

«النوع الرابع»
فى إبطال التشبيه ، وما لا يجوز على الله تعالى
ويشتمل على إحدى
عشرة مسألة :
الأولى : فى أنه ـ
تعالى ـ ليس بجوهر.
الثانية : فى أنه
ـ تعالى ـ ليس بجسم.
الثالثة : فى أنه
ـ تعالى ـ ليس بعرض.
الرابعة : فى
امتناع حلول الحوادث بذاته.
الخامسة : فى أنه
ليس فى جهة ، ولا مكان.
السادسة : فى أنه
ليس فى زمان.
السابعة : فى أنه
لا يحل فى محل.
الثامنة : فى الرد
على النصارى.
التاسعة : فى أنه
لا يوصف بالألم ، واللذة ، ولا بشيء من أجناس الأعراض.
العاشرة : فى أنه
ليس بعاجز.
الحادية عشرة : فى
استحالة الكذب فى كلامه.
«المسألة الأولى»
«فى أنه ليس بجوهر»
مذهب أهل الحق : أن الله ـ تعالى ـ ليس بجوهر.
وذهبت الفلاسفة ،
والنصارى إلى أنه ـ تعالى ـ جوهر بسيط لا تركيب فيه. وربما تحاشى بعض الحذاق من
الفلاسفة : كابن سينا ، وغيره ، من إطلاق اسم الجوهر على الله ـ تعالى ـ مصيرا
منه إلى أن الجوهر : هو الّذي له ماهية إذا وجدت فى الأعيان كان وجودها لا فى
موضوع ؛ وذلك لا يكون إلا فيما وجوده يزيد على ماهيته. والبارى ـ تعالى لا يزيد
وجوده على ماهيته ؛ بل ذاته وجوده ، ووجوده ذاته ؛ فلا يكون جوهرا.
والمعتمد
هو أنا نقول :
لو كان البارى ـ تعالى
ـ جوهرا ؛ لم يخل ؛ إما أن يكون جوهرا كالجواهر ، أو لا كالجواهر.
فإن
كان الأول : فهو محال لوجوه
خمسة :
الأول
:
أنه لا يخلو : إما
أن يكون وجوده واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته.
فإن كان واجبا
لذاته : لزم اشتراك جميع الجواهر فى وجوب الوجود لذاتها ؛ ضرورة اشتراكها فى معنى
الجوهرية ؛ وهو محال.
__________________
وإن كان ممكنا :
لزم أن يكون قابلا للحدوث ، والعدم ؛ وهو خلاف الفرض ؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فى
واجب الوجود لذاته.
الثانى
:
أنه إما أن يكون
قابلا للتجزئة ، أو لا يكون قابلا للتجزئة.
فإن / كان الأول :
لزم أن يكون جسما مركبا ؛ وهو محال كما يأتى .
وإن كان الثانى :
فيلزم أن يكون فى الحقارة والصغر ، بمنزلة الجوهر الفرد ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن
ذلك.
الثالث
:
أنه لا يخلو : إما
أن يكون بذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة عليه ، أو لا يكون قابلا لها.
فإن كان الأول :
فيلزم أن يكون محلا للحوادث ؛ وهو محال كما يأتى .
وإن كان الثانى :
فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها فى المعنى ؛ وهو محال خلاف
المحسوس.
الرابع
:
أنه لا يخلو : إما
أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها هاهنا ، أو هاهنا ، أو لا تكون قابلة
لذلك.
فإن كان الأول :
فيكون متحيزا ؛ إذ لا معنى للتحيز إلا هذا ، والتحيز على الله ـ تعالى ـ محال
لوجهين :
الأول : أنه إما أن
يكون منتقلا عن حيزه ، أو لا يكون منتقلا عن حيزه.
فإن كان منتقلا
عنه ؛ فيكون متحركا. وإن لم يكن منتقلا عنه ؛ فيكون ساكنا. والحركة والسكون حادثان
على ما يأتى. وما لا يخلو عن الحوادث ؛ فهو حادث ، والحادث لا يكون واجبا لذاته.
__________________
الوجه الثانى : هو
أن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته ، أو لمخصص من خارج.
