ابن المنصفي أن بعض الناس اغتمّ له مما جرى فقال : «ما أسفي إلا على أخذهم خطي بأني أشعري فيراه عيسى بن مريم إذا نزل» انتهى.

وهذه الأسباب أوجبت إخفاء المؤلف ابن أبي العز اسمه ، أو أن النسّاخ حذفوا اسمه خوفا من بطش هؤلاء الحكام وأتباعهم الظالمين. وإذا تتبعنا تلك الحقبة ،

وما جرى فيها على العلماء من الإيذاء والإهانات ، لطال بنا البحث.

ولا تغترّ بتعليقات الكوثري التي يدافع بها عن برقوق ولاجين وأمثالهما ، فإن للعصبية لأبناء جنسه (الشركسي) دخلا في ذلك ، إضافة إلى العصبية للمذهب والمعتقد.

ـ وقد امتازت طبعتنا هذه بالفهرس الذي جمعنا فيه أطراف الأحاديث والآثار وبعض الألفاظ الواردة في الكتاب تسهيلا للمراجع والمطالع وهو بعض الواجب علينا في خدمة عقيدتنا ، وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولما كان هذا الفهرس هو لسهولة الرجوع الى ما في الكتاب ، فقد دمجنا به الأحاديث الصحيحة الموصولة وغيرها مما لم يصح ، أو كان معلقا أو موقوفا أو مرسلا ، وبذلك فإنه يشمل الآثار أيضا ، وقد أدخلنا الأحاديث المحلاة ب (أل) مع جسم الحرف من غير فصل مثال حديث «الاسلام شهادة : أن لا إله إلا الله» فإنك تجده بعد حديث «أسري بجسده ...» كما أننا فهرسنا بعض الألفاظ وجعلناها أطرافا لحديث مع أن طرف الحديث لفظ آخر «يا غلام ألا أعلمك كلمات : احفظ الله ...» فإنك ستجده عند حرف «يا غلام» وعند «... احفظ الله».

وقد ساعد بالجهد الأكبر في الفهرسة الأخ الفاضل الأستاذ رجب قمرية.

والله تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه ، وفي سبيل مرضاته ، وأن يحسن مثوبة كل من ساعد في نشر عقيدة السلف ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

ترجمة ابن ابي العزّ الحنفيّ

هو العلامة صدر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محمد ابن أبي العز الحنفي ، الأذرعي الصالحي الدمشقي ولد سنة ٧٣١.

اشتغل بالعلوم ، وكان ماهرا في دروسه وفتاويه ، وخطب بحسبان قاعدة البلقاء مدة ، ثم ولي قضاء دمشق في المحرم سنة ٧٧٩ ، ثم ولي قضاء مصر فأقام شهرا ثم استعفى ، ورجع إلى دمشق على وظائفه.

وذكر ابن العماد خبر اعتقاله لبيانه ما في قصيدة ابن ايبك من الشرك ، وأنه أقام مقترا عليه. إلى أن جاء الناصري ، فرفع إليه أمره ، فأمر برد وظائفه ، ولم تطل مدته فقد توفاه الله بعد ذلك.

وإصرار الكوثري وأتباعه على إنكار نسبة شرح الطحاوية إلى مؤلف حنفي ، نوع من المكابرة بالمحسوس الملموس!! بل شرحها أكثر من عالم حنفي ، وقرظها العشرات من الأحناف ، وكيف لا يشرحها حنفي وهي عقيدة الإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله وهل المذهب الحنفي غير ما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه!!

وبما تقدم من نقول وصورة المخطوطة لم يعد هناك من مجال للشك بأن الشرح هو لابن أبي العز ، جزاه عن الاسلام والمسلمين كل خير.

وقد كانت وفاته بدمشق سنة ٧٩٢ (١) عليه رحمه‌الله.

__________________

(١) ذكر في «شرح العقيدة الطحاوية» طبع مكة : أن وفاته كانت سنة ٧٤٦ وهو وهم. والصحيح ما ذكرنا نقلا عن «الدرر الكامنة» ٣ / ٨٧ طبع الهند. ورقم ٢٨١٨ ورقم ٢٨٨٩ ج ٣ / ١٩٣ طبع مصر وحق هذا الرقم الأخير أن يكون ٢٨٩٩ و «شذرات الذهب» ٦ / ٣٢٦.

ترجمة الامام الطّحاوي

«صاحب العقيدة»

هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك بن سلمة بن سليم بن سليمان بن جواب الأزدي الطحاوي ـ نسبة الى قرية بصعيد مصر ـ الامام المحدث الفقيه الحافظ.

ولد رحمه‌الله سنة تسع وثلاثين ومائتين ، وعند ما بلغ سن الادراك تحول الى مصر لطلب العلم ، وأخذ يتلقى العلم على خاله اسماعيل بن يحيى المزني أفقه أصحاب الامام الشافعي. وكان كلما اتسعت دائرة أفقه يجد نفسه حائرا أمام كثير من المسائل الفقهية ، ولم يكن ليجد عند خاله ما يشفي غليله عنها ، فأخذ يترقب ما يصنعه خاله عند ما تعترضه تلك المسائل ، فاذا هو كثير التعريج على كتب أصحاب أبي حنيفة ، واذا هو يختار ما ذهب إليه أبو حنيفة في كثير منها ، وقد أودع هذه الاختيارات في كتابه «مختصر المزني».

فلم يسعه بعد ذلك الا أن ينظر في كتب أصحاب أبي حنيفة ويطلع على منهجهم في التأصيل والتفريع حتى اذا اكتملت معرفته بمذهب الامام أبي حنيفة تحول إليه واقتدى به وأصبح من أتباعه. ولم يمنعه ذلك من مخالفته لبعض أقوال الامام وترجيح ما ذهب إليه غيره من الأئمة لأنه رحمه‌الله لم يكن مقلدا لأبي حنيفة ، انما كان يرى أن منهجه في التفقه أمثل المناهج في نظره فكان يسير عليه ، ويأتم به ، ولذلك تجده في كتابه «معاني الآثار» يرجح ما لم يقل به امامه. ومما يؤيد ما ذكرناه ما قاله ابن زولاق : سمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول سمعت أبي يقول وذكر فضل أبي عبيد حربويه وفقهه فقال كان يذاكرني في

المسائل فأجبته يوما في مسألة فقال لي : ما هذا قول أبي حنيفة فقلت له أيها القاضي : أوكل ما قاله أبو حنيفة أقول به؟ فقال : ما ظننتك الا مقلدا. فقلت له : وهل يقلد الا عصبي. فقال لي : أو غبي. قال فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلا وحفظها الناس (١).

وقد تخرج على كثير من الشيوخ ، وأخذ عنهم ، وأفاد منهم ، وقد أربى عددهم على ثلاثمائة شيخ ، وكان شديد الملازمة لكل قادم الى مصر من أهل العلم من شتى الأقطار ، حتى جمع الى علمه ما عندهم من العلوم ، وهذا يدلك على مبلغ عنايته في الاستفادة ، وحرصه الأكيد على العلم. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم ، ووصفوه بأنه ثقة ثبت فقيه عاقل حافظ دين ، له اليد الطولى في الفقه والحديث.

قال ابن يونس : كان الطحاوي ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله.

وقال الذهبي في «تاريخه» الكبير : الفقيه المحدث الحافظ أحد الأعلام وكان ثقة ثبتا فقيها عاقلا.

وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» : هو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة.

وأما تصانيفه رحمه‌الله فهي غاية في التحقيق والجمع وكثرة الفوائد وحسن العرض.

فمن مصنفاته «العقيدة الطحاوية» وهي التي نقدمها مع شرحها في طبعتها الأنيقة للقراء وهي على صغر حجمها غزيرة النفع سلفية المنهج تجمع بين دفتيها كل ما يحتاج إليه المسلم في عقيدته. ومنها كتاب «معاني الآثار» وهو كتاب يعرض فيه الأبحاث الفقهية مقرونة بدليلها ، ويذكر في غضون بحثه المسائل الخلافية ، ويسرد أدلتها ويناقشها ، ثم يرجح ما استبان له الصواب منها ، وهذا الكتاب يدرب طالب العلم على التفقه ، ويطلعه على وجوه الخلاف ، ويربي فيه ملكة الاستنباط ، ويكون له شخصية مستقلة.

__________________

(١) انظر هذا الخبر في «لسان الميزان» لابن حجر في ترجمة المصنف.

ومنها كتاب «مشكل الآثار» (١) في نفي التضاد واستخراج الأحكام منها ، ومنها «أحكام القرآن» و «المختصر» و «شرح الجامع الكبير» و «شرح الجامع الصغير» وكتاب «الشروط» و «النوادر الفقهية» و «الرد على أبي عبيد» و «الرد على عيسى بن أبان» وغير ذلك من التصانيف الجليلة المعتبرة.

توفي رحمه‌الله سنة احدى وعشرين وثلاثمائة ليلة الخميس مستهل ذي القعدة بمصر ودفن بالقرافة.

__________________

(١) يقع هذا الكتاب في سبع مجلدات ضخام ، وهو من محفوظات مكتبة فيض الله شيخ الاسلام في استنبول ، والقسم المطبوع منه في حيدرآباد في أربعة أجزاء ربما لا يكون نصف الكتاب. وهو كتاب جليل القدر عظيم النفع يسوق الأحاديث التي تبدو لأول وهلة أنها متعارضة ، لم يأخذ في دفع ذلك التعارض بطريقته الفذة التي يرتاح إليها المؤمن المنصف.

مقدّمة المحدّث الشيخ محمّد ناصر الدّين الالبانيّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والعاقبة للمتقين ، وصلاة الله وسلامه على نبينا محمد سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى آله الطاهرين ، وأصحابه الطيبين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد ، فلقد يسر الله تبارك وتعالى ، للأخ الفاضل الاستاذ زهير الشاويش أن يعيد طبع الكتاب العظيم «شرح العقيدة الطحاوية» طبعة رابعة مهذبة ، فرأيت أنا بدوري أن أعيد النظر في تخريج أحاديثه ، وأستدرك ما كان قد فاتني من تحقيق القول في بعضها ، أو سهو وقع لي في بعض أفرادها ، وأن أنسق الكلام عليها ، فإن التخريج بأول أمره كان أشبه شيء بالتعليقات السريعة التي من طبيعتها أن لا تمكن صاحبها من مراجعة الكتب من أجلها إلا قليلا ، ولا من إعادة النظر فيها ، لأني كنت يومئذ على سفر ، والمكتب راغب في سرعة طبع الكتاب.

ولقد كنت استدركت شيئا من ذلك فيما بعد ، في مقدمتي التي كان الأخ زهير تفضل بإلحاقها بالنسخ الباقية من الطبعة الثالثة ، كما هو معلوم عند من وقعت له نسخة منها ، أو أرسلت إليه هذه المقدمة مفردة.

وكان مما فاتني يومئذ توحيد طريقة التخريج في أحاديث الكتاب التي أخرجها الشيخان أو أحدهما ، فقد جريت في كثير من تخريجاتي وتأليفاتي على التصريح في أول التخريج بمرتبة الحديث التي ينتهي إليها التحقيق ، سواء كان مما أخرجه

الشيخان أو أحدهما ، فأقول مثلا : «صحيح ، أخرجه الشيخان». أو «صحيح ، أخرجه البخاري» ، أو «صحيح ، رواه مسلم» ، ونحو ذلك. ولكن لم يطرد لي ذلك في كل أحاديثهما ، بل وقع هذا التصريح في بعضها دون بعض.

وكان قد بلغني عن بعضهم أنه استشكل أو استنكر هذا التصريح ، فحملني ذلك على أن كتبت كلمة في المقدمة التي سبقت الإشارة إليها ، أدفع بها الاستشكال المشار إليه ، فقلت فيها ما نصه :

«يلاحظ القارئ الكريم أن كثيرا من الأحاديث التي جاءت في الكتاب معزوّة إلى «الصحيحين» أو أحدهما ، قد علقنا عليه بقولنا : «صحيح». وتارة نقول : «صحيح ، متفق عليه» ، أو «صحيح ، رواه البخاري» ، أو «صحيح ، رواه مسلم» وذلك حين يكون الحديث غير مخرّج في الكتاب ، فالذي نريد بيانه حول ذلك ، أنه قد يقول قائل : إن الجمع بين «صحيح» و «متفق عليه» ونحوه ، اصطلاح غير معروف ، وقد يتوهم فيه البعض أن أحاديث «الصحيحين» كأحاديث «السنن» وغيرها من الكتب التي تجمع الصحيح والضعيف من الحديث ولم يفرد للصحيح فقط.

وجوابا على ذلك نقول :

إن الذي دعانا إلى هذا الاصطلاح ، إنما هو شيء واحد ، ألا وهو رغبتنا في إيقاف القارئ بأقرب طريق على درجة الحديث بعبارة قصيرة صريحة ، مثل قولنا : «صحيح» ، جرينا على هذا في كل حديث صحيح ، ولو كان من المتفق عليه ، لما ذكرنا ، ولسنا نعني بذلك ما أشرنا إليه مما قد يتوهمه البعض. كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم ، فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة ، وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة ، على قواعد متينة ، وشروط دقيقة ، وقد وفّقوا في ذلك توفيقا بالغا لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح ، كابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وغيرهم حتى صار عرفا عاما أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما ، فقد جاوز القنطرة ، ودخل في طريق

الصحة والسلامة. ولا ريب في ذلك ، وأنه هو الأصل عندنا ، وليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في «الصحيحين» هو بمنزلة ما في «القرآن» لا يمكن أن يكون فيه وهم أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة ، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا ، فقد قال الإمام الشافعي وغيره «أبى الله أن يتم إلا كتابه» ، ولا يمكن أن يدّعي ذلك أحد من أهل العلم ممن درسوا الكتابين دراسة تفهم وتدبر مع نبذ التعصب ، وفي حدود القواعد العلمية الحديثة ، لا الأهواء الشخصية ، أو الثقافة الأجنبية عن الاسلام وقواعد علمائه ، فهذا مثلا حديثهما الذي أخرجاه باسنادهما عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» فإن من المقطوع به أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة وهو غير محرم ، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها. ولذلك قال العلامة المحقق محمد بن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (٢ / ١٠٤ / ١) وقد ذكر حديث ابن عباس :

«وقد عد هذا من الغلطات التي وقعت في «الصحيح» ، وميمونة : أخبرت أن هذا ما وقع ، والانسان أعرف بحال نفسه ...» انظر الحديث (١٠٣٧) من «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل».

وعلى الرغم من هذا البيان القاضي على الإشكال ، فقد علمت في هذه الأيام أن أحد أعداء عقيدة أهل السنة والجماعة من متعصبة الحنفية ـ قد رفع تقريرا إلى بعض المراجع المسئولة في الدولة السعودية التي هو مدرس في بعض معاهدها ؛ يحط فيه من قيمة هذا التخريج ، وينسب إليّ ما لم يخطر لي على بال ، فرأيت أن ألخص هنا مآخذه علي ، لأعود بعد ذلك ، فأكر عليها بالرد والنقض. ويمكن تلخيصها في خمسة أمور.

الأول : قولي فيما عزاه المصنف للشيخين أو أحدهما : «صحيح» وقولي احيانا : «صحيح ، أخرجه مسلم» أو «صحيح ، متفق عليه». وأحيانا لا أقول في كل ذلك : «صحيح» : فاستنتج المتعصب المشار إليه ما أفصح عنه بقوله :

«وما لم يقل فيه ذلك يكون متوقفا فيه تحت النظر والمراجعة له فيه حتى يأتي هو بحكمه ، فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون!».

الثاني : قولي في بعض الأحاديث والآثار : «لا أعرفه». ويرد عليه بقوله :

«فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا»! وقال في أثر ابن مسعود «هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر» الذي قلت فيه : لا أعرفه : فقال في ذلك : «فهل المراد من هذا أنه لا يعرف المعروف من المنكر ، أو لا يعرف كلام عبد الله بن مسعود»!!.

الثالث : أخذ عليّ قولي في حديث صحيح مستدركا على الشارح عزوه إياه ل «الصحيح» : لكن لم يروه أحد من أهل «الصحيح» والمراد به البخاري أو مسلم».

الرابع : قال : «استدرك بعض المصححين حديثا نفاه كذا الأصل أن يكون موجودا في كتب السنة التي اطلع عليها ، وقال : لا أصل له باللفظ المذكور في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها وأظنه وهما من المؤلف. فإذا به قد رواه الترمذي في سننه وابن جرير أيضا كما قد نبهه إلى ذلك أحد المصححين في «المكتب الاسلامي» وأن الحديث بلفظه الذي نفاه جاء في «مشكاة المصابيح» برقم ٢٣٤ فيها»!.

الخامس : أخذ عليّ أيضا قولي في حديث «من عادى لي وليا ...» : «رواه البخاري ، وفي سنده ضعف ، لكن له طرق لعله يتقوى بها ، ولم يتيسر لي حتى الآن تتبعها وتحقيق الكلام عليها».

هذه هي الأمور الهامة التي أخذها عليّ ذلك المتعصب ، وثمة أمور أخرى لا تستحق الذكر ضربت لذلك عنها صفحا.

ولما كان كلامه قد ينطلي على البعض ، لا سيما الذين لم يتح لهم الاطلاع على المقدمة الملحقة بالطبعة الثالثة ، كان لا بد من أن أكشف النقاب عما فيه من البعد عن الحق والإنصاف ، بل وتعمد الكذب والتزوير وكتم الحقيقة عن الذين رفع تقريره إليهم ، والطعن في مخرج الكتاب بغير حق ، ظلمات بعضها فوق بعض. فأقول مجيبا على كل أمر من تلك الأمور الخمسة مراعيا ترتيبها :

١ ـ إن قولي فيما رواه الشيخان أو أحدهما : «صحيح» وكنت قدمت الجواب عنه في المقدمة الملحقة المشار إليها آنفا وهو قولنا فيها :

«رغبتنا في إيقاف القارئ بأقرب طريق على درجة الحديث بعبارة قصيرة صريحة ...» واطردا لطريقتي في تخريج الأحاديث حسبما شرحته في مطلع هذه المقدمة. غاية ما في الأمر أنه لم يطرد لي ذلك في بعض الأحاديث للسبب الذي سبق بيانه فجاء هذا المتعصب فعلّل ذلك بتعليل من عند نفسه إرواء منه لحقده وغيظه ، فقال كما تقدم نقله عنه :

«وما لم يقل فيه ذلك يكون متوقفا فيه ...» الخ .. ثم أعاد هذا فقال (ص ٤) عن تقريره متسائلا ، مجيبا نفسه بنفسه :

«فهل الحكم لهذا الحديث بالصحة آت من حكمه هو له ، أو من إخراج مسلم لهذا الحديث في صحيحه وحكمه له بالصحة. الجواب أن الصحة لهذا الحديث وأمثاله آتية من حكمه هو له بالصحة ، وليس من حكم الإمام مسلم ، بدليل أنه علق على غيره مما أخرجه مسلم بقوله «صحيح» وتارة يقول : (صحيح ، متفق عليه)».

فأقول ، وبالله أستعين :

إن هذا الجواب الذي أجاب به نفسه لهو محض تخرص واختلاق ، لأن كل من شم رائحة العلم بالحديث الشريف يعلم بداهة أن قول المحدث في حديث ما : «رواه الشيخان» ، أو «البخاري أو مسلم» إنما يعني : أنه صحيح. فاذا قال في بعض المرات : «صحيح ، رواه الشيخان» أو «صحيح ، رواه البخاري» أو «صحيح ، رواه مسلم» فهو من باب البيان والتوضيح والتأكيد لصحة الحديث. فاذا قال «رواه الشيخان» أو نحوه فلا ينافي أنه صحيح. غاية ما في الأمر ، أن التعبير مختلف والمعنى متحد. فأي شيء في هذا الاختلاف في التعبير؟ وإنما أتي هذا المتعصب من جهله بهذا العلم ، وضيق فكره وعطنه ، إن سلم من سوء قصده ، وفساد طويته ، الذي يدل عليه بعض أقواله المتقدمة مما سيأتي التعليق عليه ، ولفت النظر إليه ، وإنما قلت : «من جهله» ، لأني لا أستبعد على مثله أن يخفى عليه مثل

هذا التوجيه بين التعبيرين ، لأن الجمود على التقليد الذي ران على قلبه ، لا يفسح له المجال أن يتفهم الحقائق الظاهرة لكل ذي لب وبصيرة ، إلا أن يلقنها إياه شيخ مقلد مثله وهيهات! وظني به أنه يجهل أن قولي : «صحيح ، رواه الشيخان» ونحوه مما تقدم ، قد سبقت إليه ، وإلا لم يبادر إلى الإنكار وإلى هذا الافتراء الذي نسبه إليّ من أني إذا قلت : «رواه الشيخان» فأنا متوقف في صحته ـ زعم ـ ولما قال أيضا ما سبق نقله عنه. «فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون»!.

وقد سبقني إلى ما ذكرت إمام كبير من أئمة الحديث وحفاظه ألا وهو شيخ الاسلام محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي مؤلف الكتاب الجليل : «شرح السنة» الذي يقوم بطبعه المكتب الإسلامي لأول مرة ، (١) فقد جرى فيه مؤلفه رحمه‌الله تعالى على مثل ما جريت أنا عليه في تخريج هذا الكتاب : «شرح الطحاوية» ، فهو تارة يكتفي بعز والحديث إلى الشيخين أو أحدهما ، وتارة يضم إلى ذلك التصريح بالصحة ، والاستعمال الأول ، لا شبهة فيه عند صاحب التقرير الجائر ، ولذلك فلا فائدة من تسويد الورق بنقل الأمثلة عنه فيه. وإنما المستنكر عنده الاستعمال الآخر : الجمع بين التصريح بالصحة مع العز وإلى الشيخين أو أحدهما ، فهذا الذي ينبغي ضرب الأمثلة له من الكتاب المذكور ، لعل ذلك المتعصب يرتدع عن جهله وغيه.

لقد رأيت للحافظ البغوي في المجلد الأول من كتابه المذكور أنواعا من التعابير ، أنقلها مع الإشارة إلى أحاديث كل نوع منها برقمها.

الأول : «صحيح ، متفق على صحته». يعني بين الشيخين.

انظر الأحاديث (٦ ، ٦٨ ، ١٣٢) ، وقد يقول :

«صحيح ، أخرجاه». رقم (١٥٤).

__________________

(١) وقد تم طبعه في ١٦ مجلدا ، منها المجلد الأخير مختصا بالفهارس ، وهو بتحقيق الاستاذين شعيب الارناؤوط وزهير الشاويش.

الثاني : «حديث صحيح ، أخرجه محمد». يعني الامام البخاري (١).

انظر الأحاديث : (٤١ ، ١١٣ ، ١٧١).

الثالث : «هذا حديث صحيح» ، يقوله في الأحاديث التي يرويها بسنده عن البخاري ، وهذا بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي في «صحيحه».

انظر الأحاديث : (١٢ ، ٢٣ ، ٣٤ ، ٤٤ ، ٥٧ ، ٨٦ ، ٩٤ ، ١٠٨ ، ١١٦ ، ١٢٥ ، ١٤١ ، ١٥٨ ، ٢٠٣ ، ٢٣٠).

الرابع : «هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم».

وهذا النوع كثير جدا عنده فانظر الأحاديث : (٢ ، ٤ ، ٨ ، ١٦ ، ١٧ ، ٢٤ ، ٣٦ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥٣ ، ٥٦ ، ٥٩ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٦٧ ، ٧٤ ، ٧٨ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٨٥ ، ٩١ ، ٩٣ ، ١٠١ ، ١٠٩ ، ١٢٣ ، ١٢٧ ، ١٣٩ ، ١٤٨ ، ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٧ ، ١٩١ ، ٢٠١ ، ٢٠٥ ، ٢١١ ، ٢١٩ ، ٢٣١ ، ٢٣٢ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨).

الخامس : ورأيته مرة قال : «هذا حديث حسن ، أخرجه مسلم» ، فلم يصححه! راجع رقم (١٠٧).

وظني أن عنده أمثلة أخرى من كل نوع من هذه الأنواع الخمسة ولا سيما الرابع منها ، ولكني لا أطول الآن بقية الأجزاء ، وفيما ذكرنا كفاية لمن أراد الله له الهداية.

وبهذا البيان يتبين للقارىء الكريم بوضوح تام بطلان ما رماني به المتعصب الجائر في قوله السابق :

«فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون»!

وإن أراد به ما سبق أن نقلته عنه ما لم أقل فيه «صحيح» مما أخرجه الشيخان

__________________

(١) ومثله قول الامام الذهبي في حديث : «كان الله على العرش .. «حديث صحيح ، قد خرجه البخاري في مواضع» ... انظر كتابي «مختصر العلو» (ص ٩٨ / ٤٠) وتعليقي عليه في هذا الموضع رقم (٢٩). ونحو ذلك قال في حديث «أين الله؟» كما سيأتي (ص ٢٨٧) ، فهلا اقتنع أبو غدة أم (إنها ...).

أو أحدهما : اني متوقف فيه تحت النظر والمراجعة! فهو باطل وزور ، كما سبق بيانه في مطلع هذا الجواب ، وأزيد هنا فأقول :

إن الدليل الذي استدل به على هذا الباطل لو كان صحيحا ، لشمل معي الإمام البغوي ، ومن قال مثل ذلك ، فقد قدمت عنه الأمثلة الكثيرة في قوله : «صحيح ، متفق عليه» ونحوه ، مع أنه في أحاديث أخرى مما أخرجه الشيخان أو أحدهما لم يقل فيها : «صحيح» كما سبقت الإشارة إليه ، فهل معنى ذلك عند هذا المتعصب الجائر : أن البغوي أيضا متوقف في هذا النوع الذي لم يقل فيه : صحيح؟!

ومما يزيد القارئ الكريم علما ببطلان ما اتهمني به المتعصب المشار إليه أن أذكره بأن الأحاديث التي عزاها الشارح رحمه‌الله تعالى أو عزوتها أنا إلى الشيخين أو أحدهما ، ولم أقل فيها «صحيح» هي أكثر ـ باعتراف المتعصب في تقريره ـ من الأحاديث التي قلت فيها : «صحيح» ، فلو كان ما رماني به حقا وصدقا لكان مساويا لقوله ـ لو قال ـ «إن أكثر الأحاديث المعزوة في الكتاب للصحيحين أو أحدهما هي مما توقف فيه الألباني وتحت نظره ومراجعته حتى يأتي هو بحكمه»! لو قال هذا أحد لبادر كل القراء الذين لهم اطلاع على شيء من كتبي وتخريجاتي إلى تكذيبه ، وهذا المتعصب الجائر وإن لم يقل هذا القول الذي افترضته ، فقد قال القول المساوي له والمؤدي إليه ، فعليه وزره! بل إن هذا القول الذي رماني به يبطله أيضا ما كنت صرحت به في مقدمة الطبعة الثالثة : «إن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما ، فقد جاوز القنطرة ، ودخل في طريق الصحة والسلامة ...» والمتعصب الجائر على علم بهذا النص يقينا ، فلئن جاز له أن ينسب إلي ما لم يخطر في بالى مطلقا بنوع من الاجتهاد منه ـ إن كان أهلا له ـ قبل أن يطلع على هذا النص ، فكيف جاز له ذلك بعد أن علم به. فالله تعالى يتولى جزاءه.

٢ ـ إن قولي في بعض الأحاديث والآثار : «لا أعرفه» معناه معروف عند طلاب هذا العلم الشريف فضلا عن العالمين به : لا أعرف إسناده ، فأحكم عليه بما يستحق من صحة أو ضعف ، وبعض العلماء يعبر في مثل هذا بتعبير آخر ، فيقول :

لم أجده (١) أو لم أجد له أصلا وبعضهم يقول لا أصل له. وهذا كله معروف عند العلماء ، وهذا التعبير الأخير منتقد عند بعض المحققين ، لما فيه من الاطلاق الموهم أنه لا أصل له عند العلماء قاطبة ، ومثل هذا الحكم صعب ، فبالأولى التعابير التي قبله.

فهل المتعصب الجائر على جهل بهذا ، أم هو يتجاهل لغاية في نفسه. فإن كنت لا تدري ...

وغالب الظن أنه جمع المصيبتين الجهل والتجاهل معا ، أما الجهل فيدل عليه قوله المتقدم ذكره عنه : «فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا».

قلت : فظاهر هذه العبارة أنه أراد المتن ، أي أن الشارح عرف المتن الذي لم أعرف أنا! وأنا إنما أعني كما جرى عليه من قبلي من المحدثين : لم أعرف إسناده ، فما الفائدة من معرفة الشارح لهذا المتن. وكل أحد يعلم ذلك من كتابه ، وإن كان يعني المتعصب الجائر أن الشارح عرف إسناده ـ وهذا بعيد جدا عن ظاهر كلامه ـ فمن أين له ذلك والشارح ، لم يخرجه ، ليمكننا الرجوع إلى مخرجه ولننظر في إسناده؟

__________________

(١) قلت : وهذا التعبير يكثر من استعماله أئمة الحديث في كتب «التخريجات» ، أمثال الحافظ الزيلعي والعراقي والعسقلاني ، وغيرهم ، وقد وجدت العراقي قد قال «لم أجده» في الجزء الأول من «تخريج الإحياء» في أكثر من عشرة أحاديث ، وهذه صفحاتها من الطبعة التجارية : (٩٢ ، ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٦ ، ١٧٠ ، ١٨٣ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٩٩ ، ٣٠٧).

وقال في نحو هذا العدد من الأحاديث : «لم أجد له أصلا». (٧٦ ، ٨١ ، ١٠٢ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٧٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٣٢ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٣١٧) ، وقال مرة : «لم أجد له إسنادا» (٢٩٦).

وتارة يقول : «قال ابن الصلاح : لم أجد له أصلا ، وقال النووي : غير معروف» (ص ١٣٧) ، وهذا مثل قولي : «لا أعرفه» ، فهل يفهم أحد من هذا التعبير ، غير هذا المتعصب أن العراقي يعني به لم يجد متنه وهو يراه مائلا أمامه ، وحينئذ فأي فرق بين «لم أجده» و «غير معروف» و «لم أعرفه»؟!

وأما التجاهل فهو واضح من قوله : «فهل المراد من هذا أنه لا يعرف المعروف من المنكر»! فإن هذا لا علاقة له البتة بقولي في تخريج الخبر : «لا أعرفه». فما معنى تساؤله المذكور إلا لتجاهل المقصود للمراد ، وصرف الكلام إلى ما ليس له علاقة بالبحث ، ليروي بذلك غيظ قلبه ، ويظهر للناس كمين حقده ، وعظيم حسده ، بسوء لفظه ، حتى لا يدري ما يخرج من فمه. نسأل الله العافية.

وبعد كتابة ما تقدم رجعت إلى كتاب «المصنوع في معرفة الموضوع» للشيخ العلامة منلا علي القاري ، المطبوع حديثا. بتحقيق وتعليق صاحب التقرير الجائر ، فوجدت فيه عديدا من الأحاديث التي قال الحافظ السخاوي في كل واحد منها : «لا أعرفه» وهي برقم (١ ، ٢ ، ١٢ ، ١٦ ، ٤٣ ، ٨٣ ، ٩٨ ، ١٥٨ ، ١٦٣ ، ١٨٦ ، ٢٠٥ ، ٢٨٢ ، ٢٩٤ ، ٣٠٩ ، ٣٣٦ ، ٣٨١) ، وذكر مثله عن الحافظ ابن حجر في الحديث (٢٧٣) ، وقال هو في الحديثين (٢٩٧ ، ٣٠٢) : غير معروف.

قلت : فهل معنى قولهم : «لا أعرفه» ، أو «غير معروف» ، أنهم لا يعرفون المتن؟ طبعا : لا ، لما سبق بيانه.

وقد رأيت هذا المتعصب قال في تقدمته للكتاب (ص ٨) تحت عنوان «شذرات في بيان بعض عبارات المحدثين حول الأحاديث الموضوعة» :

«١ ـ قولهم في الحديث : لا أصل له ، أو لا أصل له بهذا اللفظ ، أو ليس له أصل ، أو لا يعرف له أصل ، أو لم يوجد له أصل ، أو لم يوجد ، أو نحو هذه الألفاظ ، يريدون أن الحديث المذكور ليس له إسناد ينقل به». ثم نقل عن ابن تيمية أن معنى قولهم : ليس له اصل ، أو لا أصل له ، معناه : ليس له إسناد.

قلت : فأنت ترى أن المنفي في هذه الأقوال إنما هو الإسناد ، وليس المتن ، باعتراف المتعصب نفسه ، فهو على علم به ، فهذا يرجح أنه تجاهل هذه الحقيقة ، حين انتقدني على قولي في بعض الأحاديث : «لا أعرفه» ، وعليه فقوله : «فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا» ، يعني أنه عرف إسناده الشارح أو غيره ، فنقول : هذه دعوى ، والله عزوجل يقول : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ورحم الله من قال :

والدعاوى ما لم تقيموا عليها

بينات أبناؤها أدعياء

أقول هذا دون أن يفوتني التنبيه على أنه من المحتمل أنه كان ناسيا لقول ابن تيمية السابق لما انتقدني في تقريره. فإن الرجل على كثرة نقله عن كتب العلماء ، فهو فيها كحاطب ليل ، لأنه في كثير من الأحيان ينقل عنهم ما لم يهضم معناه ، فهو لذلك لا يستحضره عند الحاجة إليه ، بل قد ينساه مطلقا فلا يتخذه له منهجا في منطلقه في هذا العلم ، ولذلك تراه متناقضا في تعليقاته أشد التناقض فيقر في بعضها ما كان انتقده سابقا ، أو العكس ، ولست الآن في صدد شرح ذلك في هذه المقدمة ، ولا هو يستحق ذلك ، وإنما بين يدي الآن مثالان من تعليق «المصنوع»! لا أريد أن أفوت على نفسي فائدة التنبيه عليهما :

الأول : قال بعد الفقرة السابقة مباشرة :

«٢ ـ لا أعرفه ، أو لم أعرفه أو لم أقف عليه ... أو ... أو ونحو هذه العبارات إذا صدر من أحد الحفاظ المعروفين ، ولم يتعقبه أحد كفى للحكم على ذلك الحديث بالوضع»!

كذا قال : وهو خطأ واضح ، يدل على بعده عن هذا العلم ، فإن هذه العبارات التي ساقها في هذه الفقرة هي في الدلالة على المراد منها كالعبارات التي ذكرها في الفقرة الأولى السابقة ، فكما أن تلك معناها : ليس له إسناد ، فكذلك هذه ولا فرق ، وإذا كان كذلك ، فكون الحديث لم يقف المخرج على إسناده ، فليس معناه عنده أنه موضوع ، لأن الحديث الموضوع ، إما أن يكون وضعه من قبل إسناده ، وذلك بأن يكون فيه كذاب أو وضاع ، وهذا لا سبيل إليه إلا من إسناده ، والفرض هنا أنه غير معروف ، وإما أن يكون من قبل متنه ، وذلك بأن يكون فيه ما يخالف القرآن أو السنة الصحيحة ، أو غير ذلك مما هو مذكور في «مصطلح الحديث» ، ومن المعلوم بداهة ، أنه ليس كل حديث لا إسناد له ؛ في متنه ما يدل على وضعه ، بل لعل العكس هو الصواب ، أعني أن غالبها ليس فيها ما يدل على وضعها ، كما أشار إلى ذلك العلامة القاري في الكتاب المذكور (ص ١٣٧) وإن تعقبه المتعصب ، فإن موضع الشاهد منه مسلم به اتفاقا ، وهو أن كثيرا منها ليس عليها

أمارات الوضع ، وهذا مما يدل عليه تعليق المتعصب نفسه هناك. فثبت بذلك خطؤه في قوله المتقدم أن قول أحد الحفاظ «لا أعرفه» أو نحوه كاف للحكم على الحديث بالوضع! ولو بالشرط الذي ذكره. وبالجملة فقولهم : لا أعرفه ، أو لا أصل له ، لا يساوي في اصطلاحهم قولهم : حديث موضوع إلا إذا كان هناك قرينة في متنه تدل على وضعه ، فيشيرون إلى ذلك بإضافة لفظة «باطل» كقول الحافظ العراقي في حديث الصلاة ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء ١٢ ركعة ، وحديث الصلاة ليلة الجمعة بعد العشاء وسنتها عشر ركعات (١ / ٢٠٠ ـ «تخريج الاحياء» المطبعة التجارية) قال في كل منهما : «باطل لا أصل له». وقال مثله في حديث رواه الخضر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! (١ / ٣٥٢). وكذلك قال في حديث رابع (١ / ٣٥٣) ، بينما لم يقل ذلك في عشرات الأحاديث الأخرى مما لا أصل له ، فانظر الصفحات (٩٢ ، ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٦ ، ١٧٠ ، ١٨٣ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٩٩ ، ٣٠٧ ـ ولفظه فيها : لم أجده) و (٦٠ ، ١٥٦ بلفظ : لم أجده بهذا اللفظ) و (٦٢ ، ٧٦ ، ١٢٥ ، ٢٣٧ بلفظ : لم أجده هكذا). و (٧٢ ، ١٥٢ ، ١٦٩ ، ٢٤٣ ، ٢٦٠ ، ٣١٢ ، ٣٢٠ ، ٣٥٤ بلفظ : لم أقف له على أصل ، ومرة : ليس له أصل). و (٧٦ ، ٨١ ، ١٠٢ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٧٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٣٢ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٢٩٦ ، ٣١٧ ، بلفظ : لم أجد له أصلا ، ومرة : إسنادا).

وكذلك وجدت في «المصنوع» خمسة أمثلة في أحاديثها : «باطل لا أصل له» فانظر (٧٥ ، ٢٤٨ ، ٢٦١ ، ٣٧٩ ، ٣٨٣) ، وسائر الأحاديث التي لا أصل لها مما جاء فيه لم يقل فيها : «باطل» ، كل ذلك إشارة إلى ما ذكرنا ، وهذا النوع «باطل لا أصل له» مما فات على المتعصب ذكره في تلك الأنواع مع استيفائه إياها ، وذلك دليل أيضا على بعده عن التحقيق العلمي.

المثال الآخر : جاء في «المصنوع» حديث رد الشمس على علي رضي الله عنه ليصلي العصر بعد أن غربت ولم يصل. فذكر المتعصب في التعليق عليه : جماعة من العلماء قالوا بأنه حديث موضوع ، وآخرون ذهبوا إلى تصحيحه منهم شيخه الكوثري ، فضل المتعصب بين هذين الحكمين المتناقضين ، ولم يستطع ـ وهو الأمر الطبيعي الملازم له! ـ أن يرجح أحدهما على الآخر ، ولكنه حاول بادئ الرأي أن

يرجح التصحيح بدون مرجح ، وإنما تقليدا منه لشيخه الكوثري فقال (ص ٢١٥) :

«وقد جاءت كلمته رحمه‌الله تعالى على وجازتها ملخصة المسألة أحسن تلخيص ، اذ قال : «ولا كلام في صحة الحديث من حيث الصناعة ، لكن حكمه حكم أخبار الآحاد الصحيحة في المطالب العلمية». فأفاد بهذا الإيجاز البالغ أن الخبر على صحته لا ينهض في بابه وموضوعه ، لأنه من المطالب العلمية التي تتوقف على اليقينيات وما قاربها. فلا بد على هذا من تأويل الخبر مع قولنا بصحته لمخالفته ما هو من الأمور العلمية ، والله تعالى أعلم».

هكذا قال هذا المسكين ، ولم يدر أنه بهذه الفلسفة التي تلقاها من شيخه يجعله كما تقول العامة : «كنا تحت المطر ، فصرنا تحت المزارب» ، لأنه فتح على نفسه بابا للشباب الذين لا علم لهم بالسنة أن يردوا كل حديث صحيح ورد في الأمور التي ليست من الأحكام ، وإنما هي في المعجزات أو بدء الخلق والجنة والنار ، وبكلمة واحدة في الغيبيات التي تتوقف على اليقينيات بزعمه ويعني بذلك الأحاديث المتواترة ، ثم تحفظ فقال : «أو ما قاربها» ويعني الأحاديث المشهورة التي رواها أكثر من اثنين. أما الحديث الذي تفرد به الثقة وهو صحيح عند أهل العلم فليس حجة في الغيبيات عنده فلا بد من تأويله بزعمه ، وليت شعري كيف يؤول مثل هذا الحديث الذي يتحدث عن واقعة معينة؟ اللهم إلا بإنكار معناه وتعطيله حتى يتفق مع العقول المريضة والقلوب العليلة ، تماما كما فعلوا في آيات الصفات وأحاديثها! ثم إن المتعصب المذكور يبدو أنه بعد أن كتب عن شيخه ما كتب وقف على كلام شيخ الاسلام ابن تيمية في هذا الحديث فألحقه بكلام شيخه قائلا :

«على أن الذي يقرأ كلام الشيخ ابن تيمية يجزم بوضع الحديث»!

هكذا قال بالحرف الواحد ، فليتأمل القارئ كيف حكم في أول الأمر بصحة الحديث ، ثم ختمه بهذه العبارة التي توهم أنه قد مال أخيرا إلى أن الحديث موضوع! والحقيقة أنه لضعفه في هذا العلم لا يستطيع أن يقطع فيه برأي ، هذا اذا أحسنا الظن به ، وإلا فمن غير المعقول أن يخالف شيخه الكوثري إلى رأي ابن تيمية الذي حكم عليه شيخه بأن أكبر بلية أصيب المسلمون بها إنما هو ابن تيمية! وإنما

حكى القولين المتناقضين ليفسح له المجال للدفاع عن نفسه إذا ما خاصمه أنصار أحدهما. ولله عاقبة الأمور (١).

٣ و ٤ ـ يريد المتعصب الجائر بما أخذه علي في الفقرتين السابقتين ، الطعن في قيمة تخريجي لأحاديث الكتاب ، كأنه يقول : كما وهم في إنكاره اللفظ المخرج عند الترمذي ، فمن الممكن أن يكون نفيه لكون الحديث الآخر في «الصحيح» وهما منه أيضا!

وجوابي على ذلك أن أقول : إذا فتح باب رد كلام الثقة بدون حجة ، وإنما لمجرد إمكان كونه أخطأ ، أو لأنه أخطأ فعلا في بعض المواطن ، لم يبق هناك مجال لقبول خبر أو علم أي ثقة أو عالم في الدنيا ، لأنه لا عصمة لأحد بعد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو معلوم من الدين بالضرورة. وإن مما يدلك أيها القارئ على تحامل هذا المتعصب ، وأنه يقول في نقده إياي ما لا يعتقد ، أنه هو نفسه قد طبع في تعليقه على «الرفع والتكميل» (ص ١٢٢ ـ الطبعة الثانية) ما نصه :

«وقد يقع للثقة وهم أو أوهام يسيرة ، فلا يخرجه ذلك عن كونه ثقة»!

فهل نسي المتعصب الجائر قوله هذا أم تناساه؟! وصدق الله العظيم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

وإذا كان هذا المتعصب الجائر يحاول أن يسقط الثقة بمخرج «شرح الطحاوية» لوهم أو أكثر من وهم ، فما ذا يقول في شارح «الطحاوية» نفسه الذي يتظاهر هو بتبجيله والثقة به في مطلع تقريره وهو قوله :

«يرى الناظر في شرح الطحاوية أن الشارح لها من أهل التوثق والضبط والإتقان فيما ينقله من الأحاديث».

ونحن وإن كنا نعتقد أن الشارح رحمه‌الله تعالى هو من أهل الثقة والضبط حقا ، فإني أريد أن أحصر هنا الأوهام التي تنبهت لها ، وليس ذلك من باب الطعن فيه ، ورفع الثقة عنه ، كما هو ظاهر من ردنا الآنف على المتعصب الجائر ، وإنما لأمرين :

__________________

(١) والحق عندنا مع ابن تيمية كما شرحته قديما في «سلسلة الاحاديث الضعيفة» (٩٧١).

الأول : إما أن أكون مصيبا فيما نسبت إلى الشارح من الأوهام عند المتعصب الجائر. وحينئذ نسأله : هل الشارح لا زال عندك «من أهل التوثق والضبط والاتقان» على الرغم من أوهامه كما هو عندنا قبل ذلك وبعده لما سبق ذكره من أن العصمة لله وحده؟ فإن أجاب بالإيجاب ، قلنا : فكيف يلتقي ذلك مع سعيك الحثيث لرفع الثقة عن مخرج أحاديث كتابه لمجرد أنه وهم في تخريج حديث واحد؟! أليس هذا من باب الوزن بميزانين والكيل بكيلين ، أو من قبيل الجمع بين الصيف والشتاء على سطح واحد؟!

وإن أجاب بالنفي ، فقد ظهر للناس حقيقة ما تخفيه نفسك ، وعرفوا أن ما تظهر على خلاف ما تبطن!

والأمر الآخر : إذا كنت مخطئا في ذلك عنده ، فيرجى منه أن يبين لنا ذلك لنرجع عنه كما رجعنا عن الوهم السابق ذكره. وبذلك يعرف الناس أن للألباني أخطاء كثيرة ، وأوهاما عديدة ، وهذا هدف هام للمتعصب يسعى إليه حثيثا ، لأنه بذلك ترتفع ـ بزعمه ـ ثقة الناس عن الألباني فعلا!

إذا تبين هذا ، فلنذكر الأوهام المشار إليها ، في خطوط عريضة ـ كما يقال اليوم ـ دون أن نذكرها مفصلا بمفرداتها ، مكتفين بالاشارة إلى صفحاتها من هذه الطبعة.

١ ـ عزا للصحيحين أو أحدهما وإلى اصحاب السنن الأربعة ما ليس عندهم ، فانظر الصفحات (١٥٩ ، ٣١٤ ، ٣٦١ ، ٤٥١ ، ٤٦٢ ، ٤٧٥ ، ٤٧٦ ، ٤٨٥ ، ٤٨٦ ، ٥١١).

٢ ـ يذكر الحديث عن صحابي يسميه ، وهو في الحقيقة لغيره.

انظر الصفحة (٢٨٣ ، ٣٨٠ ، ٣٩٣ ، ٥١٨).

٣ ـ صدّر حديثا عزاه لمسلم بصيغة «روي» ، وهي في اصطلاح العلماء موضوعة للحديث الضعيف ، مع أن الحديث صحيح ، أيضا فقد رواه البخاري دون مسلم!! (٣١٤).

٤ ـ أشار إلى تضعيف حديث أخرجه الشيخان في «صحيحيهما»! دون أن يذكر وجه تضعيفه ، ولا علة فيه عندي ، بل له شاهد يقويه ذكرته هناك (ص ١٦١)

٥ ـ عزا إلى «الصحيح» حديثا من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو من فعل بعض أصحابه ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقره. (ص ٣٦٧).

٦ ـ رفع حديثا موقوفا. (ص ٤٥٣).

٧ ـ ذكر حديثين لا أصل لهما. (ص ١٢٠ ، ٣٩٤).

إلى غير ذلك من الأوهام التي بيناها في محالها ، مما لا يخلو منه كتاب إلا نادرا ، لا سيما إذا كان مؤلفه ليس له اختصاص معرفة بعلم الحديث الشريف.

فما رأي المتعصب الحنفي في هذه الأوهام ، وهل تسقط بها عنده ثقة شارح الطحاوية التي يتظاهر بها ليتخذها سلاحا للطعن في الألباني وإسقاط الثقة به ، مع أنه لم يعلم منه سوى وهم واحد؟! أم هو يلعب على الحبلين ـ كما تقول العامة عندنا ـ فالرجل ثقة عنده إذا كان مرضيا لديه ـ ويكفي في ذلك أن يكون حنفيا كالشارح! أو كانت له مصلحة في التظاهر بالرضا عنه لدى القوم المقدرين له! مهما كانت أخطاؤه! وآخر غير ثقة عنده إذا كان هواه في عدائه وإسقاط الثقة به ، مهما قلت أخطاؤه ، ولا ذنب له سوى أنه ـ في نظرك ـ طلق حنفيته البتة! واتخذ السلفية مذهبا له ومشربا.

وقبل أن أنهي الكلام على هاتين الفقرتين أريد أن ألفت النظر إلى تدليس خبيث لهذا المتعصب ، فإن قوله عني : «وفي (ص ٥٣٦) (١) استدرك بعض المصححين ...» يشعر من لم يقف على الاستدراك المشار إليه في الصفحة المذكورة أنه لبعض المصححين ، والواقع خلافه ، فأنا الذي كتبته ووقعته باسمي ، ورغبت في طبعه في آخر الكتاب ، خضوعا للحق واعترافا بالخطإ ، دون أن أنسى وجوب نسبة الفضل إلى الذي نبهني عليه ، فقد قلت في الاستدراك المشار إليه :

«قلت : ثم تبين لي انني وهمت في توهيم المؤلف رحمه‌الله تعالى فإن اللفظ المذكور قد أخرجه الترمذي في تمام حديث : «اتقوا الحديث ...» ورواه ابن جرير أيضا وقد خرجته على الصواب في تحقيق «المشكاة» رقم الحديث (٢٣٤). والفضل في هذا الاستدراك يعود إلى أحد المصححين في المكتب الاسلامي ـ جزاه الله خيرا. محمد ناصر الدين الالباني».

__________________

(١) كان هذا في الطبعة السابقة ، وأما في طبعتنا هذه فقد ذكرنا الصواب فقط وانظر الحاشية (١٦٦)

فترى أن كاتب الاستدراك إنما هو أنا ، والمصحح المشار إليه إنما له فضل التنبيه إلى وجود الحديث في الترمذي ، فلما راجعت له بعض المصادر وجدتني قد كنت خرجته في تعليقي على «المشكاة» قبل تخريجي لشرح الطحاوية بسنوات.

فتأمل أيها القارئ الكريم هل في استدراكي هذا معترفا بالوهم ، وعدم المكابرة فيه ـ كما قد يفعل غيري ـ ما يذم عليه صاحبه أم يمدح؟ ثم انظر كيف يقلب الحقائق فيأخذ من كلامي المذكور في «الاستدراك» نفسه أن الحديث في «المشكاة» وأنه رواه ابن جرير أيضا ، وأنا الذي ذكرته فيه معزوا إليه! فيتجاهل ذلك ، ولا ينسبه إلي ، وإنما إلى غيري! فهو يشيع الخطأ عن أخيه المسلم ولو بعد اعترافه ، ويكتم فضله عن الناس ، أهكذا يكون حال المسلم الذي علق في كتاب «الرفع والتكميل» (ص ٥١) : قال التابعي الجليل محمد بن سيرين :

«ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم ، وتكتم خيره»؟! وصدق الله العظيم (... كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

٥ ـ من الواضح أن المتعصب الجائر يشير في هذه الفقرة إلى الطعن في لتضعيفي إسناد هذا الحديث وقد رواه البخاري. وجوابي عليه من وجهين :

الأول : انني لست مبتدعا بهذا التضعيف ، بل أنا متبع فيه لغيري ممن سبقني من كبار أئمة الحديث وحفاظه ، مثل الذهبي في «الميزان» ، وابن رجب الحنبلي في «شرح الأربعين النووية» ، والحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري» ـ كتاب الرقاق ـ وقد نقل هذا عن الذهبي أنه قال في ترجمة راويه خالد بن مخلد :

«هذا حديث غريب جدا ، لو لا هيبة «الصحيح» لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد ، فإن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الاسناد ، ولا خرجه من عدا البخاري ، ولا أظنه في «مسند أحمد» قال الحافظ ابن حجر : «قلت : ليس هو في مسند أحمد جزما ، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الاسناد مردود ، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد ـ فيه مقال أيضا ـ وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص ،

وقدم وأخر ، وتفرد فيه بأشياء لم ينابع عليها ... ولكن للحديث طرقا أخرى ، يدل مجموعها على أن له أصلا».

ثم خرج الحافظ هذه الطرق التي أشار إليها ، وبعضها حسن عنده ، وابن رجب يقول فيها : «لا تخلو من مقال». ولذلك كنت توقفت عن إعطاء حكم صريح لهذا الحديث بالصحة حتى يتيسر لي النظر في طرقه ، ثم يسر الله لي ذلك ، منذ بضع سنين ، فتبين لي أنه صحيح بمجموعها ، وأودعت تحقيق الكلام فيها ، وبيان ما لها وما عليها في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (١٦٤٠) ، وبناء على ذلك جزمت بصحته في هذه الطبعة كما تراه في الصفحة (٤٩٨).

والوجه الآخر : إذا كان المتعصب الجائر أخذ علي تضعيفي لإسناد الحديث دون متنه الذي كنت توقفت فيه إلى أن يتيسر لي تتبع طرقه ، فما ذا يقول في شيخه زاهد الكوثري الذي علق عليه في «الأسماء والصفات» للبيهقي (ص ٤٩١) بما يؤخذ منه أنه حديث منكر عنده جزما ، لأنه نقل كلام الذهبي المتقدم وفيه «ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الاسناد» ثم أقره عليه ، ولم يتعقبه بشيء كما فعل الحافظ ، ولا تحفظ تحفظي السابق ، الأمر الذي يشعر الواقف على كلامه بأن الحديث عنده منكر لا يحتمل تقويه بطرقه ، خلافا لما صنعته أنا.

فيا أيها القارئ الفاضل : أليس الواجب على هذا المتعصب الجائر ، أن يقدر تحفظي هذا حق قدره ، بديل أن ينتقدني ، بل أن يوجه نقده إلى شيخه؟! بلى ثم بلى ، ذلك هو الواجب عليه لو تجرد عن الغرض والهوى ، وصدق من قال :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وإذا كان هذا الجائر لم يجد في كل ما خرجته من أحاديث الكتاب ـ وهي تبلغ المئات ـ ما يتشبث به لينتقدني فيه إلا هذا الحديث الفرد على التفصيل الذي سلف ، ولي فيه سلف كما رأيت ، فما ذا يقول في نقد شيخه الكوثري لعشرات الأحاديث الصحيحة مما أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» أو أحدهما ، فضلا عن غيرها من الأحاديث الثابتة عند أهل الحديث ، وذلك في رسائله وتعليقاته على بعض كتب السنة وغيرها ، ولا سلف له في تضعيف اكثرها! ولا بأس من أن أذكر في هذه

العجالة ما تيسر لي منها الآن ، وبجانب كل حديث ذكر الكتاب والصفحة ومن خرجه.

١ ـ حديث «خلق الله التربة ...» رواه مسلم ـ التعليق على «الأسماء والصفات» (ص ٢٦ ، ٣٨٣).

٢ ـ حديث مراجعة موسى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخمسين صلاة التي فرضت أول الأمر في ليلة الاسراء. متفق عليه (منه ص ١٨٩).

٣ ـ حديث الرؤية يوم القيامة ، وفيه أن الله تعالى يأتي المنافقين في غير صورته. أخرجه الشيخان (ص ٢٩٢ منه).

٤ ـ حديث : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة ...» أخرجه الشيخان. (ص ٣٢٠ منه).

٥ ـ حديث ضحكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديقا لليهودي ... أخرجه الشيخان (ص ٣٣٦).

٦ ـ حديث الحشر والساق. أخرجه الشيخان. (ص ٣٤٤).

٧ ـ حديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للجارية : «أين الله؟» رواه مسلم. (ص ٤٢١).

٨ ـ حديث أن الطلاق بلفظ الثلاث كان يحسب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة. رواه مسلم «الإشفاق على أحكام الطلاق» (ص ٥٢ ـ ٥٦ طبعة حمص).

٩ ـ حديث علي رضي الله عنه في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه بهدم القبور المشرفة. رواه مسلم. (ص ١٥٩ ـ مقالات الكوثري).

١٠ ـ حديث جابر : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تجصيص القبور». رواه مسلم. (ص ١٥٩ ـ مقالات الكوثري).

١١ ـ حديث مالك بن الحويرث في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. أخرجه الشيخان. (ص ٨٣ ـ تأنيب الخطيب).

١٢ ـ حديث وائل بن حجر في رفع اليدين أيضا. رواه مسلم. (ص ٨٣ منه).

١٣ ـ حديث أنس في رضح رأس اليهودي لرضحه رأس جارية. رواه الشيخان (ص ٢٣ ـ منه).

١٤ ـ حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بيمين وشاهد. رواه مسلم. (ص ١٨٥ منه).

هذه الأحاديث كلها في «الصحيحين» أو أحدهما كما رأيت ، وقد ضعّفها الكوثري كلها ، ومعها أمثالها ، لو تتبعها أحد من أهل العلم في كتبه وتعليقاته لجاءت في مجلد! وأما الأحاديث التي ضعفها مما ليس عند الشيخين فحدّث ولا حرج ، وتجد بعض الأمثلة منها مع الرد عليه فيها عند الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه‌الله تعالى في كتابه الفذ «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (١)» ، وقد كنت قمت على تحقيقه وطبعه منذ بضع سنين.

فما رأي التلميذ البار في شيخه «العلامة المحقق الحجة الامام .. الكوثري» وقد ضعف هذه الأحاديث الصحيحة كلها؟!

بل ما رأيه هو نفسه في تضعيفه لحديث رواه مسلم في «صحيحه»؟! فقد قال تعليقا على قول اللكنوي في «الرفع» (ص ١٣٤ ـ ١٣٥) : ولا يصح الحديث لكونه شاذا أو معللا : قال المتعصب الجائر في تعليقه عليه :

«مثاله ما انفرد به مسلم في «صحيحه» (٤ / ١١١) من رواية .. قتادة عن أنس ابن مالك أنه حدثه قال : صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، لا يذكرون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في أول قراءة ولا في آخرها».

ثم نقل عن ابن الصلاح وجه الاعلال المشار إليه.

فما قول المتعصب الجائر في إقدامه المكشوف على تضعيفه لهذا الحديث في «صحيح مسلم» ، وهو ينقم عليّ توقفي عن تصحيح حديث البخاري المتقدم؟! مع ضعف سنده عند المحققين؟!

فإن قال : أنا في ذلك تابع لابن الصلاح : فالجواب : إن كان هذا لك عذرا ، فأنا أولى به منك لأن متبوعي في التضعيف المشار إليه أكثر وأشهر ، كما يعلم مما سبق! مع الفرق الكبير في ذلك وهو أنني ألمحت إلى إمكان ثبوت حديثي بطرقه ، وهذا ما لم يصنعه هو في حديثه الذي أعله ، بل إن الحافظ في «الفتح» دفع عنه علته ورحم الله من قال :

__________________

(١) ويقوم المكتب الاسلامي بإعادة طبعه مجددا مع اضافات كثيرة ، تبين حال أعداء السنة والحديث.

فحسبكمو هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح

بل ما ذا يقول هذا المتعصب الجائر الجاني على نفسه فيما جاء في «مقدمة إعلاء السنن» تحت عنوان «ذكر بعض المغامز في «الصحيحين» وتكلف الجواب عنها»! قال مؤلفه الشيخ ظفر أحمد العثماني التهانوي عقبه (ص ٤٦٣) :

«وما يقوله الناس : إن من روى له الشيخان فقد جاوز القنطرة ، هذا من التجوّه (أي التكلف) ولا يقوى ..» ثم أطال في الاستدلال لما قال!

والغرض من إيراد هذا هنا أن يعلم القارئ الكريم أن هذه المقدمة قام على طبعها والتعليق عليها المتعصب الجائر ، وقد علق في أكثر من موضع منها متعقبا على المؤلف ، وأما هنا فإنه سكت عنه ، ولم يتعقبه بشيء البتة الأمر الذي يدل على أنه مع المؤلف فيما غمز به «الصحيحين» ، وفي رد قول الناس المذكور. وقد كنت ذكرت نحوه في مقدمة الطبعة الثالثة ، وقد سبق حكايته في هذه المقدمة (ص ٢١) ، وإن القارئ ليزداد عجبا من هذا العنوان وما تحته إذا علم أن لفظة «الناس» فيه ، إنما المراد به الحافظ الذهبي وأمثاله من كبار المحدثين ، الذين يعرفون فصل «الصحيحين» ، ودقة تحريهما للأحاديث الصحيحة ، على ما هو مشروح في كتب «علم مصطلح الحديث» و «مقدمة فتح الباري» للحافظ ابن حجر ، وغيره ، فتجد هذا المتعصب يتابع المؤلف المشار إليه في نقد «الصحيحين» نقدا عاما انتصارا لمذهبهم الحنفي ، الذي لا يأخذ بكثير من أحاديثهما ، وقد مضت بعض الأمثلة على ذلك مما رده الكوثري شيخ هذا المتعصب المشار إليه من أحاديثهما.

هذا حال هذا المتعصب الهالك ، وموقفه من «الصحيحين» الحالك ، ومع ذلك ، فهو لا يستحي أن يتظاهر بالغيرة عليهما ، والمدافعة عنهما ، من أجل حديث واحد لأحدهما ، قلنا في إسناده ما قاله أهل الاختصاص فيه ، دون أن نتجرأ على تضعيف متنه ، حتى يتيسر لنا البحث في طرقه ، فلما منّ الله علينا به ، تبينت لنا صحته والحمد لله تعالى.

وهذه خدمة لصحيح الامام البخاري اقدمها بفضل الله بعد أن قرأت ما قاله الحافظ الذهبي وابن رجب وغيرهما ، وهنا يصح لنا أن نتمثل بقول الشاعر.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لقد أراد هذا المتعصب أن يظهرنا أمام الناس بمظهر الطاعنين في «صحيح البخاري» وكذا «مسلم» ، فإذا بالحقائق تشهد أنه هو الطاعن ، مصداقا للمثل السائر : «من حفر بئرا لأخيه وقع فيه» (١) ، والمثل الآخر «من كان بيته من زجاج فلا يرم الناس بالحجارة»!

ان مبلغ تعصب هذا الحنفي ، تبعا لشيوخه الأحناف على أهل الحديث عامة ، والبخاري ومسلم خاصة ، لا يعلمه إلا من تتبع مؤلفاتهم ، أو تعليقاتهم على غيرها وقد سبق ذكر بعض النماذج منها ، ومن الأدلة الجديدة التي وقفت عليها ، تلك المقدمة التي مضت الإشارة إليها والتي قام هذا المتعصب الجائر على طبعها حديثا والتعليق عليها ، فقد ذكر مؤلفها في مطلعها (ص ٢٠).

«أنه جعلها أساسا لكلامه في كتابه «إعلاء السنن» في تصحيح الأحاديث وتحسينها ، مبينة لقواعد خالف فيها علماءنا الحنفية جماعة المحدثين ، (كذابا بالضبط وليس العكس!) ولكل وجهة هو موليها في باب التصحيح والتحسين والتضعيف ، فرب ضعيف عند المحدثين صحيح عند غيرهم ، وكذا العكس»!!

ثم ذكر مخالفة ابن حبان جمهور المحدثين في قبوله رواية المجهول والاحتجاج بها ، والتي ردها الحافظ ابن حجر وغيره من المحدثين ، على ما هو مفصل في محله من «علم المصطلح» ، ذكر ذلك ليتخذها ذريعة لتبرير مخالفة الحنفية أيضا إياهم في كثير من قواعدهم متسائلا بقوله (ص ٢) :

«فما ذا على الحنفية لو خالفوا كذلك بعض الأصول!». ثم يتدرج من ذلك إلى القول (ص ٢٠) :

«قلت : ولا يخفى أن ظن المجتهد لا يكون حجة على مجتهد آخر».

يشير بذلك إلى أن الحنفية مجتهدون في مخالفتهم لأئمة الحديث في أصولهم ، فمهما خالفوهم في شيء من قواعدهم ، فلا لوم عليهم في ذلك. وبناء على ما سبق ،

__________________

(١) ويروى مرفوعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعرف له اصل كما في «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي.

صرح (ص ٤٦١) : بأن للحنفية في الحديث أصولا ، كما أن للمحدثين أصولا!

وكل هذه الأقوال مر عليها المتعصب الجائر مرور المسلم بها ، فإنه سكت عنها ، ولم يتعقبها بشيء ، بل ذكر في تعليقه على الصفحة (٢١) انه عدل اسم هذه المقدمة ـ بموافقة المؤلف إلى : «قواعد في علوم الحديث»!

قلت : وكم كان يكون طريفا جدا لو أنه ألحق بهذا الاسم الجديد قوله : «على مذهب الحنفية» ، ليكون عنوانا صادقا عن مضمون الكتاب وحقيقته ، فإنه في الواقع ، قد اشتمل على قواعد كثيرة لهم ، خالفوا فيها جماهير علماء الحديث قديما وحديثا. وما ذلك إلا ليتسنى لهم ـ بناء عليها في تصحيح ما ضعفه علماء الحديث ، أو تضعيف ما صححوا! كما أشار إلى ذلك بقوله المتقدم : «فرب ضعيف عند المحدثين صحيح عند غيرهم» يعني الحنفية!

يقول هذا مع أن من فصول كتابه (ص ٤٤٠) : «يرجع في كل علم إلى أهله ورجاله»!

ثم أيده بكلام جيد نقله من «منهاج السنة» ، لشيخ الاسلام ابن تيمية فكيف يتفق هذا مع ما قبله يا أولي النهى!

والحقيقة أن هذه المقدمة لم تأت بجديد بالنسبة للعارفين بما عليه الحنفية من التعصب لأقوال علمائهم ، حتى المتأخرين منهم ، الذين يصرحون بأنهم مقلدون لمن قبلهم ـ زعموا ـ وليسوا مجتهدين. أي علماء ، عند أهل العلم والتحقيق! وذلك بتأويلهم النصوص ، أو رد ما يمكن رده منها حين لا يساعدهم التأويل ، وبتقويتهم للأحاديث المعروفة الضعف عند المحدثين ، وإنما الجديد في المقدمة المذكورة هو التصريح بما لا يعرفه أكثر الناس عنهم ، حتى عامة الحنفية أنفسهم ، ألا وهو أن للحنفية في الحديث أصولا كما أن للمحدثين أصولا! وذلك ليرجعوا إليها عند الاختلاف في المسائل الفقهية أو غيرها ، ويبرروا لأنفسهم عدم الرجوع إلى القواعد المعروفة عند أهل العلم المتخصصين في الحديث!

وعلى هذا فلا لوم على الفرق الضالة المخالفة لأهل السنة ، إذ ما رجعوا عند الاختلاف إلى أصولهم التي ارتضوها لأنفسهم ، كاحتجاج الشيعة مثلا ، بكل ما يروى عن أئمة أهل البيت رضي الله عنهم ، بدعوى أنهم معصومون!

وليتأمل العاقل المنصف كم تتسع شقة الخلاف بين المذاهب الأربعة فضلا عن غيرهم ، إذا ما قامت كل طائفة منهم لتضع لها أصولا في رواية الحديث غير مبالية بجهود أهل الحديث واختصاصهم فيه؟!

وإليك الآن بعض تلك القواعد التي بينها المؤلف المشار إليه في «المقدمة» وارتضاها المتعصب :

١ ـ المجتهد إذا استدل بحديث كان تصحيحا له. (ص ٥٧ ـ ٥٩. ص ٦٥ ـ تعليق).

وغرضهم من هذه القاعدة التمهيد لرد تضعيف المحدثين لكثير من أحاديثهم التي يستدلون بها في كتبهم ، وهي على قواعدهم معلولة ، بالركون إلى هذه القاعدة المزعومة ، وصححوا الحديث بها! ومما يؤكد ما قلنا قول المؤلف (ص ٥٩) :

«قلت : فكل حديث ذكره محمد بن الحسن الامام ، أو المحدث الطحاوي محتجين به فهو حجة صحيحة على هذا الأصل لكونهما محدثين مجتهدين!»

قلت : يقول هذا مع أن محمد بن الحسن رحمه‌الله تعالى على جلالته في الفقه ، فهو مضعف عند المحدثين ، لسوء حفظه ، كما تراه مشروحا في «ميزان الاعتدال» للحافظ الذهبي وغيره. ومن تعصبهم على المحدثين وسوء ظنهم بهم ، ما نقله المعلق على الكتاب (ص ٣٤٣) عن الكشميري الحنفي أن وجه تضعيفهم إياه بأنه كان أول من جرد الفقه من الحديث ، وكانت مشاكلة التصنيف قبل ذلك ذكر الآثار والفقه مختلطا ، فلما خالف رأيهم طعنوا عليه في ذلك»!

هكذا قال! مع أنه يعلم أن الطعن عندهم فيه ، إنما هو سوء الحفظ قال الذهبي في ترجمته محمد بن الحسن في «الميزان» :

«ليّنه النسائي وغيره من قبل حفظه».

وقد حكاه عنه المؤلف نفسه (ص ٣٤٤) ، ولكنه جاء بباقعة (١) أخرى فقال في لتعليق عليه :

«قلت : تشدده معلوم»! يعني الامام النسائي!

٢ ـ قبول مرسل غير الصحابي من أهل القرن الثاني والثالث (ص ١٣٨) ، والقرن الرابع أيضا (ص ٤٥٠).

__________________

(١) الباقعة : الداهية والطائر المحتال.

قلت : ومعنى ذلك أن التابعي ، أو تابعه ، أو تابع تابعه ، أو تابعه ، إذا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو حجة عندهم يثبت به الحكم الشرعي أي بالحديث المعضل. والمعلق ولو من رجل القرن الرابع! وهذا ضعيف باتفاق علماء الحديث ، وغرضهم من ذلك أنه إذا أورد أحد أئمتهم حديثا ما ولو بدون إسناد إطلاقا ، وكان في قرن من القرون الثلاثة من بعد الأول ، ورده علماء الحديث بأنه لا أصل له ، أو لا يعرف له إسناد ، عارضوا ذلك بهذه القاعدة!

قلت : وهذا أمر خطير جدا إذ يتنافى مع ما هو مقرر عند العلماء : أن الاسناد مطلوب في الدين ، وأنه من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، وعليه يقوم علم الحديث والرواية ، ولذلك قال ابن المبارك رحمه‌الله تعالى : الاسناد من الدين ، ولو لا الاسناد لقال من شاء ما شاء. وقال الشافعي رحمه‌الله : مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل. والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقد ساق الكثير الطيب منها أبو الحسنات اللكنوي رحمه‌الله في كتابه «الأجوبة الفاضلة» ثم عقب عليها بقوله :

«فهذه العبارات بصراحتها أو باشارتها تدل على أنه لا بد من الاسناد في كل أمر من أمور الدين ، سواء كان ذلك من قبيل الأخبار النبوية أو الأحكام الشرعية أو المناقب والفضائل ، فشيء من هذه الأمور لا ينبغي عليه الاعتماد ، ما لم يتأكد بالاسناد ، لا سيما بعد القرون المشهود لهم بالخيرية» ثم ذكر الوضاعين وأنواعهم ثم قال (ص ٢٩) :

«ومن هنا نصوا : أنه لا عبرة بالأحاديث المنقولة في الكتب المبسوطة ما لم يظهر سندها ، أو يعلم اعتماد أرباب الحديث عليها ، وإن كان مصنفها فقيها جليلا ..» الخ كلامه. فراجعه فإنه مهم جدا.

قلت : وإذا عرفت هذا ، وأن الاسناد لا بد منه حتى في القرون الثلاثة فضلا عن الرابع وما دونه ، وتذكرت أن أكثر كتب الحديث المعتمدة مؤلفوها في قرن من هذه القرون كمسند الطيالسي وأحمد وأبي يعلى وغيرهم ، وأصحاب الكتب الستة وغيرهم ، ومثل معاجم الطبراني الثلاثة وغيرها ، فعلى هذه القاعدة الباطلة إذا قال

أحد هؤلاء : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر إسناده وصار الحديث بذلك صحيحا. فما قيمة الاسناد حينئذ ، ويا ضيعة جهود المحدثين في جمع الأسانيد.!

هذا مع أن المعروف عنهم أنهم يردون كثيرا من الأحاديث المرسلة ، فضلا عن المعضلة إذا كانت خلاف مذهبهم ، وما لهم لا يفعلون ذلك ، وهم يردون أيضا الأحاديث الموصولة أيضا ، وتجد بعض الأمثلة على ذلك في كتابي «أحكام الجنائز وبدعها» ، فهل هذه القواعد وضعت لأجل الرد على خصومهم والتستر بها ، فإذا كانت عليهم لم يلتفتوا إليها؟!

وقابل هذه القاعدة بقاعدتهم الآتية :

٣ ـ لا يقبل قول أئمة الحديث : «هذا الحديث غير ثابت ، أو منكر .. من غير أن يذكر الطعن»!

سبحان الله! ما هذه المفارقات ، قول أهل الاختصاص في الحديث إذا ضعفوا الحديث لا يقبل. واستدلال المجتهد بحديث ما تصحيح له. فهذا يقبل مع أنه لم يصرح بالتصحيح ، وكذلك قول من دون التابعين : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل حديثه على أنه صحيح وقد لا يكون من العلماء بالحديث؟!

أليس معنى هذه القاعدة هدم جانب كبير من علم الحديث وأقوال العارفين به ، فإن هناك مئات بل ألوف الأحاديث لا نعرف ضعفها ونكارتها إلا من قول المحدثين بذلك فيها. فاذا قال مثل الحافظ الزيلعي والذهبي والعراقي في حديث ما : إنه ضعيف ، فكيف لا يقبل منهم وهم أهل الاختصاص!! ولكن لعلهم يستثنون منهم الحافظ الزيلعي لأنه حنفي المذهب!

نعم لو قيدوا قولهم أو قاعدتهم هذه بما إذا كان هناك مخالف من علماء الحديث ذهب إلى تصحيحه ، فالأمر في هذا قريب ، ومع ذلك ، فالصواب في هذه الحالة أنه لا بد من الرجوع إلى قاعدة أخرى معروفة في علم الحديث وهي : إذا تعارض الجرح والتعديل ، فأيهما المتقدم؟ والصحيح أن الجرح هو المقدم إذا كان سببه مبينا وكان في نفسه جارحا ، وبيانه هناك ، ومن الغريب أن صاحب المقدمة قد رجح فيها (ص ١٧٥) هذا الذي صححته ، فكيف قعّد هذه القاعدة المنافية لترجيحه؟! ولما ذا

خص بالذكر فيها أئمة الحديث دون أئمة الحنفية الذين يصححون ويضعفون حسب قواعدهم!. هل هو تنفيس عما يضمرون في نفوسهم من العداء الشديد لأئمة الحديث أم ما ذا؟!

٤ ـ شيوخ إمامنا الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه ثقات. (ص ٢١٩ ـ ٢٢٠). قلت : يقول هذا مع علمه أن من شيوخ أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى جابر الجعفي ، فقد ذكر هو نفسه (ص ٣٤٨) : أنه ثبت عن أبي حنيفة أنه قال في جابر الجعفي : ما رأيت أكذب منه!

ولذلك لم يسع المعلق عليه ـ على بالغ تعصبه ـ من أن يستدرك على المؤلف فيقول : «إن القاعدة على الأغلب الأكثر».

والمتقرر عند علماء الحديث : أن رواية العدل ليست بمجردها توثيقا.

ثم إنني لا أدري كيف يتجرأ هذا المؤلف على مثل هذه القاعدة.

والواقع في «مسانيد أبي حنيفة» التي جمعها أبو المؤيد الخوارزمي الحنفي يكذبها بشهادة الجامع نفسه ، وإليك عشرة من شيوخ أبي حنيفة الذين أوردهم الخوارزمي مع بيانه لضعفهم ، وفيهم غير واحد من المتهمين!

١ ـ محمد بن الزبير الحنظلي. قال البخاري : فيه نظر ٢ / ٣٥٠.

٢ ـ محمد بن السائب الكلبي : قال البخاري : تركه يحيى بن سعيد وابن مهدي ٢ / ٣٥٠.

٣ ـ إبراهيم بن مسلم الهجري : قال البخاري : كان ابن عيينة يضعفه. ٢ / ٣٨٢.

٤ ـ إسماعيل بن مسلم المكي : تركه ابن المبارك وابن مهدي ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٥ ـ أيوب بن عتبة. قال البخاري : ضعيف عندهم ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٦ ـ حكيم بن جبير. قال البخاري : كان شعبة يتكلم فيه. ٢ / ٤٢٦.

٧ ـ مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضرير ، قال البخاري : يتكلمون فيه. ٢ / ٥٥١.

٨ ـ مجالد بن سعيد ضعفه يحيى القطان ٢٠ / ٥٥٤.

٩ ـ نصر بن طريف. قال البخاري : سكتوا عنه ٢ / ٥٦٢.

١٠ ـ يزيد بن ربيعة أبو كامل الرحبي : قال البخاري : حديثه مناكير ٢ / ٥٧٤.

وأما شيوخه الذين سرد الخوارزمي أسماءهم وبيّض لهم ، وهم ممن تكلم العلماء فيهم فحدث ولا حرج ، فضلا عن غيرهم ممن لم يذكرهم مثل عطية العوفي ١ / ١٠٣ وعبد الكريم ابن أبي أمية ٢ / ٥١ ـ ٥٢ وأبي سفيان طريف بن شهاب السعدي ١ / ٣١٢ وغيرهم.

هذا ، وبعد أن فرغت من الرد على ما جاء في ذلك التقرير الجائر ، من الزور والباطل ، فقد قوي في نفسي الشعور بأن القارئ قد يتساءل بعد فراغه من قراءة هذا الرد : من هو صاحب ذلك التقرير الجائر حقا؟ وقد بدا لي أن من حقهم علي أن أجيبهم عن ذلك التساؤل ، على الرغم من أنني حاولت في أثناء كتابته أن لا أبوح باسمه ، فقد ظهر لي أخيرا أن الأولى بل الواجب الكشف عن هويته ، ليعرف كل قارئ عدوه من صديقه ، وحبيبه من بغيضه ، فيحب في الله ، ويبغض في الله ، ولي في ذلك من أهل العلم بالحديث وأصوله أحسن أسوة ، الذين صرحوا بجواز بل وجوب ذكر رواة الحديث بأسمائهم وعيوبهم في الرواية ليعرفوا ، فما أكثر ما ترى في كتبهم مثل قولهم : فلان وضّاع ، أو كذاب ، أو سيئ الحفظ ، ونحو ذلك ، حتى أنهم لم يتورعوا عن وصف بعض الأئمة المتبوعين في بعض المذاهب بما علموا فيهم من سوء الحفظ ، وقد مضى قريبا قولهم في محمد بن الحسن الشيباني ، كل ذلك نصحا منهم للمسلمين ، وغيرة على الدين ، وقد صرحوا بأن غيبة الرجل حيا وميتا تجوز لغرض شرعي ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها ، وقد جمعها بعضهم في قوله :

القدح ليس بغيبة في ستة

متظلم ومعرف ومحذر

ومجاهر فسقا ومستفت ومن

طلب الاعانة في إزالة منكر

ولا يخفى على القارئ الحبيب بأن الأغراض الستة هذه أكثرها يمكن الاعتماد عليها فيما نحن فيه ، وعليه أقول :

هو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحنفي الحلبي ، المعروف بشدة علمائه لأهل السنة والحديث ، لا سيما في بلده (حلب) ، حين كان يخطب على منبر مسجده يوم الجمعة ، ويستغله للطعن في أهل التوحيد المعروفين في بلده ـ بالسلفيين ـ خاصة ، وفي أهل التوحيد السعوديين وغيرهم الذين ينبزهم بلقب الوهابية عامة ، ويعلن عداءه الشديد لهم ، ويصرح بتضليلهم بقوله : «إن الاستعانة بالموتى من دون الله تعالى وطلب الغوث منهم جائز ، وليست شركا ، ومن زعم أنها شرك أو كفر فهو كافر ، ويتهمهم جميعا بشتى التهم ، التي كنا نظن أن أمرها قد انتهى ودفن ، لأن الناس قد عرفوا حقيقة أمرهم ، وأن دعوتهم تنحصر في تحقيق العبادة لله تعالى ، وإخلاص الاتباع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا بأبي غدة هذا ، يتجاهل كل ذلك ، ويحيي ما كان ميتا من التهم حولهم ، ويلصقها بهم ، بل ويزيد عليها ما لم نسمعه من قبل ، فيقول من على المنبر : «إن هؤلاء الوهابيين تتقزز نفوسهم أو تشمئز حينما يذكر اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (سبحانك هذا بهتان عظيم) إلى غير ذلك من التهم الباطلة مما سمعه منه أهل بلده الذين حضروا خطبه بذلك ، وغيره مما جاء في التعليق على كتاب الاستاذ الفاضل فهر الشقفة : «التصوف بين الحق والخلق» (ص ٢٢٠) الطبعة الثانية ، وهذا موافق تماما لما قاله متعصب آخر مثله ، من حملة (الدكتوراه) في كتاب له :

«ضل قوم لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته».

فهل هذا توافق غير مقصود بذاته من هذين المتعصبين ، وإنما التقيا عليه بجامع الاشتراك في الحقد على أهل السنة ومعاداتهم ، دون اتفاق سابق بينهما على اتهامهم بهذه التهمة الباطلة التي نخشى أن يكونا أحق بها وأهلها أم الأمر كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).

فلما كتب الله على البلاد السعودية أن يكون أبو غدة مدرسا في بعض معاهدها ـ كتم عداءه الشديد إياهم ولدعوتهم ، وتظاهر بأنه من المحبين لهم ، ولسان حاله ينشد :

ودارهم ما دمت في دارهم ،

وأرضهم ما دمت في أرضهم!

ودعم ذلك بقيامه على طبع بعض كتب الحديث والتعليق عليها ، وأحدها من

كتب الامام ابن القيم ، ويزين بعضها بالنقل عنه وعن شيخ الاسلام ابن تيمية رحمهما‌الله تعالى ـ ولكنه في الوقت نفسه لا يتمالك من النقل عن عدوهما اللدود وعدو أهل الحديث جميعا ، بل والإكثار عنه ، ألا وهو المدعو زاهد الكوثري ، الذي كان ـ والحق يقال ـ على حظ وافر من العلم بالحديث ورجاله ، ولكنه ـ مع الأسف ـ كان علمه حجة عليه ووبالا. لأنه لم يزدد به هدى ونورا ، لا في الفروع ولا في الأصول ، فهو جهمي معطل ، حنفي هالك في التعصب ، شديد الطعن والتحامل على أهل الحديث قاطبة ، المتقدمين منهم والمتأخرين.

فهو في العقيدة يتهمهم بالتشبيه والتجسيم ، ويلقبهم في مقدمة «السيف الصقيل» (ص ٥) بالحشوية السخفاء ، ويقول في كتاب «التوحيد» للامام ابن خزيمة : «انه كتاب الشرك»! أو يرمي نفس الامام بأنه مجسم جاهل بأصول الدين!

وفي الفقه يرميهم بالجمود وقلة الفهم ، وانهم حملة أسفار (!)

وفي الحديث طعن في نحو ثلاثمائة من الرواة اكثرهم ثقات ، وفيهم نحو تسعين حافظا ، وجماعة من الأئمة الفقهاء ، كمالك والشافعي وأحمد ، ويصرح بأنه لا يثق بأبي الشيخ ابن حيان ، ولا بالخطيب البغدادي ونحوهما! ويكذب الإمام عبد الله ابن الامام أحمد بن حنبل المتفرد برواية «المسند» عن أبيه ، وكأنه لذلك لا يعتبره من المسانيد التي ينبغي الرجوع إليها ، والاعتماد عليها فيقول في كتابه «الاشفاق على أحكام الطلاق» (ص ٢٣ طبع حمص) :

«مسند أحمد على انفراد من انفرد به ليس من دواوين الصحة أصلا» ثم قال (ص ٢٤) : «ومثل مسند أحمد لا يسلم من إقامة السماع والتحديث مقام العنعنة ، لقلة ضبط من انفرد برواية مثل هذا المسند الضخم»!

ثم هو يصف الحافظ العقيلي بقوله : «المتعصب الخاسر» ، وبالجملة فقل من ينجو من الحفاظ المشهورين وكتبهم من غمز ولمز هذا المتعصب الخاسر حقا مثل ابن عدي في «كامله» والآجري في «شريعته»! وغيرهما.

وهو إلى ذلك يضعّف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه ، ولو كان مما أخرجه

البخاري ومسلم في «صحيحيهما» دون علة قادحة فيه ، وقد سبق ذكر بعض ما ضعفه منها ، وعلى العكس من ذلك فهو يصحح انتصارا لعصبيته المذهبية ما يشهد كل عارف بهذا العلم أنه ضعيف بل موضوع ، مثل حديث «أبو حنيفة سراج أمتي»! إلى غير ذلك من الأمور التي لا مجال لسردها ، وبسط القول فيها الآن. وقد رد عليه وفصّل القول فيها بطريقة علمية سامية ، وبحث منطقي نزيه ، العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني في كتابه «طليعة التنكيل» ثم في كتابه الفذ العظيم «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» ، فليراجعهما من شاء الوقوف على حقيقة ما ذكرنا ، فإنه سيجد الأمر فوق ما وصفنا. والله المستعان.

هذا شيء من حال الكوثري ، وأبو غدة ـ دون شك ـ على علم بها ، لأنه إن كان لم يتعرف عليها بنفسه من بطون كتب الكوثري التي هو شغوف بمطالعتها ـ وهذا أبعد ما يكون عنه ـ فقد اطلع عليها بواسطة رد العلامة اليماني عليها رد علميا نزيها كما سبق.

وإن تعليقات أبي غدة الكثيرة على الكتب التي يقوم بطبعها ، والنقول التي يودعها فيها من كلام الكوثري ، كل هذا وذاك ليدل دلالة واضحة على أنه معجب به أشد الاعجاب ، وأنه كوثري المشرب. وكيف لا وهو يضفي عليه الألقاب الضخمة ، التي لا يطلقها عليه غيره ، فيقول : «العلامة المحقق الامام» (ص ٦٨) من التعليق على «الرفع والتكميل». بل يقول قبيل مقدمته عليه : «الاهداء ـ إلى روح أستاذ المحققين الحجة المحدث الفقيه الأصولي المتكلم النظار المؤرخ النقاد الامام»!! «وقد بلغ من شدة تعلقه به أن نسب نفسه إليه فهو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحنفي الكوثري» (١) ، وأن سمى ابنه الكبير باسم : زاهد ، تبركا به وإحياء لذكره! فهو إذن راض عنه وعن أفكاره وآرائه مائة في المائة! فهو مشترك معه في تحمل مسئولياتها. ويؤكده أنه لم يبد أي نقد أو اعتراض في شيء منها في أي تعليق من تعليقاته الكثيرة ، بل هو متأثر به إلى أبعد حد ، فإنك تراه بينما هو يضفي عليه ما سبق من الألقاب الضخمة ، يضنّ على شيخ الاسلام ابن تيمية

__________________

(١) ص ٧٢ من «مقالات الكوثري»

.

ببعضها ، فهو إذا ذكره لا يزيد على قوله : «الشيخ ابن تيمية» (ص ٥٥ ، ٦٠ ـ الرفع والتكميل) ، مع الاعتراف بأننا لا ندري على وجه اليقين بقصده ب «الشيخ» هنا ، هل يعني في العلم والفضل ، أم في العمر والسن ، أم في الزيغ والضلال. وكان المفروض أن لا نتوقف في حمله على المعنى الأول ، ولكن منعني من ذلك علمي أن أبا غدة «كوثري» كما عرفت ، والكوثري يرمي ابن تيمية في كثير من تعليقاته بالزيغ والضلال! بل لقد قال في كتابه «الاشقاق» (ص ٨٩) :

«إن كان ابن تيمية لا يزال يعد شيخ الاسلام ، فعلى الاسلام السلام»! وغالب ظني أن هذه الكلمة ـ وأبو غدة متأثر بها قطعا لأنها من شيخه «أستاذ المحققين الحجة ..» ـ هي السبب في اقتصار أبي غدة على لفظ «الشيخ ابن تيمية» دون «شيخ الاسلام» لأنه لو فعل لكان عاقا لشيخه وذلك ما لا يكون منه إلا أن يشاء الله هدايته! أقول هذا مع علمي أنه أطلق مرة هذا اللقب عليه في تعليقه على «الأجوبة الفاضلة» (ص ٩٢) ، فإن كان ذلك عن اعتقاد منه بما كتب ورام ، ولم يكن منه رمية من غير رام ، ولا على سبيل ما يعتقده الناس في بلد إقامته الموقتة «الرياض» ولا من قبيل الزلفى به إليهم ، أو غير ذلك من الاحتمالات التي قد تخطر في البال ، فيكون أبو غدة بإطلاقه المذكور ، قد أعلن براءته من شيخه الكوثري في كلمته السابقة. فلعل عنده من الشجاعة الأدبية ما يتجرأ به على أن يعلن صراحة أنه كتب ذلك عن قناعة واعتقاد فقط ، وأن ابن تيمية رحمه‌الله هو شيخ الاسلام حقا. وأن كلمة شيخه الكوثري المتقدم في رد ذلك هو كافر بها ومتبرئ منها ، فإن فعل ، وذلك مما أشك فيه ، سألت الله لنا وله التثبيت!

ومهما يكن قصد أبي عدة من قوله «الشيخ ابن تيمية» ، فالذي لا يشك فيه أنه تلميذ الكوثري حقيقة ومذهب وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون سلفي المذهب في التوحيد والصفات ، كما كان عليه ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ، رحمة الله عليهم ، لأن شيخه الكوثري يعاديهم في ذلك أشد المعاداة ، وقد قدمت إليك بعد ما رماهم به من التهم كالتجسيم وغيره ، ومن نسبته ابن تيمية خاصة إلى

الكذب والخيانة في النقل! مما يدل على أنه ألد أعداء أهل السنة والحديث اطلاقا في العصر الحاضر.

وإذا كان كذلك ، فأبو غدة عدو لدود أيضا لهم ، ولا يمكن أن يكون غير ذلك ؛ وهو يضفي تلك الألقاب الضخمة عليه (١) ، فإلى أن يتبرأ من شيخه في معاداته

__________________

(١) أعني قوله : «أستاذ المحققين الحجة ...» الخ ما تقدم عنه ـ ولا شك أن هذا الاطراء من أبي غدة لشيخه الكوثري المعروف بشدة عدائه لأهل السنة ، لهو مستنكر أشد الاستنكار عند جماهير القراء ، ولكن ما ذا يكون شعورهم اذا علموا أن هذا التلميذ البار تلقى مثل هذا الاطراء من شيخه نفسه ، مزكيا به الشيخ نفسه بنفسه على غلاف كتابه؟ فقد جاء تحت عنوان كتابه «تأنيب الخطيب» الذي طبع تحت إشرافه وتصحيحه ما نصه : «تأليف الامام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ..»! انظر «التنكيل» (١ / ٥)

ثم سرت هذه العدوى إلى التمليذ نفسه ، فقد نشر هو نفسه نشرة ، أو بعض أصحابه بإشرافه هو طبعا وبعلمه ، لأن ما فيها من المعلومات الدقيقة عن حياته وأموره الخاصة به ، لا يمكن معرفته عادة إلا من طريق المترجم نفسه ، فقد جاء فيها ـ وهي بعنوان : «من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة» ـ ما ملخصه :

ـ «إن أكبر دليل على عظمة هذا الدين ، وأنه من صنع الله العليم الخبير ، قدرته على صنع الرجال العظام الأفذاذ» ثم ذكر عمر رضي الله عنه (ولا أدري لم لم يذكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه مع أنه أعظمهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وخالد بن الوليد وسلمان الفارسي. ثم عدد رجالا من اعلام الاسلام في العصر الحاضر ثم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة! وترجم له ترجمة مستفيضة في خمس صفحات كبار وصف فيها بما يأتي :

«العالم الفذ ، والعامل المجاهد ، والمربي الناصح الرشيد ، علامة البلاد غير مدافع ، ورجلها الموثوق بدينه وعلمه وسيرته ، علامة الشام ، جمع إلى علمه الفذ الغزير التقوى والخشية من الله في السر والعلن (!) ، فهو وقاف عند حدود الله لا يتعداها ، مبتعد عن الشبهات والمكروهات (!) ما عرف عنه قط أنه أمر بمعروف إلا وطبقه على نفسه (!) ومن يعول (!) ولا نهى عن منكر إلا وقد اجتنبه هو ومن يعول. لديه غرام نادر في معرفة التراث الإسلامي مخطوطه ومطبوعه فما ذكر أمامه محطوط أو مطبوع إلا بسط لك خصائص الكتاب ومجمل محتواه ، واين طبع وكم طبعة له إن كان مطبوعا ، ومكان وجوده وتاريخ نسخه إن كان مخطوطا». قلت : ومن الطرائف أن أحد الطرفاء الأذكياء لما سمع هذا الوصف الأخير : قال : هذا هو الله تبارك وتعالى! يشير إلى ما فيه من الغلو والاطراء بالحفظ الّذي لا يبلغه الشر!

تلك لأهل السنة ، فهو ملحق به. وليس هذا مما ينافي قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

كلا ، وإنما هو من باب المؤاخذة على اعترافه بأنه كوثري ، وبعلمه بانحراف شيخه وطعنه في أهل السنة وأئمة الحديث والفقه وغير ذلك من مخازيه التي منها مطاعنه العديدة في شيخ الاسلام ابن تيمية حتى لقد قال ـ عامله الله بما يستحق ـ :

«ولو قلنا لم يبل الاسلام في الأدوار الأخيرة بمن هو أضر من ابن تيمية في تفريق كلمة المسلمين لما كنا مبالغين في ذلك ، وهو سهل متسامح مع اليهود والنصارى .. «الاشفاق» (ص ٨٦).

إن أبا غدة يعلم هذا وغيره مما ذكرنا وما لم نذكره عن شيخه الكوثري ، ولم نره يتعقبه في شيء من ذلك اطلاقا ، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أنه مع شيخه في عدائه

__________________

ـ وفي النشرة من المعلومات والادعاءات الفارغة ، والمغالطات المفضوحة ما يدركه كل من اطلع عليها ، وهذه نتف منها تدلك على الهوس الذي أصاب هذا الرجل حتى تورط في اخراج هذه النشرة يمدح بها نفسه ـ أو يرضى بأن يمدح بها ـ بقوله :

«كان في القاهرة مثالا للعالم المجاهد!! لا يكتفي بما يلقى عليه في الأزهر ، بل يتتبع العلم من أفواه العلماء الأثبات المحققين أمثال شيخه الامام المحدث الفقيه الأصولي النقادة العف الشيخ محمد زاهد الكوثري».

وقال عن نفسه أيضا : «علامة البلاد غير مدافع ، ورجلها الموثوق بدينه وعلمه وسيرته ، والأمل المرجّى لكل مسلم ..»؟!! و «أجمع علماء المسلمين في الهند وباكستان والحجاز والبلاد الشامية على أن يكون معتمدهم العلمي الموثوق ومرجعهم الفتوى!!».

و «أن وجوده مصدر اشعاع تستمد به البركة والعصمة» وأنه «النعمة الكبرى!!» و «أنه عرف برقة الطبع ، ورهف الحس ، وشفافية النفس ، وسمو الذوق ، ولطف المعشر ، وحلاوة الحديث ، ولين الملمس ، وتذوق النكتة ، وسداد الرأي ، ورجاحة العقل ، وتألق الذهن ، وقوة الحجة ، وصدق العاطفة ، وحرارة الايمان ، وسرعة التنقل ، وأناقة المظهر ، والتواضع والليونة» ..

هذا بعض ما جاء في تلك النشرة ، ذكرنا ما له ارتباط بموضوعنا ، وأما ما فيها من ادعاءات وتزوير للحقائق فمتروك لأصحابها ، فإن أهل البيت أدرى بالذي فيه وان الواجب يقضي بأن يوقف كل مدع عند حده.

لأهل السنة والحديث ، وإلا فليعلن براءته منه جملة وتفصيلا ، فإن فعل ـ وما إخاله ـ أخذنا بظاهر كلامه ، ووكلنا سريرته إلى ربه سبحانه وتعالى.

وبعد هذا كله : أليس لنا أن نتساءل إذا كان أبو غدة بهذا البعد عن أهل السنة والتوحيد تبعا لشيخه الكوثري ، حتى كان يعلن في حلب تكفير القائلين بأن الاستغاثة بغير الله كفر ، كما سبق ، فكيف طاب له المقام في البلاد السعودية هذه السنين حتى الآن ، وهو يعلم أنهم هم الذين كان يعنيهم أصالة بتكفيره المذكور؟ فهل رجع هو عن تكفيرهم وعن القول بجواز الاستغاثة بغير الله ، إلى القول الذي كان ينقمه عليهم : إن الاستغاثة كفر. وبذلك حصل الوئام ، فطاب له المقام؟

فأقول : الجواب في قلب أبي غدة ، ولكن الذي نعلمه عنه هو ما سبق ذكره ، ومن القواعد الأصولية المقررة عند الحنفية وغيرهم قاعدة استصحاب الحال إلا لنص ، ولما كان لا نص لدينا برجوع أبي غدة عن تكفيره المذكور ، فالواجب علينا البقاء على ما نعلمه عنه ، وعلى ذلك فلم يحصل الوئام المزعوم ، لأن السعوديين ـ وخصوصا أهل العلم منهم ـ لا يزالون ـ والحمد لله ـ محتفظين بعقيدتهم في التوحيد ، محاربين للشركيات والوثنيات ، التي منها الاستغاثة بغير الله تعالى من الأموات ، فكيف إذن طاب له المقام بين ظهرانيهم؟

الذي أتصور أنه لم يكن بينهم كما يجب أن يكون «المربي الناصح الرشيد»! يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويبين لهم أن ما أنتم عليه من أمور منكر وضلال ، منها إنكار قولهم : إن الاستغاثة بغير الله تعالى كفر ، فإنه لو فعل ، لكان أمر من ثلاثة أمور :

إما أن يقنعهم بضلالهم ، بخطبة نارية يلقيها هناك ، كما كان يفعل في بلده (حلب) ، وهذا مستحيل.

وإما أن يقنعوه هو بضلاله بما عندهم من حجج ناطقة وأدلة قاطعة من كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا بعيد!

وإما أن تكون الثالثة ولا بد ، وهي ... إلا أن يشاء الله تعالى.

ولما كان يعلم بأن النتيجة هو ما أشرنا إليه ، وكان يستحب البقاء بين أظهرهم ،

لسبب لا يخفى على القارئ اللبيب ، آثر أن يظل بينهم كأى إنسان آخر ليس له هدف إلا .. على حد قول الشاعر :

ودارهم ما دمت في دارهم

وأرضهم ما دمت في أرضهم!

ولا يستغربن هذا أحد ممن يحسنون الظن بأبي غدة ، ولم يعرفوا حتى الآن عقيدته ، فإن لدي البرهان القاطع على ما نسبت إليه من المداراة ولم أقل : المداهنة!

لقد قال في مطلع تقريره الجائر ما نصه :

«يرى الناظر في شرح الطحاوية أن الشارح لها من أهل التوثق والضبط والاتقان فيما ينقله من الأحاديث الشريفة وغيرها .. بعبارة واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، وبإمامة ملموسة مشهورة».

قلت : فإذا كان أبو غدة مؤمنا حقا بهذه الإمامة الملموسة المشهورة فأنا أختار له من كلام هذا الامام سبع مسائل ، فإن أجاب عنها بما يوافق ما ذهب إليه هذا الامام المشهور من قلب مخلص فذلك ما نرجوه ، وأعتذر إليه من إساءة الظن به ، وإن كانت الأخرى فذلك مما يؤيد ـ مع الأسف ـ ما رميته به من المداراة.

المسألة الأولى : قال الإمام (ص ١٢٥) :

«وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث».

قلت : وهذا الاطلاق هو مما يدندن به شيخه الكوثري في تعليقاته ، ليتوصل ، الى نفي حقيقة الكلام الإلهي المسموع. وراجع له «شرح الطحاوية» (ص ١٦٨ ـ ١٨٨) و «التنكيل» (٢ / ٣٦٠ ـ ٣٦٢).

المسألة الثانية : قال الامام تبعا لأبي جعفر الطحاوي (ص ١٦٨) :

وأن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أن كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوق كلام البشرية».

ثم شرح «الامام» مذاهب الناس في مسألة الكلام الإلهي على تسعة مذاهب

وبين ان مذهب السلف : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ، ومتى شاء ، وكيف شاء ، وإنه يتكلم بصوت.

وشيخ أبي غدة ينفي الصوت المسموع (مقالات الكوثري ص ٢٦) ، ويقول في تعليقه على «كتاب البيهقي» : «الأسماء والصفات» (ص ١٩٤):» إن موسى عليه‌السلام لما كلمه الله تعالى تكليما لم يسمعه صوته ، وإنما أفهمه كلامه بصوت تولى خلقه من غير كسب لأحد ....»!

المسألة الثالثة : قال «الإمام» (ص ٢٨٠) تبعا للطحاوي :

«وهو (تعالى) مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه» والكوثري لا يؤمن بفوقية الله تعالى على خلقه حقيقة كما يليق بجلاله ، بل إنه ينسب القائلين بها من الأئمة إلى القول بالجهة والتجسيم!

المسألة الرابعة : يثبت الإمام «الفوقية المذكورة بأدلة كثيرة جدا ، في بعضها التصريح بلفظ «الأين» الذي سأل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجارية ليتعرف على إيمانها». وشيخك يا أبا غدة ينكر مثل هذا السؤال تبعا لتشكيكه في صحة الحديث كما سبق (ص ٢٧) ، فهل تؤمن أنت بهذا الحديث ، وتجيز هذا السؤال الذي سأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المسألة الخامسة : يقول «الإمام» تبعا للأئمة مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة :

«إن الإيمان هو تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. وقالوا : يزيد وينقص».

وشيخك تعصبا لأبي حنيفة يخالفهم مع صراحة الأدلة التي تؤيدهم من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل ويغمز منهم جميعا مشيرا إليهم بقوله في «التأنيب» (ص ٤٤ ـ ٤٥) إلى «أناس صالحون» يشير أنهم لا علم عندهم فيما ذهبوا إليه ولا فقه ، وإنما الفقه عند أبي حنيفة دونهم ، ثم يقول : إنه الإيمان والكلمة ، وإنه الحق الصراح. وعليه فالسلف وأولئك الأئمة الصالحون (!) هم عنده على الباطل في قولهم : بأن الأعمال من الايمان ، وأنه يزيد وينقص. وقد

نقل أبو غدة كلام شيخه الذي نقلنا موضوع الشاهد منه ، نقله بحرفه ، في التعليق على «الرفع والتكميل» (ص ٦٧ ـ ٦٩) ، ثم أشار إليه في مكان آخر منه ممجدا به ومكبرا له بقوله (ص ٢١٨) :

«وانظر لزاما ما سبق نقله تعليقا فإنك لا تظفر بمثله في كتاب» ثم أعاد الإشارة إليه (ص ٢٢٣) مع بالغ إعجابه به. وظني به أنه يجهل ـ أن هذا التعريف للإيمان الذي زعم شيخه أنه الحق الصراح ـ مع ما فيه من المخالفة لما عليه السلف كما عرفت ، مخالف لما عليه المحققون من علماء الحنفية أنفسهم الذين ذهبوا إلى : أن الإيمان هو التصديق فقط ليس معه الإقرار! كما في «البحر الرائق» لابن نجيم الحنفي (٥ / ١٢٩) ، والكوثري في كلمته المشار إليها يحاول فيها أن يصور للقارىء أن الخلاف بين السلف والحنفية في الإيمان لفظي ، يشير بذلك إلى أن الأعمال ليست ركنا أصليا ، ثم يتناسى أنهم يقولون : بأنه يزيد وينقص ، وهذا ما لا يقول به الحنفية إطلاقا ، بل إنهم قالوا في صدد بيان الألفاظ المكفرة عندهم : «وبقوله : الإيمان يزيد وينقص» كما في «البحر الرائق» ـ «باب أحكام المرتدين»! فالسلف على هذا كفار عندهم مرتدون!! راجع شرح الطحاوية (ص ٣٣٨ ـ ٣٦٠) ، و «التنكيل» (٢ / ٣٦٢ ـ ٣٧٣) الذي كشف عن مراوغة الكوثري في هذه المسألة.

وليعلم القارئ الكريم أن أقل ما يقال في الخلاف المذكور في المسألة أن الحنفية يتجاهلون أن قول أحدهم ـ ولو كان فاسقا فاجرا ـ : أنا مؤمن حقا ، ينافي مهما تكلفوا في التأويل ـ التأدب مع القرآن ولو من الناحية اللفظية على الأقل الذي يقول : (إِنَّمَا) (الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

فليتأمل المؤمن الذي عافاه الله تعالى مما ابتلى به هؤلاء المتعصبة ، من هو المؤمن حقا عند الله تعالى ، ومن هو المؤمن حقا عند هؤلاء؟!

المسألة السادسة : ذهب «الإمام» شارح الطحاوية (ص ٣٥١) إلى جواز

الاستثناء في «الايمان» وهو قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. على تفصيل في ذلك بينه ، والحنفية يمنعون منه مطلقا ، بل إن طائفة منهم ذهبوا إلى تكفير من قال ذلك ، ولم يقيدوه بأن يكون شاكا في إيمانه ، ومنهم الاتقاني في «غاية البيان» ، وصرح في «روضة العلماء» (من كتبهم) بأن قوله «إن شاء الله» يرفع إيمانه ، فلا يجوز الاقتداء به (يعني في الصلاة). وفي «الخلاصة» و «البزازية» في كتاب النكاح ، عن الإمام أبي بكر محمد بن الفضل : من قال : أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر لا تجوز المناكحة معه. قال الشيخ أبو حفص في «فوائده» : لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شفعوي المذهب. وهكذا قال بعض مشايخنا ، ولكن يتزوج بنتهم. زاد في «البزازية» تنزيلا لهم منزلة أهل الكتاب. كذا في «البحر الرائق» (٢ / ٥١) (١).

المسألة السابعة : ذهب شارح الطحاوية (ص ٢٣٦ ـ ٢٣٩) تبعا لإمامه أبي حنيفة وصاحبيه إلى كراهة التوسل بحق الأنبياء وجاههم.

وهذا مما خالف فيه الكوثري إمامه أبا حنيفة رحمه‌الله تعالى ، اتباعا لأهواء العامة ، ونكاية بأهل السنة. كما يعلم ذلك من اطلع على رسالة «محق التوسل» وغيرها. وقد كنت بينت شيئا من تعصبه واتباعه لهواه في محاولة تقويته اسناد حديث

__________________

(١) قلت : ومن عجائب ما في هذا الكتاب (٨ / ٢٠٧) حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من كان على السنة والجماعة استجاب الله دعاءه ، وكتب له بكل خطوة يخطوها عشر حسنات ، ورفع له عشر درجات ، فقيل له : يا رسول الله متى يعلم الرجل أنه من أهل السنة والجماعة؟ فقال : إذا وجد في نفسه عشرة أشياء ، فهو على السنة والجماعة (قلت : فذكرها وفيها) «ولا يشك في إيمانه ...».

قلت : وهذا حديث لا أصل له في شيء من كتب السنة ، بل هو باطل ، لوائح الوضع عليه ظاهرة ومن أجل مثل هذا الحديث اتهم القرطبي فقهاء أهل الرأي بأنهم كانوا ينسبون الحكم الذي دل عليه القياس الجلي عندهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسبة قولية ، ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة لأنها تشبه فتاوي الفقهاء ، ولأنهم لا يقيمون لها سندا. نقله الحافظ السخاوي في «شرح ألفية العراقي» (ص ١١١) وغيره.

في التوسل ، فيه من هو ضعيف عنده ، كما هو مشروح في الجزء الأول من «سلسلة الأحاديث الضعيفة» رقم (٢٤) ، فليراجعه من شاء.

قلت : فهذه سبع مسائل هامة ، كلها في العقيدة ، إلا الأخيرة منها ، قد وجهتها إلى أبي غدة الذي تظاهر بالثناء على شارح «الطحاوية» ، ووصفه بأنه صاحب «إمامة ملموسة مشهورة» ، فإذا أجاب بمتابعته له فيها ـ وهذا ما أستبعده على كوثريته ـ فالحمد لله. وإن خالفه فيها ، وظل على كوثريته. فقد تبين للناس ـ إن شاء الله تعالى ـ أن ثناءه على شارح «الطحاوية» (الإمام) ، لم يكن عن اعتقاد وثقة به كما زعم ، وإنما ليتخذه سلما للطعن بمخرج أحاديثه ، وإلا كيف ساغ له أن يسكت عن الشارح في هذه الأخطاء بل الضلالات السبع بزعمه تبعا لشيخه الكوثري ، وعن أخطائه الأخرى الحديثية التي سبقت الإشارة إلى أنواع منها ، وينتقدني شاكيا إلى بعض رؤسائه أو المسئولين هناك ـ في أمور ـ لو صح نقده فيها ـ لا تكاد تذكر تجاه تلك ، كما ولا كيفا؟!

وليت شعري ما الذي منع أبا غدة ، إذا كان لديه من الانتقادات عدة ، حول هذا الكتاب أو غيره من مؤلفاتي ، أن يفضي بها إلي مباشرة حينما كنا نلتقي مرات في أشهر العطلة الصيفية ، في المكتب الاسلامي ، بدل أن يغافلني ، ويرفع ذلك التقرير الجائر خلسة دون علمي أو علم صديقه صاحب المكتب الاسلامي ، ترى ما ذا يقول عامة الناس فضلا عن خاصتهم فيمن كان هذا صنيعه مع أخيه؟! فإن قالوا فيه : إنه ... فلا يلومن إلا نفسه ، وعلى نفسها جنت براقش ، وصدق الله العظيم القائل : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

وختاما أقول :

لقد كنت أود لو أن الإدارة التي رفع إليها هذا المتعصب الجائر تقريره ، بادرت إلى إعلامي به قبل أن تلوكه ألسنة الناس ، أو أحالته مع صاحبه على لجنة من أهل العلم في بلادها ـ وهم كثر والحمد لله ـ. ليناقشوه على ما ادعاه على كتاب يدرس في معهدها منذ عشر سنوات ، وحاز الرضى والقبول من كافة علمائها ، وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم ، والشيخ عبد اللطيف رحمهما‌الله تعالى والشيخ عبد

العزيز بن باز ، والشيخ عبد الرزاق عفيفي بارك الله فيهما وغيرهم ، وكذلك الأمر عند علماء سائر الأمصار.

والحقيقة التي تنبه لها بعض الأفاضل أن القصد الكامن وراء ما ادعاه ذلك المتعصب على كتاب «شرح العقيدة الطحاوية» متسترا بالطعن بمخرج أحاديثها إنما هو الطعن في العقيدة نفسها وبمن يؤمن بها في العصر الحاضر ، وخصوصا ، وهي تؤيد عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ، ومجدد دعوة التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم ، تعصبا للكوثري ، بل العلقمي ، الذي يتهم هؤلاء الأعلام بالتهم الباطلة ، ويلصق بهم وبعقيدتهم أشنع الأوصاف.

وإلا فما الذي يضر القارئ لو سكت الألباني عن تخريج حديث قال الشارح عنه : متفق عليه عند البخاري ومسلم ، أو قال هو كذلك ، أو قال : صحيح متفق عليه عندهما أو أحدهما ، أو نحو ذلك ، وقد قدمنا الحجة على ذلك!! ومنه تعلم أن هذا لا يضر القارئ ، فكذلك لا يضر الألباني الذي زادت مؤلفاته في الحديث الشريف وفقهه على الخمسين كتابا ، جعلها الله تعالى خالصة لوجهه الكريم ، وتقبلها منه بمنه وفضله ..

وكذلك فلن يضر ذلك ناشر الكتاب ، فإن المكتب الإسلامي ، وصاحبه الأخ السلفي الأستاذ زهير الشاويش ، وقد نشر حتى الآن ما يزيد على أربعمائة كتاب في العقيدة ، والتفسير والحديث ، والفقه ، لن يؤذيه تعطل كتاب له عند الجهة التي قدم المخبر تقريره إليها ، ولن يوقفه ذلك عن نشر كتب السلف بالروح العلمية والاتقان .. التي اشتهر بها ، فإنه مؤمن بهذه العقيدة ، ومن الدعاة إليها ، الذين آمنوا بها منذ نعومة أظفارهم ، خالصا لوجه الله ، دون ما رغبة أو رهبة ، بل نالهم الأذى في بلادهم ، والبلاد التي هاجروا إليها ، وأكثر ما نالهم الأذى بسبب هذه التقارير التي يقدمها الجواسيس والمخبرون ، المنتشرون في كل مكان ، مثل مقدم ذلك التقرير الجائر.

اسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد ، وأن يعمرها بالايمان والتوحيد الخالص ، مصفى من كل أوضار الشرك والوثنية ، وأن يلهمنا العمل الصالح ، والحب في الله ، والبغض في الله ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

بيروت / ١٩ رجب سنة ١٣٩١

محمّد ناصر الدّين الالباني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله [، نحمده ، و] نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد : فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم ، اذ شرف العلم بشرف المعلوم ، وهو الفقه الاكبر بالنسبة الى فقه الفروع ، ولهذا سمى الامام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين : «الفقه الأكبر» وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة ، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة ، لأنه لا حياة للقلوب ، ولا نعيم ولا طمأنينة ، الا بأن تعرف ربّها ومعبودها وفاطرها ، بأسمائه وصفاته وأفعاله. ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.

ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وادراكه على التفصيل ، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرّفين ، وإليه داعين ، ولمن أجابهم مبشرين ، ولمن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم ، وزبدة رسالتهم ، معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، اذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها الى آخرها.

ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان :

أحدهما : تعريف الطريق الموصل إليه ، [وهي شريعته المتضمنة لامره ونهيه.

والثاني : تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه] من النعيم المقيم. فأعرف الناس بالله عزوجل أتبعهم للطريق الموصل إليه ، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه. ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحا ، لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، ونورا لتوقف الهداية عليه. فقال الله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المؤمن : ١٥. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) الشورى : ٥٢ ، ٥٣. ولا روح الا فيما جاء به الرسول ، ولا نور الا في الاستضاءة به ، وسماه الشفاء ، كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) فصلت : ٤٤. فهو وان كان هدى وشفاء مطلقا ، لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنين ، خصوا بالذكر.

والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، فلا هدى الا فيما جاء به.

ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول ايمانا عاما مجملا ، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية ، فان ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله ، وداخل في تدبّر القرآن وعقله وفهمه ، وعلم الكتاب والحكمة ، وحفظ الذكر ، والدعاء الى الخير ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعاء الى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ونحو ذلك مما (١) أوجبه الله على المؤمنين ، فهو واجب على الكفاية منهم.

وأما ما يجب على أعيانهم : فهذا يتنوع بتنوع قدرهم ، وحاجتهم ومعرفتهم ، وما أمر به أعيانهم ، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك. ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ، ويجب على المفتي والمحدّث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك.

__________________

(١) في الاصل : ما.

وينبغي أن [يعرف] أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق ، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول ، وترك النظر والاستدلال الموصل الى معرفته. فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا ، كما قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ، [أن] لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآيات. وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انها ستكون فتن» قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الاهواء ، ولا تلتبس به الالسن ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا تشبع (٢) منه العلماء ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي الى صراط مستقيم» (٣) الى غير ذلك من الآيات والاحاديث ، الدالة على مثل هذا المعنى.

ولا يقبل الله من الاولين والآخرين دينا يدينون به ، الا أن يكون موافقا لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم‌السلام.

وقد نزّه الله تعالى نفسه عما يصفه العباد ، الا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ

__________________

(٢) في الاصل : يشبع. وفي «سنن الترمذي» بالياء والتاء.

(٣) هذا حديث جميل المعنى ، ولكن اسناده ضعيف ، فيه الحارث الاعور ، وهو لين ، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب ، ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه ، فأخطأ الحارث فرفعه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ضعفه محرجه الترمذي نفسه فقال : «لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإسناده مجهول ، وفي الحارث مقال».

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢. فنزّه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون ، ثم سلّم على المرسلين ، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب ، ثم حمد نفسه على تفرده بالاوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد.

ومضى على ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير القرون ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، يوصي به الأول الآخر (٤) ويقتدي فيه اللاحق بالسابق. وهم في ذلك كله بنبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقتدون ، وعلى منهاجه سالكون ، كما قال تعالى في كتابه العزيز : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف : ١٠٨. فان كان قوله : (ومن اتّبعني) معطوفا على الضمير في (أدعو) ، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة الى الله (٥). وان كان معطوفا على الضمير المنفصل ، فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم ، وكلا المعنيين حق.

وقد بلّغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاغ المبين ، وأوضح الحجة للمستبصرين ، وسلك سبيله خير ـ القرون.

ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم ، وافترقوا ، فأقام الله لهذه الامة من يحفظ عليها أصول دينها ، كما أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم» (٦).

وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين : الامام أبو جعفر احمد بن محمد بن سلامة الازدي الطحاوي ، تغمده الله برحمته ، بعد المائتين ، فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين ، ووفاته [سنة احدى وعشرين] وثلاثمائة (٧).

__________________

(٤) في الاصل : للآخر.

(٥) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي : انظر «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» لشيخ الاسلام ابن تيمية ص ٢٧ / ٣٠ و ٩٥ الجزء الأول.

كل تعليقات استاذنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي محالة على طبعة «السنة النبوية» بتحقيق الشيخ حامد الفقي ـ رحمه‌الله ـ ولكن الكتاب طبع بتحقيق جديد متقن من قبل الدكتور محمد رشاد سالم بأحد عشر مجلدا باسم «درء تعارض العقل والنقل».

(٦) متفق عليه من حديث جمع من الصحابة ، «الصحيحة» (٢٧٠).

(٧) تجد ترجمته مفصلة في : «تذكرة الحفاظ» للذهبي ٣ : ٢٨ ـ ٢٩ و «تاريخ ابن كثير» ـ

فأخبر رحمه‌الله عما كان عليه السلف ، ونقل عن الامام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وصاحبيه أبي سوف يعقوب بن ابراهيم الحميري الانصاري ، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ـ ما كانوا يعتقدون من أصول الدين ، ويدينون به رب العالمين.

وكلما بعد العهد ، ظهرت البدع ، وكثر التحريف ، الذي سماه أهله تأويلا ليقبل ، وقل من يهتدي الى الفرق بين التحريف والتأويل. اذ قد يسمى (٨) صرف الكلام عن ظاهره الى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا ، وان لم يكن ثمّ قرينة توجب ذلك ، ومن هنا حصل الفساد. فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي الى الفرق بينهما.

فاحتاج المؤمنون بعد ذلك الى إيضاح الادلة ، ودفع الشبه الواردة عليها ، وكثر الكلام والشغب ، وسبب ذلك اصغاؤهم الى شبه المبطلين ، وخوضهم في الكلام المذموم ، الذي عابه السلف ، ونهوا عن النظر فيه والاشتغال به والاصغاء إليه ، امتثالا لامر ربهم ، حيث قال : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الانعام : ٦٨. فان معنى الآية يشملهم. وكلّ من التحريف والانحراف على مراتب : فقد يكون كفرا ، وقد يكون فسقا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون خطأ.

فالواجب اتباع المرسلين ، واتباع ما أنزله الله عليهم. و [قد] ختمهم الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعله آخر الأنبياء ، وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من كتب السماء ، وأنزل عليه الكتاب والحكمة ، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين ، الجن والانس ، باقية الى يوم القيامة ، وانقطعت به حجة العباد على الله. وقد بيّن الله به كل شيء ،

__________________

ـ ١١ : ١٧٤. و «المنتظم» لابن الجوزي ٦ : ٢٥. و «شذرات الذهب» ٢ : ٢٨٨. و «اللباب» لابن الاثير ٢ : ٨٢. و «الجواهر المضية» لابن أبي الوفاء : ١ : ١٠٢ ـ ١٠٥. و «الفوائد البهية» : ٣١ ـ ٣٤. «ولسان الميزان» ١ : ٢٧٤ ـ ٢٨٢. و «تهذيب تاريخ ابن عساكر» ٢ : ٥٤ ـ ٥٥. و «ابن خلكان» ١ : ٥٣ ـ ٥٥ طبعة مكتبة النهضة بمصر.

(٨) في الاصل : سمي.

وأكمل له ولأمته الدين خبرا وأمرا ، وجعل طاعته طاعة له ، ومعصيته معصية له ، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم ، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا الى غيره ، وأنهم اذا دعوا الى الله والرسول ، وهو الدعاء الى كتاب الله وسنة رسوله ـ صدوا صدودا ، وأنهم يزعمون أنهم انما أرادوا احسانا وتوفيقا ، كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم : انما نريد أن نحس الاشياء بحقيقتها ، أي ندركها ونعرفها ، ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات ، ـ وهي في الحقيقة : جهليات ـ وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول ، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة. وكما يقوله كثير من المبتدعة ، من المتنسّكة والمتصوفة : انما نريد الاعمال بالعمل الحسن ، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدّعونه من الباطل ، الذي يسمونه : حقائق وهي جهل وضلال. وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة : انما نريد الاحسان بالسياسة الحسنة ، والتوفيق بينها وبين الشريعة ، ونحو ذلك.

فكل من طلب أن يحكّم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول ، ويظن أن ذلك حسن ، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه ـ فله نصيب من ذلك ، بل ما جاء به الرسول كاف كامل ، يدخل فيه كل حق ، وانما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه ، فلم يعلم ما جاء به الرسول في كثير من الامور الكلامية الاعتقادية ، ولا في كثير من الاحوال العبادية ، ولا في كثير من الامارة السياسية ، أو نسبوا الى شريعة الرسول ، بظنهم وتقليدهم ، ما ليس منها ، وأخرجوا عنها كثيرا مما هو منها.

فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم ، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم ، كثر النفاق ، ودرس كثير من علم الرسالة.

بل [انما يكون] البحث التام ، والنظر القوي ، والاجتهاد الكامل ، فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعلم ويعتقد ، ويعمل به ظاهرا وباطنا فيكون قد تلي حق تلاوته ، وأن لا يهمل منه شيء.

وان كان العبد عاجزا عن معرفة بعض ذلك أو العمل به ، فلا ينهي عما عجز عنه مما جاء به الرسول ، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه ، لكن عليه أن يفرح

بقيام غيره به ، ويرضى بذلك ، ويود أن يكون قائما به ، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه ، بل يؤمن بالكتاب كله ، وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه ، من رواية أو رأي ، أو يتّبع ما ليس من عند الله ، اعتقادا أو عملا ، كما قال تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة : ٤٢.

وهذه كانت طريقة السابقين الاولين ، [وهي طريقة التابعين لهم بإحسان الى يوم القيامة. وأولهم السلف القديم من التابعين الاولين] ، ثم من بعدهم. ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الامة الوسط (٩) بالامامة.

فعن أبي يوسف رحمه‌الله تعالى أنه قال لبشر المريسي (١٠) : العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ، واذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل : زنديق ، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته ، فإن ذلك علم نافع ، أو أراد به الاعراض عنه أو ترك الالتفات الى اعتباره. فان ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما بهذا الاعتبار. والله أعلم.

وعنه أيضا أنه قال : من طلب العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيميا أفلس ، ومن طلب غريب الحديث كذب.

وقال الامام الشافعي رحمه‌الله تعالى : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر [والقبائل] ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

وقال أيضا رحمه‌الله تعالى (شعرا) :

كل العلوم سوى القرآن مشغلة

الا الحديث والا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا

وما سوى ذاك وسواس الشياطين

__________________

(٩) الوسط هنا : خيار الناس وعدو لهم ، كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

(١٠) هو بشر بن غياث المريسي ابو عبد الرحمن فقيه معتزلي يرمى بالزندقة أخذ الفقه عن أبي يوسف وهو رأس الطائفة المريسية قال عنه في «اللسان» : مبتدع ضال لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة.

وذكر الاصحاب في الفتاوى : أنه لو أوصى لعلماء بلده : لا يدخل المتكلمون ، وأوصى انسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم ، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في «الفتاوى الظهيرية».

فكيف يرام الوصول الى علم الاصول ، بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل :

أيّها المغتدي ليطلب علما

كلّ علم عبد لعلم الرسول

تطلب الفرع تصحّح أصلا

كيف أغفلت علم أصل الاصول

ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الاولية والاخروية على أتم الوجوه ، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها ، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا ، قليل البركة ، بخلاف كلام المتقدمين ، فإنه قليل ، كثير البركة ، [لا] كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم : أن طريقة القوم من المنتسبين الى الفقه : انهم لم يتفرغوا لاستنباط الفقه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك ، فهم أفقه!!

فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعمق علومهم ، وقلة تكلفهم ، وكمال بصائرهم. وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون الا بالتكلف والاشتغال بالاطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها ، وضبط قواعدها ، وشد معاقدها ، وهممهم مشمّرة الى المطالب العالية في كل شيء. فالمتأخرون (١١) في شأن ، والقوم في شأن آخر ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء ، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى الى أهل الكلام المذموم ، واستمد منهم ، وتكلم بعباراتهم.

والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة ، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على

__________________

(١١) في الاصل : والمتأخرون.

أمور كاذبة مخالفة للحق ، ومن ذلك مخالفتها الكتاب والسنة ، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين ، فضلا عن علمائهم.

ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل ، كثر المراء والجدال ، وانتشر القيل والقال ، وتولد [لهم] عنها من الاقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : «فمن رام علم ما حظر عنه علمه».

وقد أحببت أن أشرحها سالكا طريق السلف في عباراتهم ، وأنسج على منوالهم ، متطفلا عليهم ، لعلي أن أنظم في سلكهم ، وأدخل في عدادهم ، وأحشر في زمرتهم (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء : ٦٩. ولما رأيت النفوس مائلة الى الاختصار ، آثرته على التطويل والاسهاب. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود : ٨٨. [هو حسبنا ونعم الوكيل].

قوله : (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له).

ش : اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك الى الله عزوجل. قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٥٩. وقال هود عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٦٥. وقال صالح عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٧٣. وقال شعيب عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٨٥. وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل : ٣٦. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء : ٢٥. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله ، وأن محمدا رسول الله» (١٢). ولهذا كان الصحيح أن

__________________

(١٢) متفق عليه من حديث ابن عباس وغيره من الاصحاب وهو مخرج في «الصحيحة» (٤٠٦).

أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله الا الله ، لا النظر ، ولا القصد الى النظر ، ولا الشك ، كما هي أقوال لارباب الكلام المذموم. بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه ، بل يؤمر بالطهارة والصلاة اذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين ، وان كان الاقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة ، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.

وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء : كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين ، أو أتى [بغير ذلك من خصائص الاسلام ، ولم يتكلم بهما ، هل يصير مسلما أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الاسلام. فالتوحيد أول ما يدخل به في الاسلام ، وآخر ما يخرج به من الدنيا ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان آخر كلامه لا إله الا الله دخل الجنة» (١٣)]. وهو أول واجب وآخر واجب.

فالتوحيد أول الامر وآخره ، أعني : توحيد الالهية ، فإن التوحيد يتضمن ثلاث أنواع :

أحدها : الكلام في الصفات (١٣١) .. والثاني : توحيد الربوبية ، وبيان أن الله وحده خالف كل شيء. والثالث : توحيد الالهية ، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.

أما الأول : فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات [في] مسمى التوحيد ، كجهم بن صفوان (١٤) ومن وافقه ، فإنهم قالوا : اثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب ، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة ، فإن اثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج ، وانما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم الى القول بالحلول والاتحاد ، وهو

__________________

(١٣) حديث حسن أو صحيح. رواه الحاكم وغيره ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (رقم ٦٨٧).

(١٣١) قال عفيفي : انظر ص ١٤٠ ج ١ من «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول».

(١٤) هو ابو محرز جهم بن صفوان السمرقندي الضال المبتدع.

أقبح من كفر النصارى ، فإن النصارى خصوه بالمسيح ، وهؤلاء عموا (١٥) جميع المخلوقات. ومن فروع هذا التوحيد : أن فرعون وقومه كاملو الايمان ، عارفون بالله على الحقيقة.

ومن فروعه : أن عبّاد الاصنام على الحق والصواب ، وأنهم انما عبدوا الله لا غيره.

ومن فروعه : أنه لا فرق في التحريم التحليل بين الام والاخت والاجنبية ، ولا فرق بين الماء والخمر ، والزنا والنكاح ، والكل من عين واحدة ، لا بل هو العين الواحدة.

ومن فروعه : أن الأنبياء ضيقوا على الناس.

تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا.

وأما الثاني : وهو توحيد الربوبية ، كالاقرار بأنه خالق كل شيء ، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والافعال ، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه ، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية ، وهذا التوحيد لم يذهب الى نفيضة طائفة معروفة من بني آدم ، بل القلوب مفطورة على الاقرار به أعظم من كونها مفطورة على الاقرار بغيره من الموجودات ، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠.

وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بانكار الصانع فرعون ، وقد كان مستيقنا به في الباطن ، كما قال له موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) الاسراء : ١٠٢. وقال تعالى عنه وعن قومه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) النمل : ١٤. ولهذا [لما] قال : وما رب العالمين؟ على وجه الانكار له تجاهل العارف ، قال [له] موسى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ

__________________

(١٥) في الاصل : عمموا

.

الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) الشعراء : ٢٤ ـ ٢٨.

وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهما عن الماهية ، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب وهذا غلط. وانما هذا استفهام انكار وجحد ، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدا لله نافيا له ، لم يكن مثبتا له طالب للعلم بماهيته. فلهذا بيّن لهم موسى أنه معروف ، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل ، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف. ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال : ان العالم له صانعان متماثلان في الصفات والافعال ، فان الثنوية من المجوس ، والمانوية القائلين بالاصلين : النور والظلمة ، وأن العالم صدر عنهما ـ : متفقون على أن النور خير من الظلمة ، وهو الاله المحمود ، وأن الظلمة شريرة مذمومة ، وهم متنازعون في الظلمة ، هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربّين متماثلين.

وأما النصارى القائلون بالتثليث ، فانهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض ، بل متفقون على أن صانع العالم واحد ، ويقولون : باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد. وقولهم في التثليث متناقض في نفسه ، وقولهم في الحلول أفسد منه ، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه ، وفي التعبير عنه ، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول ، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد ، فانهم يقولون : هو واحد بالذات ، ثلاثة بالاقنوم! والاقانيم يفسرونها تارة بالخواص ، وتارة بالصفات ، وتارة بالاشخاص. وقد فطر الله العباد على فساد [هذه] الاقوال بعد التصور التام. وبالجملة فهم لا يقولون باثبات خالقين متماثلين.

والمقصود هنا : أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين ، مع أن كثيرا من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في اثبات هذا المطلوب وتقريره. ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل ، وزعم أنه يتلقى من السمع.

والمشهور عند أهل النظر اثباته بدليل التمانع ، وهو : أنه لو كان للعالم صانعان

فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه. أو يريد أحدهما احياءه والآخر إماتته ـ : فإما أن يحصل مرادهما ، أو مراد أحدهما ، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والاول ممتنع ، لانه يستلزم الجمع بين الضدين ، والثالث ممتنع ، لانه يلزم خلوّ الجسم عن الحركة والسكون ، وهو ممتنع ، ويستلزم أيضا عجز كل منهما ، والعاجز لا يكون إلها ، واذا حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان هذا هو الا له القادر ، والآخر عاجزا لا يصلح للالهية.

وتمام الكلام على هذا الاصل معروف في موضعه ، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢. لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الالهية الذي بيّنه القرآن ، ودعت إليه الرسل عليهم‌السلام ، وليس الامر كذلك ، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب ، هو توحيد الالهية المتضمن توحيد الربوبية ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، فإن المشركين من العرب كانوا يقرّون بتوحيد الربوبية ، وأن خالق السموات والارض واحد ، كما اخبر تعالى عنهم بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥. (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥. ومثل هذا كثير في القرآن ، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم ، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الامم من الهند والترك والبربر وغيرهم ، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ، ويتخذونهم (١٦) شفعاء ، ويتوسلون بهم الى الله ، وهذا كان أصل شرك العرب ، قال تعالى حكاية عن قوم نوح. (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ـ نوح : ٢٣ ـ وقد ثبت في «صحيح البخاري» ، وكتب التفسير ، وقصص الأنبياء وغيرها ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وغيره من السلف ، أن هذه اسماء قوم صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوّروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد ، فعبدوهم

__________________

(١٦) في الاصل : ويتخذوهم. وهذا البحث انفردت به المخطوطة.

وأن هذه الاصنام بعينها صارت الى قبائل العرب ، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما ، قبيلة قبيلة (١٧) وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي الهيّاج الاسدي ، قال : قال لي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ «أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ، ولا تمثالا إلا طمسته» (١٨) وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في مرض موته : «لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١٩) يحذّر ما فعلوا ، قالت عائشة رضي الله عنها : ولو لا ذلك لا برز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا ، وفي «الصحيحين» أنه ذكر في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة ، وذكر من حسنها وتصاوير فيها ، فقال : «إن اولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوّرا فيه تلك التصاوير ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (٢٠). وفي «صحيح مسلم» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : «ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فاني أنهاكم عن ذلك» (٢١).

ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الاصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب [من] طباعها.

وشرك قوم ابراهيم عليه‌السلام كان ـ فيما يقال ـ من هذا الباب. وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الاصنام لهم.

وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع ، وأنه ليس للعالم صانعان ، ولكن اتخذوا هؤلاء

__________________

(١٧) صحيح وهو موقوف في حكم المرفوع.

(١٨) صحيح أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما وله طرق ذكرتها في «ارواء الغليل» ، و «أحكام الجنائز» (ص ٢٠٧).

(١٩) صحيح وهو من حديث عائشة وأبي هريرة ، وله شواهد كثيرة. خرجتها في «تحذير الساجد» وفي «احكام الجنائز» (ص ٢١٦).

(٢٠) صحيح وهو من حديث عائشة ، خرجته في المصدر المذكور (ص ٢١٨).

(٢١) صحيح ، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» أيضا ، وغيره ، وهو مخرج فيه أيضا (ص ٢١٧).

شفعاء ، كما أخبر عنهم تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الزمر : ٣. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يونس : ١٨.

وكذلك كان حال الامم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل. [كما] حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه‌السلام عن التسعة الرهط الذين تقاسموا بالله ، [أي تحالفوا بالله] ، لنبيتنّه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قتل نبيهم وأهله ، وهذا بيّن أنهم كانوا مؤمنين بالله ايمان المشركين.

فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الالهية (٢٢) ، الذي يتضمن توحيد الربوبية. قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم : ٣٠. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) الروم : ٣١ ـ ٣٦ وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه (٢٣)» ولا يقال : ان معناه يولد ساذجا لا يعرف توحيدا ولا شركا ، كما قال بعضهم ـ لما تلونا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربه عزوجل : «خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين» (٢٤) الحديث. وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك ، حيث قال : «يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه» ولم يقل : ويسلمانه. وفي

__________________

(٢٢) ذكر المؤلف النوع الأول والثاني ، ولم نجد في النسخة المخطوطة أو في النسخ المطبوعة ذكرا للثالث ، ويبدو أن محله هنا.

(٢٣)؟؟ عليه من حديث أبي هريرة وهو مخرج في «ارواء الغليل» (١٢٢٠).

(٢٤) رواه مسلم واحمد من حديث عياص بن حمار.

رواية «يولد على الملّة» وفي أخرى : «على هذه الملّة».

وهذا الذي أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي تشهد الادلة العقلية بصدقه. منها ؛ أن يقال : لا ريب أن الانسان قد يحصل له من الاعتقادات والارادات ما يكون حقا ، وتارة ما يكون باطلا ، وهو حساس متحرك بالارادات (٢٤١) ، ولا بد له من أحدهما ، ولا بد له من مرجح لاحدهما. ونعلم أنه اذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذّب ويتضرر ، مال بفطرته الى أن يصدق وينتفع ، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الايمان به هو الحق أو نقيضه ، والثاني فاسد قطعا ، فتعين الاول ، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والايمان به. وبعد ذلك : أما أن يكون في فطرته [محبته أنفع للعبد أو لا. والثاني فاسد قطعا ، فوجب أن يكون في فطرته] محبة ما ينفعه.

ومنها : أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسّه. وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك ، بل يحتاج الى سبب معين للفطرة ، كالتعليم ونحوه ، فاذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.

ومنها : أن يقال : من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة ، لو لا أن في النفس قوة تقبل ذلك ، والا فلو علم الجهال والبهائم وحضّضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول اقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج ، وتكون الذات كافية في ذلك ، فاذا كان المقتضي قائما في النفس وقدّر عدم المعارض ، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه ، فعلم أن الفطرة (٢٥) السليمة اذا لم يحصل لها ما يفسدها ، كانت مقرة بالصانع عابدة له.

ومنها : أن يقال ؛ أنه اذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج ، كانت الفطرة مقتضية للصلاح ، لان المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم ، والمانع منتف.

ويحكى عن أبي حنيفة رحمه‌الله : أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في

__________________

(٢٤١) في الاصل : بالإرادة.

(٢٥) قال عفيفي : انظر الباب الثلاثين من كتاب «شفاء العليل» لابن القيم ، فإنه نقل اقوال العلماء في تفسير الفطرة ، ووفى المقام حقه.

تقرير توحيد الربوبية. فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة ، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها ، وتعود بنفسها ، فترسي بنفسها ، وتفرغ وترجع ، كل ذلك من غير أن يدبّرها أحد؟!! فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا! فقال لهم : اذا كان هذا محالا في سفينة ، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله!! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة.

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية ، الذي يقر به هؤلاء النظار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ، ويجعلونه غاية السالكين ، كما ذكره صاحب «منازل السائرين» وغيره ، وهو مع ذلك ان لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه ـ كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين.

والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الامثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية ، ويبين انه لا خالق الا الله ، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد الا الله ، فيجعل الأول دليلا على الثاني ، اذ كانوا يسلّمون [في] الأول (٢٦) وينازعون في الثاني ، فيبين لهم سبحانه أنكم اذا كنتم تعلمون أنه لا خالق الا الله [وحده] ، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ، ويدفع عنهم ما يضرهم ، لا شريك له في ذلك ، فلم تعبدون غيره ، وتجعلون معه آلهة اخرى؟

كقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) النمل : ٥٩ الآيات. يقول الله تعالى في آخر كل آية : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام انكار ، يتضمن نفي ذلك ، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله ، [فاحتج عليهم بذلك ، وليس المعنى أنه استفهام هل مع الله إله ، كما ظنه بعضهم ، لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام ، والقوم كانوا يجعلون مع الله] آلهة أخرى ، كما قال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ) الانعام : ١٩. وكانوا يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ

__________________

(٢٦) في الأصل : للأول.

عُجابٌ) ص : ٥. لكنهم ما كانوا يقولون : ان معه إلها (جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) النمل : ٦١. بل هم مقرّون بأن الله وحده فعل هذا ، وهكذا سائر الآيات. وكذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة : ٢١. وكذلك قوله في سورة الانعام : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) الانعام : ٤٦. وأمثال ذلك.

واذا كان توحيد الربوبية ، الذي يجعله هؤلاء النظار ، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد ـ : داخلا في التوحيد الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، فليعلم أن دلائله متعددة ، كدلائل اثبات الصانع ودلائل صدق الرسول ، فان العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر ، رحمة من الله بخلقه.

والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل ، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية ، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقا عليها ، استدل بها ، ولم يحتج الى الاستدلال عليها.

والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف ، وهي طريقة [القرآن ، بخلاف ما يدعيه الجهال ، الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة] برهانية ، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع ، فانه يبينه ويدل عليه.

ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم ، باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال ، وانما ذهب بعض المشركين الى أن ثمّ خالقا خلق بعض العالم ، كما يقوله الثنوية في الظلمة ، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان ، وكما يقوله الفلاسفة الدّهرية في حركة الافلاك أو حركات النفوس ، أو الاجسام الطبيعية ، فان هؤلاء يثبتون أمورا محدثة بدون احداث الله اياها ، فهم مشركون في بعض الربوبية ، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئا من نفع أو ضر ، بدون أن يخلق الله ذلك.

فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس ، بيّن القرآن بطلانه ، كما في قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) المؤمنون : ٩١. فتأمل هذا البرهان الباهر ، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا ، يوصل الى عابده (٢٦١) النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه ، لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة ، بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والالهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد [بخلقه وذهب بذلك الخلق ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه ، اذا لم يقدر المنفرد] منهم على قهر الآخر والعلو عليه. فلا بد من أحد ثلاثة أمور :

أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.

واما أن يعلو بعضهم على بعض.

واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ، ولا يتصرفون فيه ، بل يكون وحده هو الإله ، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره ، من أدل دليل على أن مدبّره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه. كما قد دل [دليل] التمانع على أن خالق العالم واحد ، لا رب غيره ولا إله سواه ، فذلك تمانع في الفعل والايجاد ، وهذا تمانع في العبادة والالهية. فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان ، كذلك يستحيل أن يكون [لهم] إلهان معبودان.

فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته ، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه ، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية ، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الالهية.

وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢. وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو

__________________

(*) في الاصل : عباده.

كان للعالم صانعان الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ، ولم يقل أرباب.

وأيضا فإن هذا انما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا.

وأيضا فإنه قال : (لفسدتا) ، وهذا فساد بعد الوجود ، ولم يقل : لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ، بل لا يكون الاله إلّا واحد ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الاله الواحد الا الله سبحانه وتعالى ، وأن فساد السموات والارض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ، ومن كون الاله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما الا بأن يكون الاله فيهما هو الله وحده لا غيره. فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه انما هو بالعدل ، وبه قامت السموات والارض.

وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك ، وأعدل العدل التوحيد.

وتوحيد الالهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزا ، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها. قال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) الاعراف : ١٩١. وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) النحل : ١٧. وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) الاسراء : ٤٢.

وفيها للمتأخرين قولان : أحدهما : لاتخذوا سبيلا الى مغالبته ، والثاني ، وهو الصحيح المنقول عن السلف ، كقتادة وغيره ، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره ـ : لاتخذوا سبيلا بالتقرب إليه ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) الدهر : ٢٩. وذلك أنه قال : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) وهم لم يقولوا : ان العالم [له] صانعان ، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الزمر : ٣ ، بخلاف الآية الاولى.

[انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل]

ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان : توحيد في الاثبات والمعرفة ، وتوحيد في الطلب والقصد.

فالاول : هو اثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه ، ليس كمثله شيء في ذلك كله ، كما أخبر به عن نفسه ، وكما أخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أفصح القرآن عن هذا [النوع] كل الافصاح ، كما في أول (الحديد) و (طه) وآخر (الحشر) وأول (الم تنزيل السجدة) وأول (آل عمران) وسورة (الاخلاص) بكمالها ، وغير ذلك.

والثاني : وهو توحيد الطلب والقصد ، مثل ما تضمنته سورة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) آل عمران : ٦٤ ، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها ، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها ، وأول سورة (الاعراف) وآخرها ، وجملة سورة (الانعام).

وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد ، بل كل سورة في القرآن. فالقرآن اما خبر عن الله وأسمائه وصفاته ، وهو التوحيد العلمي الخبري. وأما دعوة الى عبادته وحده لا شريك له ، وخلع ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الارادي الطلبي. وأما أمر ونهي والزام بطاعته ، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. واما خبر عن اكرامه لاهل توحيده ، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة ، فهو جزاء توحيده. وأما خبر عن أهل الشرك ، وما فعل بهم في [الدنيا] (٢٧) من النكال ، وما يحلّ بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه ، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) توحيد ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) توحيد ، (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) توحيد ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

__________________

(٢٧) في الاصل : (العقبى) والصواب من المطبوعة.

توحيد متضمن لسؤال الهداية الى طريق أهل التوحيد ، (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الذين فارقوا التوحيد.

وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد ، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران : ١٨ ، ١٩. فتضمنت هذه الآية الكريمة اثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع طوائف الضلال ، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها ، من أجلّ شاهد ، بأجلّ مشهود به.

وعبارات السلف في «شهد» ـ تدور على الحكم ، والقضاء ، والاعلام ، والبيان ، والاخبار. وهذه الاقوال كلها حق لا تنافي بينها : فان الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن اعلامه واخباره وبيانه.

فلها أربع مراتب : فأول مراتبها : علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها : تكلمه بذلك ، وان لم يعلم به غيره ، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها : أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره [به] ويبينه له. ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.

فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الاربع : علمه بذلك سبحانه ، وتكلمه به ، واعلامه واخباره لخلقه به ، وأمرهم والزامهم به.

فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة (٢٨) ، والا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف : ٨٦. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثلها فاشهد» (٢٩) ، وأشار الى الشمس.

__________________

(٢٨) قال عفيفي : ما ذكره الشارح من قوله : انواع التوحيد.

(٢٩) ضعيف. أورده الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام من أدلة الاحكام» بلفظ : «على مثلها فاشهد ، أودع» وقال : «اخرجه ابن عدي باسناد ضعيف ، وصححه الحاكم فأخطأ» وقد خرجته في «الإرواء» (٢٦٦٧).

وأما مرتبة التكلم والخبر ، فقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) الزخرف : ١٩. فجعل ذلك منهم شهادة ، وان لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.

وأما مرتبة الإعلام والاخبار فنوعان : اعلام بالقول ، واعلام بالفعل. وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر : تارة يعلمه به بقوله ، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل داره مسجدا وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها ـ : معلما أنها وقف ، وان لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا الى غيره بأنواع المسارّ ، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه ، وان لم يتلفظ بقوله ، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب عزوجل وبيانه واعلامه ، يكون بقوله تارة ، وبفعله أخرى. فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه. وأما بيانه واعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه ـ : أنه لا إله الا هو. وقال آخر :

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل ، قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) التوبة : ١٧. [فهذه شهادة منهم على أنفسهم] (٣٠) بما يفعلونه.

[والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته] (٣١) المخلوقة دالة عليه ، ودلالتها انما هي بخلقه وجعله.

وأما مرتبة الامر بذلك والالزام به ، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه ، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه ـ فانه سبحانه شهد به شهادة من حكم به ، وقضى وأمر وألزم عباده به ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الاسراء : ٢٣. وقال الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) النحل : ٥١. وقال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) البيّنة : ٥. (وَما أُمِرُوا إِلَّا

__________________

(٣٠) اسقطت هذه العبارة وكلمة : (بالكفر) من الآية ، من الاصل.

(٣١) في الاصل : (والمقصد .. الآية).

لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) التوبة : ٣١. وقال تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)؟؟ : ٢٢ و ٣٩. وقال تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) القصص : ٨٨. ومفرد كله شاهد بذلك.

ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك : أنه اذا شهد أنه لا إله الا هو ، فقد أخبر وبيّن وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله ، أو آلهية ما سواه باطلة ، فلا يستحق العبادة سواه ، كما لا تصلح الالهية لغيره ، وذلك يستلزم الامر باتخاذه وحده إلها ، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها ، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والاثبات ، كما اذا رأيت رجلا يستفتي رجلا أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك ، ويدع من هو أهل له ، فتقول : هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب ، المفتي فلان ، والشاهد فلان ، والطبيب فلان ، فإن هذا أمر منه ونهي.

وأيضا : فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة ، فاذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة ، تضمن هذا الاخبار أمر العباد والزامهم بأداء ما يستحق الرب تعالى عليهم ، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.

وأيضا : فلفظ «الحكم» و «القضاء» يستعمل في الجملة الخبرية ، ويقال للجملة الخبرية : قضية ، وحكم ، وقد حكم فيها بكذا. قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) الصافات : ١٥١ ـ ١٥٤. فجعل هذا الاخبار المجرد منهم حكما وقال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم : ٣٥ ـ ٣٦. لكن هذا حكم لا الزام معه.

والحكم والقضاء بأنه لا إله الا هو متضمن الالزام. ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها ، [ولم ينتفعوا بها ،] ولم تقم عليهم بها الحجة. بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به ، كما أن الشاهد من العباد اذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها ، لم ينتفع بها أحد ، ولم تقم بها حجة.

واذا كان لا ينتفع بها الا ببيانها ، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة : السمع ، والبصر ، والعقل.

أما السمع : فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا اياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها ، غاية البيان ، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في الحيرة ، تنافي البيان ال؟؟ وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم ، كما قال تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الزخرف : ١ ، ٢. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يوسف : ١ ، ٢ (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الحجر : ١ ، ٢. (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران : ١٣٨. (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة ٩٢. والتغابن : ١٢. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل : ٤٤. وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن ، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى الى رأي فلان ، [ولا الى ذوق فلان] ووجب في أصول ديننا.

ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطرين. بل قد قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) المائدة : ٣. فلا يحتاج في تكميله الى أمر خارج عن الكتاب والسنة.

والى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه من قوله : لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، فإنه ما سلم في دينه الا من سلم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما آياته العيانية الخلقية : فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية ، والعقل يجمع بين هذه وهذه ، ويجزم بصحة ما جاءت به الرسل ، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.

فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته واحسانه وحكمته ومحبته للعذر واقامة الحجة ـ لم يبعث نبيّا إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد : ٢٥.

وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) النحل : ٤٣ ، ٤٤. [وقال تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) آل عمران : ١٨٣.] وقال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) آل عمران : ١٨٤. وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الشورى : ١٧. حتى ان من أخفى آيات الرسل آيات هود ، حتى قال له قومه : يا هود ما جئتنا ببينة ، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفّقه الله لتدبرها ، وقد أشار إليه بقوله : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هود : ٥٤ ـ ٥٦. فهذا من أعظم الآيات : أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب ، غير جزع ولا فزع ولا خوّار ، بل هو واثق بما قاله ، جازم به ، فأشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه ، اشهاد واثق به معتمد عليه ، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلّط لهم عليه. ثم أشهدهم اشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها ، ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم. ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه [لم يقدروا على ذلك الا ما كتبه الله عليه]. ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير ، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده ، وأنه على صراط مستقيم ، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به ، ولا يشمت به أعداءه.

فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم‌السلام وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان.

ومن أسمائه تعالى «المؤمن» وهو في أحد التفسيرين : المصدق الذي يصدق الصادقين مما يقيم لهم من شواهد صدقهم ، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الافقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلّغه رسله حق [قال] تعالى :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) فصلت : ٥٣. أي القرآن ، فانه هو المتقدم في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فصلت : ٥٢. ثم قال : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت : ٥٣. فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق ، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا. ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجلّ ، وهو شهادته سبحانه [بأنه] على كل شيء شهيد ، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه ، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له ، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته ، والاول استدلال بقوله وكلماته ، واستدلاله بالآيات الافقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.

فإن قلت : كيف يستدل بأسمائه وصفاته ، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟

فالجواب : أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل ، ولا بالتشبيه والتمثيل ، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته ، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله ، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما يعرفونه منه. ومن كماله المقدّس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه ، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الارض باطنا وظاهرا. ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به ، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقرّ من يكذب عليه أعظم الكذب ، ويخبر عنه بخلاف ما الامر عليه ، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه ، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر ، وهو مع ذلك كاذب غير مفتر؟!

ومعلوم أن؟؟ سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك. ومن جوّز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته.

والقرآن مملوء من هذه الطريق ، وهي طريق الخواص ، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل [ولا يفعله] ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ.

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الحاقة ٤٤ ـ ٤٧. وسيأتي لذلك زيادة بيان ان شاء الله تعالى. ويستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك ، كما في قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) الحشر : ٢٣. وأضعاف ذلك في القرآن. وهذه الطريق قليل سالكها ، لا يهتدي إليها الا الخواصّ. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة ، لانها أسهل تناولا وأوسع. والله سبحانه يفضّل بعض خلقه على بعض.

فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره ، فانه الدليل والمدلول عليه ، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت : ٥١ الآيات.

واذا عرف أن توحيد الالهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب ، كما تقدمت إليه الاشارة ـ فلا يلتفت الى قول من قسم التوحيد الى ثلاثة أنواع ، وجعل هذا النوع توحيد العامة ، والنوع الثاني توحيد الخاصة ، وهو الذي يثبت بالحقائق ، والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم ، وهو توحيد خاصة الخاصة ، فإن أكمل الناس توحيد الأنبياء [صلوات الله عليهم ،] والمرسلون منهم أكمل في ذلك ، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وأكملهم توحيدا الخليلان : محمد وإبراهيم ، صلوات الله عليهما وسلامه ، فانهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ، ومعرفة ، وحالا ، ودعوة للخلق وجهادا ، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ، ودعوا إليه ، وجاهدوا الامم عليه. ولهذا أمر سبحانه نبيه ان يقتدي بهم فيه ، كما قال تعالى ، بعد ذكر مناظرة ابراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته : ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الانعام : ٩٠. فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهم. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه اذا أصبحوا أن يقولوا : «أصبحنا على فطرة الاسلام

وكلمة الاخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا ابراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» (٣٢). فملة ابراهيم : التوحيد ، ودين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا. وكلمة الاخلاص : هي شهادة أن لا إله الا الله. وفطرة الاسلام : هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له ، والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة.

فهذا توحيد خاصة الخاصة ، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء. قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) البقرة : ١٣١ ، ١٣٢. وكل من له حس سليم وعقل يميز به ، لا يحتاج في الاستدلال الى اوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة ، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة ، فإن التوحيد انما ينفع اذا سلم قلب صاحبه من ذلك ، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح الا من أتى الله به. ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا انه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ، ينتهي الى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية ، وهو درب خطر ، يفضي الى الاتحاد. انظر الى ما أنشد شيخ الاسلام ابو اسماعيل الانصاري رحمه‌الله تعالى حيث يقول :

ما وحد الواحد من واحد

اذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده اياه توحيده

ونعت من ينعته لاحد

__________________

(٣٢) حديث صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» (٥ / ١٢٣) عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا اذا أصبحنا : أصبحنا على فطرة الاسلام .. الحديث. وفي آخره : واذا أمسينا مثل ذلك. وسنده ضعيف. لكن أخرجه أحمد (٣ / ٤٠٦ ، ٤٠٧) والدارمي (٢ / ٢٩٢) وابن السني في «اليوم والليلة» (رقم ٣٢) من طريقين آخرين عن عبد الرحمن بن أبزى قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذا أصبح قال» فذكره. وسنده صحيح.

وان كان قائله رحمه‌الله لم يرد به الاتحاد ، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه ، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه ، ولو سلك الالفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق ، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبّه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبيّنه ، فإن على الرسول البلاغ المبين ، فأين قال الرسول : هذا توحيد العامة ، وهذا توحيد الخاصة ، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار الى هذه النقول والعقول حاضرة.

فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه سنة الرسول ، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول ، وسادات العارفين من الأئمة ، هل جاء ذكر الفناء فيها ، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وانما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين ، المشبه لغلو [الخوارج ، بل] لغلو النصارى في دينهم. وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) النساء : ١٧١. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) المائدة : ٧٧. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشددوا فيشدد الله عليكم ، فإن من كان قبلكم شدّدوا فشدّد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» رواه أبو داود (٣٣).

قوله : (ولا شيء مثله).

ش : اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله. ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظا مجملا يراد به المعنى الصحيح ، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل ، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، ردّ على الممثلة المشبهة (وَهُوَ

__________________

(٣٣) (رقم ٤٩٠٤) وفيه سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء لم يوثقه غير ابن حبان ، ولم يرو عنه سوى اثنين وقد خرجته في «الضعيفة» (٣٤٦٨).

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، رد على النفاة المعطلة ، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق ، فهو المشبّه المبطل المذموم ، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق ، فهو نظير النصارى في كفرهم ، ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات ، فلا يقال : [له] قدرة ، ولا علم ، ولا حياة ، لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له : حي ، عليم ، قدير ، لأن العبد يسمى بهذه الاسماء ، وكذلك كلامه وسمعه وبصره (٣٤) [وارادته] وغير ذلك. وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود ، عليم قدير ، حي. والمخلوق يقال له : موجود حي عليم قدير ، ولا يقال : هذا تشبيه يجب نفيه ، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل ، ولا يخالف فيه عاقل ، فإن الله سمى نفسه بأسماء ، وسمى بعض عباده بها ، وكذلك سمى صفاته بأسماء ، وسمى ببعضها صفات خلقه ، وليس المسمّى كالمسمي فسمى نفسه : حيا ، عليما ، قديرا ، رءوفا ، رحيما ، عزيزا ، حكيما ، سميعا ، بصيرا ، ملكا ، مؤمنا ، جبارا ، متكبرا. وقد سمى بعض عباده بهذه الاسماء فقال : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الانعام : ٩٥ والروم : ١٩. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) الذاريات : ٢٨. (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) الصافات : ١٠١. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) التوبة : ١٢٨. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). الدهر : ٢. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) يوسف : ٥١. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) الكهف : ٧٩. (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) السجدة : ١٨. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) المؤمن : ٣٥. ومعلوم أنه لا يماثل الحيّ الحيّ ، ولا العليم العليم ، ولا العزيز العزيز ، وكذلك سائر الاسماء ، وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) البقرة : ٢٥٥. (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) النساء : ١٦٦. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) فاطر : ١١ (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات : ٥٨. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) حم السجدة : ١٥. وعن جابر رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور

__________________

(٣٤) في الاصل : وبصره ورؤيته وهما واحد ، ولعل المقصود بصره وإرادته كما هو في احدى النسخ المطبوعة.

كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : اذا همّ أحدكم بالامر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم اني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم (٣٥) ، وأنت علام الغيوب ، اللهم ان كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال : عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ، ويسره (٣٦) لي ، ثم بارك لي فيه ، وان كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال : عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضّني به. قال : «ويسمي حاجته» (٣٧) ، رواه البخاري. وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يدعو بهذا الدعاء : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفّني اذا كانت الوفاة خيرا لي ، اللهم اني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الغنى والفقر ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضى بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر الى وجهك الكريم ، والشوق الى لقائك ، غير ضرّاء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الايمان ، واجعلنا هداة مهتدين» (٣٨). فقد سمى الله ورسوله صفات الله علما وقدرة وقوة. وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) الروم : ٥٤. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) يوسف : ٦٨. ومعلوم

__________________

(٣٥) في المطبوعة : فإنك تعلم ولا اعلم ، وتقدر ولا أقدر ، وما أثبتناه هو الموافق لرواية البخاري.

(٣٦) في الاصل : ويسر : بدل : ويسره لي.

(٣٧) صحيح ، وحسبك ان البخاري اخرجه في «صحيحه» ، وقول أحمد في أحد رواته : «روى حديثا منكرا» يعني هذا ، لا يضره بعد قول احمد فيه «لا بأس به» ، وانما يضر ذلك فيما اذا خالف من هو أوثق منه ، وليس شيء من ذلك هنا. ثم وجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان ، وقد خرجته في «الضعيفة» (٢٣٠٥) لزيادة فيه عنده.

(٣٨) حديث صحيح ، وأخرجه الحاكم أيضا وصححه ووافقه الذهبي ، وهو مخرج في «الكلم الطيب» (١٠٥) و «ظلال الجنة في تخريج السنة» (١٢٩)

أنه ليس العلم كالعلم ، ولا القوة كالقوة ، ونظائر هذا كثيرة. وهذا لازم لجميع العقلاء. فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه ، كالرضى والغضب ، والحب والبغض ، ونحو ذلك ، ورغم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له : فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر ، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين ، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبتّه ، اذ لا فرق بينهما.

فإن قال : أنا لا أثبت شيئا من الصفات! قيل له : فأنت تثبت له الاسماء الحسنى ، مثل : عليم ، حي ، قادر. والعبد يسمى بهذه الاسماء ، وليس ما يثبت للرب من هذه الاسماء مماثلا لما يثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه.

فان قال : وأنا لا أثبت له الاسماء الحسنى ، بل أقول : هي مجاز ، وهي أسماء لبعض مبتدعاته ، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!

قيل له : فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق (٣٩) قائم بنفسه ، والجسم موجود قائم بنفسه ، وليس هو مماثلا له.

فان قال : أنا لا أثبت شيئا ، بل أنكر وجود الواجب.

قيل له : معلوم بصريح العقل أن الموجود اما واجب بنفسه ، واما غير واجب بنفسه ، واما قديم أزلي ، واما حادث كائن بعد أن لم يكن ، واما مخلوق مفتقر الى خالق ، واما غير مخلوق ولا مفتقر الى خالق ، واما فقير الى ما سواه ، واما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون الا بالواجب بنفسه ، والحادث لا يكون الا بقديم ، والمخلوق لا يكون الا بخالق ، والفقير لا يكون الا بغني عنه ، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق [غني] عما سواه ، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن ، والحادث لا يكون واجبا بنفسه ، ولا قديما أزليا ، ولا خالقا لما سواه ، ولا غنيّا عما سواه ، فثبت بالضرورة وجود موجودين : أحدهما واجب ، والآخر ممكن ،

__________________

(٣٩) كذا الاصل ، ولعله : حي.

أحدهما قديم ، والآخر حادث ، احدهما غني ، والاخر فقير ، أحدهما خالق ، والاخر مخلوق. وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا ، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته ، اذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه ، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه ، وأحدهما خالق والاخر ليس بخالق ، وأحدهما غني عما سواه ، والاخر فقير.

فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم ، موجودا بنفسه غير موجود بنفسه ، خالقا ليس بخالق ، غنيا غير غني ، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما. فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل ، كما هو منتف بنصوص الشرع.

فعلم بهذه الادلة اتفاقهما من وجه ، واختلافهما من وجه. فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل ، ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا بالباطل ، والله أعلم. وذلك. لانهما وان اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه ، فالله [تعالى] مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته ، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك ، والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه ، وقدرته ، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه.

واذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة ، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الاذهان لا في الاعيان ، والموجود في الاعيان مختص لا اشتراك فيه.

وهذا موضع اضطراب فيه كثير من النظار ، حيث توهموا ان الاتفاق في مسمى هذه الاشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.

وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي ، وكابروا عقولهم ، فان هذه الاسماء عامة قابلة للتقسيم ، كما يقال : الموجود ينقسم الى واجب وممكن ، وقديم وحادث. ومورد التقسيم مشترك بين الاقسام ، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب ، لا ينقسم معناه ، ولكن يقال : لفظ المشتري يقال على كذا [أو على كذا] ، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.

وأصل الخطأ والغلط : توهمهم أن هذه الاسماء (٤٠) العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين ، وليس كذلك ، فان ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا ، [بل] لا يوجد الا معينا مختصا ، وهذه الاسماء اذا سمي الله بها كان مسماها معيّنا مختصا به ، فاذا سمي بها العبد كان مسماها مختصا به. فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره ، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره ، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول : هذا هو ذاك ، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.

وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلّوا ، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة ، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.

فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه ، ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الامر.

والمشبهة أحسنوا في اثبات الصفات ، ولكن أساءوا بزيادة التشبيه.

واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ الا أن يعرف عنها أو ما يناسب عينها ، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى ، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط ، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الالفاظ المفردة ، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة ، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له الى معناه ان كان مشهودا بالاحساس الظاهر أو الباطن ، فيقال له : لبن ، خبز ، أم ، أب ، سماء ، أرض ، شمس ، قمر ، ماء ، ويشار له مع العبارة الى كل مسمى من هذه المسميات ، والا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به ، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي ، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الادلة السمعية وهي الاسماء كلها ، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.

__________________

(٤٠) في الاصل : الاشياء. والصواب ما اثبتنا.

فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده ، وارادته وعنايته في قلبه ، فلا يعرف باللفظ ابتداء ، ولكن [لا] يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به ، فاذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية ، عرف المعنى المراد بلا اشارة. إليه. وان كانت الاشارة الى ما يحس بالباطن ، مثل الجوع والشيع والري والعطش والحزن والفرح ، فانه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه ، فاذا وجده أشير له إليه ، وعرف أن اسمه كذا ، والاشارة تارة تكون الى جوع نفسه أو عطش نفسه ، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له : جعت ، أنت جائع ، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالاشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد ، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وادراكه بنظرها أو نحوه جنها تعني جوعه ، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.

اذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم اذا أراد بيان معان ، فلا يخلو اما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع باحساسه وشهوده ، أو بمعقوله ، واما أن لا يكون كذلك. فان كانت من القسمين الاولين لم يحتج الا الى معرفة اللغة ، بأن يكون قد عرف معاني الالفاظ المفردة ومعنى التركيب ، فاذا قيل له بعد ذلك : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) البلد ٨ ـ ٩ ، أو قيل له : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل : ٧٨. ونحو ذلك ، فهم المخاطب بما أدركه بحسه ، وان كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه ، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الالفاظ ، بل هي مما [لا] يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة ، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الامور التي شاهدها من التشابه والتناسب ، وكلما كان التمثيل أقوى ، كان البيان أحسن ، والفهم أكمل.

فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أمورا لم تكن معروفة قبل ذلك ، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها ، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني ، وجعلها أسماء لها ، فيكون بينها قدر مشترك ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والايمان ، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالايمان بالله وباليوم الآخر ، وهم

لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها ، أخذ من اللغة الالفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية ، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها ، وقرن بذلك من الاشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد ، كتعليم الصبي ، كما قال ربيعة ابن أبي عبد الرحمن (٤١) : الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم.

وأما ما يخبر به الرسول من الامور الغائبة ، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم ، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عادا ، فان عادا من جنسهم والريح من جنس ريحهم ، وان كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر ، وكذا بقية الاخبار عن الامم الماضية. ولهذا كان الاخبار بذلك فيه عبرة لنا ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) يوسف : ١١١. وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه. كما اذا اخبرهم عن الامور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر ، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الالفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فاذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد ، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب ، أشهدهم اياه ، وأشار لهم إليه ، وفعل قولا يكون حكاية له وشبها ، به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الامور الغائبة.

فينبغي أن يعرف هذه الدرجات : أولها : ادراك الانسان المعاني الحسية المشاهدة. وثانيها : عقله لمعانيها الكلية. وثالثها : تعريف الالفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب. فاذا أخبرنا عن الامور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما ، وذلك بتعريفنا الامور المشهودة. ثم إن كانت مثلها

__________________

(٤١) هو ربيعة بن فروخ المدني ابو عثمان امام حافظ فقيه مجتهد كان صاحب الفتوى في المدينة وبه تفقه الامام مالك ويلقب بربيعة الرأي.

لم يحتج الى ذكر الفارق ، كما تقدم في قصص الامم ، وان لم يكن مثلها بيّن ذلك بذكر الفارق ، بأن يقال : ليس ذلك مثل هذا ، ونحو ذلك. واذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الاضافة وحدها كافية في بيان الفارق ، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك ، وبه صرنا نفهم الامور الغائبة ولو لا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.

قوله : (ولا شيء يعجزه).

ش : لكمال قدرته. قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ٢٠. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) الكهف : ٤٥. (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر : ٤٤ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة : ٢٥٥. «لا يؤده» أي : لا يكرثه (٤٢) ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده ، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده ، كقوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩ ، لكمال عدله. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) سبأ : ٣ ، لكمال علمه. وقوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) ق : ٣٨ ، لكمال قدرته. (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) البقرة : ٢٥٥ لكمال حياته وقيّوميته. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣ ، لكمال جلاله وعظمته وكبريائه ، والا فالنفي الصّرف لا مدح فيه ، ألا ترى أن قول الشاعر :

قبيلة لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبّة خردل

لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده ، وتصغيرهم بقوله «قبيلة» علم أن المراد عجزهم وضعفهم ، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر :

لكنّ قومي وان كانوا ذوي عدد

لسوا من الشّر في شيء وان هانا

__________________

(٤٢) في «القاموس» : كرثه الغم يكرثه ويكرثه بكسر الراء وضمها. اشتد عليه ، كأكرثه.

لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم ، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضا.

ولهذا يأتي الاثبات للصفات في كتاب الله مفصلا ، والنفي مجملا ، عكس طريقة أهل الكلام المذموم : فانهم يأتون بالنفي المفصل والاثبات المجمل ، يقولون : ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم ، ولا مجسّة (٤٣) ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض ، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الاماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الاقدار ولا تحجبه الاستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الاشعري رحمه‌الله عن المعتزلة.

وفي هذه الجملة حق وباطل. ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرّد مع كونه لا مدح فيه ، [فيه] اساءة أدب ، فانك لو قلت للسلطان : أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك! لأدبك على هذا الوصف وان كنت صادقا ، وانما تكون مادحا اذا أجملت النفي فقلت : انت لست مثل أحد من رعيتك ، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل. فاذا أجملت في النفي اجملت في الادب.

والتعبير عن الحق بالالفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة. والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الاسماء والصفات ، ولا يتدبرون معانيها ، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والالفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده. [وأمه أهل الحق والسنة والايمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق

__________________

(٤٣) في الاصل مجنسة ويبدو ان النقط سهو من الناسخ وفي النسخ المطبوعة (بجثة) ويظهر أن الذي صححها كذا غفل عن ورودها في السطر السابق

.

الذي يجب اعتقاده واعتماده]. والذي قاله هؤلاء اما أن يعرضوا عنه اعراضا جمليّا ، أو يبينوا حاله تفصيلا ، ويحكم عليه بالكتاب والسنة ، [لا يحكم به على الكتاب والسنة].

والمقصود : أن غالب عقائدهم السلوب ، ليس بكذا ، ليس بكذا ، وأما الاثبات فهو قليل ، وهي أنه عالم قادر حي ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات ، فان الله تعالى قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. ففي هذا الاثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله ، مما أخبرنا به من صفاته ، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه ، كما قال رسوله الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء الكرب : «اللهم اني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن [العظيم] ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذاب همي وغمي» (٤٤). وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات ان شاء الله تعالى.

وليس قول الشيخ رحمه‌الله تعالى «ولا شيء يعجزه» من النفي المذموم ، فأن الله تعالى قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر : ٤٤ ، فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز ، وهو كمال العلم والقدرة ، فان العجز انما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل ، واما من عدم علمه به ، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وهو على كل شيء قدير ، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه ، فانتفى العجز ، لما

__________________

(٤٤) صحيح ، وان اعله الذهبي بجهالة ابي سلمة ، وتبعته عليه برهة من الزمن ، فقد تبين لي فيما بعد أن أبا سلمة هذا ثقة معروف ، وان اسناده متصل صحيح ، في تحقيق اجريته عليه ، لا اظن أحدا سبقني إليه ، أودعته في «الاحاديث الصحيحة» (١٩٩).

بينه وبين القدرة من التضاد ، ولان العاجز لا يصلح أن يكون إلها ، تعالى الله عن ذكر ذلك علوّا كبيرا.

قوله : (ولا إله غيره).

ش : هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم ، كما تقدم ذكره. واثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والاثبات المقتضي للحصر ، فان الاثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال. ولهذا ـ والله أعلم ـ لما قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) البقرة : ١٦٣ ، قال بعده : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) البقرة : ١٦٣. فانه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني : هب أن الهنا واحد ، فلغيرنا إله غيره ، فقال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ]).

وقد اعترض صاحب «المنتخب» على النحويين في تقدير الخبر في «لا إله الا هو» (٤٤١) ـ فقالوا : تقديره : لا إله في الوجود الا الله ، فقال : يكون ذلك نفيا لوجود

__________________

(٤٤١) كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، جزاه الله كل خير ـ على هذا الموضع ، بالتعليق التالي :

ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود) ليس بصحيح ، لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة وتقدير الخبر بلفظ «في الوجود لا يحصل به المقصود من بيان احقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها» لأن لقائل أن يقول : كيف تقولون «لا إله في الوجود الا الله»؟ وقد اخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين ، كما في قوله سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) الآية.

فلا سبيل الى التخلص من هذا الاعتراض وبيان عظمة هذه الكلمة وانها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله ، الا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة ، وهو كلمة (حق) لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الا له الحق والمعبود بالحق هو الله وحده كما نبه على

الا له. ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره والاعراض عن هذا الاضمار أولى.

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي (٤٥) في «ريّ الظمآن» فقال : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب ، فإن «إله» في موضع المبتدأ على قول

__________________

ـ ذلك جمع من أهل العلم منهم ابو العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم‌الله.

ومن ادلة ذلك قوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق وان ما دعاه الناس من دونه هو الباطل ، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات ، واتضح بذلك انه المعبود بالحق وحده ، ولهذا انكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الاقرار بها لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم لأنهم فهموا ان المراد بها نفي الالوهية بحق عن غير الله سبحانه ولهذا قالوا جوابا لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قال لهم : قولوا ، لا إله الا الله (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ، وقالوا أيضا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ، وما في معنى ذلك من الآيات.

وبهذا التقدير يزول جميع الأشكال ويتضح الحق المطلوب.

والله ولي التوفيق.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(٤٥) في الاصل : المرشي ، وقال الاستاذ أحمد شاكر رحمه‌الله والمرسي هذا : هو شرف الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي الاندلسي ، «الاديب النحوي المفسر المحدث الفقيه» ، كما وصفه ياقوت. لقيه ياقوت بمصر سنة ٦٢٤ ، وأخبره أن مولده سنة ٥٧٠ ، وذكر كثيرا من مؤلفاته : منها : «تفسير القرآن ، سماه : ري الظمآن في تفسير القرآن ، كبير جدا ، قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض». انظر ترجمته في «معجم الادباء» ٧ : ١٦ ـ ١٧. وتوفي شرف الدين هذا في طريق العريش سنة ٦٥٥. وترجمه ابن كثير في التاريخ ١٣ : ١٩٧ ، وابن العماد في «الشذرات» ٥ : ٢٦٩. وهو الذي سمع منه رضي الدين الطبري «صحيح ابن حبان» ، كما أثبتنا ذلك في مقدمة «صحيح ابن حبان» ص : ٢٧. ومما يستغرب من شأنه ، ما ذكره ياقوت : انه «كانت له كتب في البلاد التي ينتقل فيها ، بحيث لا يستصحب كتبا في سفره ، اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه» رحمه‌الله.

سيبويه ، وعند غيره اسم «لا» ، وعلى التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ ، والا فما قاله من الاستغناء عن الاضمار فاسد. وأما قوله : اذا لم يضمر يكون نفيا للماهية ـ فليس بشيء ، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود ، لا تتصور الماهية الا مع الوجود ، فلا فرق بين «لا ماهية» و «لا وجود». وهذا مذهب أهل السنة ، خلافا للمعتزلة ، فانهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود ، و «الا الله» ـ مرفوع ، بدلا من «لا إله» لا يكون خبرا ل «لا» ، ولا للمبتدإ. وذكر الدليل على ذلك.

وليس المراد هنا ذكر الاعراب ، بل المراد رفع الاشكال الوارد على النحاة في ذلك ، وبيان أنه من جهة المعتزلة. وهو فاسد : فان قولهم : نفي الوجود ليس تقييدا ، لأن العدم ليس بشيء ، قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩. ولا يقال : ليس قوله : غيره كقوله : الا الله ، لأن غير تعرب باعراب الاسم الواقع بعد الا. فيكون التقدير للخبر فيهما واحدا. فلهذا ذكرت هذا الاشكال وجوابه هنا.

قوله : (قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء)

ش : قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) الحديد : ٣. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أنت الاول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» (٤٦). فقول الشيخ قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء هو معنى اسمه الاول والاخر. والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر ، فان الموجودات لا بد أن تنتهي الى واجب الوجود لذاته ، قطعا للتسلسل. فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك ، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة ، فإن الممتنع لا يوجد ، ولا واجبة الوجود بنفسها ، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم ، وهذه كانت معدومة ثم وجدت ، فعدمها ينفي وجودها ، ووجودها ينفي امتناعها ، وما كان قابلا للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه ، كما قال تعالى :

__________________

(٤٦) أخرجه مسلم (٨ / ٧٨ ـ ٧٩) في حديث أوله : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا اذا أخذنا مضجعنا أن نقول ..» فذكره.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الطور : ٣٥. يقول سبحانه : أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه ، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودا بنفسه ، بل ان حصل ما يوجده والا كان معدوما ، وكل ما أمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدلا عن وجوده ، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.

واذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية ، وجد الصواب منها يعود الى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها ، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله ، قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الفرقان : ٣٣.

ولا نقول : لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والادلة النظرية ـ : فان الخفاء والظهور من الامور النسبية ، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ، ويظهر للانسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى. وأيضا فالمقدمات وان كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها ، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة. ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري ، وان كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه الى الطرق النظرية.

وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم ، وليس هو من الاسماء الحسنى ، فان القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو المتقدم على غيره ، فيقال : هذا قديم ، للعتيق ، وهذا حديث ، للجديد. ولم يستعملوا هذا الاسم الا في المتقدم على غيره ، لا فيما [لم] يسبقه عدم ، كما قال تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس : ٣٩. والعرجون القديم : الذي يبقى الى حين وجود العرجون الثاني ، فاذا وجد الجديد قيل للاول : قديم ، وقال تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الاحقاف : ١١ ، أي متقدم في الزمان. وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الشعراء : ٧٥ ، ٧٦. فالاقدم مبالغة في القديم ، ومنه : القول القديم والجديد للشافعي رحمه‌الله تعالى. وقال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) هود : ٩٨ ، أي

يتقدمهم. ويستعمل منه الفعل لازما ومتعديا ، كما يقال : أخذت ما قدّم وما حدث ، ويقال : هذا قدم هذا وهو يقدمه. ومنه سميت القدم قدما ، لانها تقدم بقية بدن الانسان وأما ادخال القديم في أسماء الله تعالى ، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام. وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف ، منهم ابن حزم. ولا ريب أنه اذا كان مستعملا في نفس التقدم ، فان ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره. لكن أسماء الله تعالى هي الاسماء الحسنى التي تدل [على] خصوص ما يمدح به ، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها ، فلا يكون من الاسماء الحسنى. وجاء الشرع باسمه الاول. وهو أحسن من القديم ، لانه يشعر بأن ما بعده آئل إليه وتابع له ، بخلاف القديم. والله تعالى له الاسماء الحسنى لا الحسنة.

قوله : (لا يفنى ولا يبيد).

ش : اقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى ، قال عز من قائل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧. والفناء والبيد متقاربان في المعنى ، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد ، وهو أيضا مقرّر ومؤكّد لقوله : دائم بلا انتهاء.

قوله : (ولا يكون الا ما يريد).

ش : هذا رد لقول القدرية والمعتزلة ، فانهم زعموا أن الله أراد الايمان من الناس كلّهم والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود ، لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح ، وهي مسألة القدر المشهورة ، وسيأتي لها زيادة بيان ان شاء الله تعالى.

وسموا قدرية لانكارهم القدر ، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا. والتسمية على الطائفة الاولى أغلب.

أما أهل السنة [فيقولون] : ان الله وان كان يريد المعاصي قدرا ـ فهو لا يحبهما ولا يرضاها ولا يأمر بها ، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وهذا قول

السلف قاطبة ، فيقولون : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال : والله لأفعلن كذا ان شاء الله ـ لم يحنث ـ اذا لم يفعله وان كان واجبا أو مستحبا. ولو قال : ان أحب الله ـ حنث ـ اذا كان واجبا أو مستحبا.

والمحققون من أهل السنة يقولون : الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة قدرية كونية خلقية ، وإرادة دينية أمرية شرعية ، فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى ، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.

وهذا كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥. وقوله تعالى عن نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) هود : ٣٤. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) البقرة : ٢٥٣.

وأما الإرادة الدينية الشرعية الامرية ، فكقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة : ١٨٥ ، وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النساء : ٢٦. (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) النساء : ٢٧ ، ٢٨. وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) المائدة : ٦. وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الاحزاب : ٣٣.

فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح : هذا يفعل ما لا يريده الله ، أي : لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

واما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين : ما شاء الله كان ولم يشأ لم يكن.

والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل ، وبين ارادته من غيره أن يفعل. فاذا أراد الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة معلقة بفعله ، واذا أراد من غيره أن يفعل فعلا

فهذه الإرادة لفعل الغير ، وكلا النوعين معقول للناس ، والامر يستلزم الإرادة الثانية دون الاولى ، فالله تعالى اذا أمر العباد بأمر فقد يريد اعانة المأمور على [ما] أمر به وقد لا يريد ذلك ، وان كان مريدا منه فعله.

وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى : هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم‌السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله ، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له. ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله ، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات ، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة ، وهو سبحانه ـ اذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالايمان ـ كان قد بيّن لهم ما ينفعهم ويصلحهم اذا فعلوه ، ولا يلزم اذا أمرهم أن يعينهم ، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل واعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له ، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة ، ولا يلزم اذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور ، اذا فعله ـ أن يكون مصلحة للامر اذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له. فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا النصيحة ومبينا لما ينفعه ، وان كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل ، اذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه ـ يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه ، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده. فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه ، واذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالامكان.

والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره ، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب الى فعله ، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك.

فيقال لهم : هذا يكون على وجهين : أحدهما : أن تكون مصلحة الامر تعود الى الآمر ، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه ، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه ، وأمر الانسان شريكه بما يصلح الامر المشترك بينهما ، ونحو ذلك.

الثاني : أن يكون الآمر يرى الاعانة للمأمور مصلحة له ، كالأمر بالمعروف ، واذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على اعانته على الطاعة ، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. فأما اذا قدر ان الآمر انما أمر المأمور

لمصلحة المأمور ، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور ، كالناصح المشير ، وقدر أنه اذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر ، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر ، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه‌السلام : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) القصص : ٢٠. فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه‌السلام بالخروج ، لا [في] أن يعينه على ذلك ، اذ لو أعانه لضره قومه. ومثل هذا كثير.

واذا قيل : ان الله أمر العباد بما يصلحهم ، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على [ما] أمرهم به ، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا. واذا عللت أفعاله بالحكمة ، فهي ثابتة في نفس الامر ، وان كنا نحن لا نعلمها. فلا يلزم اذا كان نفس الآمر له حكمة في الامر أن يكون في الاعانة على فعل المأمور به حكمة ، بل قد تكون الحكمة تقتضي ان لا يعينه على ذلك ، فإنه اذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر لمصلحة المأمور ، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك ـ : فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأخرى.

والمقصود : أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه ، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته. فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره إنشاء وخلقا ومحبة ، فكان مرادا بجهة الخلق ومرادا بجهة الأمر. ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه ، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده. وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر ، فإن خلق المرض ـ الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان ـ يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح. ولذلك [كان] خلق ظلم الظالم ـ الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض ـ يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح ، وان كانت مصلحته هو في أن يعدل.

وتفصيل حكمة الله عزوجل في خلقه وأمره ، يعجز عن معرفته عقول البشر ،

والقدرية دخلوا في التعليل (٤٧) على طريقة فاسدة : مثّلوا الله فيها يخلقه ، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.

قوله : (لا تبلغه الاوهام ، ولا تدركه الافهام)

ش : قال الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠ قال في «الصحاح» : توهمت الشيء : ظننته ، وفهمت الشيء : علمته. فمراد الشيخ رحمه‌الله : أنه لا ينتهي إليه وهم ، ولا يحيط به علم. قيل : الوهم ما يرجى كونه ، أي : يظن انه على صفة كذا ، والفهم : هو ما يحصله العقل ويحيط به. والله تعالى لا يعلم كيف هو الا هو سبحانه وتعالى ، وانما نعرفه سبحانه بصفاته ، وهو أنه أحد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ، (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) البقرة : ٢٥٥. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الحشر : ٢٣ ـ ٢٤.

قوله : (ولا يشبهه الانام).

ش : هذا رد لقول المشبّهة ، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق ، سبحانه وتعالى ، قال عزوجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه‌الله في «الفقه الاكبر» : لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه. ثم قال بعد ذلك : وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. وقال نعيم بن حماد (٤٨) : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ،

__________________

(٤٧) في المطبوعة : التعطيل وهو خطأ لأن السياق يأباه.

(٤٨) هو نعيم بن حماد الخزاعي المروزي أبو عبد الله أول من جمع المسند في الحديث ، كان من أعلم الناس بالفرائض ، أقام مدة في العراق والحجاز يطلب الحديث ثم سكن مصر. قال الحافظ في «التقريب» : صدوق يخطئ كثيرا. مات سنة ثمان وعشرين ومائتين.

ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال اسحاق بن راهويه (٤٩) : من وصف الله فشبّه صفاته بصفات احد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم. وقال : علامة جهم وأصحابه ؛ دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب ـ : أنهم مشبّهة ، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف : علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ، فانه ما من أحد من نفاة شيء من الاسماء والصفات الا يسمي المثبت لها مشبها ، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة ؛ القرامطة والفلاسفة ، وقال : ان الله لا يقال له : عالم ولا قادر ـ : يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه ، لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه ، ومن أثبت الاسم وقال : هو مجاز ، كغالية الجهمية ، يزعم أن من قال : ان الله عالم حقيقة ، قادر حقيقة ـ : فهو مشبه ، ومن أنكر الصفات وقال : ان الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة ـ قال لمن أثبت الصفات : أنه مشبه ، وانه مجسم. ولهذا كتب نفاة الصفات ، من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم ، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة ، ويقولون في كتبهم : ان من جملة المجسمة قوما يقال لهم : المالكية ، ينسبون الى رجل يقال له : مالك بن أنس ، وقوما يقال لهم الشافعية ، ينسبون الى رجل يقال له : محمد بن ادريس!! حتى الذين يفسرون القرآن منهم ، كعبد الجبار ، والزمخشري ، وغيرهما ، يسمّون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية ـ مشبّها ، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف.

ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين : أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات ، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات. بل

__________________

(٤٩) هو اسحاق بن ابراهيم التميمي المروزي ابو يعقوب عالم خراسان في عصره قال فيه الخطيب البغدادي : اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد. روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم.

مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله ، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه‌الله أنه تعالى يعلم ا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا. وهذا معنى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. فنفى المثل وأثبت الصفة.

وسيأتي في كلام الشيخ اثبات الصفات ، تنبيها على أنه ليس نفي التشبيه مستلزما لنفي الصفات.

ومما يوضح هذا أن العلم الالهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الاصل والفرع ، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده ، فان الله سبحانه ليس كمثله شيء ، فلا يجوز أن يمثل بغيره ، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها. ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الاقيسة في المطالب الالهية ـ لم يصلوا بها الى اليقين ، بل تناقضت أدلتهم ، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب ، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها (٥٠)

ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى ، سواء كان تمثيلا أو شمولا ، كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) النحل : ٦٠. مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ـ : فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبّر ـ : فانما استفاده من خالقه وربه ومدبّره ، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه ، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال ، اذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات ـ : فانه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الاولى.

ومن أعجب العجب : أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والاسماء ، ويقولون : واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا ـ ثم يقولون : أصل الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة ،

__________________

(٥٠) أصل هذه الكلمة تكافئها ، وتسهيل الهمزة حولها الى ما ترى ومعناها : تساويها.

ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الانساني ، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تخلّقوا بأخلاق الله» (٥١) ، فاذا كانوا ينفون الصفات ، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته تعالى ، لا يشبهه شيء من مخلوقاته ، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له ، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه‌الله بقوله ولا يشبهه الانام. والانام : الناس ، وقيل ؛ كل ذي روح ، وقيل : الثقلان. وظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) الرحمن : ١٠ ـ يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم.

قوله : (حي لا يموت قيوم لا ينام).

ش : قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) البقرة : ٢٥٥ ، فنفي السّنة والنوم دليل على كمال حياته وقيّوميته. وقال تعالى : (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) آل عمران : ١ ـ ٣. وقال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) طه : ١١١. وقال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان : ٥٨ وقال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) غافر : ٦٥ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» (٥٢) ، الحديث.

لما نفى الشيخ رحمه‌الله التشبيه ، أشار الى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه ، بما يتصف به تعالى دون خلقه : فمن ذلك : أنه حي لا يموت ، لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى ، دون خلقه ، فإنهم يموتون. ومنه : أنه قيوم لا ينام ، اذ هو مختص

__________________

(٥١) لا نعرف له أصلا في شيء من كتب السنة ، ولا في «الجامع الكبير» للسيوطي ، نعم أورده في كتابه «تأييد الحقيقة العلية» (ق ٨٩ / ١) ، لكنه لم يعزه لأحد!

(٥٢) رواه مسلم وابن ماجه وأبو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» وقد قام بطبعه المكتب الاسلامي ، وهو طرف من حديث ابي موسى الاشعري ، وسيأتي بتمامه (رقم ١٧١).

بعدم النوم والسّنة ، دون خلقه ، فانهم ينامون. وفي ذلك اشارة الى [أن] نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات ، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال ، لكمال ذاته. فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة ، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعا ولهوا ولعبا وان الدار الآخرة لهي الحيوان ، فالحياة الدنيا كالمنام ، والحياة الآخرة كاليقظة ، ولا يقال : فهذه الحياة الآخرة كاملة ، وهي للمخلوق ـ : لأنا نقول : الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها ، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة ، فهي دائمة بإدامة الله لها ، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها ، بخلاف حياة الرب تعالى. وكذلك سائر صفاته ، فصفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به.

واعلم أن هذين الاسمين ، أعني : الحي القيوم مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور كما تقدم ، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى ، حتى قيل : انهما الاسم الاعظم ، فانهما يتضمنان اثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه ، ويدل القيوم على معنى الازلية والابدية ما لا يدل عليه لفظ القديم. ويدل أيضا على كونه موجودا بنفسه ، وهو معنى كونه واجب الوجود. والقيوم أبلغ من «القيّام» لان الواو أقوى من الألف ، ويفيد قيامه بنفسه ، باتفاق المفسرين وأهل اللغة ، وهو معلوم بالضرورة. وهل تفيد اقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان ، أصحهما : انه يفيد ذلك. وهو يفيد دوام قيامه [وكل (٥٣) قيامه] ، لما فيه من المبالغة ، فهو سبحانه لا يزول [و] لا يأفل ، فإن الآفل قد زال قطعا ، أي : لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم ، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال ، موصوفا بصفات الكمال. واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال ، ويدل على دوامها وبقائها ، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا وأبدا. ولهذا كان قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة : ٢٥٥. أعظم آية في القرآن ، كما ثبت ذلك في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥٤). فعلى هذين الاسمين مدار الاسماء الحسنى كلها ، وإليهما ترجع معانيها.

__________________

(٥٣) كذا في النسخ المطبوعة ولعل الاجود : وكمال قيامه.

(٥٤) رواه مسلم (٢ / ١٩٩) عن أبي بن كعب

.

فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ، فاذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها ، استلزم اثباتها اثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته ، فإنه القائم بنفسه ، فلا يحتاج الى غيره بوجه من الوجوه. المقيم لغيره ، فلا قيام لغيره الا بإقامته. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام.

قوله : (خالق بلا حاجة ، رازق بلا مئونة)

ش : قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨. (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ [الْحَمِيدُ]) فاطر : ١٥. ([وَاللهُ الْغَنِيُ] وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) محمد : ٣٨. (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) الانعام : ١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث أبي ذر رضي الله عنه : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا] ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل انسان مسألته ـ ما نقص ذلك مما عندي الا كما ينقص (٥٥) المخيط اذا أدخل البحر» الحديث. رواه مسلم (٥٦). وقوله بلا مئونة : بلا ثقل ولا كلفة.

قوله : (مميت بلا مخافة ، باعث بلا مشقة)

ش : الموت صفة وجودية ، خلافا للفلاسفة ومن وافقهم. قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك : ٢. والعدم لا

__________________

(٥٥) نقص يأتي لازما مثل نقص المال ، ومتعديا كما هو هنا ، والمفعول به محذوف ، وتقديره : ينقص المخيط ماء البحر.

(٥٦) «صحيح مسلم» (٨ / ١٧) ، ورواه احمد أيضا (٥ / ١٦٠).

يوصف بكونه مخلوقا. وفي الحديث : أنه «يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح ، فيذبح بين الجنة والنار» (٥٧). وهو وان كان عرضا فالله تعالى بقلبه عينا ، كما ورد في العمل الصالح : «أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحس ، والعمل القبيح على أقبح صورة» (٥٨). وورد في القرآن : «أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون» (٥٩) ، الحديث. أي قراءة القارئ. وورد في الاعمال : «أنها توضع في الميزان» (٦٠) ، والاعيان هي التي تقبل الوزن دون الاعراض. وورد في سورة البقرة وآل عمران : أنهما يوم القيامة «يظلّان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان (٦١) أو فرقان (٦٢) من طير صواف (٦٣)» (٦٤). وفي الصحيح : «أن أعمال العباد تصعد الى السماء» (٦٥) وسيأتي الكلام على البعث والنشور. ان شاء الله تعالى.

__________________

(٥٧) متفق عليه من حديث ابي سعيد الخدري وغيره.

(٥٨) يشير الى حديث البراء في عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين ، وهو حديث طويل سيأتي في آخر الكتاب بتمامه في بحث عذاب القبر ص ٣٩٦.

(٥٩) رواه الدارمي (٢ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) وابن ماجه (٣٧٨١) وأحمد (٥ / ٣٤٨ و ٣٥٢) وابن عدي في «الكامل» (٣٥ / ١) والحاكم (١ / ٢٥٦) من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعا تلفظ : «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول لصاحبه : انا الذي اسهرت ليلك ، وأظمأت هواجرك». وقال الحاكم : «صحيح على شرط مسلم» وبيض له الذهبي. وقال البوصيري في «الزوائد» : «اسناده صحيح».

قلت : لا ، فإن فيه بشير بن المهاجر ، وهو صدوق لين الحديث ، كما قال الحافظ في «التقريب» فمثله يحتمل حديثه التحسين ، اما التصحيح فهو بعيد.

(٦٠) فيه أحاديث كثيرة ، سيذكرها المؤلف في آخر الكتاب.

(٦١) الغيايتان : أدون من الغمامتان في الكثافة ، وأقرب الى رأس صاحبهما.

(٦٢) الفرقان بكسر الفاء : طائفتان.

(٦٣) أي : باسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض.

(٦٤) رواه مسلم عن أبي إمامة ، والحاكم عن بريدة.

(٦٥) روى البخاري (١ / ٢٠٥ ـ طبع أوروبا) عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا نصلي يوما وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده ، قال رجل وراءه : ربنا

قوله : (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليا ، كذلك لا يزال عليها أبديا.).

ش : أي : أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفا بصفات الكمال : صفات الذات وصفات الفعل. ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها ، لان صفاته سبحانه صفات كمال ، وفقدها صفة نقص ، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفا بضده. ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها ، كالخلق والتصوير ، والاماتة والاحياء ، والقبض والبسط والطي ، والاستواء والاتيان والمجيء والنزول ، والغضب والرضى ، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، وان كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله ، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا ، ولكن أصل معناه معلوم لنا ، كما قال الامام مالك رضي الله عنه ، لما سئل عن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ وغيرها : كيف استوى؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول (٦٦). وان كانت هذه الاحوال تحدث في وقت دون وقت ، كما في حديث الشفاعة : «ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» (٦٧). لأن هذا الحدوث بهذا

__________________

ـ لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف قال : من المتكلم؟ قال : أنا ، قال : رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول. ورواه الترمذي (٢ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥) والنسائي (١ / ١٤٧) من طريق أخرى عن رفاعة به نحوه بلفظ : «لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها» وقال الترمذي : حديث حسن. قلت : واسناده جيد. وله شاهد من حديث عبد الله ابن أبي أوفى نحوه وفيه : «والله لقد رأيت كلامك يصعد في السماء حتى فتح باب فدخل فيه» ، أخرجه أحمد (٤ / ٣٥٥ و ٣٥٦) وابنه في زوائده ، ورجاله ثقات غير عبد الله بن سعيد ، ذكره ابن حبان في «الثقات» (١ / ١٠٤ ـ ١٠٥).

(٦٦) اقتصر المؤلف من جواب الامام مالك على هذا ، وتتمته : «والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة». يعني السؤال عن كيفية الاستواء. وقوله : «معلوم» هذا هو الثابت في جواب مالك رحمه‌الله ، وأما ما يلهج به بعض المبتدعة انه بلفظ : «مذكور فلا اصل له ، كما بينته في «مختصر العلو» (ص ١٤٢ ـ طبع المكتب الاسلامي).

(٦٧) هو في «الصحيحين» وغيرهما وسيأتي بتمامه. ص ٢٢٩.

الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق [عليه] أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلما بالامس لا يقال : أنه حدث له الكلام ، ولو كان غير متكلم ، لأنه لآفة كالصغر (٦٨). والخرس ، ثم تكلم يقال ـ : حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلما بالقوة ، بمعنى أنه يتكلم اذا شاء ، وفي حال تكلمه يسمى متكلما بالفعل ، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل ، ولا يخرج عن كونه كاتبا في حال عدم مباشرته الكتابة.

وحول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام المذموم ، لم يرد نفيه ولا اثباته في كتاب ولا سنة ، وفيه اجمال : فان أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن ـ فهذا نفي صحيح. وان أريد [به] نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ، ولا يتكلم بما شاء اذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والاتيان كما يليق بجلاله وعظمته ـ فهذا نفي باطل.

وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث ، فيسلم السني للمتكلم ذلك ، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله ، فاذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل ، وهو [غير] لازم له. وانما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل ، والا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه.

وكذلك مسألة الصفة : هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل ، وكذلك لفظ الغير ، فيه اجمال ، فقد يراد [به] ما ليس هواياه ، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.

ولهذا كان أئمة السنة رحمهم‌الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ، ولا أنه ليس غيره. لان اطلاق الاثبات قد يشعر أن ذلك مباين له ، واطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو ، اذا كان لفظ الغير فيه اجمال ، فلا يطلق الا مع البيان والتفصيل : فان أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها ـ فهذا غير صحيح ، وان أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي

__________________

(٦٨) في المطبوعة كالصغير.

يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة ـ فهذا حق ، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات ، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها ، وانما يفرض الذهن (٦٩) ذاتا وصفة ، كلا وحده ، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة ، فإن هذا محال. ولو لم يكن الا صفة الوجود ، فانها لا تنفك عن الموجود ، وان كان الذهن يفرض ذاتا ووجودا ، يتصور هذا وحده ، وهذا وحده ، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.

وقد يقول بعضهم : الصفة لا عين الموصوف ولا غيره. هذا له معنى صحيح ، وهو : أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها ، وليست غير الموصوف ، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد. فاذا قلت : أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.

واذا قلت : أعوذ بعزة الله ، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ، ولم أعذ بغير الله. وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات ، فان ذات في أصل معناها لا تستعمل الا مضافة ، أي : ذات وجود ، ذات قدرة ، ذات عز ، ذات علم ، ذات كرم ، الى غير ذلك من الصفات. فذات كذا بمعنى صاحبة كذا : تأنيث ذو. هذا أصل معنى الكلمة ، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه ، وان كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات ، كما يفرض المحال. و [قد] قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (٧٠). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ

__________________

(٦٩) في المطبوعة وانما يعرض للذهن ذات وهو خطأ.

(٧٠) صحيح ، أخرجه مسلم رقم (٢٢٠٢) ونصه بتمامه : عن عثمان ابن ابي العاص الثقفي أنه شكا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعا في جسده منذ أسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ورواه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٤٢ / ٩) وعنه أبو داود رقم (٣٨٩١) والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. بلفظ «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» دون لفظة «وأحاذر» وكذلك رواه احمد (٤ / ٢١٧ و ٦ / ٣٩٠) والحاكم (١ / ٣٤٣) وزاد «في كل مسحة وقال : «صحيح الاسناد» وهو كما قال.

بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (٧١). ولا يعوذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير الله. وكذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (٧٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» (٧٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» (٧٤).

وكذلك قولهم : الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك ، وجهلوا الصواب فيه : فالاسم يراد به المسمى تارة ، [و] يراد به اللفظ الدال عليه أخرى ، فاذا قلت ؛ قال الله كذا ، أو سمع الله لمن حمده ، ونحو ذلك ـ فهذا المراد به المسمّى نفسه ، واذا قلت : الله اسم عربي ، والرحمن اسم عربي ، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك ـ فالاسم هاهنا [هو المراد لا] المسمى ، ولا يقال غيره ، لما في لفظ الغير من الاجمال : فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق ، وان أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له ، حتى خلق لنفسه أسماء ، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم ـ : فهذا من أعظم الضلال والالحاد في أسماء الله تعالى.

والشيخ رحمه‌الله أشار بقوله : ما زال بصفاته قديما قبل خلقه الى آخر كلامه ـ الى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة. فإنهم قالوا : انه تعالى صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه ، لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا ، وانه انقلب من الامتناع الذاتي الى الامكان الذاتي! وعلي ابن كلاب والاشعري ومن وافقهما ، فإنهم قالوا : ان الفعل صار ممكنا له بعد أن

__________________

(٧١) صحيح. أخرجه مسلم (٢٧٠٨) ، وأبو داود (٣٨٩٨ و ٣٨٩٩) وغيره ، وسنده صحيح.

(٧٢) رواه مسلم وغيره ، وهو من أدعية السجود.

(٧٣) صحيح أخرجه أبو داود (٥٠٧٤) وأحمد (٢ / ٥٢) بسند صحيح ، وهو من أدعية الصباح والمساء.

(٧٤) ضعيف ، رواه ابن اسحاق بسند ضعيف معضل. وقد رواه بعضهم عنه بإسناده موصولا ، لكن فيه عنعنته ، وهو مخرج في «تخريج فقه السيرة» (ص ١٣٢) ، وفي «الضعيفة» (٢٩٣٣).

كان ممتنعا منه. وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة ، بل هو شيء واحد لازم لذاته.

وأصل هذا الكلام من الجهمية ، فانهم قالوا : ان دوام الحوادث ممتنع ، وانه يجب أن يكون للحوادث مبدأ ، لامتناع حوادث لا أول لها ، فيمتنع أن يكون الباري عزوجل لم يزل فاعلا متكلما بمشيئة ، بل يمتنع أن يكون قادرا على ذلك ، لان القدرة على الممتنع ممتنعة! وهذا فاسد ، فانه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث ، والحادث اذا حدث بعد أن لم يكن محدثا فلا بد أن يكون ممكنا ، والامكان ليس له وقت محدود ، وما من وقت يقدر الا والامكان ثابت فيه ، وليس لامكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه ، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا ، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه ، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.

قالت الجهمية ومن وافقهم : نحن لا نسلم أن امكان الحوادث لا بداية له ، لكن نقول ؛ امكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له ، وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع ، [بل] يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها ، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه ، فامكان الحوادث شروط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له ، بخلاف جنس الحوادث.

فيقال لهم : هب انكم تقولون ذلك ، لكن يقال : امكان جنس الحوادث عندكم له بداية ، فانه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا ، وليس لهذا الامكان وقت معين ، بل ما من وقت يفرض الا والامكان ثابت قبله ، فيلزم دوام الامكان ، والا لزم انقلاب الجنس من الامتناع الى الامكان من غير حدوث شيء. ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث ، أو جنس الفعل ، أو جنس الاحداث ، أو ما أشبه هذا من العبارات ـ من الامتناع الى الامكان ، وهو مصيّر ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد ، وهذا ممتنع في صريح العقل ، وهو أيضا انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي الى الامكان الذاتي ، فان ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة ، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين ، فانه ما من وقت يقدّر الا والامكان ثابت قبله ، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكنا ، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا! وهذا أبلغ في

الامتناع من قولنا : لم يزل الحادث ممكنا ، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه! فانه يعقل كون الحادث ممكنا ، ويعقل ان هذا الامكان لم يزل ، وأما كون الممتنع ممكنا فهو ممتنع في نفسه ، فكيف اذا قيل : لم يزل امكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه.

فالحاصل : أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟

فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم :

أضعفها : قول من يقول ؛ لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل ، كقول جهم بن صفوان وأبي الهديل العلاف.

وثانيها قول من يقول : يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي ، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.

والثالث : قول من يقول : يمكن دوامها في الماضي والمستقبل ، كما يقوله أئمة الحديث ، هي [من] المسائل الكبار. ولم يقل أحد يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.

ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون : ان كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم :

ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ـ ممتنع [محال] ، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء ، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء. فان الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال ، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء. قال تعالى : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) آل عمران : ٤٠. وقال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) البقرة : ٢٥٣. وقال تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ـ ١٦. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) لقمان : ٢٧. وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي

لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) الكهف : ١٠٩.

والمثبت انما هو الكمال (٧٥) الممكن الوجود ، وحينئذ فاذا كان النوع دائما فالممكن والاكمل هو التقدم (٧٦) على كل فرد من الافراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه.

وأما دوام الفعل فهو أيضا من الكمال ، فان الفعل اذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال.

قالوا : والتسلسل لفظ مجمل ، لم يرد بنفيه ولا اثباته كتاب ولا سنة ، ليجب مراعاة لفظه ، وهو ينقسم الى واجب وممتنع وممكن : فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته ، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا الى غاية.

والتسلسل الواجب : ما دل عليه العقل والشرع ، من دوام أفعال الرب تعالى في الابد ، وانه كلما انقضى لاهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له ، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الازل ، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر ، فهذا واجب في كلامه ، فانه لم يزل متكلما اذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته ، فان كل حي فعّال ، والفرق بين الحي والميت : الفعل ، ولهذا قال غير واحد من السلف : الحي الفعّال ، وقال عثمان بن سعيد : كل حي فعّال ، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الاوقات معطّلا عن كماله ، من الكلام والإرادة والفعل.

وأما التسلسل الممكن : فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف ، كما تتسلسل في طرف الابد ، فانه اذا لم يزل حيّا قادرا مريدا متكلما ، وذلك من لوازم ذاته ـ فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له ، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه ، فانه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له ، فلكل مخلوق أول ، والخالق سبحانه لا أول له ، فهو وحده الخالق ، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.

__________________

(٧٥) في المطبوعة : الكلام وهو خطأ.

(٧٦) في المطبوعة : هو القديم وهو خطأ.

قالوا : وكل قول سوى هذا فصريح العقل يردّه ويقضي ببطلانه ، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد أمرين ، لا بد له منهما : أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا ، واما أن يقول لم يزل واقعا ، والا تناقض تناقضا بينا ، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل ، والفعل محال ممتنع لذاته ، لو أراده لم يمكن وجوده ، بل فرض ارادته عنده محال وهو مقدور له. وهذا قول ينقض بعضه بعضا.

والمقصود : أن الذي دل عليه الشرع والعقل ، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تعالى لم يزل معطّلا عن الفعل ثم فعل ، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته ، بل كلاهما يدل على نقيضه.

وقد أورد أبو المعالي في «ارشاده» وغيره من النظار على التسلسل في الماضي ، فقالوا : انك لو قلت : لا أعطيك درهما الا أعطيك بعده درهما ، كان هذا ممكنا ، ولو قلت : لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما ، كان هذا ممتنعا.

وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة ، بل الموازنة الصحيحة أن تقول : ما أعطيتك درهما الا أعطيتك قبله درهما ، فتجعل ماضيا قبل ماض ، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل. وأما قول القائل : لا أعطيك حتى أعطيك قبله ، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله. فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ، وهذا ممتنع. أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض ، فان هذا ممكن.

والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل (٧٧). والمعطى (٧٨) الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له ، فان ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع.

قوله : (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم «الخالق» ولا بأحداثه البرية استفاد اسم «الباري»)

ش : ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي ، ويأتي في

__________________

(٧٧) في المطبوعة : ايتاؤه من المعطي.

(٧٨) في المطبوعة : والمستقبل.

كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل ، وهو قوله «والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان» ، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم. ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل ، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه ، وقال بفناء الجنة والنار ، لما يأتي من الادلة ان شاء الله تعالى.

وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها ، من القائلين بحوادث لا آخر لها ـ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما ، فانه سبحانه لم يزل حيّا ، والفعل من لوازم الحياة ، فلم يزل فاعلا لما يريد ، كما وصف بذلك نفسه ، حيث يقول : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ، ١٦.

والآية تدل على أمور :

أحدها : أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.

الثاني : أنه لم يزل كذلك ، لانه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ، [و] أن ذلك من كماله سبحانه ، ولا يجوز أن يكون عادما لهذا الكمال في وقت من الاوقات. وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) النحل :

١٧. ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثا بعد أن لم يكن.

الثالث : أنه اذا أراد شيئا فعله ، فان «ما» موصوله عامة ، أي : يفعل كل ما يريد أن يفعله ، وهذا في ارادته المتعلقة بفعله. وأما ارادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر : فان اراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا لم يوجد الفعل وان أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا. وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية ، وخبطوا في مسألة القدر ، لغفلتهم عنها ، وفرق بين ارادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلا ، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه ان شاء الله تعالى.

الرابع : أن فعله وارادته متلازمان ، فما أراد أن يفعل فعل ، وما فعله فقد اراده. بخلاف المخلوق ، فانه يريد ما لا يفعل ، [وقد يفعل] ما لا يريده. فما ثمّ فعّال لما يريد الا الله وحده.

الخامس : اثبات ارادات متعددة بحسب الافعال ، وأن كل فعل له إرادة

تخصه ، هذا هو المعقول في الفطر ، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد.

السادس : أن كل ما صح أن تتعلق به ارادته جاز فعله ، فاذا أراد أن ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء ، وأن يري عباده نفسه ، وأن يتجلى لهم كيف شاء ، ويخاطبهم ، ويضحك إليهم ، وغير ذلك مما يريد سبحانه ـ لم يمتنع عليه فعله ، فانه تعالى فعّال لما يريد. وانما يتوقف صحة ذلك على اخبار الصادق به ، فاذا أخبر وجب التصديق ، وكذلك محو ما يشاء ، واثبات ما يشاء ، كل يوم هو في شأن ، سبحانه وتعالى.

والقول بأن الحوادث لها أول ، يلزم منه التعطيل قبل ذلك ، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلا. ولا يلزم من ذلك قدم العالم ، لان كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود ، موجود بايجاد الله تعالى له ، ليس له من نفسه الا العدم ، والفقر والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى ، والله تعالى واجب الوجود لذاته ، غني لذاته ، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى.

والناس قولان في هذا العالم : هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) هود : ٧.

وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : «قال أهل اليمن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئناك لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن [أول] هذا الامر ، فقال : كان الله ولم يكن شيء قبله» (٧٩) وفي رواية : «ولم يكن شيء معه» ،

__________________

(٧٩) صحيح. ورواية «معه» لم أجدها عند البخاري ، وقد أخرج الحديث في موضعين من «صحيحه» : «بدء الخلق» و «التوحيد» بالروايتين الاخيرتين : «قبله» و «غيره» ، وبالأخرى منهما أخرجه البيهقي في «الاسماء والصفات» (٦ و ٢٧٠) ، ورواه أحمد (٤ / ٤٣١) بالرواية الاولى منهما ، لكن بلفظ «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء» ، وعزاه الذهبي في «مختصر العلو» (٩٨ / ٤٠) للبخاري وقال «حديث صحيح»! انظر المقدمة (ص ٢٧). وكلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث يشعر بأن هذه الرواية «معه» لم يقف عليها ، فقد قال (٦ / ٢٠٦) : «تنبيه» : وقع في بعض الكتب في هذا الحديث : «كان الله ولا شيء معه ، وهو ـ

وفي رواية «غيره» : «وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والارض» ، وفي لفظ : «ثم خلق السموات والارض». فقوله «كتب في الذكر» [، يعني اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) الأنبياء : ١٠٥ يسمى ما يكتب في الذكر ذكرا ،] كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا.

والناس في هذا الحديث على قولين : منهم من قال : ان المقصود اخباره بأن الله كان موجودا وحده ولم يزل كذلك دائما ، ثم ابتدأ احداث جميع الحوادث ، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم ، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان ، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الازل الى حين ابتداء الفعل كان الفعل ممكنا. والقول الثاني : المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش ، كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع ، وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» (٨٠). فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السموات بخمسين ألف سنة ، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء».

دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه : أحدها : أن قول أهل اليمن

__________________

ـ الآن على ما عليه كان» وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث ، نبه على ذلك العلامة تقي الدين ابن تيمية ، وهو مسلم في قوله : «وهو الآن الى آخره» ، وأما لفظ : «ولا شيء معه» : فرواية الباب بلفظ «ولا شيء غيره بمعناها». قلت : فلو كان عند الحافظ علم بهذه الرواية لذكرها ، واستغنى بذلك عن الاحتجاج عليها بمعنى الرواية التي ذكرها ، كما هو ظاهر. والله أعلم.

(٨٠) صحيح. وأخرجه أيضا احمد (٢ / ١٦٩) والترمذي ، وصححه دون قوله «وكان عرشه ...» وهو رواية لمسلم ، ورواه البيهقي في «الاسماء» (٢٦٩) ، وفي رواية له ، «فرغ الله عزوجل من المقادير وامور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وعرشه على الماء بخمسين الف سنة».

«جئناك لنسألك عن أول هذا الامر» ، وهو اشارة الى حاضر مشهود موجود ، والامر هنا بمعنى المأمور ، أي الذي كوّنه الله بأمره. وقد أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بدء. هذا العالم الموجود ، لا عن جنس المخلوقات ، لأنهم لم يسألوه عنه ، وقد أخبرهم عن خلق السموات والارض حال كون عرشه على الماء ، ولم يخبرهم عن خلق العرش ، وهو مخلوق قبل خلق السموات والارض. وأيضا فانه قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله» ، وقد روي «معه» ، وروي «غيره» ، والمجلس كان واحدا ، فعلم أنه قال أحد الالفاظ والآخران رؤيا بالمعنى ، ولفظ «القبل» ثبت عنه في غير هذا الحديث. ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقول في دعائه : «اللهم أنت الاول فليس قبلك شيء» (٨١) ، الحديث. واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر ، ولهذا كان كثير من أهل الحديث انما يرويه بلفظ القبل ، كالحميدي والبغوي وابن الاثير. واذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ، ولا لاول مخلوق. وأيضا : فانه يقال : «كان الله ولم يكن شيء قبله» أو «معه» أو «غيره» ، «وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء». فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو ، و «خلق السموات والارض» روي بالواو وبثم ، فظهر أن مقصوده اخباره اياهم ببدء خلق السموات والارض وما بينهما ، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام ، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك ، وذكر السموات والارض بما يدل على خلقهما ، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده ، ولم يتعرض لابتداء خلقه له. وأيضا : فانه اذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا ، فلا يجزم بأحدهما الا بدليل ، فاذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا ، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر ، فلا يجوز اثباته بما يظن أنه معنى الحديث ، ولم يرد «كان الله ولا شيء معه» مجردا ، وانما ورد على السياق المذكور ، فلا يظن أن معناه الاخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السموات والارض. وأيضا : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان الله ولا شيء قبله ، أو معه ، أو غيره ، وكان عرشه على

__________________

(٨١) صحيح ، وتقدم (برقم ٤٦)

.

الماء» ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا ، لان قوله «وكان عرشه على الماء». يرد ذلك ، فان هذه الجملة وهي «وكان عرشه على الماء» اما حالية ، أو معطوفة ، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت ، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود.

قوله : (له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق).

ش : يعني أن الله تعالى موصوف بأنه «الرب» قبل أن يوجد مربوب ، وموصوف بأنه «خالق» قبل أن يوجد مخلوق. قال بعض المشايخ الشارحين : وانما قال : «له معنى الربوبية ومعنى الخالق» دون الخالقية ، لان الخالق هو المخرج للشيء من العدم الى الوجود لا غير ، والرب يقتضي معاني كثيرة ، وهي : الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج ، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني ، وهي الربوبية. انتهى. وفيه نظر ، لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضا.

قوله : (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل احيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل انشائهم).

ش : يعني : أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل احيائهم ، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم ، الزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم ، كما حكينا عنهم فيما تقدم. وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء.

قوله : (ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج الى شيء ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير).

ش : ذلك اشارة الى ثبوت صفاته في الازل قبل خلقه. والكلام على كل وشمولها وشمول كل [في كل] مقام بحسب ما يحتف به من القرائن ، يأتي في مسألة الكلام ان شاء الله تعالى.

وقد حرّفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ٢٨٤ ، فقالوا : انه قادر على كل ما هو مقدور له ، وأما نفس أفعال العباد

فلا يقدر عليها عندهم ، وتنازعوا : هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال : هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها. فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.

وأما أهل السنة ، فعندهم أن الله على كل شيء قدير ، وكل ممكن فهو مندرج في هذا. وأما المحال لذاته ، مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة ، فهذا لا حقيقة له ، ولا يتصور وجوده ، ولا يسمى شيئا ، باتفاق العقلاء. ومن هذا الباب : خلق مثل نفسه ، واعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.

وهذا الاصل هو الايمان بربوبيته العامة التامة ، فانه لا يؤمن بأنه رب كل شيء الا من آمن أنه قادر على تلك الاشياء ، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها الا من آمن بأنه على كل شيء قدير. وانما تنازعوا في المعدوم الممكن : هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق : أن المعدوم ليس بشيء في الخارج ، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ويكتبه ، وقد يذكره ويخبر به ، كقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الحج : ١ ، فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب ، لا في الخارج ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس : ٨٢ ، قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩ ، أي : لم تكن شيئا في الخارج وان كان شيئا في علمه تعالى. وقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الدهر : ١.

وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، رد على المشبهة. وقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١ ، رد على المعطّلة ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال ، وليس له فيها شبيه. فالمخلوق وان كان يوصف بأنه سميع بصير ـ فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره ، ولا يلزم من اثبات الصفة تشبيه ، اذ صفات المخلوق كما يليق به ، وصفات الخالق كما يليق به.

ولا تنف (٨٢). «عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب

__________________

(٨٢) في المطبوعة : تنفي.

له وما يمتنع عليه ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم وأقدرهم على البيان. فانك ان نفيت شيئا من ذلك كنت كافرا بما أنزل [على] محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه ، فليس كمثله شيء ، فاذا شبهته بخلقه كنت كافرا به. قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله [بخلقه] فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها. وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه‌الله «ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه».

وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الاعلى ، فقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) النحل : ٦٠ ، وقال تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم : ٢٧. فجعل سبحانه مثل السّوء ـ المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال ـ لاعدائه المشركين وأوثانهم ، وأخبر أن المثل الاعلى ـ المتضمن لاثبات الكمال كله ـ لله وحده. فمن سلب صفة الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السّوء ، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الاعلى ، [و] ، هو الكمال المطلق ، المتضمن للامور الوجودية ، والمعاني الثبوتية ، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل ـ كان بها أكمل وأعلى من غيره.

ولما كانت صفات الرب [سبحانه] وتعالى أكثر وأكمل ، كان له المثل الاعلى ، وكان أحقّ به من كل ما سواه. بل يستحيل أن يشترك في المثل الاعلى المطلق اثنان ، لانهما أن تكافئا من كل وجه ، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وان لم يتكافئا ، فالموصوف به أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الاعلى مثل أو نظير.

واختلفت عبارات المفسرين في المثل الاعلى. ووفق بين أقوالهم من وفقه الله وهداه ، فقال : المثل الاعلى يتضمن : الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.

فهاهنا أمور أربعة :

الاول (٨٣) : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى ، سواء علمها العباد أو لا ، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة.

الثاني : وجودها في العلم والشعور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : انه ما في قلوب عابديه وذاكريه ، من معرفته وذكره ، ومحبته وجلاله ، وتعظيمه ، وخوفه ورجائه ، والتوكل عليه والانابة إليه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الاعلى لا يشركه فيه غيره أصلا ، بل يختص به في قلوبهم ، كما اختص به في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسرين : ان معناه : أهل السموات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه ، وأهل الارض كذلك ، وان أشرك [به من أشرك] ، وعصاه من عصاه ، وجحد صفاته من جحدها ، فأهل الارض معظّمون له ، مجلّون ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته وجبروته. قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) الروم : ٢٦.

الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.

الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيده ، والاخلاص له ، والتوكل عليه ، والانابة إليه. وكلما كان الايمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والاخلاص [أقوى].

فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الاربعة. فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الروم : ٢٧ وبين قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١؟ ويستدل بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١! حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم ، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، الى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة : ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ، حرّف كلام الله لينفي (٨٣١) وصفه تعالى بأنه السميع البصير كما قال الضال الآخر ، جهم بن صفوان : وددت أني أحكّ من المصحف قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، بمنه وكرمه.

__________________

(٨٣) هذه الزيادة غير موجودة في الاصل ولا المطبوعة ، ونظم الكلام يقتضيها.

(٨٣١) في المطبوعة : بنفي.

وفي اعراب «كمثله» ـ وجوه ؛ أحدها : [أن] الكاف صلة زيدت للتأكيد ، قال أوس بن حجر :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر : ما أن كمثلهم في الناس من بشر

وقال آخر : وقتلى كمثل جذوع النخيل

فيكون «مثله» خبر «ليس» واسمها «شيء». وهذا وجه قوي حسن ، تعرف العرب معناه في لغتها ، ولا يخفى عنها اذا خوطبت به ، وقد جاء عن العرب أيضا زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم :

وصاليات ككما يؤثفين (٨٤)

وقول الآخر : فأصبحت مثل كعصف مأكول

الوجه الثاني : أن الزائد مثل أي : ليس كهو شيء ، وهذا القول بعيد ، لان مثل اسم والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.

الثالث : أنه ليس ثم «زيادة أصلا ، بل هذا من باب قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، أي : أنت لا تفعله ، وأتى بمثل للمبالغة ، وقالوا في معنى المبالغة هنا : أي : ليس كمثله مثل لو فرض المثل ، فكيف ولا مثل له. وقيل غير ذلك ، والاول أظهر.

__________________

(٨٤) رجز لخطام المجاشعي ، كما في «اللسان» ثفا. والصاليات : الحجارة المحترقة. و «يؤثفين» : بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الثاء المثلثة والفاء وسكون الياء والنون. قال في «اللسان» : «جاء به على الاصل ضرورة. ولو لا ذلك لقال : يثفين. قال الازهري : اراد يثفين ، من أثفى يثفي ، فلما اضطره بناء الشعر رده الى الاصل ، فقال : يؤثفين. لانك اذا قلت : افعل يفعل ـ علمت انه كان في الاصل : يؤفعل ، فحذفت الهمزة لثقلها ، كما حذفوا ألف رأيت من : أرى ، وكان في الأصل : أرأى ، فكذلك من : يرى ، وترى ، ونرى. الاصل فيها : يرأى ، وترأى ، ونرأى. فاذا جاز طرح همزتها وهي اصلية ـ كانت همزة يؤفعل اولى بجواز الطرح ، لأنها ليست من بناء الكلمة في الاصل. وأثفى القدر : جعلها على الاثافي ، وهي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها.

قوله : (خلق الخلق بعلمه)

ش : خلق : أي : أوجد وأنشأ وأبدع. ويأتي خلق أيضا بمعنى : قدر. والخلق : مصدر ، وهو هنا بمعنى المخلوق. وقوله : «بعلمه» في محل نصب على الحال ، أي : خلقهم عالما بهم ، قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك : ١٤. وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) الانعام : ٥٩ ـ ٦٠. وفي ذلك رد على المعتزلة.

قال الامام عبد العزيز المكي صاحب الامام الشافعي رحمه‌الله وجليسه ، في كتاب «الحيدة» ، (٨٥) ، الذي حكى فيه مناظرته بشرا المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى : فقال بشر : أقول : لا يجهل ، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم ، تقريرا له ، وبشر يقول : لا يجهل ، ولا يعترف له أنه عالم بعلم ، فقال الامام عبد العزيز : نفي الجهل لا يكون صفة مدح ، فان هذه الاسطوانة لا تجهل ، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم ، لا بنفي الجهل. فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل ، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم ، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه ، وينفوا ما نفاه ، ويمسكوا عما أمسك عنه.

والدليل العقلي على علمه تعالى : أنه يستحيل ايجاده الاشياء مع الجهل ، ولأن ايجاده الاشياء بإرادته ، والإرادة تستلزم تصور المراد ، وتصور المراد : هو العلم بالمراد ، فكان الايجاد مستلزما للارادة ، والإرادة مستلزمة للعلم ، فالايجاد مستلزم للعلم. ولان المخلوقات فيها من الاحكام والاتقان ما يستلزم علم الفاعل لها ، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم (٨٦) ، ولأن من المخلوقات ما هو عالم ، والعلم صفة كمال ، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما. وهذا له طريقان :

أحدهما : أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق ، وأن

__________________

(٨٥) قلت : في ثبوت نسبة الكتاب للمكي نظر ، راجع (الحاشية : ١٤٢).

(٨٦) في الاصل : العالم.

الواجب أكمل من الممكن ، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين ، أحدهما عالم والآخر غير عالم ـ كان العالم أكمل ، فلو لم يكن الخالق عالما لزم أن يكون الممكن أكمل منه ، وهو ممتنع. الثاني : أن يقال : كل علم في الممكنات ، التي هي المخلوقات ـ فهو منه ، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريا منه بل هو أحق به. والله تعالى له المثل الاعلى ، ولا يستوي هو والمخلوقات ، لا في قياس تمثيلي ، ولا في قياس شمولي ، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق ، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى.

قوله : (وقدر لهم اقدارا).

ش : قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)

وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) القمر : ٤٩. وقال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً قْدُوراً) الاحزاب : ٣٨. وقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) الاعلى : ٢ ـ ٣. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» (٨٧).