فإن كان لذاته :
فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة فى المعنى.
وإن كان بغيره :
فيكون الرب ـ تعالى ـ مفتقرا إلى غيره فى وجوده ؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته.
وإن كان غير متحيز
: لزم فى كل جوهر أن يكون غير متحيز ؛ ضرورة المساواة فى المعنى ؛ وهو محال.
كيف : وأنه لا
معنى للجوهر غير المتحيز بذاته ، فما لا يكون كذلك ؛ لا يكون جوهرا.
الخامس
:
أنه لو كان جوهرا
كالجواهر ؛ لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر ؛ فإنه لا أولوية لبعض الجواهر
بالعلية دون البعض ؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا ، أو أن يكون
كل جوهر معلولا للآخر ؛ والكل محال.
فإن
قيل : الجواهر وإن
تماثلت فى الجوهرية إلا أنها متمايزة ، ومتغايرة بأمور موجبة لتعيين كل واحد منها
عن الآخر.
وعند ذلك : فلا
مانع من اختصاص بعضها بأمور وأحكام ، لا وجود لها فى البعض الآخر ، ويكون ذلك
باعتبار ما به التعين ، لا باعتبار ما به الاشتراك ؛ فنقول : والكلام فى اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام فى الأول ؛ وهو
تسلسل ممتنع ؛ فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به
لمخصص من خارج ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.
هذا / إن قيل إنه
جوهر كالجواهر.
وإن قيل إنه جوهر
لا كالجواهر : فهو تسليم للمطلوب ؛ فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر. وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظى ؛ فالنزاع لفظى ولا مشاحة فيه.
إلا من جهة ورود التعبد من الشارع به ؛ ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته.
__________________
وعلى هذا فمن قال
: إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا فى موضوع ، والموضع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة ، أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر فى وجوده إلى غيره كما
قاله [أبو الحسين البصرى ] مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر ؛ فقد وافق فى
المعنى ، وأخطأ فى الإطلاق من حيث أنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه ، ولا ورد فيه إذن من الشارع.
فإن
قيل : لا خفاء فى إطلاق
اسم الجوهر على الجواهر الحادثة ، وانها مختصة بهذا الاسم عن جميع أجناس الأعراض ،
ولا شك أن بين الجواهر والأعراض اتفاقا وافتراقا ، وليس مدلول اسم الجوهر ما به
الاتفاق ، وإلا لسميت الأعراض جواهر.
فلم يبق إلا أن
يكون المدلول ما به الافتراق ، وما به مفارقة الجواهر للأعراض ، إنما هو قيامها
بنفسها ، أو أنها موجودة لا فى موضوع. وهذا المعنى متحقق فى حق الله ـ تعالى ـ فصح
تسميته جوهرا ، بالنظر إلى تحقيق موضوع الاسم لغة.
فنقول : من
أصحابنا من منع كون الجواهر الحادثة قائمة بأنفسها. وهو اختيار أبى إسحاق
الأسفرايينى مصيرا منهم. إلى أن القائم بنفسه هو الغنى المطلق عن الافتقار إلى
الغير مطلقا ، وهو على وفق إشعار اللغة ؛ فإنهم يعبرون بالقائم بنفسه عمن يقدّرونه
مستبدا بنفسه غير محتاج إلى الأعوان ، والأنصار ؛ والجواهر ليست كذلك ؛ فإنها
مفتقرة فى حدوثها إلى المحدث ، وفى استمرارها إلى استمرار البقاء وبعض الأعراض.
وعلى هذا فقد
امتنع أن يكون مناط اسم الجوهر هو القيام بالنفس.
ثم وإن سلمنا أن
الجوهر الحادث قائم بنفسه ؛ فلا نسلم أنه لا امتياز للجواهر عن الأعراض إلا به ؛
فإنها متميزة بكونها متحيزة بذاتها ، وأنها محل الأعراض. فلعل مناط اسم الجوهر هذا
؛ وهو غير متحقق فى الإله ـ تعالى ـ
__________________
سلمنا أن مناط
الاسم كونه قائما بنفسه. غير أن ذلك غير كاف فى جواز الإطلاق دون إذن الشارع وإلا
لصح تسميته سخيا ؛ لكونه جوادا ؛ إذ هو مدلول اسم السخى فى وضع / اللغة. وأن يسمى
فقيها ؛ لكونه عالما ؛ إذ هو مدلول اسم الفقيه لغة ؛ وليس كذلك.