قوله : (وضرب لهم آجالا)

ش : يعني : أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق ، بحيث اذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) النحل : ٦١. وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) آل عمران : ١٤٥. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : «قالت أم حبيبة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله عنها : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله ، وبأبي سفيان ، وبأخي معاوية ، قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد سألت الله لآجال مضروبة ، وأيام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، لن يفعل شيئا قبل أجله ، ولن يؤخر شيئا عن أجله ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار

__________________

(٨٧) صحيح بسند حديث (رقم ٨٠)

.

وعذاب في القبر ـ : كان خيرا وأفضل» (٨٨) فالمقتول ميت بأجله ، فعلم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم ، وهذا بسبب الحرق ، وهذا بالغرق ، الى غير ذلك من الاسباب. والله سبحانه خلق الموت والحياة ، وخلق سبب الموت والحياة. وعند المعتزلة : المقتول مقطوع عليه أجله ، ولو لم يقتل لعاش الى أجله فكأن له أجلان وهذا؟؟ ، لأنه لا يليق أن ينسب الى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة ، أو يجعل أجله أحد الامرين ، كفعل الجاهل بالعواقب ، ووجوب القصاص والضمان على القاتل ، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور. وعلى هذا يخرج قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلة الرحم تزيد في العمر» (٨٩) أي : سبب طول العمر. وقد قدّر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية ، ولو لا ذلك السبب لم يصل الى هذه الغاية ، ولكن قدر هذا السبب وقضاه ، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش الى كذا ، كما قلنا في القتل وعدمه.

فإن قيل : هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا؟

فالجواب : أن ذلك غير لازم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها : «قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة» الحديث ، كما تقدم. فعلم أن الاعمار مقدرة ، لم يشرع الدعاء بتغيرها ، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة. فان الدعاء مشروع له نافع فيه ، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الاخروي ـ شرع كما في الدعاء رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني اذا كانت

__________________

(٨٨) صحيح ، وهو عند مسلم في «القدر» واحمد في المسند (١ / ٣٩٠ ، ٤١٣ ، ٤٣٣ ، ٤٤٥ ، ٤٤٦ ،) وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (٢٦٢ ـ ٢٦٣).

(٨٩) صحيح ، وهو قطعة من حديث رواه أبو يعلى عن أنس بسند ضعيف ، لكن معناه صحيح ، يشهد له احاديث كثيرة منها حديث انس أيضا مرفوعا : «من أحب أن يبسط له في رزقه ويسأله في أثره ، فليصل رحمه». متفق عليه.

الوفاة خيرا لي» (٩٠) ، الى آخر الدعاء. ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه (٩١) من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرد القدر الا الدعاء ، ولا يزيد في العمر الا البر ، وان الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (٩٢). وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه نهى عن النذر ، وقال : «انه لا يأتي بخير ، وانما يستخرج به من البخيل» (٩٣).

واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الاشياء دون بعض ، وكذلك هو. ولهذا لا يجيب الله المعتدين في الدعاء. وكان الامام أحمد رحمه‌الله يكره أن يدعى له بطول العمر ، ويقول : هذا أمر قد فرغ منه.

وأما قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فاطر : ١١ ، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى : (مِنْ عُمُرِهِ) أنه بمنزلة قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي : ونصف درهم آخر ، فيكون المعنى : ولا ينقص من عمر معمر آخر ، وقيل : الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة ، وحمل قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩ ، [على أن المحو والاثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة ، وأن قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)]. اللوح المحفوظ. ويدل على هذا

__________________

(٩٠) صحيح ، وقد تقدم بتمامه (برقم ٣٨).

(٩١) اطلاق لفظة الصحيح على المستدرك فيه تسامح ظاهر ، لكثرة الاحاديث الضعيفة والمنكرة الواقعة فيه ، بل وبعض الموضوعات. ولذلك تجد الحذاق من المحدثين يقولون : رواه الحاكم في «المستدرك».

(٩٢) حسن ، دون قوله : «وان الرجل ليحرم ...» وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وفيه راو مجهول ، لكن له شاهد دون الزيادة المذكورة فالحديث حسن بدونها ، وقد تكلمت على الحديث في «الاحاديث الصحيحة» رقم (١٥٤) طبع المكتب الاسلامي.

(٩٣) أخرجاه من حديث ابن عمر ، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وانما يستخرج به من البخيل». وقد خرجته في «كتاب السنة» لابن ابي عاصم برقم (٣١٢ ـ ٣١٤) و «الإرواء» (٢٥٨٥).

الوجه سياق الآية ، وهو قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، ثم قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الرعد : ٣٩ ، أي : من ذلك الكتاب ، (وَعِنْدَهُ ، أُمُّ الْكِتابِ) ، أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ. وقيل : يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الاول ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه ، بل من عند الله ، ثم قال : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩ ، أي : أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ، ثم تنسخ بالشريعة الاخرى ، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الاجل ، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى ، والله أعلم بالصواب.

قوله : (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم ، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم).

ش : فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون [و] ما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الانعام : ٢٨. وان كان يعلم أنهم لا يردون ، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الانفال : ٢٣. وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية ، والذين قالوا : انه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده. وهي من فروع مسألة القدر ، وسيأتي لها زيادة بيان ، ان شاء الله تعالى.

قوله : (وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته).

ش : ذكر الشيخ الامر والنهي ، بعد ذكره الخلق والقدر ، اشارة الى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات : ٥٦ ، وقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك : ٢.

قوله : (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئته للعباد ، الا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن)

ش : قال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

الدهر : ٣ وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) التكوير : ٢٩. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) الانعام : ١١١. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الانعام : ١١٢. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يونس : ٩٩ وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥. وقال تعالى حكاية [عن] نوح عليه‌السلام اذ قال لقومه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) هود : ٣٤. وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩. الى غير ذلك من الادلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف [يكون] في ملكه ما لا يشاء! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الايمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

فإن قيل : يشكل على هذا قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، الانعام : ١٤٨ ، الآية. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) النحل : ٣٥ ، الآية. وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الزخرف : ٢٠. فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله ، وكذلك ذم ابليس حيث أضاف الاغواء الى الله تعالى ، اذ قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الحجر : ٣٩.

قيل : قد أجيب على هذا بأجوبة ، من أحسنها : أنه أنكر عليهم ذلك لانهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته ، وقالوا : لو [كره] ذلك وسخطه لما شاءه ، فجعلوا مشيئته دليل رضاه ، فرد الله عليهم ذلك. أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به. أو أنه أنكر عليهم معارضته شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره ، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للامر ، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد ، وانما ذكروها معارضين بها لأمره ، دافعين بها لشرعه ،

كفعل الزنادقة ، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر. وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر ، فقال : وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. يشهد لذلك قوله تعالى في الآية : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الانعام : ١٤٨. فعلم أن مرادهم التكذيب ، فهو من قبل الفعل ، من أين له أن الله لم يقدره؟ أطّلع الغيب؟

فان قيل : فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما‌السلام بالقدر ، اذ قال له : أتلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آدم حج موسى ، أي : غلب عليه بالحجة؟

قيل : تتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ، لصحته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تتلقاه بالرد والتكذيب لرواية ، كما فعلت القدرية ، ولا بالتأويلات الباردة. بل الصحيح أن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب ، وهو كان أعلم بربه وذنبه ، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر ، فإنه باطل. وموسى عليه‌السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه [من] أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه ، وانما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة ، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة ، لا على الخطيئة ، فان القدر يحتج به عند المصائب ، لا عند المعايب. وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث. فما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له ، فإنه من تمام الرضى بالله ربّا ، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب ، واذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب. فيتوب من المعايب ، ويصبر على المصائب. قال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) المؤمن : ٥٥. وقال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) آل عمران : ١٢٠.

وأما قول ابليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ، انما ذم على احتجاجه بالقدر ، لا على اعترافه بالمقدر واثباته له. ألم تسمع قول نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هود : ٣٤. ولقد أحسن القائل :

فما شئت كان [و] إن لم أشأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

وعن وهب بن منبه ، أنه قال : نظرت في القدر فتحيرت ، ثم نظرت فيه

فتحيرت ، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفّهم عنه ، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به.

قوله : (يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي ، فضلا. ويضل من يشاء ، ويخذل ويبتلي ، عدلا).

ش : هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الاصلح للعبد على الله ، وهي مسألة الهدى والضلال. قالت المعتزلة : الهدى من الله : بيان طريق الصواب ، والاضلال : تسمية العبد ضالا ، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد : أن أفعال العباد مخلوقة لهم. والدليل على ما قلناه قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) القصص : ٥٦. ولو كان الهدى بيان الطريق ـ لما صح هذا النفي عن نبيه ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض. وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) السجدة : ١٣. (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) المدثر : ٣١. ولو كان الهدى من الله البيان ، وهو عام في كل نفس ـ لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الصافات : ٥٧. وقوله ؛ (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩.

قوله : (وكلهم يتقلبون في مشيئته ، بين فضله وعدله).

ش : فانهم كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) التغابن : ٢. فمن هداه الى الايمان فبفضله ، وله الحمد ، ومن أضله فبعدله ، وله الحمد. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح ، ان شاء الله تعالى ، فان الشيخ رحمه‌الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد ، بل فرقه ، فأتيت به على ترتيبه.

قوله : (وهو متعال عن الاضداد والانداد).

ش : الضد : المخالف ، والنّد : المثل. فهو سبحانه لا معارض له ، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا مثل له ، كما قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الاخلاص : ٤. ويشير الشيخ رحمه‌الله ـ بنفي الضد والند ـ الى الرد على المعتزلة ، في زعمهم أن العبد يخلق فعله.

قوله : (لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا غالب لأمره).

ش : أي : لا يرد قضاء الله راد ، ولا يعقب ، أي لا يؤخر حكمه ، مؤخر ، ولا يغلب أمره غالب ، بل هو الله الواحد القهار.

قوله : (آمنا بذلك كله ، وأيقنا أن كلا من عنده)

ش : أما الايمان فسيأتي الكلام عليه ان شاء الله تعالى. والايقان : الاستقرار ، من قر الماء في الحوض اذا استقر. والتنوين في «كلا» بدل الاضافة (٩٤) ، أي : كل كائن محدث من عند الله ، أي : بقضائه وقدره [وارادته] ومشيئته وتكوينه. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه ، ان شاء الله تعالى.

قوله : (وإن محمدا عبده المصطفى ، ونبيه المجتبى ، ورسوله المرتضى).

ش : الاصطفاء والاجتباء والارتضاء : متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى. وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه ، وأن الخروج عنها أكمل ، فهو [من] أجهل الخلق وأضلهم ، قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء : ٢٦. الى غير ذلك من الآيات. وذكر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم العبد في أشرف المقامات ، فقال في ذكر الاسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) الاسراء : ١. وقال تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) الجن : ١٩. وقال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) النجم : ١٠. وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) البقرة : ٢٣. وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيح عليه‌السلام يوم القيامة ، اذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم‌السلام ـ : «اذهبوا الى محمد ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (٩٥). فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى.

__________________

(٩٤) في المطبوعة : اضافي.

(٩٥) متفق عليه وهو قطعة من حديث سيأتي بطوله في الكتاب (رقم ٢١٠)

.

وقوله : «وإن محمدا» بكسر الهمزة ، عطفا على قوله : «ان الله واحد لا شريك له». لأن الكل معمول القول ، أعني : قوله «نقول في توحيد الله».

والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر ، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، لكن كثير منهم لا يعرف نبوّة الأنبياء الا بالمعجزات ، وقرروا (٩٦) ذلك بطرق مضطربة ، والتزم كثير منهم انكار خرق العادات لغير الأنبياء ، حتى انكروا كرامات الاولياء والسحر ، ونحو ذلك.

ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح ، لكن الدليل غير محصور في المعجزات ، فان النبوة انما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يلتبس هذا بهذا الا على أجهل الجاهلين. بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما ، وتعرّف بهما والتمييز (٩٧) بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة ، فكيف بدعوة النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه :

لو لم يكن فيه آيات مبيّنة

كانت بديهته تأتيك بالخبر

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين الا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ـ ما ظهر لمن له أدنى تمييز. فان الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ، ولا بد أن يفعل أمورا [يبين بها صدقه]. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة. والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمرا : أحدهما صادق والآخر كاذب ـ لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة ، اذ الصدق مستلزم للبر ، والكذب مستلزم للفجور ، كما في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال : «عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي الى البر ، [وان] البر يهدي الى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق [ويتحرى الصدق] ، حتى يكتب عند الله صديقا ، واياكم والكذب فان الكذب يهدي الى الفجور ، وان الفجور يهدي الى النار ، وما يزال

__________________

(٩٦) في المطبوعة : وقد روي. وهو خطأ.

(٩٧) في الاصل : التميز.

الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا» (٩٨). ولهذا قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٦. فالكهان ونحوهم ، وان كانوا أحيانا يخبرون بشيء من المغيبات ، ويكون صدقا ـ فمعهم من الكذب والفجور ما يبين (٩٩) ان الذي يخبرون به ليس عن ملك ، وليسوا بأنبياء (١٠٠) ولهذا لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صيّاد : «قد خبأت لك خبأ ، فقال : [هو] الدّخّ» ـ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اخسأ ، فلن تعدو قدرك» (١٠١) يعني : إنما أنت كاهن. وقد قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتيني صادق وكاذب» (١٠٢). وقال : «أرى عرشا على الماء» (١٠٣) ، وذلك هو عرش الشيطان وبين ان الشعراء يتبعهم الغاوون ، والغاوي : الذي يتبع هواه وشهوته ، وان كان ذلك مضرا له في العاقبة.

__________________

(٩٨) قال الشيخ أحمد شاكر : الزيادتان ثابتتان في رواية مسلم ٢ : ٢٨٩ ، وكان في المطبوعة «ولا يزال» في الموضعين ، وأثبتنا ما في مسلم أيضا ، لأن الرواية التي نقلها المؤلف أقرب الالفاظ الى رواية مسلم ، من طريق وكيع وأبي معاوية ، كلاهما عن الاعمش. وكذلك رواه احمد : ٤١٠٨ ، عن وكيع وأبي معاوية ، بنحوه. وقد تساهل المؤلف في نسبة الحديث بهذا اللفظ للصحيحين. لان البخاري انما روى بعضه بنحو معناه مختصرا. من طريق آخر. ولعله تبع في ذلك المنذري في الترغيب والترهيب ٤ : ٢٦ ـ ٢٧ ، فقد تساهل أيضا ونسبه للبخاري. انظر فتح الباري ١٠ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

قال ناصر الدين : صحيح ، وهو في «الادب» من صحيح البخاري مختصرا ، كما ذكر الشيخ شاكر رحمه‌الله تعالى ، لكنه في «الادب المفرد» له رقم (٣٨٦) أتم منه.

(٩٩) في الاصل : بين.

(١٠٠) الجملة في الاصل : يخبرونه وليس عن ملك وامسوا بأنبياء.

(١٠١) صحيح ، وهو من حديث ابن عمر اخرجاه في الصحيحين.

(١٠٢) صحيح ، وهو قطعة من حديث ابن عمر ، الذي قبله.

(١٠٣) صحيح ، أخرجه مسلم (٨ / ١٩٠) من حديث ابي سعيد الخدري ، وفيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ترى عرش ابليس على البحر».

فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله (١٠٤) ـ علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن.

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الادلة ، حتى في المدعي للصناعات والمقالات ، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة ، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها ، وهي أشرف العلوم وأشرف الاعمال. فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟ ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة ـ : قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم ضروري ، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه [وبغضه] وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه ، بأمور تظهر على وجهه ، قد لا يمكن التعبير عنها ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) محمد : ٣٠ ثم قال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) محمد : ٣٠. وقد قيل : ما أسرّ أحد سريرة الا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فاذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن ، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله ، كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الادلة؟

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الصادق البار ، قال لها لما جاءه الوحي : «إني قد خشيت على نفسي» (١٠٥) ،

فقالت : كلا ـ والله لا يخزيك الله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب

__________________

(١٠٤) في الاصل : العلم والتصحيح من مطبوعة دار المعارف.

(١٠٥) صحيح ، وهو قطعة من حديث بدء الوحي الطويل في أول «صحيح البخاري» (رقم ٣ ـ مختصر البخاري طبع المكتب الاسلامي) ، وكان في الاصل وفي مطبوعة مكة «على عقلي»! وقد قال الشيخ أحمد شاكر في ذلك : «هو خطأ فاحش ، لعله من الناسخ. بل هو كلام غير معقول. وحاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول هذا. بل ان بعض العلماء فسر خشيته على نفسه ، في هذا الحديث ، بأنه خشي الجنون! واستنكره الحافظ في الفتح ١ : ٢٣ ، قال : «وأبطله أبو بكر ابن العربي ، وحق له أن يبطل. ا. ه ـ».

الحق» (١٠٦). فهو لم يخف من تعمد الكذب ، فهو يعلم من نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يكذب ، وإنما خاف أن يكون [قد] عرض له عارض سوء ، وهو المقام الثاني ، فذكرت خديجة ما ينفي هذا ، وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الاخلاق ومحاسن الشيم ، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الاخلاق المحمودة ونزهه عن الاخلاق المذمومة ـ : فانه لا يخزيه.

وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه : «إن هذا والذي جاء به موسى عليه‌السلام ليخرج من مشكاة واحدة» (١٠٧). وكذلك ورقة ابن نوفل ، لما أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رآه ، وكان ورقة [قد] تنصّر ، وكان بكتب الإنجيل بالعربية ، فقالت له خديجة : «أي : عم ، اسمع من ابن أخيك ما يقول ، فأخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رأى فقال : هذا [هو] الناموس الذي كان يأتي موسى» (١٠٨).

وكذلك هرقل ملك الروم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه الى الاسلام ، طلب من كان هناك من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة الى الشام ، وسألهم عن أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل أبا سفيان ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الاخبار ، سألهم : هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا : لا ، قال : هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا : لا ، وسألهم : أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا : لا ، ما جربنا عليه كذبا ، وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه؟ وسألهم : هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم : هل يرجع

__________________

(١٠٦) اخرجه البخاري من حديث عائشة ، وهو طرف من الحديث الذي قبله.

(١٠٧) حسن ، وهو طرف من حديث أم سلمة في هجرتها الى الحبشة الهجرة الأولى. أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (١ / ٣٥٧ ـ ٣٦٣ ابن هشام) وعنه أحمد (١ / ٢٠١ ـ ٢٠٣) ؛ وسنده حسن.

(١٠٨) أخرجه البخاري ، وهو من تمام حديث عائشة الذي قبله.

أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا : لا ، وسألهم : هل قاتلتموه؟ قالوا : نعم ، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟ فقالوا : يدال علينا مرة وندال عليه أخرى ، وسألهم : هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر ، وسألهم : بما ذا يأمركم؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. وهذه أكثر من عشر مسائل ، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الادلة ، فقال : سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم : لا ، قلت : لو كان في آبائه [من] ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتكم هل قال هذا القول [فيكم] أحد قبله؟ فقلتم : لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد [قبله] لقلت : رجل ائتم بقول قيل قبله ، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم : لا ، فقلت ؛ قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله تعالى ، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم : ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، يعني في أول أمرهم ، ثم قال : وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم ؛ بل يزيدون ، وكذلك الايمان حتى يتم ، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم : لا ، وكذلك الايمان ، اذا خالطت بشاشة القلوب لا يسخطه أحد (١٠٩).

وهذا من أعظم علامات الصدق والحق ، فان الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الامر ، فيرجع عنه أصحابه ، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه ، والكذب لا يروج الا قليلا ثم ينكشف.

وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم : انها دول ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها ، قال : وسألتكم هل يغدر؟ فقلتم : لا ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون ـ علم أن هذه علامات الرسل ، وأن سنة الله في الأنبياء

__________________

(١٠٩) البخاري من حديث ابي سفيان بطوله ، وله عنده تتمة.

والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء ، لينالوا درجة الشكر والصبر (١١٠).

كما في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خير له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وان أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له» (١١١).

والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران : ١٣٩ ، الآيات. وقال تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) العنكبوت : ١ ـ ٢ ، الآيات. الى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.

قال : وسألتكم عما يأمر به؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، وهذه صفة نبي ، وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث ، ولم أكن أظنه منكم ، ولوددت أني أخلص إليه ، ولو لا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه ، وإن يكن ما تقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب ، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو سفيان بن حرب : فقلت (١١٢) لأصحابي ونحن خروج ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليعظمه ملك بني الأصفر ، وما زلت موقنا بأن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيظهر ، حتى أدخل الله عليّ الاسلام وأنا كاره.

__________________

(١١٠) في الاصل : البصر.

(١١١) صحيح مسلم (٨ / ٢٢٧) وأحمد (٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٦ / ١٥ ، ١٦) بلفظ : «عجبا لأمر المؤمن ، ان أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد» ، الحديث والباقي مثله سواء ، وفي رواية لأحمد : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه اذ ضحك فقال : ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا : يا رسول الله ومم تضحك ، قال : عجبت لأمر المؤمن ...» الحديث وسنده صحيح على شرط مسلم وله شاهد مختصر ، خرجته في «الصحيحة» (١٤٧)

(١١٢) في الاصل : قلت.

ومما ينبغي أن يعرف : أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور ، قد لا يستقل بعضها به ، بل ما يحصل للانسان ـ من شبع وري (١١٣) وشكر وفرح وغم ـ فأمور مجتمعة ، لا يحصل ببعضها (١١٤) ، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر (١١٥).

وكذلك العلم بخبر من الاخبار ، فان خبر الواحد يحصّل للقلب نوع ظن ، ثم الآخر يقويه ، الى أن ينتهي الى العلم ، حتى يتزايد ويقوى. وكذلك الادلة على الصدق والكذب ونحو ذلك.

وأيضا : فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة ، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة ، كثبوت الطوفان ، وإغراق فرعون وجنوده ، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيّا بعد نبي ، في سورة الشعراء ، كقصة موسى وابراهيم ونوح ومن بعده ، يقول في آخر كل قصة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وبالجملة : فالعلم بأنه كان في الارض من يقول إنه رسول الله ، وأن أقواما اتبعوهم ، وأن أقواما خالفوهم ، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين ، وجعل العاقبة لهم ، وعاقب أعداءهم ـ : هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الامور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الامم من ملوك الفرس وعلماء الطب ، كبقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه.

ونحن اليوم اذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم ـ علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة : منها : أنهم أخبروا الامم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم ومنها : ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم ، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه ، ـ كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم ـ عرف صدق الرسل. ومنها : أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها ، تبين له أنهم أعلم الخلق ، وأنه

__________________

(١١٣) في المطبوعة : شفيع ووزير وهو خطأ ، وبهذا تصحح الجملة ويستقيم الكلام.

(١١٤) في الاصل : بعضها.

(١١٥) في الاصل : الامور

.

لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل ، وأن فيما جاءوا به من المصلحة والرحمة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ـ ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برّ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.

ولذكر دلائل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر ، وقد أفردها الناس بمصنفات ، كالبيهقي وغيره.

بل إنكار رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى ، ونسبة له الى الظلم والسفه ، تعالى الله عن ذلك (١١٦) علوّا كبيرا ، بل جحد للرب بالكلية وإنكار.

وبيان ذلك : أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق ، بل ملك ظالم ، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه ، ويستمر حتى يحلل (١١٧) ويحرم ، ويفرض الفرائض ، ويشرع الشرائع وينسخ الملل ، وبضرب الرقاب ، ويقتل أتباع الرسل [وهم] أهل الحق ، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم ، ويتم له ذلك حتى يفتح الارض ، وينسب ذلك كله الى أمر الله له به ومحبته له ، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق ، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة ، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ، ويعلي أمره ، ويمكّن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر ، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته ، ويهلك أعداءه ، ويرفع له ذكره ، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم ، فانه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدّلها وقتل أولياءه ، واستمرت نصرته عليهم دائما ، والله تعالى يقره على ذلك ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين فيلزمهم أن يقولوا : لا صانع للعالم ولا مدبر ، ولو كان له مدبر قدير حكيم ، لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة ، وجعله نكالا للصالحين. إذ لا يليق [بالملوك : غير ذلك ، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله [تعالى] قد رفع له ذكره ، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الاشهاد في سائر البلاد ، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود ، وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتم أمره ، ولم تطل مدته ، بل سلط الله

__________________

(١١٦) في الاصل : ذكر.

(١١٧) في الاصل : يتحلل.

عليه رسله وأتباعهم ، وقطعوا دابره واستأصلوه. هذه سنة الله التي قد خلت من قبل ، حتى إن الكفار يعلمون ذلك. قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) الطور : ٣٠ ـ ٣١. أفلا تراه يحبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوّل عليه بعض الاقاويل ، لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين (١١٨) عليه. وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الشورى : ٢٤. وهنا انتهى جواب الشرط ، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق : أنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) الانعام : ٩١. فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره.

وقد ذكروا فروقا بين النبي والرسول ، وأحسنها : أن من نبّأه الله بخبر السماء ، إن أمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي رسول ، وان لم يأمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي وليس برسول. فالرسول أخص من النبي ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها ، فالنبوة جزء من الرسالة ، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها ، بخلاف الرسل ، فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم ، بل الامر بالعكس. فالرسالة أعم من جهة نفسها ، وأخص من جهة أهلها.

وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه ، وخصوصا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال [تعالى] : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) آل عمران : ١٦٤. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الأنبياء : ١٠٧.

قوله : (وانه خاتم الأنبياء)

ش : قال تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) الاحزاب : ٤٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بناؤه ، وترك منه موضع لبنة ، فطاف

__________________

(١١٨) في الاصل : المقتولين.

به النظار يتعجبون من حسن بنائه ، إلا موضع تلك اللبنة ، لا يعيبون سواها ، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل» (١١٩) ، أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر ، الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي» (١٢٠) ، [وفي صحيح مسلم عن ثوبان ، قال : قال رسول الله : «وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون ، كلهم يزعم أنه نبي] ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي» (١٢١) ، الحديث. ولمسلم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ، وأرسلت [الى] الخلق كافة ، وختم بي النبيون» (١٢٢).

قوله : (وامام الاتقياء)

ش : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الإمام الذي يؤتم به ، أي : يقتدون به. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انما بعث للاقتداء به ، لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران : ٣١. وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الاتقياء.

قوله : (وسيد المرسلين)

ش : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ،

__________________

(١١٩) صحيح ، غير أن عزوه بهذا اللفظ للصحيحين ، وهم ، وانما هو عند ابن عساكر في «تاريخ دمشق» من حديث ابي هريرة كما في «الجامع الكبير» للسيوطي (٢ / ٢٠٣ / ١) ، وأخرجه الشيخان عنه وعن جابر نحوه. وكذا رواه أحمد (٢ / ٢٤٤ ، ٢٥٦ ، ٣١٢ و ٣٩٨ ، ٤١٢ ، ٣ / ٣٦١) ورواه أيضا (٣ / ٩) عن أبي سعيد الخدري.

(١٢٠) اخرجه الشيخان من حديث جبير بن مطعم.

(١٢١) وأخرجه ابو داود أيضا وأحمد وغيرهما.

(١٢٢) صحيح ، وهو من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي أيضا (١ / ٢٩٣) وقال : «حديث حسن صحيح» وأحمد (٢ / ٤١٢) وله عنده طرق بألفاظ أخرى ، وهو مخرج في «الارواء» (٢٨٥).

وأول شافع ، وأول مشفّع» (١٢٣). رواه مسلم. وفي أول حديث الشفاعة : «أنا سيد الناس يوم القيامة» (١٢٤). [و] روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، قال ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» (١٢٥).

فإن قيل : يشكل على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بساق العرش ، فلا أدري هل أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله؟» (١٢٦) خرجاه في الصحيحين ، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١٢٧).

__________________

(١٢٣) مسلم (٧ / ٥٩) وكذا أبو داود (٣ / ٤٦٧) وابن سعد في «الطبقات» (١ / ٢٠) وأحمد (٢ / ٥٤٠) : من حديث ابي هريرة. وله شواهد كثيرة ، خرجت بعضها في «ظلال الجنة» (٧٩٢ ـ ٧٩٦).

(١٢٤) مسلم (١ / ١٢٧) وكذا البخاري (٢ / ٣٣٤ ، ٣ / ٢٧٢) وأحمد (٢ / ٤٣٥) من حديث أبي هريرة أيضا ، والدارمي (١ / ٢٧ ـ ٢٨) وأحمد (٣ / ١٤٤) بسند صحيح عن انس ، وزاد : «ولا فخر» والترمذي عن أبي سعيد وسيأتي.

(١٢٥) وقال الترمذي (٢ / ٢٨١) : «حديث حسن صحيح» واللفظ لمسلم ولفظ الترمذي اتم ، لكن فيه من هو كثير الغلط ، كما بينته في «الصحيحة» (٣٠٢).

(١٢٦) البخاري في «الخصومات» (٢ / ٨٩) و «الأنبياء» (١٢ / ٣٥٩) و «الرقاق» (٤ / ٢٣٤) و «التوحيد» (٤ / ٤٧٤) ومسلم في «الفضائل» (٧ / ١٠١) وكذا أحمد (٢ / ٢٦٤) من حديث ابي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «لا تخيروني» ، وأما لفظ «لا تفضلوني» فانما هو عند الشيخين من طريق الاعرج عنه في سياق آخر يأتي بعد حديث. وفي حديث ابي سلمة : «فاذا موسى باطش بجانب العرش» ، وقال الاعرج «فاذا موسى آخذ بالعرش» ورواية أحمد من طريق الاعرج وأبي سلمة معا «فأجد موسى ممسكا بجانب العرش».

(١٢٧) صحيح ، اخرجه الترمذي (٢ / ٢٨٢) وابن ماجه (٤٣٠٨) واحمد (٣ / ٢) من حديث ابي سعيد الخدري ، وقال الترمذي : «حديث حسن صحيح» ورواه احمد (١ / ٢٨١ ، ٢٩٥) من هذا الوجه عن ابن عباس. وله شاهد من حديث ابي هريرة بلفظ «انا سيد ولد آدم يوم ـ

فالجواب : أن هذا كان له سبب ، فانه كان قد قال يهودي : لا والذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه مسلم ، وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، لأن التفضيل اذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموما ، بل نفس الجهاد اذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموما ، فان الله حرم الفخر ، وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الاسراء : ٥٥. وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) البقرة : ٢٥٣. فعلم أن المذموم انما هو التفضيل على وجه الفخر ، أو على وجه الانتقاص بالمفضول. وعلى هذا يحمل أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوا بين الأنبياء» (١٢٨) ، إن كان ثابتا ، فان هذا قد روي في نفس حديث موسى ، وهو في

__________________

ـ القيامة. أخرجه مسلم (٧ / ٥٩) وابو داود (٤٦٧٣) وابن سعد (١ / ٢٠) وهو في الصحيحين نحوه ، وتقدم قريبا ، وذكرنا له هناك شاهد آخر ؛ وله في «الصحيحة» (١٥٧١) شاهد ثالث عن سلمان.

(١٢٨) صحيح ، وهو رواية من حديث أبي هريرة المتقدم من طريق عبد الرحمن الاعرج عنه قال : «بينما يهودي يعرض سلعة له اعطي بها شيئا كرهه أو لم يرضه ، قال : لا والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر ، فسمعه رجل من الانصار ، فلطم وجهه ، قال : تقول : والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا؟! قال : فذهب اليهودي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أبا القاسم ان لي ذمة وعهدا ، وقال : فلان لطم وجهي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم لطمت وجهه؟ قال : قال يا رسول الله : والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر وأنت بين أظهرنا ، قال : فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ، ثم قال : لا تفضلوا بين أنبياء الله ، فانه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الارض ، الا من شاء الله ، قال : ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، أو في أول من بعث ، فاذا موسى عليه‌السلام آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور ، أو بعث قبلي ، ولا أقول : «ان احدا أفضل من يونس بن متى عليه‌السلام». اخرجه البخاري (٢ / ٣٦٠ ـ ٣٦١) ومسلم (٧ / ١٠٠ ـ ١٠١) وقد غمز الشارح من صحته ، ولا أعلم له علة ، ولم يتكلم عليه الحافظ في «الفتح» (٦ / ٣١٨) ، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا بلفظ : «لا تخيروا بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون ..» الحديث نحوه. أخرجه البخاري (٢ / ٨٩) ومسلم (٧ / ١٠٢) وأحمد (٣ / ٣٣) ، وروى أبو داود (٤٦٦٨) الجملة الاولى منه ، وهي راوية لأحمد (٣ / ٣١).

البخاري وغيره. لكن بعض الناس يقول : ان فيه علة ، بخلاف حديث موسى ، فانه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ، وهو : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تفضلوني على موسى» (١٢٩) ، وقوله : «لا تفضلوا بين الأنبياء» نهي عن التفضيل الخاص ، أي : لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه ، بخلاف قوله : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١٣٠) فانه تفضيل عام فلا يمنع منه. وهذا كما لو قيل : فلان أفضل أهل البلد ، لا ينصب على أفرادهم ، بخلاف ما لو قيل لاحدهم : فلان أفضل منك. ثم اني رأيت الطحاوي رحمه‌الله قد أجاب بهذا الجواب في «شرح معاني الآثار». وأما ما يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوني على يونس [بن متّى]» (١٣١) ، وأن بعض الشيوخ قال : لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالا جزيلا ، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج وعدوا هذا تفسيرا عظيما. وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظا ومعنى ، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها ، وإنما اللفظ الذي في الصحيح : «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى» (١٣٢). وفي رواية : «من قال اني خير من يونس بن متى فقد كذب». وهذا اللفظ يدل على العموم ، «لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى» ، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمدا على يونس ، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم ، أي : فاعل ما يلام عليه. وقال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء : ٨٧. فقد يقع في نفس بعض

__________________

(١٢٩) صحيح ، وتقدم قريبا (برقم ١٢٦).

(١٣٠) صحيح ، وتقدم قريبا (برقم ١٢٧).

(١٣١) لا أعرف له أصلا بهذا اللفظ ، وتقدم قريبا في حديث ابي هريرة : «ولا أقول : ان أحدا أفضل من يونس بن متى».

(١٣٢) مسلم وأحمد وغيرهما ولفظه عند مسلم (٢٣٧٦) ، «قال : يعني الله تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبد لي (وفي لفظ : لعبدي). والرواية الاخرى للبخاري في «التفسير».

الناس أنه أكمل من يونس ، فلا يحتاج الى هذا المقام ، اذ لا يفعل ما يلام عليه. ومن ظن هذا فقد كذب ، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم ، فأولهم : آدم ، قد قال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الاعراف : ٢٣. وآخرهم وأفضلهم وسيدهم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال في الحديث الصحيح ، حديث الاستفتاح ، من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، بعد قوله «وجهت وجهي» آخره : «اللهم أنت الملك لا إله الا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، لا يغفر الذنوب الا أنت» (١٣٣) ، الى آخر الحديث ، وكذا قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) القصص : ١٦. وأيضا : فيونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل فيه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) القلم : ٤٨ ، فنهى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التشبه به ، وأمره بالتشبه بأولي العزم حيث قيل له : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الاحقاف : ٣٥ ، فقد يقول من يقول : «أنا خير من يونس» ـ : للأفضل أن يفخر على من دونه ، فكيف إذا لم يكن أفضل ، فان الله لا يحب كل مختال فخور ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أوحي إليّ أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد» (١٣٤). [فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين] ، فكيف على نبي كريم؟ فلهذا قال : «لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى». فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس. وقوله : «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب» ، فانه لو قدر أنه كان أفضل ، فهذا الكلام يصير نقصا ، فيكون كاذبا ، وهذا لا يقوله نبي كريم ، بل هو تقدير مطلق ، أي : من قال هذا

__________________

(١٣٣) مسلم وأحمد وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه ، وهو قطعة من دعاء التوجه بعد الإحرام ، وهو مخرج في «صفة الصلاة» (ص ٨٥ ـ الطبعة السادسة).

(١٣٤) مسلم (٨ / ١٦٠) من حديث عياض بن حمار ، وله شاهد من حديث أنس ، وقد خرجتهما في «الصحيحة» (٥٧٠)

.

فهو كاذب ، وان كان لا يقوله نبي ، كما قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الزمر : ٦٥ ، وان كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما من الشرك ، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.

وانما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيد ولد آدم ، لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك الا بخبره ، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله ، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله ، صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ولهذا أتبعه بقوله «ولا فخر» ، كما جاء في رواية. وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر : إن مقام الذي أسري به الى ربه وهو مقرب معظم مكرم ـ كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟! فهذا في غاية التقريب ، وهذا في غاية التأديب. فانظر الى هذا الاستدلال ، لانه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول ، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الادلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه ، التي تزيد على ألف دليل ، كما يأتي الاشارة إليها عند قول الشيخ رحمه‌الله «محيط بكل شيء وفوقه» ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (وحبيب رب العالمين).

ش : ثبت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى مراتب المحبة ، وهي الخلة ، كما صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا» (١٣٥). وقال : «ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن» (١٣٦). والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال : الخلة لابراهيم والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه. وفي الصحيح أيضا : «إني أبرأ الى كل خليل من خلته (١٣٧). والمحبة قد ثبتت لغيره. قال تعالى : (وَاللهُ يُحِبُ

__________________

(١٣٥) مسلم وأبو عوانة من حديث جندب ، وهو طرف منه مخرج في «أحكام الجنائز» (٢١٧).

(١٣٦) مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ، بلفظ «خليل الله» ، وكذا رواه الترمذي (٢ / ٢٨٩) وصححه ، وابن أبي عاصم في «السنة» (١٢٢٦).

(١٣٧) هو من حديث ابن مسعود الذي قبله.

الْمُحْسِنِينَ) آل عمران : ١٣٤. (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) آل عمران : ٧٦. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة : ٢٢٢. فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد ، بل الخلة خاصة بهما ، والمحبة عامة. وحديث ابن عباس رضي الله عنهم الذي رواه الترمذي الذي فيه : «إن ابراهيم خليل الله ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» (١٣٨) ـ : لم يثبت.

والمحبة مراتب : أولها : العلاقة ، وهي تعلق القلب بالمحبوب. والثانية : الإرادة ، وهي ميل القلب الى محبوبه وطلبه له. الثالثة : الصبابة ، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه ، كانصباب الماء في الحدور. الرابعة : الغرام ، وهي الحب اللازم للقلب ، ومنه الغريم ، لملازمته ، ومنه : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان : ٦٥. الخامسة : المودة ، والود ، وهي صفو المحبة وخالصها ولبّها ، قال تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) مريم : ٩٦. السادسة : الشغف ، وهي وصول المحبة الى شغاف القلب. السابعة : العشق : وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه ، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه ، وان كان قد أطلقه بعضهم. واختلف في سبب المنع ، فقيل : عدم التوقيف ، وقيل غير ذلك. ولعل امتناع اطلاقه : أن العشق محبة مع شهوة. الثامنة : التّيم ، وهو بمعنى التعبد. التاسعة : التعبد. العاشرة : الخلة ، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك. وهذا الترتيب تقريب حسن ، [لا] يعرف حسنه [إلا] بالتأمل في معانيه.

واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته ، كسائر صفاته تعالى ، وانما يوصف الله تعالى من هذه الانواع بالارادة والود والمحبة والخلة ، حسبما ورد النص.

وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال ، نحو ثلاثين قولا. ولا تحد المحبة بحد أوضح منها ، فالحدود لا تزيدها الا خفاء. وهذه الاشياء الواضحة لا تحتاج الى تحديد ، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك.

__________________

(١٣٨) ضعيف ، لضعف زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام أيضا.

قوله : (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)

ش : لما ثبت أنه خاتم النبيين ، علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب. ولا يقال : فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول : هذا لا يتصور أن يوجد ، وهو من باب فرض المحال ، لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين ، فمن المحال أن يأتي مدّع يدعي النبوة ولا يظهر أمارة كذبه في دعواه. والغي : ضد الرشاد. والهوى : عبارة عن شهوة النفس.

أي : أن تلك الدعوى بسبب هوى النفس ، لا عن دليل ، فتكون باطلة.

قوله : (وهو المبعوث الى عامة الجن وكافة الورى ، بالحق والهدى ، وبالنور والضياء).

ش : أما كونه مبعوثا الى عامة الجن ، فقال تعالى حكاية عن قول الجن : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) الاحقاف : ٣١ ، الآية. وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضا. قال مقاتل : لم يبعث الله رسولا الى الانس والجن قبله. وهذا قول بعيد. فقد قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الانعام : ١٣٠ ، الآية ، والرسل من الانس فقط ، وليس من الجن رسول ، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) الاحقاف : ٣٠ ، الآية : تدل على أن موسى مرسل إليهم أيضا. والله أعلم.

وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا ، واحتج بهذه الآية الكريمة. وفي الاستدلال بها على ذلك نظر لانها محتملة وليست بصريحة ، وهي ـ والله أعلم ـ كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الرحمن : ٢٢ والمراد : من أحدهما.

وأما كونه مبعوثا الى كافة الورى ، فقد قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) سبأ : ٢٨. وقد قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الاعراف : ١٥٨. وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ

وَمَنْ بَلَغَ) الانعام : ١٩. أي : وأنذر من بلغه. وقال تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) النساء : ٧٩ وقال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يونس : ٢ ، الآية. وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان : ١. وقد قال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) آل عمران : ٢٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت الى الناس عامة» (١٣٩) ، أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يسمع بي رجل من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي الا دخل النار» (١٤٠) ، رواه مسلم. وكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا الى الناس كافة معلوم من دين الاسلام بالضرورة.

وأما قول بعض النصارى إنه رسول الى العرب خاصة ـ : فظاهر البطلان ، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به. وقد قال إنه رسول الله الى الناس عامة ، والرسول لا يكذب ، فلزم تصديقه حتما ، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الارض الى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الاطراف ، يدعو الى الاسلام.

وقوله : وكافة الورى في جر كافة نظر ، فإنهم قالوا : لم تستعمل «كافة» في كلام العرب الا حالا ، واختلفوا في اعرابها في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) سبأ : ٢٨ ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها حال من الكاف في

__________________

(١٣٩) صحيح ، وهو من حديث جابر ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (٢٨٥).

(١٤٠) صحيح ، وهو من حديث أبي هريرة ، وهو في مسلم (١ / ٩٣) ، ولكنه مغاير في بعض الاحرف لسياق الكتاب. وقد رواه ابن منده في «التوحيد» (ق ٤٤ / ١) ولفظه اقرب ، وقد خرجته في «الصحيحة» (١٥٧).

«أرسلناك» وهي اسم فاعل والتاء فيها للمبالغة ، أي : إلا كافّا للناس عن الباطل ، وقيل : هي مصدر كف ، فهي بمعنى كفّا أي : إلا [أن] تكفّ الناس كفّا ، [و] وقوع المصدر حالا كثير. الثاني : أنها حال من «الناس». واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور ، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيرا فوجب قبوله ، وهو اختيار ابن مالك رحمه‌الله ، أي : وما أرسلناك الا للناس كافة. الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل الا حالا.

وقوله : بالحق والهدى وبالنور والضياء. هذه أوصاف ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الادلة. والضياء : أكمل من النور ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) يونس : ٥.

قوله : و (وان القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) المدثر : ٢٥ ـ علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ، ولا يشبه قول البشر).

ش : هذه قاعدة شريفة ، وأصل كبير من أصول الدين ، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس. وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه‌الله هو الحق الذي دلت عليه الادلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما ، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.

وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :

أحدها : أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني ، إما من العقل الفعال عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.

وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه ، وهذا قول المعتزلة.

وثالثها : أنه معنى واحد قائم بذات الله ، هو الامر والنهي والخبر والاستخبار ،

وإن عبّر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبّر عنه بالعبرانية كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه ، كالاشعري وغيره.

ورابعها : أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.

وخامسها : أنه حروف وأصوات ، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، وهذا قول الكرّامية وغيرهم.

وسادسها : أن كلامه يرجع الى ما يحدثه من علمه وارادته القائم بذاته ، وهذا يقوله صاحب المعتبر ، ويميل إليه الرازي في «المطالب العالية».

وسابعها : أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.

وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الاصوات ، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.

وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع ، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.

وقول الشيخ رحمه‌الله وإن القرآن كلام الله إن بكسر الهمزة ـ عطف على قوله : ان الله واحد لا شريك له ثم قال : وإن محمدا عبده المصطفى. وكسر همزة إن في المواضع الثلاثة ، لانها معمول القول ، أعني قوله في أول كلامه : نقول في توحيد الله.

وقوله : كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا : ـ رد على المعتزلة وغيرهم. فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه ، كما تقدم حكاية قولهم ، قالوا : وإضافته إليه اضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله ، يحرفون الكلام عن مواضعه! وقولهم باطل ، فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان ، فإضافة الاعيان الى الله للتشريف ، وهي مخلوقة له ، كبيت الله ، وناقة الله ، بخلاف إضافة المعاني ، كعلم الله ، وقدرته ، وعزته ، وجلاله ، وكبريائه ، وكلامه ، وحياته ، وعلوه ، وقهره ـ فإن هذا كله من صفاته ، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا.

والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال ، وضده من أوصاف النقص. قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الاعراف : ١٤٨. فكان عبّاد العجل ـ مع كفرهم ـ أعرف بالله من المعتزلة ، فإنهم لم يقولوا لموسى : وربك لا يتكلم أيضا. وقال تعالى عن العجل أيضا : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) طه : ٨٩. فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.

وغاية شبهتهم أنهم يقولون : يلزم منه التشبيه والتجسيم؟ فيقال لهم : إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم. ألا ترى أنه تعالى قال : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) يس : ٦٥. فنحن نؤمن أنها تتكلم ، ولا نعلم كيف تتكلم. وكذا قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فصلت : ٢١. وكذلك تسبيح الحصا والطعام ، وسلام الحجر ، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من لديه المعتمد على مقاطع الحروف.

والى هذا أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : منه بدا بلا كيفية قولا ، أي : ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به. وأكّد هذا المعنى بقوله «قولا» ، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة ، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟!

ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء ـ أحد القراء السبعة ـ : أريد أن تقرأ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) ، بنصب اسم الله ، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا ، فكيف تصنع بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)؟! فبهت المعتزلي!

وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨ ، فعن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا أبصارهم ، فإذا الرب جلّ جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام

عليكم يا أهل الجنة ، وهو قول الله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨ ، فلا يلتفتون الى شيء مما هم فيه من النعيم ، ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، وتبقى بركته ونوره» (١٤١). رواه ابن ماجه وغيره. ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام ، وإثبات الرؤية ، واثبات العلوّ ، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحدا ، و [قد] قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) آل عمران : ٧٧ ، فأهانهم بترك تكليمهم ، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم ، [و] هو الصحيح ، إذ قد أخبر في الآية الاخرى أنه يقول لهم في النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) المؤمنون : ١٠٨ ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين ، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء ، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلا. وقال البخاري في «صحيحه» : باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة ، وساق فيه عدة أحاديث. فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى ، وتكليمه لهم. فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة. وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به.

وأما استدلالهم بقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، والقرآن شيء ، فيكون داخلا في عموم «كل» فيكون مخلوقا!! فمن أعجب العجب. وذلك : أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وانما يخلقها العباد

__________________

(١٤١) ضعيف ، أخرجه ابن ماجه (١٨٤) وكذا أبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) ، واسناده ضعيف كما قال الذهبي في «العلو» (٩٩) ، فيه أبو عاصم العباداني واسمه عبد الله بن عبيد الله. قال الذهبي : واه ، عن الفضل الرقاشي وهو منكر الحديث كما في «التقريب» ومنه يتبين أن قول الشيخ أحمد شاكر فيما يأتي : «اسناده جيد» غير جيد ، واورده ابن الجوزي في «الموضوعات» من رواية ابن عدي ، ثم قال : «موضوع ، الفضل رجل سوء» وتعقبه السيوطي في «اللآلي» (٢ / ٤٦٠ ـ ٤٦١) بأن ابن ماجه أخرجه! وهذا لا شيء ، وبأن ابن النجار اخرجه من حديث ابي هريرة نحوه ، وفيه سليمان بن ابي كريمة ، قال السيوطي : قال ابن عدي : عامة أحاديثه مناكير ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما. قلت : وضعفه ابو حاتم كما فى «الجرح والتعديل» (٢ / ١ / ١٣٨) قلت : وهذا وان كان ينفي أن يكون الرقاشي تفرد بالحديث فلا يرفع عنه الضعف. والله أعلم.

جميعها ، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم «كل» ، وأدخلوا كلام الله في عمومها ، مع أنه صفة من صفاته ، به تكون الاشياء المخلوقة ، إذ بأمره تكون المخلوقات ، قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الاعراف : ٥٣. ففرّق بين الخلق والامر ، فلو كان الامر مخلوقا للزم أن يكون مخلوقا بأمر آخر ، والآخر بآخر ، الى ما لا نهاية له ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل. وطرد باطلهم : أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وذلك صريح الكفر ، فإن علمه شيء ، وقدرته شيء ، وحياته شيء ، فيدخل ذلك في عموم كل ، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن ، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا.

وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات ، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود : (أَنْطَقَنَا اللهُ) فصلت : ٢١ ، ولم تقل : نطق الله ، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره ، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا!! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية ، فقال ابن عربي :

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه!!

ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره ، لصح أن يقال للبصير : أعمى ، وللاعمى : بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره ، والاعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره ، من الالوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.

وبمثل ذلك ألزم الامام عبد العزيز المكي بشرا المريسي بين يدي المأمون (١٤٢) ، بعد أن تكلم معه ملتزما أن لا يخرج عن نص التنزيل ، وألزمه الحجة ، فقال بشر :

__________________

(١٤٢) عبد العزيز المكي : هو عبد العزيز بن يحيى الكناني ، احد الفقهاء من اصحاب الشافعي. قدم بغداد ايام المأمون ، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في خلق القرآن ، بحضرة الخليفة المأمون. وصنف كتاب «الحيدة» أثبت فيه نص مناظرته لبشر لكن في ثبوت هذه المناظرة نظر فانه تفرد بروايتها محمد بن الحسن بن ازهر الدعاء ، وقد اتهمه الخطيب بأنه يضع الحديث وذكر الذهبي انه هو الذي وضعها ، فراجع «الميزان» (٣ / ٤٤) و «طبقات السبكي» (١ / ٢٦٥)

يا أمير المؤمنين ، ليدع مطالبتي بنص التنزيل ، ويناظرني بغيره ، فان لم يدع قوله ويرجع عنه ، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك؟ فقال بشر : [اسأل] أنت ، وطمع فيّ فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها : إما أن تقول : ان الله خلق القرآن ، وهو عندي أنا كلامه ـ في نفسه ، أو خلقه قائما بذاته ونفسه ، أو خلقه في غيره؟ قال : أقول : خلقه كما خلق الاشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ، ودع بشرا فقد انقطع. فقال عبد العزيز : ان قال خلق كلامه في نفسه ، فهذا محال ، لأن الله لا يكون محلا للحوادث المخلوقة ، ولا يكون فيه شيء مخلوق وان قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، فهو محال أيضا ، لانه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره ـ هو كلام الله! وان قال خلقه قائما بنفسه وذاته ، فهذا محال : لا يكون الكلام الا من متكلم ، كما لا تكون الإرادة الا من مريد ، ولا العلم الا من عالم ، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الامام عبد العزيز في «الحيدة».

وعموم كل في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى الى قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الاحقاف : ٢٥ ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لان المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) النمل : ٢٣ ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. اذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة الى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة.

والمراد من قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، أي كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الاشارة الى هذا المعنى عند قوله : ما زال قديما بصفاته قبل

خلقه. بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم. فاذا كان قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقا ، لا يصح أن يكون دليلا.

وأما استدلالهم بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الزخرف : ٣ ، فما أفسده من استدلال! فإن «جعل» إذا كان بمعنى خلق يتعدى الى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الانعام : ١ ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء : ٣٠. (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الأنبياء : ٣١. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) الأنبياء : ٣٢. واذا تعدى الى مفعولين لم يكن بمعنى خلق ، قال تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) النحل : ٩١. وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) البقرة : ٢٢٤. وقال تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الحجر : ٩١ وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الاسراء : ٢٩ وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الاسراء : ٣٩. وقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الزخرف : ١٩. ونظائره كثيرة. فكذا قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الزخرف :٣

وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) القصص : ٣٠ ـ على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها! وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها ، فإن الله تعالى قال : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) القصص : ٣٠ ، والنداء هو الكلام من بعد ، فسمع موسى عليه‌السلام النداء من حافة الوادي ، ثم قال : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) القصص : ٣٠ أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما يقول سمعت كلام زيد من البيت ، يكون من البيت لابتداء الغاية ، لا أن البيت هو المتكلم! ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة ، لكانت الشجرة هي القائلة : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) القصص : ٣٠. وهل قال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) القصص : ٣٠ ، غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) النازعات : ٢٤ ـ

صدقا ، إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله! وقد فرقوا بين الكلامين على أصولهم الفاسدة : أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون!! فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله. وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد ، إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : فقد قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الحاقة : ٤٠. والتكوير : ١٩. وهذا يدل على أن الرسول أحدثه ، إما جبرائيل أو محمد.

قيل : ذكر الرسول معرّف أنه مبلّغ عن مرسله ، لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي ، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأ من جهة نفسه. وأيضا : فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل ، وفي الاخرى محمد ، فإضافته الى كل منهما تبين أن الاضافة للتبليغ ، اذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر. وأيضا : فقوله رسول أمين (١٤٣) ، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به ، يبلغه عن مرسله. وأيضا : فإن الله قد كفّر من جعله قول البشر ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر ، فمن جعله قول محمد ، بمعنى أنه أنشأه ـ فقد كفر. ولا فرق بين أن يقول : إنه قول بشر ، أو جني ، أو ملك ، والكلام كلام من قاله مبتدئا ، لا من قاله مبلغا. ومن سمع قائلا يقول :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ـ قال : هذا شعر امرئ القيس ، ومن سمعه يقول : «إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى» (١٤٤) ـ : قال : هذا كلام الرسول ، وان سمعه

__________________

(١٤٣) قال الشيخ أحمد شاكر : الآية التي ذكرها الشارح (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) جاءت مرتين في سورة الحاقة : ٤٠ وليس فيما بعدها الوصف بلفظ (أمين). والاخرى في سورة التكوير : ١٩ ، ثم بعدها : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ـ ٢٠ ، ٢١. فتعبير الشارح بقوله : وأيضا فقوله : رسول أمين فيه شيء من التساهل ، لم يرد به حكاية التلاوة ، وانما اراد المعنى فقط. ولو قال : وأيضا فوصف الرسول بأنه (أمين ...» كان أدق وأجود.

(١٤٤) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو اوّل حديث في «صحيح البخاري».

يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ : قال : هذا كلام الله ، ان كان عنده خبر ذلك ، والا قال : لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذب. ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا ، يقول له : هذا كلام من؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟

وبالجملة ، فأهل السنة كلهم ، من أهل المذاهب الاربعة وغيرهم من السلف والخلف ، متفقون على أن كلام الله غير مخلوق. ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما اذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم ، وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق ، ومرادهم أنه غير مختلق (١٤٤١) مفترى مكذوب ، بل هو حق وصدق ، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين.

والنزاع بين أهل القبلة انما هو في كونه مخلوقا خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته؟ وأهل السنة انما سئلوا عن هذا ، والا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه. ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع ـ معترفون (١٤٥) بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم باحسان ، وانما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه ، وانما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.

ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة ، لم يكن بينهم نزاع ، ولكن ألقى الشيطان الى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه ، فرّق بها بينهم. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦. والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمة الله : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وأن نوع كلامه قديم. وكذلك ظاهر كلام الامام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الاكبر ، فإنه قال : والقرآن في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الالسن مقروء ، وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزّل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في

__________________

(١٤٤١) في الاصل مختلف.

(١٤٥) في الاصل : مفترون.

القرآن عن موسى عليه‌السلام وغيره ، وعن فرعون وابليس ـ فان ذلك كلام الله إخبارا عنهم ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى. فقوله : ولما كلّم (١٤٦) موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ـ يعلم منه أنه حين جاء كلمه ، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول يا موسى ، كما يفهم ذلك من قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) الاعراف : ١٤٣ ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء ، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله : الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلما.

وبالجملة : فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم اذا شاء ، وأنه يتكلم شيئا بعد شيء ، فهو حق يجب قبوله. وما يقوله من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له. والصفة لا تقوم الا بالموصوف ـ : فهو حق يجب قبوله والقول به. فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما.

فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا : هذا القول مجمل ، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك ، ونصوص الأئمة أيضا ، مع صريح العقل.

ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه : أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، وأنه هو الذي تكلم به وقاله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك : «ولشأني في نفسي كان أحقر

__________________

(١٤٦) في المطبوعة «ولما كان» ، وهو خطأ

.

من أن يتكلم الله في بوحي يتلى» (١٤٧). ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه ، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذرا من التشبيه ، فلا يثبتوا صفة غيره ، فإنهم اذا قالوا : يعلم لا كعلمنا ، قلنا : ويتكلم لا كتكلمنا ، وكذلك سائر الصفات. وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة ، أو حي لا تقوم به الحياة؟ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر» (١٤٨) ، فهل يقول عاقل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاذ بمخلوق؟ بل هذا كقوله : «أعوذ برضاك من سخطك. وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك» (١٤٩) ، وكقوله : «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (١٥٠). وكقوله : «وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» (١٥١). كل هذه من صفات الله تعالى.

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها ، وإنما أشير إليها هنا اشارة.

وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد ، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات ، لا في المدلول. وهذه العبارات مخلوقة ، وسميت «كلام الله» لدلالتها عليه وتأديه بها ، فإن عبّر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبّر بالعبرانية فهو توراة ، فاختلفت العبارات لا الكلام. قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا!

وهذا الكلام فاسد ، فإن لازمه أن معنى قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) الاسراء : ٣٢ ، هو معنى قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) البقرة : ٤٣. ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدّين! ومعنى سورة الاخلاص هو معنى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) المسد : ١. وكلما تأمل الانسان هذا القول تبين له فساده ، وعلم أنه مخالف لكلام السلف.

__________________

(١٤٧) البخاري ومسلم في حديث طويل لها في قصة الإفك.

(١٤٨) صحيح ، رواه أحمد (٣ / ٤١٩) وابن السني (٦٣١) عن عبد الرحمن بن حنبش مرفوعا بسند صحيح.

(١٤٩) مسلم وقد مضى (برقم ٧٢).

(١٥٠) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٠).

(١٥١) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٣).

والحق : أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة ، وكلام الله تعالى لا يتناهى ، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء اذا شاء كيف شاء ، ولا يزال كذلك. قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) الكهف : ١٠٩. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لقمان : ٢٧. ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله ، وليس هو كلام الله ، لما حرم على الجنب والمحدث مسه ، ولو كان ما يقرأه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته. بل كلام الله محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسن ، مكتوب في المصاحف ، كما قال أبو حنيفة في «الفقه الأكبر». وهو في هذه المواضع كلها حقيقة ، وإذا قيل : فيه خط فلان وكتابته ـ : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، واذا قيل : فيه مداد قد كتب به ـ : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : المداد في المصحف ـ : كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل : فيه السموات والارض ، وفيه محمد وعيسى ، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل : فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب. وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ ، والمقروء الذي هو قول الباري ، من لم يهتد له فهو ضال أيضا ، ولو أن انسانا وجد في ورقة مكتوبا «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» من خط كاتب معروف. لقال : هذا من كلام لبيد حقيقة ، وهذا خط فلان حقيقة ، وهذا كل شيء حقيقة ، وهذا خبر حقيقة ، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.

والقرآن في الاصل : مصدر ، فتارة يذكر ويراد به القراءة ، قال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الاسراء : ٧٨. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زينوا القرآن بأصواتكم» (١٥١١). وتارة يذكر ويراد به المقروء ، قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) النحل : ٩٨. وقال تعالى : (وَإِذا

__________________

(١٥١١) صحيح ، رواه أبو داود وغيره من أصحاب السنن والحاكم وأحمد بسند صحيح عن البراء بن عازب ، «صحيح ابي داود» (١٣٢٠).

قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الاعراف : ٢٠٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» (١٥٢). الى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي ، ولكن الأعيان تعلم ، ثم تذكر ، ثم تكتب. فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة. وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة ، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان.

والفرق بين كونه في زبر الاولين ، وبين كونه في رق منشور ، أو لوح محفوظ ، أو في كتاب مكنون ـ : واضح. فقوله عن القرآن : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) الشعراء : ١٩٦ ، أي ذكره ووصفه والاخبار عنه ، كما أن محمدا مكتوب عندهم. إذ القرآن أنزله الله على محمد ، لم ينزله على غيره أصلا ، ولهذا قال في الزبر ، ولم يقل في الصحف ، ولا في الرق ، لأن «الزبر» جمع «زبور» و «الزّبر» هو : الكتابة والجمع ، فقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) الشعراء : ١٩٦ أي : مزبور الاولين ، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس. وهذا مثل قوله : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) الاعراف : ١٥٦ ، أي : ذكره ، بخلاف قوله : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الطور : ٣ و (لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج : ٢٢ و (كِتابٍ مَكْنُونٍ) الواقعة : ٧٨ ، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الافعال العامة ، مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك ، أو يقدر : مكتوب في كتاب ، أو في رق. والكتاب : تارة يذكر ويراد به محل الكتابة ، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب. ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب ، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه ـ فإن تلك إنما يكتب ذكرها. وكلما تدبر الانسان هذا المعنى وضح له الفرق.

وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية : هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه ، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه. فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ ، فاذا قاله السامع

__________________

(١٥٢) متفق عليه من حديث عمر ، وتمامه : «فاقرءوا ما تيسر منه».

فهو مقروء له متلوّ ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه. والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارئ كلام الله ، وقد قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦. وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦ ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. والاصل الحقيقة. ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله ـ : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة ، وكفى بذلك ضلالا.

وكلام الطحاوي رحمه‌الله يرد قول من قال : إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمه‌الله يقول : كلام الله منه بدا. وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا ، وإليه يعود. وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف : «منه بدا» أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر : ١. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) السجدة : ١٣. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢. ومعنى قولهم : وإليه يعود ـ : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عدة آثار.

وقوله بلا كيفية : أي : لا تعرف كيفية تكلمه به قولا ليس بالمجاز ، وأنزله على رسوله وحيا ، أي : أنزله إليه على لسان الملك ، فسمعه الملك جبرائيل من الله ، وسمعه الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الملك ، وقرأ على الناس. قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الاسراء : ١٠٦. وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥. وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى.

وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر ، أو انزاله الحديد ، وانزال ثمانية أزواج من الأنعام.

والجواب : أن انزال القرآن فيه مذكور أنه انزال من الله. قال تعالى : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) غافر : ٢. وقال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر : ١. وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصلت : ٢. وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) حم السجدة : ٤٢. وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان : ٣ ـ ٥. وقال تعالى : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) القصص : ٤٩. وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) الانعام : ١١٤. وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢. وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء. قال تعالى : (أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) لفرقان : ٤٨. والسماء : العلو. وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن ، والمزن : السحاب. وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات. وإنزال الحديد والانعام مطلق ، فكيف يشبّه هذا الإنزال بهذا الانزال؟! فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال ، وهي عالية على الارض ، وقد قيل انه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود. والانعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال : أنزل ولم يقل نزّل ثم الأجنة تنزل من بطون الامهات الى وجه الارض. ومن المعلوم أن الانعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء ، وينزل ماء الفحل من علو الى رحم الانثى ، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل. وعلى هذا فيحتمل قوله ؛ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) الزمر : ٦ ـ : وجهين : أحدهما ؛ أن تكون «من» لبيان الجنس. الثاني : أن تكون «من» لابتداء الغاية. وهذان الوجهان يحتملان في قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) الشورى : ١١.

وقوله : وصدقه المؤمنون على ذلك حقّا الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على

الوجه المذكور وإنزاله ، أي هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهم السلف الصالح ، وأن هذا حق وصدق.

وقوله : وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. رد على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر. وفي قوله : بالحقيقة رد على من قال : إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه وانما هو الكلام النفساني ، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به ـ : أن هذا كلام حقيقة ، وإلا للزم أن يكون الاخرس متكلما ، ولزم أن لا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله ، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله ، كما لو أشار أخرس الى شخص بإشارة فهم بها مقصوده ، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الاخرس ، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى. وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه ، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد «أخرس» ، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائما بنفسه ، لم يسمع منه حرفا ولا صوتا ، بل فهم معنى مجردا ، ثم عبر عنه ، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي ، وأنّا الله خلق في بعض الاجسام كالهوى الذي هو دون الملك هذه العبارة.

ويقال لمن قال إنه معنى واحد ـ : هل سمع موسى عليه‌السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال : سمعه كله ، فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله! وفساد هذا ظاهر. وإن قال : بعضه ، فقد قال يتبعض. وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئا من كلامه.

ولما قال تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة : ٣٠. ولما قال لهم : (اسْجُدُوا لِآدَمَ). وأمثال ذلك ـ : هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال : إنه جميعه ، فهذا مكابرة ، وإن قال : بعضه ، فقد اعترف بتعدده.

وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق ـ : أربعة أقوال : أحدها : أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا ، كما يتناول لفظ الانسان الروح والبدن معا ، وهذا قول السلف. الثاني : اسم اللفظ فقط ، والمعنى ليس جزء مسماه ، بل هو مدلول مسماه ، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم. الثالث : أنه اسم «للمعنى» فقط ، وإطلاقه على اللفظ مجاز ، لأنه دال عليه ، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.

الرابع : أنه مشترك بين اللفظ والمعنى ، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية ، ولهم قول خامس ، يروى عن أبي الحسن ، أنه مجاز في كلام الله ، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم ، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم ، بخلاف كلام الله ، فإنه لا يقوم عنده بالله ، فيمتنع أن يكون كلامه. وهذا مبسوط في موضعه. وأما من قال إنه معنى واحد ، واستدل عليه بقول الاخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

: فاستدلال فاسد. ولو استدل مستدل بحديث في «الصحيحين» لقالوا هذا خبر واحد! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع (١٥٣) منسوب الى الأخطل ، وليس هو في ديوانه؟! وقيل إنما قال : «إن البيان لفي الفؤاد» وهذا أقرب الى الصحة ، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه‌السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت! أي : شيء من الإله بشيء من الناس! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟! وأيضا : فمعناه غير صحيح ، إذ لازمه أن الاخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه ، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه ، وإنما أشير إليه إشارة.

وهنا معنى عجيب ، وهو : أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت! فإنهم يقولون : كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه ، وأما النظم المسموع فمخلوق ، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه‌السلام ، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه!

ويرد قول من قال : بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ـ : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن

__________________

(١٥٣) في الاصل : مصنوع. وانظر «مختصر العلو للذهبي» ص ٢٨٥ طبع المكتب الإسلامي

.

صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (١٥٤). وقال : «إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإنما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة» (١٥٥). واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب ، من تصديق بأمور دنيوية وطلب ـ لا يبطل الصلاة ، وإنما يبطلها التكلم بذلك. فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.

وأيضا : ففي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به» (١٥٦). فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام ، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به ، والمراد : حتى ينطق به اللسان ، باتفاق العلماء. فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة ، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب.

وأيضا ففي «السنن» : أن معاذا رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : «وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (١٥٧). فبين أن الكلام إنما هو باللسان. فلفظ «القول» و «الكلام» وما تصرف منهما ، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ـ : إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى. ولم يكن في مسمى «الكلام» نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ، ثم انتشر.

ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ـ ليس هو مما يحتاج فيه الى قول

__________________

(١٥٤) مسلم وغيره من حديث معاوية بن الحكم ، «صحيح ابي داود» (٨٦٢) و «الارواء» (٣٩٠).

(١٥٥) النسائي وغيره بسند حسن ، وعلقه البخاري مجزوما «صحيح ابي داود» (٨٥٧).

(١٥٦) : متفق عليه ، من حديث ابي هريرة «ارواء الغليل» (٢٠٦٢).

(١٥٧) رواه الترمذي وغيره بسند فيه انقطاع ، وقد بين ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح الاربعين» بيانا شافيا ، فليراجعه من شاء.

شاعر ، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة ، وعرفوا معناه ، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك.

ولا شك أن من قال : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وأن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ـ : فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر ، فإن الله يقول : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) الاسراء : ٨٨. أفتراه سبحانه وتعالى يشير الى ما في نفسه أو الى المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع ، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع.

وقوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ـ أفتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ، وما في نفس الله عزوجل لا حيلة إلى الوصول إليه ، ولا الى الوقوف عليه.

فإن قالوا : انما أشار الى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع ، فأما أن يشير الى ذاته فلا ـ فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق ، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة ، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه. وهذا تصريح بأن صفات الله محكية ، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله ، فأين عجزهم؟! ويكون التالي ـ في زعمهم ـ قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف. وليس القرآن إلا سورا مسوّرة ، وآيات مسطّرة ، في صحف مطهرة. قال تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) هود : ١٣. (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) العنكبوت : ٤٩. (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) عبس : ١٣ ـ ١٤. ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إني لا أقول (آلم) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» (١٥٨). وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين. قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه‌الله في «المنار» : إن القرآن اسم للنظم والمعنى. وكذا قال غيره من أهل الأصول. وما ينسب الى أبي حنيفة رحمه

__________________

(١٥٨) صحيح ، اخرجه الترمذي وابن ماجه ، والآجري في «آداب حملة القرآن» بسند صحيح ، وهو مخرج في «المشكاة» أيضا (٢١٣٧).

الله : أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه ـ فقد رجع عنه ـ وقال : لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا : لو قرأ بغير العربية إما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم به بهذه اللغة ، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه.

وقوله : ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر. لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله ، بل قال إنه كلام محمد أو غيره من الخلق ، ملكا كان أو بشرا. وأما إذا أقر أنه كلام الله ، ثم أوّل وحرّف ـ فقد وافق قول من قال : «إن هذا إلا قول البشر». في بعض ما به كفر ، وأولئك الذين استزلهم الشيطان ـ وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ «ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله» إن شاء الله تعالى.

وقوله : ولا يشبه قول البشر ، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق. قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) النساء : ٨٧ وقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، الاسراء : ٨٨. الآية. وقال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يونس : ٣٨. فلما عجزوا ـ وهم فصحاء العرب ، مع شدة العداوة ـ عن الإتيان بسورة مثله ، تبين صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من عند الله. وإعجازه من جهة نظمه ومعناه ، لا من جهة أحدهما فقط. هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين ، أي بلغة العربية. فنفي المشابهة من حيث التكلم ، ومن حيث التكلم به ، ومن حيث النظم والمعنى ، لا من حيث الكلمات والحروف. والى هذا وقعت الاشارة بالحروف المقطعة في اوائل السور ، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها. ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن؟ كما في قوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) البقرة : ١ ـ ٢. (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) آل عمران : ١ ـ ٣ الآية. (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الاعراف : ١ ـ ٢ ، الآية. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) يونس : ١ ـ ٢. وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه ، بل خاطبكم بلسانكم.

ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به ، وسماع

جبرائيل منه ، كما يتذرعون بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، الى نفي الصفات. وفي الآية ما يرد عليهم قولهم ، وهو قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. كما في قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يونس : ٣٨ ما يرد على من ينفي الحرف ، فإنه قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) ، ولم يقل فأتوا بحرف ، أو بكلمة. وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات. ولهذا قال أبو يوسف ومحمد : إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك. والله أعلم.

قوله : (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر ، فقد كفر. من أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر. علم أنه بصفاته ليس كالبشر).

ش : لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة ، منه بدا ، نبّه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر ، نفيا للتشبيه عقيب الإثبات ، يعني أن الله تعالى وإن وصف بأنه متكلم ، لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الانسان بها متكلما ، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل ـ : باللبن الخالص السائغ للشاربين ، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. والمعطل يعبد عدما ، والمشبه يعبد صنما. وسيأتي في كلام الشيخ : ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه.

وكذا قوله : وهو بين التشبيه والتعطيل. أي دين الاسلام ، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه ، بما سأذكره إن شاء الله تعالى. وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها ، بل صفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به.

وقوله : فمن أبصر هذا اعتبر. أي من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار.

قوله : (والرؤية حق لأهل الجنة ، بغير احاطة ولا كيفية ، كما نطق به كتاب ربنا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣. وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه ، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد ، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين

بأهوائنا ، فانه ما سلم في دينه الا من سلم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورد علم ما اشتبه عليه الى عالمه).

ش : المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة. وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون ، وأئمة الاسلام المعروفون بالامامة في الدين ، وأهل الحديث ، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون الى السنة والجماعة.

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها ، وهي الغاية التي شمّر إليها المشمّرون ، وتنافس المتنافسون ، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون ، وعن بابه مردودون.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله من الأدلة قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣. وهي من أظهر الأدلة. وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلا ـ : فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب ، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرّفها عن مواضعها إلا وجد الى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.

وهذا الذي أفسد الدنيا والدين. وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل ، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم ، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية ، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل ، وصفّين ، ومقتل الحسين ، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج ، واعتزلت المعتزلة ، ورفضت الروافض ، وافترقت الامة على ثلاث وسبعين فرقة ، إلا بالتأويل الفاسد؟!

وإضافة النظر الى الوجه ، الذي هو محله ، في هذه الآية ، وتعديته بأداة «إلى» الصريحة في نظر العين ، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة (١٥٩) موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه الى الرب جل جلاله.

__________________

(١٥٩) في الاصل : حقيقته.

فإن النظر له عدة استعمالات ، بحسب صلاته وتعديه بنفسه : فإن عدي بنفسه فمعناه : التوقف والانتظار : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الحديد : ١٣. وإن عدي ب «في» فمعناه : التفكر والاعتبار ، كقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الاعراف : ١٨٥. وإن عدي ب «إلى» فمعناه : المعاينة بالابصار ، كقوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) الانعام : ٩٩. فكيف اذا أضيف الى الوجه الذي هو محل البصر؟ وروى ابن مردويه بسنده الى ابن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : من البهاء والحسن (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال في وجه الله عزوجل (١٦٠). عن الحسن قال : نظرت الى ربها فنضرت بنوره. وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، [(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر الى وجه ربها عزوجل. وقال عكرمة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، قال : من النعيم ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال : تنظر الى ربها نظرا ، ثم حكى عن ابن عباس مثله]. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث. وقال تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ق : ٣٥. قال الطبري : قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك : هو النظر الى وجه الله عزوجل. وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) يونس : ٢٦ ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : هي النظر الى وجهه الكريم ، فسرها بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة من بعده ، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب ، قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) يونس : ٢٦ ، قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وهي الزيادة» (١٦١). ورواه غيره بأسانيد

__________________

(١٦٠) ضعيف جدا ، لأن في اسناده ثوير ابن ابي فاختة ، كذبه الثوري ، وجزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. (انظر مقدمة الطبعة الثانية ص ٤ ـ ٥).

(١٦١) صحيح ورواه الترمذي وابن ماجه واحمد نحوه عن صهيب رضي الله عنه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٤٧٢).

متعددة وألفاظ أخر ، معناها أن الزيادة النظر الى وجه الله عزوجل. وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم. روى ابن جرير [ذلك] عن جماعة ، منهم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وحذيفة ، وأبو موسى الاشعري ، وابن عباس ، رضي الله عنهم.

وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) المطففين : ١٥. احتج الشافعي رحمه‌الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة ، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي. وقال الحاكم : حدثنا الأصم حدثنا الربيع ابن سليمان قال : حضرت محمد بن إدريس الشافعي ، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله عزوجل : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)؟ المطففين : ١٥ فقال الشافعي : لما أن حجب هؤلاء في السخط ، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى.

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) الاعراف : ١٤٣ ، وبقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ـ فالآيتان دليل عليهم :

أما الآية الاولى : فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه : أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته ـ أن يسأل ما لا يجوز عليه ، بل هو عندهم من أعظم المحال. الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله ، وقال : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) هود : ٤٦. الثالث : أنه تعالى قال : (لَنْ تَرانِي) ، ولم يقل : اني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال : أطعمنيه ، فالجواب الصحيح : أنه لا يؤكل ، أما اذا كان طعاما صح أن يقال : انك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه. الوجه الرابع : وهو قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الاعراف : ١٤٣. فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار ، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟ الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرّا ، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ،

ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء. السادس : قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) الاعراف : ١٤٣ ، فاذا جاز أن يتجلى للجبل ، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار ، فالبشر أضعف. السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة ـ فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته الا بإنكار كلامه ، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأييد النفي ب «لن» وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ـ : ففاسد ، فانها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة ، فكيف اذا أطلقت؟ قال تعالى : «ولن يتمنّوه أبدا» البقرة : ٩٥ ، مع قوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الزخرف : ٧٧. ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) يوسف : ٨٠. فثبت أن «لن» لا تقتضي النفي المؤبد.

قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه‌الله :

ومن رأى النفي بلن مؤبدا

فقوله اردد وسواه فاعضدا

وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو : أن الله تعالى انما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح انما يكون بالصفات الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وانما يمدح الرب تعالى بالنفي اذا تضمن أمرا وجوديّا ، كمدحه بنفي السّنة والنوم ، المتضمن كمال القيّومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والاعياء ، المتضمن كمال القدرة ، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير ، المتضمن كمال الربوبية والالوهية وقهره ، ونفي الاكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه ، ونفي الشفاعة عنده الا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم ، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه ، المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل ، المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، فإن المعدم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر

يشترك هو والمعدوم فيه ، فإن المعنى : أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به ، فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣ ، يدل على كمال عظمته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن «الادراك» هو الاحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ : كَلَّا) الشعراء : ٦٢ ، فلم ينف موسى الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والادراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية ، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية. بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه.

وأما الاحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، الدالة على الرؤية فمتواترة ، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن. فمنها : حديث أبي هريرة : «أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا ، قال فإنكم ترونه كذلك» (١٦٢) ، الحديث ، أخرجاه في «الصحيحين» بطوله. وحديث أبي سعيد الخدري أيضا في «الصحيحين» نظيره. وحديث جرير بن عبد الله البجلي ، قال : «كنا جلوسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة ، فقال : انكم سترون ربكم عيانا ، كما ترون هذا ، لا تضامون في رؤيته» (١٦٣) ، الحديث أخرجاه في «الصحيحين». وحديث صهيب المتقدم ، رواه مسلم وغيره. وحديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة

__________________

(١٦٢) متفق عليه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٤٥٣ ، ٤٧٥)

(١٦٣) متفق عليه ، وهو مخرج في المصدر المذكور (٤٤٦ ـ ٤٥١ و ٤٦١) ، وفي ثبوت كلمة وعيانا» نظر عندي ، بينته هناك فراجعه.

عدن» (١٦٤) ، أخرجاه في «الصحيحين». ومن حديث عدي بن حاتم : «وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له ، فيقول : ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول : ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول ، بلى يا رب» (١٦٥). أخرجه البخاري في «صحيحه».

وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا. ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها ، ولو لا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الاحاديث.

ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الاحاديث النبوية ، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء ، وأنه يأتي لفصل القضاء يوم القيامة ، وأنه فوق العالم ، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، وأنه يتجلى لعباده ، وأنه يضحك ، الى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق. وكيف تعلم أصول دين الاسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟ وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم ، الذين نزل القرآن بلغتهم؟ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (١٦٦). وفي رواية : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١٦٧). وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) عبس : ٣١. ما الأب؟ فقال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟

__________________

(١٦٤) متفق عليه ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٣٤٦٥) تحت حديث آخر نحو هذا ، لكن فيه زيادة على هذا ، ولذلك خرجته هناك.

(١٦٥) في «المناقب».

(١٦٦) ضعيف. اخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عباس مرفوعا ، وأوله «اتقوا الحديث عني الا ما علمتم ، ومن قال في القرآن برأيه ..» الحديث ، ورواه ابن جرير أيضا ، واسناده ضعيف كما ذكرت في «تخريج المشكاة» (٢٣٤) (كان هنا في الطبعة الاولى وهم من المخرج استغله صاحب التقرير ، متعمدا عن ذكر التصحيح في آخر تلك الطبعة ، وانظر الصفحة ٣٠ من مقدمة الألباني. ـ زهير ـ).

(١٦٧) ضعيف ، رواه ابو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب.

وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله ، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية ، لا تشبيه المرئي بالمرئي ، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال : يرى لا في جهة ـ فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله وفي عقله شيء ، وإلا فاذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته ، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.

ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية ، وقالوا : كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة ، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا ، لا لامتناع الرؤية ، فهذه الشمس اذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها ، لا لامتناع في ذات المرئي ، بل لعجز الرائي ، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته. ولهذا لما تجلى الله للجبل : (خَرَّ مُوسى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الاعراف : ١٤٣ ، بأنه لا يراك حيّ الا مات ، ولا يابس الا تدهده ، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته ، الا من أيده الله كما أيد نبينا ، قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الانعام : ٨. قال غير واحد من السلف : لا يطيقون أن يروا الملك في صورته ، فلو أنزلنا عليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر ، وحينئذ يشتبه عليهم : هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولا منّا.

وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه. لكن قول من أثبت موجودا يرى لا في جهة ـ أقرب الى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا في جهة.

ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة : أتريد بالجهة أمرا وجوديّا؟ أو أمرا عدميّا؟ فإن أراد بها أمرا وجوديا كان التقرير : كل ما ليس في شيء موجود لا يرى ، وهذه المقدمة ممنوعة ، ولا دليل على إثباتها ، بل هي باطلة ، فإن سطح العالم يمكن أن يرى ، وليس العالم في عالم آخر. وان أردت بالجهة أمرا عدميا ، فالمقدمة الثانية ممنوعة ، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.

وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من

قول فلان؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول ، ولا ينظر فيها ، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، المنقول إلينا عن الثقات النقلة ، الذين تخيرهم النقاد ، فانهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده ، بل نقلوا نظمه ومعناه ، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان ، بل يتعلمونه بمعانيه. ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه ، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب ، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ ، لكن إن أصاب يضاعف أجره.

وقوله : والرؤية حق لأهل الجنة ، تخصيص أهل الجنة بالذكر ، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم. ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة ، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة ، كما ثبت ذلك في «الصحيحين» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٦٨). ويدل عليه قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) الاحزاب : ٤٤. واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا يراه إلا المؤمنون. الثاني : يراه أهل الموقف ، مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك. الثالث : يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار. وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف.

واتفقت الامة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة : منهم من نفى رؤيته بالعين ، ومنهم من أثبتها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكى القاضي عياض في كتابه «الشفا» اختلاف الصحابة ومن بعدهم في رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعين رأسه ، وأنها قالت لمسروق حين سألها : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلت ، ثم قالت : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب (١٦٨١). ثم قال : وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، وهو المشهور عن ابن مسعود وأبي هريرة واختلف عنه ، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن

__________________

(١٦٨) انظر صفحة ١٩٣.

(١٦٨١) أخرجه الشيخان وأحمد (٦ / ٤٩) في حديث لها معروف.

عباس رضي الله عنهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بعينه (١٦٩) ، وروى عطاء عنه : أنه رآه بقلبه. ثم ذكر أقوالا وفوائد ، ثم قال : وأما وجوبه لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص ، والمعوّل فيه على آيتي النجم ، والتنازع فيهما مأثور ، والاحتمال لهما ممكن. وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه‌الله هو الحق ، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة ، إذ لو لم تكن ممكنة ، لما سألها موسى عليه‌السلام ، لكن لم يرد نص بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعين رأسه ، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية ، وهو ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي ذر رضي الله عنه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أنّى أراه» (١٧٠). وفي رواية : «رأيت نورا». وقد روى مسلم أيضا عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أنه قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات ، فقال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور» ، (وفي رواية : النار) ، «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». (١٧١). فيكون ـ والله أعلم ـ معنى قوله لأبي ذر «رأيت نورا» : أنه رأى الحجاب ، ومعنى قوله «نور أنّى أراه» : النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته ، فأنّى أراه؟ أي فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم.

وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك ، ونحن الى تقرير رؤيته لجبريل احوج منا الى تقرير رؤيته (١٧٢) لربه تعالى ، وإن كانت رؤية الرب

__________________

(١٦٩) ضعيف ، اخرجه ابن خزيمة في التوحيد بألفاظ مضطربة عنه موقوفا.

(١٧٠) صحيح أخرجه مسلم في آخر «كتاب الايمان» ويشهد له حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ : «يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين الى الله عزوجل». رواه الدار قطني كما في «الدر» (٦ / ١٩١) ، وله شاهد مرسل ، رواه ابو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (٥٧) طبع المكتب الاسلامي.

(١٧١) صحيح ، وقد مضى (برقم ٥٢).

(١٧٢) ما في المطبوعتين خطأ وصوابه ما أثبتناه من الاصل ويؤيده ما في «الرد على الجهمية» للدارمي (ص ٦٤).

تعالى أعظم وأعلى ، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة.

وقوله : بغير إحاطة ولا كيفية ـ هذا الكمال عظمته وبهائه ، سبحانه وتعالى ، لا تدركه الابصار ولا تحيط به ، كما يعلم ولا يحاط به علما. قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣. وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠.

وقوله : وتفسيره على ما أراد الله وعلمه ، الى أن قال : لا ندحل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. أي كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية ، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه. فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة ، والفاسد المخالف له. فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ، ولا معه قرينة تقتضيه ، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه ، إذ لو قصده لحفّ بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره ، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى ، فإذا أراد به خلاف ظاهره ، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره الى فهم كل أحد ، لم يكن بيانا ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم ، لا إنشاء.

وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس ، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه ، فاذا قيل : معنى اللفظ كذا وكذا ، كان إخبارا بالذي عنى المتكلم ، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم ، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة : منها : أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها : أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى ، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له ، كقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء : ١٦٣. و «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب» (١٧٣). فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم ، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة ، كان صادقا في إخباره. وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه ، فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه ، وهو تأويل بالرأي ، وتوهم بالهوى.

__________________

(١٧٣) متفق عليه وتقدم (ص ١٦٣) مع النظر في كلمة «عيانا»

.

وحقيقة الامر : أن قول القائل : نحمله على كذا ، أو : نتأوله بكذا ، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له ، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده ، دفع معناه ، وقال : أحمله على خلاف ظاهره.

فإن قيل : بل للحمل معنى آخر ، لم تذكروه ، وهو : أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ، ولا يمكن تعطيله ، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد ، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.

قيل : فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده ، وهو إما صدق وإما كذب ، كما تقدم ، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده ، بل يعرف بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة. ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره ، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك ، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده! كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ، ويكرره غير مرة ، ويضرب له الامثال.

وقوله : فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. أي : سلم لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة ، أو بقوله : العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل!! فإذا عارضه قدمنا العقل!! وهذا لا يكون قط. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك : فان كان النقل صحيحا فذلك الذي يدّعى أنه معقول إنما هو مجهول ، ولو حقق النظر لظهر ذلك. وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة ، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدا. ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره ، فيقال : اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع النقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل ، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الاشياء ، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه ، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين

واضح ، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته ، وأن خبره مطابق لمخبره ، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا ، وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يجز أن يتبع بحال ، فضلا عن أن يقدم ، فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل.

فالواجب كمال التسليم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والانقياد لأمره ، وتلقي خبره بالقبول والتصديق ، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولا ، أو نحمله شبهة أو شكّا ، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم ، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان ، كما نوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والانابة والتوكل.

فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل ، وتوحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم الى غيره ، ولا نرضى بحكم غيره ، ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه ، فإن أذنوا له نفّذه وقبل خبره ، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره ، وإلا حرّفه عن مواضعه ، وسمى تحريفه تأويلا وحملا ، فقال : نؤوله ونحمله. فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ـ ما خلا الإشراك بالله ـ خير له من أن يلقاه بهذه الحال. بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعدّ نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟! بل كان الفرض المبادرة الى امتثاله ، من غير التفات الى سواه ، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان ، بل يستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصب بقياس ، بل نهدر الأقيسة ، ونتلقى نصوصه ، ولا نحرف كلامه عن حقيقته ، لخيال يسميه أصحابه معقولا ، نعم هو مجهول ، وعن الصواب معزول! ولا يوفق قبول قوله على موافقة فلان دون فلان ، كائنا من كان.

قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم ، أقبلت أنا وأخي ، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلوس عند باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حجرة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها ، حتى ارتفعت أصواتهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا ، قد احمر

وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : «مهلا يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، بل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه الى عالمه» (١٧٤).

ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الاعراف : ٣٣. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الاسراء : ٣٦. فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه ، فيصدق بأنه حق وصدق ، وما سواه من كلام سائر الناس يعرضه عليه ، فإن وافقه فهو حق ، وإن خالفه فهو باطل ، وان لم يعلم : هل خالفه أو وافقه ـ يكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه ، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه ـ فإنه يمسك عنه ، ولا يتكلم إلا بعلم ، والعلم ما قام عليه الدليل ، والنافع منه ما جاء به الرسول ، وقد يكون علم من غير الرسول ، لكن في الامور الدنيوية ، مثل الطب والحساب والفلاحة ، وأما الامور الإلهية والمعارف الدينية ، فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير.

قوله : (ولا تثبت قدم الاسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام).

ش : هذا من باب الاستعارة ، اذ القدم الحسي لا تثبت الا على ظهر شيء. أي لا يثبت اسلام من لم يسلّم لنصوص الوحيين ، وينقاد إليها ، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه‌الله أنه قال : من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم.

وهذا كلام جامع نافع.

وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل ، وهو : أن العقل مع النقل كالعامي

__________________

(١٧٤) صحيح وأخرجه البغوي أيضا في شرح السنة رقم (١٢١) طبع المكتب الاسلامي.

ورجاله ثقات على خلاف معروف في عمرو بن شعيب.

المقلد مع العالم المجتهد ، بل هو دون ذلك بكثير ، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا ، فاذا عرف العامي المقلد عالما ، فدل عليه عاميّا آخر. ثم اختلف المفتي والدال ، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ، دون الدال ، فلو قال الدال : الصواب معي دون المفتي ، لأني أنا الأصل في علمك بأنك مفت ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي : أنت لما شهدت له بأنه مفت ، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك ، فموافقتي لك في هذا العلم المعين ، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك ، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ.

والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى ، لا يجوز عليه الخطأ ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره ، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن الذي تلقيه علينا ، والحكمة التي جئتنا بها ، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا ، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا ، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك ، فنحن نعتقد موجب العقول الناقضة لما ظهر من كلامك ، وكلامك نعرض عنه ، لا نتلقى منه هديا ولا علما ، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ، ولم يرض منه الرسول بهذا ، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول ، إذ العقول متفاوتة ، والشبهات كثيرة ، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس ، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به!! وقد قال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) النور : ٥٤. وقال : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٣٥. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ابراهيم : ٤. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) المائدة : ١٥. (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الدخان : ١ ـ ٢ ، والزخرف : ١ ـ ٢. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يوسف : ٢. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف : ١١١. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ

الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل : ٨٩. ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر : إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا؟ الثاني باطل ، وإن كان قد تكلم [بما يدل] على الحق بألفاظ مجملة محتملة ، فما بلّغ البلاغ المبين ، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم ، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين ، فقد افترى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (فمن رام علم ما حظر عنه علمه ، ولم يقنع بالتسليم فهمه ، حجبه مرامه عن خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان).

ش : هذا تقرير للكلام الاول ، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين ـ بل وفي غيرها ـ بغير علم. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الاسراء : ٣٦. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الحج : ٣ ـ ٤. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) الحج : ٨ ـ ٩. وقال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص : ٥٠. وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) النجم : ٢٣. الى غير ذلك من الآيات لدالة على هذا المعنى.

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ثم تلا : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) (١٧٥) الزخرف : ٥٨. رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن. وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان أبغض الرجال الى الله الألد الخصم». خرجاه في «الصحيحين».

__________________

(١٧٥) حسن كما قال الترمذي. «المشكاة» (١٨٠) و «صحيح الترغيب» (رقم ١٣٧).

ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده ، فإنه يقول برأيه وهواه ، ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله ، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول ، فانه قد اتخذه في ذلك إلها غير الله. قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الفرقان : ٤٣. أي : عبد ما تهواه نفسه. وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق ، كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه :

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذلّ إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ، ويعارضونها بها ، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء ، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة ، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله ، وتحريم ما أباحه ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، واطلاق ما قيده ، وتقييد ما أطلقه ، ونحو ذلك. والرهبان وهم جهال المتصوفة ، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع ، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعوض عن حقائق الايمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس. فقال الأولون : إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة! وقال الآخرون : إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف ، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف.

ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه‌الله في كتابه الذي سماه «إحياء علوم الدين» وهو من أجلّ كتبه ، أو أجلّها : «فإن قلت : فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوّا وإسرافا في أطراف. فمن قائل : انه بدعة وحرام ، وان العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائل : إنه فرض ، إما على الكفاية ، واما على الاعيان ، وانه أفضل الأعمال وأعلى القربات ، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال

عن دين الله. قال : وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف» وساق الالفاظ عن هؤلاء. قال : وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه ، قالوا : ما سكت عنه الصحابة ـ مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم ـ إلا لما يتولد منه من الشر. وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلك المتنطعون» (١٧٦). أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم ، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر. إلى أن قال : فإن قلت : فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل ، فقال : فيه منفعة ، وفيه مضرة : فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب ، كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام. قال : فأما مضرته ، فإثارة الشبهات ، وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ، وذلك مما يحصل بالابتداء ، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق ، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة ، وتثبيتها في صدورهم ، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل. قال : وأما منفعته ، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف. قال : وهذا إذا سمعته من محدّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ، ثم قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ، وجاوز ذلك الى التعمق في علوم أخر سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق الى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه‌الله. وكلام مثله في ذلك حجة بالغة ، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحا

__________________

(١٧٦) مسلم ، من حديث ابن مسعود وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام» (برقم ٧)

.

جديدا على معان صحيحة ، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق. ومن ذلك : مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة ، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها ، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها ، فهي لحم جمل غثّ على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى. وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريرا ، وأحسن تفسيرا ، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد. كما قيل :

لو لا التنافس في الدنيا لما وضعت

كتب التناظر لا «المغني» ولا «العمد»

يحللون بزعم منهم عقدا

وبالذي وضعوه زادت العقد

فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه ، الشّبه والشكوك ، والفاضل الذي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك.

ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين. بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل ، ويتدبر معناه ويعقله ، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي ، ويعرف دلالته على هذا وهذا ، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة ، فيقال لأصحابها : هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا ، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل ، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد. وهذا مثل لفظ المركب والجسم والتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ، ونحو ذلك. فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح ، بل ولا في اللغة ، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها ، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر ، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية ، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.

مثال ذلك ، في التركيب. فقد صار له معان : أحدها : التركيب من متباينين فأكثر. ويسمى : تركيب مزج ، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك ، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى ، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلوّ ونحوه من صفات الكمال ، أن يكون مركبا بهذا المعنى المذكور.

والثاني : تركيب الجوار ، كمصراعي الباب ونحو ذلك ، ولا يلزم أيضا من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب. الثالث : التركيب من الأجزاء المتماثلة ، وتسمى : الجواهر المفردة. الرابع : التركيب من الهيولى والصورة ، كالخاتم مثلا ، هيولاه : الفضة ، وصورته معروفة. وأهل الكلام قالوا : إن الجسم يكون مركبا من الجواهر المفردة ، ولهم كلام في ذلك يطول ، ولا فائدة فيه؟؟ هو أنه : هل يمكن التركيب من جزءين ، أو من أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازما لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء ، وإنما قولهم مجرد دعوى ، وهذا مبسوط في موضعه. الخامس : التركيب من الذات والصفات ، هم سموه تركيبا لينفوا به صفات الرب تعالى ، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة ، ولا في استعمال الشارع ، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيبا ـ : فنقول لهم : العبرة للمعاني لا للألفاظ ، سموه ما شئتم ، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمرا ، لم يحرم بهذه التسمية. السادس : التركيب من الماهية ووجودها ، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران ، وأما في الخارج ، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ، ووجودها مجرد عنها؟ هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون : هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك. وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.

وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله ، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة. وإنما سمي هؤلاء : أهل الكلام ، لأنهم لم يفيدوا علما لم يكن معروفا ، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد ، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس ، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر ، ومع من ينكر الحس. وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته ـ مع وجود النص ، أو عارض النص بالمعقول ـ فقد ضاهى إبليس ، حيث لم يسلم لأمر ربه ، بل قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف : ١٢. وقال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) النساء : ٨٠. وقال

تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران : ٣١. وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء : ٦٥. أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكّموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليما.

قوله : (فيتذبذب بين الكفر والايمان ، والتصديق والتكذيب ، والاقرار والانكار ، موسوسا تائها ، شاكا ، لا مؤمنا مصدقا ، ولا جاحدا مكذبا).

ش : يتذبذب : يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه‌الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم ، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة ، وعند التعارض يتأول النص ويرده الى الرأي والآراء المختلفة ، فيؤول أمره إلى الحيرة والضلال والشك ، كما قال ابن رشد الحفيد ، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم ، في كتابه «تهافت التهافت» : «ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به؟». وكذلك الآمدي ، أفضل أهل زمانه ، واقف في المسائل الكبار حائر. وكذلك الغزالي رحمه‌الله ، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية ، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمات و [وصحيح الإمام] البخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، قال في كتابه الذي صنفه : [أقسام] اللذات :

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا

فكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال ، فزالوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر : ١٠. وأقرأ في

النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠. ثم قال : «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، حيث قال :

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كفّ حائر

على ذقن أو قارعا سنّ نادم

وكذلك قال أبو المعالي الجويني : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضم ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ، أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي شاهي ، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي ، لبعض الفضلاء ، وقد دخل عليه يوما ، فقال : ما تعتقده؟ قال : ما يعتقده المسلمون ، فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال ، فقال : نعم ، فقال : أشكر الله على هذه النعمة ، لكني والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى أخضل لحيته. ولابن أبي الحديد. الفاضل المشهور بالعراق :

فيك يا أغلوطة الفكر

حار أمري وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا أذى السفر

فلحى الله الأولى زعموا

أنك المعروف بالنظر

كذبوا إن الذي ذكروا

خارج عن قوة البشر

وقال الخوفجي عند موته : ما عرفت مما حصلته شيئا سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح ، ثم قال : الافتقار وصف سلبي ، أموت وما عرفت شيئا. وقال آخر : أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي ، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ، ولم يترجح عندي منها شيء.

ومن يصل الى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته والا تزندق ، كما قال أبو يوسف : من طلب الدين بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن

طلب غريب الحديث كذب. وقال الشافعي رحمه‌الله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ـ ما خلا الشرك بالله ـ خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى.

وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز ، فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك ، التي كان يقطع بها ، ثم تبين له فسادها ، أو لم يتبين له صحتها ، فيكونون في نهاياتهم ـ إذا سلموا من العذاب ـ بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.

والدواء النافع لمثل هذا المرض ، ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله ـ إذا قام من الليل يفتتح الصلاة ـ : «اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (١٧٧). خرجه مسلم. توجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إذ حياة القلب بالهداية. وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة : فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها. فالتوسل الى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان.

قوله : (ولا يصح الايمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم ، أو تأولها بفهم ، اذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف الى الربوبية ـ بترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين ، ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه).

__________________

(١٧٧) صحيح ، ورواه أبو عوانة أيضا في «صحيحه».

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية ، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» (١٧٨) ، الحديث : أدخل «كاف» التشبيه على «ما» المصدرية [أو] الموصولة بترون التي تتأول مع صلتها الى المصدر الذي هو الرؤية ، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ، ودفع الاحتمالات عنها. وما ذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص ، كيف يستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه : إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الفيل : ١. ونحو ذلك مما استعمل فيه «رأى» التي من أفعال القلوب!! ولا شك أن «ترى» تارة تكون بصرية ، وتارة تكون قلبية ، وتارة تكون من رؤيا الحلم ، وغير ذلك ، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلّص أحد معانيه من الباقي. وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلّصة لأحد المعاني لكان مجملا ملغزا ، لا مبيّنا موضحا. وأي بيان وقرينة فوق قوله : «ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب»؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر ، أو برؤية القلب؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟

فإن قالوا : ألجأنا إلى هذا التأويل ، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها!

فالجواب : أن هذه دعوى منكم ، خالفكم فيها أكثر العقلاء ، وليس في العقل ما يحيلها ، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال.

وقوله : «لمن اعتبرها منهم بوهم» ، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا ، فيتوهم تشبيها ، ثم بعد هذا التوهم ـ إن أثبت ما توهمه من الوصف ـ فهو مشبه ، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم ـ فهو جاحد معطل. بل

__________________

(١٧٨) متفق عليه ، وقد تقدم (ص ١٩٣).

الواجب دفع ذلك الوهم وحده ، ولا يعم بنفيه الحق والباطل ، فينفيهما ردّا على من أثبت الباطل ، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : «ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، ازل ولم يصب التنزيه» فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال ، إذ المعدوم لا يرى ، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له ادراك احاطة ، كما في العلم ، فإن نفي العلم به ليس بكمال ، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علما. فهو سبحانه لا يحاط به رؤية ، كما لا يحاط به علما.

وقوله : «أو تأولها بفهم» أي ادعى أنه فهم لها تأويلا يخالف ظاهرها ، وما يفهمه كل عربي من معناها ، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل : أنه صرف اللفظ عن ظاهره ، وبهذا تسلط المحرّفون على النصوص ، وقالوا : نحن نتأول ما يخالف قولنا ، فسموا التحريف : تأويلا ، تزيينا له وزخرفة ليقبل ، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الانعام : ١١٢. العبرة للمعاني لا للألفاظ. فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق. وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم : «لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا». ثم أكد هذا المعنى بقوله : «إذا كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ : بترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين». ومراده ترك التأويل [الذي] يسمونه تأويلا ، وهو تحريف. ولكن الشيخ رحمه‌الله تأدب وجادل بالتي هي أحسن ، كما أمر الله تعالى بقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل : ١٢٥. وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلا ، ولا ترك شيئا من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة. وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة ، المخالفة لمذهب السلف ، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها ، وترك القول على الله بلا علم.

فمن التأويلات الفاسدة ، تأويل أدلة الرؤية ، وأدلة العلو ، وأنه لم يكلم موسى تكليما ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا!

ثم قد صار لفظ «التأويل» مستعملا في غير معناه الأصلي.

فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. فتأويل الخبر : هو عين المخبر به ، وتأويل الأمر : نفس الفعل المأمور به. كما قالت عائشة رضي الله عنها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن (١٧٩). وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) الاعراف : ٥٣. ومنه تأويل الرؤيا ، وتأويل العمل ، كقوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يوسف : ١٠٠. وقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يوسف : ٦. وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء : ٥٩. وقوله : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الكهف : ٧٨ ، الى قوله : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الكهف : ٨٢ ، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل ، والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟ وأما ما كان خبرا ، كالإخبار عن الله واليوم الآخر ، فهذا قد لا يعلم تأويله ، الذي هو حقيقته ، إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار ، فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به ، أو ما يعرفه قبل ذلك ـ لم يعرف حقيقته ، التي هي تأويله ، بمجرد الإخبار. وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه ، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها ، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها ، وان كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله. فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف ، وسواء كان هذا التأويل موافقا للظاهر أو مخالفا له.

والتأويل في كلام كثير من المفسرين ، كابن جرير ونحوه ، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالف ، وهذا اصطلاح معروف. وهذا التأويل كالتفسير ، يحمد حقه ، ويرد باطله. وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) آل عمران : ٧ ، الآية ـ فيها قراءتان : قراءة من يقف

__________________

(١٧٩) متفق عليه.

على قوله (إلا الله) ، وقراءة من لا يقف عندها ، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره ، وهو تأويله. ولا يريد من وقف على قوله (إلا الله) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى ، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاما لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول ، ويكون الراسخون في العلم لا حظّ لهم في معرفة معناها سوى قولهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) آل عمران : ٧. وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين ، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوامّ المؤمنين في ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله. ولقد صدق رضي الله عنه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له وقال : «اللهم فقّهه في الدين ، وعلّمه التأويل» (١٨٠). رواه البخاري وغيره. ودعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرد. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس ، من أوله إلى آخره ، أقفه عند كل آية وأسله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن ، ولم يقل عن آية إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله. وقول الأصحاب رحمهم‌الله في الأصول : المتشابه : الحروف المقطعة في أوائل السور ، ويروى هذا عن ابن عباس. مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس ، فإن كان معناها معروفا ، فقد عرف معنى المتشابه ، وإن لم يكن معروفا ، وهي المتشابه ، كان ما سواها معلوم المعنى ، وهذا المطلوب.

وأيضا فإن الله قال : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) آل عمران : ٧. وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين.

__________________

(١٨٠) صحيح ، رواه أحمد (١ / ٢٦٦ ، ٣١٤ ، ٣٢٨ ، ٣٣٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٨٤ / ٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» والضياء المقدسي في «المختارة» بسند صحيح عن ابن عباس. وأما عز والمصنف اياه للبخاري فوهم ، وانما عنده بلفظ : «اللهم علمه الحكمة» ، وفي لفظ «الكتاب» بدل «الحكمة» ، أخرجه (١ / ٣١ ، ٢ / ٤٤٥ ، ٤ / ٤٩٩) وهو رواية لأحمد (١ / ٢١٤ ، ٢٦٩ ، ٣٥٩) والطبراني ، ورواه مسلم (٧ / ١٥٨) مختصرا بلفظ : «اللهم فقّه». وهو رواية لأحمد (١ / ٣٢٧) وفي أخرى له (١ / ٣٣٠) عن ابن عباس قال ..

فدعا الله أن يزيدني علما وفهما.

والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين : هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه : الّذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد ، وهذا مبسوط في موضعه. وذكر في «التبصرة» أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن رحمهم‌الله : أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره الى التشبيه؟ فقال : نمرّها كما جاءت ، ونؤمن بها ، ولا نقول : كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفريّ ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه ، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه ، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم

وقيل :

عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر (١)

فكيف يقال في قول الله ، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث ، وهو الكتاب الذي (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هود : ١. ان حقيقة قولهم إن ظاهر القرآن والحديث هو الضلال ، وانه ليس فيه بيان ما يصلح من الاعتقاد ، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه؟! هذا حقيقة قول المتأولين. والحقّ أن ما دل عليه القرآن فهو حق ، وما كان باطلا لم يدل عليه. والمنازعون يدّعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه!

فيقال لهم : هذا الباب الذي فتحتموه ، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية ـ : فقد فتحتم عليكم بابا لأنواع المشركين والمبتدعين ، لا تقدرون على سده ، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي ، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فان

__________________

(١) كان البيت مضطربا في الأصول ، وهو للبحتري.

قلتم : ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه ، وإلا أقررناه! قيل لكم : وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد! ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى ، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى!! وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام ، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان : أحدهما : أن لا نقرّ بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثا طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل! وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدّعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه ، فيؤول الأمر الى الحيرة المحذورة. الثاني : أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول. اذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد ، والتأويلات مضطربة ، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد ، وخاصة النبي هي الانباء ، والقرآن هو النبأ العظيم. ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد ، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه ، وان خالفته أولوه! وهذا فتح باب الزندقة ، نسأل الله العافية.

قوله : (ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه).

ش : النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب ، فإن أمراض القلوب نوعان : مرض شبهة ، ومرض شهوة ، وكلاهما مذكور في القرآن ، قال تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الاحزاب : ٣٢. فهذا مرض الشهوة ، وقال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) البقرة : ١٠. وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) التوبة : ١٢٥. فهذا مرض الشبهة ، وهو أردأ من مرض الشهوة ، اذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة ، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها ، وشبه النفي أردأ من شبه التشبيه ، فإن شبه النفي ردّ وتكذيب لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشبه التشبيه غلو مجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ

شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، ونفي الصفات كفر ، فان الله تعالى يقول : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. وهذا أصل نوعي التشبيه ، فإن التشبيه نوعان : تشبيه الخالق بالمخلوق ، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في ردّه وإبطاله ، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني ، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق ، كعبّاد المشايخ ، وعزيز ، والشمس والقمر ، والأصنام ، والملائكة ، والنار ، والماء ، والعجل ، والقبور ، والجن ، وغير ذلك. وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم الى عبادة الله وحده لا شريك له.

قوله : (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية ، منعوت بنعوت الفردانية ، ليس في معناه أحد من البرية).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله إلى تنزيه الرب تعالى بالذي هو وصفه كما وصف نفسه نفيا واثباتا. وكلام الشيخ مأخوذ من معنى سورة الإخلاص. فقوله : موصوف بصفات الوحدانية. مأخوذ من قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) الاخلاص : ١ ـ ٢. وقوله : منعوت بنعوت الفردانية. من قوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) الاخلاص : ٢ ـ ٣. وقوله : ليس في معناه أحد من البرية من قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الاخلاص : ٤. وهو أيضا مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه. والوصف والنعت مترادفان ، وقيل : متقاربان. فالوصف للذات ، والنعت للفعل ، وكذلك الوحدانية والفردانية. وقيل في الفرق بينهما : إن الوحدانية للذات ، والفردانية للصفات ، فهو تعالى موحد في ذاته ، منفرد بصفاته. وهذا المعنى حقّ ولم ينازع فيه أحد ، ولكن في اللفظ نوع تكرير. وللشيخ نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة ، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد ، والتسجيع (١٨١) بالخطب أليق. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١. أكمل في التنزيه من قوله : ليس في معناه أحد من البرية.

__________________

(١٨١) التسجيع ، بالسين المهملة ، يعني : السجع.

قوله : (وتعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).

ش : أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه‌الله مقدمة ، وهي : أن الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال : فطائفة تنفيها ، وطائفة تثبتها ، وطائفة تفصّل ، وهم المتبعون للسلف ، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها الا إذا تبين ، ما أثبت بها فهو ثابت ، وما نفي بها فهو منفي. لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وابهام ، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية ، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي. ولهذا كان النفاة ينفون بها حقّا وباطلا ، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به ، وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلا ، مخالفا لقول السلف ، ولما دل عليه الكتاب والميزان. ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها ، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفيا ولا إثباتا ، وانما نحن متبعون لا مبتدعون.

فالواجب أن ينظر في هذا الباب ، أعني باب الصفات ، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه ، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي ، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا اثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها : فإن كان معنى صحيحا قبل ، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص ، دون الألفاظ المجملة ، إلا عند الحاجة ، مع قرائن تبين المراد ، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ، ونحو ذلك.

والشيخ رحمه‌الله أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة ، كداود الجواربي وأمثاله القائلين : إن الله جسم ، وانه جثة وأعضاء وغير ذلك! تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه‌الله من النفي الذي ذكره هنا حق ، لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقّا وباطلا ، فيحتاج إلى بيان ذلك. وهو : أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدّا ، وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته. قال ابو داود الطيالسي : كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة

وشريك وأبو عوانة ـ لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون ، يروون الحديث ولا يقولون : كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر. وسيأتي في كلام الشيخ : وقد أعجز خلقه عن الإحاطة به. فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحدّة ، لأن المعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم. سئل عبد الله بن المبارك : بم نعرف ربنا؟ قال : بأنه على العرش ، بائن من خلقه ، قيل : بحدّ؟ قال : بحد ، انتهى. ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره ، والله تعالى غير حالّ في خلقه ، ولا قائم بهم ، بل هو القيوم القائم بنفسه ، المقيم لما سواه. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلا ، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحدّ بمعنى العلم والقول ، وهو أن يحده العباد ، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة. قال أبو القاسم القشيري في «رسالته» : سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي ، سمعت أبا منصور بن عبد الله ، سمعت أبا الحسن العنبري ، سمعت سهل بن عبد الله التّستري يقول ، وقد سئل عن ذات الله فقال : ذات الله موصوفة بالعلم ، غير مدركة بالإحاطة ، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا ، وهي موجودة بحقائق الإيمان ، من غير حدّ ولا إحاطة ولا حلول ، وتراه العيون في العقبى ، ظاهرا في ملكه وقدرته ، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ، ودلهم عليه بآياته ، فالقلوب تعرفه ، والعيون لا تدركه ، ينظر إليه المؤمن بالأبصار ، من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.

وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات ـ فيستدل بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية ، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة رضي الله عنه في «الفقه الأكبر» : له يد ووجه ونفس ، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس ، فهو له صفة بلا كيف ، ولا يقال : ان يده قدرته ونعمته ، لأن فيه إبطال الصفة ، انتهى. وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ، ثابت بالأدلة القاطعة : قال تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الزمر : ٦٧. وقال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٧. وقال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) المائدة :

١١٦. وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الانعام : ٥٤. وقال تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) طه : ٤١. وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) آل عمران : ٢٨. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة لمّا يأتي الناس آدم فيقولون له : «خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء» (١٨٢) ، الحديث. ولا يصح تأويل من قال : إن المراد باليد : بالقدرة ، فإن قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد ، ولو صح ذلك لقال إبليس : وأنا أيضا خلقتني بقدرتك ، فلا فضل له عليّ بذلك. فإبليس ـ مع كفره ـ كان أعرف بربه من الجهمية. ولا دليل لهم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يس : ٧١. لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ، ليتناسب الجمعان ، فاللفظان للدلالة على الملك والعظمة. ولم يقل : «أيدي» مضافا إلى ضمير المفرد ، ولا «يدينا» بتثنية اليد مضافا الى ضمير الجمع. فلم يكن قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) نظير قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه عزوجل : «حجابه النور ، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١٨٣).

ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء ، أو جوارح ، أو أدوات ، أو أركان ، لأن الركن جزء الماهية ، والله تعالى هو الأحد الصمد ، لا يتجزأ ، سبحانه وتعالى ، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية (١٨٤) ، تعالى الله عن ذلك ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الحجر : ٩١. والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع. وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرّة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى ، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى. فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني ، سالمة من الاحتمالات الفاسدة ،

__________________

(١٨٢) صحيح ، أخرجه البخاري (٤ / ٤٥٤ ، ٤٦٤) وأحمد (٣ / ١١٦) في حديث الشفاعة من حديث أنس ، وسيأتي بلفظ آخر. (ص ٢٢٩).

(١٨٣) صحيح ، وقد تقدم بتمامه (برقم ٥٢ و ١٧١).

(١٨٤) التعضية : التقطيع ، وجعل الشيء أعضاء.

فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا إثباتا ، لئلا يثبت معنى فاسد ، أو ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل.

وأما لفظ الجهة ، فقد يراد به ما هو موجود ، وقد يراد به ما هو معدوم ، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق ، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا ، والله تعالى لا يحصره شيء ، ولا يحيط به شيء من المخلوقات ، تعالى الله عن ذلك. وإن أريد بالجهة أمر عدمي ، وهو ما فوق العالم ، فليس هناك إلا الله وحده. فإذا قيل : إنه في جهة بهذا الاعتبار ، فهو صحيح ، ومعناه : أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع ، عال عليه. ونفاة لفظ «الجهة» الذين يريدون بذلك نفي العلوّ ، يذكرون من أدلتهم : أن الجهات كلها مخلوقة ، وأنه كان قبل الجهات ، وأن من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم ، وأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات ، سواء سمي جهة أو لم يسم ، وهذا حق. ولكن الجهة ليست أمرا وجوديّا ، بل أمر اعتباريّ ، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها ، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود.

وقول الشيخ رحمه‌الله : لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات. ـ هو حق ، باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، بل هو محيط بكل شيء وفوقه. وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه‌الله ، لما يأتي في كلامه : أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه. فإذا جمع بين كلاميه ، وهو قوليه : لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ، وقوله : محيط بكل شيء وفوقه ـ علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ، ولا يحيط به شيء ، كما يكون لغيره من المخلوقات ، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء ، العالي عن كل شيء.

لكن بقي في كلامه شيئان : أن إطلاق مثل هذا اللفظ ـ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال ـ كان تركه أولى ، وإلا تسلط عليه ، وألزم بالتناقض في اثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو ، وإن أجيب عنه بما تقدم ، من أنه انّما نفى أن يحويه شيء

من مخلوقاته ، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى. الثاني : أن قوله : كسائر المبتدعات ـ يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محويّ!! وفي هذا نظر. فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي ، فممنوع ، فإن العالم ليس في عالم آخر ، وإلا لزم التسلسل. وان أراد أمرا عدميّا ، فليس كل مبتدع في العدم ، بل منها [ما هو داخل في غيره ، كالسماوات والأرض في الكرسي ، ونحو ذلك ، ومنها] ما هو منتهى المخلوقات ، كالعرش. فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات ، قطعا للتسلسل ، كما تقدم. ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال : بأن «سائر» بمعنى البقية ، لا بمعنى الجميع ، وهذا أصل معناها ، ومنه «السؤر» ، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء. فيكون مراده غالب المخلوقات ، لا جميعها ، إذ «السائر» على الغالب أدل منه على الجميع ، فيكون المعنى : أن الله تعالى غير محويّ ـ كما يكون أكثر المخلوقات محويّا ، بل هو غير محوي ـ بشيء ، تعالى الله عن ذلك. ولا نظن بالشيخ رحمه‌الله أنه ممن يقول إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي التعيينين ، كما ظنه بعض الشارحين ، بل مراده : أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته ، وأن يكون مفتقرا إلى شيء منها ، العرش أو غيره.

وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر ، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه ، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به ، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى. وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه ، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة ، فلذلك قلت : إن في ثبوته عن الإمام نظرا ، وان الأولى التوقف في إطلاقه ، فإن الكلام بمثله خطر ، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع ، كالاستواء والنزول ونحو ذلك. ومن ظن من الجهال أنه اذا «نزل الى سماء الدنيا» (١٨٥) كما أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكون العرش فوقه ، ويكون محصورا بين طبقتين من العالم! فقوله مخالف لإجماع السلف ، مخالف للكتاب والسنة. وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن

__________________

(١٨٥) متفق عليه بل هو متواتر ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (٤٥٠) وراجع ان شئت بعض الفاظه الصحيحة في «صحيح الجامع الصغير» رقم ١٩١٤).

الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن [حماد] ـ بعد روايته حديث النزول ـ يقول : سئل أبو حنيفة رضي الله عنه؟ فقال : ينزل بلا كيف. انتهى.

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك ، لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف ، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش ، بل يقول : لا مباين ، ولا مجانب (١٨٦) ، لا داخل العالم ولا خارجه ، فيصفونه بصفة العدم والممتنع ، ولا يصفونه (١٨٧) بما وصف به نفسه من العلوّ والاستواء على العرش ، ويقول بعضهم : بحلوله في كل موجود ، أو يقول : هو وجود كل موجود ونحو ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان ، عند الكلام على قول الشيخ رحمه‌الله : محيط بكل شيء وفوقه ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (والمعراج حق ، وقد أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ، الى السماء ، ثم الى حيث شاء الله من العلاء وأكرمه الله بما شاء ، وأوحى إليه ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى. فصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة والأولى.

ش : «المعراج» : مفعال ، من العروج (١٨٨) ، أي الآلة التي يعرج فيها ، أي يصعد ، وهو بمنزلة السّلم ، لكن لا يعلم كيف هو ، وحكمه كحكم غيره من المغيّبات ، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.

وقوله : وقد أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ـ اختلف الناس في الإسراء.

فقيل : كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده ، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما ، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناما ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده ،

__________________

(١٨٦) في الاصل : محاير.

(١٨٧) في الاصل : يصفوا.

(١٨٨) في الاصل : المعروج.

وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا : كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده ، وفرق ما بين الأمرين : [أن] ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة ، فيرى كأنه قد عرج الى السماء ، وذهب به إلى مكة ، وروحه لم تصعد ولم تذهب ، وانما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد (١٨٩) أن الإسراء مناما ، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها ، ففارقت الجسد ثم عادت إليه ، ويجعلان هذا من خصائصه ، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل الى السماء إلا بعد الموت.

وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ، ومرة مناما. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله : «ثم استيقظت» ، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال : بل كان مرتين ، مرة قبل الوحي ، ومرة بعده. ومنهم من قال : بل ثلاث مرات ، مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة ، للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث ، وإلا فالذي عليه أئمة النقل : أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة ، بعد البعثة ، قبل الهجرة بسنة ، وقيل : بسنة وشهرين ، ذكره ابن عبد البر. قال شمس الدين ابن القيم : يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ، فيقول : «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ، ثم يعيدها في المرة الثانية الى خمسين ، ثم يحطها الى خمس؟! وقد غلط الحفّاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ، ثم قال : «فقدّم وأخّر وزاد ونقص». ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه‌الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه‌الله.

وكان من حديث الإسراء : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري بجسده في اليقظة ، على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، راكبا على البراق ، صحبة جبرائيل عليه‌السلام ، فنزل هناك ، صلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقد قيل : انه نزل بيت لحم وصلى فيه ، ولا يصح عنه ذلك البتة. ثم عرج من بيت

__________________

(١٨٩) قلت : لم يصح ذلك عنهما ، فهو في غنية عن التأويل.

المقدس تلك الليلة الى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبرائيل ، ففتح لهما ، فرأى هناك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرحب به ورد عليه‌السلام ، وأقرّ بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الثانية. فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى ابن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما ، فسلم عليهما ، فردّا عليه‌السلام ، ورحبا به ، وأقرّا بنبوته ثم عرج [به] الى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج الى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج الى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم رفع الى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به الى الجبّار ، جل جلاله وتقدست أسماؤه ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مر على موسى ، فقال : بم أمرت؟ قال : بخمسين صلاة ، فقال : [إن] أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع الى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت الى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار : أن نعم ، إن شئت ، فعلا به جبرائيل حتى أتى به [الى] الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في صحيحه وفي بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرا ، ثم نزل حتى مر بموسى ، فأخبره ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى ، حتى جعلها خمسا ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربي ، ولكن أرضى وأسلّم ، فلما نفذ ، نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي (١٩٠).

__________________

(١٩٠) حديث الاسراء صحيح ، وهو ملتقط من أحاديث متفرقة ، غير ان الدنو المذكور في هذا السياق هو من رواية شريك بن عبد الله ابن أبي نمر الذي غلطه الحفاظ في الفاظ من حديث الاسراء كما ذكر المؤلف آنفا ، ومن ذلك هذا اللفظ كما بينه الحافظ ابن كثير في تفسير (الاسراء). ومن قبله البيهقي في «الاسماء والصفات» (ص ٤٤٠ ـ ٤٤٢).

وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه عزوجل بعين رأسه ، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ، ولم يره بعين رأسه ، وقوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم : ١١ ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) النجم : ١٣ ، صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا المرئيّ [جبرائيل] ، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.

وأما قوله تعالى في سورة النجم : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ، فهو غير الدنوّ والتدلي المذكورين في قصة الإسراء ، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدلّيه ، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما ، فإنه قال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) النجم : ٥ ـ ٨. فالضمائر كلها راجعة الى هذا المعلم الشديد القوى ، وأما الدنوّ والتدلي الذي في حديث الإسراء ، فذلك صريح في أنه دنوّ الرب تعالى وتدليه (١٩١). وأما الذي في سورة النجم : أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، فهذا هو جبرائيل ، رآه مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى.

ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة ، قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الاسراء : ١. والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح ، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح ، هذا هو المعروف عند الإطلاق ، وهو الصحيح. فيكون الإسراء بهذا المجموع ، ولا يمتنع ذلك عقلا ، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة ، وذلك يؤدي الى إنكار النبوة وهو كفر.

فإن قيل : فما الحكمة في الإسراء الى بيت المقدس أولا؟ فالجواب ـ والله أعلم ـ : أن ذلك كان إظهارا لصدق دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن غيرهم التي مر عليها في طريقه ، ولو كان عروجه الى السماء من مكة لما حصل ذلك ، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه ، وقد اطلعوا على بيت المقدس ، فأخبرهم بنعته.

وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه ، لمن تدبره ، وبالله التوفيق.

__________________

(١٩١) قلت لكن في ثبوته نظر كما تقدم آنفا

.

قوله : (والحوض ـ الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته ـ حق).

ش : الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر ، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيّا ، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير ، تغمده الله برحمته ، في آخر تاريخه الكبير ، المسمى ب «البداية والنهاية». فمنها : ما رواه البخاري رحمه‌الله تعالى ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن قدر حوضي كما بين أيلة الى صنعاء من اليمن ، وان فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» (١٩٢). وعنه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليردنّ عليّ ناس من أصحابي ، حتى اذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١٩٣). رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك ، قال : أغفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه أنزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) الكوثر : ١ ، حتى ختمها ، ثم قال لهم : هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال لي : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١٩٤). ورواه مسلم ، ولفظه : «هو نهر وعدنيه ربي ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة» ، والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض ، والحوض في العرصات

__________________

(١٩٢) صحيح ، وروى منه أحمد (٣ / ٢٢٥ ، ٢٣٨) بإسنادين صحيحين الشطر الثاني ، وزاد في أحدهما «اباريق الذهب والفضة» وهو رواية لمسلم ، ورواه البخاري أيضا (٤ / ٢٤٨) بتمامه.

(١٩٣) صحيح ، ورواه البخاري أيضا (٤ / ٢٤٨ ، ٢٤٩) فلو عزاه إليه المؤلف لكان أولى ، فإن اللفظ له ، ولفظ مسلم (٧ / ٧٠ ـ ٧١) بنحوه.

(١٩٤) صحيح ، وهو في «المسند» (٣ / ١٠٢) بسند صحيح على شرط مسلم ، وقد أخرجه في «صحيحه» كما ذكر المؤلف.

قبل الصراط ، لأنه يختلج عنه ، ويمنع منه ، أقوام قد ارتدّوا على أعقابهم ، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا فرطكم على الحوض» (١٩٥). والفرط : الذي يسبق إلى الماء. وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني فرطكم على الحوض ، من مر عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم» (١٩٦). قال أبو حازم : فسمعني النعمان ابن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم. فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري ، سمعته وهو يزيد : فأقول : «إنهم من أمتي» فقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فقال : «سحقا سحقا لمن غيّر بعدي». سحقا : أي بعدا.

والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض : أنه حوض عظيم ، ومورد كريم ، يمد من شراب الجنة ، من نهر الكوثر ، الذي هو أشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، وأطيب ريحا من المسك ، وهو في غاية الاتساع ، عرضه وطوله سواء ، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر. وفي بعض الأحاديث : أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع ، وأنه ينبت في خلاله من المسك والرضراض من اللؤلؤ [و] قضبان الذهب ، ويثمر ألوان الجواهر ، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء. وقد ورد في أحاديث : أن لكل نبي حوضا ، وأن حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها واردا (١٩٧). جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

__________________

(١٩٥) صحيح ، متفق عليه ، بل هو حديث متواتر ، قد أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» عن تسعة من الصحابة (٧٣٦ ـ ٧٤٦) وزدت عليهم تسعة آخرين في «ظلال الجنة» (١ / ٣٤٧) ، مع تخريجها.

(١٩٦) صحيح ، رواه مسلم أيضا (٧ / ٦٦). وهو مخرج في «الظلال» (٧٤١ ـ ٧٤٣).

(١٩٧) حسن ، اخرجه الترمذي (٢ / ٦٧) طبع الهند ، وقال «غريب» ثم ذكر انه ورد مرسلا وقال : «وهو أصح» ورواه الطبراني أيضا كما في «المجمع» (١٠ / ٣٦٣) وقال : «وفيه مروان بن جعفر السمري وثقه ابن أبي حاتم ، وقال الازدي : يتكلمون فيه ، وبقية وحاله ثقات». ثم وجدت ما يقوي الحديث ، فخرجته في الصحيحة (١٥٨٩).

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي [رحمه‌الله] في «التذكرة» : واختلف في الميزان والحوض : أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل : الميزان ، وقيل : الحوض. قال أبو الحسن القابسي : والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي : والمعنى يقتضيه ، فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم ، كما تقدم فيقدّم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه‌الله ، في كتاب «كشف علم الآخرة» : حكى بعض السلف من أهل التصنيف ، أن الحوض يورد بعد الصراط ، وهو غلط من قائله. قال القرطبي : هو كما قال ، ثم قال القرطبي : ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض ، بل في الأرض المبدلة ، أرض بيضاء كالفضة ، لم يسفك فيها دم ، ولم يظلم على ظهرها أحد قط ، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى. فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض ، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر.

قوله : (والشفاعة التي ادخرها لهم حق ، كما روي في الأخبار).

ش : الشفاعة أنواع : منها ما هو متفق عليه بين الأمة ، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.

النوع الأول : الشفاعة الأولى ، وهي العظمى ، الخاصة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين. في «الصحيحين» وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين ، أحاديث الشفاعة.

منها : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فدفع إليه منها الذراع ، وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ، ثم قال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد [واحد] ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون الى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم

يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل الى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وانه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى إبراهيم ، فيأتون ابراهيم ، فيقولون : يا ابراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، ألا ترى [الى] ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : ان ربي قد غصب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر كذباته ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى موسى ، فيأتون موسى : فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه ، قال : هكذا هو ، وكلّمت الناس في المهد ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى [الى] ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده [مثله ، ولم يذكر له ذنبا] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ذنبك ، ما تقدم منه وما تأخر ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفّع ، فأقول : [يا] رب امتي أمتي ، [يا رب أمتي امتي ، يا رب أمتي أمتي] ، فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من

الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى» (١٩٨).

أخرجاه في «الصحيحين» بمعناه ، واللفظ للإمام أحمد.

والعجب كل العجب ، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصّور (١٩٩) ، فإنه المقصود في هذا المقام ، ومقتضى سياق أول الحديث. فإن الناس إنما يستشفعون الى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا الى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف ـ في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث ـ هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم ، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، ولو لا خوف الإطالة لسقته بطوله ، لكن من مضمونه : أنهم يأتون آدم ثم نوحا ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم يأتون رسول الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له : الفحص ، فيقول الله : ما شأنك؟ وهو أعلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفّعني ، في خلقك ، فاقض بينهم ، فيقول سبحانه وتعالى : شفّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينهم ، قال : فأرجع فأقف مع الناس ، ثم ذكر انشقاق السموات ، وتنزل الملائكة في الغمام ، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح ، قال : فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ، ثم يقول : إني أنصتّ لكم منذ خلقتكم الى يومكم هذا أسمع أقوالكم ، وأرى أعمالكم ، فأنصتوا

__________________

(١٩٨) صحيح ، وهو في «المسند» (٢ / ٤٣٥) بسند «الصحيحين» ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» في تخريج السّنة (٨١١).

(١٩٩) يأتي ذكر خلاصته بعد سطور.

إليّ ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ، الى أن قال : فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة ، قالوا : من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم ، إنه خلقه الله بيده ، ونفخ فيه روحه ، [وكلمه] قبلا ، فيأتون آدم ، فيطلبون (٢٠٠) ذلك إليه ، وذكر نوحا ، ثم ابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. الى أن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، ثم استفتح ، فيفتح لي ، فأحيّا ويرحب بي ، فإذا دخلت الجنة فنظرت الى ربي عزوجل خررت له ساجدا ، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول الله لي : ارفع يا محمد ، واشفع تشفّع ، وسل تعطه ، فاذا رفعت رأسي ، قال الله ـ وهو أعلم ـ : ما شأنك؟ فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله عزوجل : قد شفعتك ، وأذنت لهم في دخول الجنة» (٢٠١) ... الحديث. رواه الأئمة : ابن جرير في تفسيره ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، والبيهقي وغيرهم.

النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة ، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم الى النار ، أن لا يدخلونها.

النوع الرابع : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة ، وخالفوا فيما عداها من المقامات ، مع تواتر الأحاديث فيها.

النوع الخامس : الشفاعة في أقوام أن يدخلوا (٢٠٢) الجنة بغير حساب ، ويحسن

__________________

(٢٠٠) في الاصل : فيطلب.

(٢٠١) ضعيف ، أخرجه ابن جرير في تفسيره كما ذكر الشارح. (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، ٢٤ / ٣٠ ، ١٨٦ ـ ١٨٧) من حديث ابي هريرة مرفوعا ، واسناده ضعيف لانه من طريق اسماعيل ابن رافع المدني عن يزيد ابن أبي زياد وكلاهما ضعيف بسندهما عن رجل من الأنصار ، وهو مجهول لم يسم ، وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٤٨ ، ٤ / ٦٣) : انه حديث مشهور .. الخ ، لا يستلزم صحته كما لا يخفى على أهل العلم.

(٢٠٢) في الاصل : يدخلون بدل يدخلوا.

أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن ، حين دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (٢٠٣) ، والحديث مخرّج في الصحيحين.

النوع السادس : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه ، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه (٢٠٤). ثم قال القرطبي في «التذكرة» بعد ذكر هذا النوع : «فإن قيل : فقد قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) المدثّر : ٤٨. قيل له : لا تنفعه في الخروج من النار ، كما تنفع عصاة الموحدين ، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.

النوع السابع : شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة ، كما تقدم. وفي «صحيح مسلم» عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أول شفيع في الجنة» (٢٠٥).

النوع الثامن : شفاعته في أهل الكبائر من أمته ، ممن دخل النار ، فيخرجون منها ، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث. وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة ، فخالفوا في ذلك ، جهلا منهم بصحة الأحاديث ، وعنادا ممن علم ذلك واستمر على بدعته. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا. وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اربع مرات. ومن أحاديث هذا النوع ، حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (٢٠٦). رواه الإمام أحمد رحمه‌الله. وروى البخاري رحمه‌الله في كتاب

__________________

(٢٠٣) صحيح ، متفق عليه ، وهو الذي فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبقك بها عكاشة».

(٢٠٤) رواه مسلم وغيره من حديث ابي سعيد الخدري وغيره ، وقد خرجته في «الاحاديث الصحيحة» رقم (٥٤ ، ٥٥) :

(٢٠٥) وأخرجه احمد أيضا (٣ / ١٤٠) وغيره. المصدر السابق برقم (١٥٧٠).

(٢٠٦) صحيح ، وله طرق وشواهد ، «المشكاة» (٥٥٩٨ ـ ٥٥٩٩) وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٨٣١ ـ ٨٣٢) ، وهو من الأحاديث الكثيرة التي أنكرها المدعو ب عز الدين بليق في «منهاجه» (ص ٦٢٢) تقليدا منه للربيع بن حبيب الاباضي الذي لهج بإمامته ، وأكثر من عز والأحاديث إليه ، وهو لا يعرف عنه شيئا يوجب الثقة به فضلا عن اتخاذه إياه إماما!!

«التوحيد» : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي ، قال : اجتمعنا ، ناس من أهل البصرة ، فذهبنا الى أنس بن مالك ، وذهبنا معنا بثابت [البناني إليه] ، يسأله لنا عن حديث الشفاعة ، فإذا هو في قصره ، فوافقناه يصلي الضحى ، فاستأذنا ، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه ، فقلنا لثابت : لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة ، [فقال : يا أبا حمزة ، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة ، جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة] ، فقال : حدثنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع لنا الى ربك ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بموسى ، فانه كليم الله ، فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] ، فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن علي ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها ، لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفّع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفّع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود بتلك المحامد ، ثم أحر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل. قال : فلما خرجنا من عند أنس ، قلت [لبعض أصحابنا] لو مررنا بالحسن ، وهو متوار في منزل أبي خليفة ، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك ، فأتيناه ، فسلمنا عليه ، فأذن لنا ، فقلنا له : يا أبا سعيد ، جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك ، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة ، فقال : هيه؟ فحدثناه بالحديث ، فانتهى الى هذا الموضع ، فقال : هيه؟ فقلنا لم يزد لنا على

هذا ، فقال : لقد حدثني وهو جميع ، منذ عشرين سنة ، فما أدري ، أنسي أم كره أن تتّكلوا؟ فقلنا : يا أبا سعيد ، فحدثنا ، فضحك وقال : خلق الإنسان عجولا! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم ، حدثني كما حدثكم [به] ، قال : ثم اعود الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرّ له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله الا الله ، فيقول : وعزتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لأخرجن منها من قال : لا إله الا الله» (٢٠٧). وهكذا رواه مسلم. وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» (٢٠٨). وفي «الصحيح» من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا ، قال : «فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» (٢٠٩) ، الحديث.

ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال : فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم : يجعلون شفاعة من يعظّمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا. والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره في أهل الكبائر. وأما أهل السنة والجماعة ، فيقرون بشفاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل الكبائر ، وشفاعة غيره ، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حدّا ، كما في الحديث الصحيح ، حديث الشفاعة : «إنهم يأتون آدم ، ثم نوحا ، ثم ابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، فيقول لهم عيسى عليه‌السلام : اذهبوا الى محمد ، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأذهب ، فإذا رأيت ربي حررت له ساجدا ، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي ، لا أحسنها الآن ، فيقول : أي محمد ،

__________________

(٢٠٧) صحيح ، كما ذكر المؤلف رحمه‌الله من حديث انس.

(٢٠٨) موضوع ، رواه ابن ماجه (٤٣١٣) والعقيلي في «الضعفاء» (ص ٣٣١) في ترجمة عنبسة بن عبد الرحمن القرشي وقال «لا يتابع عليه» وروي عن البخاري انه قال : تركوه. وقال أبو حاتم : كان يضع الحديث ، وهو مخرج في «سلسلة الأحاديث الضعفة» (١٩٧٨).

(٢٠٩) صحيح. أخرجه مسلم (١ / ١١٥ ـ ١١٦) وأحمد (٣ / ٩٤).

ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، فأقول : ربي : أمتي ، فيحدّ لي حدّا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أنطلق فأسجد ، فيحد لي حدّا» (٢١٠) ذكرها ثلاث مرات.

وأما الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره في الدنيا الى الله تعالى في الدعاء ، ففيه تفصيل : فإن الداعي تارة يقول : بحق نبيّك أو بحق فلان ، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته ، فهذا محذور من وجهين : أحدهما : أنه أقسم بغير الله. والثاني : اعتقاده أنّ لأحد على الله حقّا. ولا يجوز الحلف بغير الله ، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه ، كقوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم : ٤٧. وكذلك ما ثبت في «الصحيحين» من صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ رضي الله عنه ، وهو رديفه : «يا معاذ ، أتدري ما حقّ الله على عباده؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقّهم عليه أن لا يعذبهم» (٢١١). فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق ، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق ، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير ، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم ، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به ، لأن السبب هو ما نصبه الله سببا. وكذلك الحديث الذي في «المسند» من حديث أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قول الماشي الى الصلاة : «أسألك بحق ممشاي هذا ، وبحق السائلين عليك» (٢١٢) ، فهذا حق السائلين ، هو أوجبه على نفسه ، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم ، وللعابدين أن يثيبهم ، ولقد أحسن القائل :

ما للعباد عليه حق واجب

كلّا ، ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله ، أو نعّموا

فبفضله وهو الكريم السامع

__________________

(٢١٠) متفق عليه من حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(٢١١) متفق عليه. حديث ابن عباس خرجته في «الارواء» (٨٥٥).

(٢١٢) ضعيف ، وقد فصلت القول في ذلك في «سلسلة الاحاديث الضعيفة» (رقم ٢٤).

فإن قيل : فأي فرق بين قول الداعي : «بحق السائلين عليك» وبين قوله : «بحق نبيك» أو نحو ذلك؟ فالجواب : أن معنى قوله : «بحق السائلين عليك» أنك وعدت السائلين بالإجابة ، وأنا من جملة السائلين ، فأجب دعائي ، بخلاف قوله : بحق فلان ـ فإن فلانا وإن كان له حقّ على الله بوعده الصادق ـ فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل. فكأنه يقول : لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء! وقد قال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاعراف : ٥٥. وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة ، ولم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن الصحابة ، ولا عن التابعين ، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم ، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية. والدعاء من أفضل العبادات ، والعبادات مبناها على السنة والاتباع ، لا على الهوى والابتداع.

وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان ، فذلك محذور أيضا ، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز ، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بغير الله فقد أشرك» (٢١٣). ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم : يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل : اللهم إني أسألك بمعقد العزّ من عرشك ، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه‌الله لما بلغه الأثر فيه (٢١٤). وتارة يقول : بجاه فلان عندك ، يقول : نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أنّ فلانا عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضا محذور ، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفعلوه بعد موته ، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه ، يطلبون منه أن يدعو لهم ، وهم يؤمّنون على دعائه ، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٢١٣) صحيح ، رواه أحمد والحاكم وصححه. «الارواء» (٢٥٦١).

(٢١٤) قلت ، هو حديث مرفوع موضوع ، كما بينه الزيلعي في «نصب الراية» (٤ / ٢٧٣).

قال عمر رضي الله عنه ـ لما خرجوا يستسقون ـ : اللهم إنا كنا اذا أجدبنا نتوسل أليك بنبينا فتسقينا ، وانا نتوسل أليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله ، ليس المراد أنا نقسم عليك [به] ، أو نسألك بجاهه عندك ، إذ لو كان ذلك مرادا لكان جاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس.

وتارة يقول : باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم ، ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون في الدعاء والتوسل والاستشفاع.

فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال ، غلط بسببه (٢١٥) من لم يفهم معناه : فإن أريد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا ، وهذا في حياته يكون ، أو لكون الداعي محبا له ، مطيعا لأمره ، مقتديا به ، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء ، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، وإما بمحبة السائل واتباعه ، أو يراد به الاقسام به والتوسل بذاته ، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.

وكذلك السؤال بالشيء ، قد يراد به التسبب به ، لكونه سببا في حصول المطلوب ، وقد يراد [به] الإقسام به.

ومن الأول : حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار ، وهو حديث مشهور في «الصحيحين» وغيرهما ، فإن الصخرة انطبقت عليهم ، فتوسلوا الى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة ، وكل واحد منهم يقول : فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون (٢١٦). فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال ، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ، ويتوجه به إليه ، ويسأله به ، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

فالحاصل أن الشفاعة عند الله [ليست] كالشفاعة عند البشر ، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعة في الطلب ، بمعنى أنه صار شفعا فيه بعد أن كان

__________________

(٢١٥) في الاصل : بتسببه.

(٢١٦) متفق عليه من حديث ابن عمر.

وترا ، فهو أيضا قد شفع المشفوع إليه ، وبشفاعته صار فاعلا للمطلوب ، فقد شفع الطالب والمطلوب منه ، والله تعالى وتر ، لا يشفعه أحد ، [فلا يشفع عنده أحد] إلا بإذنه ، فالأمر كله إليه ، فلا شريك له بوجه. فسيد الشفعاء يوم القيامة اذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله : «ارفع رأسك ، وقل يسمع ، [وسأل تعطه] ، واشفع تشفع» ، فيحد له حدّا فيدخلهم الجنة ، فالأمر كله لله. كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، آل عمران : ١٥٤. وقال تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) آل عمران : ١٢٨. وقال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الأعراف : ٥٤.

فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه (٢١٧) لمن يشاء ، ولكن يكرم الشفيع قبول شفاعته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء» (٢١٨). وفي «الصحيح» : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بني عبد مناف ، لا أملك لكم من الله شيئا ، يا صفية يا عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أملك لك من الله شيئا ، يا عباس عمّ رسول الله ، لا أملك لك من الله شيئا» (٢١٨١). وفي «الصحيح» أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، أو شاة لها يعار ، أو رقاع تخفق ، فيقول : أغثني أغثني ، فأقول : قد أبلغتك ، لا أملك لك من الله من شيء» (٢١٨٢). فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به : «لا أملك لكم من الله من شيء» فما الظن بغيره؟ وإذا دعاه الداعي ، وشفع عنده الشفيع ، فسمع الدعاء ، وقبل الشفاعة ، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق ، فإنه سبحانه [وتعالى] هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع ، وهو الخالق لأفعال العباد ، فهو الذي وفّق العبد للتوبة ثم قبلها ، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر ، وأن الله خالق كل شيء.

__________________

(٢١٧) سقط سهوا فهو بأذن.

(٢١٨) متفق عليه من حديث ابي موسى. وهو مخرج في «الصحيحة» (١٤٦٤).

(٢١٨١) اخرجه مسلم (١ / ١٣٣) من حديث ابي هريرة بألم منه مركبا من روايتين عنه.

(٢١٨٢) اخرجه البخاري (٢ / ٢٦٦) ومسلم (٦ / ١٠) وأحمد (٢ / ٤٢٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قوله : (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حقّ).

ش : قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) الأعراف : ١٧٢. أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله الا هو. وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه‌السلام ، وتمييزهم الى أصحاب اليمين والى أصحاب الشمال ، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم :

فمنها : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه‌السلام بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، شهدنا .. إلى قوله : المبطلون» (٢١٩). ورواه النسائي أيضا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم عليه‌السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله عزوجل] اذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل [به] الجنة ، واذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار» (٢٢٠). ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في «صحيحه».

وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خلق الله آدم

__________________

(٢١٩) صحيح ، لطرقه وشواهده وهو مخرج في «الصحيحة» (١٦٢٣).

(٢٢٠) صحيح لغيره ، الا مسح الظهر ، فلم أجد له شاهدا «الضعيفة» (٣٠٧٠).

مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل انسان منهم وبيضا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي ربّ ، من هؤلاء؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود ، قال : [ربّ] ، كم عمره؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد! فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته» (٢٢١). ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا» (٢٢٢). وأخرجاه في «الصحيحين» أيضا.

وذكر أحاديث أخرى أيضا كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل النار وأهل الجنة. ومن هنا قال من قال : إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد (٢٢٣). وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد (٢٢٤) سبقا مستقرا ثابتا ، وغايتها أن تدل على أن باريها وفاطرها سبحانه صوّر النسمة وقدّر خلقها وأجلها

__________________

(٢٢١) صحيح ، وجدت له أربعة طرق ، بعضها عند ابن ابي عاصم في «السنة» (٢٠٤ ، ٢٠٥ بتحقيقي ـ طبع المكتب الاسلامي).

(٢٢٢) صحيح ، متفق عليه ، وهو في «المسند» (٣ / ١٢٧ ، ١٢٩) طبع المكتب الاسلامي.

(٢٢٣) قال عفيفي : انظر المسألة ١٨ من كتاب «الروح» لابن القيم ، و «تفسير ابن كثير» عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآيات من سورة الاعراف.

(٢٢٤) في الأصل : أو الاجساد

.

وعملها ، واستخرج تلك الصور من مادتها ، ثم أعادها إليها ، وقدّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ، ولا يدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها الى الأبدان جملة بعد جملة ، كما قاله ابن حزم. فهذا لا تدل الآثار عليه. نعم ، الربّ سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة ، [كما قاله] على الوجه الذي سبق به التقدير (٢٢٥) أولا ، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق ، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته ، فإنه قدر لها أقدارا وأجالا ، وصفات وهيآت ، ثم أبرزها الى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق. فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق ، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة. وأما الإشهاد عليهم هناك ، فانما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد انما هو فطرتهم (٢٢٦) على التوحيد ، كما تقدم [كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة] في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى قوله (شهدنا) : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس وأبيّ بن كعب. وقال ابن عباس أيضا : أشهد بعضهم على بعض. وقيل : (شهدنا) من قول الملائكة ، [و] الوقف على قوله (بلى). وهذا قول مجاهد والضحاك وقال السدّي أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وانما يشهد ظاهر الآية للأول.

واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، كالثعلبي والبغوي وغيرهما. ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، كالزمخشري وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني الى المعتزلة. ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من

__________________

(٢٢٥) في الأصل : التدبير.

(٢٢٦) في الأصل : فطرهم.

ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم الى الجنة وبعضهم الى النار ، كما في حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراء آدم اياهم من غير قضاء ولا اشهاد ، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد ـ على الصفة التي قالها أهل القول الأول ـ موقوف على ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» والحاكم معروف التساهل رحمه‌الله.

والذي فيه القضاء بأن بعضهم الى الجنة وبعضهم الى النار دليل على مسألة القدر. وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.

وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولو لا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.

قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، ومعنى (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) الاعراف : ١٧٢. دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربّا واحدا [سبحانه وتعالى] قال : فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، ذهب إلى هذا القفّال وأطنب. وقيل : انه [سبحانه وتعالى] أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه.

وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في «الصحيحين»! الذي فيه : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي (٢٢٧). ولكن قد روي

__________________

(٢٢٧) صحيح ، وهو الذي قبله ، والطريق الاخرى عند مسلم (٨ / ١٣٤ ، ١٣٥) وكذا البخاري (٤ / ٢٣٦) ولا منافاة بينها وبين التي قبلها ، لأن زيادة الثقة مقبولة ، كما لا يخفى ، وفي ـ

من طريق أخرى : قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد الى النار. وليس فيه : في ظهر آدم. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.

بل القول الأول متضمن (٢٢٨) لأمرين عجيبين : أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة. والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه : أحدها : أنه قال : «من بني آدم» ، ولم يقل : من آدم. الثاني : أنه قال : «من ظهورهم» ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن. الثالث : أنه قال : «ذرياتهم» ولم يقل : ذريته. الرابع : أنه قال : «وأشهدهم على أنفسهم» ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه الى هذه الدار ـ كما تأتي الاشارة الى ذلك ـ لا يذكر شهادة قبله. الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، والحجة انما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء : ١٦٥. السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) الاعراف : ١٧٢ ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم. السابع : قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) الاعراف : ١٧٣ ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد (٢٢٩) : لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدّعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة. الثامن : قوله :

__________________

ـ هذا الحديث زيادات اخرى وقد جمعتها في الحديث وخرجته في «سلسلة الاحاديث الصحيحة» (رقم ١٧٢) ثم تبينت أن الطريق الأخرى ليست هي التي عند الشيخين ، وإنما هي عند أحمد والحاكم بإسناد صحيح على شرط مسلم باللفظ الذي ذكره المؤلف حرفا بحرف ، وهي في الصحيحة (٣٠٠٨).

(٢٢٨) في الأصل يتضمن.

(٢٢٩) في الاصل : الاخذ الاشهاد.

(أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الاعراف : ١٧٣ ، أي توعدهم (٢٣٠) بجحودهم وشركهم لما قالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل. التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربّه وخالقه ، واحتجّ عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥ ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم (٢٣١) على أنفسهم بمضمونها ، وذكّرتهم بها رسله ، بقولهم : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠. العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها ، وهذا شأن آيات الرب تعالى ، فقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الاعراف : ١٧٤ ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا تبديل ولا تغيير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.

وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة [ظاهر] تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في «شرح التأويلات» ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه (٢٣٢).

ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري ، والشرك حادث طارئ ، والأبناء تقلدوه (٢٣٣) عن الآباء ، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن ، يقال لهم : أنتم كنتم معترفين (٢٣٤) بالصانع ، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له ، وقد

__________________

(٢٣٠) في الاصل : لو عذّبهم.

(٢٣١) في الاصل : اشهد.

(٢٣٢) قال الشيخ عفيفي : انظر المسألة ١٨ من «الروح» لابن القيم.

(٢٣٣) في الاصل : يقلّدون.

(٢٣٤) في الاصل : مقرون.

شهدتم بذلك على أنفسكم ، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) النساء : ١٣٥. وليس المراد أن يقول : أشهد على نفسي بكذا ، بل من أقرّ بشيء فقد شهد على نفسه به ، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم الى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن الى ما لا يعلم له حقيقة ، تقليدا لمن لا حجة معه ، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية ، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها ، وفيه مصلحة لكم ، بخلاف الشرك ، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدو لكم فيه عن الصواب.

فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو : دين التربية والعادة ، وهو لأجل مصلحة الدنيا ، فإن الطفل لا بدّ له من كافل ، وأحقّ الناس به أبواه ، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع (٢٣٥) أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة ، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه ـ على الصحيح ـ حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة ، وحينئذ فعليه أن يتبع : دين العلم والعقل ، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح ، فإن كان آباؤه مهتدين ، كيوسف الصديق مع آبائه ، قال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) يوسف : ٣٨ ، وقال ليعقوب بنوه : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) البقرة : ١٣٣ ، وان كان الآباء مخالفين الرسل ، كان عليه أن يتبع الرسل ، كما قال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) العنكبوت : ٨ ، الآية. (٢٣٦).

فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم ، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه ، فهذا اتبع هواه ، كما قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة : ١٧٠.

وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام ، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب ، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة ، بل هو

__________________

(٢٣٥) في الاصل : على.

(٢٣٦) وتمامها : (.. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

من مسلمة الدار ، لا مسلمة الاختيار ، وهذا إذا قيل له في قبره : من ربك؟ قال هاه هاه ، لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.

فليتأمل اللبيب هذا المحل ، ولينصح نفسه ، وليقم معه ، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق ، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج الى دليل ، فإنه مركوز في الفطر وأقرب ما ينظر فيه المرء (٢٣٧) أمر نفسه لما كان نطفة ، وقد خرج من بين الصلب والترائب [والترائب] : عظام الصدر (٢٣٨) ، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين ، في ظلمات ثلاث ، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق ، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق ، واجتمع حكماء العالم على أن يصوّروا منها شيئا لم يقدروا. ومحال توهم عمل الطبائع فيها ، لأنها موات عاجزة ، ولا توصف بحياة ، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير ، فإذا تفكر في ذلك وانتقال هذه النطفة من حال الى حال ، علم بذلك توحيد الربوبية ، فانتقل منه الى توحيد الإلهية. فإنّه اذا علم بالعقل أن له ربّا أوجده ، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكّر وتدبر ازداد يقينا وتوحيدا ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه.

قوله : (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة ، وعدد من يدخل النار ، جملة واحدة ، فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه).

ش : قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الانفال : ٧٥. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الأحزاب : ٤٠. فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلا وأبدا ، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة. وما كان ربك نسيّا. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ، قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟

__________________

(٢٣٧) في الاصل : من.

(٢٣٨) في الاصل : الصدور.

فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير الى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير الى عمل أهل الشقاوة. ثم قال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٢٣٩) الليل : ٥ ـ ١٠ ، خرجاه في «الصحيحين».

قوله : (وكلّ ميسر لما خلق له ، والأعمال بالخواتيم ، والسعيد من سعد بقضاء الله ، والشقي من شقي بقضاء الله).

ش : تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ، وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل؟ قال : لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل؟ قال زهير : ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه ، فسألت : ما قال؟ فقال : اعملوا فكل ميسر» (٢٤٠). رواه مسلم. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» (٢٤١) ، خرجاه في «الصحيحين» وزاد البخاري : «وإنما الأعمال بالخواتيم». وفي «الصحيحين» أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ

__________________

(٢٣٩) متفق عليه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (١٧١).

(٢٤٠) أخرجه مسلم في «القدر» (٨ / ٤٨) وأحمد أيضا (٣ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣) وصححه ابن حبان (١٨٠٨ و ١٨٠٩).

(٢٤١) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٢١٦)

.

فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (٢٤٢). والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وكذلك الآثار عن السلف. قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» : قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب ، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه ، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها ، وبالله العصمة والتوفيق.

وقوله : (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه ، لم يطلع على ذلك ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسلّم الحرمان ، ودرجة الطغيان ، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة ، فان الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه ، كما قال تعالى في كتابه : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الأنبياء : ٢٣. فمن سأل : لم فعل؟ فقد ردّ حكم الكتاب ، ومن رد حكم الكتاب ، كان من الكافرين).

ش : أصل القدر سر الله في خلقه ، وهو كونه أوجد وأفنى ، وأفقر وأغنى ، وأمات وأحيا ، وأضل وهدى. قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه : القدر سر الله فلا نكشفه. والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور.

والذي عليه أهل السنة والجماعة : أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) القمر : ٤٩. وقال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ، ولا يرضاه ولا يحبه ، فيشاؤه كونا ، ولا يرضاه دينا.

وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة ، وزعموا : أن الله شاء الإيمان من الكافر ، ولكنّ الكافر شاء الكفر ، فردوا الى هذا لئلا يقولوا : شاء الكفر من الكافر وعذّبه عليه! ولكن صاروا : كالمستجير من الرمضاء بالنار!. (٢٤٢١) فإنهم هربوا من شياء

__________________

(٢٤٢) متفق عليه ، وهو مخرج أيضا في «الظلال» (١٧٥ و ١٧٦).

(٢٤٢١) صدر البيت : المستجير بعمر عند كربته ..

فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى ، فإن الله قد شاء الإيمان منه ـ على قولهم ـ والكافر شاء الكفر ، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى!! وهذا من أقبح الاعتقاد ، وهو قول لا دليل عليه ، بل هو مخالف للدليل.

روى اللالكائي ، من حديث بقية عن الأوزاعي ، حدثنا العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد المكي : عن ابن عباس قال : قيل لابن عباس : إن رجلا قدم علينا يكذّب بالقدر ، فقال : دلوني عليه ، وهو يومئذ قد عمي ، فقالوا له : ما تصنع به؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لئن استمكنت منه لأعضّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنّها ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كأني بنساء بني فهر (٢٤٣) يطفن بالخرزج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك في الإسلام ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير ، كما أخرجوه من أن يقدّر الشر» (٢٤٤). قوله : وهذا أول شرك في الإسلام. الى آخره ، من كلام ابن عباس. وهذا يوافق قوله : «القدر نظام التوحيد ، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده» (٢٤٥). وروى عمرو بن الهيثم قال : خرجنا في سفينة ، وصحبنا فيها قدري ومجوسي ، فقال القدري للمجوسي : أسلم ، قال المجوسي : حتى يريد الله فقال القدري : إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان ، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي!! وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما!!. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد ، فقال : يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردّها علي ،

__________________

(٢٤٣) بالفاء وهم بطن من قيس غيلان كما في «الانساب «للسمعاني.

(٢٤٤) ضعيف ، وعلته العلاء بن الحجاج ، فانه في عداد المجهولين ، ولم يوثقه أحد ، حتى ولا ابن حبان! بل ضعفه الأزدي ، كما قال الذهبي ، وتضعيفه وإن كان مغموزا فيه ، فهو معتبر هاهنا لأنه لم يخالف بذلك توثيق احد ، ولذلك فان تحسين الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله تعالى لمثل هذا اسناد من تساهله الذي عرف به عند أهل العلم بهذا الشأن. وقد اخرجه ابن ابي عاصم في «السنة» (٧٩).

(٢٤٥) ضعيف موقوفا ومرفوعا ، أما الموقوف فرواه اللالكائي في «شرح السنة» (١ / ١٤٢ / ١ ، ٦ / ٢٦٢ / ٢) وفيه من لم يسم ، وأما المرفوع ، فرواه بنحوه الطبراني في «الأوسط» وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٤٠٧٢).

فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت ، فارددها عليه! فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك! قال : ولم؟ قال : أخاف ـ كما أراد أن لا تسرق فسرقت ـ أن يريد ردّها فلا ترد!!. وقال رجل لأبي عصام القسطلاني (٢٤٦). أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذّبني ، أيكون منصفا؟ فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئا هو له فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.

وأما الأدلة من الكتاب والسنة : فقد قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) السجدة ١٣. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس : ٩٩. وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) التكوير : ٢٩. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الدهر : ٣٠. وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩. وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥.

ومنشأ الضلال : من التسوية بين : المشيئة ، والإرادة ، وبين : المحبة ، والرضى ، فسوّى الجبرية والقدرية ، ثم اختلفوا ، فقالت الجبرية : الكون كله بقضائه وقدره ، فيكون محبوبا مرضيا. وقالت القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له ، فليست مقدّرة ولا مقضية ، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه. وقد دل

__________________

(٢٤٦) دخل عبد الجبار الهمداني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد وعنده أبو إسحاق الأسفراييني ـ أحد ائمة السنة ـ فلما رأى الاستاذ قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال الاستاذ فورا : سبحان من لا يقع في ملكه الا ما يشاء ، فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يعصى؟ قال الاستاذ : أيعصى ربنا قهرا؟ فقال القاضي : أرأيت ان منعني الهدى وقضى عليّ بالرديء أحسن الي أم أساء؟ فقال الاستاذ : ان منعك ما هو لك فقد اساء وان منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي عبد الجبار. وفي «تاريخ الطبري» (٨ / ١٢٥) ان غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه : أشاء الله أن يعصي؟ فقال له ميمون : أفعصي كارها.

على الفرق بين : المشيئة ، والمحبة. الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة. أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب ، فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضى ، فقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) البقرة : ٢٠٥. (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) الزمر : ٧. وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر : : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) الاسراء : ٣٨. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» (٢٤٧). وفي «المسند» : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته (٢٤٨). وكان من دعائه : «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (٢٤٩). فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول : الصفة ، والثاني : أثرها المرتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وان شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي ، هي بمشيئتك أيضا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ، فعياذي بك منك ، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك ، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية ، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته.

فإن قيل : كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا ، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره.

__________________

(٢٤٧) صحيح متفق عليه ، البخاري في «الاستقراض» ومسلم في «الأقضية».

(٢٤٨) صحيح ، رواه احمد وغيره بسند صحيح. وهو مخرج في «إرواء الغليل» (٥٦٤).

(٢٤٩) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٢) وهو مخرج في صحيح ابي داود (٨٢٣).

فالمراد لنفسه ، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره ، قد لا يكون مقصودا لما يريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة الى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث قضاؤه وايصاله الى مراده. فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وارادته. ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه ، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتأكل ، اذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، اذا علم أنها توصل الى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وان خفيت عنه عاقبته ، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية. فهو سبحانه يكره الشيء ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره ، وكونه سببا الى أمر هو أحبّ إليه من فوقه. من ذلك : أنه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات ، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد ، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه تبارك وتعالى (٢٥٠) وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحبّ إليه من عدمها. منها : أنه يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذا الذات ، التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي سبب كل شر ، في مقابلة ذات جبرائيل ، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والدواء والداء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح والخير والشر. وذلك أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابلها بعضها ببعض ، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره. فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه. ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل : القهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والسريع العقاب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل. فإن هذه

__________________

(٢٥٠) قال عفيفي : انظر «مدارج السالكين» ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٥ طبع السنة المحمدية.

انظر كتاب «مشاهد الخلق في المعصية» للامام ابن القيم. تحقيق الاستاذ نذير عتمة. طبع المكتب الاسلامي.

الأسماء والأفعال كمال ، لا بد من وجود متعلّقها ، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية الى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هذا بقوله : «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم» (٢٥١). ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته. فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ، واعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس والمطر والرياح (٢٥٢) ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر. ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لو لا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحبّ أنواع العبودية إليه سبحانه. ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لله سبحانه [وتعالى] والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محابّ الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.

فإن قيل : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟

__________________

(٢٥١) اخرجه مسلم (٨ / ٩٤) عن ابي هريرة ، وابي أيوب نحوه ، وهما مخرجان في «الصحيحة» (٩٦٨ و ٩٦٩) ، وله فيه شواهد (٩٦٧ و ٩٧٠).

(٢٥٢) قال عفيفي : انظر هذا الاعتراض وتفصيل جوابه في ص ١٩٣ / ١٩٨ من «مدارج السالكين» و ٢٨٢ / ٢٨٣ من كتاب «الداء والدواء» والمسمى «الجواب الكافي» للإمام ابن القيم ، فإنه وفي هذا المقام حقه

.

فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن. بدون الأب. والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب.

فإن قيل : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم ، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه ، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب تعالى ، وهل يكون محبّا لها من جهة إفضالها إلى محبوبه ، وان كان يبغضها لذاتها؟ والثاني : من جهة العبد ، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا؟ فهذا سؤال له شأن.

فاعلم أن الشر كله يرجع الى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه. مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به ، وإن تركت تحركت بطبعها الى خلافه. وحركتها من حيث هي حركة : خير ، وإنما تكون شرّا بالإضافة ، لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم ، وهو وضع الشيء في غير محله ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا ، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية. ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها ، وإن كانت شرّا بالنسبة الى المحل الذي حلّت به ، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرّا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة الى الفاعل حيث وضعه في موضعه ، فإنه سبحانه لم يخلق شرّا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك. فلا يكون في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه ، لا مصلحة في خلفه بوجه ما ، هذا من أبين المحال ، فإنه سبحانه الخير كله بيديه ، والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرّا ، فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو (٢٥٣) الذي صيره شرّا.

فإن قيل : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ قيل : هو من هذه الجهة ليس

__________________

(٢٥٣) في أصل مخطوطتنا : هذا. وله وجهه غير أن هذا اوضح.

بشرّ ، فإن وجوده هو المنسوب إليه ، وهو من هذه الجهة ليس بشرّ ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء ، حتى ينسب الى من بيده الخير.

فإن أردت مزيد إيضاح لذلك ، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والامداد. فإيجاد هذا خير ، وهو الى الله ، وكذلك إعداده وإمداده ، فإن لم يحدث فيه اعداد ولا امداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس الى الفاعل ، وإنما إليه ضده.

فإن قيل : هلّا أمده إذا أوجده؟ قيل : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده ، وإنما اقتضت إيجاده وترك امداده. فإيجاده خير ، والشر وقع من عدم إمداده.

فإن قيل : فهلّا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد ، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت ، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق ، وإلا فليس في الخلق من تفاوت. فإن اعتاص عليك هذا ، ولم تفهمه حق الفهم ، فراجع قول القائل :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (٢٥٣١)

فإن قيل : كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل : لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة (٢٥٤) التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ..) التوبة : ٤٦ ـ الآيتين. فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله ، وهو طاعة ، فلما كرهه منهم ثبّطهم عنه ، ثم ذكر

__________________

(٢٥٤) قال عفيفي : ارجع في الاعتراضات والأجوبة التي ذكرها الشارح من هذا الموضع الى قول المصنف في ص ٢٠٦ وللتعمق والنظر في ذلك الى ٢ / ١٩٨ من «المدارج».

(٢٥٣١) هو منسوب الى الشاعر عمرو بن معد يكرب.

سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله ، فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) التوبة : ٤٧ ، أي فسادا وشرّا ، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي سعوا بينكم بالفساد والشرّ ، (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي قابلون منهم (٢٥٥) مستجيبون لهم ، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشرّ ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلا ، وقس عليه.

وأما الوجه الثاني ، وهو الذي من جهة العبد : فهو أيضا ممكن ، بل واقع. فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها ، من حيث هي فعل العبد ، واقعة بكسبه وإرادته واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئته وإرادته وأمره الكوني ، فيرضى بما منّ الله ويسخط ما هو منه. فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان. وطائفة أخرى كرهتها مطلقا ، وقولهم يرجع إلى هذا القول ، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابه (٢٥٦) ومشيئته. وسر المسألة : أن الذي الى الرب منها غير مكروه ، والذي إلى العبد مكروه.

فإن قيل : ليس إلى العبد شيء منها. قيل : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق ، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري. وأهل السّنة ، المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.

فإن قيل : كيف يتأتّى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ، ومع شهود القيّومية والمشيئة النافذة؟ قيل : هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على غير ما هو عليه ، فرأى تلك الأفعال طاعات ، لموافقته فيها المشيئة والقدر ، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! [و] في ذلك قيل :

أصبحت منفعلا لما يختاره

منّي ، ففعلي كله طاعات!

وهؤلاء أعمى الخلق بصائر ، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية ، فإن الطاعة

__________________

(٢٥٥) في الاصل : قائلون معهم ، وهو غير سديد.

(٢٥٦) في الاصل : وكتابته.

هي موافقة الأمر الديني الشرعي ، لا موافقة القدر والمشيئة ، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون ـ كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل ، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ، ونفوذ الأقدار فيه ، وكمال فقره إلى ربه ، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين : كان بالله في هذه الحال لا بنفسه ، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة ، فإنّ عليه حصنا حصينا ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال ، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه ، استولى عليه حكم النفس ، فهنالك نصبت عليه الشباك والإشراك ، وأرسلت عليه الصيادون ، فاذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي ، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة ، فإنه كان في المعصية محجوبا بنفسه عن ربه ، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر ، فبقي بربه لا بنفسه.

فإن قيل : إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله ، فكيف ننكره ونكرهه؟!

فالجواب : أن يقال أولا : نحن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدّره ، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، بل من المقضيّ ما يرضى به ، ومنه ما يسخط ويمقت ، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه ، بل من القضاء ما يسخط ، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.

ويقال ثانيا : هنا أمران : قضاء الله ، وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومفضي : وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ، نرضى به كله. والمقضي قسمان : منه ما يرضى به ، ومنه ما لا يرضى به.

ويقال ثالثا : القضاء له وجهان : أحدهما : تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به. والوجه الثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به والى ما لا يرضى به. مثال ذلك : قتل النفس ، له اعتباران : فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره ـ يرضى به ، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله ـ نسخطه ولا نرضى به.

وقوله : والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. آخره ـ التعمق : هو المبالغة في طلب الشيء. والمعنى : أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان. الذريعة : الوسيلة. والذريعة والدرجة والسلم ـ متقاربة المعنى ، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقاربة المعنى أيضا. لكن الخذلان في مقابلة الظفر. والطغيان في مقابلة الاستقامة.

وقوله : فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاء ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال : «وقد وجدتموه؟ قالوا : نعم ، قال : ذلك صريح الإيمان» (٢٥٧). رواه مسلم ، الإشارة بقوله : «ذلك صريح الإيمان» إلى تعاظم أن يتكلموا به. ولمسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوسوسة؟ فقال : «تلك محض الإيمان» (٢٥٨). فهو بمعنى حديث أبي هريرة ، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين ، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان. هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثم خلف من بعدهم خلف ، سوّدوا الأوراق بتلك الوساوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل سوّدوا الاوراق بتلك الوساوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل وسوّدوا القلوب ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ولذلك أطنب الشيخ رحمه‌الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الرجال الى الله الألد الخصم» (٢٥٩). وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود ابن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر ، قال (٢٦٠) : فكأنما تفقّأ في وجهه حبّ الرّمان من الغضب ،

__________________

(٢٥٧) اخرجه مسلم (١ / ٨٣) وكذا احمد (٢ / ٤٥٦).

(٢٥٨) رواه مسلم عنه ، وأحمد (٦ / ١٠٦) من حديث عائشة.

(٢٥٩) متفق عليه.

(٢٦٠) القائل هو المشاهد لغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما سمعهم يخوضوا في بحث القدر ، لما في الخوض به من مخالفة لما شرعه الله سبحانه.

قال : فقال لهم : «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم». قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده ، بما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أنّي لم أشهده (٢٦١). ورواه ابن ماجه أيضا. وقال تعالى : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) التوبة : ٦٩ ، الخلاق : النصيب ، قال تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) البقرة : ٢٠٠ ، أي استمتعتم بنصيبكم كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم وخضتم كالذي خاضوا ، أي كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد ، فالأول من جهة الشهوات ، والثاني من جهة الشبهات. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قلبها شبرا بشبر ، وذراعا بذراع» ، قالوا : فارس والروم؟ قال : «فمن الناس إلا أولئك» (٢٦٢). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني اسرائيل تفرّقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملّة واحدة» قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢٦٣). رواه الترمذي : وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت [اليهود] على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٢٦٤). رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح.

__________________

(٢٦١) صحيح. رواه أحمد وغيره بسند جيد.

(٢٦٢) اخرجه البخاري في «الاعتصام» وكذا احمد (٢ / ٣٢٥ ، ٣٦٧)

(٢٦٣) ضعيف بهذا السياق ، وقد حسنه الترمذي في بعض النسخ ، وهو ممكن باعتبار شواهده ، ولذلك أوردته في «صحيح الجامع» (٥٢١٩) ، «الصحيحة» (١٣٤٨).

(٢٦٤) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٢٠٣).

وعن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة» (٢٦٥). يعني : الأهواء ، كلها (٢٦٦) في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة.

وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة : مسألة القدر. وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع.

وقوله : فمن سأل : لم فعل؟ فقد ردّ حكم الكتاب ، ومن ردّ حكم الكتاب كان من الكافرين.

اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله ـ على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبيّ صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به ، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها ، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها ، بل انقادت وسلمت وأذعنت ، وما عرفت من الحكمة عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته ، ولا جعلت ذلك من شأنها ، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك ، كما في الإنجيل : «يا بني اسرائيل لا تقولوا : لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا : بم أمر ربنا» ، ولهذا كان سلف هذه الأمة ، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما ـ لا تسأل نبيها : لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدّر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضادّ للإيمان والاستسلام ، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم. فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به ، ثم العزم الجازم على امتثاله ، ثم المسارعة إليه والمبادرة به ، والحذر عن القواطع والموانع ، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ، ثم فعله لكونه مأمورا ، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته ـ فإن ظهرت له

__________________

(٢٦٥) صحيح ، ومخرج في المصدر المذكور (٢٠٤).

(٢٦٦) في الاصل : كلّهم

.

فعله وإلا عطّله ، فإن هذا ينافي الانقياد ، ويقدح في الامتثال. قال القرطبي ناقلا عن ابن عبد البر : فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه : فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال. ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم ، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره. قال ابن العربي (٢٦٧) : الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة ، وإيضاح سبل النظرة ، وتحصيل مقدمات الاجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد. قال : فإذا عرضت نازلة ، أتيت من بابها ، ونشدت من مظانها ، والله يفتح وجه الصواب فيها. انتهى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٢٦٨). رواه الترمذي وغيره. ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب ، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له ، بين له الصواب ليرجع إليه ، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل ، لكمال حكمته ورحمته وعدله ، لا لمجرّد قهره وقدرته ، كما يقول جهم وأتباعه. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.

قوله : (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوّر قلبه من أولياء الله تعالى ، وهي درجة الراسخين في العلم ، لأن العلم علمان : علم في الخلق موجود ، وعلم في الخلق مفقود ، فانكار العلم الموجود كفر ، وادعاء العلم المفقود كفر ، ولا يثبت الايمان الا بقبول العلم الموجود ، وترك طلب العلم المفقود).

ش : الإشارة بقوله : فهذا. الى ما تقدم ذكره ، مما يجب اعتقاده والعمل به ، مما جاءت به الشريعة. وقوله : وهي درجة الراسخين في العلم. أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلا ، نفيا وإثباتا. ويعني بالعلم المفقود : علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه. ويعني بالعلم الموجود : علم الشريعة ، أصولها وفروعها ، فمن أنكر شيئا مما جاء به الرسول كان من الكافرين ، ومن ادعى

__________________

(٢٦٧) هو الإمام محمد بن عبد الله المعافري الاشبيلي من حفاظ الحديث المتوفى ٥٤٣ ه‍. وهو غير محمد بن علي الحاتمي الصوفي صاحب «وحدة الوجود» المتوفى ٦٣٨ ه‍.

(٢٦٨) صحيح روي عن جمع من الصحابة ، خرجته في «الروض النضير» (٢٩٣ ، ٣٢١).

علم الغيب كان من الكافرين. قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الجنّ : ٢٦ ـ ٢٧ ، الآية. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان : ٣٤. ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها ، ولا من جهلنا انتفاء حكمته (٢٦٩). ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيّات والعقارب والفأر والحشرات ، التي لا يعلم منها إلا المضرة : لم ينف أن يكون الله تعالى خالقا لها ، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا ، لأن عدم العلم لا يكون علما بالمعدوم.

قوله : (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم).

ش : قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج : ٢١ ـ ٢٢. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق لوحا محفوظا ، من درة بيضاء ، صفحاتها ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، وعرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاؤه» (٢٧٠). اللوح المذكور هو الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه ، والقلم

__________________

(٢٦٩) في الاصل : ولا انتفاؤها جهلنا حكمته.

(٢٧٠) ضعيف ، رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (٣ / ١٦٥ / ١) ، وفيه زياد بن عبد الله وهو البكائي عن ليث وهو ابن أبي سليم وكلاهما ضعيف ، وقد رواه (٣ / ٨٨ / ٢) من طريق أخرى نحوه عن ابن عباس موقوفا عليه ، واسناده يحتمل التحسين ، فان رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب وهو الكوفي قال فيه أبو حاتم : «شيخ» ، وذكره ابن حبان في «الثقات» (٢ / ٣٢).

(تنبيه) : كان الحديث محرفا في مطبوعة أحمد شاكر ، وكان هو صححه من «مجمع الزوائد» الذي أورد الحديث عن ابن عباس موقوفا ، وصححناه نحن من حديثه المرفوع من «المعجم» وهو الصواب ، لأن المؤلف ساقه من الطريق المرفوعة ، فلا يصح تصحيح ما وقع فيه من التحريف من الطريق الموقوفة ، كما لا يخفى ، لاختلاف لفظيهما ، كما أشرت الى ذلك بقولي : «نحوه».

المذكور هو الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المذكور المقادير ، كما في «سنن أبي داود» ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «[إن] أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما [ذا] اكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» (٢٧١).

__________________

(٢٧١) صحيح ، غير أنني متوقف في صحة الحرف الذي استدل به المؤلف وهو «فقال» ، فقد جاء في بعض الروايات بلفظ : «ثم قال» ، فأخرجه ابو داود (٤٧٠٠) من طريق أبي حفصة قال : قال عبادة بن الصامت فذكره بلفظ «فقال ...»

قلت : وأبو حفصة اسمه حبيش بن شريح الشامي لم يوثقه غير ابن حبان ، وفي «التقريب» : «مقبول» يعني عند المتابعة ، والا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ، وقد توبع ، لكن الطريق الى المتابع لا يصح ، فقال الطيالسي : (٥٧٧) : حدثنا عبد الواحد بن سليم عن عطاء ابن أبي رباح ، حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه به .. ومن طريق الطيالسي رواه الترمذي (٢ / ٢٣٢) وقال : «حديث حسن غريب ، وفيه عن ابن عباس».

قلت : وعبد الواحد هذا ضعيف كما في «التقريب».

وقد خالفه أيوب بن زياد فقال : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثني أبي به ، لكنه قال : «ثم قال : اكتب ...»

وهذا أخرجه أحمد (٥ / ٣١٧) وسنده حسن ، رجاله كلهم ثقات معروفون ، غير زياد هذا ، وقد روى عنه جماعة ، ووثقه ابن حبان ، فهو حسن الحديث ان شاء الله تعالى ، لكن قد أخرجه الآجري في «كتاب الشريعة» (ص ١٧٧) من طريقه بلفظ «فقال له : اجر ..».

ورواه يزيد ابن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة به بلفظ : «ثم قال له : اكتب».

ورجاله ثقات غير ابن لهيعة فإنه سيئ الحفظ.

ويشهد له حديث أبي هريرة بلفظ : «ان اوّل شيء خلق الله عزوجل القلم ، ثم خلق النون وهي الدواة ، ثم قال : اكتب ...» الحديث.

رواه الآجري والواحدي في تفسيره (٤ / ١٥٧ / ٢) وفيه الحسن بن يحيى الخشني مختلف فيه ، وفي «التقريب» «صدوق كثير الغلط».

وبالجملة ، فالروايات في هذا الحرف مختلفة ، ولذلك فانه لا يتم للمصنف الاستدلال بالرواية الأولى على تقدم خلق العرش على القلم ، حتى يثبت أرجحيتها على الأخرى : «ثم قال ..» ،

واختلف العلماء : هل القلم أول المخلوقات ، أو العرش؟ على قولين ، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني ، أصحهما : أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، [قال] : وعرشه على الماء» (٢٧٢). فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم ، بحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله : «أول ما خلق الله القلم» ، إلخ ـ إما أن يكون جملة أو جملتين. فإن كان جملة ، وهو الصحيح ، كان معناه : أنه عند أول خلقه قال له : «اكتب» ، [كما في اللفظ : «أول ما خلق الله القلم قال له : اكتب]» بنصب «أول» و «القلم» ، وإن كان جملتين ، وهو مروي برفع «أول» و «القلم» ، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ، فيتفق الحديثان ، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر : «لما خلق الله القلم قال له : اكتب» ، فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها. وقد قال غير واحد من أهل التفسير : إنه القلم الذي أقسم الله به في قوله تعالى : (ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) القلم : ١ ، ٢. والقلم الثاني : قلم الوحي : وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله ، وأصحاب هذا القلم هم : الحكّام على العالم. والأقلام كلها خدم لأقلامهم. وقد رفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه

__________________

واذا كان لا بد من الترجيح بينهما ، فالأخرى أرجح من الاولى لاتفاق اكثر الرواة عليها ، ولأن لها شاهدا عن أبي هريرة كما تقدم ، ولانها تتضمن زيادة في المعنى ، وعليه فلا تعارض بين الحديث على هذه الرواية وبين حديث عبد الله بن عمرو ، لأن حديثه صريح في أن الكتابة تأخرت عن خلق العرش ، والحديث على الرواية الراجحة صريح في أن القلم أول مخلوق ، ثم أمر بأن يكتب كل شيء يكون ، ومنه العرش ، فالارجح عندي أن القلم متقدم على العرش. والله أعلم.

وفي الحديث اشارة لطيفة الى الرد على من يقول من العلماء : بحوادث لا أول لها ، وانه ما من مخلوق الا وهو مسبوق بمخلوق وهكذا الى ما لا أول له! فتأمل. وراجع لهذا «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (رقم ١٣٣).

(٢٧٢) صحيح وتقدم (برقم ٨٠).

صريف الأقلام ، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبرها ، أمر العالم العلوي والسفلي.

قوله : (فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ، ليجعلوه غير كائن ـ لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ، ليجعلوه كائنا ـ لم يقدروا عليه. جفّ القلم بما هو كائن الى يوم القيامة).

ش : تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، فيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما استقبل؟ قال : «لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» (٢٧٣). وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فقال : يا غلام ألا أعلمك كلمات : «احفظ الله بحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله ، واذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف» (٢٧٤). رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي : «احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا».

وقد جاءت «الأقلام» في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة ، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاما غير القلم الأول ، الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.

والذي دلت عليه السّنة أن الأقلام أربعة ، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدّم ذكره :

__________________

(٢٧٣) صحيح وتقدم (برقم ٢٤٠).

(٢٧٤) صحيح لغيره وقد خرجته في «السنة» لابن أبي عاصم (٣١٦ ـ ٣١٨).

القلم الأول : العام الشامل لجميع المخلوقات ، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.

القلم الثاني : خبر (٢٧٥) خلق آدم ، وهو قلم عام أيضا ، لكن لبني آدم ، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم ، عقيب خلق أبيهم.

القلم الثالث : حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد (٢٧٦). كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.

القلم الرابع : الموضوع على العبد عند بلوغه ، الذي بأيدي الكرام الكاتبين ، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم ، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة.

واذا علم العبد أن كلّا من عند الله ، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى. قال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة : ٤٤. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة : ٤٠. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة : ٤١. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) النور : ٥٢. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثّر : ٥٦.

ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة. ولا بد لكل عبد أن يتقي أشياء ، فإنه لا يعيش وحده ، ولو كان ملكا مطاعا فلا بد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته. فحينئذ فلا بد لكل إنسان أن يتقي ، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق ، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم ، بل الذي يريده هذا يبغضه هذا ، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : رضى الناس غاية لا تدرك ، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه ، ودع ما سواه فلا تعانه. فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور ، وإرضاء الخالق مقدور (٢٧٧) ومأمور. [و] أيضا فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئا ، فإذا اتقى العبد ربّه كفاه مئونة الناس. كما كتبت عائشة الى معاوية ، روي

__________________

(٢٧٥) في الأصل : حين.

(٢٧٦) متفق عليه من حديث ابن مسعود ، وقد مضى بتمامه (برقم ٢٤٢).

(٢٧٧) في الأصل : فمقدور.

مرفوعا ، وروي موقوفا عليها : من أرضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله ، عاد حامده من الناس [له] ذامّا (٢٧٨).

__________________

(٢٧٨) صحيح ، رواه الترمذي (٢ / ٦٧) من طريق عبد الوهاب بن الورد عن رجل من أهل المدينة قال : كتب معاوية الى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن اكتبي لي كتابا وصيني فيه ، ولا تكثري علي ، فكتبت عائشة رضي الله عنها الى معاوية : سلام عليك أما بعد فاني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من التمس رضى الله بسخط الناس ، كفاه الله مئونة الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ، وكله الله الى الناس ، والسلام عليك». ثم رواه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة انها كتبت الى معاوية فذكر الحديث بمعناه ، ولم يرفعه.

قلت : والمرفوع اسناده ضعيف لجهالة الرجل الذي لم يسم.

واما الموقوف فسنده صحيح رجاله كلهم ثقات.

ورواه عثمان بن واقد عن أبيه عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير به مرفوعا بلفظ :

«من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه ، واسخط عليه الناس».

رواه القضاعي في «مسند الشهاب» (ق ٤٢ / ٢) ومشرق بن عبد الله في «حديثه» (ق ٦١ / ٢) وابن عساكر (١٥ / ٢٧٨ / ١).

قلت : وهذا سند حسن ، رجاله كلهم ثقات معروفون ، وفي عثمان ابن واقد كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن ، وفي «التقريب» : «صدوق ربما وهم».

وروى بعضه ابن بشران في «الأمالي» (١٤٤ / ١٤٥) وابن الاعرابي في «معجمه» (٨٢ / ١) وابو القاسم المهراني في «الفوائد المنتخبة» (٣ / ٢٣ / ١) وابن شاذان الأزجي في «الفوائد المنتقاة» (١ / ١١٨ / ٢) و «القضاعي» (٤٢ / ٢) عن قطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي حدثنا أبي عن هشام بن عروة به بلفظ :

«من طلب محامد الناس بمعصية الله عاد حامده ذاما».

وقال المهراني :

«حديث غريب ، لا أعلم رواه عن هشام غير العلاء بن المنهال».

وروي عنه بلفظ :

«من التمس محامد الناس بمعاصي الله تعالى عاد حامده من الناس ذاما له».

رواه الخرائطي في «مساوئ الاخلاق» (٢ / ٥ / ٢) والعقيلي في «الضعفاء» (٣٢٥) وابن عدي في «الكامل» (ق ٢٧٢ / ٢) وأبو الحسن ابن الصلت في حديث ابن عبد العزيز الهاشمي

فمن أرضى الله كفاه مئونة الناس ورضي عنه ، ثم فيما بعد يرضون ، إذ العاقبة للتقوى ، ويحبه الله فيحبه الناس. كما في «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اذا أحب الله العبد نادى : يا جبرائيل ، إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبرائيل ، ثم ينادي جبرائيل في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض» (٢٧٩) ، وقال في البغض مثل ذلك. فقد بين أنه لا بد لكل مخلوق من أن يتقي إما المخلوق ، واما الخالق. وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة ، وتقوى الله هي التي يحصل بها (٢٨٠) سعادة الدنيا والآخرة ، فهو سبحانه أهل التقوى ، وهو أيضا أهل المغفرة ، فإنه هو الذي يغفر الذنوب ، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه. قال بعض السلف : ما احتاج تقي قط ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٢ ـ ٣ ، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجا مما يضيق على الناس ، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا ، فليست نفر الله وليتب إليه ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق : ٣ ، أي فهو كافيه ، لا يحوجه الى غيره.

__________________

(ق ٧٦ / ١) وقال العقيلي : «العلاء بن المنهال لا يتابع عليه ، ولا يعرف الا به».

وقال ابن عدي : «وليس القوي».

قلت : وأما ابن حبان فذكره في «الثقات»!

ثم قال العقيلي :

«ولا يصح في الباب مسند ، وهو موقوف من قول عائشة».

قلت : الصواب عندي : أن الحديث صحيح موقوفا ومرفوعا ، أما الموقوف فظاهر الصحة ، وأما المرفوع ، فلأنه جاء من طريق حسنة عن عثمان بن واقد كما تقدم ، فإذا انضم إليه طريق الترمذي ارتقى الحديث ان شاء الله الى درجة الصحة.

(٢٧٩) متفق عليه عن ابي هريرة ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٢٢٠٧) تحت حديث آخر عن انس مخالف لهذا في اللفظ.

(٢٨٠) في الأصل : لها.

وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب ، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة الى الأسباب! وهذا فاسد ، فإن الاكتساب : منه فرض ، ومنه مستحبّ ، ومنه مباح ، ومنه مكروه ، ومنه حرام ، كما قد عرف في موضعه. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل المتوكلين ، يلبس لأمة الحرب ، ويمشي في الأسواق للاكتساب ، حتى قال الكافرون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان : ٧. ولهذا تجد كثيرا ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم ، إما صدقة ، واما هدية ، وقد يكون [ذلك] من مكّاس ، أو والي شرطة ، أو نحو ذلك ، وهذا مبسوط في موضعه ، لا يسعه هذا المختصر. وقد تقدمت الإشارة الى بعض الأقوال التي في [تفسير] قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد : ٣٩. وأما قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرحمن : ٢٩ ـ فقال البغوي. قال مقاتل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت! قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قوما ويذل آخرين ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ، ويفرج مكروبا ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ، ويغفر ذنبا ، الى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء.

قوله : (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه).

ش : هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة ، ولقد أحسن القائل حيث يقول :

ما قضى الله كائن لا محاله

والشقي الجهول من لام حاله

والقائل الآخر :

اقنع بما ترزق يا ذا الفتى

فليس ينسى ربّنا نمله

إن أقبل الدهر فقم قائما

وان تولى مدبرا نم له

قوله : (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ، ليس فيه ناقض ، ولا معقّب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه).

ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء» (٢٨١). فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة [فكانت كما علم]. فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصوّر إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها. قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك : ١٤. وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد [حتى يفعلوا]! تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقرّوا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا. فإن الله [تعالى] يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.

وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم اذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع. ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغيّر العلم ، [بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع.

وإذا قيل : فمن عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم]؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، [فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم

__________________

(٢٨١) صحيح ، وتقدم بالحديث (رقم ٨٠).

إلا وقوعه. وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه! وهو فرض محال. وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه]! وهو جمع بين النقيضين.

فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب [عدم] وقوعه محالا لم يكن مقدورا؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن اذا وقع كان الله عالما بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالما بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه. وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال! مما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادرا على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدّره من أفعال عباده. والله تعالى أعلم.

قوله : (وذلك من عقد (٢٨٢) الايمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته ، كما قال تعالى في كتابه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. وقال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الاحزاب : ٣٨).

ش : الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جواب السائل عن الإيمان : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» (٢٨٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر الحديث : «يا عمر أتدري من السائل؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبرائيل ، أتاكم يعلمكم دينكم». رواه مسلم.

وقوله : والاقرار بتوحيد الله وربوبيته ، أي لا يتم التوحيد والاقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى ، فإن من زعم خالقا غير الله فقد أشرك ، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة ، وأحاديثهم في «السنن». وروى أبو داود عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «القدرية

__________________

(٢٨٢) في الأصل : عقائد.

(٢٨٣) صحيح ، رواه مسلم عن عمر ، والبخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة نحوه.

مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (٢٨٤). وروى أبو داود أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ، ومن مرض منهم فلا تعودوهم ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال» (٢٨٥). وروى أبو داود أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» (٢٨٦). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صنفان من بني آدم ليس لهم في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية» (٢٨٧). لكن كل أحاديث القدرية المروعة ضعيفة. وإنما يصح الموقوف منها : فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : القدر نظام التوحيد ، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده» (٢٨٨). وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الايمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به وكتابة مقادير الخلائق. وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ، ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك ، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر. وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة ، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد ، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.

والقدر ، الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه ، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع : هو ما قدّره الله من مقادير العباد. وعامة ما

__________________

(٢٨٤) اسناده ضعيف لكن له طرق يتقوى بها. ثم خرجته في «ظلال الجنة في تخريج السنة» برقم (٣٣٨ ـ ٣٤٢).

(٢٨٥) اسناده ضعيف. وقد خرجته في المصدر المذكور برقم (٣٢٩).

(٢٨٦) اسناده ضعيف ، وهو مخرج في «المشكاة» (١٠٨) و «الظلال» (٣٣٠).

(٢٨٧) اسناده ضعيف ولا يغتر بتصحيح صاحب «التاج الجامع للأصول» اياه. ثم خرجته في «تخريج السنة» (٣٤٤ ، ٣٤٥).

(٢٨٨) ضعيف موقوفا ومرفوعا كما سبق بيانه (رقم ٢٤٥).

يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء ، كقول ابن عمر رضي الله عنهما ، لما قيل له : يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف : أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء.

والقدر ، الذي هو التقدير المطابق للعلم : يتضمن أصولا عظيمة : أحدها : أنه عالم بالأمور المقدّرة قبل كونها ، فيثبت علمه القديم ، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم. الثاني : أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها ، فإن الله قد جعل لكل شيء قدرا ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. فالخلق يتضمن التقدير ، تقدير الشيء في نفسه ، بأن يجعل له قدرا ، وتقديره قبل وجوده. فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته ، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعيّنة ، خلافا لمن أنكر ذلك وقال : إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات. الثالث : أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخبارا مفصلا ، فيقضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علما مفصلا ، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم ، فإنه كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟! الرابع : أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله ، محدث له بمشيئته وإرادته ، ليس لازما لذاته. الخامس : أنه يدل على حدوث هذا المقدور ، وأنه كان بعد أن لم يكن ، فإنه يقدّره ثم يخلقه.

قوله : (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما ، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما ، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيما ، وعاد بما قال فيه أفّاكا أثيما).

ش : [اعلم أن] القلب له حياة وموت ، ومرض وشفاء ، وذلك أعظم مما للبدن. قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) الانعام : ١٢٢. أي كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان. فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها ، بخلاف القلب الميت ، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «هلك من لم يكن له قلب

يعرف به المعروف والمنكر» (٢٨٩). وكذلك القلب المريض بالشهوة ، فإنه لضعفه يميل الى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه.

ومرض القلب نوعان ، كما تقدم : مرض شهوة ، ومرض شبهة ، وأردؤها مرض الشبهة ، وأردأ الشّبه ما كان من أمر القدر. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر (٢٩٠) به صاحبه ، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة. فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، وتألم بأهله بالحقّ بحسب حياته.* ما لجرح بميت إيلام* وقد يشعر بمرضه ، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها ، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى ، وذلك أصعب شيء على النفس ، وليس له أنفع منه ، وتارة يوطن نفسه على الصبر ، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه ، لضعف علمه وبصيرته وصبره ، كمن دخل في طريق مخوف مفض الى غاية الأمن ، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى في الخوف وأعقبه الأمن ، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق ، وهي التي أهلكتهم. فالصابر (٢٩١) الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده ، إذا استشعر قلبه مرافقة الرّعيل الأول ، (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء : ٦٩.

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ـ في كتاب «الحوادث والبدع» ـ : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد لزوم الحق واتباعه ، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا ، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلى كثرة

__________________

(٢٨٩) لا أعرفه.

(٢٩٠) في الاصل : يعرف.

(٢٩١) في الاصل : فالبصير

.

أهل الباطل بعدهم. وعن الحسن البصري رحمه‌الله أنه قال : السّنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقلّ الناس فيما بقي ، الذين [لم] يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ، ولا مع أهل البدع في بدعتهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك فكونوا.

وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة ، إلى الأغذية الضارة ، وعدوله عن دوائه النافع ، إلى دوائه الضار. فههنا أربعة أشياء : غذاء نافع ، ودواء شاف ، وغذاء ضار ، ودواء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي ، على الضارّ المؤذي ، والقلب المريض بضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية دواء القرآن ، وكل منهما فيه الغذاء والدواء ، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فصلت : ٤٤. وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الاسراء : ٨٢. و «من» في قوله : «من القرآن» لبيان الجنس ، لا للتبعيض. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس : ٥٧. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تامّ واعتقاد جازم واستيفاء شروطه : لم يقاوم الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام ربّ الأرض والسماء ، الذي لو نزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض [من أمراض] القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رزقه الله فهما في كتابه.

وقوله : لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيما. أي طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرا مكتوما ، إذا القدر سر الله في خلقه ، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب ، وقد قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا

مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الجن : ٢٦ ، ٢٧ ، الى آخر السورة. وقوله : وعاد بما قال فيه ، أي في القدر : أفّاكا كذابا أثيما ، أي مأثوما.

وقوله : (والعرش والكرسي حق).

ش : كما بين تعالى في كتابه ، قال تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ـ ١٦. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) غافر : ١٥. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ ، في غير ما آية من القرآن (٢٩٢) : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون : ١١٦. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) النمل : ٢٦. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) غافر : ٧. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الزمر : ٧٥. وفي دعاء الكرب المروي في «الصحيح» : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله الا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم (٢٩٣). وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء الى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة ، وفوق السماء السابعة بحر [بين] أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، [ثم فوق ذلك ثمانية أو عال ، بين ركبهن وأظلافهنّ ـ كما بين السماء والأرض] ، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء» (٢٩٤). ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وروى أبو

__________________

(٢٩٢) في سورة الأعراف : ٥٣ ، ويونس : ٣ ، والرعد : ٢ ، والفرقان : ٥٩ ، والم السجدة : ٤ ، والحديد : ٤.

(٢٩٣) متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وهو مخرج في «الضعيفة (٥٤٤٣) لزيادة منكرة وقعت في آخره عند الطبراني وغيره.

(٢٩٤) ضعيف الإسناد. وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٥٧٧).

داود وغيره ، بسنده الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث الأطيط ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عرشه على سماواته لهكذا ، وقال بأصابعه ، مثل القبة» (٢٩٥). الحديث ، وفي «صحيح» البخاري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وفوقه عرش الرحمن» (٢٩٦). يروى «وفوقه» بالنصب على الظرفية ، وبالرفع على الابتداء ، أي : وسقفه.

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سموه : الفلك الأطلس ، والفلك التاسع! وهذا ليس بصحيح ، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» (٢٩٧). والعرش في اللغة : عبارة عن السرير الذي للملك ، كما قال تعالى عن بلقيس : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) النمل : ٢٣. وليس هو فلكا ، ولا تفهم منه العرب ذلك ، والقرآن إنما نزل بلغة العرب ، فهو : سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو كالقبة على العالم ، وهو سقف المخلوقات. فمن شعر أمية ابن أبي الصلت :

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالنساء العالي الذي بهر النا

س وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا لا يناله بصر الع

ين ترى حوله الملائك صورا

الصّور هنا : جمع : أصور ، وهو : المائل العنق لنظره الى العلو. والشرجع : هو العالي المنيف. والسرير : هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه ، الذي عرّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :

__________________

(٢٩٥) ضعيف الاسناد ، ولا يصح في أطيط العرش حديث ، وهو مخرج في «الظلال» (٥٧٥ و ٥٧٦) وانظر فيه الحديث الذي قبله.

(٢٩٦) صحيح ، وأخرجه الإمام أحمد أيضا ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٢١) و «الظلال» (٥٨١).

(٢٩٧) متفق عليه ، وتقدم نحوه الحديث (برقم ١٢٦).

شهدت بأن وعد الله حق

[وأن] النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش ربّ العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسوّمينا

ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة ، وروى أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله عزوجل من حملة العرش ، إن ما بين [شحمة] أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» (٢٩٨). ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : «تخفق الطير سبعمائة عام».

وأما من حرف كلام الله ، وجعل العرش عبارة عن الملك ، كيف يصنع بقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧. وقوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) هود : ٧. أيقول : ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه‌السلام آخذا من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!

وأما الكرسي فقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥. وقد قيل : هو العرش. والصحيح أنه غيره ، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. روى ابن أبي شيبة في كتاب «صفة العرش» ، والحاكم في «مستدركه» ، وقال : إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥ ، أنه قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدّر قدره إلا الله تعالى (٢٩٩). وقد روي مرفوعا ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش. وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت

__________________

(٢٩٨) صحيح ، رواه ابو داود وغيره. وقد خرجته في «الصحيحة» (١٥١).

(٢٩٩) صحيح موقوفا ، وأما المرفوع فضعيف ، كما بينته في تخريج كتاب «ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان «للآلوسي ، وقد طبعه المكتب الاسلامي. وراجع له «الظلال» (١٠٢ / ٣٦).

بين ظهري فلاة من الأرض» (٣٠٠). وقيل : كرسيه علمه ، وينسب الى ابن عباس. والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة ، كما تقدم. ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن. والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم ، كما قيل في العرش.

وإنما هو ـ كما قال غير واحد من السلف : بين يدي العرش كالمرقاة إليه.

قوله : (وهو مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الاحاطة خلقه).

ش : أما قوله : وهو مستغن عن العرش وما دونه. فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) العنكبوت : ٦. وقال تعالى : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر : ١٥. وإنما قال الشيخ رحمه‌الله هذا الكلام هنا ، لأنه لما ذكر العرش والكرسي ، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ، ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ، ليس لحاجته إليه ، بل له في ذلك حكمة اقتضته ، وكون العالي فوق السافل ، لا يلزم أن يكون السافل حاويا للعالي ، محيطا به ، حاملا له ، [ولا] أن يكون الأعلى (٣٠١) مفتقرا إليه. فانظر الى السماء ، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟ فالرب تعالى أعظم شأنا وأجلّ من أن يلزم من علوّه ذلك ، بل لوازم علوه من خصائصه ، وهي حمله بقدرته للسافل ، وفقر السافل ، وغناه هو سبحانه عن السافل ، وإحاطته عزوجل به ، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته ، وغناه عن العرش ، وفقر العرش إليه ، وإحاطته بالعرش ، وعدم إحاطة العرش به ، وحصره للعرش ، وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.

ونفاة العلوّ ، [أهل التعطيل] ، لو فصّلوا بهذا التفصيل ، لهدوا الى سواء السبيل ، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ، ولسلكوا خلف الدليل ، ولكن فارقوا الدليل ، فضلّوا عن سواء السبيل. والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه‌الله ، لما سئل عن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٣ وغيرها : كيف

__________________

(٣٠٠) صحيح كما بينته في المصدر السابق ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٩).

(٣٠١) في الأصل : للاعلاء.

استوى؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا ومرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٠٢).

وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه ، وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه ، [بحذف الواو] من قوله : فوقه ، والنسخة الأولى هي الصحيحة ، ومعناها : أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء. ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش. وهذه ـ والله أعلم ـ إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهوا ، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة ، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصدا للفساد ، وإنكار لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات ، فلا يبقى لقوله : محيط ـ بمعنى : محيط بكل شيء فوق العرش ، والحالة هذه : معنى! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به ، فتعيّن ثبوت الواو. ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء ، وفوق كل شيء.

أما كونه محيطا بكل شيء ، فقال تعالى : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) البروج : ٢٠. (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) حم السجدة : ٥٤. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) النساء : ١٢٦. وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وإنما المراد : إحاطة عظمته. وسعة علمه وقدرته (٣٠٣) ، وأنها بالنسبة الى عظمته كخردلة. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن ـ إلا كخردلة في يد أحدكم. ومن المعلوم ـ ولله المثل الأعلى ـ أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها ، وان شاء جعلها تحته ، وهو في الحالين مباين لها ، عال عليها فوقها من جميع الوجوه ، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف. فلو شاء

__________________

(٣٠٢) لا يصح ، والصواب موقوف على مالك أو أم سلمة ، والأول أشهر.

(٣٠٣) في الاصل : احاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة. وكلا العبارتين حسن ، وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح ، مع أنه لا بد منه أحيانا.

لقبض السموات والأرض اليوم ، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن ، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حقّ قدره. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو زرين : كيف يسعنا ـ يا رسول الله ـ وهو واحد ونحن جميع؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر ، آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، والله أكبر من ذلك ، وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء (٣٠٤). فهذا يزيل كل إشكال ، ويبطل كل خيال.

وأما كونه فوق المخلوقات ، فقال تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الانعام : ١٨ و ٦١. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل : ٥٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره : «والعرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله» (٣٠٥). وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقرّه على ما قال : وضحك منه (٣٠٦). وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله :

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأنا أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أشهد» (٣٠٧). وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : أن رحمتي سبقت غضبي» (٣٠٨) وفي رواية : «تغلب غضبي» رواه البخاري

__________________

(٣٠٤) ضعيف الاسناد ، حسن المتن ، كما هو مبين في «الظلال» (٤٥٩ و ٤٦٠)

(٣٠٥) ضعيف وتقدم قريبا الحديث (برقم ٢٩٤).

(٣٠٦) ضعيف ، وقول ابن عبد البر «رويناه من وجوه صحاح» فيه نظر ، فقد قال الذهبي في «العلو» (ص ١٠٦) معقبا عليه : «روي من وجوه مرسلة ...» ثم ذكرها.

(٣٠٧) ضعيف ، رواه ابن سعد في «الطبقات» بسند ضعيف ومنقطع.

(٣٠٨) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٦٠٨ و ٦٠٩)

.

وغيره. وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه ، قال «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا إليه رءوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨. فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون الى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» (٣٠٩). وروى مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في تفسير قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الحديد : ٣ بقوله : «أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء» (٣١٠). والمراد بالظهور هنا : العلو. ومنه قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) الكهف : ٩٧ ، أي يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته ، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس [وضاعت العيال] ونهكت الأموال ، [وهلكت الأنعام] ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وقال بأصابعه! مثل القبة [عليه] ، وإنه ليئطّ به أطيط الرّحل بالراكب» (٣١١). وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة ، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» (٣١٢). وهو حديث صحيح ، أخرجه الأموي في مغازيه ، وأصله في

__________________

(٣٠٩) ضعيف ، وتقدم في الحديث (رقم ١٤١) ، وقول الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله : «واسناده جيد» غير جيد ، لما ذكرته هناك.

(٣١٠) صحيح وتقدم الحديث (برقم ٤٦).

(٣١١) ضعيف ، وتقدم (ص ٢٧٨).

(٣١٢) صحيح بدون قوله : «فوق سبع سماوات» كذلك هو في «الصحيحين» و «المسند». وأما هذه الزيادة فنفرد بها محمد بن صالح التمار ، كما في «العلو» (١٠٢) وقال :

«الصحيحين». وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها ؛ أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : زوجكنّ أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات (٣١٣). وعن عمر رضي الله عنه : أنه مر بعجوز فاستوقفته ، فوقف معها يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال : ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها. (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) (٣١٤) المجادلة : ١ أخرجه الدارمي. وروى عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) الاعراف : ١٧ ، قال : ولم يستطع أن يقول من فوقهم ، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم.

ومن سمع أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام السلف ، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات ، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، لكان متصفا بضدّ ذلك ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده ، وضد الفوقية : السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده. فإن قيل : لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل : لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه

__________________

«وهو صدوق» وفي «التقريب» «صدوق يخطئ» ، قلت : فمثله لا يقبل تفرده ، وان صححه المؤلف وكذا الذهبي ، وفي اثبات الفوقية أحاديث صحيحه تغني عن هذا ، وسيذكر المؤلف بعضها. وانظر تخريج الحديث في «مختصر العلو» (٨٧ / ١١).

(٣١٣) صحيح وهو عند البخاري في «التوحيد» من حديث انس قال : فكانت زينب تفخر .. الخ. فليس هو من مسند زينب نفسها كما يفيده صنيع المصنف رحمه‌الله.

(٣١٤) ضعيف ، أخرجه ابو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص ٢٦ ، طبع المكتب الاسلامي) من طريق ابي يزيد المدني عن عمر به. قال الذهبي : (١١٣) «وهذا اسناد صالح فيه انقطاع ، أبو يزيد لم يلحق عمر».

ذات قائم بنفسه ، غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ، ليس وجوده ذهنيّا فقط ، بل وجوده خارج الأذهان قطعا ، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو : إما داخل العالم وإما خارج عنه ، وانكار ذلك انكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه ، وأوضح وأبين. وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال ، لا نقص فيه ، ولا يستلزم نقصا ، ولا يوجب محذورا ، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلا. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله ، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله ـ : إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم الى ذلك شهادة العقول السليمة ، والفطر [المستقيمة] ، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه ، وكونه فوق عباده ، التي تقرب من عشرين نوعا : أحدها : التصريح بالفوقية مقرونا بأداة : من ، المعينة للفوقية بالذات ، كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل : ٥٠. الثاني : ذكرها مجردة عن الأداة ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الانعام : ١٨ و ٦١. الثالث : التصريح بالعروج إليه نحو : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) المعارج : ٤. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم» (٣١٥). الرابع : التصريح بالصعود إليه. كقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر : ١٠. الخامس : التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه ، كقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) النساء : ١٥٨. وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) آل عمران : ٥٥. السادس : التصريح بالعلو المطلق ، الدال على جميع مراتب العلو ، ذاتا وقدرا وشرفا ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة : ٢٥٥. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) سبأ : ٢٣. (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى : ٥١. السابع : التصريح بتنزيل الكتاب منه ، كقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) غافر : ٢. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ) (اللهِ الْعَزِيزِ

__________________

(٣١٥) متفق عليه ، وهو قطعة من حديث لابي هريرة رضي الله عنه ، اوله «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ...» ، وهو مخرج في «الظلال» (٤٩١).

الْحَكِيمِ) الزمر : ١. (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصلت : ٢. (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت : ٤٢. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢ (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان : ١ ـ ٥. الثامن : التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الاعراف : ٢٠٦. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) الأنبياء : ١٩. ففرق بين «من له» عموما وبين «من عنده» من ملائكته وعبيده خصوصا. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه : «أنه عنده فوق العرش» (٣١٦). التاسع : التصريح بأنه تعالى في السماء ، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين : إما أن تكون «في» بمعنى «على» ، وإما أن يراد بالسماء العلو ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر : التصريح بالاستواء مقرونا بأداة «على» مختصا بالعرش ، الذي هو أعلى المخلوقات ، مصاحبا في الأكثر لأداة : «ثم» الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر : التصريح برفع الأيدي الى الله تعالى ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا» (٣١٧). والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط ـ باطل بالضرورة والفطرة ، وهذا يجده من نفسه كل داع ، كما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر : التصريح بنزوله كل ليلة الى سماء الدنيا ، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو الى سفل. الثالث عشر : الإشارة إليه حسا الى العلو ، كما أشار إليه من هو أعلم بربه (٣١٨) وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر ، لما كان بالمجمع الأعظم [الذي لم يجتمع لأحد مثله ، في اليوم الأعظم ، في المكان الأعظم ، قال لهم : «أنتم

__________________

(٣١٦) متفق عليه وتقدم الحديث (برقم ٣٠٨).

(٣١٧) صحيح ، اخرجه الحاكم وغيره ، وصححه هو والذهبي ومن قبلهما ابن حبان.

(٣١٨) في الاصل : به.

مسئولون عني ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت» (٣١٩) ، فرفع إصبعه الكريمة الى السماء رافعا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء ، قائلا : «اللهم أشهد». فكأنّا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة الى الله ، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع إصبعه إليه : «اللهم أشهد» ، ونشهد أنه بلّغ البلاغ المبين ، وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطّع المتنطّعين ، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر : التصريح بلفظ : «الأين» كقول أعلم الخلق به ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح ، بلفظ لا يوهم باطلا بوجه : «أين الله» (٣٢٠) ، في غير موضع. الخامس عشر : شهادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن قال إن ربه في السماء ـ بالإيمان. السادس عشر : إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود الى السماء ، ليطلّع الى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السموات ، فقال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) المؤمن : ٣٦. فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني ، ومن أثبته فهو موسوي محمدي. السابع عشر : إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه تردد بين موسى عليه‌السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة ، فيصعد إلى ربه ثم يعود الى موسى عدة مرار (٣٢١). الثامن عشر : النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى ، من الكتاب والسنة ، وإخبار النبي

__________________

(٣١٩) صحيح ، وهو قطعة من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. رواه مسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه وغيرهم وقد افردته في جزء لطيف ، وضممت إليه كل ما وقع لي من الروايات والزيادات الثابتة عن جابر رضي الله عنه في سياق واحد ، وعلقت عليه بتعليقات مفيدة. وقد طبع مرات في المكتب الاسلامي العامر.

(٣٢٠) صحيح ، رواه مسلم (٢ / ٧١) وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للجارية : أين الله؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا؟ قالت : أنت رسول الله ، قال : اعتقها فإنها مؤمنة. وهو مخرج في «الظلال» (٤٨٩ و ٤٩٠) وفي «مختصر العلو» (ص ٨١) ، وقال الذهبي فيه : «حديث صحيح أخرجه مسلم ..».

(٣٢١) متفق عليه. انظر سياقه في «مختصر العلو» (رقم ١٧).

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، فلا يرونه إلا من فوقهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨. ثم يتوارى عنهم ، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم» (٣٢٢) رواه الإمام أحمد في «المسند» ، وغيره ، من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية. ولهذا طرد الجهمية الشقين (٣٢٣) ، وصدّق أهل السنة بالأمرين معا ، وأقروا بهما ، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلوّ مذبذبا بين ذلك ، لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل ، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدّا : فمنه : ما روى شيخ الاسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده الى مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥ وعرشه فوق سبع سماواته ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال : هو كافر ، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت الى من أنكر ذلك ممن ينتسب الى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته. وقد ينتسب الى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في [بعض] اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عزوجل فوق العرش ـ : مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.

ومن تأول «فوق» ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش

__________________

(٣٢٢) ضعيف ، وتقدم بالحديث (رقم ١٤١).

(٣٢٣) في الاصل : النفيين.

وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم ـ : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة! فإن قول القائل [ابتداء] : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهود [ي] ، والسماء فوق الأرض!! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟! بل في ذلك تنقّص ، كما قيل في المثل السائر :

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم. بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجا على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه‌السلام : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يوسف : ٣٩. وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) النمل : ٥٩. (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) طه : ٧٣.

وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر (٣٢٤) ، وفوقية الذات. ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقّص ، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ «المكانة والمنزلة» تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية (٣٢٥) ، كما يستعمل لفظ «المكان والمنزل» في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان ، كما جاء في الاثر : «إذا

__________________

(٣٢٤) في الاصل : الفضل.

(٣٢٥) في الاصل : والعرجانية

.

أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه» (٣٢٦). فقوله : «منزلة الله في قلبه» : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن «المكانة والمنزلة» : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلوّ المثل الذي يكون في الذهن يتبع علوّ (٣٢٧) الحقيقة ، إذا كان مطابقا كان حقّا ، وإلا باطلا. فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء. قيل : وكذلك هو ، وهذا العلوّ مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عاليا بنفسه على كل شيء ، كان علوّه في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى.

وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ، ثابت بالعقل والفطرة ، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه : أحدها : العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين ، إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات ، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر. الثاني : أنه لما خلق العالم ، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته ، والأول باطل : أما أولا : فبالاتفاق ، وأما ثانيا : فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس (٣٢٨) والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. والثاني يقتضي كون العلم واقعا خارج ذاته ، فيكون منفصلا ، فتعينت المباينة ، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه ـ غير معقول. الثالث : أن كونه تعالى لا داخل

__________________

(٣٢٦) لا أعرفه.

ثم وجدته بدلالة بعض الاخوان جزاه الله خيرا في «مستدرك الحاكم» (١ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥) بنحوه وصححه ، وتعقبه الذهبي بأن فيه عمر بن عبد الله مولى غفرة ، ضعيف ، ومن طريقه أخرجه ابو يعلى وغيره ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٥٤٢٧) ، وهو من الأحاديث الكثيرة ، من الضعيفة والموضوعة ، التي سود بها المدعو عز الدين بليق «منهاجه» وهي قرابة أربعمائة حديث ما بين ضعيف وموضوع ، ومع ذلك زعم في مقدمته أن أحاديث «منهاجه» كلها صحيحة! وعسى أن ييسّر لي نشرها في رد عليه ومع ذلك أرجو أن انتهي منه قريبا إن شاء الله تعالى.

(٣٢٧) في الاصل : يقع على.

(٣٢٨) في الاصل : للحشائش.

العالم ولا خارجه ـ : يقتضي [نفي] وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة.

وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع الى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلوّ ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلّا وجد في قلبه ضرورة طلب (٣٢٩) العلوّ ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال : وبكى! وقال : حيّرني الهمداني حيّرني! أراد الشيخ : أنّ هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقّوه من المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريّا يتوجه الى الله ويطلبه في العلو.

وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهيّا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل ان قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وان ردّ العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلا في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقّا مقبولا في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولا في العقل. فإن دعوى الضرورة مشتركة ، فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؟ قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، ـ ليسوا منكم ولا منّا ـ موافقون لنا (٣٣٠) على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولا ترجحنا عليكم ، وإن كان

__________________

(٣٢٩) في الاصل : بطلب.

(٣٣٠) في الاصل : يوافقونا.

مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدّعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضا ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم.

فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون [بأن] صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم ، وأنه لا مباين للعالم ولا حالّ في العالم ـ : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه.

واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، (٣٣١) ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض؟ وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه :

أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء ـ لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.

الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحبّ للداعي أن يستقبل القبلة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة (٣٣٢) ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء ـ : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين.

الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة. والاستقبال خلاف الاستدبار ، فالاستقبال بالوجه ، والاستدبار بالدبر ،

__________________

(٣٣١) قال عفيفي : انظر ج ٢ / ٥١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم.

(٣٣٢) صحيح ، والاحاديث في ذلك كثيرة ، منها حديث عبد الله بن زيد قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هذا المصلى يستسقي ، فدعا واستسقى ، ثم استقبل القبلة» متفق عليه ، وترجم له البخاري في «الدعوات» ب «باب الدعاء مستقبل القبلة».

فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ، وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تنبع فيه الشرائع ، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه ، بل نهوا [عن] ذلك. ومعلوم أن التوجه بالقلب ، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري ، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل ، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله ، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله ، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كما تحولت القبلة من الصخرة الى الكعبة. وأمر التوجّه في الدعاء الى الجهة العلوية مركوز في الفطر ، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك ، بخلاف الداعي ، فإنه يتوجه الى ربه وخالقه ، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض ، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذلّ له ، لا أن يميل إليه إذ هو تحته! هذا لا يخطر في قلب ساجد. لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول [في سجوده] : سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. وإنّ من أفضى به النفي الى هذه الحال حري أن يتزندق ، إن لم يتداركه الله برحمته ، وبعيد من مثله الصلاح ، قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الانعام : ١١٠. وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) الصفّ : ٥. فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان. نسأل الله العفو والعافية.

وقوله : وقد أعجز عن الإحاطة خلقه ـ أي لا يحيطون به علما ولا رؤية ، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة ، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء.

قوله : (ونقول : ان الله اتخذ ابراهيم خليلا ، وكلّم الله موسى تكليما ، ايمانا وتصديقا وتسليما).

ش : قال [الله] تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) النساء : ١٢٥ ، وقال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء : ١٦٤. الخلة : كمال المحبة.

وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين ، زعما منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب ، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم ، كما تقدم ، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ، في أوائل المائة الثانية فضحّى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط ، خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني (٣٣٣) مضحّ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم ، فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا. وأخذ هذا المذهب [عن الجعد] ـ الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه ، وإليه أضيف قول : «الجهمية». فقتله مسلم بن أحوز أمير خراسان بها ، ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام ، ودعوهم الى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة ، وهم ينكرون أن يكون ابراهيم خليلا وموسى كليما ، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب ، كما قيل :

قد تخللت مسلك الروح مني

ولذا سمي الخليل خليلا

ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى ، كسائر صفاته. ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في «الصحيح» عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله» (٣٣٤) ، يعني نفسه. وفي رواية : «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ، ولو كنت [متخذا] من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا». وفي رواية : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا». فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا ، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق. مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وصف نفسه بأنه يحبّ أشخاصا ، كقوله لمعاذ : «والله إني

__________________

(٣٣٣) في الاصل : فانه.

(٣٣٤) صحيح ، وتقدم نحوه بالحديث (رقم ١٢٦).

لأحبك» (٣٣٥). وكذلك قوله للأنصار (٣٣٦). وكان زيد بن حارثة حبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابنه أسامة حبه. وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحبّ إليك؟ قال : «عائشة» ، قال : فمن الرجال؟ قال : «أبوها» (٣٣٧). فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة ، والمحبوب بها لكمالها يكون محبا لذاته ، لا لشيء آخر ، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ، ومن كمالها لا تقبل الشركة [ولا] المزاحمة ، لتخللها المحبة ، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب. ولذلك لما اتخذ الله ابراهيم خليلا ، وكان ابراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا ، فوهب له اسماعيل ، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه ، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره ، فامتحنه به بذبحه ، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده ، فلما استسلم لأمر ربه ، وعزم على فعله ، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثارا لمحبة خليله على محبته ، نسخ الله ذلك عنه ، وفداه بالذّبح العظيم ، لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر ، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة ، فنسخ في حقه ، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه الى يوم القيامة. وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم ، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء.

وهنا سؤال مشهور ، وهو : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم ، مع أن المشبّه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف

__________________

(٣٣٥) صحيح ، رواه أحمد وغيره ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وهو مخرج في «صحيح أبي داود» برقم (١٣٦٢).

(٣٣٦) يشير الى حديث انس قال : جاءت امرأة من الانصار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعها صبي لها ، فكلمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : والذي نفسي بيده. انكم أحب الناس (الي مرتين) اخرجه البخاري.

(٣٣٧) متفق عليه من حديث عمرو بن العاص.

الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة ، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها : أن آل ابراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم ، فإذا طلب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء ، حصل لآل محمد ما يليق بهم لانهم لا يبلغون مراتب الأنبياء ، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم ابراهيم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره. وأحسن من هذا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آل ابراهيم ، بل هو أفضل آل ابراهيم ، فيكون قولنا : «كما صليت على [آل] ابراهيم» ـ متناولا الصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية ابراهيم وهو متناول لإبراهيم أيضا. كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) آل عمران : ٣٣. فإبراهيم وعمران دخلا في آل ابراهيم وآل عمران ، وكما في قوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) القمر : ٣٤. فإن لوطا داخل في آل لوط ، وكما في قوله تعالى : (إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) البقرة : ٤٩ وقوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) المؤمن : ٤٦ فإن فرعون داخل في آل فرعون. ولهذا والله أعلم ، أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما فيها كما صليت على آل ابراهيم. وفي كثير منها : كما صليت على ابراهيم ولم يرد : كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إلا في قليل من الروايات (٣٣٨) وما ذلك إلا لأن في قوله : كما صليت على ابراهيم ، يدخل آله تبعا. وفي قوله : كما صليت على آل ابراهيم ، هو داخل آل ابراهيم. وكذلك لما جاء أبو أو في رضي الله عنه بصدقة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهم صل على آل أبي أوفى» (٣٣٩). ولما كان بيت ابراهيم عليه‌السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق ، خصهم الله بخصائص : منها : أنه جعل فيه النبوة والكتاب ، فلم يأت بعد ابراهيم نبي إلا من أهل بيته. ومنها : أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره الى يوم القيامة ، فكل من دخل الجنة

__________________

(٣٣٨) قلت : وذلك لا يمنع صحتها ، لا سيما وبعضها في «صحيح البخاري» انظر كتابي «صفة الصلاة» ص ١٤٧ ـ الطبعة الحادية عشر طبع المكتب الاسلامي.

(٣٣٩) اخرجه البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن ابي اوفى

.

من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم. ومنها : أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين ، كما تقدم ذكره. ومنها : أنه جعل صاحب هذا البيت إماما للناس. قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة : ١٢٤. ومنها : أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياما للناس ومثابة للناس وأمنا ، وجعله قبلة لهم وحجا ، فكان ظهور هذا البيت في الأكرمين. ومنها : أنه أمر عباده أن يصلّوا على أهل البيت. الى غير ذلك من الخصائص.

قوله : (ونؤمن بالملائكة والنبيين ، والكتب المنزلة على المرسلين ، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين).