فإن
قيل : قد يسمى أصل
الشيء جوهرا. ومنه يقال لذات الشيء جوهره. ولنسب الرجل جوهره. وقد يطلق أيضا على
كل شيء نفيس خطير أنه جوهر. ومنه يقال لبعض [اللآلى ] النفيسة جوهر ، والبارى ـ تعالى ـ أصل كل شيء ، وأنفس من
كل نفيس ؛ فكان جوهرا.
قلنا : إن لم يكن
المصحح لإطلاق اسم الجوهر فى الشاهد موجودا فى الغائب ؛ فقد امتنع الإلحاق ، وإن
كان موجودا ، فإنما يصح الإلحاق أن لو صح القياس فى اللغة ؛ وهو غير مسلم ، وإن صح
؛ ولكن لا بد من الإطلاق الشرعى ، والإذن فيه على ما تقدم.
__________________
«المسألة الثانية»
فى أن البارى ـ تعالى ـ ليس بجسم
مذهب
أهل الحق : أن البارى ـ تعالى ـ ليس بجسم.
وذهب
بعض الجهال : إلى أنه جسم.
ثم اختلفوا.
فذهب
بعض الكرامية : إلى أنه جسم ، بمعنى أنه موجود.
وذهب
بعضهم : إلى أنه جسم ،
بمعنى أنه قائم بنفسه.
وذهب
بعض المجسمة : إلى أنه جسم حقيقة ، وأنه متصف بأحكام الأجسام ( وأنه متصف بصفات الجسمية ).
ثم إن منهم من قال
: إنه مركب من لحم ودم ، كمقاتل بن سليمان ، وغيره.
ومنهم من قال :
أنه نور يتلألأ : كالسبيكة البيضاء ، وطوله سبعة أشبار بشبر نفسه.
ومن المجسمة من
غالا وقال : إنه على صورة الإنسان.
لكن منهم من قال :
على صورة شاب أمرد جعد قطط.
__________________
ومنهم من قال :
إنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية ، تعالى الله عن قول المبطلين.
والمعتمد
فى نفى التجسيم أن
يقال :
لو كان البارى ـ تعالى
ـ جسما : فإما أن يكون كالأجسام ، أو لا كالأجسام.
فإن كان كالأجسام
، فهو محال لثمانية أوجه.
منها أربعة : وهى
ما ذكرناها فى استحالة كونه جوهرا : وهى الأول ، والثالث ، والرابع ، والخامس. ويختص الجسم بأربعة أوجه :
الأول
: أنه إذا ثبت أن
الرب ـ تعالى ـ غير متصف بكونه جوهرا ؛ امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما ، لأن
الجسم مركب من الجواهر ، ومفتقر إليها. ويلزم من انتفاء ما لا بد منه فى كونه جسما
، أن لا يكون جسما .
الثانى
:
أنه قد ثبت أن
الرب ـ تعالى ـ متصف بالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغير ذلك من الصفات المثبتة من
قبل. فلو كان البارى ـ تعالى ـ جسما كالأجسام ، للزم من اتصافه بهذه الصفات المحال
، وما لزم منه المحال ؛ فهو محال.
وبيان ذلك من
وجهين :
الأول
: أنه لو اتصف بكل
واحدة / من هذه الصفات : فإما أن يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات ،
وإما أن يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء دون البعض ، وإما أن يكون كل جزء مختصا
بصفة. وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء.
فإن كان الأول :
فيلزم منه تعدد الآلهة ، وهو محال كما يأتى.
__________________
وإن
كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين
:
الأول
: أنه لا أولوية بأن
يكون بعض الأجزاء متصفا بها ، دون الباقى ، مع التساوى فى
المعنى.
فإن
قيل : هذا إنما يلزم أن
لو تساوت الأجزاء. ولعله مركب من أجزاء مختلفة بالنوعية. وعلى هذا فلا يقال لا
أولوية.