ش : هذه الأمور من أركان الإيمان. قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) البقرة : ٢٨٥ ـ الآيات. وقال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) البقرة : ١٧٧ ـ الآية. فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة ، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين ، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة ، بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) النساء : ١٣٦. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الحديث المتفق على صحته ، حديث جبرائيل وسؤاله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان ، فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (٣٤٠). فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل.

وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع ، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها ، وأعظم الناس لها إنكارا الفلاسفة المسمّون عند من يعظمهم بالحكماء ، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر ، فإن مذهبهم أن الله سبحانه موجود لا ماهية له ولا

__________________

(٣٤٠) متفق عليه من حديث ابي هريرة رضي الله عنه.

حقيقة ، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها ، وكل موجود في الخارج فهو جزئي ، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته ، وإنما العالم عندهم لازم له أزلا وأبدا ، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه ، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله. وأما كتبه عندهم ، فإنهم لا يصفونه بالكلام ، فلا يكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعّال على قلب بشر زاكي النفس طاهر ، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص : قوة الإدراك وسرعته ، لينال [من] العلم أعظم ما يناله غيره! وقوة النفس ، ليؤثر بها في هيولى العالم يقلب صورة الى صورة! وقوة التخييل ، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة ، وهي الملائكة عندهم! وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول ، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان. وأما اليوم الآخر ، فهم أشد الناس تكذيبا وإنكارا له في الأعيان ، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب ، ولا تنشق السموات ولا تنفطر ، ولا تنكدر النجوم ولا تكوّر الشمس والقمر ، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار! كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام ، لا حقيقة لها في الخارج ، كما يفهم منها أتباع الرسل. فهذا إيمان هذه الطائفة ـ الذليلة الحقيرة ـ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذه هي أصول الدين الخمسة.

وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيرا من الدين : فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض ، الذي هو الموصوف والصفة عندهم ، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض ، على حدوث الموصوف الذي هو الجسم ، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل ، فنفوا عن الله كل صفة ، تشبيها بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام ، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر ، وسموا ذلك «العدل» ، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد ، وهي مسائل الأسماء والأحكام ، التي هي المنزلة بين المنزلتين ، ومسألة إنقاذ الوعيد ، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك ، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر ، وضمّنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال. فهذه أصولهم الخمسة ، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول.

والرافضة المتأخرون ، جعلوا الأصول أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة.

وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول. وأصل الدين : الإيمان بما جاء به الرسول ، كما تقدم بيان ذلك ، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة ـ لما تضمنتا هذا الأصل ـ : لهما شأن عظيم ليس لغيرهما ، ففي «الصحيحين» عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (٣٤١). وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : «بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل الى الارض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته» (٣٤٢). وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة ، يعني هذه الخمسة ، والإيمان بالقدر ، والايمان بالجنة والنار. وهذا حق ، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية. وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة.

وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض ، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة ، كما قال تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) النازعات : ٥. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الذاريات : ٤. وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل ، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون : هي النجوم. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة ، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات ، وأنه سبحانه وكّل

__________________

(٣٤١) صحيح لإخراج «الصحيحين» له ، وعزاه في «الجامع الصغير» لأصحاب السنن الأربعة فقصر ، انظر «صحيح الجامع» (٦٣٤١).

(٣٤٢) صحيح لإخراج مسلم اياه (٢ / ١٩٨).

بالجبال ملائكة ، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ، ثم وكّل بالعبد ملائكة لحفظ (٣٤٣) ما يعمله وإحصائه وكتابته ، ووكّل بالموت ملائكة ، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة ، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم : (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) المرسلات : ١ و (النَّاشِراتِ نَشْراً) المرسلات : ٣ و (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) المرسلات : ٤ و (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) المرسلات : ٥ ومنهم : (النَّازِعاتِ غَرْقاً) النازعات : ١ و (النَّاشِطاتِ نَشْطاً) النازعات : ٢ و (السَّابِحاتِ سَبْحاً) النازعات : ٣ (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) النازعات : ٤ ومنهم : (الصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الصافات : ١ ـ ٣. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله : الفرق والطوائف والجماعات ، التي مفردها : «فرقة» و «طائفة» و «جماعة» ، ومنهم ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش ، وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس ، الى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. ولفظ «الملك» يشعر بأنه رسول منفّذ لأمر مرسله ، فليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر كله للواحد القهار ، وهم ينفذون أمره : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) الأنبياء : ٢٧. [(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)] البقرة : ٢٥٥. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء : ٢٨. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) النحل : ٥٠. فهم عباد مكرمون ، منهم الصافون ، ومنهم المسبّحون ، ليس منهم إلا له مقام معلوم ، ولا يتخطاه ، وهو على عمل قد أمر به ، لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأعلاهم الذين عنده (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠ ، ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، الموكلون بالحياة ، فجبرائيل موكّل بالوحي

__________________

(٣٤٣) في الاصل : تحفظ.

الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان ، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فهم رسل الله في خلقه وأمره ، وسفراؤه بينه وبين عباده ، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم ، ويصعدون إليه بالأمر ، قد أطّت السموات بهم ، وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله ، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم. والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم ، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم ، وصلاته بصلاتهم ، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف ، وتارة يذكر حفّهم بالعرش وحملهم له ، ومراتبهم من الدنو (٣٤٤) ، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم ، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص. قال تعالى : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) البقرة : ٢٨٥. (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) آل عمران : ١٨. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الاحزاب : ٤٣. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) غافر : ٧. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الزمر : ٧٥. (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء : ٢٦. (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) الاعراف : ٢٠٦. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) فصلت : ٣٨. (كِراماً كاتِبِينَ) الانفطار : ١١. (كِرامٍ بَرَرَةٍ) عبس : ١٦. (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) المطففين : ٢١. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) الصافات : ٨. وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم. فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان.

وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر ، وينسب الى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة ، والى المعتزلة تفضيل

__________________

(٣٤٤) في الاصل : وبراءتهم من الذنوب.

الملائكة. وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولا. وحكي عن بعضهم ميلهم الى تفضيل الملائكة. وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية. وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة. ومن الناس من فصّل تفصيلا آخر. ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٣٤٥). والشيخ رحمه‌الله لم يتعرض الى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصدا ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها [على] ما ذكره في «مآل الفتاوى» (٣٤٦) ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعدّ منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء. وهذا هو الحق ، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصّا. وقد قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) المائدة : ٣. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) مريم : ٦٤. وفي «الصحيح» : «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ـ رحمة بكم غير نسيان ـ فلا تسألوا عنها» (٣٤٧). فالسكوت (٣٤٨) عن الكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا والحالة هذه أولى. ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير إليه ، إن شاء الله تعالى. وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادما

__________________

(٣٤٥) صحيح رواه احمد وغيره ، وقد مر الحديث (برقم ٢٦٧).

(٣٤٦) «مآل الفتاوى» ـ في كشف الظنون انه للامام ناصر الدين السمرقندي الحنفي ، أتمه في شعبان سنة ٥٤٩.

(٣٤٧) حسن لغيره ، رواه الدارقطني وغيره. ثم تبينت أن الشواهد التي رفعته الى الحسن ضعيفان جدا لا يصلحان للشهادة ، كما أوضحته في «غاية المرام» (٤).

(٣٤٨) في الاصل : والسكوت.

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! أو : أن بعض الملائكة خدّام بني آدم!! يعنون الملائكة الموكّلين بالبشر (٣٤٩) ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب. والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس ـ : لا شكّ في رده ، وليس هذه [المسألة] نظير المفاضلة بين الأنبياء ، فإن تك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) البقرة : ٢٥٣ ـ الآية. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الاسراء : ٥٥. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفا فيها بين أهل السنة. وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله. والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك. وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه‌الله مصنف سماه «الإشارة في البشارة» في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير من المقاصد. ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب. انتهى والله الموفق للصواب.

فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال ؛ (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الاسراء : ٦٢. قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالا لأمر ربهم ، وعبادة [وانقيادا] وطاعة له ، وتكريما لآدم وتعظيما ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما‌السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالا

__________________

(٣٤٩) قال عفيفي : انظر ص ٣٥٠ وما بعده من ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية

.

لأمر ربهم. وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول! وكلتا المقدمتين فاسدة : أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلوّ والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار. وأما المقدمة الثانية ، وهي : أن الفاضل لا يسجد المفضول ـ : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله. قالوا : وقد يكون قوله : (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الاسراء : ٦٢ ، بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، لينتفي الاستدلال به.

ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل. وقال الآخرون : يجوز أن يقع [من الملائكة] [من] مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ـ : ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة. ومنه : أن الله تعالى جعل [الملائكة] رسلا الى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم. وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالتهم به أقوى ، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولا الى الرسول البشري.

ومنه : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) البقرة : ٣١ ، الآيات. قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علّمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه علم ما لم يعلمه موسى ،

وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزوّد لذلك ، طلب موسى منه العلم صريحا ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، الى آخر كلامه. ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه‌السلام ، بكونه أحاط بما لم يحيط به سليمان عليه‌السلام [علما].

ومنه : قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلتم : هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : «ابعث من ذريتك بعثا الى النار» ، «يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار ، وواحدا الى الجنة» (٣٥٠). فما بال هذا التفضيل سرى الى هذا الواحد من الألف فقط.

ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٥١) ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.

ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان» (٣٥٢). أخرجه الطبراني. وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل

__________________

(٣٥٠) متفق عليه من حديث ابي هريرة.

(٣٥١) «المستدرك» (٤ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩) بسند صحيح عنه وصححه هو والذهبي.

(٣٥٢) ضعيف ، كما أشار إليه المصنف ، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقوله : «هكذا أعل الشارح الحديث اسنادا ومتنا ، وما أصاب في ذلك السداد ، اذ قصر في تخريجه. أما رواية الطبراني ، فإنها ضعيفة حقا ، بل غاية في الضعف. فقد نقلها ابن كثير في التفسير (٥ / ٢٠٦) باسنادها من «المعجم الكبير». ونقلها الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٨٢) وقال : رواه الطبراني في «الكبير» و «الاوسط». وفيه ابراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ، وهو كذاب متروك. وفي اسناد الاوسط طلحة بن زيد ، وهو كذاب أيضا». فهذان اسنادان لا تعبأ بهما. ـ

عن عروة بن رويم ، [أنه] قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الملائكة قالوا» ، الحديث ، وفيه : «وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا». والشأن في ثبوتهما ، فإن في سنديهما مقالا ، وفي متنهما شيئا ، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؟ وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم ، متشوفون الى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس الى آدم ودلّاه بغرور ،

__________________

ـ ولكن الحديث رواه الامام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي (ص ٣٤) باسناد صحيح ، مطولا : رواه عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا اسناد لا مغمز فيه ، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ (١ / ٥٥) ، مختصرا ، من رواية عثمان بن سعيد ، وأشار الى صحته.

وأما رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل : فانها من زياداته في «كتاب السنة» الذي رواه عن أبيه (ص : ١٤٨ من طبعة السلفية بمكة) ، فقال عبد الله : «حدثني الهيثم بن خارجة ، حدثنا عثمان بن علاق ، وهو عثمان بن حصن بن علاق [وكتب في المطبوعة : محصن! خطأ] ، سمعت عروة بن رويم يقول : اخبرني الانصاري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...».

فهذا اسناده ظاهره الصحة أيضا ، وان لم استطع أن أجزم بذلك. لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن «الانصاري» الذي حدثه به صحابي ، فجهالة الصحابية لا تضر. وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري ، فان يكنه يكن الاسناد صحيحا. وهذا محتمل جدا ، وان كنت لا أقطع به ... فان الحديث ذكره ابن كثير في التفسير (٥ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) نقلا عن ابن عساكر ، باسناده الى عثمان بن علاق : «سمعت عروة بن رويم اللخمي ، حدثني انس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..». فهذا قد يرجح أن «الأنصاري» فى رواية عبد الله بن أحمد ـ : هو «انس بن مالك الانصاري». ولكن اسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه.

وأيا ما كان ، فرواية عبد الله بن أحمد ، ورواية ابن عساكر ـ تصلحان للاستشهاد ، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو ، باسناد الدارمي.

أما اعلاله من جهة المتن والمعنى ، فإنه غير جيد ، ولا مقبول. فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا

إذ أطمعه [في] أن يكون ملكا بقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الاعراف : ٢٠. فدلّ أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقرّ في الفطرة ، يشهد لذلك قوله تعالى ، حكاية عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن عند رؤية يوسف (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) يوسف : ٣١. وقال تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) الانعام : ٥٠. قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصا العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا.

__________________

ـ على ربهم ، ولم يتبرموا بأحوالهم ، وانما سألوا ربهم ، وهم عباد مطيعون ، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى ، اذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ـ الآيات ٣٠ ـ ٣٣».

قلت : فلا نرى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث ، وأليك البيان بايجاز :

١ ـ أما قوله في طريق الدارمي : «وهذا اسناد صحيح لا مغمز فيه وقد اشار الحافظ ابن كثير الى صحته» ففيه نظر لأمرين :

الاول اننا لا نسلم بصحته مع وجود عبد الله بن صالح في طريقه ، فانه وان كان البخاري اخرج له في «صحيحه» فهو متكلم فيه من قبل حفظه ، ولا يتسع هذا التعليق للافاضة في ذكر أقوال الائمة فيه ، فحسبنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته من «التقريب» وهو انما يذكر فيه عادة خلاصة أقوال الأئمة فيمن يترجمه ، قال : «صدوق ، كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، وكانت فيه غفلة».

الثاني : اننا لا نسلم أيضا أن ابن كثير أشار الى صحة الحديث ، ذلك لأن غاية ما قال فيه : «وهو اصح» وهذا القول لا يفيد تصحيحا مطلقا للحديث ، بل تصحيحا نسبيا ، وهو لا ينافي ضعفه كما في قول الترمذي في كثير من الاحاديث : «وهو أصح شيء في الباب» فهذا لا يؤخذ منه صحة الحديث كما هو مقرر في «المصطلح» فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا. والله أعلم.

٢ ـ حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن الانصاري ، فلا شك في عدالة رواته باستثناء الانصاري ، وانما البحث في كون الانصاري انما هو أنس بن مالك رضي الله عنه ، لأنه ان كان

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) آل عمران : ٣٣. قال الآخرون : قد يذكر «العالمون» ، ولا يقصد به العموم المطلق ، بل في كل مكان بحسبه ، كما في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان : ١. (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الحجر : ٧٠. (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) الشعراء : ١٦٥. (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الدخان : ٣٢.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البيّنة : ٧. والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق. قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ،

__________________

هو فالحديث متصل الاسناد ، صحيح كما قال الشيخ احمد ، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير ، مما لا يصلح له ، لأن ابن عساكر اورده (١٥ / ٦٦ / ١ ـ ٢) من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني وفي ترجمته ساق الحديث ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، ودونه جماعة لم اجد من ترجمهم ، فمثل هذا الاسناد الواهي ، لا يترجح كون الانصاري هو أنس ، على أنني قد وقفت له في ابن عساكر على طريق اخرى ضعيفة أيضا ، سمي فيه الصحابي عبد الله جابر الانصاري ، أخرجه (٩ / ٤٠٧ / ٢) من طريق هشام بن عمار : نا عبد ربه بن صالح القرشي قال : سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الانصاري مرفوعا به. والقرشي هذا لم أجد له ترجمة وهشام بن عمار وان أخرج له البخاري فهو متكلم فيه أيضا قال الحافظ في «التقريب» : صدوق ، مقرئ ، كبر فصار يتلقن». وجملة القول أن حديث ابن رويم هذا ضعيف لجهالة الانصاري واضطراب الروايتين الاخيرتين في تعيينه ، فأولاهما تقول انه أنس ، والأخرى تقول : انه جابر ، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبد الله بن صالح لاحتمال انه مما أدخل عليه ، قال ابن حبان : «كان في نفسه صدوقا ، انما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له ، كان بينه وبينه عداوة ، كان يضع الحديث على شيخ ابي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ، ويرميه في داره بين كتبه ، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به!».

هذا ، ويحتمل أن يكون أصل الحديث من الاسرائيليات التي كان يحدث بها بعض الذين اسلموا من أهل الكتاب ، ثم اخطأ بعض الرواة فرفعه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنعوا بقصة هاروت وماروت. والله أعلم.

والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة. هذا على قراءة من قرأ «البريئة» ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة الى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في «الصحاح» ـ : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها ، إذ الغير من خلق من التراب. قال الأولون : إنما تكلمنا في [تفضيل] صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا الى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون اذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلى ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر الى وجهه الكريم. وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا الى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟ فإن كان قد ثبت لهم أنهم يصيرون الى حال يفوقون فيها الملائكة سلّم المدعى ، وإلا فلا.

ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) النساء : ١٧٢. وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك [ولا] الوزير. ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه‌السلام ثبت في حق غيره ، إذ (٣٥٣) لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه‌السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه.

ومنه قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) الانعام : ٥٠. ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك

__________________

(٣٥٣) في الاصل : اذا

.

لا دعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك. أجاب الآخرون : انّ الكفار كانوا قد قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان : ٧. فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج الى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة الى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة.

ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن القويّ خير وأحبّ الى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير» (٣٥٤). ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها. قال الآخرون : [الظاهر] أن المراد المؤمن من البشر ـ والله أعلم ـ فلا تدخل الملائكة في هذا العموم.

ومنه ما ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عزوجل ، قال : «يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملاء خير منهم ،» (٣٥٥) الحديث. وهذا نص في الأفضلية. قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيرا منه للمذكور لا الخيرة المطلقة.

ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خزيمة ، بسنده في كتاب «التوحيد» عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل ، فوكز بين كتفيّ ، فقمت الى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداها ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدّت الخافقين ، وأنا أقلّب بصري ، ولو شئت أن أمسّ السماء مسست ، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطئ ، فعرفت فضل علمه بالله [عليّ]» (٣٥٦) ، الحديث. قال الآخرون : في سنده [مقال] فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته.

__________________

(٣٥٤) وهو طرف حديث عند مسلم (٨ / ٥٦) ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٣٥٦).

(٣٥٥) صحيح ، لإخراج الشيخين له ، وهو مخرج في «الصحيحة» تحت الحديث (٢٢٨٧).

(٣٥٦) ضعيف ، فيه الحارث بن عبيد الأيادي وهو ضعيف لسوء حفظه ، وقول الشيخ أحمد

وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل. ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم. والله أعلم بالصواب.

وأما الأنبياء والمرسلون ، فعلينا الإيمان بمن سمّى الله تعالى في كتابه من رسله ، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم وأنبياء ، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم. فعلينا الإيمان بهم جملة لأنه لم يأت في عددهم نصّ. وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء : ١٦٤. وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) غافر : ٧٨. وعلينا الإيمان بأنهم بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به ، وأنهم بيّنوه (٣٥٧) بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ، ولا يحل خلافه. قال تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٣٥. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٨٢. [(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)](وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور : ٥٤. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التغابن : ١٢.

وأما أولو العزم من الرسل. فقد قيل فيهم أقوال أحسنها : ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة : أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ومحمد ، صلوات

__________________

ـ شاكر : «تكلم فيه بغير حجة ، والراجح توثيقه» مردود ، فقد قال فيه الامام أحمد : مضطرب الحديث. وقال ابو حاتم : ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كان ممن كثر وهمه حتى خرج عن جملة من يحتج بهم اذا انفردوا. ومن المقرر في «المصطلح» أن الجرح المفسر مقدم على التعديل ، وقد تبين من هذه الكلمات أن ضعفه بسبب وهمه ، ومن الغريب أنه ليس هناك نقل عن امام في توثيقه ، وأحسن ما قيل فيه قول النسائي : «صالح» أفمثل هذا يرد نصوص الأئمة الجارحة؟!

ثم وجدت للحديث علة أخرى ، وهي المخالفة والارسال ، أشار إلى ذلك البيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ١٠٩ ـ هندية) ، ولا يتسع المجال لبيان ذلك هنا ، فإلى «الضعيفة» (٥٤٤٤).

(٣٥٧) في الاصل : بيّنوا.

الله وسلامه عليهم. قال : وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الاحزاب : ٧. وفي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. [كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ]) الشورى : ١٣.

وأما الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالا وتفصيلا.

وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين ، فنؤمن بما سمّى الله تعالى منها في كتابه ، من التوراة والإنجيل والزبور ، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبا أنزلها على أنبيائه ، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله [تعالى].

وأما الإيمان بالقرآن ، فالإقرار به ، [و] اتباع ما فيه ، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب. فعلينا الايمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم (٣٥٨) من عند الله ، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء. قال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) البقرة : ١٣٦. إلى قوله : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) البقرة : ١٣٦. (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) آل عمران : ١ ، ٢. إلى قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) آل عمران : ٢. (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) البقرة : ٢٨٥. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء : ٨٢. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها ، وأنها نزلت من عنده. وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو. وقال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) البقرة : ٢١٣. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) حم السجدة : ٤٢. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) سبأ : ٦. (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس : ٥٧. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) حم السجدة : ٤٤. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) التغابن : ٨. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة.

__________________

(٣٥٨) في الاصل : آيتهم.

قوله : (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داموا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترفين ، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين).

ش : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا» (٣٥٩). ويشير الشيخ رحمه‌الله بهذا الكلام الى أن الإسلام والإيمان واحد ، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله. والمراد بقوله : أهل قبلتنا ، من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء ، أو من أهل المعاصي ، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. وعند قوله : والإسلام والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء.

قوله : (ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الكف عن كلام المتكلمين الباطل ، وذم علمهم ، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) النجم : ٢٣. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات بشيء ، بل يصفه بما وصف به نفسه. وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب ، فاختر الأدب أو العطب. ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات. قال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب. وقوله : ولا نماري في دين الله. معناه : لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم ، التماسا لامترائهم وميلهم ، لأنه في معنى الدعاء الى الباطل ، وتلبيس الحق ، وإفساد دين الاسلام.

__________________

(٣٥٩) اخرجه البخاري في الصلاة من حديث انس الا انه قال ، «له ما للمسلم وعليه ما على المسلم». واخرجه ابو داود وغيره عنه نحوه. وهو مخرج في «الصحيحة» (٣٠٣).

قوله : (ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو كلام الله تعالى ، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ، ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين).

ش : فقوله ولا نجادل في القرآن ، يحتمل أنه أراد : أنّا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، بل نقول : إنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، الى آخر كلامه. ويحتمل أنه أراد : أنّا لا نجادل في القراءة الثابتة ، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح. وكلّ من المعنيين حقّ. [و] يشهد بصحة المعنى الثاني ، ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : سمعت رجلا قرأ آية سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ خلافها ، فأخذت بيده ، فانطلقت به الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له ، فعرفت في وجهه الكراهة ، وقال : «كلاكما محسن ، لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم (٣٦٠) نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق ، لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه ، وعلّل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا. ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه ، لعثمان رضي الله عنه : أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم. فجمع الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا. وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ، ولم يكن في ذلك ترك لواجب (٣٦١) ، ولا فعل لمحظور ، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ، رخصة من الله تعالى ، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه. كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا. ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني ، وكذلك مصحف غيره. وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية ، بخلاف السور.

__________________

(٣٦٠) صحيح ، ولم يروه مسلم ، بل تفرد به البخاري دونه ، اخرجه في «الخصومات» و «الأنبياء» ومن الغريب تصدير الشارح اياه بقوله : «روي» المشعر بضعفه في اصطلاح المحدثين! وهذا أمر تساهل فيه أكثر المتأخرين كما نبه عليه النووي وغيره.

(٣٦١) في الاصل : واجب.

فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد ـ جمعهم الصحابة عليه. هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره : منهم من يقول : إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم ، وهو أوفق لهم ـ : أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة. وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام الى أن المصحف يشتمل على الأحرف السبعة لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة. وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني. وترك ما سواه. وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب ، وهو : أن ذلك كان جائزا لا واجبا ، أو أنه صار منسوخا. وأما من قال عن ابن مسعود إنه كان يجوّز القراءة بالمعنى! فقد كذب عليه ، وإنما قال : قد نظرت إلى القراءة (٣٦٢) فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم : لم ، وأقبل ، وتعال ، فاقرءوا كما علمتم. أو كما قال. والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب ، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن ، وليس إذا أخطأ يقال : إنه كافر ، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها. والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. ولهذا ذم السلف أهل الأهواء ، وذكر [وا] أن آخر أمرهم السيف. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا.

وقوله : ونشهد أنه كلام رب العالمين ، قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله : وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا.

وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الشعراء : ١٩٣ ، هو جبرائيل عليه‌السلام ، سمي روحا لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب الى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو أمين حقّ أمين ، صلوات الله عليه. قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ

__________________

(٣٦٢) في الاصل : القرّاء.

الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥. وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) التكوير : ١٩ ـ ٢١. وهذا وصف جبرائيل. بخلاف قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) الحاقة : ٤٠ ـ ٤١ ، الآيات. فإن الرسول هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : فعلّمه سيد المرسلين ، تصريح بتعليم جبرائيل إياه ، إبطالا لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاما.

وقوله : ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين ، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين ، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أنه كلام الله بالحقيقة غير مخلوق ، بل قوله : ولا نخالف جماعة المسلمين ، مجرى على إطلاقه : أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة.

قوله : (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله ، ولا نقول لا يضر مع الايمان ذنب لمن عمله).

ش : أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله : ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، [ما داموا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدّقين] ، يشير الشيخ رحمه‌الله [بهذا الكلام] الى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.

واعلم ـ رحمك الله وإيانا ـ أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه ، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة ، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم ، على طرفين ووسط ، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.

فطائفة تقول : لا نكفر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عامّا ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين ، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى

بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضا : فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة ، والمحرمات الظاهرة المتواترة ، ونحو ذلك ؛ فإنه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل كافرا مرتدّا. والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور ، كما ذكره الخلّال في كتاب السنة ، بسنده الى محمد بن سيرين ، أنه قال : إنّ أسرع الناس ردة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الانعام : ٦٨. ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا نكفر أحدا بذنب ، بل يقال : لا نكفرهم بكل ذنب ، كما تفعله (٣٦٣) الخوارج. وفرق بين النفي العامّ ونفي العموم. والواجب إنما هو نفي العموم ، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا ـ والله أعلم ـ قيده الشيخ رحمه‌الله [بقوله] : ما لم يستحله. وفي قوله : ما لم يستحله إشارة الى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب [من] الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العمل ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله : يستحله بمعنى : يعتقده ، أو نحو ذلك.

وقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ... إلى آخر كلامه ، ردّ على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون نكفّر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل

__________________

(٣٦٣) في الاصل : يفعله.

الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ، لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأولا ، فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، أو يقولون : يكفر كل مبتدع. وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فثان النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه [مثقال] ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتجّ بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك. والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه. وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : وأهل الكبائر في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون. والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال : إن إيمانه حبط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو : أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرّمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به ـ : يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن [وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها. وعن أبي يوسف رحمه‌الله ، أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه‌الله مدة ، حتى اتفق رأيي ورأيه : أن من قال بخلق القرآن فهو كافر]. وأما الشخص المعيّن ، إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلّا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت. ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب : «باب النهي عن البغي» ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال له : أقصر. فقال : خلّني وربي ، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال :

والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك [الله] الجنة فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يديّ قادرا؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به الى النار. قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده ، لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته» (٣٦٤). وهو حديث حسن. ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له ، [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : «إذا متّ فاسحقوني ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته» (٣٦٥) وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شكّ في ذلك. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا ، لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه. ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل : إنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا [إذا] صار منافقا زنديقا. فلا يتصور أن يكفّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا. وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنّف الخلق فيه ثلاثة أصناف : صنف : كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين. وصنف : المؤمنون باطنا وظاهرا. وصنف أقرّوا به ظاهرا لا باطنا. وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة. وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقرا بالشهادتين. فإنه لا يكون إلا زنديقا ، والزنديق هو المنافق.

وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كفّر كلّ من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يكفّر أقواما ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في «صحيح» البخاري ، عن أسلم مولى عمر [رضي الله عنه] ، عن عمر : أن رجلا كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان اسمه : عبد الله ، وكان يلقب : حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان

__________________

(٣٦٤) حسن كما قال المؤلف رحمه‌الله تعالى ، وفيه عكرمة بن عمار ، احتج به مسلم ، وفيه ضعف.

(٣٦٥) صحيح أخرجه البخاري وغيره.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جلده في الشراب ، فأتى به يوما ، فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلعنه ، [فو الله ما علمت] ، إنه يحب الله ورسوله» (٣٦٦) وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج. ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع منها. ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف (٣٦٧) من السلف المشاهير. فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطّئون ولا يكفّرون.

ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه‌الله ، وهو : أن الشارع قد سمّى بعض الذنوب كفرا ، قال الله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سباب المسلم (٣٦٨) فسوق ، وقتاله كفر» (٣٦٩). متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٣٧٠). و : «إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ـ فقد باء بها أحدهما» (٣٧١). متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه [خصلة منهن كان فيه] خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» (٣٧٢). متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو

__________________

(٣٦٦) وهو في «الحدود» من «البخاري».

(٣٦٧) في الاصل : الطوائف.

(٣٦٨) في الاصل : المؤمن.

(٣٦٩) وهو في «الايمان» من «الصحيحين». وانظر «صحيح الجامع الصغير» (٣٥٨٩ و ٣٥٩٦).

(٣٧٠) اخرجه الشيخان ، وهو مخرج في «غاية المرام» (٤٤٣).

(٣٧١) اخرجه الشيخان.

(٣٧٢) اخرجه الشيخان.

مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد» (٣٧٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة» (٣٧٤). رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أتى كاهنا فصدّقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (٣٧٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بغير الله فقد كفر» (٣٧٦). رواه الحاكم بهذا اللفظ. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثنتان في أمتي [بهم] كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت» (٣٧٧). ونظائر ذلك كثيرة.

والجواب : أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت أن الخوارج ، إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملّة لكان مرتدّا يقتل على كل حال ، ولا يقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة. فإن قولهم باطل أيضا ، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) البقرة : ١٧٨ ، الى أن قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة : ١٧٨. فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخا لوليّ القصاص ، والمراد أخوّة الدين بلا ريب. وقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الحجرات : ٩ ، الى أن قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات : ١٠. ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل ، بل يقام عليه الحد ،

__________________

(٣٧٣) اخرجه الشيخان.

(٣٧٤) اخرجه مسلم.

(٣٧٥) صحيح وهو مخرج في «آداب الزفاف» ص ٣١ ط ٣.

(٣٧٦) صحيح وتقدم الحديث (برقم ٢١٣).

(٣٧٧) صحيح ، رواه مسلم (١ / ٥٨) بلفظ «اثنتان في الناس ...» والباقي مثله.

فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلّله منه اليوم ، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ، ثم ألقي في النار» (٣٧٨). أخرجاه في «الصحيحين». فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه. وكذلك ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما تعدّون المفلس فيكم؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الحبال ، [فيأتي] وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيقتصّ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار» (٣٧٩). رواه مسلم. وقد قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هود : ١١٥. فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل (٣٨٠) حسنات تمحو سيئاته. وهذا مبسوط في موضعه.

والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج : نسميه كافرا ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقا ، فالخلاف بينهم لفظي فقط. وأهل السنة أيضا متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص. لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ـ : تبين لك فساد القولين! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى.

__________________

(٣٧٨) اخرجه البخاري في «المظالم» و «الرقاق» من حديث ابي هريرة دون قوله : «ثم القي ..» وكذلك رواه احمد (٢ / ٤٣٥ و ٥٠٦) ولم اره في «صحيح مسلم». وانظر «أحكام الجنائز» (ص ٤).

(٣٧٩) رواه مسلم وغيره من حديث ابي هريرة ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٨٤٧).

(٣٨٠) في الاصل : يفعل.

ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفرا دون كفر؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيمانا دون إيمان؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى «الإيمان» : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافرا نسميه كافرا ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافرا ـ ولا نطلق عليهما اسم الكفر. ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عمليّ لا اعتقاديّ ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده. ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازيّ غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) البقرة : ١٤٣ ، أي صلاتكم الى بيت المقدس ، انها سميت إيمانا مجازا ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمنا. ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا. فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرّين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد. ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة. ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادّهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) المائدة ٨ ، الآية.

وهنا أمر يجب أن يتفطّن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفرا : إما مجازيّا ، وإما كفرا أصغر ، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخيّر فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه

حكم الله ـ : فهذا كفر أكبر (٣٨١). وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافرا كفرا مجازيّا ، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور.

وأراد الشيخ رحمه‌الله بقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ـ مخالفة المرجئة. وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين ، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك. فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة ، وتأوّلوا قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ]) المائدة : ٩٣ ، الآية. فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اتفق هو وعليّ بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصرّوا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لقدامة : أخطأت استك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر. وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية. بيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرّم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتّقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس. ثم إن أولئك الذين فعلوا [ذلك يذمّون] على أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة. فكتب عمر الى قدامة يقول له : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ

__________________

(٣٨١) قال الشيخ أحمد شاكر : وهذا مثل ما ابتلي به الذين درسوا القوانين الاوروبية ، من رجال الأمم الاسلامية ، ونسائها أيضا! الذين أشربوا في قلوبهم حبها ، والشغف بها ، والذب عنها ، وحكموا بها ، وأذاعوها. بما ربوا من تربية اساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الاسلام. ومنهم من يصرح ، ومنهم من يتوارى. ويكادون يكونون سواء. فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

(٣٨١) في الاصل : حكم.

اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) غافر : ١ ـ ٣. ما أدري أيّ ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرّم أولا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيا؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام.

قوله : (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ، ولا نأمن عليهم ، ولا نشهد لهم بالجنة ، ونستغفر لمسيئهم ، ونخاف عليهم ، ولا نقنّطهم).

ش : وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه‌الله في حق نفسه وفي حق غيره. قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) الاسراء : ٥٧. وقال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران : ١٧٥. وقال تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة : ٤١. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة : ٤٠. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) البقرة : ١٥٠. ومدح أهل الخوف ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) المؤمنون : ٥٧ ـ ٥٨. الى قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) المؤمنون : ٦١. وفي «المسند» والترمذي عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) المؤمنون : ٦٠ ، هو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال : «لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» (٣٨٢). قال الحسن رضي الله عنه : عملوا ـ والله ـ بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن تردّ عليهم ، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمنا. انتهى. وقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة : ٢١٨. فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات؟ فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى ،

__________________

(٣٨٢) حديث حسن ، وقد خرجته في «الاحاديث الصحيحة» (١٦٢).

شرعة وقدرته (٣٨٣) وثوابه وكرامته. ولو أن رجلا له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه ، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها ، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض ـ : لعدّه الناس من أسفه السفهاء! وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام! وأمثال ذلك. فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، من غير طاعة ولا تقرب الى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومما ينبغي أن يعلم أنّ من رجا شيئا استلزم رجاؤه أمورا : أحدها : محبة ما يرجوه. الثاني : خوفه من فواته. الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك ، فهو من باب الأمانيّ ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر. فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير ، مخافة الفوات. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. فالمشرك لا ترجى له المغفرة ، لأن الله نفى عنه المغفرة ، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله ، إن الله غفر له ، وإن شاء عذّبه. وفي «معجم الطبراني» : الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان لا يغفر الله منه شيئا ، وهو الشرك بالله ، ثم قرأ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. وديوان لا يترك الله منه شيئا ، مظالم العباد بعضهم بعضا. وديوان لا يعبأ الله به ، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه (٣٨٤).

وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر ، وستأتي الإشارة الى ذلك عند قول الشيخ رحمه‌الله : وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون. ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له ، وهو : أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. وهذا أمر مرجعه الى ما

__________________

(٣٨٣) في الاصل : وقدره.

(٣٨٤) ضعيف ، ولم يروه الطبراني بل أحمد (٦ / ٢٤٠) والحاكم (٤ / ٥٧٥ ـ ٢٧٦) وقال : «صحيح الاسناد»! ورده الذهبي بقوله : «قلت : صدقة ، ضعفوه ، وابن بابنوس فيه جهالة».

يقوم بالقلب ، وهو قدر زائد على مجرد الفعل ، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره.

[وأيضا] : فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان (٣٨٥) العظيم ما لا يعفى لغيره ، فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب ، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة : السبب الأول : التوبة ، قال تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ) مريم : ٦٠ ، الفرقان : ٧٠. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) البقرة : ١٦٠ وغيرها. والتوبة النصوح ، وهي الخالصة ، لا يختص بها ذنب دون ذنب ، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل. وهل يجبّ الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بدّ مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصرّ على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بدّ أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح : أنه لا بد من التوبة مع الإسلام ، وكون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها ـ مما لا خلاف فيه بين الأمة. وليس شيء يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر : ٥٣ ، وهذا لمن تاب ، ولهذا قال : (لا تَقْنَطُوا) ، وقال بعدها : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) الزمر : ٥٤ ، الآية. السبب الثاني : الاستغفار ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الانفال : ٣٣. لكن الاستغفار تارة يذكر وحده ، وتارة يقرن بالتوبة ، فإن ذكره وحده دخلت معه التوبة ، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار. فالتوبة تتضمن الاستغفار ، والاستغفار يتضمن التوبة ، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى ، فالاستغفار : طلب وقاية شرّ ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل

__________________

(٣٨٥) في الاصل : السيئات.

من سيئات أعماله. ونظير هذا : الفقير والمسكين ، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر ، وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى. قال تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) المائدة : ٨٩. (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) المجادلة : ٤. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة : ٢٧١. لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقلّ والمعدم ، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) التوبة : ٦٠ ، الآية ـ : كان المراد بأحدهما المقلّ ، والآخر المعدم ، على خلاف فيه. وكذلك : الإثم والعدوان ، والبر والتقوى ، والفسوق والعصيان. ويقرب من هذا [المعنى] : الكفر والنفاق ، فإن الكفر أعم ، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق ، وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام (٣٨٦) ، على ما يأتي الكلام فيه ، إن شاء الله تعالى. السبب الثالث : الحسنات : فإن الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، فالويل لمن [غلبت] آحاده عشراته. وقال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هود : ١١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واتبع السيئة الحسنة تمحها» (٣٨٧). السبب الرابع : المصائب الدنيوية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غمّ ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها ـ إلا كفّر بها من خطاياه» (٣٨٨). وفي «المسند» : أنه لما نزل قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) النساء : ١٢٣ ـ قال أبو بكر : يا رسول الله ، نزلت قاصمة الظهر (٣٨٩) ، وأينا لم يعمل سوءا؟ فقال : «يا أبا بكر ، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به» (٣٩٠).

__________________

(٣٨٦) قال عفيفي : انظر اسباب سقوط العقوبة عن العبد ص ٤٨٧ / ٥٠١ من الفتاوي.

(٣٨٧) حديث حسن ، وهو مخرج في «الروض النضير» (٨٥٥).

(٣٨٨) متفق عليه من حديث ابي سعيد وأبي هريرة معا.

(٣٨٩) في الاصل : للظهر.

(٣٩٠) ضعيف الاسناد ، صحيح المعنى ، قال أحمد شاكر في تعليقه هنا : حديث أبي بكر هذا في «المسند» ، برقم : ٦٨ بشرحنا. ولكن اوله هناك أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ .. فكل سوء عملناه جزينا به؟». ليس فيه قوله هنا «نزلت قاصمة الظهر ..» وهو حديث ضعيف ، اسناده منقطع. وكان الأجدر بالشارح أن يذكر حديث

فالمصائب نفسها مكفرة ، وبالصبر عليها يثاب العبد ، وبالسخط يأثم. والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة ، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد ، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ، ويكفّر ذنبه بها ، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله ، والصبر والسخط من فعله ، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد ، بل هدية من الغير ، أو فضلا من الله من غير سبب ، قال تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء : ٤٠. فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم. وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب ، وليس ذلك مدلوله ، وإنما يكون من لازمه. السبب الخامس : عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى. السبب السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات. السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت ، من ثواب صدقة أو قراءة أو حجّ ، ونحو ذلك ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده. السبب التاسع : ما ثبت في «الصحيحين» : «أن المؤمنين اذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض ، فإذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة» (٣٩١). السبب العاشر : شفاعة الشافعين ، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها. السبب الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة ، كما قال

__________________

ابي هريرة في «المسند» : ٧٣٨٠ انه لما نزلت هذه الآية «شقت على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله ان تبلغ ، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم : قاربوا وسددوا ، فكل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها». وهو حديث صحيح ، رواه مسلم في صحيحه (٢ / ٢٨٢) ، وزاد في آخره : «والشوكة يشاكها». ولو رجع الشارح رحمه‌الله الى تفسير شيخه ابن كثير في هذه الآية (٢ / ٨٥٦ ـ ٥٩٠) لوجد حديث أبي هريرة ، وأحاديث أخر في معناه ، بعضها أصح اسنادا من حديث أبي بكر.

قلت : وهو في «مسند ابي بكر الصديق» للحافظ ابي بكر المروزي (رقم ٢٠ و ١١١) طبع المكتب الاسلامي تحقيق الاستاذ شعيب الارناؤوط من طريقين ضعيفين عن الصديق رضي الله عنه.

(٣٩١) هو طرف من حديث ، اخرجه البخاري في «المظالم و «الرقاق» وأحمد (٣ / ١٣ و ٦٣ و ٧٤) من حديث ابي هريرة مرفوعا ، ولم اره في صحيح مسلم ، ولا عزاه السيوطي إليه.

تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه ، فلا بدّ من دخوله الى الكير ، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه ، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، بل من قال : لا إله إلا الله ، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه (٣٩٢). وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع القطع لأحد معين من الأمة ، غير من شهد له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، ولكن نرجو للمحسنين ، ونخاف عليهم.

قوله : (والأمن والاياس ينقلان عن ملة الاسلام ، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة).

ش : يجب أن يكون العبد خائفا راجيا ، فإن الخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله ، فهو راج لثوابه ، أو رجل أذنب ذنبا ثم تاب منه الى الله ، فهو راج لمغفرته. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة : ٢١٨. أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا ، يرجو رحمة الله بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال : أبو علي الروذباري رحمه‌الله : الخوف والرجاء كجناحي الطائر ، اذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، واذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، واذا ذهبا صار الطائر في حدّ الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر : ٩ ، الآية. وقال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة : ١٦ ، الآية. فالرجاء يستلزم الخوف ، ولو لا ذلك لكان أمنا ، والخوف يستلزم الرجاء ، ولو لا ذلك لكان قنوطا ويأسا. وكل أحد اذا خفته هربت منه ، إلا الله تعالى ، فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه الى ربه. وقال صاحب «منازل السائرين» رحمه‌الله : الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر ، بل الرجاء والخوف على

__________________

(٣٩٢) متفق عليه

.

الوجه المذكور من أشرف منازل المريد. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : أنا عند ظن عبدي بي. فليظن [بي] ما شاء» (٣٩٣) وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل موته بثلاث : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» (٣٩٤) ، ولهذا قيل : إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه ، بخلاف زمن الصحة ، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه. وقال بعضهم : من عبد الله بالحب [وحده] فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، [وروي] : ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد. ولقد أحسن محمود الوراق في قوله :

لو قد رأيت الصغير من عمل الخ

ير ثوابا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل الش

ر جزاء أشفقت من حذره

قوله : (ولا يخرج العبد من الايمان الا بجحود ما ادخله فيه).

ش : يشير الشيخ الى الرد على الخوارج والمعتزلة في قوله بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة. وفيه تقرير لما قال أولا : لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله. وتقدم الكلام على هذا المعنى.

قوله : (والايمان : هو الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرع والبيان كله حق. والايمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى).

__________________

(٣٩٣) متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ : «.. وأنا معه إذا ذكرني ..» الحديث ، وقد مضى في الكتاب (برقم ٣٥٥) معزوا ل «الصحيح» أيضا ، وعزوه إليه هنا خطأ ، فإنه إنما رواه بهذا اللفظ الذي هنا عن ابي هريرة الامام أحمد ، وفيه ابن لهيعة ، لكن له شاهد من حديث واثلة ، رواه احمد وغيره بسند صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي ، وهو مخرج في «الصحيحة» تحت الحديث (١٦٦٣).

(٣٩٤) رواه مسلم وغيره كما في «أحكام الجنائز» (ص ٣).

ش : اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان ، اختلافا كثيرا : فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم‌الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين : إلى أنه تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا الى ما ذكره الطحاوي رحمه‌الله : أنه الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول : إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي ، والى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه‌الله ، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرّامية الى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان ، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية ـ إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فسادا مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين ، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا بهما ، ولهذا قال موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) الاسراء : ١٠٢. وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) النمل : ١٤. وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ولم يكونوا مؤمنين به ، بل كافرين به ، معادين له ، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمنا ، فإنه قال :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

بل إبليس يكون عند الجهم مؤمنا كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه ، بل هو عارف به ، (قالَ : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر : ٣٦. (قالَ : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الحجر : ٣٩. (قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ص : ٨٢. والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق ، وسلب عنه جميع صفاته ، ولا جهل أكبر من هذا ، فيكون كافرا بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر ، بتفاصيل وقيود ، أعرضت

عن ذكرها اختصارا ، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي (٣٩٥) في «تبصرة الأدلة» وغيره.

وحاصل الكل [يرجع] الى أن الإيمان : إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم‌الله ، كما تقدم ، أو بالقلب واللسان دون الجوارح ، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله. أو باللسان وحده ، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده ، وهو إما المعرفة ، كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه‌الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.

والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة ـ اختلاف صوريّ. فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءا من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ـ : نزاع لفظي ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. والقائلون بتكفير تارك الصلاة ، ضموا الى هذا الأصل أدلة أخرى. وإلا فقد نفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية ، اتفاقا. ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان؟ أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازا؟ هذا محل النزاع.

وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ، وامتنع عن العمل بجوارحه ـ : [أنه] عاص لله ورسوله ، مستحق للوعيد ، لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئا واحدا فإيماني كإيمان أبي بكر

__________________

(٣٩٥) هو ميمون بن محمد بن محمد أبو المعين النسفي الحنفي عالم بالاصول والكلام كان بسمرقند وسكن بخارى. له كتب عدة (٤١٨ ـ ٥٠٨).

الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم‌السلام!! وهذا غلوّ منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش والأعشى ، و [من] يرى الخط الثخين ، دون الدقيق (٣٩٦) إلا بزجاجة ونحوها ، ومن يرى عن قرب زائد على العادة ، وآخر بضده.

ولهذا ـ والله أعلم ـ قال الشيخ رحمه‌الله : وأهله في أصله سواء ، يشير الى أن التساوي إنما هو في أصله (٣٩٧) ، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ، بل تفاوت [درجات] نور «لا إله إلا الله» في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى : فمن الناس من نور [«لا إله إلا الله»] في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، وآخر كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج المضيء ، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار ، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علما وعملا ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته ، بحيث إنه ربما وصل الى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنبا إلا أحرقه ، وهذه حال الصادق في توحيده ، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق. ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله» (٣٩٨) ، وقوله : «لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله» (٣٩٩) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأوّل بعضهم الدخول بالخلود ، ونحو ذلك. والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا

__________________

(٣٩٦) في الاصل : الرفيع.

(٣٩٧) في الاصل : العلم.

(٣٩٨) متفق عليه من حديث عتبان بن مالك.

(٣٩٩) متفق عليه ، نحوه من حديث عتبان.

من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار ، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا ، كل سجلّ منها مدّ البصر ، فنقل البطاقة ، وتطيش السجلات ، فلا يعذب صاحبها (٤٠٠). ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان ، التي لم تشغله عند السياق عن السير الى القرية ، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان ، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية ، فغفر لها. وهكذا العقل أيضا ، فإنه يقبل التفاضل ، وأهله في أصله سواء ، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين ، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم ، فيكون إيجاب دون إيجاب ، وتحريم دون تحريم. هذا هو الصحيح ، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب.

وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل ـ : فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق ، المستلزم لعمل القلب والجوارح ـ : [فهو] أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المخبر كالمعاين» (٤٠١) وموسى عليه‌السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح ، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله ،

__________________

(٤٠٠) صحيح ، وهو من حديث عبد الله بن عمرو ، اخرجه احمد والترمذي وغيرهما ، وهو مخرج في الاحاديث الصحيحة» (١٣٥) وغيره ، وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب (برقم ٥٦٧).

(٤٠١) صحيح ، اخرجه أحمد (١ / ٢١٥ ، ٢٧١) والطبراني والخطيب وغيرهم بسند صحيح بلفظ : «ليس الخبر كالمعاينة» وانظر «تخريج المشكاة» (٥٧٣٨).

لكن المخبر ، وإن جزم بصدق المخبر ، فقد لا يتصور [المخبر به نفسه ، كما يتصوره] إذا عاينه ، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة : ٢٦٠. وأيضا : فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا ، يجب عليه [من] الإيمان أن يعلم ما أمر به ، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره [الإيمان به] إلا مجملا ، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم ، إنما يجب عليه الإقرار المجمل ، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها. ويؤديها ، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم ، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة ـ : لا تقع معه معصية ، ولو لا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى ، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية ، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي. ولهذا ـ والله أعلم ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٤٠٢) ، الحديث. فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا ، وإن بقي أصل التصديق في قلبه ، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الاعراف : ٢٠١. قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات ، [فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) الاعراف : ٢٠٢ ، أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات] ، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى ، والشيطان يمده في غيّه ، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب ، فذلك النور والإبصار ، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى ، وإن لم يكن أعمى ، فكذلك القلب ، بما يغشاه من رين الذنوب ، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى

__________________

(٤٠٢) متفق عليه وقد مضى الحديث (برقم ٣٧٣).

كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال : «إذا زنا العبد نزع منه الإيمان ، فإذا تاب أعيد إليه» (٤٠٣).

إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعا لفظيّا ، فلا محذور فيه ، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك ، وأن يصير ذلك ذريعة الى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم ، والى ظهور الفسق والمعاصي ، بأن يقول : أنا مؤمن مسلم حقّا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعا. فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر الى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع. وبقية الأئمة رحمهم‌الله نظروا الى حقيقته في عرف الشارع ، فإن الشارع ضم الى التصديق أوصافا وشرائط ، كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك.

فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمه‌الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبرا عن إخوة يوسف : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) يوسف : ١٧ ، أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك. ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقّا لله ، وهو أن يصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا. هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادّهما. وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) النحل : ١٠٦ ، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركبا من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) البقرة : ٢٥ وغيرها ، في مواضع من القرآن.

__________________

(٤٠٣) صحيح ، اخرجه ابو داود والحاكم وصححه هو والذهبي ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٥٠٩)

.

وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ـ بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان. ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدّق : صدّقه ، ولا يقال : آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) العنكبوت : ٢٦. (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ) يونس : ٨٣. وقال تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) التوبة : ٦١ ، ففرق بين المعدّى بالباء والمعدّى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر. ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدّق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، [كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل] اسم فاعل ، أو مصدرا ، على ما عرف في موضعه. فالحاصل أنه لا يقال : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال : آمنت له ، كما يقال : أقررت له. فكان تفسيره بأقررت ـ أقرب من تفسيره بصدّقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت. فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس ـ : صدّقناه ، ولا يقال : آمنّا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر. ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له ـ إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ـ : لكان كفرا أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ، ولا الكفر التكذيب فقط ، بل اذا كان الكفر يكون تكذيبا ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب. فكذلك الإيمان ، يكون تصديقا وموافقة وموالاة وانقيادا ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمّى الإيمان. ولو سلّم الترادف ، فالتصديق يكون بالافعال أيضا كما ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العينان؟؟؟؟ النظر ، والاذن؟؟ وزناها السمع» الى أن قال : «والفرح

يصدّق ذلك ويكذبه» (٤٠٤). وقال الحسن البصري رحمه‌الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال. ولو كان تصديقا فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبيّنه. فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام ، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص ، من غير تغير اللسان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق. ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتقاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول : إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولكن الشارع زاد فيه أحكاما ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع (٤٠٥). وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق.

وقالوا : إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضروريّا أن من قيل إنّه صدّق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضا للرسول ، معاديا له يقاتله ـ : أن هذا ليس بمؤمن. كما علمنا أنه رتّب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما. فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (٤٠٦). وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحياء شعبة من الإيمان» (٤٠٧). وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (٤٠٨).

__________________

(٤٠٤) متفق عليه وتقدم.

(٤٠٥) قال عفيفي : انظر ص ٢٩٠ ـ ٢٩٦ من كتاب الايمان ج ٧ من مجموع الفتاوى.

(٤٠٦) متفق عليه من حديث ابي هريرة ، واللفظ لمسلم باختلاف يسير. وهو مخرج في الصحيحة» (١٧٦٩ ـ المجلد الرابع) وهو تحت الطبع.

(٤٠٧) متفق عليه ، وهو طرف من الحديث الذي قبله.

(٤٠٨) صحيح ، رواه ابن داود وابن حبان والحاكم واحمد وغيرهم.

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البذاذة من الإيمان» (٤٠٩). فإذا كان الإيمان أصلا له شعب متعددة ، وكل شعبة منها تسمى : إيمانا ، فالصلاة من الإيمان ، وكذلك الزكاة والصوم والحج ، والأعمال الباطنة ، كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه ، حتى تنتهي هذه الشعب الى إماطة الأذى عن الطريق ، فإنه من شعب الإيمان. وهذه الشّعب ، منها ما يزول الإيمان بزوالها [إجماعا] ، كشعبة الشهادتين ، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا ، كترك إماطة الأذى عن الطريق ، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما ، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى. وكما أن شعب الإيمان إيمان ، فكذا شعب الكفر كفر ، فالحكم بما أنزل الله ـ مثلا ـ من شعب الايمان ، والحكم بغير ما أنزل الله كفر. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (٤١٠). رواه مسلم. وفي لفظ : «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». وروى الترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ـ : فقد استكمل الإيمان» (٤١١). ومعناه ـ والله أعلم ـ أن الحب والبغض أصل حركة القلب ، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك ، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس ، والبدن متوسط بين القلب والمال ، فمن كان أول أمره وآخره كله لله ، كان الله إلهه في كل شيء ، فلم يكن فيه شيء من الشرك ، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه ، فيكون مستكملا الإيمان. الى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل.

وسيأتي في كلام الشيخ رحمه‌الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم : وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. فسمى حب الصحابة إيمانا ، وبغضهم كفرا.

__________________

(٤٠٩) حسن. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد والطبراني ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٣٤١). والمراد «البذاذة» التواضع في اللباس ، وترك التبجح به.

(٤١٠) مسلم باللفظين ، وهو مخرج في «تخريج مشكلة الفقر» (٦٦) و «صحيح أبي داود» (١٠٣٤).

(٤١١) صحيح. وهو مخرج في «تخريج المشكاة» (٣٠ ـ ٣١) ، و «الصحيحة» (٣٨٠).

وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره ، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب.

فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب. فانظر الى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن البخاري رحمه‌الله إنما رواه : بضع وستون من غير شك. (٤١٢). وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب.

وقالوا أيضا : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الاعتقاد ، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر (٤١٣) ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!

ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذا لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب» (٤١٤). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا ، بخلاف العكس. وأما كونه يلزم من زوال جزئه

__________________

(٤١٢) قلت : ورواه مسلم بلفظ : «بضع وسبعون» كما تقدم (برقم ٤٠٦) ، وهو الأرجح عندي كما هو مبين في المجلد المشار إليه من «الصحيحة».

(٤١٣) في الاصل : الاجزاء.

(٤١٤) هو طرف من حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير ، وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج الحلال والحرام» برقم (٢٠).

زوال كله ، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ، فمسلّم ، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء ، فيزول عنه الكمال فقط.

والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جدّا : منها : قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) الانفال : ٢. (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) مريم : ٧٦. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) المدثر : ٣١. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) الفتح : ٤. (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران : ١٧٣. وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس : (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) آل عمران : ١٧٣ زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقينا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) آل عمران : ١٦٧. وقال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥. وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه‌الله ، في تفسيره عند هذه الآية ، فقال : حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي ، قالا : حدثنا فارس بن مردويه ، قال : حدثنا محمد بن الفضل بن العابد ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا أبو مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي المهزّم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء وفد ثقيف الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، الإيمان يزيد وينقص؟ فقال : «لا ، الإيمان مكمل في القلب ، زيادته كفر ، ونقصانه شرك» (٤١٥). فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه‌الله عن هذا الحديث؟ فأجاب : بأن الإسناد من أبي الليث الى أبي

__________________

(٤١٥) موضوع أفته ابو المهزم ، فقد اتهمه شعبة كما ذكره الشارح وغيره ، وأبو مطيع اتهمه الجوزقاني والذهبي بالوضع كما في «اللسان» ، ونحوه ما سأذكره عن ابن حبان

مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة. وأما أبو مطيع ، فهو : الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعمرو بن علي الفلّاس ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي (٤١٦) ، والعقيلي ، وابن عدي ، والدار قطني ، وغيرهم. وأما أبو المهزم ، الراوي عن أبي هريرة ، وقد تصحّف على الكتّاب ، واسمه : يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضا ، غير واحد ، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك ، وقد اتهمه شعبة بالوضع ، حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا!

وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء بنقصان العقل والدين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (٤١٧). والمراد نفي الكمال ، ونظائره كثيرة ، وحديث شعب الإيمان ، وحديث الشفاعة ، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فكيف يقال بعد هذا : ان إيمان أهل السموات والأرض سواء؟! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الايمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضا. منه : قول أبي الدرداء رضي الله عنه : من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيمانا ، فيذكرون الله تعالى عزوجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل : اجلس بنا نؤمن ساعة (٤١٨). ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه فقد استكمل

__________________

(٤١٦) قال في «الضعفاء والمجروحين» (١ / ٢٥٠) : «كان من رؤساء المرجئة ، من يبغض السنن ومنتحليها ، وهو الذي روى ..» ثم ساق له هذا الحديث.

(٤١٧) متفق عليه من حديث انس بن مالك رضي الله عنه.

(٤١٨) رواه ابن أبي شيبة في «الايمان» (رقم ١٠٥ و ١٠٧ بتحقيقي) وكذا أبو عبيد في «الايمان» (٢٠) لسند صحيح عنه ، وعلقه البخاري في «صحيحه» (رقم ٢ ـ مختصر البخاري) طبع المكتب الاسلامي

.

الإيمان : إنصاف من نفسه. والإنفاق من إقتار ، وبذل السلام للعالم (٤١٩) ذكره البخاري رحمه‌الله في «صحيحه». وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق.

وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة ، فلا يكون العمل داخلا في مسمى الإيمان ـ : فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقا عن العمل وعن الإسلام ، وتارة يقرن بالعمل الصالح ، وتارة يقرن بالإسلام. فالمطلق مستلزم للأعمال ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الانفال : ٢ ، الآية. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية. (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) المائدة : ٨١. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٤٢٠) ، الحديث. «لا تؤمنوا حتى تحابّوا» (٤٢١). «من غشنا فليس منا» (٤٢٢). «من حمل علينا السلاح فليس منا» (٤٢٣). وما أبعد قول من قال : إن معنى قوله : «فليس منّا» ـ أي فليس مثلنا! فليت شعري ، فمن لم يغشّ يكون مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

أما إذا عطف عليه العمل الصالح ، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما ، والمغايرة

__________________

(٤١٩) رواه ابن ابي شيبة في «الايمان» (رقم ١٣١) باسناد صحيح عنه موقوفا ، وأورده البخاري في «الايمان» معلقا مجزوما موقوفا ، (رقم ٩ ـ مختصر البخاري) ورواه بعضهم مرفوعا ، وهو خطأ ، كما قال ابو زرعة وغيره. ذكره الحافظ في «الفتح» (١ / ٩٠ طبع مصطفى الحلبي).

وقال : «الا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع». وهو مخرج في تعليقي على «الكلم الطيب» (رقم التعليق ١٤٢ طبع المكتب الاسلامي).

(٤٢٠) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ورواه ابن أبي شيبة (رقم ٣٨ ـ ٤١ و ٧٣) عنه وعن عائشة وابن أبي أوفى.

(٤٢١) رواه مسلم. وأبو عوانة في «صحيحيهما» وغيرهما ، وصححه الترمذي ، وهو مخرج في «الارواء» (٧٧٧).

(٤٢٢) رواه مسلم وأبو عوانة في «صحيحهما» وغيرهما ، وصححه الترمذي والحاكم وهو مخرج في «الارواء» (١٣١٩).

(٤٢٣) رواه البخاري ومسلم.

على مراتب : أعلاها : أن يكونا متباينين ، ليس أحدهما هو الآخر ، ولا جزءا منه ، ولا بينهما تلازم ، كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الانعام : ١. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران : ٣. وهذا هو الغالب ، ويليه : أن يكون بينهما تلازم ، كقوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة : ٤٢. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) المائدة : ٩٢. الثالث : عطف بعض الشيء عليه ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) البقرة : ٢٣٨. (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) البقرة : ٩٨ ([وَإِذْ أَخَذْنا] مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ) الاحزاب : ٧. وفي مثل هذا وجهان : أحدهما : أن يكون داخلا في الأول ، فيكون مذكورا مرتين. والثاني : أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا ، وإن كان داخلا فيه منفردا ، كما قيل مثل ذلك في لفظ «الفقراء والمساكين» ونحوهما ، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. الرابع : عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين ، كقوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) غافر : ٣. وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط ، كقوله :

* فألفى قولها كذبا ومينا

ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) المائدة : ٤٨. والكلام على ذلك معروف في موضعه.

فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه ، نظرنا في كلام الشارع : كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر ، والتقوى ، والدّين ، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) البقرة : ١٧٧ ، الآيات. قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، والملائي ، قالا : حدثنا المسعودي ، عن القاسم ، قال : جاء رجل الى أبي ذر رضي الله عنه ، فسأله عن الإيمان؟ فقرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) البقرة : ١٧٧ ، إلى آخر الآية ، فقال الرجل : ليس عن هذا سألتك ، فقال : جاء

رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه ، فقرأ [عليه] الذي قرأت عليك (٤٢٤) ، فقال له الذي قلت لي ، فلما أبى أن يرضى ، قال : «إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها» (٤٢٥). وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي «الصحيح» قوله لوفد عبد القيس : «آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (٤٢٦). ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب ، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق ، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد [مع] الجحود. وفي «المسند» عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الإسلام علانية ، والإيمان في القلب» (٤٢٧). وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان. ويؤيده قوله [في حديث سؤالات جبريل ، في معنى الاسلام والإيمان. ،] وقد قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم

__________________

(٤٢٤) قال عفيفي : انظر ص ١٧٢ وما بعدها من كتاب «الايمان».

(٤٢٥) ضعيف بهذا السياق والاسناد ، وعلته الانقطاع ، واختلاط المسعودي ، لكن صح الحديث من رواية ابي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله رجل ، فقال : يا رسول الله ما الايمان؟ قال : «اذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن ،» قال : يا رسول الله ما الاثم؟ قال : «اذا حاك في صدرك شيء فدعه» ، رواه الحاكم (١ / ١٤) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وانما هو على شرط مسلم وحده ، فإن ممطورا لم يخرج له البخاري في صحيحه. الصحيحة (٥٥٠).

(٤٢٦) اخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٤٢٧) اسناده ضعيف ، فيه علي بن مسعدة ، قال العقيلي في «الضعفاء» قال البخاري : «فيه نظر» ، وقال عبد الحق الأزدي في «الأحكام الكبرى» (ق ٣ / ٢) : «حديث غير محفوظ».

دينكم» (٤٢٨). فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان ، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة. لكن هو درجات ثلاثة : مسلم ، ثم مؤمن ، ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعا ، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والاسلام ، لا أن الإحسان يكون مجردا عن الإيمان. هذا محال. وهذا كما قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا. فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فاطر : ٣٢. والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة ، بخلاف الظالم لنفسه ، فإنه معرض للوعيد. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب ، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد. فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله ، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الايمان ، والايمان يدخل فيه الاسلام ، والمحسنون أخص من المؤمنين ، والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كالرسالة والنبوة ، فالنبوة داخلة في الرسالة ، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها ، فكل رسول نبي ، ولا ينعكس.

وقد صار الناس في مسمى الاسلام على ثلاثة أقوال : فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة ، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان ، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان [بالإيمان] بالأصول الخمسة (٤٢٩). وطائفة جعلوا الإسلام مرادفا للإيمان ، وجعلوا معنى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة» (٤٣٠) ، الحديث ـ : شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير ، مع أنهم قالوا : إن الإيمان هو التصديق بالقلب ، ثم قالوا الإسلام والإيمان شيء واحد ، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة ، وإنما هو الانقياد والطاعة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لك

__________________

(٤٢٨) اخرجه مسلم من حديث ابن عمر ، والبخاري من حديث ابي هريرة نحوه.

(٤٢٩) مسلم ، وهو حديث جبريل المتقدم آنفا.

(٤٣٠) متفق عليه.

أسلمت وبك آمنت» (٤٣١). وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فانه يتضمن الإسلام ، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمنا بلا نزاع ، وهذا هو الواجب ، وهل يكون مسلما ولا يقال له مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه.

وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور. وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان ، كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يونس : ٦٢ ـ ٦٣. وقال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الحديد : ٢١ وأما اسم الإسلام مجردا فما علق به في القرآن دخول الجنة ، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه ، وبه بعث النبيين ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) آل عمران : ٨٥.

فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر ، فمثل الاسلام من الايمان ، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى ، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية ، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم ، كشيء واحد. كذلك الاسلام والايمان ، لا إيمان لمن لا إسلام له ، ولا إسلام لمن لا إيمان [له] ، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه ، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه. ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة ، أعني في الإفراد والاقتران ، منها : لفظ الكفر والنفاق ، فالكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) المائدة : ٥. ونظائره كثيرة. وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره ، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى ، ولفظ الإثم والعدوان ، ولفظ التوبة والاستغفار ، ولفظ الفقير والمسكين ، وأمثال ذلك.

__________________

(٤٣١) متفق عليه من حديث ابن عباس. وهو طرف من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استفتاح صلاة الليل. انظر «صفة الصلاة».

ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان ، قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ، إلى آخر السورة. وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية : (قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ـ : انقدنا بظواهرنا ، فهم منافقون في الحقيقة ، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر ، ورجح ، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان ، لا أنهم منافقون ، كما نفى الإيمان عن القاتل ، والزاني ، والسارق ، ومن لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية ، فإن السورة من أولها الى هنا في النهي عن المعاصي ، وأحكام بعض العصاة ، ونحو ذلك ، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) الحجرات : ١٤ ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة ، ثم قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية ، يعني ـ والله أعلم ـ أن المؤمنين الكاملي الإيمان ، هم هؤلاء ، لا أنتم ، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا : أنه أمرهم ، أو أذن لهم ، أن يقولوا : أسلمنا ، والمنافق لا يقال له ذلك ، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الاسلام ، كما نفى عنهم الإيمان ، ونهاهم أن يمنّوا بإسلامهم ، فأثبت لهم إسلاما ، ونهاهم أن يمنّوا به على رسوله ، ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال : لم تسلموا ، بل أنتم كاذبون ، كما كذبهم في قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) المنافقون : ١. والله أعلم بالصواب.

وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف ، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان [هو] الأمور الظاهرة لكان ينبغي أن لا يقابل بذلك ، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد ، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما ، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر الى كلمة الشهادة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (٤٣٢) ، الحديث ، فلو قالوا : لا إله إلا الله ، وأنكروا الرسالة ـ : [ما] كانوا يستحقون العصمة ، بل

__________________

(٤٣٢) متفق عليه من حديث جمع من الصحابة ، وهو حديث متواتر كما قال السيوطي ، وقد خرجت طائفة من طرقه في «الاحاديث الصحيحة» (٤٠٧).

لا بد أن يقولوا : لا إله إلا الله قائمين بحقها ، ولا يكون قائما ب «لا إله إلا الله» حق القيام ، إلا من صدق بالرسالة ، وكذا من شهد أن محمدا رسول الله ، [لا يكون قائما بهذه الشهادة حق القيام ، إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله الى شهادة أن محمدا رسول الله] ـ كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله ثبات التوحيد ، ومن شهادة أن محمدا رسول الله إثبات الرسالة. كذلك الإسلام والإيمان : إذا قرن أحدهما بالآخر ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الاحزاب : ٣٥. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لك أسلمت وبك آمنت» (٤٣٣) ـ : كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر. وكما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام علانية ، والإيمان في القلب» (٤٣٤). وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه ، وكما في الفقير والمسكين ونظائره ، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، فهل يقال في قوله تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) المائدة ٨٩ ـ أنه يعطى المقلّ دون المعدم ، أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة : ٢٧١.

ويندفع أيضا تشنيع من قال : ما حكم من آمن ولم يسلم؟ أو أسلم ولم يؤمن؟ فى الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكما ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله! ويقال له في مقابلة تشنيعه : أنت تقول : المسلم هو المؤمن ، والله تعالى يقول : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الاحزاب : ٣٥ ، فجعلهما غيرين ، وقد قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ قال : «او مسلما» (٤٣٥) ، قالها ثلاثا ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان ، فمن قال : هما سواء ـ كان مخالفا ، والواجب رد موارد النزاع الى الله ورسوله. وقد؟؟ في بعض النصوص معارضة ، ولا معارضة بحمد الله تعالى ، ولكن الشأن في التوفيق ، وبالله التوفيق.

__________________

(٤٣٣) متفق عليه ، كما تقدم قريبا (ص ٣٤٨).

(٤٣٤) ضعيف كما سبق أنفا بالحديث (رقم ٤٢٧).

(٤٣٥) متفق عليه من حديث سعد بن ابي وقاص

.

وأما الاحتجاج بقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذاريات : ٣٥ ـ ٣٦ ـ على ترادف الإسلام والإيمان ، فلا حجة فيه ، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والايمان ، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.

والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وإنما هي من الأصحاب ، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، [وأن حماد بن زيد] لما روي له حديث : أي الإسلام أفضل (٤٣٦) الى آخره ، قال له : ألا تراه يقول : أي الإسلام أفضل ، قال : الإيمان ، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه : ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال : بما أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن ثمرات هذا الاختلاف : مسألة الاستثناء في الإيمان ، وهو أن يقول [أي] الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال : طرفان ووسط ، منهم من يوجبه ، ومنهم من يحرمه ، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار ، وهذا أصح الأقوال.

أما من يوجبه فلهم مأخذان : أحدهما : أن الإيمان هو ما مات الانسان عليه ، والانسان إنما يكون عند الله مؤمنا أو كافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك لا عبرة به ، قالوا : والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ـ : ليس بإيمان ، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم ، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه يموت مؤمنا ، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم ، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف ، ولا كان يقول بهذا من

__________________

(٤٣٦) متفق عليه من حديث أبي موسى الاشعري ، ولهما نحوه من حديث ابن عمرو. وانظر لفظهما إن شئت في «مختصر البخاري» (٨ و ٩).

يستثنى من السلف في إيمانه ، وهو فاسد ، فإن الله تعالى قال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران : ٣١ ، فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول ، فاتباع الرسول شرط المحبة ، والمشروط يتأخر عن الشرط ، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار الى هذا القول طائفة غلوا فيه ، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة ، يقول : صليت إن شاء الله! ونحو ذلك ، يعني القبول. ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء ، فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه؟ يقولون : نعم ، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!! المأخذ الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله ، وترك ما نهاه عنه كله ، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ـ : فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بجميع ما أمروا به ، وترك كل ما نهوا عنه ، فيكون من أولياء الله المقربين! وهذا مع تزكية الإنسان لنفسه ، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة ، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال. وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ، وإن جوّزوا ترك الاستثناء ، بمعنى آخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه ، كما قال تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الفتح : ٢٧. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وقف على القابر : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٤٣٧). وقال أيضا : «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» (٤٣٨). ونظائر هذا.

وأما من يحرمه ، فكل من جعل الإيمان شيئا واحدا ، فيقول : أنا أعلم أني مؤمن ، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين ، فقولي : أنا مؤمن ، كقولي : أنا مسلم ، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه ، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكّاكة. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الفتح : ٢٧ ـ بأنه يعود الى الأمن والخوف ، فأما الدخول فلا شك

__________________

(٤٣٧) اخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها انظر «احكام الجنائز وبدعها» (ص ١٨٩).

(٤٣٨) اخرجه مسلم ، والبخاري نحوه.

فيه! وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم ، لأنه علم أن بعضهم يموت! وفي كلا الجوابين نظر : فإنهم وقعوا فيما فروا منه ، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين ، مع علمه بذلك ، فلا شك في الدخول ، ولا في الأمن ، ولا في دخول الجميع أو البعض ، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضا ، فكان قول : إن شاء الله هنا تحقيقا للدخول ، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة : والله لأفعلنّ كذا إن شاء الله ، لا يقولها لشكّ في إرادته وعزمه ، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به ، وهو : أنه قال [ذلك] تعليما لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل (٤٣٩). وفي كون هذا المعنى مرادا من النص ـ نظر فإنه ما سيق الكلام إلا أن يكون مرادا من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين ، وهما : أن يكون الملك قد قاله ، فأثبت قرآنا! أو أن الرسول قاله!! [فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) المدثر : ٢٥. نسأل الله العافية.

وأما من يجوز الاستثناء وتركه ، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها : فإن أراد المستثنى الشك في أصل إيمانه منه من الاستثناء ، وهذا مما [لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الانفال : ٢ ـ ٤ ، وفي قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحجرات : ١٥. فالاستثناء حينئذ جائز. وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة ، وكذلك من استثنى تعليقا للأمر بمشيئة الله ، لا شكّا في إيمانه. وهذا القول في القوة كما ترى.

__________________

(٤٣٩) قال عفيفي : انظر ص ٤٢٩ ـ ٤٦٠ من «مجموع الفتاوى» والصفحة ٣٣٦ ـ ٣٩٣ من كتاب «الايمان» طبع المكتب الاسلامي.

قوله : وجميع ما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرع والبيان كله حق. يشير الشيخ رحمه‌الله بذلك الى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة ، القائلين بأن الأخبار قسمان (٤٤٠) : متواتر وآحاد ، فالمتواتر ـ وإن كان قطعيّ السند ـ لكنه غير قطعي الدلالة ، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين!! ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات! قالوا : والآحاد لا تفيد العلم ، ولا يحتج بها من جهة طريقها ، ولا من جهة متنها! فسدّوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ، ومقدمات خيالية (٤٤١) ، سموها قواطع علقية ، وبراهين يقينية!! وهي في التحقيق (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤٤٢). أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ النور : ٣٩ ـ ٤٠. ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي ، وعزلوا لأجلها النصوص ، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص ، ولم يظفروا (٤٤٣) بالعقول الصحيحة المؤيّدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية. ولو حكّموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح ، الموافق للفطرة السليمة.

بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته ، وما ظنه معقولا : فما وافقه قال : إنه محكم ، وقبله واحتج به!! وما خالفه قال : إنه متشابه ، ثم رده ، وسمى رده تفويضا! أو حرفه ، وسمى تحريفه تأويلا!! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم.

وطريق أهل السنة : أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ، ولا يعارضوه بمعقول ،

__________________

(٤٤٠) قال عفيفي : انظر ص ٤٤٦ من كتاب «الايمان».

(٤٤١) في الاصل : خالية.

(٤٤٢) قال عفيفي : انظر ص ٤٥٠ من كتاب «الايمان».

(٤٤٣) في الاصل : ولم يظفروا بقضايا.

ولا قول فلان ، كما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله. وكما قال البخاري رحمه‌الله : سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي رحمه‌الله ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة ، فقال قضى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت؟! فقال : سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! تراني على وسطي زنار؟! أقول لك : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت تقول : ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير. وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الاحزاب : ٣٦.

وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، عملا به وتصديقا له ـ : يفيد العلم [اليقيني] عند جماهير الأمة ، وهو أحد قسمي المتواتر. ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع ، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما الأعمال بالنيات (٤٤٤) ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما : «نهى عن بيع الولاء وهبته» (٤٤٥) ، وخبر أبي هريرة : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (٤٤٦) ، وكقوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (٤٤٧) ، وأمثال ذلك. وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت الى الكعبة ، فاستداروا إليها (٤٤٨).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل رسله آحادا ، ويرسل كتبه مع الآحاد ، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد! وقد قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة : ٣٣. فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته.

ولهذا فضح الله من كذّب على رسوله في حياته وبعد وفاته ، وبيّن حاله للناس. قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث. وقال عبد الله بن

__________________

(٤٤٤) متفق عليه ، من حديث عمر ، وهو أول حديث في «صحيح البخاري».

(٤٤٥) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٤٤٦) متفق عليه ، وهو مخرج في «الارواء» برقم (١٨٨٢).

(٤٤٧) متفق عليه من حديث عائشة ، وهو في «الارواء» أيضا (١٨٧٦).

(٤٤٨) متفق عليه من حديث البراء بن عازب وانظر لفظه وتخريجه في «صفة الصلاة».

المبارك : لو همّ رجل في البحر (٤٤٩) أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب. وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب ـ ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلا بالحديث ، والبحث عن سير الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم ترك الإسلام (٤٥٠) وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ـ : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم [من] العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلا أن يكون معلوما لهم أو مظنونا. كما أن النجاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك!! لعد ذلك جهلا كبيرا.

ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ـ : مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته (٤٥١). خواطرهم وأفكارهم ـ ردوه ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، تلبيسا منهم وتدليسا على من هو أعمى قلبا منهم ، وتحريفا لمعنى الآي عن مواضعه. ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه (٤٥٢) يقتضي إثباتها التمثيل بما (٤٥٣) للمخلوقين! ثم

__________________

(٤٤٩) في الاصل : السجن.

(٤٥٠) «ترك» بضم التاء المثناة والراء : جمع «تريكة» بفتح التاء وكسر الراء ، وهي بيضة الحديد للرأس. يريد أنهم دروع الاسلام وحفظته.

(٤٥١) في الاصل : وصفته.

(٤٥٢) في الاصل : انها.

(٤٥٣) في الاصل : بها.

استدلوا على بطلان ذلك ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ تحريفا للنصين!! ويصنفون الكتب ، ويقولون : هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده ، ويقرءون كثيرا من القرآن ويفوضون معناه الى الله تعالى ، من غير تدبّر لمعناه الذي بيّنه الرسول ، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله. وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث ، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم. فقال تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة : ٧٥ ، الى أن قال : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) البقرة : ٧٨. والأماني : التلاوة المجردة ، ثم قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة : ٧٩. فذمهم على نسبة ما كتبوه الى الله ، وعلى اكتسابهم بذلك ، فكلا الوصفين ذميم : أن ينسب الى الله ما ليس من عنده ، وأن يأخذ بذلك عوضا من الدنيا مالا أو رئاسة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، بمنه وكرمه.

ويشير الشيخ رحمه‌الله بقوله : من الشرع والبيان. الى أن ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوعان : شرع ابتدائي ، وبيان لما شرعه الله في كتابه العزيز ، وجميع ذلك حق واجب الاتباع. وقوله : وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى. وفي بعض النسخ : بالخشية والتقى بدل قوله :

بالحقيقة. ففي العبارة الاولى يشير الى أن الكل مشتركون في أصل التصديق ، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت ، كما تقدم نظيره بقوة البصر وضعفه. وفي العبارة الأخرى يشير الى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب ، وأما التصديق فلا تفاوت فيه. والمعنى الأول أظهر قوة ، والله أعلم بالصواب.

قوله : (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن).

ش : قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يونس : ٦٢ ـ ٦٣ الآية. الولي : من الولاية بفتح الواو ،

التي هي ضد العداوة. وقد قرأ حمزة : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الانفال : ٧٢ ، بكسر الواو ، والباقون بفتحها. وقيل : هما لغتان. وقيل : بالفتح النصرة ، وبالكسر الإمارة. قال الزجّاج : وجاز الكسر ، لأن في تولي [بعض] القوم بعضا جنسا من الصناعة والعمل ، وكل ما كان كذلك مكسور ، مثل : الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله ، والله تعالى وليهم ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ]) البقرة : ٢٥٧ ، الآية. وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) محمد : ١١. (وَالْمُؤْمِنُونَ [وَالْمُؤْمِناتُ] بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) التوبة : ٧١ ، الآية. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الانفال : ٧٢ ، الى آخر السورة. وقال تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَ) (الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) المائدة : ٥٥ ـ ٥٦. فهذه النصوص [كلها] ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض ، وأنهم أولياء الله ، وأن الله وليهم ومولاهم. فالله يتولى عباده المؤمنين ، فيحبهم ويحبونه ، ويرضى عنهم ويرضون عنه ، ومن عادى له وليّا فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) الاسراء : ١١١. فالله تعالى ليس له ولي من الذل ، بل لله العزة جميعا ، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه (٤٥٤) لذله وحاجته الى ولي ينصره.

والولاية أيضا نظير الإيمان ، فيكون مراد الشيخ : أن أهلها في أصلها سواء ، وتكون كاملة وناقصة : فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين ، كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى)

__________________

(٤٥٤) في الاصل : يتوالى.

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، ف (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ـ منصوب على أنه صفة أولياء الله ، أو بدل منه ، أو بإضمار أمدح ، أو مرفوع بإضمار «هم» ، أو خبر ثان ل «إن» ، وأجيز فيه الجر ، بدلا من ضمير «عليهم». وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث. وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه ، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ، ولا تملق ولا رياضة. وقيل : الذين آمنوا مبتدأ ، والخبر : لهم البشرى ، وهو بعيد ، لقطع الجملة عما قبلها ، وانتثار نظم الآية.

ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه ، وعداوة من وجه ، كما قد يكون فيه كفر وإيمان ، وشرك وتوحيد ، وتقوى وفجور ، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع ، كما تقدم في الإيمان. ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى ـ أولى من موافقته في المعنى وحده ، قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف : ١٠٦. وقال تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ، الآية. وقد تقدم الكلام على هذه الآية ، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر» (٤٥٥). وفي رواية «وإذا ائتمن خان» بدل : «وإذا وعد أخلف». أخرجاه في «الصحيحين». وحديث : «شعب الإيمان» تقدم. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (٤٥٦). فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلّد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق ، فهو يعذب في النار على قدر [ما معه] من ذلك ، ثم يخرج من النار. فالطاعات من شعب الإيمان ، والمعاصي من شعب الكفر ، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود ، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما

__________________

(٤٥٥) متفق عليه وسبق بالحديث (رقم ٣٧٢).

(٤٥٦) متفق عليه.

من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله ، لا هم يدرون به ، ولا هو يدري بنفسه» (٤٥٧) ـ : فلا أصل له ، وهو كلام باطل ، فإن الجماعة قد يكونون كفارا ، وقد يكونون فساقا يموتون على الفسق. وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) يونس : ٦٢ ـ ٦٤ ، الآية. والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) ، الى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة : ١٧٧. وهم قسمان : مقتصدون ، ومقربون. فالمقتصدون : الذين يتقربون الى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح. والسابقون : الذين يتقربون الى الله بالنوافل بعد الفرائض. كما في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما اقترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ، حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته» (٤٥٨). والولي : خلاف (٤٥٩) العدو ، وهو مشتق من الولاء وهو الدنو والتقرب ، فولي الله : هو من والى الله بموافقته محبوباته ، والتقرب إليه بمرضاته ، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٢ ـ ٣. قال أبو ذر رضي الله عنه : لما نزلت الآية ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا ذر ، لو عمل

__________________

(٤٥٧) باطل لا أصل له كما قال المؤلف.

(٤٥٨) صحيح لإخراج البخاري إياه ، وإسناده قوي لغيره ، له طرق وشواهد عدة ، خرجتها في «الأحاديث الصحيحة» (١٦٤٠) ، لكن لفظ المبارزة ليس عند البخاري ، وانما هو عند غيره من حديث أبي أمامة بسند فيه ضعيفان ، كما بينته هناك.

(٤٥٩) في الاصل : من القرب.

الناس بهذه الآية لكفتهم» (٤٦٠). فالمتقون يجعل الله لهم مخرجا مما ضاق على الناس ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ، فيدفع الله عنهم المضار ، ويجلب لهم المنافع ، ويعطيهم الله أشياء يطول شرحها ، من المكاشفات والتأثيرات.

قوله : (وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن).

ش : أراد أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن ، وهو الأتقى ، والاتقى هو الأكرم ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات : ١٣. وفي «السنن» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال : «لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض ـ : إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب» (٤٦١). وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر ، وترجيح أحدهما على الآخر ، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع الى ذات الفقر والغنى ، وإنما يرجع الى الأعمال والأحوال والحقائق ، فالمسألة فاسدة في نفسها. فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان ، لا بفقر ولا غنى. ولهذا ـ والله أعلم ـ قال عمر رضي الله عنه : الغنى والفقر مطيتان ، لا أبالي أيهما ركبت. والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفجر : ١٥ ، الآية. فإن استويا ، الفقير الصابر والغنيّ الشاكر ـ في التقوى ، استويا في الدرجة ، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله ، فإن الفقر والغنى لا يوزنان ، وإنما يوزن الصبر والشكر. ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر : وهو أن الإيمان [نصف] صبر ونصف شكر ، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر. وإنما أخذ الناس فرعا من الصبر وفرعا من الشكر ، وأخذوا في الترجيح ، فجرّدوا غنيّا

__________________

(٤٦٠) ضعيف ، رواه أحمد والحاكم بسند فيه انقطاع.

(٤٦١) صحيح ، لكن عزوه للسنن وهم ، فإنه لم يروه أحد منهم ، وانما هو في مسند الإمام أحمد. وقد كنت توقفت فيه قبل سنين ، ثم يسر الله تعالى لي جمع كثير من طرقه ، وحققت الكلام عليها ، فتبين لي انه صحيح بمجموعها ، وأودعت تفصيل ذلك في الموضع المشار إليه ، وعليه استجزت ايراده في كتابي الكبير «صحيح الجامع الصغير وزياداته» ١٧٨٠.

منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوب القرب شاكرا لله عليه ، وفقيرا متفرغا لطاعة الله ولأداء العبادات صابرا على فقره. وحينئذ يقال : إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما ، فإن تساويا تساوت درجتهما. والله أعلم. ولو صح التجريد ، لصح أن يقال : أيما أفضل معافى شاكر ، أو مريض صابر ، أو مطاع شاكر ، أو مهان صابر ، أو آمن شاكر ، أو خائف صابر؟ ونحو ذلك.

قوله : (والايمان : هو الايمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر ، خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى).

ش : تقدم ان هذه الخصال هي أصول الدين ، وبها أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل المشهور المتفق على صحته ، حين جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة رجل اعرابي ، وسأله عن الإسلام؟ فقال : «أن تشهد لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (٤٦٢). وسأله عن الإيمان؟ فقال : «أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر ، خيره وشره». وسأله عن الإحسان؟ فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وقد ثبت كذلك في «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الكافرون : ١ ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الاخلاص : ١. وتارة بآيتي الإيمان والإسلام : التي في سورة البقرة : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) البقرة : ١٣٦ ، الآية ، والتي في آل عمران : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (٤٦٣) آل عمران : ٦٤ ، الآية. [و] فسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس ، المتفق على صحته ، حيث قال لهم : «آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،

__________________

(٤٦٢) متفق عليه ، وقد تقدم.

(٤٦٣) مسلم ، وهو في «صفة الصلاة» (ص ٩٢).

وأن تؤدوا خمس ما غنمتم» (٤٦٤). ومعلوم أنه لم يرد [أن] هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب. فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان ، وقد تقدم الكلام على هذا.

والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق ، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة ، فإن تلك إنما فسرتها السنة ، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الانفال : ٢ ، الآية. وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية. وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء : ٦٥ ، فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية ـ : دل على أن هذه الغاية فرض على الناس ، فمن تركها كان من أهل الوعيد [و] لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب ، الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب. ولا يقال إن بين تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان في حديث جبرائيل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة ، لأنه فسر الإيمان في حديث جبرائيل بعد تفسير الإسلام ، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام ، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره. بخلاف حديث وفد عبد القيس ، لأنه فسره ابتداء ، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام. ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من تفسير الإيمان ، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه.

ومما يسأل عنه : أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب [بها] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل المذكور ، فلم قال إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الاسلام وأعظمها ، وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده. والتحقيق : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا ،

__________________

(٤٦٤) متفق عليه.

الذي يجب لله [على] عباده محضه على الأعيان ، فيجب على كل من كان قادرا عليه ، ليعبد الله مخلصا له الدين ، وهذه هي الخمس ، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح ، فلا يعم وجوبها جميع الناس ، بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وما يتبع ذلك من إمارة ، وحكم ، وفتيا ، وإقراء ، وتحديث ، وغير ذلك. وأما ما يجب (٤٦٥) بسبب حق الآدميين ، فيختص به من وجب له وعليه ، وقد يسقط بإسقاطه ، من قضاء بإسقاطه ، من قضاء الديون ، ورد الأمانات والغصوب ، والإنصاف من المظالم ، من الدماء والأموال والاعراض ، وحقوق الزوجة والاولاد ، وصلة الارحام ، ونحو ذلك ، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو. بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة ، فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليّا فإنها واجبة لله ، والأصناف الثمانية مصارفها ، ولهذا وجبت فيها النية ، ولم يجز أن يفعلها الغير بلا إذنه ، ولم تطلب من الكفار. وحقوق العباد لا يشترط لها النية ، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ، ويطالب بها الكفار. وما يجب حقّا لله تعالى ، كالكفارات ، هو بسبب من العبد ، وفيها معنى العقوبة ، ولهذا كان التكليف شرطا في الزكاة ، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله تعالى ، على ما عرف في موضعه.

وقوله : والقدر خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى ـ تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل : «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (٤٦٦) ، وقال تعالى : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) التوبة : ٥١. وقال تعالى : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) النساء : ٧٨ ، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩ ، الآية.

فإن قيل : فكيف الجمع بين قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء : ٧٨ ، وبين

__________________

(٤٦٥) في الاصل : أن يجب.

(٤٦٦) متفق عليه على التفصيل المشار إليه قبل قليل

.

قوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ)؟ النساء : ٧٩ ، قيل : قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : الخصب والجدب ، والنصر والهزيمة ، [كلها من عند الله] ، وقوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ) : أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ، كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الشورى : ٣٠. يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩ ، (أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ). والمراد بالحسنة هنا النعمة ، وبالسيئة البلية ، في أصح الأقوال. وقد قيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية. [و] قيل : الحسنة ما أصابه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد. والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث. والمعنى الثاني ليس مرادا دون الأول قطعا ، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه (٤٦٧) ، مع أن الجميع مقدر ، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى ، فتكون من سيئات الجزاء ، مع أنها من سيئات العمل ، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) ، فإنهم يقولون : إن فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما ، وهم لا يفرقون ، ولأنه قال تعالى : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، فجعل الحسنات من عند الله ، كما جعل السيئات من عند الله ، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال ، بل في الجزاء. وقوله بعد هذا : «ما أصابك من حسنة» و «من سيئة» ، [مثل قوله : «وإن تصبهم حسنة» و «إن تصبهم سيئة»]. وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم ، وبين السيئات التي هي المصائب ، فجعل هذه من الله ، وهذه من نفس الإنسان ، لأن الحسنة مضافة الى الله ، إذ هو أحسن بها من كل وجه ، فما من وجه من أوجهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه ، وأما السيئة ، فهو إنما يخلقها لحكمة ، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه ، فإن الرب لا يفعل سيئة قط ، بل فعله كله حسن وخير.

ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في الاستفتاح : «والخير كله بيديك ، والشر ليس

__________________

(٤٦٧) قال عفيفي : انظر ص ٣١٤ من كتاب «الايمان».

إليك». أي : فإنك لا تخلق شرّا محضا ، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة ، هو باعتبارها خير ، ولكن قد يكون فيه شرّ لبعض الناس ، فهذا شرّ جزئي إضافي ، فأما شر كليّ ، أو شر مطلق ـ : فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه. وهذا هو الشر الذي ليس إليه ، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردا قط ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات ، كقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨ ، (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء : ٧٨ ، وإما أن يضاف الى السبب ، كقوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) الفلق : ٢ ، وإما أن يحذف فاعله ، كقول الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) الجن : ١٠ ، وليس إذا خلق ما يتأذّى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة ، بل لله من الرحمة والحكمة لا يقدّر قدره إلا الله تعالى ، وليس اذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة ـ يكون شرّا كليّا [عامّا] ، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرا أو مصلحة للعباد ، كالمطر العام ، وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذابا عليه بالمعجزات التي أيّد بها الصادقين ، فإن هذا شرّ عام للناس ، يضلهم ، فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخر لهم. وليس هذا كالملك الظالم [والعدو ، فإن الملك الظالم] لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه ، وقد قيل : ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام ، وإذا قدّر كثرة ظلمه ، فذاك خير في الدين ، كالمصائب ، تكون كفارة لذنوبهم ، ويثابون على الصبر عليه ، ويرجعون فيه الى الله ، ويستغفرونه ويتوبون إليه ، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة ، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم ، بل لا بد أن يهلكهم ، لأن فسادهم عامّ في الدين والدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

وفي قوله : «فمن نفسك» ـ من الفوائد : أن العبد لا يطمئن الى نفسه ولا يسكن إليها ، فإن الشر كامن فيها ، لا يجيء إلا منها ، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه ، فإن ذلك من السيئات التي أصابته ، وهي إنما أصابته بذنوبه ، فيرجع الى الذنوب ، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله ، ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ، ويندفع عنه كل شر.

ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة : ٥ ـ ٧. فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته ، فلم بصبه شر ، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الانسان ، وهو محتاج الى الهدى كل لحظة ، وهو الى الهدى أحوج منه الى الطعام والشراب. ليس كما يقوله بعض المفسرين : انه قد هداه! فلما ذا يسأل الهدى؟! وان المراد التثبيت ، أو مزيد الهداية! بل العبد محتاج الى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله ، والى ما يتركه من تفاصيل الأمور ، في كل يوم ، والى أن يلهمه أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريدا للعمل بما يعلمه ، وإلا كان العلم حجة عليه ، ولم يكن مهتديا. ومحتاج الى أن يجعله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة ، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ، وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر. ونحن محتاجون الى الهداية التامة ، فمن كملت له هذه الامور كان سؤاله سؤال تثبيت ، وهي آخر الرتب. وبعد ذلك كله هداية أخرى ، وهي الهداية الى طريق الجنة في الآخرة. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة ، لفرط حاجتهم إليه ، فليسوا الى شيء أحوج منهم الى هذا الدعاء. فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير ، المانعة من الشر ، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس ، وإن كانت بقدر الله ، وأن الحسنات كلها من الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه ، وأن يستغفره العبد من ذنوبه ، وألا يتوكل إلا عليه وحده ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو. فأوجب ذلك توحيده ، والتوكل عليه وحده ، والشكر له وحده ، والاستغفار من الذنوب.

وهذه الأمور كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجمعها في الصلاة ، كما ثبت عنه في «الصحيح» :

أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : «ربنا لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» (٤٦٨). «ملء السموات ، وملء الارض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل

__________________

(٤٦٨) البخاري ، لكن ليس من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل انه سمع رجلا يقول ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ايهم يكتبها أو لا» انظر كتابى «صفة الصلاة» (ص ١١٩).

الثناء والمجد ، أحقّ ما قاله العبد ، وكلنا لك عبد» (٤٦٩). فهذا حمد ، وهو شكر لله تعالى ، وبيان أن حمده أحقّ ما قاله العبد ، ثم يقول بعد ذلك : «لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد». وهذا تحقيق لوحدانيته ، لتوحيد الربوبية ، خلقا وقدرا ، وبداية ونهاية (٤٧٠) ، هو المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولتوحيد الإلهية ، شرعا وأمرا ونهيا ، وإن العباد وإن كانوا يعطون جدّا : ملكا وعظمة وبختا ورئاسة ، في الظاهر ، أو في الباطن ، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة ، فلا ينفع ذا الجدّ منك الجد ، أي لا ينجيه ولا يخلّصه ، ولهذا قال : لا ينفعه منك ، (٤٧١) ، ولم يقل ولا ينفعه عندك لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك ، لكن قد لا يضرّه. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد ، أو تحقيق قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة : ٤ ، فإنه لو قدّر أن شيئا من الأسباب يكون مستقلا بالمطلوب ، وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ : لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يسأل إلا هو ، ولا يستغاث إلا به ، ولا يستعان إلا هو ، فله الحمد وإليه المشتكى ، وهو المستعان ، وبه المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا به. فكيف وليس شيء من الاسباب مستقلّا بمطلوب ، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ، ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه ، حتى يحصل المقصود ، فكل سبب فله شريك ، وله ضد ، فإن لم يعاونه شريكه ، ولم ينصرف عنه ضده ـ : لم يحصل مسببه. والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له ، والطعام والشراب لا يغذّي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات.

والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك ، فهو ـ مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة

__________________

(٤٦٩) صحيح متفق عليه ، وهو حديث آخر ، والمصنف دمجه بالأول ، فأوهم انهما حديث واحد! انظر المصدر الآنف الذكر.

(٤٧٠) في الاصل : وهداية.

(٤٧١) قال عفيفي : انظر ص ٣١٩ ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

والفعل ـ : فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة ، خارجة عن قدرته ، تعاونه على مطلوبه ، ولو كان ملكا مطاعا ، ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها ، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع.

وكل سبب معيّن فإنما هو جزء من المقتضي ، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تامّ ، وإن سمي مقتضيا ، وسمي سائر ما يعينه شروطا ـ فهذا نزاع لفظي. وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل.

ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله ، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره ، فضلا عن أن يعبد غيره ، ولا يتوكل على غيره ، ولا يرجى غيره.

قوله : (ونحن مؤمنون بذلك كله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به).

ش : الإشارة بذلك الى ما تقدم ، مما يجب الإيمان به تفصيلا ، وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله ، الى آخر كلامه ـ أي : لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض (٤٧٢) ، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم ، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض ، كافر بالكل. قال تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) النساء : ١٥٠ ـ ١٥١. فإن المعنى الذي لأجله (٤٧٣) آمن بمن آمن به [به] منهم ـ موجود في الذي لم يؤمن به ، وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق [بقية] المرسلين ، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافرا بمن في زعمه أنه مؤمن به ، لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم ، فكان كافرا حقّا ، وهو يظن أنه مؤمن ، فكان من الأخسرين أعمالا ، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

قوله : (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النار لا يخلدون ، اذا ماتوا وهم موحدون ، وان لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين.

وهم في مشيئته وحكمه ،

__________________

(٤٧٢) قال عفيفي : انظر ص ٣١٦ ج ٤ من «مجموع الفتاوى».

(٤٧٣) في الاصل : للرجاء.

ان شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، كما ذكر عزوجل في كتابه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ و ١١٦ وان شاء عذبهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم الى جنته. وذلك بأن الله تعالى تولّى أهل معرفته ، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته ، الذين خابوا من هدايته ، ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا وليّ الاسلام وأهله ، ثبتنا على الاسلام حتى نلقاك به).

ش : فقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ـ رد لقول الخوارج والمعتزلة ، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم ، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان ، لا بدخولهم في الكفر ، بل لهم منزلة بين منزلتين ، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه‌الله : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.

وقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد ـ تخصيصه أمة محمد ، يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به ، [حكمهم] مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد. وفي ذاك نظر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أنه : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (٤٧٤). ولم يخص أمته بذلك ، بل ذكر الإيمان مطلقا ، فتأمله. وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. وقوله : في النار ـ معمول لقوله : لا يخلدون. وإنما قدمه لأجل السجعة ، لا أن يكون [في النار] خبر لقوله : وأهل الكبائر ، كما ظنه بعض الشارحين.

واختلف العلماء في الكبائر على أقوال ، فقيل : سبعة ، وقيل : سبعة عشر. وقيل : ما اتفقت الشرائع على تحريمه. وقيل : ما يسد باب المعرفة بالله. وقيل : ذهاب الأموال والأبدان. وقيل : سميت كبائر بالنسبة والإضافة الى ما دونها. وقيل : لا تعلم أصلا. أو : أنها أخفيت كليلة القدر. وقيل : إنها إلى السبعين أقرب. وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وقيل : إنها ما يترتب عليها حدّ أو توعّد عليها بالنار ، أو اللعنة ، أو الغضب. وهذا أمثل الأقوال. واختلفت عبارات

__________________

(٤٧٤) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٨٤٩ ـ ٨٥٢).

السلف (٤٧٥) في تعريف الصغائر : منهم من قال : الصغيرة ما دون الحدّين : حد الدنيا وحد الآخرة. ومنهم من قال : كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار. ومنهم من قال : الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ، والمراد بالوعيد : الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب ، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا ، أعني المقدّرة ، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة ، كالشرك ، والقتل ، والزنا ، والسحر ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، ونحو ذلك ، كالفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وأمثال ذلك.

وترجيح هذا القول من وجوه : أحدها : أنه هو المأثور عن السلف ، كابن عباس ، وابن عيينة ، وابن حنبل رضي الله عنهم ، وغيرهم. الثاني : أن الله تعالى قال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) النساء : ٣١. فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره ، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث : أن هذا الضابط مرجعه الى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب ، فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر ، بخلاف تلك الأقوال (٤٧٦) ، فإن من قال : سبعة ، أو سبعة عشرة ، أو الى السبعين أقرب ـ : مجرد دعوى. ومن قال : ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه ـ : يقتضي أن شرب الخمر ، والفرار من الزحف ، والتزوّج ببعض المحارم (٤٧٧) ، والمحرم بالرضاعة والصهرية ، ونحو ذلك ـ ليس من الكبائر! وأن

__________________

(٤٧٥) في الاصل : عبارة قائلية.

(٤٧٦) قال عفيفي : انظر ص ٢٨٠ وما بعدها من ج ٣ من «مجموع الفتاوى».

(٤٧٧) قال عفيفي : انظر ص ٣١٦ وما بعدها من «مدارج السالكين» لابن القيم وص ٤٩٤ الى ٤٩٧ من «مختصر الفتاوى» و ٦٥٠ ج ١١ من «مجموع الفتاوى»

.

الحبة من مال اليتيم ، والسرقة لها ، والكذبة الواحدة الخفيفة ، ونحو ذلك ـ : من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال : ما سد باب المعرفة بالله ، أو ذهاب الأموال والأبدان ـ : يقتضي أن شرب الخمر ، وأكل الخنزير والميتة والدم ، وقذف المحصنات ـ ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة الى ما دونها ، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ـ : يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم الى صغائر وكبائر! وهذا فاسد ، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب الى صغائر وكبائر. ومن قال : إنها لا تعلم أصلا ، أو إنها مبهمة ـ : فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره. والله أعلم.

وقوله : وإن لم يكونوا تائبين ـ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب ، وإنما الخلاف في غير التائب. وقوله : بعد أن لقوا الله تعالى عارفين ـ لو قال : مؤمنين ، بدل قوله : عارفين ، كان أولى ، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر. وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل ، كما تقدم. فإن إبليس عارف بربه ، (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر : ٣٦. (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص : ٨٢ ، ٨٣. وكذلك فرعون وأكثر الكافرين. قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥. (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥. الى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وكأن الشيخ رحمه‌الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء ، التي يشير إليها أهل الطريقة ، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر ، بل هم سادة الناس وخاصتهم.

وقوله ؛ وهم في مشيئة الله وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، الى آخر كلامه ـ فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور ، وعلّق غفران ما دونه بالمشيئة ، والجائز يعلّق بالمشيئة دون الممتنع ، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى. ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به ، غير معلّق بالمشيئة ، كما قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر : ٥٣.

فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله [قبل التوبة].

وقوله : ذلك أن الله مولى أهل معرفته ـ فيه مؤاخذة لطيفة ، كما تقدم. وقوله : اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسّكنا بالاسلام ، وفي نسخة : ثبّتنا على الإسلام حتى نلقاك به ـ روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه «الفاروق» ، بسنده عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان من دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا ولي الإسلام وأهله ، مسّكني بالإسلام حتى ألقاك عليه» (٤٧٨). ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة. وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه ، حيث قال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف : ١٠١. وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه ، حيث قالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) الاعراف : ١٢٦. ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه ، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام ، لا بمطلق الموت ، ولا بالموت الآن ، والفرق ظاهر.

قوله : (وترى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، وعلى من مات منهم).

ش : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلوا خلف كل بر وفاجر» (٤٧٩). رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه الدارقطني ، وقال : مكحول لم يلق أبا هريرة. وفي إسناده معاوية بن صالح ، متكلّم فيه ، وقد احتج به مسلم في صحيحه. وخرّج له

__________________

(٤٧٨) اخرجه الضياء المقدسي في «الاحاديث المختارة» (ق ١٥٠ / ١) رواه من طريق الطبراني بسنده عن انس بن مالك به. وهو اسناد جيد ، كما حققته في «الاحاديث الصحيحة» (١٨٣٣) وراجع مقدمة الطبعة الثالثة ص ٦.

(٤٧٩) ضعيف ، علته الانقطاع بين مكحول وابي هريرة ، وهو مخرج في «ضعيف مسند أبي داود» (٩٧).

الدارقطني أيضا وأبو داود ، عن مكحول ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم ، برّا كان أو فاجرا ، وإن عمل بالكبائر ، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، برّا كان أو فاجرا ، وإن عمل الكبائر» (٤٨٠). وفي «صحيح البخاري» : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجّاج [بن يوسف] الثقفي ، وكذا أنس بن مالك ، وكان الحجاج فاسقا ظالما. وفي «صحيحه» أيضا ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وأن أخطئوا فلكم وعليهم» (٤٨١). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلوا خلف من قال لا إله إلا الله ، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله» (٤٨٢). أخرجه الدارقطني من طرق ، وضعّفها.

اعلم ، رحمك الله وإيانا : أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا ، باتفاق الأئمة ، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ، ولا أن يمتحنه ، فيقول : ما ذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال ، ولو صلى خلف مبتدع يدعو الى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه ، كإمام الجمعة والعيدين ، والإمام في صلاة الحج بعرفة ، ونحو ذلك ـ : فإن المأموم يصلي خلفه ، عند عامة السلف والخلف. ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر ، فهو مبتدع عند أكثر العلماء. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجّار ولا يعيدون ، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه ، كما تقدم ، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر ، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ، ثم قال : أزيدكم؟! فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة!! وفي «الصحيح» : أن عثمان بن عفان رضي الله

__________________

(٤٨٠) ضعيف أيضا للعلة المذكورة ، وهو مخرج في «الارواء» (٥٢٧).

(٤٨١) صحيح ، رواه أحمد أيضا ، وهو في «مختصر البخاري» برقم (٣٨٣).

(٤٨٢) ضعيف.

عنه لما حصر صلى بالناس شخص ، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة ، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال : يا ابن أخي ، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم (٤٨٣).

والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة ، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته ، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.

ومن ذلك : أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين ، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب ، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا ، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه ـ : فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة. وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة ، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتّبه ولاة الأمور ، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية ، فهنا لا يترك الصلاة خلفه ، بل الصلاة خلفه أفضل (٤٨٤) ، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة ، وجب عليه ذلك ، لكن إذا ولاه غيره ، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة ، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشرّ أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من المنكر ـ : فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما ، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، بحسب الإمكان. فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر ، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا ، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البرّ ، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ ، فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر ، فهو موضع اجتهاد

__________________

(٤٨٣) اخرجه البخاري في «الاذان» ، وهو في «المختصر» برقم (٣٨٤).

(٤٨٤) قال عفيفي : انظر ص ٣٤٢ ـ ٣٦٠ ج ٢٣ من «مجموع الفتاوى».

العلماء : [منهم من قال : يعيد] ، ومنهم من قال : يعيد. وموضع بسط ذلك في كتب الفروع.

وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ ، ولم يعلم المأموم بحاله ، فلا إعادة على المأموم ، للحديث المتقدم. وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسيا للجنابة. فأعاد الصلاة ، ولم يأمر المأمومين بالإعادة (٤٨٥). ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة ، أعاد عند أبي حنيفة ، خلافا لمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه. وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم. وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع. ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء!! فليس له أن يصلي خلفه ، لأنه لاعب ، وليس بمصلّ.

وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن وليّ الأمر ، وإمام الصلاة ، والحاكم ، وأمير الحرب ، وعامل الصدقة ـ : يطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد ، بل عليهم طاعته في ذلك ، وترك رأيهم لرأيه ، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ، ومفسدة الفرقة والاختلاف ، أعظم من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض. والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض. يروى عن أبي يوسف : أنه لما حجّ مع هارون الرشيد ، فاحتجم الخليفة ، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ ، وصلى بالناس ، فقيل لأبي يوسف : أصليت خلفه؟ قال : سبحان الله! أمير المؤمنين. يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع. وحديث أبي هريرة ، الذي رواه البخاري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم» (٤٨٦) ـ : نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه ، لا على المأموم. والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجبا ، أو فعل محظورا اعتقد أنه ليس محظورا. ولا يحل

__________________

(٤٨٥) عبد الرزاق في «المصنف» (٢ / ٣٤٧ ـ ٣٤٩) طبع المكتب الإسلامي ، وكذا ابن أبي شيبة (١ / ٣٩٣) بأسانيد بعضها صحيح.

(٤٨٦) صحيح ، وتقدم بالحديث (رقم ٤٨١).

لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه ، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به!! فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي الى الفساد.

وقوله : وعلى من مات منهم ـ أي ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار ، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطّاع الطريق ، وكذا قاتل نفسه ، خلافا لأبي يوسف ، لا الشهيد ، خلافا لمالك والشافعي رحمهما‌الله ، على ما عرف في موضعه. لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنّا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور ، لا للعموم الكلي ، ولكن المظهرون للإسلام قسمان : إما مؤمن ، وإما منافق ، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له ، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه. فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصلّ هو عليه ، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه ، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصلّ عليه حذيفة ، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على المنافقين ، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره ، وعلّل ذلك بكفرهم بالله ورسوله ، فمن كان مؤمنا بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه ، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية أو الفجورية ما له ، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين ، فقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) محمد : ١٩. فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات ، فالتوحيد أصل الدين ، والاستغفار له وللمؤمنين كماله. فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات ، إما واجب وإما مستحب ، وهو على نوعين : عام وخاص ، أما العام فظاهر ، كما في هذه الآية ، وأما الدعاء الخاص ، فالصلاة على الميت ، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون ان يصلوا عليه صلاة الجنازة ، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له ، كما روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (٤٨٧).

__________________

(٤٨٧) اسناده جيد «احكام الجنائز» (١٢٣) و «ارواء الغليل» (٧٣٢).

قوله : (ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا).

ش : يريد : أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار ، إلا من أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم. وإن كنا نقول : إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار ، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين ، ولكنا نقف في الشخص المعيّن ، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم ، لأن الحقيقة باطنة ، وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسنين ، ونخاف على المسيئين.

وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال : أحدها : أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء ، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية ، والأوزاعي. والثاني : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث. والثالث : أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون ، كما في «الصحيحين» : أنه مر بجنازة ، فأثنوا عليها بخير ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت ، ومر بأخرى ، فأثني عليها بشر ، فقال : وجبت». وفي رواية كرر : «وجبت» ثلاث مرات ، فقال عمر : يا رسول الله ، ما وجبت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرّا وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض» (٤٨٨). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» ، قالوا : بم يا رسول الله؟ قال : «بالثناء الحسن والثناء السيئ» (٤٨٩). فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار.

قوله : (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك ، ونذر سرائرهم الى الله تعالى).

__________________

(٤٨٨) صحيح ، وهو مخرج في «احكام الجنائز» (ص ٤٤).

(٤٨٩) اسناده محتمل للتحسين ، فانه من رواية ابن أبي زهير الثقفي عن أبيه مرفوعا. أخرجه ابن ماجه (٤٢٢١) وأحمد (٣ / ٤١٦ ، ٦ / ٤٦٦) قال في «الزوائد» : «اسناده صحيح ، رجاله ثقات» ، قلت : أبو بكر هذا ، لم يرو عنه غير اثنين ، ولم يوثقه غير ابن حبان (١ / ٢٦٧) ، وقال في «التقريب» : «مقبول» ، يعني عند المتابعة ، والافلين الحديث

.

ش : لأنّا قد أمرنا بالحكم بالظاهر ، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) الحجرات : ١١ ، الآية. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات : ١٢. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الاسراء : ٣٦.

قوله : (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من وجب عليه السيف).

ش : في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (٤٩٠).

قوله : (ولا نرى الخروج على ائمتنا وولاة أمورنا ، وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يدا من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة).

ش : قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء : ٥٩. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني» (٤٩١). وعن أبي ذر رضي الله عنه. قال : «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف» (٤٩٢). وعند

__________________

(٤٩٠) متفق عليه من حديث ابن مسعود ، وهو مخرج في «الارواء» (٢١٩٦) و «الظلال» (٦٠ و ٨٩٣ و ٨٩٤).

(٤٩١) رواه البخاري ومسلم من حديث ابي هريرة ، وهو مخرج في «الارواء» (٣٩٤).

(٤٩٢) رواه مسلم عنه.

البخاري : «ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة» (٤٩٣). وفي «الصحيحين» أيضا : «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، [فإن أمر بمعصية] فلا سمع ولا طاعة» (٤٩٤). وعن حذيفة بن اليمان قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشرّ ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخبر من شر؟ قال : «نعم» ، فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : «نعم ، وفيه دخن» ، قال : قلت : وما دخنه؟ قال : «قوم يسنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر» ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال : «نعم : دعاة على أبواب جهنم. من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا؟ قال : «نعم ، قوم من جلدتنا ، يتكلمون بألستنا» ، قلت : يا رسول الله ، فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال : «تلزم جماعة المسلمين ، وإمامهم» فقلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : «فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعضّ على أصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (٤٩٥). وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات ، فميتته جاهلية» (٤٩٦). وفي رواية : «فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٤٩٧). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بويع

__________________

(٤٩٣) البخاري (٤ / ٣٨٥) عن أنس.

(٤٩٤) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٤٩٥) متفق عليه.

(٤٩٦) متفق عليه من حديث ابن عباس ، وهو مخرج في «الارواء» (٢٤٥٣).

(٤٩٧) صحيح ، وهي من رواية الحارث الأشعري في حديث طويل ، أخرجه أحمد (٤ / ١٣٠) وغيره بسند صحيح ، وليست من رواية ابن عباس كما أوهم الشارح ، وهو بتمامه في «صحيح الترغيب» (٥٥٣) و «صحيح الجامع الصغير» (١٧٢٠) ، وفيه الرد على من حاول إعلاله بما لا يقدح من الدكاترة المعاصرين! فليراجعه من شاء فإن فيه الشفاء.

لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (٤٩٨). وعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلّون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، فقلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال : «لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، [فليكره ما يأتي من معصية الله] ، ولا ينزعنّ يدا من طاعته» (٤٩٩).

فقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ، ما لم يأمروا بمعصية ، فتأمل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء : ٥٩ ـ كيف قال : «وأطيعوا الرسول» ، ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة ، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله. وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله ، بل هو معصوم في ذلك ، وأما وليّ الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله ، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل ، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى : ٣٠. وقال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا ، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) آل عمران : ١٦٥ وقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الانعام : ١٢٩. فإذا أراد الرعية أن يتخلّصوا من ظلم الأمير الظالم ، فليتركوا الظلم. وعن مالك بن دينار :

__________________

(٤٩٨) مسلم وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» و «الزيادة على الجامع الصغير» لأحمد أيضا ، ولم نره في «مسنده».

(٤٩٩) مسلم وغيره ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٠٧).

أنه جاء في بعض كتب الله : «أنا الله مالك الملك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ، لكن توبوا أعطفهم عليكم» (٥٠٠).

قوله : (ونتّبع السنة والجماعة ، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة).

ش : السنة : طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجماعة : جماعة المسلمين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان الى يوم الدين. فاتباعهم هدى ، وخلافهم ضلال. قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران : ٣١. وقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) النساء : ١١٥. وقال تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور : ٥٤. وقال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الانعام : ١٥٣. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) الانعام : ١٥٩.

وثبت في «السنن» الحديث الذي صححه الترمذي ، عن العرباض بن سارية ، قال : وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودّع؟ فما ذا تعهد إلينا؟ فقال : «أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى

__________________

(٥٠٠) هذا من الاسرائيليات ، وقد رفعه بعض الضعفاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الطبراني في الاوسط» عن أبي الدرداء ، قال الهيثمي (٥ / ٢٤٩) : «وفيه ابراهيم بن راشد وهو؟؟ مروك».

اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، [وعضّوا عليها] بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة» (٥٠١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة» (٥٠٢). وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال ؛ «ما أنا عليه وأصحابي» (٥٠٣) فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين ، إلا أهل السنة والجماعة.

وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، حيث قال : من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرّها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلّها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا.

قوله : (ونحب أهل العدل والامانة ، ونبغض أهل الجور والخيانة).

ش : وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية ، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ، وكمال الذل ونهايته. فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله ، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره ، فغير الله يحب في الله ، لا مع الله ، فإن

__________________

(٥٠١) صحيح كما قال الترمذي انظر «الارواء» (٢٤٥٥) و «السنة» لابن ابي عاصم (رقم ٢٧ ـ ٣٤).

(٥٠٢) صحيح وهو مخرج في «الصحيحة» (٢٠٣ و ٢٠٤) وفي «تخريج السنة» برقم (٦٣ ـ ٦٩).

(٥٠٣) هذه الرواية فيها ضعف ، وحسنها الترمذي في «الإيمان» ، وهو ممكن باعتبار شواهده كما تقدم بيان في التعليق عليه (رقم ٢٦٣) ، وقد ذكرت لها شاهدا في «الصحيحة» تحت الحديث (٢٠٤) ص ١٧.

المحب يحب ما يحب محبوبه ، ويبغض ما يبغض ، ويوالي من يواليه ، ويعادي من يعاديه ، ويرضى لرضائه ، ويغضب لغضبه ، ويأمر بما يأمر به ، وينهى عما ينهى عنه ، فهو موافق لمحبوبه في كل حال. والله تعالى يحب المحسنين ، ويحب المتقين ، ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ونحن نحب من أحبّه الله. والله لا يحب الخائنين ، ولا يحب المفسدين ، ولا يحب المستكبرين ، ونحن لا نحبهم أيضا ، ونبغضهم ، موافقة له سبحانه وتعالى. وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما ، ومن كان يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار» (٥٠٤). فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ، وولايته وعداوته. ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه ، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) الصف : ٤. والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر ، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة ، والحبّ والبغض ، فيكون محبوبا من وجه ومبغوضا من وجه ، والحكم للغالب. وكذلك حكم العبد عند الله ، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يروي عن ربه عزوجل : «وما تردّدت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بد له منه» (٥٠٥). فبين أنه يتردد ، لأن التردد تعارض إرادتين ، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده المؤمن ، ويكره ما يكرهه ، وهو يكره الموت فهو يكرهه ، كما قال : «وأنا أكره مساءته» ، وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه ، فسمى ذلك ترددا ، ثم بيّن أنه لا بد من وقوع ذلك ، إذ هو يفضي الى ما أحب منه.

__________________

(٥٠٤) أخرجه الشيخان عن أنس.

(٥٠٥) صحيح ، وهو طرف من حديث تقدم بتمامه (رقم ٤٥٨) ، وتكلمت عليه هناك.

قوله : (ونقول : الله أعلم ، فيما اشتبه علينا علمه).

ش : تقدم في كلام الشيخ رحمه‌الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ علم ما اشتبه عليه الى عالمه. ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) القصص : ٥٠. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الحج : ٣ ـ ٤. وقال تعالى : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) غافر : ٣٥. وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الاعراف : ٣٣. وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد علم ما لم يعلم إليه ، فقال تعالى : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الكهف : ٢٦. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) الكهف : ٢٢. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سئل عن أطفال المشركين : «الله أعلم بما كانوا عاملين» (٥٠٦). وقال عمر رضي الله عنه : اتهموا الرأي في الدين ، فلو رأيتني يوم أبي جندل ، فلقد رأيتني وإني لأردّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأيي ، فأجتهد ولا آلو ، وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب يكتب ، وقال : اكتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال : اكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتب وأبيت ، فقال : «يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟» (٥٠٧). وقال أيضا رضي الله عنه : السنة ما سنّه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أيّ أرض تقلّني ، وأي سماء تظلّني ، إن قلت في آية

__________________

(٥٠٦) متفق عليه من حديث ابي هريرة ، وابن عباس رضي الله عنهما.

(٥٠٧) الطبراني في «الكبير» (١ / ٥ / ١) وابن حزم في «الاحكام» (٦ / ٤٦) ورجاله ثقات غير ان فضالة بن مبارك مدلس كما في «التقريب» وقد عنعنه ، وقال الهيثمي في «المجمع» (١ / ١٧٩) : «رواه ابو يعلى ورجاله موثوقون وان كان فيهم مبارك بن فضالة». وقال في موضع آخر (٦ / ١٤٥ ـ ١٤٦) وقد ساقه بأطول من هذا ، لكنه لم يذكره بتمامه : «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح» ، وطرفه الأول في «الصحيحين» من قول سهل بن حنيف

.

من كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم. وذكر الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا عارم ، حدثنا حمّاد بن زيد ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن ابن سيرين قال : لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه ، وإن أبا بكر نزلت به قضية ، فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ، ولا في السنة أثرا ، فاجتهد برأيه ، ثم قال : هذا رأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ، وأستغفر الله.

قوله : (ونرى المسح على الخفين ، في السفر والحضر ، كما جاء في الاثر).

ش : تواترت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، فيقال لهم : الذين نقلوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوضوء قولا وفعلا ، والذين تعلموا الوضوء منه توضئوا على عهده وهو يراهم ويقرهم ، ونقلوه الى من بعدهم ـ : أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية. فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه ، فإن هذا العمل لم يكن معهودا عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين في ما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه ، في كتب الصحيح وغيرها ، أنه قال : «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» (٥٠٨).

مع أن الفرض اذا كان مسح ظاهر القدم ، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، كما تدعو الطباع الى طلب الرئاسة والمال ، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء ، لكان في نقل لفظ آية [الوضوء] أقرب الى الجواز ، واذا قالوا : لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب ولا الخطأ ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل ، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة ، فإن المسح كما يطلق ويراد به الإصابة ـ كذلك يطلق ويراد به الإسالة ، كما تقول [العرب] : تمسّحت للصلاة ، وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل

__________________

(٥٠٨) متفق عليه دون قوله : «وبطون الاقدام» وهو عند أحمد (٤ / ١٩١) بسند صحيح من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي.

المسح الذي الغسل قسم منه ، فإنه قال : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) المائدة : ٦ ، ولم يقل : الى الكعاب ، كما قال : (إِلَى الْمَرافِقِ) المائدة : ٦ ، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون تعالى قد أمر بالمسح الى العظمين الناتئين ، وهذا هو الغسل ، فإن من يسمح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين ، وجعل الكعبين في الآية غاية يردّ قولهم. فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين الى الكعبين ، اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشّراك ـ مردود بالكتاب والسنة.

وفي الآية قراءتان مشهورتان : النصب والخفض ، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه. وقراءة النصب نص في وجوب الغسل ، لأن العطف على المحل إنما يكون اذا كان المعنى واحدا ، كقوله :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وليس معنى : مسحت برأسي ورجلي ـ هو معنى : مسحت رأسي ورجلي ، بل ذكر الباء يفيد معنى زائدا على مجرد المسح ، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس ، فتعين العطف على قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ). فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن ، فإن الرسول بيّن للناس لفظ القرآن ومعناه. كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن : عثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها. وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصبّ في الرجلين ، فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا. والمسألة معروفة ، والكلام عليها في كتب الفروع.

قوله : (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الامر من المسلمين ، برّهم وفاجرهم ، الى قيام الساعة ، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الرد على الرافضة ، حيث قالوا : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضى من آل محمد ، وينادي مناد من السماء : اتبعوه!! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدلّ عليه بدليل. وهم شرطوا في الإمام أن

يكون معصوما ، اشتراطا ، من غير دليل! بل في «صحيح مسلم» عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، [وتصلّون عليهم] ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، قال : قلت : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال : «لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعنّ يدا من طاعته» (٥٠٩). وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة. ولم يقل : إن الإمام يجب أن يكون معصوما. والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة ، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم ، الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا!! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر ، محمد بن الحسن العسكري ، الذي دخل السرداب في زعمهم ، سنة ستين ومائتين ، أو قريبا من ذلك بسامرّا! وقد يقيمون هناك دابة ، إما بغلة وإما فرسا ، ليركبها إذا خرج! ويقيمون هناك في أوقات عينوا فيها من ينادي عليه بالخروج. يا مولانا ، اخرج! يا مولانا ، اخرج! ويشهرون السلاح ، ولا أحد هناك يقاتلهم! الى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم منها العقلاء!!

وقوله : مع أولي الأمر برّهم وفاجرهم ـ لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر ، فلا بد من سائس يسوس الناس فيهما ، ويقاوم العدو ، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البرّ يحصل بالإمام الفاجر.

قوله : (ونؤمن بالكرام الكاتبين ، فان الله قد جعلهم علينا حافظين).

ش : قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ وقال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق : ١٧ ـ ١٨. وقال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١. وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، بَلى ، وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) الزخرف : ٨٠. وقال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ

__________________

(٥٠٩) صحيح ، وقد تقدم بالحديث (رقم ٤٩٩).

ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية : ٢٨. وقال تعالى : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) يونس : ٢١. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم ، فيسألهم ، والله أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وفارقناهم وهم يصلون» (٥١٠). وفي الحديث الآخر : إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم ، أكرموهم» (٥١١). جاء في التفسير : اثنان عن اليمين وعن الشمال ، يكتبان لأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه ، وواحد أمامه ، فهو بين أربعة ملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل ، بدلا ، حافظان وكاتبان ، وقال عكرمة عن ابن عباس : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١ ، قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه.

وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة» ، قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : «وإياي ، لكن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير» (٥١٢). الرواية بفتح الميم من «فأسلم» [ومن رواه «فأسلم» برفع الميم ـ فقد حرّف لفظه. ومعنى «فأسلم»] ، أي : فاستسلم وانقاد لي ، في أصح القولين ، ولهذا قال : «فلا يأمرني إلا بخير» ، ومن قال : إن الشيطان صار مؤمنا ـ فقد حرّف معناه ، فإن الشيطان لا يكون مؤمنا (٥١٣). ومعنى : (يَحْفَظُونَهُ

__________________

(٥١٠) متفق عليه عن ابي هريرة ، وهو مخرج في «الظلال» (٤٩١).

(٥١١) ضعيف ، «الضعيفة» رقم (٢٢٤١).

(٥١٢) عبد الله هو ابن مسعود ، واخرجه الدارمي عنه أيضا في «الرقاق» وقال : من الناس من يقول «اسلم» : استسلم ، يقول : ذل.

(٥١٣) قال الشيخ أحمد شاكر : والخلاف في ضبط الميم من «فأسلم» ـ خلاف قديم والراجح فيها الفتح : كما قال الشارح ، ولكن المعنى الذي رجحه غير راجح. فقال القاضي عياض ، في «مشارق الانوار» (٢ / ٢١٨) : «رويناه بالضم والفتح. فمن ضم رد ذلك الى

مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١ ـ قيل : حفظهم له من أمر الله ، أي الله أمرهم بذلك ، يشهد لذلك قراءة من قرأ : يحفظونه بأمر الله.

ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل. وكذلك النية ، لأنها فعل القلب ، فدخلت في عموم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الانفطار : ١٢. ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة ، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا» (٥١٣١). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قالت الملائكة : ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة ، وهو أبصر به ، فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جرّائي» (٥١٣٢) خرجاهما في «الصحيحين» واللفظ لمسلم.

قوله : (ونؤمن بملك الموت ، الموكل بقبض أرواح العالمين).

ش : قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الم. السجدة : ١١. ولا تعارض هذه الآية قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) الانعام : ٦١ ، وقوله تعالى : (اللهُ

__________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فأنا أسلم منه. ومن فتح رده الى القرين ، أي : أسلم من الاسلام. وقد روي في غير هذه الأمهات : فاستسلم. يريد بالامهات : «الموطأ» و «الصحيحين» ، التي بنى عليها كتابه ، وان كان هذا الحديث لم يروه مالك ولا البخاري.

وقال النووي في شرح مسلم : «هما روايتان مشهورتان. واختلفوا في الارجح منهما ، فقال الخطابي : الصحيح المختار الرفع ، ورجح القاضي عياض الفتح.

وأما الحافظ ابن حبان ، فانه روى الحديث في صحيحه (٢ / ٢٨٣ ، من المخطوطة المصورة) ، وجزم برواية فتح الميم ، وقال : «في هذا الخبر دليل على أن شيطان المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم حتى لم يكن يأمره الا بخير ، لا أنه كان يسلم منه وان كان كافرا». وهذا هو الصحيح الذي ترجحه الدلائل. وادعاء الشارح أن هذا تحريف للمعنى. «فأن الشيطان لا يكون مؤمنا». انتقال نظر. فأولا : أن اللفظ في الحديث «قرينه من الجن» ، لم يقل : «شيطانه». وثانيا : ان الجن فيهم المؤمن والكافر. والشياطين هم كفارهم ، فمن آمن منهم لم يسم شيطانا.

(٥١٣١) متفق عليه من ابي هريرة.

(٥١٣٢) متفق عليه من أبي هريرة.

يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الزمر : ٤٢ ـ : لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها ، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، ويتولّونها بعده ، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره ، وحكمه وأمره ، فصحّت إضافة التوفي الى كل بحسبه.

وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن؟ أو عرض من أعراضه؟ أو جسم مساكن له مودع فيه؟ أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمّارة ، و [هل] اللوّامة ، والمطمئنة ـ نفس واحدة ، أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح ، أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسألة تحتمل مجلدا ، ولكن أشير الى الكلام عليها مختصرا ، إن شاء الله تعالى :

فقيل : الروح قديمة ، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبّرة. وهذا معلوم بالضرورة من دينهم ، أن العالم محدث ، ومضى على هذا الصحابة والتابعون ، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة ، فزعم أنها قديمة ، واحتج بأنها من أمر الله ، وأمره غير مخلوق! وبأن الله أضافها إليه بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الاسراء : ٨٥ ، وبقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الحجر : ٢٩ ، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده. وتوقف آخرون. واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة. وممن نقل الإجماع على ذلك : محمد بن نصر المروزي ، وابن قتيبة وغيرهما. ومن الأدلة [على] أن الروح مخلوقة ، قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨ والزمر : ٦٢ ، فهذا عامّ لا تخصيص فيه بوجه ما ، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى ، فإنها داخلة في مسمى اسمه. فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال ، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته ـ داخل في مسمى اسمه فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق ، وما سواه مخلوق ، ومعلوم قطعا أن الروح ليس هي الله ، ولا صفة من صفاته ، وإنما هي من مصنوعاته. ومنها قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الدهر : ١. وقوله تعالى لزكريا : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩. والإنسان اسم لروحه وجسده ، والخطاب

لزكريا ، لروحه وبدنه ، والروح توصف بالوفاة والقبض [والإمساك] والإرسال ، وهذا شأن المخلوق المحدث. وأما احتجاجهم بقوله : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الاسراء : ٨٥ ـ فليس المراد هنا بالأمر الطلب ، بل المراد به المأمور ، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول ، وهذا معلوم مشهور. وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله : (مِنْ رُوحِي) الحجر : ٢٩ ـ فينبغي أن يعلم أن المضاف الى الله نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة الى الموصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه. والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح ، فهذه إضافة مخلوق الى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا ، يتميز بها المضاف عن غيره.

واختلف في الروح : هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة الى ذلك.

واختلف في الروح : ما هي؟ فقيل : هي جسم ، وقيل : عرض ، وقيل : لا ندري ما الروح ، أجوهر أم عرض؟ وقيل : ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ، وقيل : هي الدم الصافي الخالص من الكدرة والعفونات (٥١٤) ، وقيل : هي الحرارة الغريزية ، وهي الحياة ، وقيل : [هو] جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان ، على جهة الإعمال له والتدبير ، [وهي] على ما وصفت من الانبساط في العالم ، غير منقسمة الذات والبنية ، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير ، وقيل : النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس ، وقيل غير ذلك. وللناس في مسمى الإنسان : هل هو الروح فقط ، أو البدن فقط ، أو مجموعهما ، أو كل منهما؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه : هل هو اللفظ ، أو المعنى فقط ، أو هما ، أو كل منهما؟ (٥١٥) فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه. والحق : أن الإنسان اسم لهما ، وقد يطلق على أحدهما بقرينة ، وكذا الكلام.

__________________

(٥١٤) في الاصل : الكدر.

(٥١٥) قال عفيفي : انظر مباحث الروح من الصفحة ٢١٦ ج ٤ من «مجموع الفتاوى»

.

والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل : أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي ، خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي ذلك الجسم اللطيف ساريا في هذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار ، من الحسّ والحركة الإرادية ، وإذا فسدت هذه ، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار ، فارق الروح البدن ، وانفصل الى عالم الأرواح. والدليل على ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الزمر : ٤٢ ، الآية. ففيها الإخبار بتوفّيها وإمساكها وإرسالها. وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ ، أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) الانعام : ٩٣ ، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها ، ووصفها بالإخراج والخروج ، والإخبار بعذابها ذلك اليوم ، والإخبار عن مجيئها الى ربها. وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) الانعام : ٦٠ ، الآية. ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل ، وبعثها الى أجسادها بالنهار ، وتوفي الملائكة لها عند الموت. وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠. ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» (٥١٦). ففيه وصفه بالقبض ، وأن البصر يراه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث بلال : «قبض أرواحكم وردّها عليكم» (٥١٧). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» (٥١٨). وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها ، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ

__________________

(٥١٦) مسلم عن أمّ سلمة «أحكام الجنائز» (ص ٢٥)

(٥١٧) صحيح اخرجه البخاري من حديث ابي قتادة وليس من حديث بلال كما هو ظاهر كلام المؤلف. وكذلك أخرجه احمد وغيره. «صحيح ابي داود» (٤٦٥).

(٥١٨) «الصحيحة» (٩٩٥).

السقاء ، وأنها تصعد ويوجد منها [من المؤمن] كأطيب ريح ، ومن الكافر كأنتن ريح ، الى غير ذلك ، من الصفات. وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل ، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة ، والشبه الفاسدة ، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية.

وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح : هل هما متغايران ، أو مسمّاهما واحد؟ فالتحقيق : أن النفس تطلق على أمور ، وكذلك الروح ، فيتحد مدلولهما تارة ، ويختلف تارة. فالنفس تطلق على الروح ، ولكن غالب ما يسمّى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها. ويطلق على الدم ، ففي الحديث : «ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه» (٥١٩). والنفس : العين ، يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. والنفس : الذات ، (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) النور : ٦١ (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء : ٢٨ ، ونحو ذلك. وأما الروح فلا يطلق على البدن ، لا بانفراده ، ولا مع النفس. وتطلق الروح على القرآن ، وعلى جبرائيل ، (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الشورى : ٥٢. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الشعراء : ١٩٣. ويطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضا. وأما ما يؤيد الله به أولياءه ، فهي روح أخرى ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة : ٢٢. وكذلك القوى التي في البدن ، فإنها أيضا تسمى أرواحا ، فيقال : الروح الباصر ، والروح السامع ، والروح الشامّ (٥٢٠). ويطلق الروح على أخص من هذا كله ، وهو : قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة الى طلبه وإرادته. ونسبة هذا الروح الى الروح ، كنسبة الروح الى البدن ، فالعلم روح ، والإحسان روح ، والمحبة روح ، والتوكل روح ، والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الروح : فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا ، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيّا بهميّا. وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم

__________________

(٥١٩) لا أعرف له أصلا ، وانما هو من كلام الفقهاء.

(٥٢٠) قال عفيفى : انظر «العقل والنقل. لابن تيمية ص ١٧٧ ج ٢

ثلاثة أنفس : مطمئنة ، ولوّامة ، وأمّارة ، قالوا : وإن منهم من تغلب عليه هذه ، ومنهم من تغلب عليه هذه ، كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الفجر : ٢٧. (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة : ٢. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف : ٥٣. والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمّارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوّامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (٥٢١). مع قوله : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٥٢٢) ، الحديث.

واختلف الناس : هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة : تموت ، لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقد قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧. وقال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان. قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها. والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية ، فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الدخان : ٥٦ ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد. وأما قول أهل النار : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) المؤمن : ١١ ، وقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٥٢٣) ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ البقرة : ٢٨ ـ فالمراد : أنهم كانوا أمواتا

__________________

(٥٢١) «الصحيحة» (٥٥٠).

(٥٢٢) متفق عليه ، وقد مضى الحديث (برقم ٣٧٣).

(٥٢٣) قال عفيفي : انظر ص ٢٦٤ من كتاب «الروح».

وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ، ثم أحياهم بعد ذلك ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم يوم النشور ، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة ، وإلا كانت ثلاث موتات. وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، وليس ذلك بموت. وسيأتي ذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى. وكذلك صعق موسى عليه‌السلام لم يكن موتا ، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق ـ والله أعلم ـ موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق ، وأما من ذاق الموت ، أو لم يكتب عليت الموت من الحور والولدان وغيرهم ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية. والله أعلم.

قوله : (وبعذاب القبر لمن كان له أهلا ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه ، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران).

ش : قال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٥ ـ ٤٦. وقال تعالى : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الطور : ٤٥ ـ ٤٧. وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ ، وهو أظهر ، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذّب في الدنيا ، أو المراد أعم من ذلك. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، كأنّ على رءوسنا الطير ، وهو يلحد له ، فقال : «أعوذ بالله من عذاب القبر» ، ثلاث مرات ، ثم قال : «إن العبد [المؤمن] إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، نزلت إليه الملائكة ، كأن على وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، فجلسوا منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس الطيبة ، اخرجي الى مغفرة من الله

ورضوان» ، قال : «فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون بها ، يعني على ملأ من الملائكة ، إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها الى السماء ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها ، الى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها الى السماء التي فيها الله ، فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه الى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربّك؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : ما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا الى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره ، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسرّك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : يا ربّ ، أقم الساعة حتى أرجع الى أهلي ومالي ، قال :

وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي الى سخط من الله وغضب ، قال : فتتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السّفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح

الخبيث؟ (٥٢٤) فيقولون فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها الى السماء الدنيا ، فيستفتح له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الاعراف : ٤٠ ، فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجّين ، في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحا ، ثم قرأ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) الحج : ٣١ ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه ، هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ، فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فافرشوه من النار ، وافتحوا له بابا الى النار ، فيأتيه من حرّها وسمومها ، ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ، فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالشرّ ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول ربّ لا تقم الساعة» (٥٢٥). رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وروى النسائي وابن ماجة أوّله ورواه الحاكم وأبو عوانة الأسفرائيني في «صحيحيهما» ، وابن حبان.

وذهب الى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث ، وله شواهد من الصحيح. فذكر البخاري رحمه‌الله عن سعيد عن قتادة عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، إنه ليسمع فرع نعالهم ، فيأتيه ملكان ، فيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقول له : انظر الى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا» (٥٢٦). قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره ، وذكر الحديث. وفي «الصحيحين» عن ابن

__________________

(٥٢٤) قال عفيفي : انظر المسألة الرابعة في الكلام على موت الروح «لابن القيم».

(٥٢٥) صحيح ، انظر «احكام الجنائز» (ص ١٥٦ ـ ١٥٩).

(٥٢٦) «الصحيحة» (١٣٤٤).

عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذّبان ، وما يعذّبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، فدعا بجريدة رطبة ، فشقها نصفين ، وقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» (٥٢٧). وفي «صحيح» أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان. يقال لأحدهما المنكر ، وللآخر : النكير» (٥٢٨) ، وذكر الحديث إلخ ..

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا تتكلّم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته ، لكونه لا عهد له به في هذا الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن عود الروح الى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا ، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا. فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق ، متغايرة الأحكام : أحدها : تعلقها به في بطن الأم جنينا. الثاني : تعلقها به بعد خروجه الى وجه الأرض. الثالث : تعلقها به في حال النوم ، فلها به تعلق من وجه ، ومفارقة من وجه. الرابع : تعلقها به في البرزخ ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليّا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة ، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلّم ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه. وهذا الردّ إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد ، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن ، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه ، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا ، فالنوم أخو الموت. فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.

__________________

(٥٢٧) متفق عليه «صحيح ابي داود» (١٥).

(٥٢٨) حسن ، أخرجه الترمذي أيضا (١ / ١١٩) وقال «حديث حسن غريب» ، قلت واسناده حسن ، وفيه رد على من انكر من المعاصرين تسمية الملكين ب : «المنكر» و «النكير» وهو مخرج فى «الصحيحة» (١٣٩١)

.

وليس السؤال في القبر للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين. وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعا ، باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به.

واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه ، [قبر أو لم يقبر] ، أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف في الهواء ، أو صلب أو غرق في البحر ـ وصل الى روحه وبدنه من العذاب ما يصل الى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك ـ فيجب أن يفهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراده من [غير] غلوّ ولا تقصير ، فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد. والله المستعان.

فالحاصل أن الدّور ثلاث : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار. وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركّب هذا الإنسان من بدن ونفس ، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم ـ صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا. فإذا تأملت هذا المعنى حقّ التأمل ، ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل ، وأنه حق (٥٢٩) لا مرية فيه ، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم. ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ، ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها ، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حرّا من جمر الدنيا ، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسّوا بها. بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما الى جنب صاحبه ، وهذا في حفرة من النار ، وهذا في روضة

__________________

(٥٢٩) في الاصل : لا حق.

من رياض الجنة ، لا يصل من هذا الى جاره شيء من حرّ ناره ، ولا من هذا الى جاره شيء من نعيمه. وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب ، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما. وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير. وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيّبه عن غيره ، ولو اطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ، ولما تدافن الناس ، كما في «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع» (٥٣٠). ولمّا كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته.

وللناس في سؤال منكر ونكير : هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال : الثالث التوقف ، وهو قول جماعة ، منهم أبو عمر بن عبد البر ، فقال : وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (٥٣١) ـ منهم من يرويه «تسأل» ، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك ، وهذا أمر لا يقطع به ، ويظهر عدم الاختصاص ، والله أعلم. وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضا : وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان : منه ما هو دائم ، كما قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٦. وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر : «ثم يفتح له باب الى النار فينظر الى مقعده فيها حتى تقوم الساعة» (٥٣٢) ، رواه الإمام أحمد في بعض طرقه. والنوع الثاني : أنه مدة ثم ينقطع ، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم ، فيعذب بحسب جرمه ، ثم يخفف عنه ، كما تقدم ذكره [في] الممحّصات العشرة.

وقد اختلف في مستقرّ الأرواح ما بين الموت الى قيام الساعة : فقيل : أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار ، وقيل : إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة

__________________

(٥٣٠) اخرجه مسلم عن أبي سعيد وعن أنس ، لكن دون قوله : «ما اسمع».

(٥٣١) مسلم واحمد ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٥٩).

(٥٣٢) صحيح ، وقد تقدم بتمامه الحديث (رقم ٥٢٥).

على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقيل : على أفنية قبورهم. وقال مالك : بلغني أن الروح مرسلة ، تذهب حيث شاءت. وقالت طائفة : بل أرواح المؤمنين عند الله عزوجل ، ولم يزيدوا على ذلك. وقيل إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق ، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت! وقال كعب : أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة ، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خدّ إبليس (٥٣٣)! وقيل : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكافرين ببئر برهوت. وقيل : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفار عن شماله. قال ابن حزم وغيره : مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال أبو عمر بن عبد البر : أرواح الشهداء في الجنة ، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وعن ابن شهاب أنه قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلّقة بالعرش ، تغدو وتروح الى رياض الجنة ، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وقالت فرقة : مستقرّها العدم المحض. وهذا قول من يقول : إن النفس عرض من أعراض البدن ، كحياته وإدراكه! وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة : مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها ، فتصير كل روح الى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد ، وهو قول خارج عن أهل الاسلام كلهم. ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها.

ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت ، فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى (٥٣٤) ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلّهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه. كما في «المسند» عن عبد

__________________

(٥٣٣) قال عفيفي : انظر المسألة الثانية عشرة من كتاب «الروح».

(٥٣٤) قال عفيفي : انظر قول العلماء في مستقر الارواح بعد الموت وقبل يوم القيامة في المسألة الخامسة عشرة من كتاب «الروح» لابن القيم.

الله بن جحش (٥٣٥) : أن رجلا جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله : ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال : «الجنة» ، فلما ولىّ ، قال : «إلا الدّين ، سارني به جبرائيل آنفا» (٥٣٦). ومن الأرواح من يكون محبوسا على باب الجنة ، كما في الحديث [الذي] قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة» (٥٣٧) ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، ومنهم من يكون في الارض ، ومنها أرواح في تنوّر الزّناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السّنة ، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران : ١٦٩ ، وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) البقرة : ١٥٤ ـ [فهي] : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر. كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم ، يعني يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي الى قناديل من ذهب مظلّة في ظل العرش» (٥٣٨) ، الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم. فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عزوجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها ، تكون فيها الى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعّم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه

__________________

(٥٣٥) في الاصل : عن محمد بن عبد الله بن محسن.

(٥٣٦) صحيح ، «مسند أحمد» (٤ / ١٣٩ و ٣٥٠).

(٥٣٧) صحيح «أحكام الجنائز» (١٥).

(٥٣٨) صحيح ، واخرجه الحاكم ، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبى ، وانظر «المشكاة» (٣٨٥٣).

[الله] الى جسده يوم يبعثه» (٥٣٩). فقوله «نسمة المؤمن» تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : «هي في جوف طير خضر» ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير ، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار ، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في «السنن». وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته الى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم. وكأنه ـ والله أعلم ـ كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول.

قوله : ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة ، والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب ، والصراط والميزان.

ش : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة. فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، وردّ على منكريه في غالب سور القرآن. وذلك : أن الأنبياء عليهم‌السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله (٥٤٠) ، فإن الاقرار بالربّ عام في بني آدم ، وهو فطريّ ، كلهم يقرّ بالرب ، إلا من عاند ، كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر ، فإن منكريه كثيرون ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفّي ـ بيّن تفضيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري.

والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت ، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى ، وينكرون معاد الأبدان ، ويقول من يقول منهم : إنه لم يخبر به إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق التخييل! وهذا كذب ، فإن

__________________

(٥٣٩) صحيح وقد مضى الحديث (برقم ٥١٨).

(٥٤٠) في الاصل : بالآخرة.

القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء ، من آدم الى نوح ، الى ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم‌السلام ، وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم ، فقال تعالى : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الاعراف : ٢٤ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) الاعراف : ٢٥. ولما قال إبليس اللعين : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ص : ٧٩ ـ ٨١. وأما نوح عليه‌السلام فقال : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) نوح : ١٧ ـ ١٨. وقال ابراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) الشعراء : ٨٢. الى آخر القصة. وقال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) ابراهيم : ٤١. وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الآية ، البقرة : ٢٦٠ ، وأما موسى عليه‌السلام ، فقال الله تعالى لما ناجاه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) طه : ١٥ ـ ١٦. بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد ، وإنما آمن بموسى ، قال تعالى حكاية عنه : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) غافر : ٣٢ ـ ٣٣ ، الى قوله تعالى : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) غافر : ٣٩ ، الى قوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٦. وقال موسى : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) الاعراف : ١٥٦. وقد أخبر الله في قصة البقرة : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة : ٧٣. وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، في آيات [من] القرآن ، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) الزمر : ٧١. وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا. فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم ، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة. فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد ، يذكر ذلك فيها : في الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به

على المعاد ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ) سبأ : ٣ ، الآيات. وقال تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يونس : ٥٣. وقال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) التغابن : ٧. وأخبر عن اقترابها ، فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر : ١. (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء : ١ ، (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) المعارج : ١ ـ ٢ ، الى أن قال : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) المعارج : ٦ ـ ٧. وذم المكذبين بالمعاد ، فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) يونس : ٤٥ [(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)] الانعام : ٣١. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) الشورى : ١٨. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) النمل : ٦٦. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) النحل : ٣٨ ، الى أن قال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) النحل : ٣٩. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) غافر : ٥٩. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) الإسراء. ٩٧. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الاسراء : ٩٨. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) الاسراء : ٩٩. (قالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ ، وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) الاسراء : ٤٩ ـ ٥٢.

فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا أولا : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)؟! الاسراء : ٤٩ ، فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقا لا يفنيه

الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟! فإن قلتم : كنا خلقا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء ـ فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا؟! وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، [فإنه] قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال الى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة ـ فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخرا بقولهم : من يعيدنا اذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الاسراء : ٥١. فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا الى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو؟ فأجيبوا بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

ومن هذا قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يس : ٧٨؟ الى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جوابا ، فكان في قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يس : ٧٨ ما وفىّ بالجواب. وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يس : ٧٩ ، فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم ضروريّا أنّ من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس : ٧٩. فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني. فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام اذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ

الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) يس : ٨٠. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر ، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة ، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها [و] لا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلّ الأعظم ، [على] الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا ، فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟ يس : ٨١ فأخبر أن الذي أبدع السموات والأرض ، (٥٤١) على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامها ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يحيي عظاما قد صارت رميما ، فيردها الى حالتها الأولى. كما قال في موضع آخر : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) غافر : ٥٧. وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يس : ٨١. ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر ، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والنصب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بدّ معه من آلة ومعين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكوّنه نفس إرادته ، وقوله للمكوّن : «كن» ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده. ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يس : ٨٣. ومن هذا قوله سبحانه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) القيامة : ٣٦ ـ ٤٠. فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملا عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء ، كما قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون : ١١٥ ، الى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة الى العلقة ، ثم الى

__________________

(٥٤١) قال عفيفي : انظر مختصر الموصلي للصواعق المرسلة ١٠٦ ـ ١٠٧ من ج ١ ط مكة.

المضغة ، ثم شقّ سمعه وبصره ، وركّب فيه الحواسّ والقوى (٥٤٢) ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتمّ الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر الى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز ، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه لقريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.

وكم في القرآن [من] مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الحج : ٥ ، الى أن قال : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الحج : ٧. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) المؤمنون : ١٢ ، الى أن قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون : ١٦. وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) الكهف : ٢١.

والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب. وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول : تفرّق الأجزاء ثم تجمع. فأورد عليهم : الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل دائما ، فما ذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ،

__________________

(٥٤٢) قال عفيفي : انظر «مختصر الصواعق المرسلة» ١٠٤ ـ ١٠٦ ج ١.

ليس فيه شيء باق ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوّى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.

والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء : أن الأجسام تنقلب (٥٤٣) من حال الى حال ، فتستحيل ترابا ، ثم ينشئها الله نشأة أخرى ، كما استحال في النشأة الأولى : فإنه كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة ، ثم صار عظاما ولحما ، ثم أنشأه خلقا سويّا. كذلك الإعادة : يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب (٥٤٤) الذنب ، كما ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ابن آدم ، ومنه يركب» (٥٤٥). وفي حديث آخر : «إن السماء (٥٤٦) تمطر مطرا كمني الرجال ، ينبتون في القبور كما ينبت النبات» (٥٤٧). فالنشأتان نوعان تحت جنس (٥٤٨) ، يتفقان ويتماثلان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه. والمعاد هو الأول بعينه ، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق ، فعجب الذنب هو الذي يبقى ، وأما سائره فيستحيل ، فيعاد من المادة التي استحال

__________________

(٥٤٣) في الاصل : تتقلب.

(٥٤٤) «العجب» ، بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة : عظم لطيف في أصل الصلب ، وهو رأس العصعص ، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الاربع. قاله الحافظ في «الفتح».

(٥٤٥) البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له في بعض رواياته (٢ / ٤٢٨) وزاد : «ويأكله التراب» وسنده جيد.

(٥٤٦) في الاصل : الارض.

(٥٤٧) ضعيف ، أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٤٦ / ١ ـ ٢) في حديث طويل عن أبي الزعراء قال ذكروا عند عبد الله الدجال ، فقال : فذكره بطوله موقوفا ، وله حكم المرفوع لكنه منقطع بين أبي الزعراء واسمه يحيى بن الوليد ، لم يرو عن أحد من الصحابة ، بل عن بعض التابعين ، ثم أن في الحديث فقرة لم تذكر هنا مخالفة لحديث صحيح فيه عليه الهيثمي (١٠ / ٣٣٠) وقد أخرجه الحاكم (٤ / ٦٠٠) وصححه على شرطهما ورده الذهبي بأنهما ما احتجا بأبي الزعراء ، وفاته انه منقطع كما بينا.

(٥٤٨) قال عفيفي : انظر «مختصر الصواعق المرسلة» ١٠٧ ـ ١٠٨ ج ١.

إليها. ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير ، ثم رآه وقد صار شيخا ، علم أن هذا هو ذاك ، مع أنه دائما في تحلل واستحالة. وكذلك سائر الحيوان والنبات ، فمن رأى شجرة وهي صغيرة ، ثم رآها كبيرة ، قال : هذه تلك. وليست [صفة] تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة ، حتى يقال إن الصفات هي المغيّرة ، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم ، طوله ستون ذراعا ، كما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما ، وروي : أن عرضه سبعة أذرع. وتلك نشأة باقية غير معرّضة للآفات ، وهذه النشأة فانية (٥٤٩) معرضة للآفات.

وقوله : وجزاء الأعمال ـ قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الفاتحة : ٣. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) النور : ٢٥. [والدّين : الجزاء ، يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى] ، وقال تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة : ١٧ والاحقاف : ١٤ والواقعة : ٢٤ (جَزاءً وِفاقاً) النبأ : ٢٦. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الانعام : ١٦٠ ، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النمل : ٨٩ ـ ٩٠. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) القصص : ٨٤. وأمثال ذلك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يروي عن ربه عزوجل ، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه : «يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» (٥٥٠). وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب. قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)

__________________

(٥٤٩) في الاصل : فاسدة.

(٥٥٠) اخرجه مسلم وأحمد من حديث أبي ذر.

الحاقة : ١٥ ـ ١٨ ، الى آخر السورة. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) الانشقاق : ٦ ـ ١٥. (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الكهف : ٤٨. (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [وَالسَّماواتُ] ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ابراهيم : ٤٨ ، الى آخر السورة. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ]) غافر : ١٥ ، الى قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر : ١٧. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة : ٢٨١. وروى البخاري رحمه‌الله في «صحيحه» ، عن عائشة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ، فقلت : يا رسول الله ، أليس قد قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الانشقاق : ٧ ـ ٨ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما ذلك العرض (٥٥١) ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذّب» (٥٥٢). يعني أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذّبهم وهو غير ظالم لهم ، ولكنه تعالى يعفو ويصفح. وسيأتي لذلك زيادة [بيان] ، إن شاء الله تعالى. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة يوم الطور؟» (٥٥٣) وهذا صعق في موقف القيامة ، إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، فحينئذ يصعق الخلائق كلهم. فإن قيل : كيف

__________________

(٥٥١) في الاصل : للعرض.

(٥٥٢) صحيح.

(٥٥٣) متفق عليه ، وقد تقدم الحديث (برقم ٢٩٧)

.

تصنعون بقوله في الحديث : «إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش (٥٥٣١)؟ قيل : لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ، ومنه نشأ الإشكال. ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث ، فركب بين اللفظين ، فجاء هذان الحديثان هكذا : أحدهما : «أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق» ، كما تقدم ، والثاني : «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» (٥٥٤) ، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر. وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزّي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد بن كثير ، رحمهم‌الله. وكذلك اشتبه على بعض الرواة ، فقال : «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عزوجل» (٥٥٥)؟ والمحفوظ

__________________

(٥٥٣١) صحيح. أخرجه البخاري في أول كتاب «الخصومات» من حديث وهيب ، حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قصة ضرب الصحابي لليهودي بلفظ : «لا تخيروا بين الأنبياء فان الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض فاذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الاولى».

وأخرجه مسلم رقم (٢٣٧٤) من طريق سفيان عن عمرو بن يحيى به. لكنه لم يسق لفظه بتمامه ، وقد ساقه أحمد (٣ / ٣٣) من هذه الطريق بلفظ : «وأنا أول من تنشق عنه الارض يوم القيامة فأفيق ، فأجد موسى ..» الحديث.

ويشهد لهذه الرواية حديث أبي هريرة عند مسلم (٢٣٧٣) بلفظ : «لا تفضلوا بين أنبياء الله ، فانه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ، قال : ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، أو في أول من بعث ، فاذا موسى عليه‌السلام آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور ، أو بعث قبلي».

ومن هذين الحديثين يتبين أن هذه الصعقة الثانية انما هي صعقة البعث ، المذكورة في الآية ، وليست صعقة تقع لفصل القضاء كما ذكر الشارح تبعا للامام ابن القيم. وعلى ذلك فلا اشكال في الحديث والله أعلم.

(٥٥٤) رواه مسلم رقم (٢٢٧٨) باب تفضيل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ : «وأول من ينشق عنه القبر». وأبو داود والترمذي وأحمد.

(٥٥٥) صحيح وهو آخر حديث أبي هريرة المذكور قبله في رواية عنه عند البخاري ، والمراد

الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول ، وعليه المعنى الصحيح ، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا لفصل القضاء ، فموسى عليه‌السلام إن كان لم يصعق معهم ، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكّا ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا عن صعقة الخلائق لتجلي ربه يوم القيامة. فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله. وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، وأبو بكر بن أبي الدنيا ، عن الحسن ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فعرضتان جدال ومعاذير ، وعرضة تطاير الصحف ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وحوسب حسابا يسيرا ، دخل الجنة ، ومن أوتي كتابه بشماله ، دخل النار» (٥٥٦). وقد روى ابن أبي الدنيا [عن ابن المبارك] : أنه أنشد في ذلك شعرا :

وطارت الصحف في الأيدي منشّرة

فيها السرائر والأخبار تطّلع (٥٥٧)

فكيف سهوك والأنباء واقعة

عما قليل ، ولا تدري بما تقع

أفي الجنان وفوز لا انقطاع له

أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع

تهوي بساكنها طورا وترفعهم

إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا

طال البكاء (٥٥٨) فلم يرحم تضرّعهم

فيها ، ولا رقية (٥٥٩) تغني ولا جزع

لينفع العلم قبل الموت عالمه

قد سال قوم بها الرّجعى فما رجعوا

__________________

بقوله : «ممن استثنى الله» أي لا تصيبه النفخة ، كما صرحت به رواية ابن أبي الدنيا في كتاب البعث» عن الحسن مرسلا ، كما في «الفتح».

(٥٥٦) ضعيف ، لأن الحسن البصري مدلس وقد عنعنه ، وهذه علة ، وان ثبت سماعه من ابي هريرة وأبي موسى ، فان ثبوت مطلق السماع لا يغني في رواية المدلس حتى يصرح بالتحديث كما هو مقرر في «المصطلح» ، إلا اذا ثبتت رواية الكتاب التي فيها التصريح بسماع الحسن من ابى موسى.

(٥٥٧) قال عفيفي : انظر المسألة الرابعة من كتاب «الروح» لابن القيم.

(٥٥٨) في الأصل : الكلام.

(٥٥٩) في الاصل : رفه.

قوله : والصراط ، أي : وتؤمن بالصراط ، وهو جسر على جهنم ، اذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف الى الظلمة التي دون الصراط ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أين الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال : «هم في الظلمة دون الجسر» (٥٦٠). وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ، ويتخلفون عنهم ، ويسبقهم المؤمنون ، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم. وروى البيهقي بسنده ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : «يجمع الله الناس يوم القيامة» ، الى أن [قال] : «فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، وقال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه ، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضيء مرة ويطفأ مرة ، إذا أضاء قدّم قدمه ، وإذا طفئ قام ، قال : فيمرّ ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض ، مزلة ، فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشدّ الرّجل ، يرمل رملا ، فيمرون على قدر أعمالهم ، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه ، تخرّ يد ، وتعلق يد ، وتخر (٥٦١) رجل ، وتعلق رجل ، وتصيب جوانبه النار ، فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجّانا منك بعد أن أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد» (٥٦٢) ... الحديث.

__________________

(٥٦٠) رواه مسلم (١ / ١٧٣).

(٥٦١) في الاصل : تجرّ.

(٥٦٢) صحيح. وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٧٦) ، وأظن أن البيهقي من طريقه رواه ، وقال الحاكم : «صحيح على شرط الشيخين». ووافقه الذهبي! قلت : وفيه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاتي ، ولم يخرج له الشيخان شيئا ، ثم هو وان كان صدوقا ، فقد كان يخطئ كثيرا ، وكان يدلس ، كما في «التقريب». وقد صرح في هذا الاثر بالتحديث ، فأمنا بذلك تدليسه ، فإنما يخشى منه الخطأ فيه ، لكنه قد توبع كما يأتي ، فأمّنا بذلك خطأه أيضا ، وقد أخرجه الحاكم أيضا (٤ / ٥٩٠ ـ ٥٩٢) بتمامه مطولا ، وكذلك الطبراني في «المعجم الكبير» (٣ / ٤٦ / ٢ ـ ٤٧ / ٢) من طريق أبي خالد هذا عن ابن مسعود مرفوعا وقد تابعه زيد بن أبي أنيسة مرفوعا أيضا

واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) مريم : ٧١ ، ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور الصراط ، قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم : ٧٢. وفي «الصحيح» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة» ، قالت حفصة : فقلت : يا رسول الله ، أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) مريم : ٧١ ، فقال : «ألم تسمعيه قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم : ٧٢» (٥٦٣). أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله ، بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوّه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه ، يقال : نجاه الله منهم. ولهذا قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً) هود : ٥٨. (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً) هود : ٦٦. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً) هود : ٩٤. ولم يكن العذاب أصابهم ، ولكن أصاب غيرهم ، ولو لا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الوارد في النار ، يمرون فوقها على الصراط ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا. فقد بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جابر المذكور : أن الورود هو الورود على الصراط. وروى الحافظ أبو نصر الوائلي (٥٦٤) ، عن أبي هريرة رضي الله

__________________

ـ بتمامه عند الطبراني ، وزيد ثقة ، فصح بذلك الحديث والحمد لله.

١ ـ كذا في الرواية الموقوفة عند الحاكم ، وفي المرفوعة عنده : «دون» وعند الطبراني «أصغر» ولعل هذه الرواية أولى لأن السياق يدل عليها.

٢ ـ كذا في «الموقوفة» وفي المرفوعة عند الحاكم والطبراني : «فيمرون».

٣ ـ وكذا في «المستدرك» و «المعجم» وأما الرواية التي علقها هنا الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله بلفظ : «ثم كشد الرجال ، ثم كمشيهم» فهي رواية أخرى للحاكم (٢ / ٢٧٥) من طريق غير الدالاتي ، وهذه الطريق لم يقع بصر الشيخ عليها ، مع أنها في الصفحة التي تلي صفحة الرواية الاخرى. والموفق الله تبارك وتعالى.

(٥٦٣) صحيح ، رواه مسلم ، وأحمد نحوه من حديث أم مبشر.

(٥٦٤) هو الحافظ الوائلي البكري ، أبو نصر السجزي ، المتوفى سنة ٤٤٤. ترجمه الذهبي في «تذكرة الحفاظ» ٣ : ٢٧٩ ـ ٢٩٨.

عنه ، قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدثن في دين الله حدثا برأيك» (٥٦٥). أورد القرطبي. وروى أبو بكر بن أحمد بن سليمان النجار ، عن يعلى بن منية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي» (٥٦٦).

وقوله : والميزان ، أي : ونؤمن بالميزان. قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) الأنبياء : ٤٧. وقال تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣. قال القرطبي : قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها. قال : وقوله : تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) الأنبياء : ٤٧. يحتمل أن يكون ثمّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة ، والله أعلم.

والذي دلت عليه السنة : أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان. روى الإمام أحمد ، من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سيخلّص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مدّ البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال : لا ، يا رب ، فيقول : ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقول أحضروه ، فيقول : يا رب ، وما

__________________

(٥٦٥) موضوع ، وهو قطعة من حديث رواه أبو نعيم والخطيب عن أبي هريرة مرفوعا ، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وتكلمت عليه في «الاحاديث الضعيفة» (٢٦٥).

(٥٦٦) ضعيف ، رواه الطبراني وابن عدي وأبو نعيم وغيرهم بسند فيه ضعف وانقطاع.

هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، [والبطاقة في كفة] ، قال : فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرّحمن الرّحيم» (٥٦٧). وهكذا روى الترمذي ، وابن ماجه ، وابن أبي الدنيا ، من حديث الليث ، زاد الترمذي : «ولا يثقل مع اسم الله شيء». وفي سياق آخر : «توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة» (٥٦٨) وفي هذا السياق فائدة جليلة ، وهي أن العامل يوزن مع عمله ، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الكهف : ١٠٦» (٥٦٩). وروى الإمام أحمد ، عن ابن مسعود : «أنه كان يجني (٥٧٠) سواكا من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفئه ، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ممّ تضحكون»؟ قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقية ، فقال : «والذي نفسي بيده ، لهما أثقل في الميزان من أحد» (٥٧١). وقد وردت الأحاديث أيضا بوزن الأعمال أنفسها ، كما في «صحيح مسلم» ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان» (٥٧٢). وفي «الصحيح» ، وهو خاتمة كتاب البخاري ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان الى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان

__________________

(٥٦٧) صحيح ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وحسنه الترمذي وفي روايتيهما : «فلا يثقل مع اسم الله شيء» وأما رواية الكتاب فهي رواية لأحمد (٢ / ٢١٣) وهي شاذة. وقد تكلمت على اسناد الحديث في «سلسلة الاحاديث الصحيحة» (١٣٥).

(٥٦٨) هو الحديث المتقدم ، وهذا لفظ آخر له ، ولا يصح من قبل سنده ، لأن فيه ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ فلا يحتج بما تفرد به ، أخرجه أحمد (٢ / ٢٢١).

(٥٦٩) صحيح ، ورواه مسلم أيضا (٨ / ١٢٥).

(٥٧٠) في «المسند» : يجتني.

(٥٧١) حسن ، رواه أحمد في «المسند» (١ / ٤٥٠) بسند حسن.

(٥٧٢) صحيح ، وهو مخرج في «تخريج مشكلة الفقر» برقم (٥٩).

الله العظيم» (٥٧٣). وروى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا» (٥٧٤). فلا يلتفت الى ملحد معاند يقول : الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما ، كما تقدم ، وكما روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بالموت كبشا أغر (٥٧٥) ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال ، يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، ويرون أن قد جاء الفرج ، فيذبح ، ويقال : خلود لا موت» (٥٧٦). ورواه البخاري بمعناه. فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال ، وثبت أن الميزان له كفتان. والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.

فعلينا الإيمان بالغيب ، كما أخبرنا الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من غير زيادة ولا نقصان. ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع (٥٧٧) ، لخفاء الحكمة عليه ، ويقدح في النصوص بقوله : لا يحتاج الى الميزان إلا البقال والفوّال!! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنا. ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده ، [فإنه] لا أحد أحبّ إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه. فتأمل قول الملائكة ، لما قال

__________________

(٥٧٣) متفق عليه ، وتقدم.

(٥٧٤) موضوع ، ورواه أبو نعيم أيضا في «الحلية» (٦ / ١٧٤) وقال «تفرد به داود بن المحبر» قلت : وهو متروك متهم بالوضع.

(٥٧٥) في الاصل : أغبر.

(٥٧٦) صحيح ، أخرجه في «المسند» (٢ / ٤٢٣) بسند صحيح.

(٥٧٧) قال عفيفي : انظر أحاديث الوعيد في ص ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ج ١ من «مدارج السالكين»

.

[الله] لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) البقرة : ٣٠ وقال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) الاسراء : ٨٥. وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه‌الله ، أن الحوض قبل الميزان ، والصراط بعد الميزان. ففي «الصحيحين» : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة (٥٧٨). وجعل القرطبي في «التذكرة» هذه القنطرة صراطا ثانيا للمؤمنين خاصة ، وليس يسقط منه أحد في النار ، والله تعالى أعلم.

وقوله : (والجنة والنار مخلوقتان ، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق ، وخلق لهما أهلا ، فمن شاء منهم الى الجنة فضلا منه ، ومن شاء منهم الى النار عدلا منه ، وكل يعمل لما [قد] فرغ له ، وصائر الى ما خلق له ، والخير والشر مقدّران على العباد).

ش : أما قوله : إن الجنة والنار مخلوقتان ، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن ، ولم يزل أهل السنة على ذلك ، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية ، فأنكرت ذلك ، وقالت : بل ينشئهما الله يوم القيامة!! وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله ، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا!! وقاسوه على خلقه في أفعالهم ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم ، فصاروا مع ذلك معطلة! وقالوا : خلق الجنة قبل الجراء عبث! لأنها تصير معطلة مددا متطاولة!! فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وضللوا وبدّعوا من خالف شريعتهم.

فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل

__________________

(٥٧٨) اخرجه «البخاري في أول المظالم» وأحمد (٣ / ١٣ / ٦٣ / ٧٤) من حديث أبي سعيد الخدري ، ولم أره في «مسلم».

عمران : ٣٣. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الحديد : ٢١. وعن النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) آل عمران : ١٣١. (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) النبأ : ٢١ ـ ٢٢. وقال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) النجم : ١٣ ـ ١٥. وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سدرة المنتهى ، ورأى عندها جنة المأوى. كما في «الصحيحين» ، من حديث أنس رضي الله عنه ، في قصة الإسراء ، وفي آخره : «ثم انطلق بي جبرائيل ، حتى أتى سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، قال : ثم دخلت الجنة ، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ، واذا ترابها المسك» (٥٧٩) وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» (٥٨٠). وتقدم حديث البراء بن عازب ، وفيه : «ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا الى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها» (٥٨١). وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء. وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت الحديث ، وفيه : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به ، حتى لقد رأيتني آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني تقدّمت ولقد رأيت النار يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت» (٥٨٢). وفي «الصحيحين» ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله ابن عباس ، قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال : «إني رأيت الجنة ، وتناولت عنقودا ،

__________________

(٥٧٩) صحيح.

(٥٨٠) صحيح ، وأخرجه أحمد أيضا (٢ / ١٦ و ٥١ و ١١٣ و ١٢٣).

(٥٨١) صحيح ، وتقدم الحديث بطوله (رقم ٥٢٥).

(٥٨٢) صحيح وهو طرف من حديث طويل في صلاة الكسوف وهو مخرج عندي في الجزء الخاص بهذه الصلاة.

ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ، ورأيت النار ، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا : بم ، يا رسول الله؟ قال : «بكفرهن» ، قيل : أيكفر بالله؟ قال : «يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت الى إحداهنّ الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت خيرا قط!!» (٥٨٣) وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس : «وايم الذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا». قالوا : وما رأيت يا رسول الله؟ قال : «رأيت الجنة والنار» (٥٨٤) وفي «الموطأ والسنن» ، من حديث كعب ابن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما نسمة المؤمن طير (٥٨٥) تعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله الى جسده يوم القيامة» (٥٨٦). وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي «صحيح مسلم» و «السنن» و «المسند». من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما خلق الله الجنة والنار ، أرسل جبرائيل الى الجنة ، فقال : اذهب فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها والى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بالجنة ، فحفّت بالمكاره ، فقال : ارجع فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، قال : ثم أرسله الى النار ، قال : اذهب فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، فاذا هي يركب (٥٨٧) بعضها بعضا ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لا يدخلها أحد سمع بها ، فأمر بها فحفّت بالشهوات ، ثم قال : اذهب فانظر الى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها ، فرجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» (٥٨٨).

__________________

(٥٨٣) صحيح ، وهو مخرج هناك.

(٥٨٤) صحيح.

(٥٨٥) قال عفيفي : هذا المبحث في كتاب «حادي الارواح» لابن القيم.

(٥٨٦) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٩٥).

(٥٨٧) في الاصل : تركب.

(٥٨٨) صحيح ، وصححه الترمذي والحاكم (١ / ٢٦) ووافقه الذهبي ، وعز والمؤلف لمسلم

ونظائر ذلك في السنة كثيرة.

وأما على قول من قال : إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها ، فالقول بوجودها الآن ظاهر ، والخلاف في ذلك معروف.

وأما شبهة من قال : إنها لم تخلق بعد ، وهي : أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطرارا أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران : ١٨٥ ، وقد روى الترمذي في جامعه ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرئ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر» (٥٨٩) ، قال : هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضا من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة» (٥٩٠) ، قال : هذا حديث حسن صحيح ، قالوا : فلو كانت مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا ، ولم يكن لهذا الغراس معنى. قالوا : وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) التحريم : ١١ فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور ، فهذا باطل ، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر ، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها ، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر ـ فهذا حق لا يمكن ردّه ، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر. وأما احتجاجكم بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨ ، فأتيتم من سوء فهمكم

__________________

ـ خطأ ، أنظر «صحيح الجامع» (٥٠٨٦) و «المشكاة» (٥٦٩٦). وإنما له منه .. «حفت الجنة .. وحفت النار بالشهوات». وهذا رواه البخاري أيضا.

(٥٨٩) وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٥).

(٥٩٠) صحيح ، وهو مخرج في المصدر السابق (٦٤).

معنى الآية ، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن ـ نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم لا إخوانكم لفهم معنى الآية ، وإنما وفق لذلك أئمة الاسلام. فمن كلامهم : أن المراد «كل شيء» مما كتب [الله] عليه الفناء والهلاك «هالك» ، والجنة والنار خلقنا للبقاء لا للفناء ، وكذلك العرش ، فإنه سقف الجنة. وقيل : المراد إلا ملكه. وقيل : إلا ما أريد به وجهه. وقيل : إن الله تعالى أنزل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الرحمن : ٢٦ ، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء ، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون ، فقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨ ، لأنه حي لا يموت ، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقا بينها وبين النصوص المحكمة ، الدالة على بقاء الجنة ، وعلى بقاء النار أيضا ، على ما يذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ـ هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف. وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف (٥٩١) ، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها. وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له سلف قط (٥٩٢) ، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا من أهل السنة. وأنكره عليه عامة أهل السنة ، وكفّروه به ، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض. وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود [ما] لا يتناهى من الحوادث! وهو عمدة أهل الكلام

__________________

(٥٩١) قلت : لم يثبت القول بفناء النار عن أحد من السلف ، وإنما هي آثار واهية لا تقوم بها حجة ، وبعض أحاديثه موضوعة ، لو صحت لم تدل على الفناء المزعوم ، وإنما على بقاء النار ، وخروج الموحدين منها ، وقد كنت خرجت بعض ذلك في «الضعيفة» برقم (٦٠٦ و ٧٠٧). ثم وقفت على رسالة مخطوطة في مكتبة المكتب الاسلامي للعلامة الأمير الصنعاني في هذه المسألة الخطيرة ردّ فيها على ابن القيم رحمه‌الله ، فعلقت عليها وخرجت أحاديثها وقدمت لها بمقدمة ضافية ، وقد طبعت بعناية المكتب الاسلامي.

(٥٩٢) يعني قوله بفناء الجنة ، ونحن نزيد على المؤلف فنقول : وليس له سلفا أيضا في قوله بفناء النار ، كما سبقت الإشارة الى ذلك آنفا.

المذموم ، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام ، وحدوث ما لم يخل من الحوادث ، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم. فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي ، يمنعه في المستقبل!! فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع ، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي!! وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وافقه على هذا الأصل ، لكن قال : إن هذا يقتضي فناء الحركات ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار ، حتى يصيروا في سكون دائم ، لا يقدر أحد منهم على حركة!! وقد تقدم الإشارة الى اختلاف النار في تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل ، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى ، وهو لم يزل ربّا قادرا فعالا لما يريد ، فإنه لم يزل حيّا عليما قديرا. ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ، ثم ينقلب فيصير ممكنا لذاته ، من غير تجدد [شيء] ، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكنا له عند ذلك الحد ، ويكون قبله ممتنعا عليه. فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده.

فأما أبدية الجنة ، وأنها لا تفنى ولا تبيد ، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر به ، قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨ ، أي غير مقطوع ، ولا ينافي [ذلك] قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). واختلف السلف في هذا الاستثناء : فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار ، وهذا يكون لمن دخل منهم الى النار ثم أخرج منها ، لا لكلهم. وقيل : إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل : هو استثناء الرب ولا يفعله ، كما تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وأنت لا تراه ، بل تحزم بضربه. وقيل : «إلا» بمعنى الواو ، وهذا على قول بعض النحاة ، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعا ، ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨. قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولا إلا ما شئت ، أي سوى ما شئت ، ولكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل : الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع

جلودهم في مشيئة الله ، لأنهم يخرجون (٥٩٣) عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود (٥٩٤) ، كما في قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) الاسراء : ٨٦ ، وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الشورى : ٢٤ ، وقوله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يونس : ١٦. ونظائره كثيرة ، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن. وقيل : إن «ما» بمعنى «من» أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء (٥٩٥). وقيل غير ذلك. وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه ، وقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨ ، محكم. وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) ص : ٥٤. وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) الرعد : ٣٥. (٥٩٦) وقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الحجر : ٤٨. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، وخبر أنهم : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) ، الدخان : ٥٦ ، وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته الى الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هود : ١٠٨ ـ تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت ، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية ، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.

والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة : كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت» (٥٩٧). وقوله : «ينادي مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وأن تشبّوا فلا تهرموا أبدا ، وأن تحيوا

__________________

(٥٩٣) في الاصل : لا أنهم يخرجون. الجنة الصواب فليراجع «رفع الاستار».

(٥٩٤) قال عفيفي : انظر «مجموع الفتاوى» ص ٤٨ ج ٢.

(٥٩٥) في الاصل : الشعراء.

(٥٩٦) قال عفيفي : انظر ص ٢٥١ من «حادي الأرواح».

(٥٩٧) مسلم ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٨٦)

.

فلا تموتوا أبدا» (٥٩٨). وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ، ويقال : «يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت» (٥٩٩).

وأما أبدية النار ودوامها ، فللناس في ذلك ثمانية أقوال : أحدها : أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد ، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني : أن أهلها يعذبون فيها ، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي!! الثالث : أن أهلها يعذبون فيها الى وقت محدود ، ثم يخرجون منها ، ويخلفهم فيها قوم آخرون (٦٠٠) ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكذبهم فيه ، وقد أكذبهم الله تعالى ، فقال عز من قائل : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) البقرة : ٨٠ ـ ٨١. الرابع : يخرجون منها ، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس : أنها تفنى بنفسها ، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه!! وهذا قول الجهم وشيعته ، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار ، كما تقدم. السادس : تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا ، لا يحسّون بألم ، وهذا قول أبي الهذيل العلّاف كما تقدم. السابع : أن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في الحديث ، ثم يبقيها شيئا ، ثم يفنيها ، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه. الثامن : أن الله تعالى يخرج منها من شاء ، كما ورد في السنة ، ويبقى فيها الكفار ، بقاء لا انقضاء له ، كما قال الشيخ رحمه‌الله. وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان.

وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما.

__________________

(٥٩٨). اخرجه مسلم (٨ / ١٤٨) عن أبي سعيد وأبي هريره معا بتقديم الجملة الأخيرة على التي قبلها ، وزاد : «وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله عزوجل : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)».

(٥٩٩) متفق عليه.

(٦٠٠) قال عفيفي : انظر الباب السابع والستين من «حادي الأرواح» ص (٢٩٨).

فمن أدلة القول الأول منهما : قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الانعام : ١٢٨. وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) هود : ١٠٦ ـ ١٠٧. ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة ، وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨. وقوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) النبأ : ٢٣. وهذا القول ، أعني القول بفناء النار دون الجنة ـ منقول عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور ، بسنده الى عمر رضي الله عنه ، أنه قال : «لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه» (٦٠١) ، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى :

__________________

(٦٠١) ضعيف لأنه من رواية الحسن قال : قال عمر : والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقال ابن القيم في «حادي الارواح» (٢ / ٧١ طبع الكردي) عقبه : والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلام خطابي ، لا غناء فيه. «وحسبك بهذا الاسناد جلالة (!) والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به ، وقال : قال عمر بن الخطاب»!

قلت : وهذا كلام عجيب من مثل ابن القيم رحمه‌الله ، لأن معناه الاحتجاج بحديث التابعي المجهول العين! لأنه إذا كان الحسن قد أخذه من بعض التابعين ، فمن هو؟ وما حاله في الحديث حفظا وضبطا؟ أليس منطق ابن القيم هذا يؤدي الى قلب القواعد الأصولية الحديثية التي تجعل حديث المجهول ضعيفا ، والحديث المرسل والمنقطع ضعيفا كذلك ، لأنهما يرجعان إلى راو لم يذكر ولم يسم؟! ويؤدي كذلك الى قبول أحاديث الحسن البصري المعنعنة ، فضلا عن المنقطعة والمرسلة ، مثل حديثه عن سمرة «لما حملت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه عبد الحارث ، فسمته عبد الحارث ، فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره».

وهو حديث ضعيف ، بل باطل ، ولا علة فيه سوى عنعنة الحسن البصري ، وقد فسر هو الآية التي يفسرها بعض المفسرين بهذا الحديث ، فسرها الحسن نفسه بغير ما دل عليه حديثه ، وتبعه على ذلك بعض المحققين ، منهم ابن القيم نفسه ، كما بينت ذلك في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (رقم الحديث ٣٤٢).

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) النبأ : ٢٣. قالوا : والنار موجب غضبه ، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما قضى الله الخلق ، كتب كتابا ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي» (٦٠٢). وفي رواية : «تغلب غضبي». رواه البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قالوا : والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه : (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الانعام : ١٥. و (أَلِيمٍ) هود : ٢٦. و (عَقِيمٍ) الحج : ٥٥. [ولم يخبر] ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) (٦٠٣) ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ الأعراف : ١٥٦. وقال تعالى حكاية عن الملائكة : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) غافر : ٧. فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذّبين ، فلو بقوا في العذاب لا الى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في «الصحيح» تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة (٦٠٤) ، والمعذّبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم ،

__________________

ـ ومثل حديثه المرسل في ابطال الوضوء بالقهقهة ، وهو ضعيف باتفاق المحدثين!.

سامح الله ابن القيم وغفر له ، فإنه بتصحيحه لمثل هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه يفتح بابا كبيرا لبعض الفرق الضالة يلجون فيه إلى تأييد ضلالهم ، كالعاديانية ، فإن من خلالهم القول بفناء النار ، وانتهاء عذاب الكفار ، كما بينته في «السلسلة» المشار إليها ، عند الكلام على الحديث الذي في معنى هذا الأثر. وكنت أشرت إليه في الكلام على هذا الأثر. فلما وقفت على إسناده تكلمت عليه بتفصيل ، وألحقته بالحديث المشار إليه.

وجملة القول : أن هذا الأثر لا يصح عن عمر ، كما لا يصح عن غيره مرفوعا ، والله ولي التوفيق. وراجع لهذا البحث كتاب «رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار». للعلامة الصنعاني بتقديمي وتعليقي.

وقد روي نحوه عن عبد الله بن عمرو موقوفا بسنده ضعيف ، وأبي أمامة مرفوعا بسند فيه تالف ، وقد تكلمت عليه في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» كما تقدم قريبا.

(٦٠٢) متفق عليه وقد تقدم الحديث (رقم ٣٠٨).

(٦٠٣) قال عفيفي : انظر (٢٥٤ ـ ٢٧٩) من «أحاديث الأرواح».

(٦٠٤) صحيح أخرجه مسلم في حديث لأبي هريرة في عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة. وفي الباب عن ابن عمرو عند الحاكم. (٤ / ٥٧٢) وصححه ووافقه الذهبي.

وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقا ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيما سرمدا ، فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته ، والانتقام مراد بالعرض. قالوا : وما ورد من الخلود فيها ، والتأبيد ، وعدم الخروج ، وأن عذابها مقيم ، وأنه غرام ـ : كله حق مسلّم ، لا نزاع فيه ، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية ، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.

ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المائدة : ٣٧ (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الزخرف : ٧٥. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) النبأ : ٣٠ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) البينة : ٨. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٦٠٥) الحجر : ٤٨. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة : ١٦٧ (لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الاعراف : ٤٠. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فاطر : ٣٦. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان : ٦٥ ، أي مقيما لازما. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة (٦٠٦) صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار ، وأن هذا حكم مختصّ بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختصّ الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما ، بل بإبقاء الله لهما (٦٠٧).

وقوله : وخلق لهما أهلا ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ

__________________

(٦٠٥) هذه الآية في أهل الجنة كما تقدم (ص ٤٢٦) فلعله أراد آية المائدة ٣٧ (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ، وقد وقع هذا الوهم لابن القيم وغيره فانظر تعليقي على «رفع الاستار لإبطال ادلة القائلين بفناء النار» (ص).

(٦٠٦) آخر الجزء الأول من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».

(٦٠٧) قلت : وهذه الأدلة قاطعة في بقاء النار وأهلها فيها من الكفار ، بخلاف أدلة القول الذي قبله ، فليس فيها شيء صريح ، كما بسطه الإمام الصنعاني في «رفع الاستار» ، فكن رجلا يعرف الحق بدليله وليس بالرجال ، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد الا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وَالْإِنْسِ) الاعراف : ١٧٩ ، الآية. وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوءا ولم يدركه ، فقال : «أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» (٦٠٨). رواه مسلّم وأبو داود والنسائي. وقال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ، فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الدهر : ٢ ـ ٣. والمراد الهداية العامة ، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه : ٥٠. فالموجودات نوعان : أحدهما مسخّر بطبعه ، والثاني متحرك بإرادته فهدى الأول لما سخّره له طبيعة ، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره. ثم قسم هذا النوع الى ثلاثة أنواع : نوع لا يريد إلا الخير ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالملائكة ، ونوع لا يريد إلا الشر ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالشياطين ، ونوع يتأتى منه إرادة القسمين ، كالإنسان. ثم جعله ثلاثة أصناف : صنفا يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته ، فيلتحق بالملائكة. وصنفا عكسه ، فيلتحق بالشياطين. وصنفا تغلب شهوته البهيمية عقله ، فيلتحق بالبهائم. والمقصود : أنه سبحانه أعطى الوجودين : العيني والعلمي ، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده ، فلا هداية إلا بتعليمه ، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته ، وثبوت وحدانيته ، وتحقيق ربوبيته ، سبحانه وتعالى.

وقوله : فمن شاء منهم الى الجنة فضلا منه ، ومن شاء منهم الى النار عدلا منه ، الخ ـ مما يجب أن يعلم : أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا اذا منع سببه ، وهو العمل الصالح ، فإنه : (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) طه : ١١٢. وكذلك لا يعاقب أحدا إلا بعد حصول سبب العقاب ، فإن الله تعالى يقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى : ٣٠. وهو سبحانه المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع.

__________________

(٦٠٨) صحيح ، وهو مخرج في «ظلال الجنة تخريج السنة» لابن أبي عاصم (٢٥١).

لكن إذا من على الإنسان بالإيمان [والعمل] الصالح ، فلا (٦٠٩) يمنعه موجب ذلك أصلا ، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه ، وهو العمل الصالح. ولا ريب أنه يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل ، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله. وأما المسببات بعد وجود أسبابها ، فلا يمنعها بحال ، إذا لم تكن أسبابا غير صالحة ، إما لفساد في العمل ، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه ، فيكون ذلك لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح ، وهو لم يعط ذلك [ابتلاء] وابتداء [إلا] حكمة منه وعدلا. فله الحمد في الحالين ، وهو المحمود على كل حال ، كل عطاء منه فضل ، وكل عقوبة منه عدل ، فإن الله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها ، كما قال تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤. وكما قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الانعام : ٥٣. ونحو ذلك. وسيأتي [لذلك] زيادة ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (والاستطاعة التي يجب بها الفعل ، من نحو التوفيق الذي لا [يجوز أن] يوصف المخلوق به ـ [تكون] مع الفعل .. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع ، والتمكن (٦١٠) وسلامة الآلات ـ فهي قبل الفعل ، وبها يتعلق الخطاب ، وهو كما قال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة : ٢٨٦ ..

ش : الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ، ألفاظ متقاربة. وتنقسم الاستطاعة الى قسمين ، كما ذكره الشيخ رحمه‌الله ، وهو قول عامة أهل السنة ، وهو الوسط. وقالت القدرية والمعتزلة : لا تكون القدرة الا قبل الفعل. وقابلهم طائفة من أهل السنة [فقالوا لا تكون إلا مع الفعل.

__________________

(٦٠٩) في الاصل : لا.

(٦١٠) في الاصل : والتمكين.

والذي قاله عامة أهل السنة] : أن للعبد قدرة هي مناط الأمر ولنهي ، وهذه قد تكون قبله ، لا يجب أن تكون معه ، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.

وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات ـ فقد تتقدم الأفعال. وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران : ٩٧. فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحجّ قد وجب إلّا على من حج ، ولم يعاقب أحدا على ترك الحج! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الاسلام. وكذلك قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن : ١٦. فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى ، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولم يعاقب من لم يتق! وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). المجادلة : ٤. والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) التوبة : ٤٣. وكذّبهم في ذلك القول ، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل ـ ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين ، وحيث كذّبهم دل [على] أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال ، على ما بين تعالى بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) التوبة : ٩١ ، الى أن قال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) التوبة : ٩٣. وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء : ٢٥. والمراد : استطاعة الآلات والأسباب. ومن ذلك قول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمران بن حصين : «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنيب» (٦١١). إنما نفى استطاعة الفعل معها.

وأما ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة ، فقد ذكروا فيها قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) هود : ٢٠. والمراد نفي حقيقة

__________________

(٦١١) البخاري وغيره «صفة الصلاة» (ص ٥٨ ـ الطبعة الحادية عشرة)

.

القدرة ، لا نفي الأسباب والآلات ، لأنها كانت ثابتة. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، إن شاء الله تعالى. وكذا قول صاحب موسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٦٧. وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٧٥. والمراد منه حقيقة قدرة الصبر ، لا أسباب [الصبر] وآلاته ، فإن تلك كانت ثابتة له ، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل ، وإنما يلام من امتنع من الفعل لتضييع قدرة الفعل ، لاشتغاله بغير ما أمر به ، أو [لعدم] شغله إيّاها بفعل ما أمر به. ومن قال : إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل ـ يقولون : ان القدرة لا تصلح للضدين ، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له ، لا توجد بدونه. وما قالته القدرية ـ بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إقدار (٦١٢) الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصّل بها الإيمان ، بل هذا بنفسه رجح الطاعة ، وهذا بنفسه رجح المعصية! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفا ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق ـ : وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية ، خصه بها دون الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر. كما قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الحجرات : ٧ ، فالقدرية يقولون : إنّ هذا التحبيب والتزيين عامّ في كل الخلق ، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق. والآية تقتضي أن هذا خاصّ بالمؤمن ، ولهذا قال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الحجرات : ٧. والكفار ليسوا راشدين. وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الانعام : ١٢٥. وأمثال هذه الآية في القرآن كثير ، يبين أن سبحانه هدى هذا وأضل هذا. قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ

__________________

(٦١٢). في الاصل : اقرار.

فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الكهف : ١٧. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى.

وأيضا فقول القائل : يرجح بلا مرجح ـ إن كان لقوله : يرجح ، معنى زائد على الفعل ، فذاك هو السبب المرجح ، وان لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح! وهذا مكابرة للعقل!! فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء ـ امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصّه ، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك ، وإنما تكون للفاعل ، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى. وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك ، فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل! وهذا باطل مطلقا ، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل. فنقيض قولهم حق ، وهو : أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة.

لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين : حزب قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظنّا منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين ، وظنّا من بعضهم أن القدرة عرض ، فلا تبقى زمانين ، فيمتنع وجودها قبل الفعل. والصواب : أن القدرة نوعان كما تقدم : نوع مصحح للفعل ، يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، وهذه تحصل للمطيع والعاصي ، وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى الى حين الفعل ، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض ، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين ، وهذه قد تصلح للضدّين ، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز ، كما تقدم. وأيضا : فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصوّر الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه. فالشارع ييسر على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة

المرض وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع ، لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان قد يسمى مستطيعا. فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية الى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر الى لوازم ذلك ، فإن كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك. فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلّف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة ـ مع بقائها الى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن ، مثل جعل الفاعل مريدا ، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة واردة ، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه. وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فالانسان يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد ، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة ، لزم وجود الفعل. وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل ـ يقول : كل كافر وفاسق قد كلّف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسّر بشيئين : بما لا يطاق للعجز عنه ، فهذا لم يكلفه الله أحدا ، ويفسّر بما لا يطاق للاشتغال بضده ، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف ، كما في أمر العباد بعضهم بعضا ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف! ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة.

قوله : (وأفعال العباد [هي] خلق الله وكسب من العباد).

ش : اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية. فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي : أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى ، وهي كلها اضطرارية ، كحركات المرتعش ، والعروق النابضة ، وحركات الأشجار ، وإضافتها الى الخلق مجاز! وهي على حسب ما يضاف الشيء الى محله دون ما يضاف الى محصله! وقابلتهم المعتزلة ، فقالوا : إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها ، لا تعلق لها بخلق الله تعالى. واختلفوا فيما بينهم : أن الله تعالى

يقدر على أفعال العباد أم لا؟!

وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة ، وهي مخلوقة لله تعالى ، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات ، لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر ، فنفوا صنع العبد [أصلا] ، كما عملت المشبهة في إثبات الصفات ، فشبهوا. والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى. ولهذا كانوا «مجوس هذه الأمة» ، بل أردأ من المجوس ، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين ، وهم أثبتوا خالقين!! وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري ، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار ، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأنه مريد له مختار له حقيقة ، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق ، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق الى حق الأخرى ـ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة ، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والافعال ، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم.

وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، فإن أدلة الحق لا تتعارض ، والحق يصدّق بعضه بعضا. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين ، ولكنها تتكافأ وتتساقط ، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر. ولكن أذكر شيئا مما استدل به كل من الفريقين ، ثم أبيّن أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل :

فما استدلت به الجبرية ، قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الانفال : ١٧. فنفى الله عن نبيه الرمي ، وأثبته لنفسه سبحانه ، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا : والجزاء غير مرتب على الأعمال ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحد الجنة بعمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلّا أن

يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٦١٣).

ومما استدل به القدرية ، قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون : ١٤. قالوا : والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض ، كما قال تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الم السجدة : ١٧ والأحقاف : ١٤ والواقعة : ٢٤. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الاعراف : ٤٢. ونحو ذلك.

فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الانفال : ١٧ ـ فهو دليل عليهم ، لأنه تعالى أثبت لرسوله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] رميا ، بقوله : (إِذْ رَمَيْتَ) ، فعلم أن المثبت غير المنفي ، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف ، وانتهاؤه الإصابة ، وكل منهما يسمى رميا ، فالمعنى حينئذ ـ والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب. وإلا فطرد قولهم : وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت اذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر.

وأما ترتّب الجزاء على الأعمال ، فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية ، وهدى الله أهل السنة ، وله الحمد والمنّة. فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات ، فالمنفي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل الجنة أحد بعمله» ـ باء العوض ، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الى الجنة ، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحقّ دخول الجنة على ربه بعمله! بل ذلك برحمة الله وفضله. والباء التي في قوله تعالى :

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الم السجدة : ١٧ وغيرها ، باء السبب ، أي بسبب عملكم ، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات ، فرجع الكل الى محض فضل الله ورحمته.

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون :

١٤ ـ فمعنى الآية : أحسن المصوّرين المقدّرين. و «الخلق» يذكر ويراد به التقدير ، وهو المراد هنا ، بدليل قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨

__________________

(٦١٣) مسلم عن حديث أبي هريرة وجابر وعائشة بألفاظ متقاربة.

والزمر : ٦٢ ، أي الله خالق كل شيء مخلوق ، فخدلت أفعال العباد في عموم : كل. وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم : كل ، الذي هو صفة من صفاته ، يستحيل عليه أن يكون مخلوقا! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم : كل!! وهل يدخل في عموم : كل إلا ما هو مخلوق؟! فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم ، ودخل سائر المخلوقات في عمومها. وكذا قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الصافات : ٩٦. ولا نقول إن : «ما» مصدرية ، أي خلقكم وعملكم ـ إذ سياق الآية يأباه ، لأن ابراهيم عليه‌السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت ، لا النحت ، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى ، وهو ما صار منحوتا إلا بفعلهم ، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقا لله تعالى ، ولو لم يكن النحت مخلوقا لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقا له ، بل الخشب أو الحجر لا غير. وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة : أن العلم بأن العبد يحدث فعله ـ ضروري. وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن الى مرجّح يجب وجوده عنده ويمتنع عنده عدمه ـ ضروري ، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الاخر من الضرورة ـ غير مسلّم ، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري ، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق. فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الشمس : ٧ ـ ٨. فقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الشمس : ٨ ـ إثبات للقدر بقوله : (فَأَلْهَمَها) ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى الى نفسه ، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الشمس : ٩ ـ ١٠ ـ إثبات أيضا لفعل العبد. ونظائر ذلك كثيرة.

وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرّقتهم ، بل مزّقتهم كل ممزّق ، وهي : أنهم قالوا : كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقا في العالم على ألسنة الناس ، وكل منهم يتكلم في جوابه

بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدّت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل! جعلت الثواب [والعقاب] عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر ، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.

والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال : هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه ، كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) الروم : ٣٠. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه ـ عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضدّه لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) يوسف : ٢٤. وقال إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص : ٨٢ ـ ٨٣. وقال الله عزوجل : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الحجر : ٤١ ـ ٤٢. والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.

فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر الى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديّا حتى يضاف الى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس الى الله سبحانه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الاستفتاح : «لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ،

والشر ليس أليك» (٦١٤). وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة ، حين يقول الله له : يا محمد ، فيقول : «لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك» (٦١٥). وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه ـ عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلوّ القلب وفراغه من الإخلاص. فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة على خلوّه من الاخلاص.

فإن قلت : إن كان هذا الترك أمرا وجوديّا عاد السؤال جذعا (٦١٦) ، وإن كان أمرا عدميّا فكيف يعاقب على العدم المحض؟ قيل : ليس هنا ترك هو كفّ النفس ومنعها عما تريده وتحبه ، فهذا قد يقال : إنه أمر وجوديّ ، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير ، وهذا العدم هو محض خلوّها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات ، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل. فلله فيه عقوبتان : إحداهما : جعله مذنبا خاطئا ، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله ، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها ، لموافقتها شهوته وارادته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات. وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الانعام : ٤٤.

__________________

(٦١٤) صحيح وهو طرف من حديث علي في دعاء الاستفتاح ، وهو مخرج في «صفة الصلاة» (ص ٧٣) الطبعة الحادية عشر ، طبع المكتب الاسلامي.

(٦١٥) رواه البزار عن حذيفة موقوفا ورجاله رجال الصحيح ، والطبراني في «الأوسط» عنه مرفوعا ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس ، وبقية رجاله ثقات ، كذا في «المجمع» (١٠ / ٣٧٧). وقلت ومن طريق [الليث] أخرجه الحاكم أيضا (٤ / ٥٧٤) وقال : «وقد استشهد بليث بن [ابي] سليم».

(٦١٦) قال عفيفي : انظر ص ٣٢٩ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم ط مكة ؛ وص ٣٣١ ج ١٤ من «مجموع الفتاوى».

فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) الانعام : ٤٤ ، فهذه العقوبة الثانية.

فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده ـ من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل : لا ، بل هو محض منّته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.

فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال؟ وكان منعهم منه ظلما ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون؟ قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقّا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الربّ على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه. وأما اذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه ـ لم يكن ظالما بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هو المحسن المنّان بعطائه.

فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحسانا ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ـ ليس بظلم ، بل هو محض العدل (٦١٧). وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلّا سوّى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضّل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢١. وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢٩. ولمّا سأله اليهود

__________________

(٦١٧) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».

والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجرا أجرا ، قال : «هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء» (٦١٨) وليس في الحكمة اطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محالّ ذلك ، استدلّ بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا)؟ قال تعالى مجيبا لهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الانعام : ٥٣. فتأمل هذا الجواب (٦١٩) ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحلّ الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤.

فإن قيل : إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد ، فإذا لا فعل للعبد أصلا؟ قيل : العبد فاعل لفعله حقيقة ، [وله قدرة حقيقة]. قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) البقرة : ١٩٧. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) هود : ٣٦ ، وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلا ، فأفعاله نوعان : نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته ، فيكون صفة له ولا يكون فعلا ، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارنا لإيجاد قدرته واختياره ، فيوصف بكونه صفة وفعلا وكسبا للعبد ، كالحركات الاختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلا مختارا ، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له. ولهذا أنكر السلف الجبر ، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز ، فلا يكون إلّا مع الإكراه ، يقال : للأب [ولاية] إجبار البكر الصغيرة على النكاح (٦٢٠) ، وليس له إجبار الثيّب البالغ ، أي : ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار ، لأنه سبحانه خالق الإرادة

__________________

(٦١٨) البخاري في حديث لابن عمر أوله «انما بقاؤكم ..».

(٦١٩) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي».

(٦٢٠) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٢ ج ١ من «مختصر الموصلي».

والمراد ، قادر على أن يجعله مختارا بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع : «الجبل» دون «الجبر» ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأشجّ عبد القيس : «إن فيك لخلتين يحبهما الله : الحلم والأناة» (٦٢١) فقال : أخلقين تخلقت بهما؟ أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال : «بل خلقان جبلت عليهما» فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى (٦٢٢). والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري. والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول.

وإذا قيل : خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم؟! كان بمنزلة أن يقال : خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم!! فكما أن هذا سبب للموت ، فهذا سبب للعقوبة ، ولا ظلم فيهما.

فالحاصل : أن فعل العبد فعل له حقيقة (٦٢٣) ، ولكنه مخلوق لله تعالى ، ومفعول لله تعالى ، ليس هو نفس فعل الله. ففرق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق. والى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد ـ أثبت للعباد فعلا وكسبا ، وأضاف الخلق لله تعالى. والكسب : هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر ، كما قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦.

قوله : (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وهو تفسير «لا حول ولا قوة الا بالله» ، نقول : لا حيلة لأحد ، [ولا تحوّل لأحد] ، ولا حركة لأحد عن معصية الله ، الا بمعونة الله ، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله ، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها ، [وعكست إرادته الارادات كلها] ، وغلب

__________________

(٦٢١) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٢ ج ١ من «مختصر الموصلي».

(٦٢٢) مسلم وغيره عن ابن عباس ، وهو مخرج في «الروض النضير» (٤٠٦).

(٦٢٣) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٣ ج ١ و ٣٢٧ ج ١٤ من «مجموع الفتاوى».

قضاؤه الحيل كلها. يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبدا. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الأنبياء : ٢٣).

ش : فقوله : لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ـ قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة : ٢٨٦. [(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)] الانعام : ١٥٢ والاعراف : ٤٢ والمؤمنون : ٦٢. وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ، ثم تردد أصحابه [أنه] : هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، [وانه سيصلى نارا ذات لهب ، فكان مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال. والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [بأنه لا يؤمن] ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان (٦٢٤) ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة. ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) البقرة : ٣١. مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة : «احيوا ما خلقتم» ، وأمثال ذلك ـ لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) البقرة : ٢٨٦ ، لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفا ، بل يجوز أن يحمله جبلا لا يطيقه فيموت. وقال ابن الأنباري : أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشّم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه. ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ، بخلاف هذا.

__________________

(٦٢٤) قال عفيفي : انظر ص ٣٦ ـ ٣٧ ج ١ من «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» لابن تيمية. «منهاج السنة» ج ١ ص ٩٠ ـ ٩١ طبعة المدني وص ٣٤ ، ط بولاق.

ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركا له مشتغلا بضده ـ بدعة في الشرع واللغة. فإن مضمونه أنّ فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة ـ التي هي الاستطاعة وهي القدرة ـ لا تكون إلا مع الفعل! فقالوا : كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.

وأما ما لا يكون إلا مقارنا للفعل ، فذلك ليس شرطا في التكليف ، مع أنه في الحقيقة [إنما] هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) هود : ٢٠ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٥. وليس في ذلك إرادة ما سمّوه استطاعة ، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل ، فإن الله ذمّ هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ، ولكن هؤلاء لبغضهم الحقّ وثقله عليهم ، إما حسدا لصاحبه ، وإما اتّباعا للهوى ـ لا يستطيعون السمع. وموسى عليه‌السلام لا يستطيع الصبر ، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع ، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم ، فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ، ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته ، لشدة محبته له ، لا لعجزه عن عقوبته ، فيقال ذلك للمبالغة ، كما تقول (٦٢٥) : لأضربنه حتى يموت ، والمراد الضرب الشديد. وليس هذا عذرا ، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) المؤمنون : ٧١.

وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به ، الى آخر كلامه ـ أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه. وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق ، لا التي من جهة الصحة

__________________

(٦٢٥) في الاصل : يقال

.

والوسع والتمكن وسلامة الآلات ، و «لا حول ولا قوة إلا بالله» ـ دليل على إثبات القدر. وقد فسرها الشيخ بعدها. ولكن في كلام الشيخ إشكال : فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار ، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي ، وهو قد قال : لا يكلفهم إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع الى معنى واحد ، ولا يصح ذلك ، لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به ، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف ، كما قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة : ١٨٥. وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) النساء : ٢٨. وقال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج : ٧٨. فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ، ولكنه تفضّل علينا ورحمنا ، وخفّف عنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم : أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق ، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات ، ففي العبارة قلق ، فتأمله.

وقوله : وكل [شيء] يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره ـ يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي ، فإن القضاء يكون كونيّا وشرعيّا ، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ، ونحو ذلك. أما القضاء الكوني ، ففي قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) حم السجدة : ١٢. والقضاء الديني الشرعي ، في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الاسراء : ٢٣. وأما الإرادة الكونية والدينية ، فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ : ولا يكون إلا ما يريد. وأما الأمر الكوني ، ففي قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس : ٨٢. وكذا قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) الاسراء : ١٦ ، في أحد الأقوال ، وهو أقواها. والأمر الشرعي ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) النحل : ٩٠ ، الآية. وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) النساء : ٥٨. وأما الإذن الكوني ، ففي قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) البقرة : ١٠٢. والإذن الشرعي ، في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الحشر : ٥. وأما الكتاب الكوني ، ففي قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ،

إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فاطر : ١١. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء : ١٠٥. والكتاب الشرعي الديني ، في قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) المائدة : ٤٥. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) البقرة : ١٨٣. وأما الحكم الكوني ، ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه‌السلام : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) يوسف : ٨٠. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) الأنبياء : ١١٢. والحكم الشرعي ، في قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) المائدة : ١. وقال تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) الممتحنة : ١٠. وأما التحريم الكوني ، ففي قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) المائدة : ٢٦. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الأنبياء : ٩٥. والتحريم الشرعي ، في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ]) المائدة : ٣. و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) النساء : ٢٣ ، الآية. وأما الكلمات الكونية ، ففي قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) الاعراف : ١٣٧. وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» (٦٢٦). والكلمات الشرعية الدينية ، في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) البقرة : ١٢٤.

وقوله : يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبدا ـ الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد ، يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية ، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه ظلما وقبيحا ، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه! وقياس له عليهم! هو الرب الغني القادر ، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة ، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم ، يقولون : إنه يمتنع أن يكون

__________________

(٦٢٦) صحيح ، وتقدم الحديث (برقم ١٤٨).

[في] الممكن المقدور ظلم! بل كان ما كان ممكنا فهو منه ـ لو فعله ـ عدل ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي ، والله ليس كذلك. فإن قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) ، طه : ١١٢ ، وقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ق : ٢٩ ، وقوله تعالى :(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الزخرف : ٧٦ ، وقوله عالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩ ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر : ١٧. يدل على نقيض هذا القول.

ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله : «يا عبادي ، إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا» (٦٢٧). فهذا دل على شيئين : أحدهما : أنه حرم على نفسه الظلم ، والممتنع لا يوصف بذلك. الثاني : أنه أخبر أنه حرّمه على نفسه ، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة ، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي ، والله ليس كذلك. فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وحرّم على نفسه الظلم ، وإنما كتب على نفسه وحرّم على نفسه ما هو قادر عليه ، لا ما هو ممتنع عليه.

وأيضا : فإن قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) طه : ١١٢ ـ قد فسره السلف ، بأن الظلم : أن توضع عليه سيئات غيره ، والهضم : أن ينقص من حسناته ، كما قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الاسراء : ١٥.

وأيضا فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك ، وإنما يأمن مما يمكن ، فلما آمنه من الظلم بقوله : (فَلا يَخافُ) طه : ١١٢ ـ علم أنه ممكن مقدور عليه. وكذا قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) ق : ٢٨ ، الى قوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ق : ٢٩ ـ لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه ، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن ، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم. فعلى قول هؤلاء ليس الله منزها عن شيء من الأفعال أصلا ، ولا مقدسا عن أن يفعله ،

__________________

(٦٢٧) مسلم وتقدم الحديث (برقم ٥٦) ، «مختصر صحيح مسلم» (١٨٢٨).

بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله ، بل فعله حسن ، ولا حقيقة للفعل السّوء ، بل ذلك ممتنع ، والممتنع لا حقيقة له!! والقرآن يدل على نقيض هذا القول ، في مواضع ، نزّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له ، فعلم أنه منزّه مقدّس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم ، كما أنه منزه مقدّس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم. وذلك كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون : ١١٥. فإنه نزّه نفسه عن خلق الخلق عبثا ، وأنكر على من حسب ذلك ، وهذا فعل. وقوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) القلم : ٣٥. وقوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص : ٢٨ ـ إنكار منه على من جوّز أن يسوّي الله بين هذا وهذا. وكذا قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) (٦٢٨) ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ الجاثية : ٢١ ـ إنكار على من حسب أنه يفعل هذا ، وإخبار أن هذا حكم سيئ قبيح ، وهو مما ينزه الرب عنه.

وروى أبو داود ، والحاكم في «المستدرك» ، من حديث ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن ثابت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» (٦٢٩). وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية ، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل!! وأسعد الناس به أهل السنة ، الذين قابلوه بالتصديق ، وعلموا من عظمة الله وجلاله ، قدر نعم الله على خلقه ، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا ، وإما جهلا ، وإما تفريطا واضاعة ، وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ، ولو من بعض الوجوه. فإن حقه على أهل السموات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ،

__________________

(٦٢٨) قال عفيفي : انظر ص ٣١٥ ـ ٣٢٩ ج ١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم. وص ١٢٥ ج ٦ من «مجموعة الفتاوى».

(٦٢٩) صحيح وقد خرجته في «تخريج السنة» (٢٤٥).

وتكون قوة الحب والإنابة ، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ـ : جميعها متوجهة إليه ، ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتأليهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته. ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشحّ به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى. وأكثر المطيعين تشحّ به نفسه من وجه ، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟ ومن [ذا] الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات؟ فلو وضع الربّ سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالما لهم. وغاية ما يقدّر ، توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذّب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدّر أنه تاب منها. لكن أوجب على نفسه ـ بمقتضى فضله ورحمته ـ أنه لا يعذب من تاب ، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار ، أو يدخل الجنة ، كما قال أطوع الناس لربه ، وأفضلهم عملا ، وأشدّهم تعظيما لربه وإجلالا : «لن ينجي أحدا منكم عمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٦٣٠) وسأله الصّديق دعاء يدعو به في صلاته ، فقال : «قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك الغفور الرحيم» (٦٣١). فإذا كان هذا حال الصديق ، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين ـ فما الظنّ بسواه؟ بل إنما صار صدّيقا بتوفيته هذا المقام حقه ، الذي يتضمن معرفة ربه ، وحقه وعظمته ، وما ينبغي له ، وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره. فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية!! فإن لم يتسع فهمك لهذا ،

__________________

(٦٣٠) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وتقدم بنحوه الحديث (برقم ٦١٣).

(٦٣١) متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق (انظر مسند أبي بكر الصديق طبع المكتب الاسلامي ص ١٢٢).

فانزل الى وطأة النعم ، وما عليها من الحقوق ، ووازن من (٦٣٢) شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذّب أهل سماواته وأرضه ، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم.

قوله : وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات.

ش : اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين : أحدهما : ما تسبب إليه الميت في حياته (٦٣٣). والثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له ، والصدقة والحج ، على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج : فعن محمد بن الحسن : أنه إنما يصل الى الميت ثواب النفقة ، والحجّ للحاجّ. وعند عامة العلماء : ثواب الحج للمحجوج عنه ، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية ، كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر : فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف الى وصولها ، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام الى عدم وصول شيء البتة ، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة ، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٩. وقوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤. قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦. وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده» (٦٣٣١). فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة ، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي [لا] تدخلها النيابة بحال ، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن ، [وأنه] يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه ، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره ـ بما روى النسائي بسنده ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يصلي أحد

__________________

(٦٣٢) في الاصل : بين.

(٦٣٣) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٥ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٣١) مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» ، ص ١٧٤).

عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّا من حنطة» (٦٣٤).

والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه ، الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. أما الكتاب ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الحشر : ١٠. فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم ، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء. وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة ، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة. وكذا الدعاء له بعد الدفن ، ففي «سنن أبي داود» ، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : «استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل» (٦٣٥). وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم ، كما في «صحيح مسلم» ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمهم اذا خرجوا الى المقابر أن يقولوا : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا ان شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية» (٦٣٦). وفي «صحيح مسلم» أيضا ، عن عائشة رضي الله عنها : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف تقول إذا استغفرت لأهل (٦٣٧) القبور؟ قال : «قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا [ومنكم] والمستأخرين ، وإنا ان شاء الله بكم لاحقون» (٦٣٨).

__________________

(٦٣٤) لا اعرف له أصلا مرفوعا ، لا عند النسائي ولا عند غيره ، وانما رواه النسائي في الكبرى» (٤ / ٤٣ / ١) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ١٤١) عن ابن عباس موقوفا عليه. وسنده صحيح.

(٦٣٥) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ١٥٥).

قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٦) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٨٩ ـ ١٩٠).

(٦٣٧) قال عفيفي : انظر ص ٣٥٤ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٨) صحيح ـ وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٨١ ـ ١٨٣)

.

وأما وصول ثواب الصدقة (٦٣٩) ، ففي «الصحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن أمي افتلتت نفسها ، ولم توص ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : «نعم» (٦٤٠). وفي «صحيح البخاري» ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ان أمي توفيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقت؟ قال : «نعم» ، قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها (٦٤١). وأمثال ذلك كثيرة في السنة.

وأما وصول ثواب الصوم ، ففي «الصحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه» (٦٤٢). وله نظائر في «الصحيح». ولكن أبو حنيفة رحمه‌الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه ، لحديث ابن عباس المتقدم (٦٤٣). والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع.

وأما وصول ثواب الحج ، ففي «صحيح البخاري» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحجّ فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها؟ قال : «حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء» (٦٤٤). ونظائره أيضا كثيرة. وأجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ، ولو كان من أجنبي ، ومن غير تركته. وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن

__________________

(٦٣٩) قال عفيفي : انظر المسألة السادسة عشر من كتاب «الروح» لابن القيم.

(٦٤٠) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٧٢).

(٦٤١) صحيح ، وهو مخرج هناك (١٧٢).

(٦٤٢) صحيح ، وهو مخرج هناك (١٦٩).

(٦٤٣) الحديث (رقم ٦٣٤) ، وقد عرفت أنه موقوف.

(٦٤٤) صحيح ، وهو مخرج في «الإرواء» (٩٩٣) ، قلت : وانظر تحقيق المراد منه في كلام ابن القيم في «أحكام الجنائز» في فصل ما ينتفع به الميت (ص ١٧٠ ـ ١٧١).

الميت ، فلما قضاهما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآن بردت عليه جلدته» (٦٤٥). وكل ذلك جار على قواعد الشرع. وهو محض القياس ، فإن الثواب حق العامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته ، وإبرائه له منه بعد وفاته. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية. يوضحه : أن الصوم كفّ النفس عن المفطرات بالنية ، وقد نص الشارع على وصول ثوابه الى الميت ، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟!

والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٩ ـ قد أجاب العلماء بأجوبة : أصحها جوابان :

أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد ، ونكح الازواج ، وأسدى الخير وتودّد الى الناس ، فترحمّوا عليه ، ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الاسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلّ من المسلمين الى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.

الثاني ، وهو أقوى منه ـ : أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين فرق لا يخفى. فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه.

وقوله سبحانه : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٨ ـ ٣٩. آيتان محكمتان ، مقتضيتان عدل الرب تعالى : فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحدا بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريرة غيره ، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله ، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه

__________________

(٦٤٥) حسن رواه الحاكم وغيره. وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ١٦).

ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى.

وكذلك قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦. وقوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤. على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فإنه تعالى قال : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤.

وأما استدلالهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» (٦٤٦) فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطاع انتفاعه ، وإنما أخبر عن انقطاع عمله. وأما عمل غيره فهو لعامله ، [فإن] وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدّين يوفيه الإنسان عن غيره ، فتبرأ ذمته ، ولكن ليس له ما وفّى به (٦٤٧) الدين.

وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية ـ فقد شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الميت ، كما تقدم ، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة ، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه ، قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيد الاضحى ، فلما انصرف اتى بكبش فذبحه ، فقال : «بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضحّ من أمتي» (٦٤٨) ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما : «اللهم هذا عن أمتي جميعا» (٦٤٩) ، وفي الآخر : «اللهم هذا عن محمد وآل محمد» ، رواه أحمد. والقربة في الاضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره.

وكذلك عبادة الحج بدنية ، وليس [المال] ركنا فيه ، وإنما هو وسيلة ، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي الى عرفات ، من غير شرط المال. وهذا هو الأظهر ، أعني أن الحج غير مركب من مال وبدن ، بل بدني محض ، كما قد نص

__________________

(٦٤٦) صحيح ومضى قريبا (برقم ٦٣٣).

(٦٤٧) في الاصل : هذا.

(٦٤٨) صحيح لشواهده. انظر «المجمع» (٤ / ٢٢ ـ ٢٣) ، ومن شواهده الذي بعده. ثم حققت في «الإرواء» أنه صحيح لذاته ، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة (رقم ١١٣٨).

(٦٤٩) حسن ، وهو في «المسند» (٦ / ٣٩١ ـ ٣٩٢) وفي إسناده اختلاف بينته هناك.

عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين. وانظر الى فروض الكفايات : كيف قام فيها البعض عن الباقين؟ ولأن هذا اهداء ثواب ، وليس من باب النيابة ، كما أن الأجير الخاصّ ليس له أن يستنيب عنه ، وله أن يعطي أجرته لمن شاء. (٦٥٠).

وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت!! فهذا لم يفعله أحد من السلف ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخص فيه. والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف. وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه ، مما فيه منفعة تصل الى الغير. والثواب لا يصل الى الميت إلا إذا كان العمل لله ، وهذا لم يقع عبادة خالصة ، فلا يكون [له من] ثوابه ما يهدى الى الموتى!! ولهذا لم يقل أحد أنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك الى الميت ، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك ، كان هذا من جنس الصدقة عنه ، فيجوز. وفي الاختيار : لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره ، فالوصية باطلة ، لأنه في معنى الأجرة ، انتهى. وذكر الزاهدي في «الغنية» : أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره ، فالتعيين باطل.

وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوّعا بغير أجرة ، فهذا يصل إليه ، كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل : هذا لم يكن معروفا في السلف ، ولا أرشدهم إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فالجواب : إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء ، قيل له : ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول ، ومن أين لنا هذا النفي العام؟ فإن قيل : فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرشدهم الى الصوم والحج والصدقة دون القراءة؟ قيل : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبتدئهم بذلك ، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه ، وهذا سأله عن الصوم عنه ، فأذن له فيه ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك ، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم ـ الذي هو مجرد نية وإمساك ـ وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ فإن قيل : ما تقولون في الإهداء إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

__________________

(٦٥٠) في هذا الكلام نظر لا يخفى على المتأمل ، وقد حققت القول في المسألة بما يشرح الصدر ، ويثلج القلب في الفصل المشار إليه أنفا (ص ٤٥٤ ـ ٤٥٥) ، فراجعه فإنه مهم.

قيل : من المتأخرين من استحبه ، ومنهم من رآه بدعة ، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له مثل أجر كل من عمل خيرا من أمته ، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير ، وأرشدهم إليه.

ومن قال : إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده ، باعتبار سماعه كلام الله ـ فهذا لم يصحّ عن أحد من الأئمة المشهورين. ولا شك في سماعه ، (٦٥١) ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح ، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة ، فإنه عمل اختياريّ ، وقد انقطع بموته ، بل ربما يتضرر ويتألم ، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه ، أو لكونه لم يزدد من الخير.

واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور ، على ثلاثة أقوال : هل تكره ، أم لا بأس بها وقت الدفن ، وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها ، كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية ـ قالوا : لأنه محدّث ، لم ترد به السنة ، والقراءة تشبه الصلاة ، والصلاة عند القبور منهيّ عنها ، فكذلك القراءة. ومن قال : لا بأس بها ، كمحمد بن الحسن وأحمد في رواية ـ استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه : أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها (٦٥٢). ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. (٦٥١١). ومن قال : لا بأس بها وقت الدفن فقط ، وهو رواية عن أحمد ـ أخذ بما نقل عن عمر وبعض المهاجرين (٦٥١٢). وأما بعد ذلك ، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده ـ فهذا مكروه ، فإنه لم تأت به السنة ، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا. وهذا القول لعله أقوى من غيره ، لما فيه من التوفيق بين الدليلين.

[قوله] : (والله تعالى يستجيب الدعوات ، ويقضي الحاجات).

ش : قال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر : ٦٠. (وَإِذا

__________________

(٦٥١) لم أره بلفظ «المهاجرين» ، وانما بلفظ «الأنصار» ، ذكره ابن القيم وفي ثبوت ذلك عنهم نظر بينته في «أحكام الجنائز» (ص ١٩٣)

(٦٥٢) قلت : لا يصح إسناده ، فيه من يجهل كما مر مبين في «أحكام الجنائز» (ص ١٩٢ ـ طبع المكتب الاسلامي).

سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) البقرة : ١٨٦. والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم ـ : أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضارّ ، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم اذا مسّهم الضرّ في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، وأن الإنسان اذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعدا أو قائما. وإجابة الله لدعاء العبد ، مسلما كان أو كافرا ، وإعطاؤه سؤله ـ : من جنس رزقه لهم ، ونصره لهم. وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقا ، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه ، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك. وفي «سنن ابن ماجه» من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يسأل الله [يغضب عليه» (٦٥٣). وقد نظم بعضهم هذا المعنى ، فقال :

الرب يغضب إن تركت سؤاله

وبنيّ آدم حين يسأل يغضب

قال ابن عقيل : قد ندب الله تعالى الى الدعاء ، وفي ذلك معان : أحدها : الوجود ، فإن ليس بموجود لا يدعى. الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى. الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى. الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى. الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى. السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى. ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي! ولا النجم يقال

__________________

(٦٥٣) صحيح ، وهو مخرج في «المشكاة» (٢٢٣٨) الطبعة الثانية.

كذا وقع في «الطبعة السادسة» من «شرح العقيدة الطحاوية» ، لكن لي موضع آخر منها متقدم على هذا بصفحتين (٥١٦) ما نصه : «ضعيف الإسناد ، فيه أبو صالح الخوزي. قال في «التقريب» : «لين الحديث» ، وأما الحاكم فقال في هذا الحديث (١ / ٤٩١) : «صحيح الاسناد» ، وسكت عليه الذهبي! وقال الترمذي : «لا نعرفه إلا من هذا الوجه».

وليست في متناول يدي نسختي من «المشكاة» التي عليها التحقيق الثاني ، لأقابل ما بينته وبين التضعيف المذكور ، ثم أثبت هنا الصواب منهما ، ويبدو لي الآن ـ والله أعلم ـ أن التضعيف هو المعتمد ، فقد خرجت الحديث في «الضعيفة» برقم (٤٠٤٠) ، وأحلت عليه في المجلد الأول منه (ص ٥٤٢) منبها على خطأ ما جاء في (ص ٢٩) منه من التحسين ، فوجب التنبيه على ذلك كله. والمعصوم من عصمه الله تعالى.

له : أصلح مزاجي!! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع.

وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة [الى] (٦٥٤) أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا : لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة الى الدعاء ، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء!! وقد يخص بعضهم بذلك خواصّ العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص!! وهذا من غلطات بعض الشيوخ. فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ـ فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية ، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت (٦٥٤٢) عليه تجارب الأمم ، حتى إن الفلاسفة تقول : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات!! هذا وهم مشركون.

وجواب الشبهة بمنع المقدمتين (٦٥٤١) : فإن قولهم عن المشيئة الإلهية : إما أن تقتضيه أولا ـ [ف] ثمّ قسم ثالث ، وهو : أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه ، وقد يكون الدعاء من شرطه ، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ، ولا توجبه مع عدمه ، وكما توجب الشبع والريّ عند الأكل والشرب ، ولا توجبه مع عدمهما ، وحصول الولد بالوطء ، والزرع بالبذر. فإذا قدّر وقوع المدعوّ به بالدعاء لم يصحّ أن يقال لا فائدة في الدعاء ، كما [لا] يقال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب. فقول هؤلاء ـ كما أنه مخالف للشرع ، فهو مخالف للحسّ والفطرة.

ومما ينبغي أن يعلم ، ما قاله طائفة من العلماء ، وهو : أن الالتفات الى الأسباب شرك في التوحيد! ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل ، والإعراض عن الاسباب كالكلية قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء ، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.

وبيان ذلك : أن الالتفات الى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه. وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس بمستقلّ ، ولا بدّ له من شركاء وأضداد مع هذا كله ، فإن لم يسخّره مسبب الأسباب لم يسخّر.

__________________

(٦٥٤) كذا الاصل ، ولعل الصواب يمنع الحصر في المقدمتين ، كما يدل عليه السياق

(*) في الأصل : متفق

.

وقولهم : إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة الى الدعاء؟ قلنا : بل قد تكون إليه حاجة ، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة. وكذلك قولهم : وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه؟ قلنا : بل فيه فوائد عظيمة ، من جلب منافع ، ودفع مضارّ ، كما نبه عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ما يعجل للعبد ، من معرفته بربه ، وإقراره به ، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه ، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية ، التي هي من أعظم المطالب. فإن قيل : إذا كان إعطاء الله معللا بفعل العبد ، كما يفعل من إعطاء المسئول للسائل ، كان السائل قد أثّر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا : الرب سبحانه هو الذي حرّك العبد الى دعائه ، فهذا الخير منه ، وتمامه عليه. كما قال عمر رضي الله عنه : «إني لا أحمل همّ الإجابة ، وإنما أحمل همّ الدعاء ، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه. وعلى هذا قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الم السجدة : ٥. فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير [الأمر] ، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبّره ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ، ويجعلها سببا للخير الذي يعطيه إياه ، كما في العمل والثواب ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، [وهو الذي وفّقه للعمل ثم أثابه] ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه ، فما أثّر فيه شيء من المخلوقات ، بل هو جعل ما يفعله سببا لما يفعله. قال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، أحد أئمة التابعين : نظرت في هذا الأمر ، فوجدت مبدأه من الله ، وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدّعاء.

وهنا سؤال معروف ، وهو : أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئا ، أو يعطى غير ما سأل؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ، فيها ثلاثة أجوبة محققة ـ :

أحدها : أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقا ، وإنما تضمنت إجابة الداعي ، والداعي أعمّ من السائل ، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (٦٥٥). ففرق بين

__________________

(٦٥٥) صحيح متواتر ، ذكرت بعض طرقه (ارواء الغليل» (٤٥٠).

الداعي والسائل ، وبين الإجابة والإعطاء ، وهو فرق بين العموم والخصوص ، كما اتبع ذلك بالمستغفر ، وهو نوع من السائل ، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص. واذا علم العباد أنه قريب ، يجيب دعوة الداعي ، علموا قربه منهم ، وتمكنهم من سؤاله ـ : وعلموا علمه ورحمته وقدرته ، فدعوه دعاء العبادة في حال ، ودعاء المسألة في حال ، [وجمعوا بينهما في حال] ، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة ، وقد فسر قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر : ٦٠ ـ بالدعاء ، الذي هو العبادة ، والدعاء الذي هو الطلب. وقوله بعد ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) غافر : ٦٠ ـ يؤيد المعنى الأول.

الجواب الثاني : أن إجابة دعاء السؤال أعمّ من إعطاء عين السؤال ، كما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم في «صحيحه» ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، أو يدّخر له من الخير مثلها ، أو يصرف عنه من الشر مثلها» ، قالوا : يا رسول الله ، إذا نكثر ، قال : «الله أكثر» (٦٥٦). فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلا ، أو مثله من الخير مؤجلا ، أو يصرف عنه من السوء مثله.

الجواب الثالث : أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب ، والسبب له شروط وموانع ، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب ، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب ، بل قد يحصل غيره. وهكذا سائر الكلمات الطيبات ، من الأذكار المأثورة المعلّق عليها جلب منافع أو دفع مضارّ ، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل ، تختلف باختلاف قوته وما يعنيها ، وقد يعارضها مانع من الموانع. ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر ـ : من هذا الباب. وكثيرا ما تجد أدعية دعا بها قوم

__________________

(٦٥٦) صحيح ، ولكنه ليس في «صحيح مسلم» ، وأنما أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ، وصححه الحاكم والذهبي وهو كما قال ، وإنما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا ، ورواه الترمذي مطولا ، إلا أنه قال في الخصلة الثالثة : «وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا» ، وهو منكر بهذا اللفظ ، ولذلك خرجته في «الضعيفة» (٤٤٨٣) ، وذكرت تحته ما صحّ منه كحديث أبي سعيد هذا.

فاستجيب لهم ، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة ، أو صادف وقت إجابة ، ونحو ذلك ـ فأجيبت دعوته ، فيظن أن السر في ذلك الدعاء ، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذ استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن آخر ان استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ، وكان غالطا. وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر ، فيجاب ، فيظنّ أن السرّ للقبر ، ولم يدر أن السر للاضطرار وصدق اللجء (٦٥٧) الى الله تعالى ، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحبّ الى الله تعالى. فالأدعية والتعوذات والرّقي بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه ، لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحا تامّا والساعد ساعدا قويّا ، والمحلّ قابلا ، والمانع مفقودا ـ : حصلت به النّكاية في العدو ، ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير. فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثمّ مانع من الإجابة ـ : لم يحصل الأثر.

قوله : (ويملك كل شيء ، ولا يملكه شيء. ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين ، ومن استغنى عن الله طرفة عين ، فقد كفر وصار من أهل الحين).

ش : كلام حق ظاهر لا خفاء فيه. والحين ، بالفتح : الهلاك.

قوله : (والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى).

ش : قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) المائدة : ١١٩ والتوبة : ١٠٠ والمجادلة : ٢٢ والبينة : ٨. (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح : ١٨. وقال تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) المائدة : ٦٠. ([وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ] وَلَعَنَهُ) النساء : ٩٣. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) البقرة : ٦١. ونظائر ذلك كثيرة. ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب ، والرضى ، والعداوة ، والولاية ، والحب ، والبغض ، ونحو ذلك من

__________________

(٦٥٧) «اللجء» ـ بفتح اللام وسكون الجيم : مصدر ، كاللجوء.

الصفات ، التي ورد بها الكتاب والسنة ، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة (٦٥٨) بالله تعالى. كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات ، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله : إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف الى الربوبية ـ ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين (٦٥٩). وانظر الى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة [الاستواء] كيف قال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول. وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها ، ومرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٦٠). وكذلك قال الشيخ رحمه‌الله فيما تقدم : «من لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زلّ ولم يصب التنزيه». ويأتي في كلامه «أن الإسلام بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل». فقول الشيخ رحمه‌الله : لا كأحد من الورى ، نفى التشبيه. ولا يقال : إن الرضى إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام ـ فإن هذا نفي للصفة. وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه ، وينهى عما يسخطه ويكرهه ، ويبغضه ويغضب على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده. فقد يحبّ عندهم ويرضى ما لا يريده ، ويكره ويسخط لما أراده.

ويقال لمن تأويل الغضب والرضى بإرادة الإحسان : لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول : إن الغضب غليان دم القلب ، والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى! فيقال له : غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنّه الغضب. ويقال له أيضا : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ، فهي ميل الحي الى الشيء أو الى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة ، وهو محتاج الى ما يريده ومفتقر إليه ، ويزداد بوجوده ، وينتقص بعدمه. فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذاك ، وثان امتنع هذا امتنع ذاك.

__________________

(٦٥٨) في الاصل : اللائقة بما.

(٦٥٩) في الاصل : المرسلين.

(٦٦٠) قلت : لا يصح مرفوعا.

فإن قال : [الإرادة] التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وان كان كل منهما حقيقة؟ قيل له : فقل : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة. فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات ، لم يتعين التأويل ، بل يجب تركه ، لأنك تسلم من التناقض ، وتسلم أيضا من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب. فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام ، ولا يكون الموجب للصرف ما دلّه عليه عقله ، إذ العقول مختلفة ، فكلّ يقول إن عقله دلّه على خلاف ما يقوله الآخر!

وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى ، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بد أن يثبت شيئا لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ، ووجود الباري تعالى كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم ، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته ، مثل الحي والعليم والقدير ، أو سمى به بعض صفاته ، كالغضب والرضى ، وسمى به بعض صفات عباده ـ : فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى ، وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ، ونعقل أن بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ، ولا يوجد في الخارج إلا معينا مختصّا. فيثبت [في] كل منهما كما يليق به. بل لو قيل : غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة ـ : لم يجب أن يكون مماثلا لكيفية غضب الآدميين ، لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الاربعة ، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه. فغضب الله أولى.

وقد نفى الجهم ومن وافقه كلّ ما وصف الله به نفسه ، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحوه ذلك ، وقالوا : إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه ، ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك!! وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه ، فقالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا

يغضب في وقت دون وقت : كما قال في حديث الشفاعة : «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» (٦٦١) وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب ، وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٦٦٢). فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرضى ، لكن هؤلاء أحل عليهم رضوانا لا يتعقبه سخط وهم قالوا : لا يتكلم إذا شاء ، ولا يضحك اذا شاء ، ولا يغضب اذا شاء ، ولا يرضى اذا شاء ، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة ، أو يجعلوها صفات أخرى ، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته ، إذ لو تعلّق بذلك لكان محلّا للحوادث!! فنفى هؤلاء الصفات الفعلية الذاتية بهذا الأصل ، كما نفى أولئك الصفات مطلقا بقولهم ليس محلا للأعراض. وقد يقال : بل هي أفعال ، ولا تسمى حوادث ، كما سميت تلك صفات ، ولم تسمّ أعراضا. وقد تقدمت الإشارة الى هذا المعنى ، ولكن الشيخ رحمه‌الله لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد ، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك ، ولم يعتن فيه بترتيب. وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه‌السلام ، حين سأله عن الإيمان ، فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر [خيره وشره]» (٦٦٣) ، الحديث ـ فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك ، ثم بالكلام على الملائكة ، ثم وثم ، الى آخره.

__________________

(٦٦١) متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد مضى لفظه بتمامه (رقم ١٩٨).

(٦٦٢) صحيح ، وهو مخرج في «صحيح الجامع الصغير» (١٩٠٧).

(٦٦٣) متفق عليه ، على ما سبق بيانه.

وقوله : (ونحب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الرد على الروافض والنواصب. وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله ، ورضي عنهم ، ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها [أَبَداً] ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة : ١٠٠. وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح : ٢٩ ، الى آخر السورة. وقال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح : ١٨. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الانفال : ٧٢. الى آخر السورة. وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٦٦٤) ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الحديد : ١٠. وقال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الحشر : ٨ ـ ١٠. وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلّا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء [هم] المستحقون للفيء. فمن كان في قلبه غلّ للذين

__________________

(٦٦٤) قال عفيفي : انظر ص ٦٦٢ ج ٧ من «مجموع الفتاوى»

.

آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيبا ، بنص القرآن. وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبّه خالد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أحدا من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٦٦٥). انفرد مسلم بذكر سب خالد لعبد الرحمن ، دون البخاري. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لخالد ونحوه : «لا تسبوا أصحابي» ، يعني عبد الرحمن وأمثاله ، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون ، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا ، وهم أهل بيعة الرضوان ، [فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان] ، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية ، وبعد مصالحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة ، ومنهم خالد بن الوليد ، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم الى فتح مكة ، وسموا الطلقاء ، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية ، والمقصود أنه نهى من له صحبة آخرا أن يسب من له صحبة أولا ، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه ، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية ، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة؟ رضي الله عنهم أجمعين.

والسابقون الأولون ـ من المهاجرين والأنصار ـ هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. وقيل : إن السابقين الأولين من صلى الى القبلتين ، وهذا ضعيف (٦٦٦). فإن الصلاة الى القبلة المنسوخة ليس بمجردة فضيلة ، لأن النسخ ليس من فعلهم ، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق الى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة.

وأما ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم

__________________

(٦٦٥) صحيح ورواه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٩٨٨ ـ ٩٩١) ، وفيه بيان أنه ذكر أبي هريرة فيه شاذ ، فراجعه إن شئت.

(٦٦٦) قال عفيفي : انظر ص ٣٩٨ وما بعدها ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

اهتديتم» (٦٦٧) ـ فهو حديث ضعيف ، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة.

وفي «صحيح مسلم» عن جابر ، قال : قيل لعائشة رضي الله عنها : إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أبا بكر وعمر! فقالت : وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل ، فأحبّ الله أن لا يقطع عنهم الأجر (٦٦٨). وروى ابن بطة بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خير من عمل أحدكم أربعين سنة (٦٦٩). وفي رواية وكيع : خير من عبادة أحدكم عمره. وفي «الصحيحين» من حديث عمران بن حصين وغيره ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ، قال عمران : فلا أدري : أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة (٦٧٠) ، الحديث. وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن جابر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» (٦٧١). وقال تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) التوبة : ١١٧ ، الآيات. ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم ، حيث قال : إن

__________________

(٦٦٧) بل هو حديث باطل كما بينته في «الاحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم ٥٨).

(٦٦٨) هذا حديث غريب عندي ، وعزوه لمسلم أغرب فإني لم أقف عليه فيه ، بعد الاستعانة عليه بكل الوسائل الممكنة ، ولم يتيسر لي مراجعته في مصادر أخرى من كتب الحديث ، فإني على وشك السفر الى المدينة المنورة إن شاء الله تعالى. ثم تيقنت عدم وجوده فيه بعد أن فرغت منذ بضع سنين من اختصار «صحيح مسلم» وأنا الآن في صدد اختصار «صحيح البخاري» على منهج علمي دقيق.

ثم صدر المجلد الأول منه ، وفيه قرابة ألف حديث من الأحاديث المسندة. و (٣١٨) من الأحاديث المعلقة ، و (٤٠٩) من الآثار الموقوفة.

(٦٦٩) صحيح ، وهو مخرج في «الظلال» (١٠٠٦).

(٦٧٠) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» من طرق (١٤٦٨ ـ ١٤٧٢) ، وصحح أحدها ابن حبان ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٦٩٩).

(٦٧١) صحيح.

الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ (٦٧٢). [وفي رواية] : وقد رأى أصحاب محمد جميعا أن يستخلفوا أبا بكر. وتقدم قول ابن مسعود : من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات ، إلخ ـ عند قول الشيخ : ونتبع السنة والجماعة.

فمن أضلّ ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين ، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب عيسى ، وقيل للرافضة : من شرّ أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب محمد!! لم يستثنوا منهم إلا القليل ، وفيمن سبّوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة.

وقوله : ولا نفرط في حب أحد منهم ـ أي لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم ، كما تفعل الشيعة ، فنكون من المعتدين. قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) النساء : ١٧١.

وقوله : ولا نتبرأ [من أحد] منهم ـ كما فعلت الرافضة! فعندهم لا ولاء إلا ببراء ، أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!! وأهل السنة يوالونهم كلهم ، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها ، بالعدل والإنصاف ، لا بالهوى والتعصب. فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد ، كما قال تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) الجاثية : ١٧. وهذا معنى قول من قال من السلف : الشهادة بدعة ، والبراءة بدعة. يروى ذلك عن جماعة من السلف ، من الصحابة والتابعين ، منهم : أبو سعيد الخدري ، والحسن

__________________

(٦٧٢) حسن موقوفا ، أخرجه الطيالسي وأحمد وغيرهما بسند حسن ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، واشتهر على الألسنة مرفوعا ، وفي سنده كذاب ، والصحيح وقفه ، وهما مخرجان في «الضعيفة» (٥٣٢ و ٥٣٣).

البصري ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وغيرهم. ومعنى الشهادة : أن يشهد على معيّن من المسلمين أنه من أهل النار ، أو أنه كافر ، بدون العلم بما ختم الله [له] به

وقوله : وحبهم دين وإيمان وإحسان ـ لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص. وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا [بعدي] ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله [تعالى] ، [ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» (٦٧٣). وتسمية حب الصحابة إيمانا مشكل على الشيخ رحمه‌الله ، لأن الحب عمل القلب ، وليس هو التصديق ، فيكون العمل داخلا في مسمى الإيمان. وقد تقدم في كلامه : أن الإيمان هو الاقرار باللسان والتصديق بالجنان ، ولم يجعل العمل داخلا في مسمى الايمان ، وهذا هو المعروف من مذهب أهل السنة ، إلا أن تكون هذه التسمية مجازا.

وقوله : وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ـ تقدم الكلام في تكفير أهل البدع ، وهذا الكفر نظير الكفر المذكور في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤. وقد تقدم الكلام في ذلك.

قوله : (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة).

ش : اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه : هل كانت بالنص ، أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث الى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة ، ومنهم من قال بالنص الجلي. وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية الى أنها ثبتت بالاختيار.

والدليل على إثباتها بالنص أخبار : من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم ، قال : أتت امرأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : أرأيت إن

__________________

(٦٧٣) ضعيف ، وقال الترمذي «غريب» وهو مخرج في «الأحاديث الضعيفة» (٢٩٠١).

جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت ، قال : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (٦٧٤). وذكر له سياق آخر ، وأحاديث أخر. وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٦٧٥). رواه أهل السنن. وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الذي بدئ فيه ، فقال : ادعي لي أباك وأخاك ، حتى أكتب لأبي بكر كتابا ، ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (٦٧٦). وفي رواية : «فلا يطمع في هذا الأمر طامع». وفي رواية : قال : «ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه ، ثم قال : معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر». وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة ، وهو يقول : «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» (٦٧٧). وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة ، فصلى بهم مدة مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بينا أنا نائم رأيتني على قليب ، عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة ، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له ، ثم استحالت غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريّا من الناس يفري فريّه ، حتى ضرب الناس بعطن» (٦٧٨). وفي «الصحيح» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال على منبره : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقينّ في المسجد خوخة إلا سدّت ، إلا خوخة أبي بكر» (٦٧٩). وفي «سنن أبي داود» وغيره ، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم : «من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل أنا :

__________________

(٦٧٤) صحيح ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (١١٥١).

قال عفيفي : انظر خطبة كتاب «منهاج السنة» لابن تيمية.

(٦٧٥) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٢٣٣).

(٦٧٦) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٦٩٠). ، وأنظر «ظلال الجنة» (١١٥٦).

(٦٧٧) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (١١٦٤ ، ١١٦٧) وانظر (١١٥٩ و ١١٦٠).

(٦٧٨) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (١٤٥٧).

(٦٧٩) متفق عليه ، ونقدم بنحوه الحديث (رقم ١٣٦).

رأيت ميزانا [أنزل] من السماء ، فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن عمر وأبو بكر ، فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان ، فرجح عمر ، ثم رفع ، فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «خلافة نبوّة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» (٦٨٠).

فبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة ، ثم بعد ذلك ملك. وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه ، لأنه لم يجتمع الناس في زمانه ، بل كانوا مختلفين ، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك. وروى أبو داود أيضا عن جابر رضي الله عنه ، أنه كان يحدث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر» ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه (٦٨١). وروى أبو داود أيضا عن سمرة بن جندب : أن رجلا قال : يا رسول الله ، رأيت كأنّ دلوا دلي من السماء ، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها ، فشرب شربا ضعيفا ، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى نضلّع ، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلّع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها ، فانتشطت منه ، فانتضح عليه منها شيء (٦٨٢). وعن سعيد بن جمهان ، عن سفينة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» (٦٨٣). أو «الملك».

__________________

(٦٨٠) صحيح رواه أبو داود (٤٦٣٤ ، ٤٦٣٥) من طريقين عن أبي بكرة ، واللفظ الذي في الكتاب هو عنده من طريق الأشعث التي ذكرها المؤلف ، لكن ليس فيها قوله في آخره : خلافة .. وهذه الزيادة عنده من الطريق الاخرى ، وفيها علي بن زيد وهو ابن جدعان وفيه ضعف ، لكن يشهد لها حديث سفينته الآتي بعد حديثين. والحديث مخرج في «ظلال الجنة» (١١٣١ ـ ١١٣٣ و ١١٣٥ و ١١٣٦).

(٦٨١) ضعيف ، وبيانه في «ظلال الجنة» (١١٣٤).

(٦٨٢) ضعيف ، فيه عبد الرحمن الجرمي ، فيه جهالة ، ومن طريقه أيضا أخرجه أحمد (٥ / ٢١).

و (العراقي) جمع (عرقوة) وهي أعواد يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلو ويعلق بها الحبل.

(٦٨٣) حسن يشهد له ما قبله بحديثين.

واحتج من قال لم يستخلف ، بالخبر المأثور ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، يعني أبا بكر ، وإن لا أستخلف ، فلم يستخلف من هو خير [مني] ، يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [قال عبد الله : فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مستخلف] (٦٨٤). وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخلفا لو استخلف. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهدا لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثم تركه ، وقال : «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (٦٨٥). فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة ، من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك ، حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه ، فترك الكتاب اكتفاء بذلك ، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم شكّ : هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة ، اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر. فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بيانا قاطعا للعذر ، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين ، وفهموا ذلك ـ حصل المقصود. ولهذا قال عمر رضي الله عنه ، في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ينكر ذلك منهم أحد ، ولا قال أحد من الصحابة إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار ، طمعا في أن يكون من الانصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلانه. ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر ، إلا سعد بن عبادة ، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية. ولم يقل أحد من الصحابة قط أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصّ على غير أبي بكر ، لا عليّ ، ولا العباس ، ولا غيرهما ، كما قد قال أهل البدع! وروى ابن بطة بإسناده :

__________________

(٦٨٤) متفق عليه ، واللفظ المسلم.

(٦٨٥) مسلم وغيره ، ومضى (برقم ٦٧٦). وهو مخرج في «الظلال» (٢ / ٥٣٥)

.

أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي الى الحسن ، فقال : هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال : أو في شكّ صاحبك؟ نعم ، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه ، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها.

وفي الجملة : فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر ، لم يذكر حجة شرعية ، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه ، أو أحقّ بها ، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط ، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه ، وحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له. ففي «الصحيحين» ، عن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته ، فقلت : أي الناس أحبّ إليك؟ قال : «عائشة» ، قلت : من الرجال؟ قال : «أبوها» ، قلت : ثم من؟ قال : «عمر ، وعدّ رجالا» (٦٨٦). وفيهما أيضا ، عن أبي الدرداء ، قال : كنت جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه ، حتى أبدى عن ركبتيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا صاحبكم فقد غامر» ، فسلّم ، وقال : [يا رسول الله] ، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي [فأبى عليّ ، فأقبلت أليك] ، فقال : «يغفر الله لك يا أبا بكر ، ثلاثا» ، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل : أثمّ أبو بكر؟ فقالوا : لا ، فأتى الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [فسلّم عليه] ، فجعل وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمعّر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم ، مرتين] ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين ، فما أوذي بعدها» (٦٨٧). ومعنى : غامر : غاضب وخاصم. ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.

وفي «الصحيحين» أيضا ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٦٨٦) صحيح ، وهو في «كتاب السنة» لابن أبي عصم من طرق عن عمرو (١٢٣٣ ـ ١٢٣٦).

(٦٨٧) البخاري عن أبي الدرداء ، ولم أره عند مسلم ، ولم يعزه إليه في «الذخائر» ، ولا في «الجامع الكبير» ورواه ابن أبي عاصم (١٢٢٣) مقتصرا على المرفوع منه.

مات وأبو بكر بالسنح (٦٨٨) ـ فذكرت الحديث ـ الى أن قالت : واجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة ، في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ، ومنكم أمير! فذهب إليهم أبو بكر [الصديق] ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فذهب عمر يتكلم ، فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلّا أني [قد] هيأت في نفسي كلاما قد أعجلني ، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر! ثم تكلم أبو بكر ، فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، فقال حباب ابن المنذر : لا والله لا نفعل ، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر : لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب ، وأعزهم أحسابا ، فبايعوا عمر [بن الخطاب] ، أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر : بل نبايعك ، فأنت سيدنا ، وخيرنا ، وأحبّنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ عمر بيده ، فبايعه ، وبايعه الناس ، فقال قائل : قتلتم سعدا ، فقال عمر : قتله الله (٦٨٩). والسّنح : العالية ، وهي حديقة بالمدينة معروفة بها.

قوله : (ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه).

ش : أي ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه ، [لعمر رضي الله عنه]. وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه ، واتفاق الأمة بعده عليه. وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر ، وأكثر من أن تذكر. فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال : قلت لأبي : فقلت يا أبت ، من خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : يا بني ، أوما تعرف؟ فقلت ؛ لا ، قال : أبو بكر ، قلت : ثم من؟ قال : عمر ، وخشيت أن يقول : ثم عثمان! فقلت : ثم أنت؟ فقال : ما أنا إلا رجل من

__________________

(٦٨٨) «السنح» ، بضم السين المهملة وسكون النون ـ ويجوز ضمها ـ وآخره حاء مهملة : طرف من أطراف المدينة بعواليها ، كان بينها وبين منزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميل ، وكان بها منزل أبي بكر.

(٦٨٩) صحيح ، أخرجه البخاري دون مسلم خلافا للمصنف رحمه‌الله ، وروى طرفه الأخير ابن أبي عاصم (١١٦٦). ثم روى قصته قول الانصار : «منا أمير ومنكم أمير» من حديث ابن مسعود (١١٥٩) وكذلك رواه أحمد وغيره ، وهو مخرج في «الظلال».

المسلمين (٦٩٠). وتقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٦٩١). وفي «صحيح مسلم» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : وضع عمر على سريره ، فتكنّفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه ، قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ، فالتفت إليه ، فإذا هو علي ، فترحم على عمر ، وقال : ما خلّفت أحدا أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وايم الله ، إن كنت [لأظنّ أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذلك أني كنت] كثيرا ما أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو ، أو لأظنّ أن يجعلك الله معهما (٦٩٢). وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، في رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزعه من القليب ، ثم نزع أبي بكر ، ثم استحالت الدلو غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريّا من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن (٦٩٣). وفي «الصحيحين» ، من حديث سعد بن أبي وقاص : قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده نساء من قريش ، يكملنه ، عالية أصواتهن ـ الحديث ، وفيه ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجك» (٦٩٤). وفي «الصحيحين» أيضا ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يقول : «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد ، فإن عمر بن الخطاب منهم» (٦٩٥). قال ابن وهب : تفسير «محدّثون» ـ ملهمون.

__________________

(٦٩٠) صحيح ، وتصدير المؤلف اياه ب (روي) المشعر اصطلاحا بالتضعيف ليس بجيد ، فقد أخرجه البخاري وغيره من طرق عن ابن الحنفية ، وهو مخرج في «الظلال» (١٢٠٤ و ١٢٠٦ و ١٢٠٧).

(٦٩١) صحيح ، وقد مضى الحديث (برقم ٦٧٥).

(٦٩٢) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢١٠).

(٦٩٣) صحيح ، وقد مضى الحديث (برقم ٦٧٨).

(٦٩٤) متفق عليه ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢٥٤ و ١٢٦٠).

(٦٩٥) متفق عليه ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢٦١ و ١٢٦٢).

قوله : (ثم لعثمان رضي الله عنه).

ش : أي وثبت الخلافة بعد عمر لعثمان رضي الله عنهما ، وقد ساق البخاري رحمه‌الله قصة قتل عمر رضي الله عنه ، وأمر الشورى والمبايعة لعثمان ، في «صحيحه» ، فأحببت أن أسردها ، كما رواها بسنده : عن عمرو بن ميمون ، قال :

«رأيت عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف ، فقال : كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا : حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا : لا ، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن الى رجل بعدي أبدا ، قال : فما أتت عليه [إلا] أربعة حتى أصيب ، قال :

إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب ، وكان إذا مرّ بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهنّ خللا تقدم [فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف ، أو النحل ، أو نحو ذلك في الركعة الأولى ، حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبّر] ، فسمعته يقول : قتلني ، أو أكلني الكلب ، حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين ، لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين ، طرح عليه برنسا ، فلما ظن [العلج] أنه مأخوذ ، نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف ، فقدّمه ، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد ، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون : سبحان الله ، سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ، فلما انصرفوا ، قال : يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة ، قال : الصّنع (٦٩٦)؟ قال : نعم ، قال : قاتله! لقد أمرت به معروفا! الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي على يد رجل

__________________

(٦٩٦) : رجل صنع وامرأة صناع ، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها «نهاية».

يدّعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقا ، فقال : إن شئت فعلت؟ أي : إن شئت قتلنا؟ قال : كذبت! بعد ما تكلموا بلسانكم ، وصلّوا قبلتكم ، وحجّوا حجكم؟ فاحتمل الى بيته ، فانطلقنا معه ، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس عليه ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه ، فخرج من جوفه ، ثم أتى بلبن فشربه ، فخرج من جوفه ، فعرفوا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس يثنون عليه ، وجاء رجل شاب ، فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ، من صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقدم (٦٩٧) في الاسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة ، قال : وددت أن ذلك كفاف ، لا عليّ ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمسّ الأرض ، قال : ردّوا عليّ الغلام ، قال : يا ابن أخي ، «ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك» (٦٩٨) ، يا عبد الله بن عمر ، انظر ما عليّ من الدين؟ فحسبوه ، فوجدوه ستة وثمانون ألفا أو نحوه ، قال : [إن] وفي له مال آل عمر ، [فأدّه من أموالهم] ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم ، فسل في قريش ، ولا تعدهم الى غيرهم ، فأدّ عني هذا المال ، انطلق الى عائشة أم المؤمنين ، فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل : أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه ، فسلّم واستأذن ، ثم دخل عليها ، فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر [بن الخطاب] السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي ، فلما أقبل ، قيل : هذا عبد الله [بن عمر] قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، قال : ما لديك؟ قال : الذي تحبّ يا أمير المؤمنين أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان شيء أهم إليّ من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلّم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني فردوني الى مقابر

__________________

(٦٩٧) بفتح القاف وكسرها ، فالأول بمعنى الفضل ، والآخر بمعنى السبق.

(٦٩٨) ما بين الهلالين المزدوجين حديث مرفوع أخرجه الترمذي في «الشمائل» (رقم ٩٧ ـ مختصرة) وهو تحت الطبع ، وبعضه في «الصحيحة» (١٤٤١).

المسلمين ، وجاءت أمّ المؤمنين حفصة والنساء يسرّن معها (٦٩٩) ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه ، فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال ، فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف؟ قال : ما أجد (٧٠٠) أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط ، الذين توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، فسمى عليّا ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعدا ، وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء ، كهيئة التعزية له ، فإن أصابت الإمارة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة ، وقال : أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين ، أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا ، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم ردء الإسلام ، وجباة الأموال ، وغيظ العدو ، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم ، عن رضاهم ، وأوصيه بالأعراب خيرا ، فإنهم أصل العرب ، ومادة الإسلام ، أن يأخذ من حواشي أموالهم ، وأن تردّ على فقرائهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ، أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلّفوا [إلا طاقتهم] ، فلما قبض خرجنا به ، فانطلقنا نمشي ، فسلّم عبد الله بن عمر ، قال : يستأذن عمر بن الخطاب؟ قالت : أدخلوه ، فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه ، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم الى ثلاثة منكم ، قال الزبير : [قد جعلت أمري الى علي ، فقال طلحة] : قد جعلت أمري الى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري الى عبد الرحمن [بن عوف] ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه؟ والله عليه والاسلام لينظرنّ أفضلهم في نفسه ، فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ؟ والله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما ، فقال : لك قرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقدم في الاسلام ما قد علمت ، فالله عليك ،

__________________

(٦٩٩) كذا الأصل ، وفي البخاري : «تسير معها».

(٧٠٠) في الاصل ؛ ما أحد.

لئن أمّرتك لتعدلن؟ ولئن أمرت عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ؟ ثم خلا بالآخر ، فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق ، قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه ، فبايع له عليّ ، وولج أهل الدار فبايعوه» (٧٠١).

وعن حميد بن عبد الرحمن : أن المسور بن محرمة أخبره :

أن [الرهط] الذين ولا هم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبد الرحمن. لست بالذي أنافسكم عن هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم؟ فجعلوا ذلك الى عبد الرحمن ، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي ، حتى اذا كانت تلك الليلة [التي] أصبحنا فيها فبايعنا عثمان ، ـ قال المسور بن مخرمة ـ : طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل ، فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائما؟! فو الله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير (٧٠٢) نوم ، انطلق فادع لي الزبير وسعدا ، فدعوتهما [له] ، فشاورهما ثم دعائي ، فقال : ادع لي عليّا ، فدعوته ، فناجاه حتى ابهارّ (٧٠٣) الليل ، ثم قام عليّ من عنده وهو على طمع ، (٧٠٤) وقد كان عبد الرحمن يخشى من عليّ شيئا (٧٠٥) ، ثم قال : ادع لي عثمان ، [فدعوته] ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح ، فلما صلى للناس الصبح ، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر ، فأرسل الى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار ، و [أرسل] الى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ، ثم قال : أما بعد ، يا عليّ ، إني قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا ، فقال لعثمان : أبايعك على سنة [الله و] رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخليفتين من بعده ، فبايعه عبد الرحمن ،

__________________

(٧٠١) صحيح البخاري (٣٧٠٠ ـ فتح ـ السلفية).

(٧٠٢) في البخاري «بكثير».

(٧٠٣) أي انتصف.

(٧٠٤) أي؟؟؟.

(٧٠٥) أي خاف عبد الرحمن «إن بايع لغير علي أن لا يطاوعه». كذا استظهره الحافظ

وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون» (٧٠٦).

ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة : كونه ختن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابنتيه. وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجعا [في بيته] ، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له وهو على تلك الحال ، فتحدث ، ثم استأذن عمر ، فأذن له وهو كذلك ، فتحدّث ، ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوّى ثيابه ، فدخل فتحدّث ، فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله ، [ثم دخل عمر فلم تهتش ولم تباله] ، ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك؟ فقال : «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (٧٠٧). وفي «الصحيح» : لما كان يوم بيعة الرضوان ، وأن عثمان رضي الله عنه كان قد بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى مكة ، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان الى مكة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بيده] اليمنى : «هذه يد عثمان ، فضرب بها على يده ، فقال : هذه لعثمان» (٧٠٨).

قوله : ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ش : أي : ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما. لما قتل عثمان وبايع الناس عليّا صار إماما حقّا واجب الطاعة ، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة ، كما دل عليه حديث سفينة المقدّم ذكره ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» (٧٠٩).

وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر ، وخلافة عمر عشر سنين ونصفا ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة ، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر ،

__________________

(٧٠٦) صحيح البخاري (٧٢٠٧).

(٧٠٧) صحيح ، وهو مخرج في «الارواء» تحت الحديث (٢٦٩) من طرق عن عائشة رضي الله عنها ، وفي بعضها «كاشفا عن فخذيه» بدون شك. وله شاهدان خرجتهما هناك. أحدهما عن حفصة ، وقد أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (١٢٨٤ و ١٢٨٥) من طريقين عنها.

(٧٠٨) صحيح ، رواه البخاري من حديث ابن عمر.

(٧٠٩) حسن ، وقد تقدم الحديث (برقم ٦٨٣).

وخلافة الحسن ستة أشهر. وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه ، وهو خير ملوك المسلمين ، لكنه إنما صار إماما حقا لما فوّض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهم الخلافة ، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه ، ثم بعد ستة أشهر فوّض الأمر الى معاوية ، فظهر صدق قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (٧١٠). والقصة معروفة في موضعها.

فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه ، بمبايعة الصحابة ، سوى معاوية مع أهل الشام. والحقّ مع علي رضي الله عنه ، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة كعلي وطلحة والزبير ، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال ، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ، ممن بعدت داره من أهل الشام ، ويحمي الله عثمان ، أن يظنّ بالأكابر ظنون سوء ، ويبلغه عنهم أخبار (٧١١) ، منها ما هو كذب ، ومنها ما هو محرّف ، ومنها ما لم يعرف وجهه ، وانضم الى ذلك أهواء أقوام يحبون العلوّ في الأرض. وكان في عسكر علي رضي الله عنه ـ من أولئك الطغاة الخوارج ، الذين قتلوا عثمان ـ من لم يعرف بعينه ، ومن تنتصر له قبيلته ، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله ، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله ، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم ينتصر للشهيد المظلوم ، ويقمع أهل الفساد والعدوان ، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه. فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ، ولا من طلحة والزبير ، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين ، ثم جرت فتنة صفّين لرأي ، وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم ، أو لا يتمكن من العدل عليهم ـ وهم كافّون ، حتى يجتمع أمر الأمة ، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر ، كما طغوا على الشهيد المظلوم ، وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهديّ الذي تجب طاعته ، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه ، فاعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم ، بطلب الواجب عليهم ، بما اعتقد

__________________

(٧١٠) متفق عليه من حديث أبي بكرة.

(٧١١) في الاصل : وبلغ عنهم أخبارا.

أنه يحصل به أداء الواجب ، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلّفة قلوبهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخليفتين من بعده مما يسوغ ، فحمله ما رآه ـ من أن الدين إقامة الحد عليهم ومنعهم من الإثارة ، دون تأليفهم ـ : على القتال ، وقعد عن القتال أكثر الأكابر ، لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود [في الفتنة] ، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها. ونقول في الجميع بالحسنى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الحشر : ١٠. والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا ، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا ، بمنّه وكرمه.

ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما في «الصحيحين» ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون [من موسى] ، إلا أنه لا نبي بعدي» (٧١٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر : «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : «ادعوا لي عليّا ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه» (٧١٣). ولما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) آل عمران : ٦١ ـ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : «اللهم هؤلاء أهلي» (٧١٤).

قوله : (وهم الخلفاء الراشدون ، والأئمة المهديون).

ش : تقدم الحديث الثابت في «السنن» ، وصححه الترمذي ، عن العرباض

__________________

(٧١٢) صحيح ، وهو مخرج في «الارواء» (١١٨٨) ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» من طرق (١٣٣١ ـ ١٣٤٥) عن سعد ، وعن غيره (١٣٤٦ ـ ١٣٥١).

(٧١٣) متفق عليه من حديث سهل بن سعد ، ورواه ابن ابي عاصم في «السنة» عن جمع آخر من الصحابة (١٣٥١ و ١٣٧٧ ـ ١٣٨٠ و ١٣٨٦ و ١٣٨٧).

(٧١٤) مسلم في «صحيحه» (٧ / ١٢٠ ـ ١٢١) من حديث سعد ابن أبي وقاص ، والترمذي ، وصححه. وله شاهد عند ابن أبي عاصم (١٣٥١).

بن سارية ، قال : وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودّع ، فما ذا تعهد إلينا؟ فقال : «أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة» (٧١٥). وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل ، كترتيبهم في الخلافة. ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين ، ولم يأمرنا في الاقتداء في الافعال إلا بأبي بكر وعمر ، فقال : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٧١٦) ، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم ، فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان ، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان [على علي]. وعلى هذا عامة أهل السنة. [وقد] تقدم (٧١٧) قول عبد الرحمن بن عوف لعلي رضي الله عنهما : إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان. وقال أيوب السختياني من لم يقدّم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي «الصحيحين» عن ابن عمر ، قال : كنا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّ : أفضل أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده ـ أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان (٧١٨).

قوله : (وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشرهم بالجنة ، نشهد لهم بالجنة ، على ما شهد لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله الحق ، وهم : أبو بكر ، وعمر ،

__________________

(٧١٥) صحيح ، وتقدم.

(٧١٦) صحيح ، وتقدم الحديث (برقم ٦٧٥).

(٧١٧) ص ٤٨١ في قصة البيعة لعثمان.

(٧١٨) صحيح ، أخرجه أبو داود بسند صحيح عنه ، وهو عند البخاري بنحوه ، ولم يخرجه مسلم. وأخرجه ابن أبي عاصم من طرقه (١١٩٠ ـ ١١٩٩) من طرق عن ابن عمر وأحدها عن أبي هريرة ، وهي مخرجة في «ظلال الجنة» (٢ / ٥٦٦ ـ ٥٦٩).

وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة ابن الجراح وهو أمين هذه الأمة ، رضي الله عنهم أجمعين).

ش : تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة. ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين : ما رواه مسلم : عن عائشة رضي الله عنها : أرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ، فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ، قالت : وسمعنا صوت السلاح ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من هذا»؟ فقال سعد ابن أبي وقاص : يا رسول الله ، جئت أحرسك ـ وفي لفظ آخر : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت أحرسه ، فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نام (٧١٩). وفي «الصحيحين» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع لسعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد ، فقال : ارم ، فداك أبي وأمي (٧٢٠). وفي «صحيح مسلم» ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد قد شلّت (٧٢١). وفيه أيضا عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير طلحة وسعد (٧٢٢). وفي «الصحيحين» ، واللفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله قال : ندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ، ثم ندبهم ، فانتدب الزبير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبيّ حواريّ ، وحواريي الزبير» (٧٢٣) وفيهما أيضا عن الزبير رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم»؟ فانطلقت ، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه ، فقال : «فداك أبي وأمي» (٧٢٤). وفي

__________________

(٧١٩) أخرجه مسلم عنه ، وكذا ابن أبي عاصم (١٤١١).

(٧٢٠) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم (١٤٠٥ ـ ١٤٠٧).

(٧٢١) صحيح ، وانما أخرجه البخاري دون مسلم.

(٧٢٢) صحيح واخرجه البخاري أيضا.

(٧٢٣) صحيح ، متفق عليه ، وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (١٣٨٨ ـ ١٣٩٣) عن جمع آخر من الصحابة.

(٧٢٤) صحيح ، متفق عليه ، ورواه ابن أبي عاصم (١٣٩٠).

«صحيح مسلم» ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل أمة أمينا ، وإن أميننا أيتها الأمة : أبو عبيدة بن الجراح» (٧٢٥). وفي «الصحيحين» عن حذيفة بن اليمان ، قال : جاء أهل نجران الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، ابعث إلينا [رجلا] أمينا ، فقال : لأبعثنّ إليكم رجلا أمينا حقّ [أمين] ،» قال : فاستشرف لها الناس ، قال : فبعث أبا عبيدة بن الجراح» (٧٢٦). وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه ، قال : أشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني سمعته يقول : «عشرة في الجنة : النبي في الجنة ، وأبو بكر في الجنة ، وطلحة في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وسعد بن مالك في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة» ، ولو شئت لسمّيت العاشر ، قال : فقالوا : من هو؟ قال : سعيد بن زيد ، وقال : لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يغبر منه وجهه ، خير من عمل أحدكم ، ولو عمّر عمر نوح (٧٢٧). رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي وصححه. ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعلي في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير بن العوام في الجنة ، وعبد الرحمن ابن عوف في الجنة ، وسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل في الجنة ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة» (٧٢٨). رواه الإمام أحمد في «مسنده». ورواه أبو بكر بن أبي حيثمة ، وقدم فيه عثمان على علي ، رضي الله عنهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حراء ، [هو] وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اهدأ ، فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد» (٧٢٩). رواه مسلم والترمذي وغيرهما. وروي من طرق.

__________________

(٧٢٥) صحيح وأخرجه البخاري أيضا.

(٧٢٦) صحيح ، متفق عليه.

(٧٢٧) صحيح ، وهو مخرج في «الروض النضير» (٤٢٥) ، ورواه ابن أبي عاصم (١٤٣٥).

(٧٢٨) صحيح.

(٧٢٩) صحيح ، وأخرجه أحمد أيضا (٢ / ٤١٩) ، وابن أبي عاصم (١٤٢٥ ـ ١٤٢٧ و ١٤٣٩ ـ ١٤٤٣ و ١٤٤٥ ـ ١٤٤٧).

وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم ، لما اشتهر من فضائلهم ومناقبهم. ومن أجهل ممن يكره التكلم بلفظ العشرة ، أو فعل شيء يكون عشر!! لكونهم يبغضون خيار الصحابة ، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة ، وهم يستثنون منهم عليّا رضي الله عنه! فمن العجب : أنهم يوالون لفظ التسعة! وهم يبغضون التسعة من العشرة! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار ، من السابقين الأولين ، الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وقد رضي الله عنهم. كما قال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح : ١٨. وثبت في «صحيح مسلم» ، عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» (٧٣٠). وفي «صحيح مسلم» أيضا ، عن جابر : أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال يا رسول الله : ليدخلنّ حاطب النار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت ، [لا يدخلها] ، فإنه شهد بدرا والحديبية» (٧٣١). والرافضة يتبرءون من جمهور هؤلاء ، بل يتبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا من نفر قليل ، نحو بضعة عشر نفرا!! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس ، لم يهجر هذا الاسم لذلك ، كما أنه سبحانه لما قال : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) النمل : ٤٨ ـ لم يجب هجر اسم التسعة مطلقا. بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) البقرة : ١٩٦. (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) الاعراف : ١٤٢. (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ) الفجر : ١ ـ ٢. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان (٧٣٢) ، وقال في ليلة القدر : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» (٧٣٣). وقال : «ما من أيام العمل

__________________

(٧٣٠) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم (٨٦٠ و ٨٦١) أيضا ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٢١٦٠).

(٧٣١) صحيح.

(٧٣٢) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٧٣٣) البخاري من حديث ابن عباس ، وصححه الترمذي

.

الصالح فيهن أحب الى الله من أيام العشر» (٧٣٤). يعني عشر ذي الحجة.

والرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة ، اثني عشر إماما ، أولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويدّعون أنه وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعوى مجردة عن الدليل ، ثم الحسن رضي الله عنه ، ثم الحسين رضي الله عنه ، ثم علي بن الحسين زين العابدين ، ثم محمد بن علي الباقر ، ثم جعفر بن محمد الصادق ، ثم موسى بن جعفر الكاظم ، ثم علي بن موسى الرضى ، ثم محمد بن علي الجواد ، ثم علي بن محمد الهادي ، ثم الحسن بن علي العسكري ، ثم محمد بن الحسن ، ويغالون في محبتهم ، ويتجاوزون الحد!! ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر ، إلا على صفة ترد قولهم وتبطله ، وهو ما خرجاه في «الصحيحين» ، عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعته يقول : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا» ، ثم تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلمة خفيت علي ، فسألت أبي : ما ذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : «كلهم من قريش» (٧٣٥). وفي لفظ : «لا يزال الإسلام عزيزا الى اثني عشر خليفة» (٧٣٦) وفي لفظ : «لا يزال هذا الأمر عزيزا الى اثني عشر خليفة». وكان الامر كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والاثنا عشر : الخلفاء الراشدون الأربعة ، ومعاوية ، وابنه يزيد ، وعبد الملك بن مروان ، وأولاده الاربعة ، وبينهم عمر بن عبد العزيز ، ثم أخذ الامر في الانحلال. وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسدا منغّصا ، يتولى عليهم الظالمون المعتدون ، بل المنافقون الكافرون ، وأهل الحق أذل من اليهود (٧٣٧)!! وقولهم ظاهر البطلان ، بل لم يزل الاسلام عزيزا في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر.

__________________

(٧٣٤) متفق عليه من حديث ابن عمر ونحوه ، والبخاري وغيره من حديث ابن عباس بلفظه المذكور أعلاه ، ومسلّم وغيره من حديث أبي سعيد ، وهي مخرجة في «الصحيحة» (١٤٧١) و «صحيح أبي داود» (١٢٥٠ و ١٢٥٢).

(٧٣٥) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٣٧٦ و ٩٦٤) ، ورواه ابن أبي عاصم أيضا (١١٢٢ و ١١٢٣).

(٧٣٦) صحيح أخرجه مسلّم أيضا.

(٧٣٧) قال عفيفي : انظر خطبة «منهاج السنة» ج ١ ص ٢٤ جديد وص ٩ ـ ١٠ ط بولاق.

قوله : (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأزواجه الطاهرات من كل دنس ، وذرّياته المقدسين من كل رجس ، فقد برئ من النفاق).

ش : تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم. وفي «صحيح مسلّم» ، عن زيد بن أرقم ، قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا ، بماء يدعى : خمّا ، بين مكة والمدينة ، فقال : «أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر ، يوشك أن يأتي رسول ربي ، فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، ثلاثا» (٧٣٨). وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : ارقبوا محمدا في أهل بينه (٧٣٩).

وإنما قال الشيخ رحمه‌الله : فقد برئ من النفاق ـ لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق ، قصده إبطال دين الإسلام ، والقدح في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكر ذلك العلماء. فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الاسلام ، أراد أن يفسد دين الاسلام بمكره وخبثه ، كما فعل بولس بدين النصرانية ، فأظهر التنسك ، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله ، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلوّ في عليّ والنصر له ، ليتمكن بذلك من أغراضه ، وبلغ ذلك عليّا ، فطلب قتله ، فهرب منه الى قرقيس. وخبره معروف في التاريخ. وتقدم أن من فضّله على أبي بكر وعمر جلده جلد المفتري. وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج ، من الحرورية والشيعة ، ولهذا كان الرفض باب الزندقة ، كما حكاه القاضي أبو بكر ابن الطيب (٧٤٠) عن الباطنية وكيفية إفسادهم لدين الاسلام ، قال : فقالوا للداعي : يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك ، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لعليّ وقتلهم الحسين ، والتبرّي من

__________________

(٧٣٨) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم أيضا في «السنة» (١٥٥٠ و ١٥٥١ و ١٥٥٥).

(٧٣٩) صحيح البخاري (٣٧١٣ و ٣٧٥١).

(٧٤٠) هو أبو بكر الباقلاني ، محمد بن الطيب.

تيم وعدي ، وبني أمية وبني العباس ، (وقل بالرجعة) وأن عليّا يعلم الغيب! يفوّض إليه خلق العالم!! وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم ، فاذا أنست (٧٤١) من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا ، أوقفته على مثالب عليّ وولده ، (رضي الله عنهم). انتهى. ولا شك أنه يتطرق من سب الصحابة الى سب أهل البيت ، ثم الى سب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أهل بيته وأصحابه مثل هؤلاء [عند] (٧٤٢) الفاعلين الضالين.

قوله : (وعلماء السلف من السابقين ، ومن بعدهم من التابعين ـ أهل الخير والأثر ، وأهل الفقه والنظر ـ لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل).

ش : قال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) النساء : ١١٥. فيجب على [كل] مسلّم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين ، كما نطق به القرآن ، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء ، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم ، يهتدى (٧٤٣) بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ، إذ كل أمة قبل (٧٤٤) مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علماؤها شرارها ، إلا المسلمين ، فإن علماءهم خيارهم ، فإنهم خلفاء الرسول من أمته ، والمحيون لما مات من سنته ، فبهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه ـ. فلا بدّ له في تركه من عذر. وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :

أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله.

والثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.

والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق ،

__________________

(٧٤١) في الاصل : ايست.

(٧٤٢) لم تكن الأصول واضحة في هذا النص ولعل العبارة استقامت بهذه الإضافة «وما نقله عن الباقلاني فهو عند غيره» انظر «القرامطة» ص ٥٢ تحقيق محمد الصباغ.

(٧٤٣) في الاصل : يهدى.

(٧٤٤) في الاصل : بعد.

وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا ، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا ، فرضي الله عنهم وأرضاهم. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الحشر : ١٠.

قوله : (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم‌السلام ، ونقول : نبي واحد أفضل من جميع الأولياء).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة ، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع. فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) النساء : ٦٤ ، الى أن قال : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء : ٦٥. وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران : ٣١. قال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه ، نطق بالبدعة. وقال بعضهم : ما ترك بعضهم شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. والأمر كما قال ، فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول ، كان يعمل بإرادة نفسه ، فيكون متبعا لهواه ، بغير هدى من الله ، وهذا غش النفس ، وهو من الكبر ، فإنه شبيه بقول الذين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤. وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة ، وتصفية نفسه ، الى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم! ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء!! ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء!! ويدّعي لنفسه أنه خاتم الأولياء!! ويكون ذلك [العلم هو] حقيقة قول فرعون ، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ، ليس له صانع مباين له ، لكن هذا يقول : هو الله! وفرعون أظهر الإنكار بالكلية ، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم ، فإنه كان مثبتا للصانع ، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق ، كابن عربي وأمثاله!! وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل الى تغييره ـ قال : النبوة ختمت ،

لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين ، وأن الأنبياء مستفيدون منها! كما قال :

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي!

وهذا قلب للشريعة ، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين ، كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يونس : ٦٢ ـ ٦٣. والنبوة أخص من الولاية ، والرسالة أخصّ من النبوة ، كما تقدم التنبيه على ذلك (٧٤٥). وقال ابن عربي أيضا في «فصوصه» :

«ولما مثّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة ، فكان هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع اللبنة ، [غير أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يراها ، كما قال : لبنة واحدة] ، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ، فيرى ما مثّله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين!! ويرى نفسه تنطبع في موضع اللبنتين ، فتكمل الحائط!! والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين : أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب ، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو أخذ عن الله في الشرع (٧٤٦) ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه ، لانه يرى الامر على ما هو عليه ، فلا بد أن يراه هكذا ، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن! فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع!» (٧٤٧) فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب ، وللرسل المثل بلبنة فضة ، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسل؟! تلك أمانيهم : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) غافر : ٥٦. وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟ وله من الكلام أمثال هذا ، وفيه ما يخفى منه الكفر ، ومنه ما يظهر ، فلهذا يحتاج الى نقد جيد ، ليظهر زيفه ، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد ،

__________________

(٧٤٥) ص ١٥٨.

قال عفيفي : انظر ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ أول رفع الملام من «مجموع الفتاوى» ج ٢٠.

(٧٤٦) في الاصل : السر.

(٧٤٧) «فصوص الحكم» (١ / ٦٣) تعليق أبو العلاء عفيفي ، والزيادة منه.

ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير (٧٤٨). وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) الانعام : ١٢٤. ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة ، اتحادية في الدرك الأسفل من النار ، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين ، لإظهارهم الإسلام ، كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبطنون الكفر ، وهو يعاملهم معاملة المسلمين لما يظهر منهم. فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر ، لأجرى عليه حكم المرتد. ولكن في قبول توبته خلاف ، والصحيح عدم قبولها ، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. والله المستعان.

قوله ؛ (ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم).

ش : فالمعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة ، و [كذلك الكرامة] في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين. ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما ، فيجعلون المعجزة للنبي ، والكرامة للولي. وجماعها : الأمر الخارق للعادة. فصفات الكمال ترجع الى ثلاثة : العلم ، والقدرة ، والغنى. وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده ، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما ، وهو على كل شيء قدير ، وهو غني عن العالمين. ولهذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) الانعام : ٥٠. وكذلك قال نوح عليه‌السلام ، فهذا أول أولي العزم ، وأول رسول بعثه الله الى أهل الارض ، وهذا خاتم الرسل ، وخاتم أولي العزم ، وكلاهما تبرأ من ذلك ، وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب ، كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) النازعات : ٤٢ ، وتارة بالتأثير ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الاسراء : ٩٠. الآيات ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية ، كقوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان : ٧ ، الآية. فأمر الرسول أن

__________________

(٧٤٨) قال عفيفي : انظر الرد على ابن عربي فيما نقل هنا عنه في ص ٢٠٤ وما بعدها ج ٢ من مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

يخبرهم بأنه لا يملك ذلك ، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله ، فيعلم ما علّمه الله [إياه] ، ويستغني عما أغناه عنه ، ويقدر على ما أقدر عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة ، أو لعادة أغلب الناس. فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الانواع.

ثم الخارق : إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين ، كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينا وشرعا ، إما واجب أو مستحب ، وإن حصل به أمر مباح ، كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرا ، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه ، كان سببا للعذاب أو البغض ، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها : بلعام بن باعورا ، لاجتهاد أو تقليد ، أو نقص عقل أو علم ، أو غلبة حال ، أو عجز أو ضرورة.

فالخارق ثلاثة أنواع : محمود في الدين ، ومذموم ، ومباح. فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة ، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها. قال أبو علي الجوزجاني : كن طالبا للاستقامة ، لا طالبا للكرامة ، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة ، وربك يطلب منك الاستقامة.

قال الشيخ السهروردي في «عوارفه» : وهذا أصل كبير في الباب ، فإن كثيرا من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف (٧٤٩) الصالحين المتقدمين ، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات ، فنفوسهم لا تزال تتطلع الى شيء من ذلك ، ويحبون أن يرزقوا شيئا منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب ، متهما لنفسه في صحة عمله ، حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر ، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا ، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة ـ يقينا ، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا ، والخروج عن دواعي الهوى. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كل الكرامة.

ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان ، لكن إن كانت صالحة كان

__________________

(٧٤٩) في الأصل : سلف

.

تاثيرها صالحا ، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدا. فالأحوال يكون تأثيرها محبوبا لله تعالى تارة ، ومكروها لله أخرى.

وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن. وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ، ويعدّون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له ، ولا يعلمون أنه في الحقيقة انما الكرامة لزوم الاستقامة ، وأن الله تعالى لم يكرم عبدا بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ، وهو طاعته وطاعة رسوله ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه. وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يونس : ٦٢.

وأما ما يبتلي الله به عبده ، من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضرّاء ـ فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هو انه عليه ، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه ، وشقي بها قوم إذا عصوه ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ، فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ، كَلَّا) الفجر : ١٥ ـ ١٧. ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام :

قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة.

قسم يتعرضون بها لعذاب الله.

وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات ، كما تقدم.

وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان : كونية ، ودينية :

فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» (٧٥٠). قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس : ٨٢. وقال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) الانعام : ١١٥. والكون كله داخل تحت هذه الكلمات ، وسائر الخوارق.

والنوع الثاني : الكلمات الدينية ، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به

__________________

(٧٥٠) صحيح ، وتقدم غير مرة.

رسوله ، وهي أمره ونهيه وخبره ، وحظ العبد منها العلم بها ، والعمل (٧٥١) ، والأمر بما أمر الله به ، كما أن حظ العباد عموما وخصوصا العلم بالكونيات والتأثير فيها ، أي بموجبها. فالأولى تدبيرية كونية ، والثانية شرعية دينية. فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية ، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية. وقدرة الاولى التأثير في الكونيات ، إما في نفسه كمشيه على الماء ، وطيرانه في الهواء ، وجلوسه في النار ، وإما في غيره ، بإصحاح وإهلاك ، وإغناء وإفقار. وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات ، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنا وظاهرا ، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية. فإذا تقرر ذلك ، فاعلم أن عدم الخوارق علما وقدرة لا تضرّ المسلم في دينه ، فمن لم ينكشف له شيء من المغيّبات ، ولم يسخر له شيئا من الكونيات ـ : لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله ، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له ، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة ، فإن الخارق قد يكون مع الدين ، وقد يكون مع عدمه ، أو فساده ، أو نقصه. فالخوارق النافعة تابعة للدين ، خادمة له ، كما أن الرئاسة النافعة هي التابعة للدين ، وكذلك المال النافع ، كما كان السلطان والمال [النافع] بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر. فمن جعلها هي المقصودة ، وجعل الدين تابعا لها ، ووسيلة إليها ، لا لأجل الدين في الأصل ـ : فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين ، وليست حاله كحال من تديّن خوف العذاب ، أو رجاء الجنة ، فإن ذلك ما هو مأمور به ، وهو على سبيل نجاة ، وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيرا ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفا من النار أو طلبا للجنة ـ يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا!!

ثم إن الدين إذا صح علما وعملا فلا بد أن يوجب خرق العادة ، إذا احتاج الى ذلك صاحبه. قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٢ ـ ٣. وقال تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) الانفال : ٢٩. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ

__________________

(٧٥١) قال عفيفي : انظر ص ٣١٩ ج ١١ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) النساء : ٦٦ ـ ٦٨. وقال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) يونس : ٦٢ ـ ٦٤. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله : «(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الحجر : ٧٥» (٧٥٢). رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري. وقال تعالى ، فيما يرويه عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبد يتقرب إليّ بالنوافل ، حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه» (٧٥٣).

فظهر أن الاستقامة حظّ الرب ، وطلب الكرامة حظ النفس. وبالله التوفيق.

وقول المعتزلة في إنكار الكرامة : ظاهر البطلان ، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات. وقولهم : لو صحت لأشبهت المعجزة ، فيؤدي الى التباس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالولي ، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة ، وهذا لا يقع ، ولو ادعى النبوة لم يكن وليّا ، بل كان متنبئا كذّابا ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبّئ ، عند قول الشيخ : وأن محمدا عبده المجتبى ونبيه المصطفى (٧٥٤).

ومما ينبغي التنبيه عليه هاهنا : أن الفراسة ثلاثة أنواع :

إيمانية ، وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر بهجم (٧٥٥) ،

__________________

(٧٥٢) ضعيف فيه عند الترمذي ، وغيره عطية العوفي وهو ضعيف مدلس ، وهو مخرج في «الاحاديث الضعيفة» (١٨٢١).

(٧٥٣) صحيح ، أخرجه البخاري ، وقد مضى بيان ما فيه (الحديث رقم ٤٥٨).

(٧٥٤) ص ١٤٩ ـ ١٥٧.

(٧٥٥) في الاصل : يهجر ، ويبدو أن الصحيح : يهجم.

على القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها (٧٥٦) ، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدّ فراسة. قال أبو سليمان الداراني رحمه‌الله : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان. انتهى.

وفراسة رياضية ، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها ، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ، ولا تدل على إيمان ، ولا على ولاية ، ولا تكشف عن حقّ نافع ، ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبادة الرؤساء والأظناء (٧٥٧) ونحوهم.

وفراسة خلقية ، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخلق على الخلق ، لما بينهما من الارتباط ، الذي اقتضته حكمة الله ، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره على كبره ، وسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه ، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ، ونحو ذلك.

قوله : (ونؤمن بأشراط الساعة : من خروج الدجال ، ونزول عيسى ابن مريم عليه‌السلام من السماء ، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابة الأرض من موضعها).

ش : عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة [تبوك] ، وهو في قبة [من] أدم ، فقال : «اعدد ستّا بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر ، فيغدرون ، فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت

__________________

(٧٥٦) في الاصل : اشتغالها! ولا معنى لها ، ولعل ما أثبتنا هو الصواب.

(٧٥٧) في الاصل : والاطباء.

كل غاية اثنا عشر ألفا» (٧٥٨). وروي «راية» ، بالراء والغين ، وهما بمعنى. رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه والطبراني. وعن حذيفة بن أسيد ، قال : اطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : «ما تذاكرون»؟ قالوا : نذكر الساعة ، فقال : «إنها لن تقوم حتى ترون [قبلها] عشر آيات» ، [فذكر] : «الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس الى محشرهم» (٧٥٩). رواه مسلّم ، وفي «الصحيحين» ، واللفظ للبخاري ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : ذكر الدجال عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إن الله لا يخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده الى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى (٧٦٠) ، كأن عينه عنبة طافية» (٧٦١). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال ، ألا إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، ومكتوب بين عينيه ك ف ر» (٧٦٢) ، فسره في رواية : «أي كافر». وروى البخاري وغيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية (٧٦٣) ، ويفيض المال

__________________

(٧٥٨) صحيح ، وهو مخرج في «فضائل الشام» (ص ٢٣) و (ص ٦٢ ـ الطبعة الرابعة) طبع المكتب الاسلامي.

(٧٥٩) صحيح مسلّم (٨ / ١٧٩) وأحمد أيضا (٤ / ٦ ـ ٧).

(٧٦٠) قلت : في بعض الأحاديث : أنه أعور العين اليسرى. لكن حديث ابن عمر هذا أرجح لاتفاق الشيخين عليه كما قال الحافظ ابن حجر ، وأشار إليه ابن عبد البر ، على أن بعضهم حاول الجمع بما تراه مبسوطا في «الفتح» (١٣ / ٩٧) ، فليراجعه من شاء.

(٧٦١) صحيح. و (طافية) أي بارزة.

(٧٦٢) صحيح ، رواه الترمذي (٢ / ٣٩) وقال : «حديث حسن صحيح». قلت : وهو على شرط الشيخين. ثم رأيته في «البخاري» (٧١٣١) و «مسلّم» (٨ / ١٩٥).

(٧٦٣) قال عفيفي : أنظر أنواع الفراسة في ص ٤٨٢ ـ ٤٩٥ ج ٢ من «مدارج السالكين».

حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها» (٧٦٤). ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء : ١٥٩. وأحاديث الدجال ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام ، ينزل من السماء ويقتله ، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال ، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم : ويضيق هذا المختصر عن بسطها.

وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب ـ فقال تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) النمل : ٨٢. وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ، قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) الانعام : ١٥٨. وروى البخاري عند تفسير الآية ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن [من] عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» (٧٦٥). وروى

__________________

(٧٦٤) صحيح ورواه مسلّم أيضا (١ / ٩٣ ـ ٩٤) ، وهو مخرج في «الصحيحة» برقم (٢٤٥٧). واعلم أن أحاديث الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام متواترة يجب الايمان بها ، ولا تغتر بمن يدعي فيها أنها أحاديث آحاد ، فانهم جهال بهذا العلم ، وليس فيهم من تتبع طرقها ، ولو فعل لوجدها متواترة كما شهد بذلك أئمة هذا العلم كالحافظ ابن حجر وغيره ، ومن المؤسف حقا ان يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم ، لا سيما والامر دين وعقيدة!

وإن من هؤلاء أخيرا المدعو عز الدين بليق في كتابه «موازين القرآن والسنة» الذي زعم فيه تقليدا لغيره ممن لا معرفة عنده بهذا العلم ـ «أن روايات نزول عيسى بعد الدجال إنما هي من رواية وهي بن منبه وكعب الأخبار» وهذا اختلاق محض ، فلا وجود لهما في شيء منها مطلقا ، وقد كنت قديما خرجت نحو أربعين حديثا ليس لهما فيها ذكر!

(٧٦٥) صحيح ، ورواه مسلّم أيضا (١ / ٩٥) بلفظ : «فاذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون ، فيومئذ لا ينفع ...» وهو رواية للبخاري بنحوه. وله عندهما شاهد من حديث أبي ذر.

مسلّم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا» (٧٦٦). أي أول الآيات التي ليست مألوفة ، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام من السماء قبل ذلك ، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج ، كل ذلك أمور مألوفة ، لأنهم بشر ، مشاهدة مثلهم مألوفة ، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف ، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات. وذلك أول الآيات الأرضية ، كما أن طلوع الشمس من مغربها ، على خلاف عادتها المألوفة ـ أول الآيات السماوية. وقد أفرد الناس [في] أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة ، يضيق على بسطها هذا المختصر.

قوله : (ولا نصدق كاهنا ولا عرّافا ، ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة).

ش : روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء ، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة» (٧٦٧). وروى الامام أحمد في «مسنده» ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى عرّافا أو كاهنا ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (٧٦٨). والمنجم يدخل في اسم «العراف» عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسئول؟ وفي «الصحيحين» و «مسند الامام أحمد» ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان؟ فقال : «ليسوا بشيء» ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقّا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك الكلمة من الحق يخطفها

__________________

(٧٦٦) صحيح مسلّم (٨ / ٢٠٢).

(٧٦٧) صحيح ، وهو مخرج في «غاية المرام» (٢٨٤).

(٧٦٨) صحيح ، وهو مخرج في «آداب الزفاف» ص ٣١ (الطبعة ٣) ، و «غاية المرام» (٢٨٥)

.

الجني فيقرّها في أذن وليّه ، فيخلطون فيها [أكثر من] مائة كذبة» (٧٦٩). وفي «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وحلوان الكاهن خبيث» (٧٧٠). وحلوانه : الذي تسميه العامة حلاوته. ويدخل في هذا المعنى ما تعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها ، مثل الخشبة المكتوب عليها «ا ب ج د» والضارب بالحصى ، والذي يخط في الرمل. وما تعاطاه هؤلاء حرام. وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء ، كالبغوي والقاضي عياض وغيرهما.

وفي «الصحيحين» عن زيد بن خالد ، قال : خطبنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل ، فقال : «أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة»؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : «[قال] : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، كافر بالكوكب ، [وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ، مؤمن بالكوكب]» (٧٧١). وفي «صحيح مسلّم ومسند الامام أحمد» ، عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة» (٧٧٢). والنصوص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وسائر الأئمة ، بالنهي عن ذلك ـ أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها. وصناعة التنجيم ، التي مضمونها الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمريح بين القرى الفلكية والقوابل الأرضية ـ : صناعة محرمة بالكتاب والسنة ، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى :

__________________

(٧٦٩) صحيح ، وهو في «المسند» (٦ / ٨٧).

(٧٧٠) صحيح أخرجه مسلّم من حديث رافع بن خديج دون الجملة الرابعة ، وهي في «الصحيحين» من حديث أبي مسعود البدري مرفوعا بلفظ «نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن».

(٧٧١) صحيح.

(٧٧٢) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ٢٧) ، و «الأحاديث الصحيحة» (٧٣٤).

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) طه : ٦٩. وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) النساء : ٥١. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره : الجبت السحر (٧٧٣). وفي «صحيح البخاري» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لأبي بكر غلام يأكل من خراجه ، فجاء يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ممّ هذا؟ قال : وما هو؟ قال :كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه (٧٧٤).

والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات (٧٧٥) ، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات ، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك. ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته ، مع قدرته على ذلك ـ قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة : ٧٩. وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت ، بإجماع المسلمين. وثبت في «السنن» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية الصديق رضي الله عنه (٧٧٦) ، أنه قال : «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (٧٧٧).

وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة ، أنواع : نوع منهم : أهل تلبيس وكذب وخداع ، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له ، أو يدعي الحال من أهل المحال ، من المشايخ النصابين ، والفقراء الكاذبين ، والطرقية المكارين ، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس. وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل ، كمن يدعي النبوة بمثل هذه

__________________

(٧٧٣) في الأصل : السحرة ، وكلاهما مستقيم.

(٧٧٤) صحيح ، وهو في «مناقب الأنصار» (٣٨٤٢) مع شيء من الاختصار.

(٧٧٥) في الاصل : الفالات أو الغالات.

(٧٧٦) قال عفيفي : انظر ص ٤٢٢ ج ٣ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

(٧٧٧) صحيح ، وهو مخرج في المشكاة» (٥١٤٢).

الخزعبلات ، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة ، ونحو ذلك. ونوع يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة ، بأنواع السحر. وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر ، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المنصوص عنه ، وهذا هو المأثور عن الصحابة ، كعمر وابنه وعثمان وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء : هل يستتاب أم لا؟ وهل يكفر بالسحر؟ أم يقتل لسعيه في الأرض بالفساد؟ وقال طائفة : إن قتل بالسحر يقتل ، وإلا عوقب بدون القتل ، إذا لم يكن في قوله وعمله كفر ، وهذا هو المنقول عن الشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد.

وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه : والأكثرون يقولون : إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه ، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل. واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة ، أو غيرها ، أو خطابها ، أو السجود لها ، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك ـ فإنه كفر ، وهو من أعظم أبواب الشرك ، فيجب علقه ، بل سدّه. وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه‌السلام ، ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الصافات : ٨٨ ـ ٨٩. وقال تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) الانعام : ٧٦ ، الآيات ، الى قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الانعام : ٨٢. واتفقوا كلهم أيضا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم ، فيه شرك بالله ، فإنه لا يجوز التكلم به ، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم ، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به ، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به ، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا» (٧٧٨). ولا يجوز الاستعاذة بالجن ، فقد ذم الله الكافرين على ذلك ، فقال تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦. قالوا : كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه ، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ، (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦ ، يعني الإنس للجن ،

__________________

(٧٧٨) مسلّم من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

باستعاذتهم بهم ، رهقا ، أي إثما وطغيانا وجراءة وشرّا ، وذلك أنهم قالوا : قد سدنا الجنّ ، والإنس! فالجنّ تعاظم في أنفسها وتزداد كفرا إذا عاملتها الانس بهذه المعاملة. وقد قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) سبأ : ٤٠ ـ ٤١. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم ، وأنها تنزّل عليهم ـ : ضالون ، وإنما تنزّل عليهم الشياطين. وقد قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ، قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الانعام : ١٢٨. فاستمتاع الإنسي بالجني : في قضاء حوائجه ، وامتثال أوامره ، وإخباره بشيء من المغيبات ، ونحو ذلك ، واستمتاع الجنّ بالإنس : تعظيمه إياه ، واستعانته به ، واستغاثته وخضوعه له.

ونوع منهم بالأحوال الشيطانية ، والكشوف ومخاطبته رجال الغيب ، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله! وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين! ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين ، لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين. والناس من أهل العلم فيهم [على] ثلاثة أحزاب : حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد عاينهم [الناس] ، [وثبت عمن عاينهم] أو حدثه الثقات بما رأوه ، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم. وحزب عرفوهم ، ورجعوا الى القدر ، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقا الى الله غير طريقة الأنبياء! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا وليّا خارجا عن دائرة الرسول ، فقالوا : يكون الرسول هو ممدّا للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه ، والحق : أن هؤلاء [من] أتباع الشياطين ، وأن رجال الغيب هم الجن ، ويسمون رجالا ، كما قال تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦. وإلا فالإنس يؤنسون ، أي يشهدون ويرون ، وإنما يحتجب الإنسي أحيانا ، لا يكون دائما محتجبا عن أبصار الإنس ، ومن ظنهم أنهم من «الإنس» فمن غلطه وجهله. وسبب الضلال

فيهم ، وافتراق هذه الاحزاب الثلاثة ـ عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن. ويقول بعض الناس : الفقراء يسلّم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل ، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية ، فما وافقها قبل! وما خالفها ردّ ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (٧٧٩). وفي رواية : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حقيقة إلا حقيقته ، ولا شريعة إلا شريعته ، ولا عقيدة إلا عقيدته ، ولا يصل أحد [من الخلق بعده] الى الله والى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا. ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ، ملتزما لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان ـ : لم يكن مؤمنا ، فضلا عن أن يكون وليّا لله تعالى ، ولو طار في الهواء ، ومشى على الماء ، وأنفق من الغيب ، وأخرج الذهب من الخشب (٧٨٠) ، ولو حصل له من الخوارق ما ذا عسى أن يحصل!! فإنه لا يكون ، مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور ـ إلا من أهل الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقربة الى سخطه وعذابه. لكن من ليس يكلّف من الأطفال والمجانين ، قد رفع عنهم القلم ، فلا يعاقبون ، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطنا وظاهرا ما يكونون به من أولياء الله المقربين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين. لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الطور : ٢١. فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين (٧٨١) ، مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله ـ أنه من أولياء الله ، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو ضالّ مبتدع ، مخطئ في اعتقاده. فإن ذاك الأبله ، إمّا أن يكون شيطانا زنديقا ، أو

__________________

(٧٧٩) صحيح ، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها ، وهو مخرج في «الارواء» (٨٨) ، و «غاية المرام» (٥) ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (٥٢ و ٥٣).

(٧٨٠) في الأصل : الجيب.

(٧٨١) في الأصل : المؤلفين.

روى ريا (٧٨٢) متحيلا ، أو مجنونا معذورا! فكيف يفضّل على من هو من أولياء الله ، المتبعين لرسوله؟! أو يساوى به؟! ولا يقال : يمكن أن يكون هذا متبعا في الباطن وإن كان تاركا للاتباع في الظاهر؟ فإن هذا خطأ أيضا ، بل الواجب متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرا وباطنا. قال يونس (٧٨٣) بن عبد الأعلى الصّدفي : قلت للشافعي : إن صاحبنا الليث كان يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا (٧٨٤) به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة؟ فقال الشافعي : قصّر الليث رحمه‌الله ، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ، ويطير في الهواء ، فلا تغتروا (٧٨٤١) به حتى تعرضوا أمره على الكتاب.

وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اطّلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله» (٧٨٥) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينبغي

__________________

(٧٨٢) قال الشيخ أحمد شاكر : هذه لفظة مولدة. وفي «شرح القاموس» ٣ : ٢٤٠. الزواكرة : من يتلبس فيظهر النسك والعبادة ، ويبطن الفسق والفساد». نقله المقري في «نفح الطيب».

(٧٨٣) في الأصل : ويس ، وفي المطبوعة : موسى ، والصواب ما أثبتناه لما في تفسير ابن كثير ج ١ ص ٧٨.

(٧٨٤) في الأصل : تعتبروا ، وما أثبتناه أصح وأقوم وموافق لما في ابن كثير

(٧٨٥) ضعيف ، رواه أبو بكر الكلاباذي في «مفتاح المعاني» (ق ٢٧٥ / ١) وابن عساكر (١٢ / ٣٤٥ / ٢) ، وقال : «قال ابن شاهين تفرد به مصعب بن ماهان» قلت : وهو صدوق كثير الخطأ ، كما في «التقريب» قلت : لكن في الطريق إليه احمد بن عيسى الخشاب ، قال ابن عدي : له مناكير ، ثم ساق له هذا الحديث وقال : فهذا باطل بهذا السند» ، ثم رواه ابن عدي (ق ١٦٦ / ٢) وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا : «أكثر أهل الجنة البله» وقال : «منكر بهذا الاسناد ، لم يروه غير سلامة بن روح». قلت : وهو ضعيف لسوء حفظه. وتابعه سفيان ابن عيينة عند أبي موسى المديني في «اللطائف» (ق ٧٥ / ١) ولكنه قال : «حديث غريب جدا من حديث ابن عيينة عن الزهري ، وانما يعرف هذا من رواية سلامة بن روح».

وروي مرسلا من وجهين : الأول عن محمد بن المنكدر ، فقال المعافى بن عمران في «الزهد» (ق ٢٤٩ / ١) : حدثنا محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر مرفوعا به : والمدني هذا ضعيف كما في «التقريب». والاخر عن عمر بن عبد العزيز مرسلا مرفوعا به ـ

نسبته إليه ، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب ، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم الى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه ، فلم يذكر في أوصافهم البله ، الذي هو ضعف العقل ، وإنما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» (٧٨٦). ولم يقل البله!

والطائفة الملاميّة ، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه ، ويقولون نحن متبعون في الباطن ، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر!! والصراط المستقيم بين ذلك. وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة ، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك ، ولو عند سماع القرآن ، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الانفال : ٢. وكما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الزمر : ٢٣.

__________________

ـ وزاد : «وأعلى عليين لأولي الالباب». رواه عبد الوهاب الكلابي في «حديثه» (ق ١٧٦ / ٢) بسنده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه. وعبد العزيز صدوق يخطئ كما في «التقريب» وفيه من لم أجد من ترجمه. وفي هذه الرواية رد على من قال إن هذه الزيادة لم يوجد لها أصل وأنها مدرجة من كلام أحمد بن أبي الحواري ، فإن أحمد هذا ليس له ذكر في هذه الرواية.

وانما اطلت الكلام على هذا الحديث لأني رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله علق عليه بقوله : «ومجموع ما قيل فيه : انه لا اصل له»! ولا أعلم أحدا من العلماء أطلق هذا القول على الحديث ، وانما قال ذلك بعضهم في الزيادة المذكورة كما تقدم واذا كان مردودا فيها ، فرده عن أصل الحديث أولى وأخرى ، ولا يجوز في اصطلاح المحدثين أن يقال في حديث له سند واحد أو أكثر ولو كان ضعيفا : لا أصل له. فليعلم ذلك.

(٧٨٦) أخرجه مسلّم من حديث ابن عباس ، والبخاري عن عمران ، وهما مخرجان في «الضعيفة» (٢٨٠٠) تحت حديث آخر وقع فيه زيادة منكرة.

وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين ، فأولئك كان فيهم خير ، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء ، أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصّحو ، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان. ويهتدون بذلك في حال زوال عقلهم. بخلاف من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا ، لم يكن حدوث جنونه مزيلا لما ثبت من كفره أو فسقه. وكذلك من جنّ من المؤمنين المتقين ، يكون محشورا مع المؤمنين المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره ، [سواء] سمي صاحبه مولعا أو متولها لا يوجب مزيد حال ، [بل] حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر ، لا أنه يزيده أو ينقصه ، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير ، كما أنه يمنع عقوبته على الشر ، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله.

وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة ، من الهذيان ، والتكلم لبعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه!! فذلك شيطان يتكلم على لسانه ، كما يتكلم على لسان المصروع ، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سببا أو شرطا أو تقربا الى ولاية الله ، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم :

هم معشر حلوا النظام وخرقوا ال

سياج فلا فرض لديهم ولا نفل

مجانين ، إلا أن سرّ جنونهم

عزيز على أبوابه يسجد العقل

وهذا كلام ضال ، بل كافر ، يظن أن [في] الجنون سرّا يسجد العقل على بابه!! لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة ، أو تصرف عجيب خارق للعادة ، ويكون ذلك سبب ما اقترن به من الشياطين ، كما يكون للسحرة والكهان! فيظن هذا الضال أن كل من خبل أو خرق عادة (٧٨٧) كان وليّا لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر ، فقد قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢. فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور.

__________________

(٧٨٧) في الاصل : كاشف أو خرق العادة.

وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات ، ويتركون الجمع والجماعات ، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قد طبع الله على قلوبهم. كما قد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر ، طبع الله على قلبه» (٧٨٨). وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول ، إن كان عالما بها فهو مغضوب عليه ، وإلا فهو ضال. ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه‌السلام ، في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني ، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق ـ : فهو ملحد زنديق. فإن موسى عليه‌السلام لم يكن مبعوثا الى الخضر ، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته. ولهذا قال له : أنت موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم (٧٨٩). ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث الى جميع الثقلين ، ولو كان موسى وعيسى حيّين (٧٩٠) لكانا من أتباعه ، وإذا نزل عيسى عليه‌السلام الى الأرض ، إنما يحكم بشريعة محمد ، فمن ادعى أنه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالخضر مع موسى ، أو جوّز ذلك لأحد من الأمة ـ : فليجدد إسلامه ، وليشهد شهادة الحق ، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية ، فضلا عن أن يكون من أولياء الله ، وإنما هو من أولياء الشيطان. وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل

__________________

(٧٨٨) صحيح ، لكنه لم يروه أحد من أهل «الصحيح» والمراد به البخاري أو مسلّم ، خلافا لما أفاده الشارح وانما رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وصححه الحاكم على شرط مسلم ، فوهم. وسنده حسن ، وله شواهد في «الترغيب» وغيره.

(٧٨٩) هو قطعة من حديث الخضر مع موسى عليهما‌السلام ، رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها «الأنبياء».

(٧٩٠) كذا الأصل ، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة (الكهف) بلفظ : «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي». وهو حديث محفوظ ، دون ذكر عيسى فيه ، فإنه منكر عندي لم أره في شيء من طرقه ، وهي مخرجة في «الإرواء» (١٥٨٩).

الاستقامة ، وحرك تر. وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!! فهلا خرجت الكعبة الى الحديبية فطافت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أحصر عنها ، وهو يودّ منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المدثّر : ٥٢ ، الى آخر السورة.

[قوله] : (ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا).

ش : قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران : ١٠٣. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) الانعام : ١٥٩. وقال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هود : ١١٩. فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف. وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦. وقد تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة» (٧٩١). وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي». فبيّن أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة ، وأن الاختلاف واقع لا محالة. وروى الامام أحمد عن معاد بن جبل ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن [الشيطان] ذئب الانسان ، كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية ، [والناحية] ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة ، والعامة. والمسجد» (٧٩٢). وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال لما نزل

__________________

(٧٩١) صحيح ، رواه أبو داود وغيره ، وقد مضى (ص ٢٦٠) ، وأما الرواية التي بعدها ففيها ضعف كما تقدم هناك.

(٧٩٢) صحيح الاسناد ، وأقول الآن : كلا ، ولا أدري كيف وقع هذا ، فالسند ضعيف كما هو مبين في «تخريج المشكاة» (١٨٤) ثم في الأحاديث «الضعيفة» (٣٠١٦) و «ضعيف الجامع الصغير» (١٤٧٧).

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الانعام : ٦٥ ، قال : «أعوذ بوجهك» (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) الانعام : ٦٥ ـ قال : «هاتان أهون» (٧٩٣). فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، مع براءة الرسول من هذه الحال ، وهم فيها في جاهلية. ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوافرون ، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو قرح أصيب بتأويل القرآن ـ : فهو هدر ، انزلوهم منزلة الجاهلية. وقد روى مالك (٧٩٤) بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ، يعني قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) الحجرات : ٩. فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى ، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية ، وهكذا تسلسل النزاع.

[والأمور] التي تتنازع فيها الأمة ، في الأصول والفروع ـ إذا لم تردّ الى الله والرسول ، لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من أمرهم ، فإن رحمهم‌الله أقرّ بعضهم بعضا ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد ، فيقر بعضهم بعضا ، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول ، مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل ، مثل حبسه وضربه وقتله. والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن ، كانوا من هؤلاء ، ابتدعوا بدعة ، وكفّروا من خالفهم فيها ، واستحلوا منع حقه وعقوبته.

فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول : إما عادلون وإما ظالمون ، فالعادل فيهم : الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ، ولا يظلم

__________________

(٧٩٣) صحيح ، وعزوه ل «الصحيحين» وهم ، فإنه من افراد البخاري كما يدل على ذلك تخريج ابن كثير إياه في «التفسير» ، والحافظ المزي في «التحفة» (٢ / ٢٥١).

(٧٩٤) لم أجده في «الموطأ».

غيره ، والظالم : الذي يعتدي على غيره. وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون ، كما قال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) آل عمران : ١٩. وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل ، أقرّ بعضهم بعضا ، كالمقلدين لأئمة العلم ، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل ، فجعلوا أئمتهم نوابا عن الرسول ، وقالوا : هذا غاية ما قدرنا عليه ، فالعادل منهم لا يظلم الآخر ، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل ، مثل أن يدعي أن قول مقلّده هو الصحيح بلا حجة يبديها ، ويذم من خالفه ، مع أنه معذور.

ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان :

اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد.

واختلاف التنوع على وجوه :

منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقّا مشروعا ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «كلاكما محسن» (٧٩٥) ، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل. ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم. وكذا تجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه ـ : ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذمّ الأخرى والاعتداء على قائلها! ونحو ذلك.

__________________

(٧٩٥) البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وأما اختلاف التضادّ ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإمّا في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد. والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حقّ ما ، أو معه دليل يقتضي حقّا ما ، فيردّ الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض ، كما كان الأول مبطلا في الأصل ، وهذا يجري كثيرا لأهل السنة.

وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر. ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور.

والاختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذمّ فيه واقع على من بغى على الآخر فيه. وقد دلّ القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الحشر : ٥. وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون. وكما في قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩ ، فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وكما في إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخّرها الى أن وصل الى بني قريظة (٧٩٦). وكما في قوله : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (٧٩٧).

والاختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمّت الأخرى ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) البقرة : ٢٥٣. وقوله تعالى :

__________________

(٧٩٦) البخاري ومسلّم عن ابن عمر.

(٧٩٧) البخاري ومسلّم وأحمد وغيرهم عن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص

.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) الحج : ١٩ ، الآيات.

وأكثر الاختلاف الذي يؤول الى الأهواء بين الأمة ـ من القسم الأول ، وكذلك الى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء. لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك. ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة : ٢١٣. لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة. وقريب من هذا الباب ما خرجاه في «الصحيحين» ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٧٩٨). فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية.

ثم الاختلاف في الكتاب ، من الذين يقرّون به ـ على نوعين : أحدهما اختلاف في تنزيله ، والثاني اختلاف في تأويله. وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض :

فالأول كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكونه مخلوقا في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذّبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك.

وأما الاختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير ،

__________________

(٧٩٨) صحيح ، وهو مخرج في «الأحاديث الصحيحة» (٨٥٠) برواية الترمذي وتصحيحه ، وفي «الإرواء» (١٥٥ و ٣١٤) برواية الشيخين وغيرهما ، وقد ذكرت له فيه سبع طرق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه.

كما في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر ، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية ، فكأنما فقئ في وجهه حبّ الرمان ، فقال : «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتّبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا» (٧٩٩). وفي رواية : «يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به». وفي رواية : «فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا ، وإن المراء في القرآن كفر» (٨٠٠). وهو حديث مشهور ، مخرج في «المسانيد والسنن». وقد روى أصل الحديث مسلّم في «صحيحه» ، من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري ، أن عبد الله بن عمرو قال : هجّرت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فسمع صوت رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف في وجهه لغضب ، فقال : «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» (٨٠١).

وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله ، مؤمنون ببعضه دون بعض ، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات ، وما يخالفه : إما أن يتأوله تأويلا يحرّفون فيه الكلم عن مواضعه ، وإما أن يقولوا : هذا متشابه لا يعلم أحد معناه ، فيجحدون ما أنزله من معانيه! وهو في معنى الكفر بذلك ، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الجمعة : ٥. وقال تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) البقرة : ٧٨ ، أي : إلا تلاوة من غير فهم معناه. وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به ، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه الى

__________________

(٧٩٩) صحيح وقد مضى ص ٢٠١.

(٨٠٠) صحيح.

(٨٠١) صحيح لإخراج مسلّم إياه.

الله ، كما امره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه الى عالمه» (٨٠٢) ، فامتثل ما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (ودين الله في الأرض والسماء واحد ، وهو دين الإسلام ، قال الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران : ١٩. وقال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) المائدة : ٣. وهو بين [الغلو و] التقصير ، وبين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن والإياس).

ش : ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» (٨٠٣). وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) آل عمران : ٨٥ ـ عامّ في كل زمان ، ولكن الشرائع تتنوع ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) المائدة : ٤٨. فدين الاسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله ، وأصل هذا الدين وفروعه روايته عن الرسل ، وهو ظاهر غاية الظهور ، يمكن كل مميز من صغير وكبير ، وفصيح وأعجم ، وذكي وبليد ـ : أن يدخل فيه بأقصر زمان ، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك ، من إنكار كلمة ، أو تكذيب ، أو معارضة ، أو كذب على الله ، أو ارتياب في قول الله تعالى ، أو ردّ لما أنزل ، أو شكّ فيما نفى الله عنه الشك ، أو غير ذلك مما في معناه. فقد دلّ الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام ، وسهولة تعلمه ، وأنه يتعلمه الوافد ثم يولي في وقته. واختلاف تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الالفاظ بحسب من يتعلم ، فإن كان بعيد الوطن ، كضمام بن ثعلبة النجدي ، ووفد عبد القيس ، علّمهم ما لم يسعهم جهله ، مع علمه أن دينه سينشر في الآفاق ، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه ، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت ، بحيث يتعلم على التدريج ، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه ـ أجابه بحسب حاله وحاجته ، على ما تدل قرينة حال السائل ، كقوله : «قل آمنت بالله ثم استقم». وأما من شرع دينا لم يأذن به

__________________

(٨٠٢) صحيح ، وهو رواية عند أحمد (٢ / ١٨١) في الحديث (٤٦٢).

(٨٠٣) متفق عليه بنحوه ، وتجد لفظه في «صحيح الجامع الصغير» (١٤٦٥).

الله ، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن غيره من المرسلين ، إذ هو باطل ، وملزوم الباطل باطل ، كما أن لازم الحق حق.

وقوله : بين الغلو والتقصير ـ قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) المائدة ٧٧. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) المائدة : ٨٧ ـ ٨٨. وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها : أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٨٠٤). وفي غير «الصحيحين» : «سألوا عن عبادته في السر ، فكأنهم تقالّوها» (٨٠٥). وذكر في سبب نزول الآية الكريمة : عن ابن جريج ، عن عكرمة أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة ، رضي الله عنهم في أصحابه ـ تبتّلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرّموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني اسرائيل ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المائدة : ٨٧ ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الاختصاء ، فلما نزلت فيهم ، بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فقال : «إن لأنفسكم

__________________

(٨٠٤) صحيح ، ولكنه عندهما من حديث أنس ، وليس من حديث عائشة ، وانما لها عندهما حديث آخر بغير هذا السياق ، وفيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه ، فو الله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» وليس فيه «فمن رغب ...».

(٨٠٥) قلت : بل هو عند البخاري في أول «النكاح» في القصة التي قبلها ، دون قوله «في السر». وهذا عند أحمد (٣ / ٢٥٩).

عليكم حقّا ، وإن لأعينكم حقّا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا : اللهم سلّمنا واتبعنا ما أنزلت (٨٠٦).

وقوله : وبين التشبيه والتعطيل ـ تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تشبيه ، فلا يقال : سمع كسمعنا ، ولا بصر كبصرنا ، ونحوه ، ومن غير تعطيل ، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به أعرف الناس (٨٠٧) به : رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك تعطيل ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى. ونظير هذا القول قوله : ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه. وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. فقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ـ رد على المشبهة ، وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١ ـ رد على المعطلة. وقوله : وبين الجبر والقدر ـ تقدم الكلام أيضا على هذا المعنى ، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله ، وأنها [ليست] بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها ، وليست مخلوقة للعباد ، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى.

وقوله : وبين الأمن والإياس ـ تقدم الكلام أيضا على هذا المعنى ، وأنه يحب أن يكون العبد خائفا من عذاب ربه ، راجيا رحمته ، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد ، في سيره الى الله تعالى والدار الآخرة.

قوله : (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا ، ونحن براء الى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الايمان ، ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة ، والآراء المتفرقة ، والمذاهب الردّية ، مثل المشبهة ، والمعتزلة ، والجهمية ، والجبرية ، والقدرية ، وغيرهم ، من الذين خالفوا السنة والجماعة ، وحالفوا الضلالة ، ونحن منهم براء وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق).

__________________

(٨٠٦) ضعيف بهذا السياق ، وهو مرسل.

(٨٠٧) في الاصل : الخلق.

ش : الإشارة بقوله : «فهذا» كل ما تقدم من أول الكتاب الى هنا. والمشبهة : هم الذين شبهوا الله سبحانه بالخلق في صفاته ، وقولهم عكس قول النصارى ، شبهوا المخلوق ـ وهو عيسى عليه‌السلام ـ بالخالق وجعلوه إلها ، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق ، كداود الجواربي وأشباهه.

والمعتزلة : هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزّال وأصحابهما ، سموا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه‌الله ، في أوائل المائة الثانية ، وكانوا يجلسون معتزلين ، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة ، وقيل : إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة ، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري ، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين ، وبيّن مذهبهم ، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة ، التي سموها : العدل ، والتوحيد ، وإنقاذ الوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! ولبّسوا فيها الحق بالباطل ، إذ شأن البدع هذا ، اشتمالها على حق وباطل. وهم مشبهة الأفعال ، لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده ، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه ، وما يقبح من العباد يقبح منه! وقالوا : يجب عليه أن يفعل كذا ، ولا يجوز له أن يفعل كذا ، بمقتضى ذلك القياس الفاسد!! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم من ذلك لعدّ إمّا مستحسنا للقبيح ، وإمّا عاجزا ، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه. فأما العدل ، فستروا تحته نفي القدر ، وقالوا : إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به ، إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جورا!! والله تعالى عادل لا يجور. ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يزيده ، فيريد الشيء ولا يكون ، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك. وأما التوحيد فستروا تحت القول بخلق القرآن ، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدّد القدماء!! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة ، أو التناقض! وأما الوعيد ، فقالوا : إذا أوعد بعض عبيده وعيدا فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده ، لأنه لا يخلف الميعاد ، فلا يعفو عمن يشاء ، ولا يغفر لمن يريد ، عندهم!! وأما المنزلة بين المنزلتين ، فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج

من الإيمان ولا يدخل في الكفر!! وأما الأمر بالمعروف ، فهو أنهم قالوا : علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به ، وأن نلزمه بما يلزمنا ، وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وضمنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا!!

وقد تقدم جواب هذه الشبه الخمس في مواضعها. وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يعلم صحة السمع إلّا بعدها ، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية ، فإنما يذكرونها للاعتضاد بها ، لا للاعتماد عليها ، فهم يقولون : لا نثبت هذه بالسمع ، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول ، إذ لا فائدة فيها عندهم ، ومنهم من يذكرها ليبيّن موافقة السمع للعقل ، ولإيناس الناس بها ، لا للاعتماد عليها! والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب! والمدد اللاحق بعسكر مستغن عنهم! وبمنزلة من يتبع هواه واتفق أن الشرع ما يهواه!! كما قال عمر بن عبد العزيز : لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ، ويخالفه اذا خالف هواه ، فإذا أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق ، وتعاقب على ما تركته منه ، لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين. وكما أن «الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى» ، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته ، فالاعتقاد القوي يتبع أيضا علم ذلك وتصديقه ، فإذا كان تابعا للإيمان كان من الإيمان ، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحا ، وإلا فلا ، فقول أهل الإيمان التابع لغير الايمان ، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح. وفي المعتزلة زنادقة كثيرة ، وفيهم من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

والجهميّة : هم المنتسبون الى جهم بن صفوان السمرقندي ، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل ، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم ، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط ، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى ، وقال : أيها الناس ، ضحوا تقبّل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا! ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه ، وهم السلف الصالح رحمهم‌الله تعالى. وكان جهم بعده بخراسان ، فأظهر مقالته هناك ، وتبعه عليها

ناس ، بعد أن ترك الصلاة أربعين يوما شكّا في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوما من المشركين ، يقال لهم السمنية ، [من فلاسفة الهند ، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات ، قالوا له : هذا ربك الذي تعبده ، هل يرى أو يشم أو يذاق أو يلمس؟ فقال : لا ، فقالوا : هو معدوم!! فبقي أربعين يوما لا يعبد شيئا ، ثم لما خلا قلبه من معبود يؤلهه ، نقش الشيطان اعتقادا نحته فكره ، فقال : إنه الوجود المطلق!! ونفى جميع الصفات ، واتصل بالجعد. وقد قيل : إن جعدا كان [قد] اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حرّان ، وأنه أيضا أخذ شيئا عن بعض اليهود المحرفين لدينهم ، المتصلين بلبيد بن الأعصم ، الساحر الذي سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقتل جهم بخراسان ، قتله سلّم بن أحوز ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس ، وتقلدها بعده المعتزلة. ولكن كان جهم أدخل في التعطيل منهم ، لأنه ينكر الأسماء حقيقة ، وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات. وقد تنازع العلماء في الجهمية : هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم لا؟ ولهم في ذلك قولان : وممن قال إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة ـ عبد الله بن المبارك ، ويوسف بن أسباط. وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة ، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا ، فإنه قد أقام بخراسان مدة واجتمع بهم ، ثم كتب بالمحنة من طرسوس (٨٠٨) سنة ثمان عشرة ومائتين وفيها مات ، وردوا الإمام أحمد الى الحبس ببغداد الى سنة عشرين ، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم بالكلام ، فلما ردّ عليهم ما احتجوا به عليه ، وبيّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك ، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم ـ : جهل وظلم ، وأراد المعتصم إطلاقه ، أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه ، لئلا تنكسر حرمة الخلافة من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة ، وخافوا ، فأطلقوه. وقصته مذكورة في كتب التاريخ. ومما انفرد به جهم : أن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو المعرفة فقط ، والكفر هو الجهل فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده ، وأن الناس إنما

__________________

(٨٠٨) في الأصل : طرفلعوس وفي مطبوعة دار المعارف : طرطوس. وكلاهما خطأ لأن المأمون قبر في طرسوس. انظر «معجم البلدان».

لنسب إليهم افعالهم على سبيل المجاز ، كما يقال تحركت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس! ولقد أحسن القائل :

عجبت لشيطان دعا الناس جهرة

الى النار واشتق اسمه من جهنم

وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه‌الله ، لما سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال : لعن الله عمرو بن عبيد ، هو فتح على الناس الكلام في هذا.

والجبرية : أصل قولهم من جهم بن صفوان ، كما تقدم ، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه! وهم عكس القدرية نفاة القدر ، فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه ، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء ، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم. وقد تسمى الجبرية «قدرية» لأنهم غلوا في إثبات القدر ، وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد ، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع ، فلا يجزمون بثواب من تاب ، كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب ، وكما لا يجزم لمعين. وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان وعليّا ، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر!!

وقد ورد في ذم القدرية أحاديث في «السنن» : منها ما روى أبو داود في «سننه» ، من حديث عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (٨٠٩). وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة ، تكلم أهل الحديث في صحة رفعها ، والصحيح أنها موقوفة ، بخلاف الأحاديث الواردة في ذم الخوارج ، فإن فيهم في «الصحيح» وحده عشرة أحاديث ، أخرج البخاري منها ثلاثة ، وأخرج مسلم سائرها. ولكن مشابهتهم للمجوس ظاهرة ، بل قولهم أردأ من قول المجوس ، فإن المجوس اعتقدوا وجود خالقين ، والقدرية اعتقدوا خالقين!!

وهذه البدع المتقابلة حدثت من الفتن المفرّقة بين الأمة ، كما ذكر البخاري في «صحيحه» ، عن سعيد بن المسيب ، قال : وقعت الفتنة الأولى ، يعني مقتل

__________________

(٨٠٩) حسن وقد تقدم.

عثمان ، فلم تبق من أصحاب بدر أحدا. ثم وقعت الفتنة الثانية ، فلم تبق من أصحاب الحديبية أحدا. ثم وقعت الثالثة ، فلم ترتفع وللناس طباخ ، أي عقل وقوة. فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الاولى ، والقدرية والمرجئة في الفتنة الثانية ، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة. فصار هؤلاء (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) الانعام : ١٥٩ ـ يقابلون البدعة بالبدعة ، أولئك غلوا في عليّ ، وأولئك كفّروه! وأولئك غلوا في الوعيد ، حتى خلدوا بعض المؤمنين ، وأولئك غلوا في الوعيد حتى نفوا بعض الوعيد أعني المرجئة! وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات ، وهؤلاء غلوا في الإثبات ، حتى وقعوا في التشبيه! وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع ، ويعرضون عن الأمر المشروع ، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الاوائل : اليهود والنصارى والمجوس والصابئين ، فإنهم قرءوا كتبهم ، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم ، وغيّروه في اللفظ تارة ، وفي المعنى أخرى! فلبسوا الحق بالباطل ، وكتموا حقّا جاء به نبيهم ، فتفرقوا واختلفوا وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم ، نفيا واثباتا.

وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم ، عدولهم عن الصراط المستقيم ، الذي أمرنا الله باتباعه ، فقال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الانعام : ١٥٣. وقال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف : ١٠٨ فوحّد لفظ «صراطه» و «سبيله» ، وجمع «السبل» المخالفة له. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّا ، وقال : «هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)» الانعام : ١٥٣ (٨١٠). ومن هاهنا يعلم أن اضطرار العبد الى سؤال هداية الصراط المستقيم فوق كل ضرورة ، ولهذا شرع الله تعالى في الصلاة

__________________

(٨١٠) صحيح ، رواه الحاكم وغيره «تخريج السنة» (رقم ١٧).

قراءة أمّ القرآن في كل ركعة ، إمّا فرضا أو ايجابا ، على حسب اختلاف العلماء في ذلك ، لاحتياج العبد الى هذا الدعاء العظيم القدر ، المشتمل على أشرف المطالب وأجلّها. فقد أمرنا الله تعالى أن نقول : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة : ٥ ـ ٧. وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون» (٨١١). وثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لنتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ، قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال ؛ «فمن؟!» (٨١٢).

قال طائفة من السلف : من انحرف من العلماء ففيه شبه من اليهود ، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى. فلهذا تجد أكثر المنحرفين من أهل الكلام ، من المعتزلة ونحوهم ـ فيه شبه من اليهود ، حتى ان علماء اليهود يقرءون كتب شيوخ المعتزلة ، ويستحسنون طريقتهم ، وكذا شيوخ المعتزلة يميلون الى اليهود ويرجحونهم على النصارى. وأكثر المنحرفين من العبّاد ، من المتصوفة ونحوهم ـ فيهم شبه من النصارى ، ولهذا يميلون الى نوع من الرهبانية والحلول والاتحاد ونحو ذلك. وشيوخ هؤلاء يذمون الكلام وأهله ، وشيوخ أولئك يعيبون طريقة هؤلاء ويصنفون في ذم السماع والوجد وكثير من الزهد والعبادة التي أحدثها هؤلاء.

__________________

(٨١١) صحيح ، رواه الترمذي وغيره ، وصححه ابن حبان (١٧١٥ ، ٢٢٧٩).

(٨١٢) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وهو مخرج فيما علقته على «إصلاح المساجد» للشيخ القاسمي رقم (٣١) ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (٧٤ و ٧٥) مع شواهد له (٧٢ و ٧٣) ، وله شاهد آخر مخرج في «الصحيحة» (٦٣٤٨).

«وسبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله الا أنت ، استغفرك وأتوب أليك».

دمشق ١١ / ١٢ / ١٣٨١

محمد ناصر الدين الالباني

ثم أعدت النظر فيه ، واستدركت ما كان فاتني من التخريج ، مع إضافات كثيرة مفيدة على التخريجات السابقة ، وتصحيح بعض الأخطاء المطبعية غير المصححة في فهرس الخطأ والصواب. والله تعالى هو الموفق.

دمشق ١١ / ١٢ / ١٣٨١

محمد ناصر الدين الالباني

ولفرق الضّلال في الوحي طريقتان : طريقة التبديل ، وطريقة التجهيل. أما أهل التبديل فهم نوعان : أهل الوهم والتخييل ، وأهل التحريف والتأويل.

فأهل الوهم والتخييل ، هم الذين يقولون : أن الأنبياء خبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه! لكنهم حاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله شيء عظيم كبير ، وأن الأبدان تعاد ، وان لهم نعيما محسوسا ، وعقابا محسوسا ، وان كان الأمر ليس كذلك ، لأن مصلحة الجمهور في ذلك ، وان كان كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور!! وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل.

وأما أهل التحريف والتأويل ، فهم الذين يقولون : أن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحقّ في نفس الأمر ، وأن الحق في نفس الامر هو ما علمناه بعقولنا! ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال الى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات!! ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل ، بل يقولون : يجوز أن يراد كذا. وغاية ما معهم امكان احتمال اللفظ.

وأما أهل التجهيل والتضليل ، الذين حقيقة قولهم : ان الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون ، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف [به] نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء! ويقولون : يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلّا الله ، لا يعلمه جبرائيل ولا محمد ولا غيره من الأنبياء ، فضلا عن الصحابة والتابعين لهم باحسان ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٨١٣) طه : ٥. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر : ١٠. (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥ ـ وهو لا يعرف معاني هذه الآيات! بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه الا الله تعالى!! ويظنون أن هذه طريقة السلف!!

ثم منهم من يقول : إن المراد بهذا خلاف مدلولها الظاهر المفهوم ، ولا يعرفه

__________________

(٨١٣) قال عفيفي : انظر «العقل والنقل» لابن تيمية ج ١ ص ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦ الطبعة المفردة «وتفسير ابن كثير» لآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) سورة آل عمران ، الآية (٧).

أحد ، كما لا يعلم وقت الساعة! ومنهم من يقول : بل تجري على ظاهرها!! وهؤلاء يشتركون (٨١٤) في القول بأن الرسول لم يبيّن المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة ، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلا! ثم منهم من يقول : لم يعلم معانيها أيضا! ومنهم من يقول : علمها ولم يبيّنها ، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية ، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص!! فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم ، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الرسول على ما يوافق عقولنا ، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات!! ولا يفهمون السميعات!! وكل ذلك ضلال وتضليل عن سواء السبيل.

نسأل الله السلامة والعافية ، من هذه الأقوال الواهية ، المفضية بقائلها الى الهاوية.

سبحان ربك رب العزة

عما يصفون. وسلام

على المرسلين.

والحمد لله رب

العالمين.

وجد في نهاية الأصل المخطوط ما يلي :

قد تم تحريرها على يد الفقير خادم العلماء الأعلام والمحرري الكتب في جامع مدرسة مرجان عليه الرحمة والرضوان عبد المحيي بن عبد الحميد بن الحاج محمد مكي الشيخلي البغدادي يوم الاثنين التاسع من شهر رجب الأصم من شهور سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بعد الألف.

__________________

(٨١٤) في الاصل : مشركون.

آدم..................................... ١٢٣ ، ١٢٧ ، ١٣٠ ، ٢١٠ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢١.

«... آل محمد»................................................................... ٦٤٩ و ٧٣٩.

«الآن بردت عليه جلدته»................................................................. ٦٤٥.

«آمركم بالإيمان بالله وحده»....................................................... ٤٢٦ ، ٤٦٤.

أبايعك على سنة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................................... ٧٠٦.

إبراهيم (نبي الله عليه‌السلام).................................................... ١٣٨ ، ٢١٠ ، ٥٨٩.

«أبعث من ذريتك بعثا إلى النار».......................................................... ٣٥٠.

«أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»........................................ ٢٥٩ ، (٢٠٣) (١).

إبليس..................................................................................... ١٠٣.

«أبهذا أمرتم ، أم بهذا وكلتم»............................................................... ٧٩٩.

أبو بكر (عبد الله ابن أبي قحافة) ١٣٦ ، ٣٣٤ ، ٣٩٠ ، ٦٧٤ ، ٦٧٦ ، ٦٧١ ، ٦٨٥ ، ٦٨٦ ، ٦٩٢ ، ٧٢٧ ، ٧٢٨.

أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة........................................................... ٧٢٨.

أبو ذر (جندب بن جنادة)................................................................. ٤٦٠.

أبو طالب (عبد مناف بن عبد المطلب)..................................................... ٢٠٤.

أبو عبيدة (عامر بن الجراح)....................................... ٧٢٥ ، ٧٢٦ ، ٧٢٧ ، ٧٢٨.

«أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة»............................................................ ٧٧١.

«اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم».......................................................... ١٦٦.

«اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»..................................................... ٧٥٢.

اتهموا الرأي في الدين..................................................................... (٣٨٥).

__________________

(١) إذا كان الرقم بين هلالين هكذا () فهذا يعني أن الحديث في هذه الصفحة.

وقد جعلنا معه بعض الألفاظ الواردة داخل الأحاديث ، ويحتاج المراجع إليها.

أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم................................................................. (٢٢٩).

أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك.............................................................. ٧٥٨.

الاجتهاد.................................................................................. ٧٩٧.

اجلس بنا نؤمن ساعة...................................................................... ٤١٨.

أحد (جبل)................................................................................ ٧٢٠.

«... الاحسان : أن تعبد الله كأنك تراه».................................................. ٤٦٢.

«... احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك»......................................... ٢٧٤.

أحمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم)................................................................................ ١٢٠.

أخبروني قبل أن نتكلم ... عن سفينة في دجلة.............................................. (٨٥).

الاختلاف في الدين........................................................................ ٨٠١.

«أخسأ فلن تعدو قدرك»................................................................... ١٠١.

أخطأت استك الحفرة.................................................................... (٣٢٤).

أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم............................................... ٣١٤.

«ادعوا لي عليا ، (فأتي به أرمد)»........................................................... ٧١٣.

«ادعي لي أباك وأخاك».................................................................... ٦٧٦.

«ادعي لي عبد الرحمن ابن أبي بكر»........................................................ ٦٧٦.

«إذا اجتهد الحاكم ، فأصاب فله أجران»................................................... ٧٩٧.

إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته..................................................... ٣٢٦.

«إذا أحب الله العبد نادى»................................................................ ٢٧٩.

«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».................................................... ٤٩٨.

«إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار»............................................... ١٦١.

إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء............................................................. ٧٨٤.

«إذا زنا العبد نزع منه الإيمان»............................................................. ٤٠٣.

«إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس»................................................... ٢٩٦.

«إذا صليتم على الميت ، فأخلصوا له الدعاء»............................................... ٤٨٧.

«إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر»........................................................... ٣٧١.

«إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان»............................................................ ٥٢٨.

«إذا كان يوم القيامة ماج الناس»......................................................... (٢٣٤).

«اذا مات ابن آدم انقطع عمله»................................................... ٦٣٦ ، ٦٤٦.

«إذا مت فاستحقوني ثم اذروني»............................................................ ٣٦٥.

«إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين»....................................................... ٣٧.

«... إذ همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها»................................................ ٥١٣ / ١.

«أذن لي أن أحدّث عن ملك»............................................................. ٢٩٨.

«... اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر له»................................................ ٩٥ ، ٢١٠.

«أربع في أمتي ، من أمر الجاهلية».......................................................... ٧٧٢.

«أربع من كنّ فيه كان منافقا»..................................................... ٣٧٢ ، ٤٥٥.

«ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك»............................................................. ٦٩٨.

«ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واسأل تعطه»................................................ (٢٣٩).

ارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة............................................................... ٧١٩.

ارقبوا محمدا في أهل بيته.................................................................... ٧٣٩.

اركان الايمان سبعة....................................................................... (٢٩٩).

«ارم ، فداك أبي وأمي».................................................................... ٧٢٠.

أرواح الشهداء في الجنة................................................................... (٤٠٢).

أرواح الكافرين........................................................................... (٤٠٢).

أرواح المؤمنين............................................................................ (٤٠٢).

ارواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة................................................ (٤٠٢).

«أرى عرشا على الماء»..................................................................... ١٠٣.

«أري الليلة رجل صالح»................................................................... ٦٨١.

«أسألك بحق ممشاي هذا ، وبحق السائلين»................................................. ٢١٢.

الاستسقاء.................................................................... (٢٣٧) ، (٢٨٣).

«استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت»................................................... ٦٣٥.

الاستفتاح.................................................. (١٦٣) ، (٣٦٥) ، ٤٣١ ، (٤٤٠).

الاستواء معلوم ، والكيف مجهول........................................ ٦٦ ، (٢٨١) ، (٤٦٤).

الإسراء............................................................. (٢٢٤) ، (٤٢١) ، (٤٢٣).

اسرائيل........................................................... ١٧٧ ، ٢٦٣ ، ٣٦٤ ، ٧٨٩.

أسري بجسده في اليقظة................................................................... (٢٢٤).

«الاسلام : أن تشهد لا إله إلا الله»....................................................... ٤٦٢.

«الإسلام شهادة : أن لا إله إلا الله»....................................................... ٤٣٠.

«الإسلام علانية والإيمان في القلب»............................................... ٤٢٧ ، ٤٣٤.

إسماعيل (عليه‌السلام)............................................................................ ١٢٥.

أشج عبد القيس (العصري)................................................................. ٦٢١.

«اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه»............................................. ٢١٨.

«أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر»........................................................ ٧٧١.

«أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الاخلاص»............................................... ٣٢.

أصحاب النبي (رضي الله عنهم أجمعين).. ١٩٣ ، ٥٠٣ ، ٦٦٥ ، ٦٦٧ ، ٦٦٩ ، ٦٧٣ ، ٧٩١.

«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم».......................................................... ٦٦٧.

الاطعام عن الميت دون الصيام عنه......................................................... ٦٤٣.

اطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر.......................................................... ٧٥٩.

«اطلعت على أهل الجنة فرأيت»........................................................... ٧٨٥.

«اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء»............................................... ٧٨٦.

الأطيط (حديث).............................................................. (٢٧٨) ، (٢٨٣).

الاعتكاف................................................................................. ٧٣٢.

«اعدد ستا بين يدي الساعة».............................................................. ٧٥٨.

«... أعطيت جوامع الكلم»............................................................... ١٢٢.

«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي»........................................... ١٣٩.

«اعملوا فكل ميسر لما خلق له»............................................................ ٢٤٠.

«أعوذ بالله من عذاب القبر»............................................................. (٣٩٦).

«... أعوذ برضاك من سخطك»............................................ ٧٢ ، ١٤٩ ، ٢٤٩.

«أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد».............................................. ٧٠ ، ١٥٠.

«أعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا»................................................. ٧٣ ، ١٥١.

«أعوذ بكلمات الله التامات»....................................... ٧١ ، ١٤٨ ، ٦٢٦ ، ٧٥٠.

«أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له»......................................................... ٧٤.

«... أعوذ بوجهك ، ... هاتان أهون»..................................................... ٧٩٣.

افتراق الأمة....................................................... ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، ٧٩١.

الإفك................................................................................... (١٧٧).

«اقتدوا باللذين من بعدي»............................................... ٦٧٥ ، ٦٩١ ، ٧١٦.

اقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها...................................... ٧٩٦.

«اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم».......................................................... (٣٨٥).

«أكثر أهل الجنة البله»..................................................................... ٧٨٥.

ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم..................................................... (٨٢).

«ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة»................................................ ٧٠٧.

«ألا تسألوني مم أضحك»................................................................. ١١١.

ألا كل شيء ما خلا الله باطل............................................................ (١٧٩).

«التمسوها في العشر الأواخر من رمضان».................................................. ٧٣٣.

«الله أعلم بما كانوا عاملين»................................................................ ٥٠٦.

«الله الله في أصحابي»...................................................................... ٦٧٣.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).......................................................... ٥٤.

اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................. (١٤٢) ، (١٤٣).

«اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء»......................................... ٤٦ ، ٨١ ، ٣١٠.

«... اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت»..................................................... ١٣٣.

«اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل أليك بنبينا.............................................. (٢٣٨).

«اللهم اني أسألك بكل اسم هو لك»........................................................ ٤٤.

«اللهم اني أسألك بمعقد العز من عرشك».................................................. ٢١٤.

«اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك»....................................... ٧٢ ، ١٤٩ ، ٢٤٩.

«اللهم اني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»...................................................... ٦٣١.

«اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق»............................................ ٣٨ ، ٩٠.

«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل»................................................... ١٧٧.

اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقه............................................................. ا (٣٤٣).

«اللهم صلّ على آل أبي أوفى»............................................................. ٣٣٩.

«اللهم فقهه في الدين».................................................................... ١٨٠.

«اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت»................................................ ٤٣١ ، ٤٣٣.

«اللهم هذا عن أمتي جميعا» (الأضحية).................................................... ٦٤٩.

«اللهم هذا عن محمد وآل محمد»........................................................... ٦٤٩.

«اللهم هؤلاء أهلي»....................................................................... ٧١٤.

«ألم تسمعيه قال (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ)».................................................... ٥٦٣.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر الى وجه ربها عزوجل............................................. (١٩٠).

«أما إني» لا أقول (الم) حرف»......................................................... ١٥٨.

«أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر».................................................. ٧٣٨.

«أما صاحبكم فقد غامر»................................................................. ٦٨٧.

الإمارة.................................................................... ٤٩٣ ، ٤٩٦ ، ٦٨٩.

الأمراء........................................................... ٤٨١ ، ٤٨٦ ، ٤٩٩ ، ٥٠٩.

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا»........................................................ ١٢.

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا»........................................................ ٤٣٢.

«أمرني أن لا أدع قبرا»....................................................................... ١٨.

«أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي».......................................... ١٩٠ ، (٢٢٤).

إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني................................................ ٦٨٤.

«أن تشهد لا إله إلا الله».................................................................. ٤٦٢.

«... أن تعبد الله كأنك تراه».............................................................. ٤٦٢.

«... أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه»............................... ٢٨٣ ، ٣٤٠ ، ٤٦٢ ، ٦٦٣.

«إن لم تجديني فأتي أبا بكر»............................................................... ٦٧٤.

أنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره........................................................... (١٤٧).

«أنا الله مالك الملك»...................................................................... ٥٠٠.

«أنا أول شفيع في الجنة»................................................................... ٢٠٥.

«أنا أول من تنشق عنه الأرض»............................................................ ٥٥٤.

«أنا سيد الناس يوم القيامة»....................................................... ١٢٤ ، ١٩٨.

«أنا سيد ولد آدم ولا فخر»....................................................... ١٢٧ ، ١٣٠.

«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»..................................................... ١٢٣ ، ١٢٧.

«... أنا عند ظن عبدي بي»............................................................... ٣٥٥.

«أنا فرطكم على الحوض»................................................................. ١٩٥.

أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله............................................ (٢١٤).

الانبساط بالقول مع الحق ترك الادب..................................................... (٣١٣).

الأنبياء.................................................................................... ٨٠٣.

«... أنت الأول فليس قبلك شيء».......................................... ٤٦ ، ٨١ ، ٣١٠.

«... أنت الملك لا إله إلا أنت»........................................................... ١٣٣.

أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله................................................... (٤٧٤).

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى»......................................................... ٧١٢.

«... أنت موسى بني اسرائيل»............................................................. ٧٨٩.

«... أنتم مسئولون عني فما ذا انتم قائلون»................................................ ٣١٩.

أنشد عبد الله بن رواحة شعره وأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................... ٣٠٦.

«إنّ إبراهيم خليل الله».................................................................... ١٣٨.

أنّ أبا يوسف لما حج مع هارون الرشيد................................................... (٣٧٦).

«إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».......................................... (٢٠٣) ، ٢٥٩.

«إنّ ابني هذا (الحسن) سيد ، وسيصلح الله به»............................................. ٧١٠.

«إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده».................................................. ٥٨٠.

«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه»....................................................... ٢٤٢.

إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد............................................................. ٢٢٣.

«ان أعمال العباد تصعد إلى السماء»........................................................ ٦٥.

«إن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا»................................................... ٨٠٠.

ان أمي افتلتت نفسها ولم توص............................................................ ٦٤٠.

ان أمي توفيت وانا غائب عنها............................................................. ٦٤١.

ان أمي نذرت أن تحج...................................................................... ٦٤٤.

انّ أنس بن مالك كان يصلي خلف الحجاج.............................................. (٣٧٤).

«انّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم»....................................... ٢٦٥ ، ٥٠٢ ، ٧٩١.

«انّ أول الآيات خروجا طلوعا الشمس».................................................... ٧٦٦.

«انّ أول شيء خلق الله عزوجل القلم»...................................................... ٢٧١.

«انّ أول ما خلق الله القلم»................................................................ ٢٧١.

«انّ أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح»..................................................... ٢٠.

انّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع........................................................... ٤٩٢.

«انّ ربي قد غضب اليوم غضبا»............................................. ٦٧ ، ١٩٨ ، ٦٦١.

انّ رجلا قال : يا رسول الله رأيت كأن دلوا.................................................. ٦٨٢.

«... انّ رحمتي سبقت غضبي»..................................................... ٣٠٨ ، ٦٠٢.

«انّ الروح إذا قبض تبعه البصر»........................................................... ٥١٦.

«انّ السماء تمطر مطرا كمني الرجال»....................................................... ٥٤٧.

«انّ الشيطان ذئب الإنسان».............................................................. ٧٩٢.

إنّ الصلاة من أحسن ما يعمل الناس..................................................... (٣٧٥).

«انّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء»..................................................... ١٥٤.

«انّ العبد إذا وضع في قبره»................................................................ ٥٢٦.

«انّ العبد المؤمن إذا كان في إقبال»...................................... (٣٩٦) ، ٥٢٥ ، ٥٨١.

أنّ عبد الله بن عمر كان يصلي خلف الحجاج............................................. (٣٧٤).

أن عبد الله بن مسعود كان يصلي خلف الوليد بن عقبة................................... (٣٧٤).

«انّ عرشه على سماواته لهكذا»............................................................. ٢٩٥.

«انّ في الجسد مضغة إذا صلحت»......................................................... ٤١٤.

«انّ فيك لخلتين يحبهما الله»............................................................... ٦٢١.

«انّ قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء».................................................. ١٩٢.

ان القرآن اسم للنظم والمعنى.............................................................. (١٨٦).

«انّ الله اتخذني خليلا».......................................................... ١٣٥ ، (٢٩٤).

«انّ الله أخذ الميثاق من ظهر آدم»......................................................... ٢١٩.

«انّ الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل».................................................... ١٢٥.

«انّ الله بعثني إليكم فقلتم»................................................................ ٦٨٧.

«انّ الله تجاوز لأمتي عما حدّثت».......................................................... ١٥٦.

«انّ الله تعالى يقول لأهل الجنة»........................................................... ٦٦٢.

«انّ الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله»............................................ ٣٩٨.

«انّ الله خلق آدم عليه‌السلام ثم مسح ظهره».................................................... ٢٢٠.

«... ان الله خلق للجنة أهلا»............................................................. ٦٠٨.

«انّ الله خلق لوحا محفوظا»................................................................ ٢٧٠.

«انّ الله سيخلص رجلا من أمتي».......................................................... ٥٦٧.

«انّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها»........................................................ ٣٤٧.

«انّ الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال»........................................................ ٢٤٧.

«انّ الله لا يخفى عليكم».................................................................. ٧٦١.

«انّ الله لا يقضي يوم السبت».......................................................... (٢٧٠).

«انّ الله لا ينام ولا ينبغي له»....................................................... ٥٢ ، ١٧١.

انّ الله نظر في قلوب العباد................................................................. ٦٧٢.

«انّ الله يحب أن يؤخذ برخصه»............................................................ ٢٤٨.

«انّ الله يحدث من أمره ما يشاء».......................................................... ١٥٥.

«انّ الله يستحيي من عبده إذا رفع»........................................................ ٣١٧.

«انّ الله تعالى يقول لأهل الجنة»........................................................... ٦٦٢.

«انّ لأنفسكم عليكم حقا وإنّ لأعينكم».................................................. ٨٠٦.

«انّ لكل أمة أمينا»....................................................................... ٧٢٥.

«انّ لكل نبي حوضا»...................................................................... ١٩٧.

«انّ لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد»....................................................... ١٢٠.

«انّ معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء»................................................. ٥١١.

«انّ الملائكة قالت : يا ربنا»............................................................... ٣٥٢.

انّ من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه...................................................... (١٨٧).

«انّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور»..................................................... ٢١.

«انّ المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته».................................................... ٤٢٥.

«انّ المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا»............................................... ٣٩١ ، ٥٧٨.

«انّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه»....................................................... ٧٧٧.

«... انّ الناس يصعقون».................................... ١٢٦ ، ٢٩٧ ، ٥٥٣ ، ٥٥٣ / ١.

«إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة»....................................... ٥١٨ ، ٥٣٩.

«انّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف».................................................... ١٥٢.

... انّ هذا والذي جاء به موسى عليه‌السلام..................................................... ١٠٧.

انّ هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح...................................................... (٨١).

«انّ هذه الأمة تبتلى في قبورها»........................................................... ٥٣١.

«إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد»........................................................... ٨٠٣.

إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم................................................................ ٢٥٧.

«انكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر».................................... ١٧٨ ، (١٩٣).

«انكم سترون ربكم عيانا»........................................................ ١٦٣ ، ١٧٣.

«... انما الأعمال بالخواتيم»............................................................. (٢٤٨).

«انما الأعمال بالنيات»................................................. ١٤٤ ، ٤٤٤ ، (٥٢٢).

«انما ذلك العرض وليس أحد يناقش»...................................................... ٥٥٢.

«انما نسمة المؤمن طائر تعلق»............................................. ٥١٨ ، ٥٣٩ ، ٥٨٦.

«انما هلك من كان قبلكم باختلافهم»..................................................... ٨٠١.

«انه أنزلت عليّ آنفا سورة (الكوثر)»....................................................... ١٩٤.

«انه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون»....................................................... ١٢١.

انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسري بجسده في اليقظة.......................................................... (٢٢٤).

انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بعينه.......................................................................... ١٦٩.

انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بقلبه (١)..................................................................... (١٩٧).

«انه عنده فوق العرش»............................................................ ٣٠٨ ، ٣١٦.

أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع............................................................. ٤٦٨.

«أنه لا يأتي بخير ، وانما يستخرج به من البخيل» (النذر)...................................... ٩٣.

«انه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة»............................................... ٥٦٩.

أنه نهى عن النذر............................................................................ ٩٣.

«انه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن»................................................... ٥٨.

«انه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون»................................................. ٥٩.

«انها توضع في الميزان»....................................................................... ٦٠.

«انها ستكون فتن»............................................................................ ٣.

«انها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات»................................................. ٧٥٩.

«انهم يأتون آدم ، ثم نوحا ثم ابراهيم»...................................................... ٢١٠.

__________________

(١) من الأمور التي اختلف فيها الناس مسألة العلو لله العزيز جل شأنه ، ومن أحسن ما كتب في هذا كتاب «العلو» للامام الذهبي ، وقد قام استاذنا الألباني باختصاره وشرحه فانظره فإنه نافع إن شاء الله.

«انهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير»...................................................... ٥٢٧.

«إني أبرأ إلى كل خليل من خلته»................................................ ١٣٧ ، (٢٩٤).

«اني رأيت الجنة ، وتناولت عنقودا»........................................................ ٥٨٣.

«أني فرطكم على الحوض»................................................................. ١٩٦.

إني قد خشيت على نفسي»............................................................... ١٠٥.

إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان............................ (٤٨١) ، (٤٨٥).

«اني لأرجو أن أكون أخشاكم لله»......................................................... ٤٣٨.

«اهدأ فما عليك إلا نبي ، أو صديق»...................................................... ٧٢٩.

أهل الكتاب.............................................................. ٢٦٥ ، ٥٠٢ ، ٧٩٠.

أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................................................ ٧٣٨.

أهلي...................................................................................... ٧١٤.

«أوحي إليّ أن تواضعوا»................................................................... ١٣٤.

أوصى ابن عمر أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة........................... (٤٥٨).

«أوصيكم بالسمع والطاعة ، فانه من يعش»....................................... ٥٠١ ، ٧١٥.

«أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة».............................................. ٦٠٨ ..

«أول ما خلق الله القلم»......................................................... (٢٦٥) ، ٢٧١.

«أول الآيات خروجا طلوع الشمس»....................................................... ٧٦٦.

«... أول من يفيق»............................................................... ١٢٦ ، ٢٩٧.

«أو مسلما».............................................................................. ٤٣٥.

أي أرض تقلني وأي سماء تظلني........................................................... (٣٨٥).

أي : عم اسمع من ابن اخيك ما يقول...................................................... ١٠٨.

أي الناس أحب أليك ... «عائشة»................................................ ٣٣٧ ، ٦٨٦.

أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم..................................................... (٢٩٤).

«أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي».................................................. ٧٣٨.

«الايمان : إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك»........................................... ٤٢٥.

«... الايمان : أن تؤمن بالله وملائكته»..................................................... ٤٦٢.

«الايمان بضع وسبعون شعبة»...................................................... ٤٠٦ ، ٤١٢.

الإيمان يزيد وينقص؟ فقال : «لا»......................................................... ٤١٥.

«أين الله؟» (١)............................................................................ ٣٢٠.

أين الناس يوم تبدل الارض................................................................. ٥٦٠.

«إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده».................................................... ٦٩٤.

«ب»

باسم الابن والأب والروح القدس............................................................. ٨٠.

بدر ـ المعركة ـ.............................................................................. ٧٣١.

«البذاذة من الإيمان»....................................................................... ٤٠٩.

«بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني»..................................................... ٦٤٨.

البطاقة.......................................................................... (٣٣٥) ، ٥٦٧.

البغي...................................................................................... ٧٧٠.

بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت................................................ (٤٠٢).

البهاء..................................................................................... ١٦٠.

البيعة..................................................................... ٤٩٨ ، ٦٧١ ، ٧٣٠.

«بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة»...................................................... ٣٧٤.

«بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل»........................................................... ٣٥٦.

«بينا أنا نائم رأيتني على قليب»................................................... ٦٧٨ ، ٦٩٣.

«بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع»...................................... ١٤١ ، ٣٠٩ ، ٣٢٢.

بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................................ ٣٤٢.

بينما يهودي يعرض سلعة له............................................................... ١٢٨.

__________________

(١) هذا حديث الجارية التي سألها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو من الأحاديث التي ينكرها البعض من غير حجة ولا دليل. وانظر «مختصر العلو» الصفحة (٨١) لشيخنا الألباني

.

«ت»

«... تارك فيكم ثقلين»................................................................... ٧٣٨.

التثليث.................................................................................... (٨٠).

«تخلقوا بأخلاق الله»........................................................................ ٥١.

ترك الناس العمل بهذه الآية (وَإِنْ طائِفَتانِ)............................................. (٥١٣).

«ترى عرش إبليس على البحر»............................................................ ١٠٣.

«تفرقت اليهود على احدى وسبعين فرقة».................................................. ٢٦٤.

تقدير يوم القيامة ب ٥٠٠٠٠ سنة........................................................ ٦٠٤.

«تقول النار للمؤمن يوم القيامة»........................................................... ٥٦٦.

تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه....................................................... (٧١).

«تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني»...................................................... ٧٦٩.

«تلك محض الإيمان» ـ الوسوسة ـ........................................................... ٢٥٨.

التوسل.................................................................... ٢١٢ ، ٢١٤ ، ٢٣٨.

«توشكون أن تعلموا أهل الجنة».......................................................... (٣٧٨).

«توضع الموازين يوم القيامة»................................................................ ٥٦٨.

«ث»

«ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل».......................................................... ٤١٩.

«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان».................................................... ٥٠٤.

الثلاثة الذين آووا الى الغار................................................................ (٢٣٨).

«... ثم انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى».......................................... ٥٧٩.

«... ثم يفتح له باب الى النار فينظر»............................................. ٥٢٥ ، ٥٣٢.

«ثمن الكلب خبيث»...................................................................... ٧٧٠.

«... الثناء الحسن والثناء السيئ».......................................................... ٤٨٩.

«ثنتان في أمتي بهم كفر : الطعن».......................................................... ٣٧٧.

الثنوية..................................................................................... (٨٠).

«ج»

جاء أهل نجران إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................................... ٧٢٦.

«جئت أنا وأبو بكر وعمر»................................................................ ٦٩٢.

جئناك لنتفقه في الدين....................................................................... ٧٩.

جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر........................................................ (١٣٥).

الجاهلية.................................................................................... ٧٧٢.

الجبت : السحر.......................................................................... (٥٠٤).

جبرائيل....................... ١٧٧ ، ٣٤٢ ، ٣٥٦ ، (٣٦٢) ، ٤٢٨ ، ٤٦٢ ، ٤٦٦ ، ٥٧٩.

«... الجماعة : ما أنا عليه وأصحابي»..................................... ٢٦٣ ، ٥٠٣ ، ٧٩١.

الجمعة..................................................................................... ٧٨٨.

«... الجنة ... إلا الدّين».................................................................. ٥٣٦.

الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا................................................... (١٣٢) (١).

«جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما»..................................................... ١٦٤.

«ح»

«حجابه النور ، ولو كشفه لأحرقت».............................................. ١٧١ ، ١٨٣.

«حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك».................................................. ٦٤٤.

حراء...................................................................................... ٧٢٩.

الحسن بن علي (رضي الله عنهما).......................................................... ٧١٠.

حق الأهل................................................................................. ٨٠٦.

حق العين.................................................................................. ٨٠٦.

حق النفس................................................................................ ٨٠٦.

__________________

(١) أنظر رسالة الأمير الصنعاني «رفع الأستار لابطال أدلة القائلين بفناء النار» وهي بتحقيق شيخنا الألباني طبع المكتب الإسلامي.

حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال................................. (٧٥) ، (٢١٠).

«... حلوان الكاهن خبيث»............................................................... ٧٧٠.

الحلول والاتحاد............................................................................. (٧٨).

الحوض........................................................... ١٩٢ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ١٩٧.

الحياء...................................................................................... ٧٠٧.

«الحياء شعبة من الايمان».................................................................. ٤٠٧.

«خ»

خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس يتكلمون في القدر.............................................. ٢٦١.

خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المصلى يستسقي.................................................... ٣٣٢.

الخزرج..................................................................................... ٢٤٤.

خسوف الشمس على عهد رسول الله..................................................... (٤٢١).

«خلافة النبوة ثلاثون سنة»........................................................ ٦٨٣ ، ٧٠٩.

«خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك».......................................................... ٦٨٠.

«خلقت عبادي حنفاء»..................................................................... ٢٤.

«خلقك الله بيده وأسجد لك»............................................................. ١٨٢.

خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع............................................................... ٤٩٢.

«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم»............................................ ٤٩٩ ، ٥٠٩.

«... الخير كله بيديك ، والشر ليس إليك»...................................... (٣٦٥) ، ٦١٤.

«خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم»........................................................ ٦٧٠.

«د»

الدجال.................................................................................... ٧٦٢.

دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعكاشة............................................................... ٢٠٣.

دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى جنازة صبي......................................................... ٦٠٨.

«الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة»....................................................... ٣٨٤.

«ذ»

ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالاحاطة.............................................. (٢١٩).

«ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان»................................................... ٧٩٨.

«ذلك صريح الإيمان»...................................................................... ٢٥٧.

«ر»

رآه بعينه................................................................................... ١٦٩.

رآه بقلبه................................................................................. (١٩٧).

«رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها»........................................................ ٦٥.

«... رأيت الجنة وتناولت عنقودا»........................................................ (٤٢١).

«رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة».................................................. ٥٣٧.

رأيت عمر قبل أن يصاب بأيام بالمدينة................................................... (٤٧٨).

«رأيت في مقامي هذا كل شيء»........................................................... ٥٨٢.

«رأيت نورا»............................................................................. (١٩٧).

رأيت يد طلحة التي وقى بها الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم................................................... ٧٢١.

«ربنا لك الحمد».......................................................................... ٤٦٨.

«... رحمتي سبقت غضبي»........................................................ ٣٠٨ ، ٦٠٢.

الرخص.................................................................................... ٨٠٤.

الرزق........................................................................................ ٨٩.

الرسل من بني آدم........................................................................ (١٦٦).

رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بالأمر.................................................. (٢٦٧).

الرقية...................................................................................... ٧٧٨.

رهبان....................................................................................... ٣٣.

الرؤية...................................................................................... ١٦٠.

«ز»

الزبير (رضي الله عنه).............................................................. ٧٢٧ ، ٧٢٨.

الزنى....................................................................................... ٥٢٢.

زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق..................................................... ٣١٣.

«زينوا القرآن بأصواتكم».............................................................. ١٥١ / ١.

«س»

«سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله»........................................................... ٣٠٤.

«سباب المسلم فسوق».................................................................... ٣٦٩.

سبحان الله! تراني في كنيسة.............................................................. (٣٥٥).

«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك»............................................................ ١٧٩.

سبيل الله.................................................................................. ٨١٠.

«... ستفترق (هذه الأمة) على ثلاث وسبعين ملّة»........................................ ٥٠٢.

سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)......................................................... ٧١٩.

سعد بن زيد (رضي الله عنه)....................................................... ٧٢٧ ، ٧٢٨.

سعد بن مالك (رضي الله عنه)..................................................... ٧٢٧ ، ٧٢٨.

«السلام على أهل الديار من المؤمنين»..................................................... ٦٣٨.

«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين»................................................... ٦٣٦.

«... السمع والطاعة»...................................................................... ٧١٥.

السنة ما سنه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................................ (٣٨٥).

السنة النبوية....................................................................... ٤٩٥ ، ٥٦٥.

«ش»

شعب الإيمان......................................................... (٣٤٣) ، (٣٥٩) ، ٤٠٦.

الشفاعة ٦٧ ، ٩٥ ، ١٢٤ ، ١٨٢ ، ١٩٨ ، ٢٠٥ ، (٢٣٤) ، (٢٣٥) ، ٦٠٦ ، ٦١٥ ، ٦٦١.

«شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».......................................................... ٢٠٦.

«... شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون».................................... ٢٠٩.

شهد الله بتدبيره العجيب.................................................................. (٩١).

الشيطان................................................................................... ٧٩٢.

«ص»

الصدقة عن الميت.................................................................. ٦٤٠ ، ٦٤١.

صلاة الاستخارة............................................................................. ٣٧.

الصلاة (١) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.................................................................. ٣٣٨.

«الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم»...................................................... ٤٨٠.

«صلة الرحم تزيد في العمر».................................................................. ٨٩.

«صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا»......................................................... ٦١١.

«صلوا خلف كل برّ وفاجر»............................................................... ٤٧٩.

«صلوا خلف من قال : لا إله إلا الله»...................................................... ٤٨٢.

صلى عمر وهو جنب ناسيا................................................................ ٤٨٥.

صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيد الأضحى.................................................... ٦٤٨.

«صنفان من بني آدم ليس لهم في الاسلام»................................................. ٢٨٧.

صوامع...................................................................................... ٣٣.

الصّور..................................................................................... ١٩٩.

«ض»

«ضع يدك على الذي تألم من جسدك»...................................................... ٧٠.

الضلال........................................................................... ١٧٤ ، ٧٩٩.

__________________

(١) لقد جمع القاضي اسماعيل بن اسحاق الجهضمي المالكي المتوفى سنه ٢٨٢ ، الأحاديث الواردة في «فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقد قام أستاذنا محمد ناصر الدين الألباني بتخريجها والتعليق عليها ، وطبعها في المكتب الإسلامي.

«ط»

الطاعة............................................................ ٤٩١ ، ٤٩٢ ، ٥٠١ ، ٧١٥.

طلحة (رضي الله عنه)............................................................. ٧٢٧ ، ٧٢٨.

«الطهور شطر الإيمان»..................................................................... ٥٧٢.

«ع» و «غ»

عائشة (أمّ المؤمنين رضي الله عنها)........................................ ٣٨٢ ، ٦٠٨ ، ٦٨٦.

«عائشة ... أبوها ... عمر وعدّ رجالا».................................................... ٦٨٦.

عبد الرحمن بن أبي بكر (رضي الله عنه)..................................................... ٦٧٦.

عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه)............................................... ٧٢٧ ، ٧٢٨.

عبد مناف............................................................................ ٢١٨ / ١.

عثمان بن عفان (رضي الله عنه)................................................... ٧٢٧ ، ٧٢٨.

«عجبا لأمر المؤمن ، ان أمره كله خير»..................................................... ١١١.

العجم..................................................................................... ٤٦١.

عذاب القبر.............................................................................. (٣٩٦).

العراف............................................................................ ٧٦٧ ، ٧٦٨.

العرب..................................................................................... ٤٦١.

«العرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله».......................................... ٢٩٤ ، ٣٠٥.

عرضت المصحف على ابن عباس ، من أوله الى آخره...................................... (٢١٤).

«عشرة في الجنة : النبي في الجنة»......................................................... (٤٨٧).

عكاشة بن محصن.......................................................................... ٢٠٣.

علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة................................................ (١١٨).

«على مثلها فاشهد»........................................................................ ٢٩.

«على المرء المسلم السمع والطاعة»......................................................... ٤٩٤.

العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم......................................... (٧٥).

«علّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك»......................................................... ٥٦٥.

علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)......................................... ٧١٣ ، ٧٢٧ ، ٧٢٨.

«عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي»...................................................... ٩٨.

عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)......... ٥٠٧ ، ٦٨٦ ، ٦٩٢ ، ٦٩٤ ، ٦٩٦ ، ٧٢٧ ، ٧٢٨.

عملوا ـ والله ـ بالطاعات واجتهدوا فيها.................................................... (٣٢٥).

عيسى (عليه‌السلام)............................................................................. ٧٩٠.

«العينان تزنيان وزناهما النظر».............................................................. ٤٠٤.

الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت.................................................. (٣٦١).

«ف»

«فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب».......................................................... ٢٠١.

«فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا».................................................. ٨٠٠.

«... فإن الناس يصعقون فأكون أول».............................................. ١٢٦ ، ٢٩٧.

«فداك أبي وأمي»................................................................. ٧٢٠ ، ٧٢٤.

الفراسة.................................................................................... ٧٥٢.

«فرغ الله عزوجل من المقادير وأمور الدنيا».................................................... ٨٠.

«فضلت على الأنبياء بست : أعطيت».................................................... ١٢٢.

«... فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»..................................................... ٤٩٧.

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ)..................................................... (٤٨٤).

«... فلا أدري أفاق قبلي»....................................... ١٢٦ ، ٢٩٧ ، ٥٥٣ ، ٥٥٥.

«فلا يطمع في هذا الأمر طامع»......................................................... (٤٧٢).

«فما عرفتم منه فاعملوا به»................................................................ ٨٠٢.

... فيعطون نورهم على قدر أعمالهم........................................................ ٥٦٢.

«ق»

«قاربوا وسددوا فكل ما يصاب به المسلم».................................................. ٣٩٠.

«قال الله عزوجل : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها».................................. ٥١٣ / ١.

«قالت الملائكة : ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة»....................................... ٥١٣ / ٢.

قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا بخمّ.......................................................... ٧٣٨.

«قبض أرواحكم وردها عليكم»............................................................ ٥١٧.

«قد أردت منك ما هو أهون من ذلك».................................................... ٢٢٧.

«... قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم»............................................ ١٩٠.

«قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»....................................... ١٩٠ ، (٢٢٤).

«قد خبأت لك خبأ ، فقال : هو الدّخّ»................................................... ١٠١.

«قد سألت الله لآجال مضروبة».............................................................. ٨٨.

«قد كان في الأمم قبلكم محدثون».......................................................... ٦٩٥.

قد نظرت إلى القراءة فرأيت قراءتهم....................................................... (٣١٥).

القدر نظام التوحيد................................................................ ٢٤٥ ، ٢٨٨.

«القدرية : مجوس هذه الأمة»...................................................... ٢٨٤ ، ٨٠٩.

«قدّر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن»......................................... ٨٠ ، ٨٧ ، ٢٨١.

القرآن.............................................................. ٥٩ ، ٧١ ، (١٧٦) ، ٧٣٨.

القرآن في المصاحف مكتوب.............................................................. (١٧٦).

قريظة...................................................................................... ٧٢٤.

«قل آمنت بالله ثم استقم»............................................................... (٥١٨).

«قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»................................................. ٦٣١.

«قوم يسنون بغير سنتي ويهدون»........................................................... ٤٩٥.

«ك»

«كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج»...................................................... ٢٤٤.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح قال................................................................ ٣٢.

كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول ربنا لك الحمد........................................... ٤٦٨.

«كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء»....................................................... ٧٩.

«كان الله ولا شيء قبله»................................................................ (١٣٥).

«كان الله ولم يكن شيء قبله»..................................................... ٧٩ ، (١٣٥).

«كان الله ولم يكن شيء معه»..................................................... ٧٩ ، (١٣٥).

«كان رجلان في بني اسرائيل متواخيين».................................................... ٣٦٤.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حراء............................................................. ٧٢٩.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجعا كاشفا عن فخذيه............................................ ٧٠٧.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا................................................ ٤٦.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا إذا أصبحنا....................................................... ٣٢.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم......................................... ١٧٩.

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في ركعتي الفجر............................................................ (٣٦٢).

«كان عرشه على الماء»........................................................... ٨٠ ، (١٣٥).

كان عمر لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة......................................... (٣٧٧).

كان الناس يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخير............................................... (٣٨٠).

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان............................................... ٧٣٢.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقبل القبلة في دعائه..................................................... ٣٣٢.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة........................................................ ٣٧.

«كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم»................................................................. ٣.

الكتابيون.................................................................................. ٥٠٢.

«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق»............................................ ٨٠ ، ٢٧٢.

كثرة السؤال............................................................................... ٧٩٨.

«كذبت ، لا يدخلها فإنه شهد بدرا»...................................................... ٧٣١.

الكرسي موضع القدمين ٢٩٩.

«كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب»..................................................... ٥٤٥.

«كل مولود يولد على الفطرة»................................................................ ٢٣.

«كل مولود يولد على الملة»................................................................ (٨٤).

«كل مولود يولد على هذه الملة»........................................................... (٨٤).

«كلا كما محسن لا تختلفوا فإن من كان قبلكم»................................... ٣٦٠ ، ٧٩٥.

كلا والله لا يخزيك الله ، انك لتصل الرحم.................................................. ١٠٦.

الكلب.................................................................................... ٧٧٠.

«كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان على الرحمن»....................................... ٥٧٣.

كنّا اذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا................................................ (٢٣٨).

كنانة...................................................................................... ١٢٥.

كنّا نصلي يوما وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رفع رأسه................................................. ٦٥.

كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي ، أفضل أمة النبي............................................ ٧١٨.

الكهانة........................................................................... ٣٧٥ ، ٧٦٩.

«ل»

«لأبعثن إليكم رجلا أمينا»................................................................ ٧٢٦.

«لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله»................................................. ٧١٣.

«لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة».................................................... ٢١٨ / ٢.

«لا إله إلا الله العظيم الحليم».............................................................. ٢٩٣.

«لا ، الإيمان مكمل في القلب»............................................................ ٤١٥.

«لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا».......................................................... ٧٧٨.

«لا ، بل فيما جفت به الأقلام».................................................. ٢٤٠ ، ٢٧٣.

«لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم»...................................................... ٢٨٦.

«لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس»............................................ ١٢٨ ، ٥٥٣ / ١.

لا تخيروني على موسى...................................................................... ١٢٦.

«لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»....................................... ٣٧٠.

«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق».................................................... ٦.

«لا تسبوا أحدا من أصحابي».............................................................. ٦٦٥.

لا تسبوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................................... ٦٦٩.

«لا تشددوا فيشدد الله عليكم».............................................................. ٣٣.

«لا تفضلوا بين أنبياء الله»................................................................ ١٢٨.

«لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون»............................. ١٢٦ ، ١٢٩ ، ٢٩٧.

«لا تفضلوني على يونس بن متى».......................................................... ١٣١.

«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس»...................................................... ٧٦٥.

«لا تلعنه ، فو الله ما علمت ، إنه يحب الله ورسوله»........................................ ٣٦٦.

«لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر»...................................................... ٩٣.

لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها.................................................. ٤٤٦.

«لا تؤمنوا حتى تحابّوا»..................................................................... ٤٢١.

«لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي»................................................ ٤٦١.

«... لا مانع لما أعطيت»................................................................ (٣٦٨).

«... لا نبي بعدي»....................................................................... ٧١٢.

«لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل»........................................................ ٣٨٢.

لا يجهل ، ولا يجهل...................................................................... (١٤١).

«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد»........................................................... ٤٩٠.

«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»........................................... ٦٧١ ، ٧٣٠.

«لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله»................................................... ٣٩٩.

«لا يرد القدر إلا الدعاء»................................................................... ٩٢.

«لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة»............................................... ٧٣٦.

«لا يزال أمر الناس ماضيا»................................................................ ٧٣٥.

«لا يزال هذا الأمر عزيزا»................................................................. ٧٣٦.

«لا يزني الزاني حين يزني»......................................... ٣٧٣ ، ٤٠٢ ، ٤٢٠ ، ٥٢٢.

«... لا يزيد في العمر إلا البر».............................................................. ٩٢.

«لا يسمع بي رجل من هذه الأمة»......................................................... ١٤٠.

لا يشبه شيئا من خلقه ، ولا يشبهه شيء من خلقه....................................... (١١٧).

«لا يصلي أحد عن أحد»......................................................... ٦٣٤ ، ٦٤٣.

«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه»................................................ ٣٩٤.

لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير................................................. ١٣٢ ، (١٦٣).

لا ينبغي لعبد لي................................................................ ١٣٢ ، (١٦٣).

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده»........................................... ٤١٧.

«... لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك»................................................. ٦٦٢.

«لبيك وسعديك والخير كله في يديك»..................................................... ٦١٥.

«لبيك وسعديك والخير كله في يديك»..................................................... ٦١٤.

«لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها»......................................................... ٢٦٢.

«لتتبعن سنن من كان قبلكم».............................................................. ٨١٢.

اللعن............................................................................... ١٩ ، ٨٠٠.

لعن الله عمرو بن عبيد................................................................... (٥٢٤).

«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور»....................................................... ١٩.

«لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا»........................................................... ٦٥.

لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام............................................ (٢٠٩).

«لقد حكمت فيهم بحكم الملك».......................................................... ٣١٢.

«لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها».................................................. ٤٦٨.

لقد قفّ شعري مما قلت.................................................................. (١٩٦).

«لقيت إبراهيم ليلة أسري بي».............................................................. ٥٨٩.

«لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة»...................................................... ٢٨٥.

«لكل نبي حواريّ ، وحواريي الزبير»........................................................ ٧٢٣.

لم ضحكت؟ فقال : «إنه انزلت علي آنفا سورة الكوثر».................................. (٢٢٧).

«لم لطمت وجهه؟»........................................................................ ١٢٨.

لم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض تلك الأيام.............................................. ٧٢٢.

لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر................................................ (٣٨٦).

«لما أصيب إخوانكم جعل الله أرواحهم».................................................... ٥٣٨.

«لما خلق الله آدم مسح على ظهره»........................................................ ٢٢١.

«لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل».................................................... ٥٨٨.

«لما خلق الله القلم»..................................................................... (٢٦٥).

«لما قضى الله الخلق كتب في كتاب»............................................... ٣٠٨ ، ٦٠٢.

«لن يدخل أحد الجنة بعمله»............................................................... ٦١٣.

«لن ينجي أحدا منكم عمله».............................................................. ٦٣٠.

«لو أن الله عذّب أهل سماواته»............................................................. ٦٢٩.

«لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما»................................................. ٧٩٠.

«لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه»....................................................... ١٧١.

«لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا».................................. ١٣٦ ، ٣٣٤ ، ٦٧٩.

«لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله».......................................................... ٥٣٠.

لو لا ذلك لأبرز قبره....................................................................... (٨٢).

«لو لبث أهل النار في النار» (١).................................................................................................... ٦٠١.

«لو لم تذنبوا لذهب الله بكم»............................................................. ٢٥١.

لو همّ رجل في البحر أن يكذب في الحديث............................................... (٣٥٦).

«ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل»................................................ ٢٦٣.

«ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني».................................................... ٧١٩.

«ليردنّ علي ناس من أصحابي»............................................................ ١٩٣.

«ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك»................................................ (٤١٢).

«ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني........................................................ (٣٣٩).

«ليس الخبر كالمعاينة»...................................................................... ٤٠١.

__________________

(١) أنظر رسالة «رفع الأستار» طبع المكتب الإسلامي

.

ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم...................................................... (١٣٩).

«ليس المخبر كالمعاين»..................................................................... ٤٠١.

«ليس وراء ذلك من الإيمان»............................................................. (٣٤٠).

«ليسوا بشيء» ـ الكهان ـ.................................................................. ٧٦٩.

«م»

«ما أنا عليه وأصحابي»................................................... ٢٦٣ ، ٥٠٣ ، ٧٩١.

«ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه»................................................... ٨٠٤.

«ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا»...................................................... ٨٠٤.

«ما تذاكرون ، ... أنها لن تقوم»........................................................... ٧٥٩.

«... ما ترددت في شيء أنا فاعله»....................................... ٤٥٨ ، ٥٠٥ ، ٧٥٣.

ما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل.................................................... ٦٦٨.

«ما تعدون المفلس فيكم»................................................................. ٣٧٩.

ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد....................................................... ٣٥١.

ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث...................................................... (٣٥٥).

ما السماوات السبع والأرضون السبع..................................................... (٢٨١).

«ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه»........................................................ ١٧٥.

ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد.................................................. ٣٠٠.

ما لا نفس له سائلة....................................................................... ٥١٩.

«ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض»................................................. ٢٦١.

«ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب».................................................... ٧٣٤.

«ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي الله»................................................. ٤٥٧.

«ما من رجل يدعو الله بدعوة»............................................................ ٦٥٦.

«ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال»................................................. ٧٦٢.

«ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب»....................................................... ٢٣٩.

«ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه».................................................. ٥١٢.

«ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب»................................................... ٣٨٨.

مانوية..................................................................................... (٨٠).

«مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن»................................................... ١١٩.

مجوس............................................................ (٨٠) ، ٢٨٤ ، ٢٨٥ ، ٨٠٩.

المحدثون.................................................................................... ٦١٥.

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.......................................................... ٩٥ ، ١٢٠ ، ١٩٦ ، ٦٤٩.

«مروا أبا بكر فليصلّ بالناس».............................................................. ٦٧٧.

معاذ بن جبل (رضي الله عنه).............................................................. ٢١١.

«... ملء السماوات وملء الأرض»........................................................ ٤٦٩.

الملائكة عليهم‌السلام............................................................................. ٧٠٧.

«مم تضحكون»........................................................................... ٥٧١.

«من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه».......................................... ٣٧٥ ، ٧٦٧ ، ٧٦٨.

«من أتى عرافا فسأله عن شيء»........................................................... ٧٦٧.

«من أتى كاهنا فصدقه»................................................... ٣٧٥ ، ٧٦٧ ، ٧٦٨.

«من أحب أن يبسط له في رزقه»............................................................ ٨٩.

«من أحب لله ، وأبغض لله»............................................................... ٤١١.

«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»........................................... (٥٠٧).

«من أرضى الله بسخط الناس»............................................................. ٢٧٨.

«من أطاعني فقد أطاع الله»................................................................ ٤٩١.

«من البهاء والحسن (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)».................................................. ١٦٠.

«من التمس رضى الله بسخط الناس»...................................................... ٢٧٨.

«من التمس محامد الناس بمعاصي الله»..................................................... ٢٧٨.

«من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر».................................................. ٧٨٨.

من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب.................................................. (١٩٦).

«من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه»........................................... ٢٦٨ ، ٣٤٥.

«من حلف بغير الله فقد كفر»..................................................... ٢١٣ ، ٣٧٦.

«من حمل علينا السلاح فليس منا»........................................................ ٤٢٣.

من خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.......................................................... ٦٩٠.

«من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر».................................................... ٤٩٦.

«من رأى منكم رؤيا»..................................................................... ٦٨٠.

«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده»........................................................ ٤١٠.

«... من رغب عن سنتي فليس مني»....................................................... ٨٠٤.

«من سرته حسنته وساءته سيئته».......................................................... ٥٢١.

من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر.......................................... (١١٧) ، (١٣٨).

«من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا»....................................................... ٣٥٩.

من طلب الدين بالكلام تزندق........................................................... (٢٠٩).

من طلب العلم بالكلام تزندق............................................................. (٧٥).

«من طلب محامد الناس بمعصية الله»....................................................... ٢٧٨.

«من عادى لي وليا»...................................................... ٤٥٨ ، ٥٠٥ ، ٧٥٣.

«من عمل عملا ليس عليه أمرنا».......................................................... ٧٧٩.

«من غشنا فليس منا»..................................................................... ٤٢٢.

«من فارق الجماعة شبرا»................................................................... ٤٩٧.

من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه............................................................ (٣٤٣).

«من قال اني خير من يونس بن متى».......................................... (١٦٢) ، (١٦٣).

«من قال : سبحان الله وبحمده»........................................................... ٥٩٠.

«من قال في القرآن برأيه فليتبوأ»........................................................... ١٦٦.

«من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ»....................................................... ١٦٧.

«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة»...................................................... ٣٤١.

«من كان آخر كلامه لا إله إلا الله».......................................................... ١٣.

«... من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»............................................. ٥٠٤.

من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات........................................ (٣٨٣ ، ٤٧٠).

«من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة»...................................................... ٣٧٨.

من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ...................................................... (٢٠١).

من لم يتوقّ النفي والتشبيه زلّ............................................................ (٤٦٤).

«من لم يسأل الله يغضب عليه»............................................................ ٦٥٣.

من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى................................................... (٤٨٥).

«من مات وعليه صيام صام عنه وليه»..................................................... ٦٤٢.

«من هذا؟» فقال سعد بن أبي وقاص....................................................... ٧١٩.

من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد................................................. (١١٨).

«من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم»........................................................ ٧٢٤.

«من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس».......................................................... ٥٩٧.

منا أمير ومنكم أمير........................................................................ ٦٨٩.

المنكر..................................................................................... ٧٧٧.

«... مهر البغي خبيث»................................................................... ٧٧٠.

«مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم»................................................. ١٧٤ ، ٧٩٩.

«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله»......................................................... ٣٥٤.

الموت...................................................................................... ٥٧٦.

موسى عليه‌السلام............ ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٢٦ ، ١٢٩ ، ٢٩٧ ، ٥٥٥ ، ٧١٢ ، ٧٨٩ ، ٧٩٠.

ميكائيل عليه‌السلام............................................................................. ١٧٧.

«ن»

الناس في حجور علمائهم كالصبيان....................................................... (١٠٥).

ناظروا القدرية بالعلم..................................................................... (٢٧١).

ندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم الخندق..................................................... ٧٢٣.

النذر........................................................................................ ٩٣.

«نزل إلى السماء الدنيا»................................................................... ١٨٥.

«نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة».................................. ٥١٨ ، ٥٣٩ ، ٥٨٦.

النصارى........................................................... ١٩ ، (٧٩) ، ٢٦٤ ، ٨١١.

نظرت في القدر فتحيرت................................................................. (١٤٧).

نعم (الصدقة).............................................................................. ٦٤٠.

«نعم ، وفيه دخن»........................................................................ ٤٩٥.

نمرّها كما جاءت ونؤمن بها............................................................... (٢١٥).

نهى عن بيع الولاء وهبته................................................................... ٤٤٥.

«نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي»......................................................... ٧٧٠.

«نهى عن النذر وقال : «إنه لا يأتي بخير».................................................... ٩٣.

«نهى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على المنافقين............................................ (٣٧٧).

نوح عليه‌السلام................................................................................. ٢١٠.

«نور أنّى أراه»............................................................................. ١٧٠.

«ه»

هارون..................................................................................... ٧١٢.

«هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له»........................................................... ٤٨٨.

«هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم»....................................................... ٤٢٨.

«هذا سبيل الله» ، ثم خطّ خطوطا......................................................... ٨١٠.

«... هذا عن أمتي جميعا»................................................................. ٦٤٩.

«... هذا عن محمد وآل محمد»............................................................. ٦٤٩.

هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى..................................................... ١٠٨.

«هذه يد عثمان» فضرب بها على يده...................................................... ٧٠٨.

هرقل ملك الروم......................................................................... (١٥٣).

«هل تدرون كم بين السماء والأرض»...................................................... ٢٩٤.

«هل تضارون في القمر ليلة................................................................. ١٦٢.

هل رأى محمد ربه........................................................................ (١٩٦).

هل رأيت ربك؟.......................................................................... (١٩٧).

«هل ظلمتكم من حقكم شيئا»............................................................ ٦١٨.

هل كان في آبائه من ملك................................................................ (١٥٣).

«هلك المتنطعون»......................................................................... ١٧٦.

هلك من لم يكن له قلب................................................................... ٢٨٩.

هلموا نزدد إيمانا......................................................................... (٣٤٣).

«هم في الظلمة دون الجسر»............................................................... ٥٦٠.

«هو نهر اعطانيه ربي عزوجل في الجنة»..................................................... ١٩٤.

«هو نهر وعدنيه ربي»...................................................................... ١٩٤.

«و»

«وأتبع السيئة الحسنة تمحها»............................................................... ٣٨٧.

«والذي نفسي بيده أنكم أحب الناس إلي»................................................. ٣٣٦.

«والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن»................................................. ١١١.

«والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع................................................ (٤١٦).

«والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد».......................................... ٥٧١.

«والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم»............................................... ٦٧٤.

«والله إني لأحبك»........................................................................ ٣٣٥.

«والله لقد رأيت كلامك يصعد في السماء»............................................... (١٢٤).

«وأنا أشهد».............................................................................. ٣٠٧.

«وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون»........................................................... ٤٣٧.

«وإياي ، لكن الله أعانني عليه فأسلم»..................................................... ٥١٢.

«وايم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت».................................................. ٥٨٤.

«وجبت».................................................................................. ٤٨٨.

«وجنتان من فضا آتيهما وما فيها»......................................................... ١٦٤.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ).................................................................. (١٩٠).

وحدة دين الأنبياء......................................................................... ٨٠٣.

ورقة بن نوفل............................................................................... ١٠٨.

الوسوسة................................................................................... ٢٥٨.

وضع عمر على سريره فتكنّفه الناس....................................................... (٤٧٧).

وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة.......................................................... ٥٠١.

«وقد وجدتموه ... ذلك صريح الإيمان»..................................................... ٢٥٧.

وقعت الفتنة الأولى ـ مقتل عثمان ـ........................................................ (٥٢٤).

«وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر»................................................ (١٣٤).

«ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله»..................................................... ٦١٣ ، ٦٣٠.

الولاء...................................................................................... ٤٤٥.

ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم................................................... ١٤٧.

«ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا»......................................... ١٣٦ ، ٦٧٩.

«ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة».............................................................. ٤٩٣.

وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه............................................................... ١٦٥.

«... وما ترددت في شيء أنا فاعله»...................................... ٤٥٨ ، ٥٠٥ ، ٧٥٣.

وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل.................................................... ٦٦٨.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)...................................................... (٣٦٠).

«ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا»........................................................ ٧٣.

«وهل يكبّ الناس في النار»............................................................... ١٥٧.

«ويحك أتدري ما تقول»................................................................... ٣١١.

«ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»................................................... ٥٠٨.

ويلك أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها............................................. (٢٨٤).

«ي»

«يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر».................................................. ٦٧٦ ، ٦٨٥.

يأتيني صادق وكاذب....................................................................... ١٠٢.

«يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟»................................................. ٣٩٠.

«يا أبا ذر لو عمل الناس بهذه الآية»....................................................... ٤٦٠.

يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام........................................................... (٢٠٩).

«يا أهل الجنة خلود فلا موت»............................................................. ٥٩٩.

يا بني اسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا........................................................ (٢٦١).

«يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله شيئا»........................................ ٢١٨ / ١.

«يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب»................................................... ٦٤١.

«يا رسول الله ان أمي افتلتت نفسها ولم توص»............................................. ٦٤٠.

يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال............................................... ٣١١.

يا رسول الله ، رأيت كأن دلوا دلي.......................................................... ٦٨٢.

«يا رسول الله ما لي ان قتلت في سبيل الله».............................................. (٤٠٣).

«يا عبادي انما هي أعمالكم أحصيها لكم»................................................ ٥٥٠.

«يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي».................................................. ٦٢٧.

«يا عبادي لو أن أولكم وآخركم»............................................................ ٥٦.

«يا عمر أتدري من السائل»............................................................. (٢٧٢).

«يا عمر تراني قد رضيت وتأبى»............................................................ ٥٠٧.

«يا غلام ألا أعلمك كلمات : احفظ الله»................................................. ٢٧٤.

«يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم».................................................. ١٧٤ ، ٧٩٩.

«يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده».................................................... ٢١١.

«يا ولي الإسلام وأهله مسّكني بالإسلام».................................................. ٤٧٨.

«يبعث من كل ألف ، ٩٩٩ إلى النار»..................................................... ٣٥٠.

«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل»................................................... ٣١٥ ، ٥١٠.

«يجمع الله الناس يوم القيامة.............................................................. (٤١٥).

«يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب».................................................. ٥٩.

«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»..................................................... ٤٤٧.

«يخرج من النار من كان في قلبه».................................................. ٤٥٦ ، ٤٧٤.

«يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء»........................................................ ٢٠٨.

«يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم»............................................ ٤٨١ ، ٤٨٦.

«يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان»......................................................... ٦٤.

«يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم».......................................................... ٣١٥.

«يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات»................................................. ٥٥٦.

«يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة».................................................... ٢٢٢.

«يقول الله تعالى : انا عند ظن عبدي بي»......................................... ٣٥٥ ، ٣٩٣.

«يقول الله تعالى : شفعت الملائكة وشفع النبيون».......................................... ٢٠٩.

«يقول الله تعالى : من عادى لي وليا»..................................... ٤٥٨ ، ٥٠٥ ، ٧٥٣.

يمجسانه..................................................................................... ٢٣.

اليمن........................................................................................ ٧٩.

«ينادي مناد من السماء ان صدق عبدي»................................................. ٥٨١.

«ينادي مناد يا أهل الجنة»................................................................ ٥٩٨.

ينزل بلا كيف........................................................................... (٢٢٣).

«ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا»...................................................... ٦٥٥.

ينصرانه...................................................................................... ٢٣.

يهود............................................................... ١٩ ، (٨٣) ، ١٢٨ ، ٢٦٤.

«اليهود مغضوب عليهم والنصارى»........................................................ ٨١١.

«... يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»........................................................ ٢٣.

«يؤتى بابن آدم يوم القيامة»............................................................... ٥٧٤.

«يؤتى بالموت كبشا أغر».................................................................. ٥٧٦.

«يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش».................................................. ٥٧.

«يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين»...................................................... ١٧٠.

يونس عليه‌السلام....................................................................... ١٣١ ، ١٣٢.

فهرس الموضوعات

الصفحة

الموضوع

٥

مقدمة الناشر

١٥

ترجمة ابن أبي العز الحنفي

١٧

ترجمة الإمام الطحاوي

٢١

مقدمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

٦٩

مقدمة الشارح

٧٠

وجوب الايمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ايمانا عاما مجملا على كل أحد

٧٢

التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي

٧٣

وجوب اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما أمر به وعموم رسالته

٧٤

ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كامل واف

٧٧

التوحيد ومعناه

٧٩

توحيد الالهية والربوبية

٨٣

التوحيد المطلوب هو توحيد الالهية الذي يتضمن توحيد الربوبية

٨٧

تفسير قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ)

٨٩

أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل

٩٨

تفسير قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

١٠٣

الموجود في الخارج لا يوجد مطلقا كليا بل لا يوجد الا معينا مختصا

١٠٣

المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ الا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها.

١٠٥

المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

١٠٦

تفسير القدرة وبيان أن الله تعالى لا يعجزه شيء

١٠٧

التعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الالهية هو سبيل أهل السنة والجماعة

١٠٩

تفسير كلمة (لا إله إلا الله)

١٠٩

استدراك العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الاسلامية

١١١

تفسير صفتي القدم والبقاء

١١٣

بيان أن الله تعالى لا يفنى ولا يبيد ولا يكون الا ما يريد

١١٤

الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية

١١٧

الرد على المشبهة

١٢٠

الكلام على صفة الحياة

١٢٢

تفسير صفتي الخلق والرزق

الصفحة

الموضوع

١٢٤

استمرار صفات الكمال وصفات الذات والفعل لله تعالى

١٢٥

هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟

١٢٧

بحث في الاسم : هل هو عين المسمى أولا؟

١٢٧

الرد على الجهمية والمعتزلة في الصفات

١٣٠

البحث في التسلسل

١٣١

تفسير صفتي الخالق والبارئ

١٣٣

اختلاف العلماء في أول مخلوق لله

١٣٦

اتصاف الله تعالى بالرب قبل أن يوجد مربوب واتصافه بالخالق قبل أن يوجد مخلوق ، وهو على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير

١٣٨

لله المثل الأعلى

١٤٠

اعراب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

١٤١

خلق الله تعالى الخلق بعلمه

١٤٢

تقدير الاقدار وضرب الآجال

١٤٤

الدعاء المشروع وآثاره

١٤٥

مشيئة الله نافذة ، لا مشيئة العباد

١٤٨

الهدى والضلال والرد على المعتزلة في قولهم بالاصلح

١٤٩

وجوب الايمان بنبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته

١٥٠

البحث في المعجزات

١٥٢

القرائن التي استدلت بها خديجة والنجاشي وهرقل على صدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٧

انكار رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعن في الرب تعالى

١٥٨

الفرق بين النبي والرسول

١٥٨

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء وإمام الاتقياء وسيد المرسلين

١٦١

بحث في التفضيل بين الأنبياء

١٦٤

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب الله تعالى

١٦٥

الفرق بين المحبة والخلة

١٦٦

كذب كل من يدعي النبوة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٦٦

عموم بعثته الى الجن والانس

١٦٧

اعراب : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)

١٦٨

القرآن كلام الله تعالى

الصفحة

الموضوع

١٦٨

افتراق الناس في مسألة الكلام على تسعة اقوال

١٧٠

مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى والرد على مخالفيهم

١٧٠

تكليم الله لاهل الجنة

١٧١

الرد على من ادعى أن كلام الله تعالى مخلوق

١٧٢

الزام عبد العزيز الكناني لبشر المريسي في مسألة خلق القرآن

١٧٣

الرد على من ادعى خلق القرآن

١٧٦

أهل السنة كلهم متفقون على أن كلام الله غير مخلوق

١٧٨

الرد على بعض الحنفية الزاعمين أن كلام الله معنى واحد

١٧٩

الذي في المصحف هو كلام الله

١٨١

كلام الله بلا كيفية

١٨٣

مذاهب الناس في مسمى الكلام والقول عند الاطلاق

١٨٣

عود الى الرد على من قال : ان الكلام معنى واحد

١٨٧

تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله وزعم أنه قول البشر

١٨٨

كفر من وصف الله تعالى بمعنى من معانى البشر

١٨٨

رؤية الله تعالى لاهل الجنة والرد على المخالفين

١٩٣

تواتر الاحاديث الدالة على رؤية الله تعالى

١٩٥

كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة

١٩٦

اتفاق الامة على أنه لا يرى الله تعالى أحد في الدنيا بعينه وتنازعهم في رؤية النبي ربه ليلة المعراج

١٩٨

تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه

٢٠٠

وجوب التسليم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد لامره

٢٠٠

لا ينجي العبد من عذاب الله تعالى إلا توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٠١

العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد

٢٠٣

النهي عن التكلم في أصول الدين وغيرها بغير علم

٢٠٤

من لم يسلم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقص توحيده

٢٠٤

وقوع الفساد في العالم من ثلاث

٢٠٤

علم الحدل والكلام وحكمه

٢٠٧

سبب الاضلال الاعراض عن تدبر كلام الله تعالى وكلام رسوله ، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة

الصفحة

الموضوع

٢٠٨

اعتراف كبار علماء الكلام بوقوعهم في الحيرة والشك

٢١٠

الرد على من أنكر رؤية الله تعالى ولو تأولها

٢١٣

معنى التأويل في الكتاب والسنة

٢١٥

معنى التأويل في كلام المتأخرين

٢١٦

النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب

٢١٨

تنزيه الله تعالى عن الحدود والغايات

٢١٨

الواجب في باب الصفات : اثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله ، ونفي ما نفاه الله تعالى

٢٢٣

الاسراء والمعراج حق

٢٢٧

الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٢٩

الشفاعة وأنواعها

٢٣٣

شفاعة الرسول لاهل الكبائر من أمته

٢٣٦

حكم الاستشفاع برسول الله وغيره في الدنيا

٢٣٨

الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر

٢٤٠

الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته

٢٤٥

الاقرار بالربوبية أمر فطري والشرك حادث طارئ

٢٤٧

قد علم الله في الازل أهل الجنة وأهل النار

٢٤٨

كل انسان ميسر لما خلق له والاعمال بالخواتيم

٢٤٩

أصل القدر سر الله في خلقه والنهي عن السؤال : لما فعل؟

٢٥١

منشأ ضلال الفرق : التسوية بين المشيئة والإرادة ، وبين المحبة والرضى

٢٥٦

أسباب الخير ثلاثة : الايجاد والاعداد والامداد

٢٥٨

ما يرضى من المقضي وما يسخط

٢٦١

مبنى العبودية والايمان على التسليم

٢٦٣

الايمان باللوح والقلم

٢٦٥

اختلاف العلماء في القلم هل هو أول المخلوقات

٢٦٦

جف القلم بما هو كائن الى يوم القيامة

٢٧٠

الرد على من يظن أن التوكل ينافي تعاطي الاسباب

٢٧١

سبق علم الله بالكائنات قبل خلقها

٢٧٢

القدرية مجوس هذه الأمة

٢٧٤

القدر يتضمن أصولا عظيمة

٢٧٤

للقلب حياة وموت ومرض وشفاء

الصفحة

الموضوع

٢٧٧

العرش والكرسي حق

٢٨٠

استغناء الله عن العرش واحاطته بكل شيء

٢٨٢

بحث الفوقية

٢٨٨

كلام السلف في اثبات صفة العلو

٢٩٢

بحث في كون السماء قبلة الدعاء

٢٩٣

ان الله اتخذ ابراهيم خليلا وكلم موسى تكليما

٢٩٤

محبة الله وخلقه كما يليق به

٢٩٧

وجوب الايمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة

٢٩٧

حقيقة قول الفلاسفة أنهم لم يؤمنوا بالله ولا كتبه ولا رسله

٢٩٨

أصول المعتزلة الخمسة التي هدموا بها كثيرا من الدين

٣٠١

كلام الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

٣١١

أولو العزم من الرسل

٣١٣

أهل القبلة مسلمون مؤمنون

٣١٣

لا نخوض في الله ولا نماري في دين الله

٣١٤

لا نجادل في القرآن ونشهد أنه كلام رب العالمين

٣١٦

ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله

٣٢٠

الجواب عن الاشكال ، بأن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفرا

٣٢٣

الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا يخرج عن الملة

٣٢٥

نرجو للمحسنين العفو والجنة

٣٢٧

عشرة أسباب تسقط معها العقوبة

٣٣٠

الأمن واليأس ينقلان عن الملة

٣٣١

تعريف الايمان واختلاف الناس فيه

٣٣٤

نور الايمان في القلوب درجات

٣٣٥

الكلام في زيادة الايمان اجمالا وتفصيلا

٣٣٧

أدلة أصحاب أبي حنيفة ومناقشتها

٣٤٢

الأدلة على زيادة الايمان ونقصانه من الكتاب والسنة كثيرة جدا

٣٤٧

أقوال العلماء في مسمى الاسلام

٣٤٨

حال اقتران الاسلام بالايمان غير حالة افراد أحدهما عن الاخر

٣٥١

حكم الاستثناء في الايمان

٣٥٤

أهل البدع يعرضون النصوص على بدعتهم

الصفحة

الموضوع

٣٥٤

طريق أهل السنة ألا يعدلوا عن النص الصحيح ولا يعارضوه بمعقول

٣٥٥

خبر الواحد اذا تلقته الامة بالقبول عملا به وتصديقا له أفاد العلم اليقيني

٣٥٦

نفاة الصفات جعلوا قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مستندا لهم في رد الاحاديث الصحيحة

٣٥٧

المؤمنون كلهم أولياء الرحمن

٣٥٨

تفسير معنى الولاية

٣٦٢

أركان الايمان

٣٦٣

الكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن حكم الايمان لا يثبت الا بالعمل مع التصديق

٣٦٤

الايمان بالقدر خيره وشره

٣٦٩

أهل الكبائر من أمة محمد لا يخلدون في النار

٣٧٠

اختلاف العلماء في تعريف الكبائر والصغائر

٣٧٣

الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة

٣٧٥

من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين

٣٧٦

امام الصلاة والحاكم وأمير الحرب يطاع في مواضع الاجتهاد

٣٧٧

يصلى على من مات من الابرار والفجار

٣٧٨

لا نشهد لأحد معين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار

٣٧٩

أمرنا أن نحكم بالظاهر ونهينا عن اتباع الظن

٣٧٩

وجوب طاعة ولي الامر وان جار الا في معصية

٣٨٢

نتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة

٣٨٣

نحب أهل العدل والامانة ونبغض أهل الجور والخيانة

٣٨٥

لا نقول في شيء بغير علم

٣٨٦

تواتر المسح على الخفين

٣٨٧

الحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين الى قيام الساعة

٣٨٨

الايمان بالكرام الكاتبين

٣٩٠

الايمان بملك الموت

٣٩١

البحث في الروح والنفس

٣٩٦

الايمان بعذاب القبر ونعيمه

٤٠٠

الدور ثلاثة : دار الدنيا ، دار البرزخ ، ودار القرار

٤٠١

سؤال منكر ونكير

٤٠١

اختلاف الناس في مستقر الارواح ما بين الموت الى قيام الساعة

٤٠٤

الايمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

٤٠٩

تخبط القائلين بأن الاجسام مركبة من الجواهر المفردة

الصفحة

الموضوع

٤١١

العرض والحساب

٤١٥

الصراط

٤١٦

تفسير قوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)

٤١٧

الميزان

٤٢٠

الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان

٤٢٧

اختلاف الناس في أبدية النار

٤٣٠

ان الله خلق للجنة أهلا وللنار أهلا

٤٣٢

الاستطاعة التي هي مناط التكليف

٤٣٦

أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد

٤٣٨

الرد على القدرية والمعتزلة

٤٤٠

الذنب يكسب الذنب

٤٤٤

العبد فاعل لفعله حقيقة ولكنه مخلوق لله

٤٤٤

لا يكلف الله العبد الا ما يطيق

٤٤٧

القضاء الكوني والقضاء الشرعي

٤٤٨

تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد

٤٥٢

في دعاء الاحياء وصدقاتهم منفعة للاموات

٤٥٣

الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه

٤٥٤

وصول ثواب الصدقة والصوم والحج

٤٥٧

استئجار قوم للقرآن ويهدونه للميت لم يفعله أحد من السلف

٤٥٧

قراءة القرآن واهداؤها للميت تطوعا بغير أجرة يصل الى الميت.

٤٥٨

الله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات

٤٦٠

الرد على من يدعي أن الدعاء لا فائدة فيه

٤٦٠

الاعراض عن الاسباب بالكلية قدح في الشرع

٤٦١

من يسأل الله ولا يعطيه أو يعطيه غير ما سأل

٤٦٣

الله يملك كل شيء ولا يملكه شيء ويغضب ويرضى لا كأحد من الورى

٤٦٧

نحب أصحاب رسول الله من غير افراط

٤٧١

خلافة أبي بكر الصديق وثبوتها بالنص

٤٧٦

خلافة عمر الفاروق

٤٧٨

خلافة عثمان ذي النورين

٤٨٢

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

الصفحة

الموضوع

٤٨٤

هم الخلفاء الراشدون

٤٨٥

العشرة المبشرون بالجنة

٤٩١

لا نذكر علماء السلف من السابقين ومن بعدهم الا بالجميل

٤٩٢

نبي واحد أفضل من جميع الاولياء

٤٩٤

الايمان بكرامات الاولياء

٤٩٨

الفراسة ثلاثة أنواع

٤٩٩

أشراط الساعة : ـ خروج الدجال وان احاديثه متواترة ـ نزول عيسى وان احاديثه متواترة ـ طلوع الشمس من مغربها ـ خروج الدابة

٥٠٢

عدم تصديق الكاهن والعراف

٥٠٤

وجوب إزالة الكهان والمنجمين

٥٠٥

حقيقة السحر

٥٠٦

أدعياء الولاية من أصحاب الاحوال الشيطانية

٥٠٩

الملاميّة والفرق الصوفية

٥١١

أصحاب الخلوات

٥١١

تحقيق قصة موسى والخضر

٥١٢

وجوب التزام الجماعة

٥١٣

يجب رد جميع الامور المتنازع فيها الى الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥١٤

انواع الاختلاف

٥١٨

دين الله في الارض والسماء واحد وهو دين الاسلام

٥١٩

الاسلام وسط بين الغلو والتقصير

٥٢٠

الاسلام وسط بين التشبيه والتعطيل

٥٢٠

الاسلام وسط بين الجبر والقدر

٥٢٠

البراءة من الفرق الضالة

٥٢١

من الفرق الضالة : المعتزلة

٥٢٢

من الفرق الضالة : الجهمية

٥٢٤

من الفرق الضالة : الجبرية

٥٢٦

خاتمة تخريج الأحاديث للشيخ ناصر الدين الالباني

٥٢٧

أهل البدع من المعرفة وأهل التأويل

٥٢٧

ومن الضالين أهل التجهيل والتضليل

٥٢٨

خاتمة الشرح المبارك الفهرس

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف: ابن أبي العزّ الحنفي
الصفحات: 574
  • آدم 123 ، 127 ، 130 ، 210 ، 219 ، 220 ، 221
  • «... آل محمد» 649 و 739
  • «الآن بردت عليه جلدته» 645
  • «آمركم بالإيمان بالله وحده» 426 ، 464
  • أبايعك على سنة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم 706
  • إبراهيم (نبي الله عليه‌السلام) 138 ، 210 ، 589
  • «أبعث من ذريتك بعثا إلى النار» 350
  • «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» 259 ، (203) (1)
  • إبليس 103
  • «أبهذا أمرتم ، أم بهذا وكلتم» 799
  • أبو بكر (عبد الله ابن أبي قحافة) 136 ، 334 ، 390 ، 674 ، 676 ، 671 ، 685 ، 686 ، 692 ، 727 ، 728
  • أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة 728
  • أبو ذر (جندب بن جنادة) 460
  • أبو طالب (عبد مناف بن عبد المطلب) 204
  • أبو عبيدة (عامر بن الجراح) 725 ، 726 ، 727 ، 728
  • «أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة» 771
  • «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم» 166
  • «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» 752
  • اتهموا الرأي في الدين (385)
  • أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم (229)
  • أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك 758
  • الاجتهاد 797
  • اجلس بنا نؤمن ساعة 418
  • أحد (جبل) 720
  • «... الاحسان : أن تعبد الله كأنك تراه» 462
  • «... احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك» 274
  • أحمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) 120
  • أخبروني قبل أن نتكلم ... عن سفينة في دجلة (85)
  • الاختلاف في الدين 801
  • «أخسأ فلن تعدو قدرك» 101
  • أخطأت استك الحفرة (324)
  • أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم 314
  • «ادعوا لي عليا ، (فأتي به أرمد)» 713
  • «ادعي لي أباك وأخاك» 676
  • «ادعي لي عبد الرحمن ابن أبي بكر» 676
  • «إذا اجتهد الحاكم ، فأصاب فله أجران» 797
  • إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته 326
  • «إذا أحب الله العبد نادى» 279
  • «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» 498
  • «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار» 161
  • إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء 784
  • «إذا زنا العبد نزع منه الإيمان» 403
  • «إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس» 296
  • «إذا صليتم على الميت ، فأخلصوا له الدعاء» 487
  • «إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر» 371
  • «إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان» 528
  • «إذا كان يوم القيامة ماج الناس» (234)
  • «اذا مات ابن آدم انقطع عمله» 636 ، 646
  • «إذا مت فاستحقوني ثم اذروني» 365
  • «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين» 37
  • «... إذ همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها» 513 / 1.
  • «أذن لي أن أحدّث عن ملك» 298
  • «... اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر له» 95 ، 210
  • «أربع في أمتي ، من أمر الجاهلية» 772
  • «أربع من كنّ فيه كان منافقا» 372 ، 455
  • «ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك» 698
  • «ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واسأل تعطه» (239)
  • ارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة 719
  • ارقبوا محمدا في أهل بيته 739
  • اركان الايمان سبعة (299)
  • «ارم ، فداك أبي وأمي» 720
  • أرواح الشهداء في الجنة (402)
  • أرواح الكافرين (402)
  • أرواح المؤمنين (402)
  • ارواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة (402)
  • «أرى عرشا على الماء» 103
  • «أري الليلة رجل صالح» 681
  • «أسألك بحق ممشاي هذا ، وبحق السائلين» 212
  • الاستسقاء (237) ، (283)
  • «استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت» 635
  • الاستفتاح (163) ، (365) ، 431 ، (440)
  • الاستواء معلوم ، والكيف مجهول 66 ، (281) ، (464)
  • الإسراء (224) ، (421) ، (423)
  • اسرائيل 177 ، 263 ، 364 ، 789
  • أسري بجسده في اليقظة (224)
  • «الاسلام : أن تشهد لا إله إلا الله» 462
  • «الإسلام شهادة : أن لا إله إلا الله» 430
  • «الإسلام علانية والإيمان في القلب» 427 ، 434
  • إسماعيل (عليه‌السلام) 125
  • أشج عبد القيس (العصري) 621
  • «اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه» 218
  • «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» 771
  • «أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الاخلاص» 32
  • أصحاب النبي (رضي الله عنهم أجمعين).. 193 ، 503 ، 665 ، 667 ، 669 ، 673 ، 791
  • «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم» 667
  • الاطعام عن الميت دون الصيام عنه 643
  • اطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر 759
  • «اطلعت على أهل الجنة فرأيت» 785
  • «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» 786
  • الأطيط (حديث) (278) ، (283)
  • الاعتكاف 732
  • «اعدد ستا بين يدي الساعة» 758
  • «... أعطيت جوامع الكلم» 122
  • «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» 139
  • «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» 240
  • «أعوذ بالله من عذاب القبر» (396)
  • «... أعوذ برضاك من سخطك» 72 ، 149 ، 249
  • «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» 70 ، 150
  • «أعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» 73 ، 151
  • «أعوذ بكلمات الله التامات» 71 ، 148 ، 626 ، 750
  • «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له» 74
  • «... أعوذ بوجهك ، ... هاتان أهون» 793
  • افتراق الأمة 263 ، 264 ، 265 ، 791
  • الإفك (177)
  • «اقتدوا باللذين من بعدي» 675 ، 691 ، 716
  • اقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها 796
  • «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» (385)
  • «أكثر أهل الجنة البله» 785
  • ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (82)
  • «ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة» 707
  • «ألا تسألوني مم أضحك» 111
  • ألا كل شيء ما خلا الله باطل (179)
  • «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» 733
  • «الله أعلم بما كانوا عاملين» 506
  • «الله الله في أصحابي» 673
  • (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) 54
  • اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (142) ، (143)
  • «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء» 46 ، 81 ، 310
  • «... اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت» 133
  • «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل أليك بنبينا (238)
  • «اللهم اني أسألك بكل اسم هو لك» 44
  • «اللهم اني أسألك بمعقد العز من عرشك» 214
  • «اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك» 72 ، 149 ، 249
  • «اللهم اني ظلمت نفسي ظلما كثيرا» 631
  • «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» 38 ، 90
  • «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل» 177
  • اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقه ا (343)
  • «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» 339
  • «اللهم فقهه في الدين» 180
  • «اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت» 431 ، 433
  • «اللهم هذا عن أمتي جميعا» (الأضحية) 649
  • «اللهم هذا عن محمد وآل محمد» 649
  • «اللهم هؤلاء أهلي» 714
  • «ألم تسمعيه قال (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ)» 563
  • (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر الى وجه ربها عزوجل (190)
  • «أما إني» لا أقول (الم) حرف» 158
  • «أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر» 738
  • «أما صاحبكم فقد غامر» 687
  • الإمارة 493 ، 496 ، 689
  • الأمراء 481 ، 486 ، 499 ، 509
  • «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا» 12
  • «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا» 432
  • «أمرني أن لا أدع قبرا» 18
  • «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» 190 ، (224)
  • إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني 684
  • «أن تشهد لا إله إلا الله» 462
  • «... أن تعبد الله كأنك تراه» 462
  • «... أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه» 283 ، 340 ، 462 ، 663
  • «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» 674
  • أنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره (147)
  • «أنا الله مالك الملك» 500
  • «أنا أول شفيع في الجنة» 205
  • «أنا أول من تنشق عنه الأرض» 554
  • «أنا سيد الناس يوم القيامة» 124 ، 198
  • «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» 127 ، 130
  • «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» 123 ، 127
  • «... أنا عند ظن عبدي بي» 355
  • «أنا فرطكم على الحوض» 195
  • أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله (214)
  • الانبساط بالقول مع الحق ترك الادب (313)
  • الأنبياء 803
  • «... أنت الأول فليس قبلك شيء» 46 ، 81 ، 310
  • «... أنت الملك لا إله إلا أنت» 133
  • أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله (474)
  • «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» 712
  • «... أنت موسى بني اسرائيل» 789
  • «... أنتم مسئولون عني فما ذا انتم قائلون» 319
  • أنشد عبد الله بن رواحة شعره وأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 306
  • «إنّ إبراهيم خليل الله» 138
  • أنّ أبا يوسف لما حج مع هارون الرشيد (376)
  • «إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (203) ، 259
  • «إنّ ابني هذا (الحسن) سيد ، وسيصلح الله به» 710
  • «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده» 580
  • «إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه» 242
  • إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد 223
  • «ان أعمال العباد تصعد إلى السماء» 65
  • «إن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا» 800
  • ان أمي افتلتت نفسها ولم توص 640
  • ان أمي توفيت وانا غائب عنها 641
  • ان أمي نذرت أن تحج 644
  • انّ أنس بن مالك كان يصلي خلف الحجاج (374)
  • «انّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم» 265 ، 502 ، 791
  • «انّ أول الآيات خروجا طلوعا الشمس» 766
  • «انّ أول شيء خلق الله عزوجل القلم» 271
  • «انّ أول ما خلق الله القلم» 271
  • «انّ أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح» 20
  • انّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع 492
  • «انّ ربي قد غضب اليوم غضبا» 67 ، 198 ، 661
  • انّ رجلا قال : يا رسول الله رأيت كأن دلوا 682
  • «... انّ رحمتي سبقت غضبي» 308 ، 602
  • «انّ الروح إذا قبض تبعه البصر» 516
  • «انّ السماء تمطر مطرا كمني الرجال» 547
  • «انّ الشيطان ذئب الإنسان» 792
  • إنّ الصلاة من أحسن ما يعمل الناس (375)
  • «انّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء» 154
  • «انّ العبد إذا وضع في قبره» 526
  • «انّ العبد المؤمن إذا كان في إقبال» (396) ، 525 ، 581
  • أنّ عبد الله بن عمر كان يصلي خلف الحجاج (374)
  • أن عبد الله بن مسعود كان يصلي خلف الوليد بن عقبة (374)
  • «انّ عرشه على سماواته لهكذا» 295
  • «انّ في الجسد مضغة إذا صلحت» 414
  • «انّ فيك لخلتين يحبهما الله» 621
  • «انّ قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء» 192
  • ان القرآن اسم للنظم والمعنى (186)
  • «انّ الله اتخذني خليلا» 135 ، (294)
  • «انّ الله أخذ الميثاق من ظهر آدم» 219
  • «انّ الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل» 125
  • «انّ الله بعثني إليكم فقلتم» 687
  • «انّ الله تجاوز لأمتي عما حدّثت» 156
  • «انّ الله تعالى يقول لأهل الجنة» 662
  • «انّ الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله» 398
  • «انّ الله خلق آدم عليه‌السلام ثم مسح ظهره» 220
  • «... ان الله خلق للجنة أهلا» 608
  • «انّ الله خلق لوحا محفوظا» 270
  • «انّ الله سيخلص رجلا من أمتي» 567
  • «انّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها» 347
  • «انّ الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال» 247
  • «انّ الله لا يخفى عليكم» 761
  • «انّ الله لا يقضي يوم السبت» (270)
  • «انّ الله لا ينام ولا ينبغي له» 52 ، 171
  • انّ الله نظر في قلوب العباد 672
  • «انّ الله يحب أن يؤخذ برخصه» 248
  • «انّ الله يحدث من أمره ما يشاء» 155
  • «انّ الله يستحيي من عبده إذا رفع» 317
  • «انّ الله تعالى يقول لأهل الجنة» 662
  • «انّ لأنفسكم عليكم حقا وإنّ لأعينكم» 806
  • «انّ لكل أمة أمينا» 725
  • «انّ لكل نبي حوضا» 197
  • «انّ لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد» 120
  • «انّ معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء» 511
  • «انّ الملائكة قالت : يا ربنا» 352
  • انّ من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه (187)
  • «انّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور» 21
  • «انّ المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته» 425
  • «انّ المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا» 391 ، 578
  • «انّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه» 777
  • «... انّ الناس يصعقون» 126 ، 297 ، 553 ، 553 / 1.
  • «إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» 518 ، 539
  • «انّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» 152
  • انّ هذا والذي جاء به موسى عليه‌السلام 107
  • انّ هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح (81)
  • «انّ هذه الأمة تبتلى في قبورها» 531
  • «إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد» 803
  • إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم 257
  • «انكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» 178 ، (193)
  • «انكم سترون ربكم عيانا» 163 ، 173
  • «... انما الأعمال بالخواتيم» (248)
  • «انما الأعمال بالنيات» 144 ، 444 ، (522)
  • «انما ذلك العرض وليس أحد يناقش» 552
  • «انما نسمة المؤمن طائر تعلق» 518 ، 539 ، 586
  • «انما هلك من كان قبلكم باختلافهم» 801
  • «انه أنزلت عليّ آنفا سورة (الكوثر)» 194
  • «انه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون» 121
  • انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسري بجسده في اليقظة (224)
  • انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بعينه 169
  • انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بقلبه (1) (197)
  • «انه عنده فوق العرش» 308 ، 316
  • أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع 468
  • «أنه لا يأتي بخير ، وانما يستخرج به من البخيل» (النذر) 93
  • «انه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة» 569
  • أنه نهى عن النذر 93
  • «انه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن» 58
  • «انه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون» 59
  • «انها توضع في الميزان» 60
  • «انها ستكون فتن» 3
  • «انها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات» 759
  • «انهم يأتون آدم ، ثم نوحا ثم ابراهيم» 210
  • «انهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير» 527
  • «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته» 137 ، (294)
  • «اني رأيت الجنة ، وتناولت عنقودا» 583
  • «أني فرطكم على الحوض» 196
  • إني قد خشيت على نفسي» 105
  • إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان (481) ، (485)
  • «اني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» 438
  • «اهدأ فما عليك إلا نبي ، أو صديق» 729
  • أهل الكتاب 265 ، 502 ، 790
  • أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 738
  • أهلي 714
  • «أوحي إليّ أن تواضعوا» 134
  • أوصى ابن عمر أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة (458)
  • «أوصيكم بالسمع والطاعة ، فانه من يعش» 501 ، 715
  • «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة» 608
  • «أول ما خلق الله القلم» (265) ، 271
  • «أول الآيات خروجا طلوع الشمس» 766
  • «... أول من يفيق» 126 ، 297
  • «أو مسلما» 435
  • أي أرض تقلني وأي سماء تظلني (385)
  • أي : عم اسمع من ابن اخيك ما يقول 108
  • أي الناس أحب أليك ... «عائشة» 337 ، 686
  • أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم (294)
  • «أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي» 738
  • «الايمان : إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك» 425
  • «... الايمان : أن تؤمن بالله وملائكته» 462
  • «الايمان بضع وسبعون شعبة» 406 ، 412
  • الإيمان يزيد وينقص؟ فقال : «لا» 415
  • «أين الله؟» (1) 320
  • أين الناس يوم تبدل الارض 560
  • «إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده» 694
  • «ب»
  • باسم الابن والأب والروح القدس 80
  • بدر ـ المعركة ـ 731
  • «البذاذة من الإيمان» 409
  • «بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني» 648
  • البطاقة (335) ، 567
  • البغي 770
  • بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت (402)
  • البهاء 160
  • البيعة 498 ، 671 ، 730
  • «بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة» 374
  • «بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل» 356
  • «بينا أنا نائم رأيتني على قليب» 678 ، 693
  • «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع» 141 ، 309 ، 322
  • بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 342
  • بينما يهودي يعرض سلعة له 128
  • «ت»
  • «... تارك فيكم ثقلين» 738
  • التثليث (80)
  • «تخلقوا بأخلاق الله» 51
  • ترك الناس العمل بهذه الآية (وَإِنْ طائِفَتانِ) (513)
  • «ترى عرش إبليس على البحر» 103
  • «تفرقت اليهود على احدى وسبعين فرقة» 264
  • تقدير يوم القيامة ب 50000 سنة 604
  • «تقول النار للمؤمن يوم القيامة» 566
  • تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه (71)
  • «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني» 769
  • «تلك محض الإيمان» ـ الوسوسة ـ 258
  • التوسل 212 ، 214 ، 238
  • «توشكون أن تعلموا أهل الجنة» (378)
  • «توضع الموازين يوم القيامة» 568
  • «ث»
  • «ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل» 419
  • «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان» 504
  • الثلاثة الذين آووا الى الغار (238)
  • «... ثم انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى» 579
  • «... ثم يفتح له باب الى النار فينظر» 525 ، 532
  • «ثمن الكلب خبيث» 770
  • «... الثناء الحسن والثناء السيئ» 489
  • «ثنتان في أمتي بهم كفر : الطعن» 377
  • الثنوية (80)
  • «ج»
  • جاء أهل نجران إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 726
  • «جئت أنا وأبو بكر وعمر» 692
  • جئناك لنتفقه في الدين 79
  • جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر (135)
  • الجاهلية 772
  • الجبت : السحر (504)
  • جبرائيل 177 ، 342 ، 356 ، (362) ، 428 ، 462 ، 466 ، 579
  • «... الجماعة : ما أنا عليه وأصحابي» 263 ، 503 ، 791
  • الجمعة 788
  • «... الجنة ... إلا الدّين» 536
  • الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا (132) (1)
  • «جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما» 164
  • «ح»
  • «حجابه النور ، ولو كشفه لأحرقت» 171 ، 183
  • «حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك» 644
  • حراء 729
  • الحسن بن علي (رضي الله عنهما) 710
  • حق الأهل 806
  • حق العين 806
  • حق النفس 806
  • حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال (75) ، (210)
  • «... حلوان الكاهن خبيث» 770
  • الحلول والاتحاد (78)
  • الحوض 192 ، 195 ، 196 ، 197
  • الحياء 707
  • «الحياء شعبة من الايمان» 407
  • «خ»
  • خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس يتكلمون في القدر 261
  • خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المصلى يستسقي 332
  • الخزرج 244
  • خسوف الشمس على عهد رسول الله (421)
  • «خلافة النبوة ثلاثون سنة» 683 ، 709
  • «خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك» 680
  • «خلقت عبادي حنفاء» 24
  • «خلقك الله بيده وأسجد لك» 182
  • خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع 492
  • «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم» 499 ، 509
  • «... الخير كله بيديك ، والشر ليس إليك» (365) ، 614
  • «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم» 670
  • «د»
  • الدجال 762
  • دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعكاشة 203
  • دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى جنازة صبي 608
  • «الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة» 384
  • «ذ»
  • ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالاحاطة (219)
  • «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان» 798
  • «ذلك صريح الإيمان» 257
  • «ر»
  • رآه بعينه 169
  • رآه بقلبه (197)
  • «رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها» 65
  • «... رأيت الجنة وتناولت عنقودا» (421)
  • «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة» 537
  • رأيت عمر قبل أن يصاب بأيام بالمدينة (478)
  • «رأيت في مقامي هذا كل شيء» 582
  • «رأيت نورا» (197)
  • رأيت يد طلحة التي وقى بها الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 721
  • «ربنا لك الحمد» 468
  • «... رحمتي سبقت غضبي» 308 ، 602
  • الرخص 804
  • الرزق 89
  • الرسل من بني آدم (166)
  • رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بالأمر (267)
  • الرقية 778
  • رهبان 33
  • الرؤية 160
  • «ز»
  • الزبير (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • الزنى 522
  • زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق 313
  • «زينوا القرآن بأصواتكم» 151 / 1.
  • «س»
  • «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله» 304
  • «سباب المسلم فسوق» 369
  • سبحان الله! تراني في كنيسة (355)
  • «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» 179
  • سبيل الله 810
  • «... ستفترق (هذه الأمة) على ثلاث وسبعين ملّة» 502
  • سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) 719
  • سعد بن زيد (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • سعد بن مالك (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • «السلام على أهل الديار من المؤمنين» 638
  • «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين» 636
  • «... السمع والطاعة» 715
  • السنة ما سنه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (385)
  • السنة النبوية 495 ، 565
  • «ش»
  • شعب الإيمان (343) ، (359) ، 406
  • الشفاعة 67 ، 95 ، 124 ، 182 ، 198 ، 205 ، (234) ، (235) ، 606 ، 615 ، 661
  • «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» 206
  • «... شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون» 209
  • شهد الله بتدبيره العجيب (91)
  • الشيطان 792
  • «ص»
  • الصدقة عن الميت 640 ، 641
  • صلاة الاستخارة 37
  • الصلاة (1) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 338
  • «الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم» 480
  • «صلة الرحم تزيد في العمر» 89
  • «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا» 611
  • «صلوا خلف كل برّ وفاجر» 479
  • «صلوا خلف من قال : لا إله إلا الله» 482
  • صلى عمر وهو جنب ناسيا 485
  • صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيد الأضحى 648
  • «صنفان من بني آدم ليس لهم في الاسلام» 287
  • صوامع 33
  • الصّور 199
  • «ض»
  • «ضع يدك على الذي تألم من جسدك» 70
  • الضلال 174 ، 799
  • «ط»
  • الطاعة 491 ، 492 ، 501 ، 715
  • طلحة (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • «الطهور شطر الإيمان» 572
  • «ع» و «غ»
  • عائشة (أمّ المؤمنين رضي الله عنها) 382 ، 608 ، 686
  • «عائشة ... أبوها ... عمر وعدّ رجالا» 686
  • عبد الرحمن بن أبي بكر (رضي الله عنه) 676
  • عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • عبد مناف 218 / 1.
  • عثمان بن عفان (رضي الله عنه) 727 ، 728
  • «عجبا لأمر المؤمن ، ان أمره كله خير» 111
  • العجم 461
  • عذاب القبر (396)
  • العراف 767 ، 768
  • العرب 461
  • «العرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله» 294 ، 305
  • عرضت المصحف على ابن عباس ، من أوله الى آخره (214)
  • «عشرة في الجنة : النبي في الجنة» (487)
  • عكاشة بن محصن 203
  • علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة (118)
  • «على مثلها فاشهد» 29
  • «على المرء المسلم السمع والطاعة» 494
  • العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم (75)
  • «علّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك» 565
  • علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) 713 ، 727 ، 728
  • «عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي» 98
  • عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 507 ، 686 ، 692 ، 694 ، 696 ، 727 ، 728
  • عملوا ـ والله ـ بالطاعات واجتهدوا فيها (325)
  • عيسى (عليه‌السلام) 790
  • «العينان تزنيان وزناهما النظر» 404
  • الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت (361)
  • «ف»
  • «فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب» 201
  • «فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا» 800
  • «... فإن الناس يصعقون فأكون أول» 126 ، 297
  • «فداك أبي وأمي» 720 ، 724
  • الفراسة 752
  • «فرغ الله عزوجل من المقادير وأمور الدنيا» 80
  • «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت» 122
  • «... فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» 497
  • (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) (484)
  • «... فلا أدري أفاق قبلي» 126 ، 297 ، 553 ، 555
  • «فلا يطمع في هذا الأمر طامع» (472)
  • «فما عرفتم منه فاعملوا به» 802
  • فيعطون نورهم على قدر أعمالهم 562
  • «ق»
  • «قاربوا وسددوا فكل ما يصاب به المسلم» 390
  • «قال الله عزوجل : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها» 513 / 1.
  • «قالت الملائكة : ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة» 513 / 2.
  • قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا بخمّ 738
  • «قبض أرواحكم وردها عليكم» 517
  • «قد أردت منك ما هو أهون من ذلك» 227
  • «... قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم» 190
  • «قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» 190 ، (224)
  • «قد خبأت لك خبأ ، فقال : هو الدّخّ» 101
  • «قد سألت الله لآجال مضروبة» 88
  • «قد كان في الأمم قبلكم محدثون» 695
  • قد نظرت إلى القراءة فرأيت قراءتهم (315)
  • القدر نظام التوحيد 245 ، 288
  • «القدرية : مجوس هذه الأمة» 284 ، 809
  • «قدّر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن» 80 ، 87 ، 281
  • القرآن 59 ، 71 ، (176) ، 738
  • القرآن في المصاحف مكتوب (176)
  • قريظة 724
  • «قل آمنت بالله ثم استقم» (518)
  • «قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا» 631
  • «قوم يسنون بغير سنتي ويهدون» 495
  • «ك»
  • «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج» 244
  • كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح قال 32
  • كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول ربنا لك الحمد 468
  • «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء» 79
  • «كان الله ولا شيء قبله» (135)
  • «كان الله ولم يكن شيء قبله» 79 ، (135)
  • «كان الله ولم يكن شيء معه» 79 ، (135)
  • «كان رجلان في بني اسرائيل متواخيين» 364
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حراء 729
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجعا كاشفا عن فخذيه 707
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا 46
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا إذا أصبحنا 32
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم 179
  • كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في ركعتي الفجر (362)
  • «كان عرشه على الماء» 80 ، (135)
  • كان عمر لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة (377)
  • كان الناس يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخير (380)
  • كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان 732
  • كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقبل القبلة في دعائه 332
  • كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة 37
  • «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم» 3
  • الكتابيون 502
  • «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق» 80 ، 272
  • كثرة السؤال 798
  • «كذبت ، لا يدخلها فإنه شهد بدرا» 731
  • الكرسي موضع القدمين 299
  • «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» 545
  • «كل مولود يولد على الفطرة» 23
  • «كل مولود يولد على الملة» (84)
  • «كل مولود يولد على هذه الملة» (84)
  • «كلا كما محسن لا تختلفوا فإن من كان قبلكم» 360 ، 795
  • كلا والله لا يخزيك الله ، انك لتصل الرحم 106
  • الكلب 770
  • «كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان على الرحمن» 573
  • كنّا اذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا (238)
  • كنانة 125
  • كنّا نصلي يوما وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رفع رأسه 65
  • كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي ، أفضل أمة النبي 718
  • الكهانة 375 ، 769
  • «ل»
  • «لأبعثن إليكم رجلا أمينا» 726
  • «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله» 713
  • «لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة» 218 / 2.
  • «لا إله إلا الله العظيم الحليم» 293
  • «لا ، الإيمان مكمل في القلب» 415
  • «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا» 778
  • «لا ، بل فيما جفت به الأقلام» 240 ، 273
  • «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» 286
  • «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس» 128 ، 553 / 1.
  • لا تخيروني على موسى 126
  • «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» 370
  • «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» 6
  • «لا تسبوا أحدا من أصحابي» 665
  • لا تسبوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم 669
  • «لا تشددوا فيشدد الله عليكم» 33
  • «لا تفضلوا بين أنبياء الله» 128
  • «لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون» 126 ، 129 ، 297
  • «لا تفضلوني على يونس بن متى» 131
  • «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس» 765
  • «لا تلعنه ، فو الله ما علمت ، إنه يحب الله ورسوله» 366
  • «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر» 93
  • لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها 446
  • «لا تؤمنوا حتى تحابّوا» 421
  • «لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي» 461
  • «... لا مانع لما أعطيت» (368)
  • «... لا نبي بعدي» 712
  • «لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل» 382
  • لا يجهل ، ولا يجهل (141)
  • «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد» 490
  • «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» 671 ، 730
  • «لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله» 399
  • «لا يرد القدر إلا الدعاء» 92
  • «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة» 736
  • «لا يزال أمر الناس ماضيا» 735
  • «لا يزال هذا الأمر عزيزا» 736
  • «لا يزني الزاني حين يزني» 373 ، 402 ، 420 ، 522
  • «... لا يزيد في العمر إلا البر» 92
  • «لا يسمع بي رجل من هذه الأمة» 140
  • لا يشبه شيئا من خلقه ، ولا يشبهه شيء من خلقه (117)
  • «لا يصلي أحد عن أحد» 634 ، 643
  • «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» 394
  • لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير 132 ، (163)
  • لا ينبغي لعبد لي 132 ، (163)
  • «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده» 417
  • «... لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك» 662
  • «لبيك وسعديك والخير كله في يديك» 615
  • «لبيك وسعديك والخير كله في يديك» 614
  • «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها» 262
  • «لتتبعن سنن من كان قبلكم» 812
  • اللعن 19 ، 800
  • لعن الله عمرو بن عبيد (524)
  • «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور» 19
  • «لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا» 65
  • لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام (209)
  • «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» 312
  • «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها» 468
  • لقد قفّ شعري مما قلت (196)
  • «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي» 589
  • «لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة» 285
  • «لكل نبي حواريّ ، وحواريي الزبير» 723
  • لم ضحكت؟ فقال : «إنه انزلت علي آنفا سورة الكوثر» (227)
  • «لم لطمت وجهه؟» 128
  • لم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض تلك الأيام 722
  • لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر (386)
  • «لما أصيب إخوانكم جعل الله أرواحهم» 538
  • «لما خلق الله آدم مسح على ظهره» 221
  • «لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل» 588
  • «لما خلق الله القلم» (265)
  • «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب» 308 ، 602
  • «لن يدخل أحد الجنة بعمله» 613
  • «لن ينجي أحدا منكم عمله» 630
  • «لو أن الله عذّب أهل سماواته» 629
  • «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما» 790
  • «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه» 171
  • «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا» 136 ، 334 ، 679
  • «لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله» 530
  • لو لا ذلك لأبرز قبره (82)
  • «لو لبث أهل النار في النار» (1) 601
  • «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم» 251
  • لو همّ رجل في البحر أن يكذب في الحديث (356)
  • «ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل» 263
  • «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني» 719
  • «ليردنّ علي ناس من أصحابي» 193
  • «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك» (412)
  • «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني (339)
  • «ليس الخبر كالمعاينة» 401
  • ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم (139)
  • «ليس المخبر كالمعاين» 401
  • «ليس وراء ذلك من الإيمان» (340)
  • «ليسوا بشيء» ـ الكهان ـ 769
  • «م»
  • «ما أنا عليه وأصحابي» 263 ، 503 ، 791
  • «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه» 804
  • «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا» 804
  • «ما تذاكرون ، ... أنها لن تقوم» 759
  • «... ما ترددت في شيء أنا فاعله» 458 ، 505 ، 753
  • ما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل 668
  • «ما تعدون المفلس فيكم» 379
  • ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد 351
  • ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث (355)
  • ما السماوات السبع والأرضون السبع (281)
  • «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه» 175
  • ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد 300
  • ما لا نفس له سائلة 519
  • «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض» 261
  • «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب» 734
  • «ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي الله» 457
  • «ما من رجل يدعو الله بدعوة» 656
  • «ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال» 762
  • «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب» 239
  • «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه» 512
  • «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب» 388
  • مانوية (80)
  • «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن» 119
  • مجوس (80) ، 284 ، 285 ، 809
  • المحدثون 615
  • محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم 95 ، 120 ، 196 ، 649
  • «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» 677
  • معاذ بن جبل (رضي الله عنه) 211
  • «... ملء السماوات وملء الأرض» 469
  • الملائكة عليهم‌السلام 707
  • «مم تضحكون» 571
  • «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه» 375 ، 767 ، 768
  • «من أتى عرافا فسأله عن شيء» 767
  • «من أتى كاهنا فصدقه» 375 ، 767 ، 768
  • «من أحب أن يبسط له في رزقه» 89
  • «من أحب لله ، وأبغض لله» 411
  • «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (507)
  • «من أرضى الله بسخط الناس» 278
  • «من أطاعني فقد أطاع الله» 491
  • «من البهاء والحسن (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)» 160
  • «من التمس رضى الله بسخط الناس» 278
  • «من التمس محامد الناس بمعاصي الله» 278
  • «من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر» 788
  • من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب (196)
  • «من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه» 268 ، 345
  • «من حلف بغير الله فقد كفر» 213 ، 376
  • «من حمل علينا السلاح فليس منا» 423
  • من خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم 690
  • «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» 496
  • «من رأى منكم رؤيا» 680
  • «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» 410
  • «... من رغب عن سنتي فليس مني» 804
  • «من سرته حسنته وساءته سيئته» 521
  • من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر (117) ، (138)
  • «من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا» 359
  • من طلب الدين بالكلام تزندق (209)
  • من طلب العلم بالكلام تزندق (75)
  • «من طلب محامد الناس بمعصية الله» 278
  • «من عادى لي وليا» 458 ، 505 ، 753
  • «من عمل عملا ليس عليه أمرنا» 779
  • «من غشنا فليس منا» 422
  • «من فارق الجماعة شبرا» 497
  • من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه (343)
  • «من قال اني خير من يونس بن متى» (162) ، (163)
  • «من قال : سبحان الله وبحمده» 590
  • «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ» 166
  • «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ» 167
  • «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة» 341
  • «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله» 13
  • «... من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» 504
  • من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات (383 ، 470)
  • «من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة» 378
  • من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ (201)
  • من لم يتوقّ النفي والتشبيه زلّ (464)
  • «من لم يسأل الله يغضب عليه» 653
  • من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى (485)
  • «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» 642
  • «من هذا؟» فقال سعد بن أبي وقاص 719
  • من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد (118)
  • «من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم» 724
  • «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس» 597
  • منا أمير ومنكم أمير 689
  • المنكر 777
  • «... مهر البغي خبيث» 770
  • «مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم» 174 ، 799
  • «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله» 354
  • الموت 576
  • موسى عليه‌السلام 107 ، 108 ، 126 ، 129 ، 297 ، 555 ، 712 ، 789 ، 790
  • ميكائيل عليه‌السلام 177
  • «ن»
  • الناس في حجور علمائهم كالصبيان (105)
  • ناظروا القدرية بالعلم (271)
  • ندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم الخندق 723
  • النذر 93
  • «نزل إلى السماء الدنيا» 185
  • «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» 518 ، 539 ، 586
  • النصارى 19 ، (79) ، 264 ، 811
  • نظرت في القدر فتحيرت (147)
  • نعم (الصدقة) 640
  • «نعم ، وفيه دخن» 495
  • نمرّها كما جاءت ونؤمن بها (215)
  • نهى عن بيع الولاء وهبته 445
  • «نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي» 770
  • «نهى عن النذر وقال : «إنه لا يأتي بخير» 93
  • «نهى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على المنافقين (377)
  • نوح عليه‌السلام 210
  • «نور أنّى أراه» 170
  • «ه»
  • هارون 712
  • «هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له» 488
  • «هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم» 428
  • «هذا سبيل الله» ، ثم خطّ خطوطا 810
  • «... هذا عن أمتي جميعا» 649
  • «... هذا عن محمد وآل محمد» 649
  • هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى 108
  • «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده 708
  • هرقل ملك الروم (153)
  • «هل تدرون كم بين السماء والأرض» 294
  • «هل تضارون في القمر ليلة 162
  • هل رأى محمد ربه (196)
  • هل رأيت ربك؟ (197)
  • «هل ظلمتكم من حقكم شيئا» 618
  • هل كان في آبائه من ملك (153)
  • «هلك المتنطعون» 176
  • هلك من لم يكن له قلب 289
  • هلموا نزدد إيمانا (343)
  • «هم في الظلمة دون الجسر» 560
  • «هو نهر اعطانيه ربي عزوجل في الجنة» 194
  • «هو نهر وعدنيه ربي» 194
  • «و»
  • «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» 387
  • «والذي نفسي بيده أنكم أحب الناس إلي» 336
  • «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن» 111
  • «والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع (416)
  • «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد» 571
  • «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم» 674
  • «والله إني لأحبك» 335
  • «والله لقد رأيت كلامك يصعد في السماء» (124)
  • «وأنا أشهد» 307
  • «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» 437
  • «وإياي ، لكن الله أعانني عليه فأسلم» 512
  • «وايم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت» 584
  • «وجبت» 488
  • «وجنتان من فضا آتيهما وما فيها» 164
  • (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (190)
  • وحدة دين الأنبياء 803
  • ورقة بن نوفل 108
  • الوسوسة 258
  • وضع عمر على سريره فتكنّفه الناس (477)
  • وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة 501
  • «وقد وجدتموه ... ذلك صريح الإيمان» 257
  • وقعت الفتنة الأولى ـ مقتل عثمان ـ (524)
  • «وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر» (134)
  • «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله» 613 ، 630
  • الولاء 445
  • ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم 147
  • «ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا» 136 ، 679
  • «ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة» 493
  • وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه 165
  • «... وما ترددت في شيء أنا فاعله» 458 ، 505 ، 753
  • وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل 668
  • (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (360)
  • «ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» 73
  • «وهل يكبّ الناس في النار» 157
  • «ويحك أتدري ما تقول» 311
  • «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» 508
  • ويلك أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها (284)
  • «ي»
  • «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» 676 ، 685
  • يأتيني صادق وكاذب 102
  • «يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟» 390
  • «يا أبا ذر لو عمل الناس بهذه الآية» 460
  • يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام (209)
  • «يا أهل الجنة خلود فلا موت» 599
  • يا بني اسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا (261)
  • «يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله شيئا» 218 / 1.
  • «يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب» 641
  • «يا رسول الله ان أمي افتلتت نفسها ولم توص» 640
  • يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال 311
  • يا رسول الله ، رأيت كأن دلوا دلي 682
  • «يا رسول الله ما لي ان قتلت في سبيل الله» (403)
  • «يا عبادي انما هي أعمالكم أحصيها لكم» 550
  • «يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي» 627
  • «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم» 56
  • «يا عمر أتدري من السائل» (272)
  • «يا عمر تراني قد رضيت وتأبى» 507
  • «يا غلام ألا أعلمك كلمات : احفظ الله» 274
  • «يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم» 174 ، 799
  • «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده» 211
  • «يا ولي الإسلام وأهله مسّكني بالإسلام» 478
  • «يبعث من كل ألف ، 999 إلى النار» 350
  • «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل» 315 ، 510
  • «يجمع الله الناس يوم القيامة (415)
  • «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب» 59
  • «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» 447
  • «يخرج من النار من كان في قلبه» 456 ، 474
  • «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء» 208
  • «يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم» 481 ، 486
  • «يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان» 64
  • «يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم» 315
  • «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات» 556
  • «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة» 222
  • «يقول الله تعالى : انا عند ظن عبدي بي» 355 ، 393
  • «يقول الله تعالى : شفعت الملائكة وشفع النبيون» 209
  • «يقول الله تعالى : من عادى لي وليا» 458 ، 505 ، 753
  • يمجسانه 23
  • اليمن 79
  • «ينادي مناد من السماء ان صدق عبدي» 581
  • «ينادي مناد يا أهل الجنة» 598
  • ينزل بلا كيف (223)
  • «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا» 655
  • ينصرانه 23
  • يهود 19 ، (83) ، 128 ، 264
  • «اليهود مغضوب عليهم والنصارى» 811
  • «... يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» 23
  • «يؤتى بابن آدم يوم القيامة» 574
  • «يؤتى بالموت كبشا أغر» 576
  • «يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش» 57
  • «يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين» 170
  • يونس عليه‌السلام 131 ، 132