فنقول
: تلك الأجزاء إما
أن تكون أيضا أجساما ، أو جواهر بسيطة لا تركيب فيها.
فإن كان الأول :
فالكلام فى اتصاف ذلك الجسم الّذي هو الجزء كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن
كان الثانى : فذلك الجزء هو
الإله ، وهو عود إلى أن الرب ـ تعالى ـ جوهر ، وقد أبطلناه.
الوجه
الثانى : أنه يلزم أن يكون الإله ـ تعالى ـ هو ذلك الجزء دون غيره ، ولا
يمكن أن يقال بأنه وإن قامت هذه الصفات بجزء واحد إلا أن الحكم بالعالمية ،
والقادرية ، وغير ذلك يعم الجملة. فإنا سنبين أن حكم العلة لا يتعدى محلها.
وإن كان الثالث :
وهو أن يكون كل جزء مختصا بصفة من جملة الصفات ، ولا وجود لغيرها فيه ؛ فلا أولوية
أيضا.
وإن كان الرابع :
فهو محال : لما فيه من قيام المتحد بالمتعدد.
الوجه الثانى : فى بيان لزوم المحال من اتصافه بهذه الصفات. وهو أنه لا
يخلو : إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته ، أو لغيره.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته للتساوى فى الحقيقة على ما وقع به
الفرض.
وإن كان الثانى :
فيلزم أن يكون الرب ـ تعالى ـ مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته ، والمحتاج الى غيره فى
إفادة صفاته له لا يكون إلها .
__________________
الثالث
:
هو أنه لو كان
جسما ؛ لكان له بعد ، وامتداد ، وذلك [البعد ] إما أن يكون غير متناه ، أو متناهيا.
فإن كان غير متناه
: فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات ، أو من بعض الجهات دون البعض.
فإن كان الأول :
فهو محال لوجهين :
الأول : ما سنبينه
من إحالة بعد لا يتناهى.
والثانى : أنه يلزم
منه أن لا يوجد جسم غيره ، أو أن يداخل الأجسام ، ويخالط القاذورات ؛ وهو محال.
/ وإن كان الثانى
: فهو ممتنع أيضا لوجهين :
الأول : ما سنبينه
أيضا من إحالة بعد لا يتناهى.
والثانى : أنه إما
أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية ، دون الآخر لذاته ، أو لمخصص من خارج.
فإن كان الأول :
فهو محال ؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى :
فيلزم أن يكون الرب ـ تعالى ـ مفتقرا فى إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ، ولا معنى
للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم ؛ فيكون الرب ـ تعالى ـ معلول الوجود ؛ وهو
محال.
وإن كان متناهيا
من جميع الجهات : فله شكل ومقدار. وهو إما أن يكون مختصا بذاك المقدار ، والشكل :
إما لذاته ، أو لأمر خارج.
فإن كان الأول :
لزم اشتراك جميع الأجسام فيه ، ضرورة الاتحاد فى الطبيعة.
وإن كان الثانى :
فالرب تعالى محتاج فى وجوده إلى غيره ؛ وهو محال .
الرابع
. أنه لو كان جسما ؛ لكان مركبا من الأجزاء ؛ وهو محال
لوجهين :
__________________
الأول
: أنه يكون مفتقرا
إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ، وكل واحد منها
غير مفتقر إليه. وما افتقر إلى غيره كان ممكنا ، لا واجبا لذاته. وقد قيل : إنه
واجب لذاته.
الثانى
:
أن تلك الأجزاء :
إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها ، أو ممكنة ، أو البعض واجبا ، والبعض ممكنا. لا
جائز أن يقال بالأول : على ما سيأتى تحقيقه فى إثبات الوحدانية.
وإن كان الثانى ،
أو الثالث : فلا يخفى أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان
والاحتياج. والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ، وما لا يكون واجبا لذاته ؛ لا
يكون إلها . هذا كله إن قيل إنه جسم كالأجسام.
وإن قيل : إنه جسم
لا كالأجسام. كان النزاع فى اللفظ ، دون المعنى. والطريق فى الرد ، ما أسلفناه فى
كونه جوهرا .
فإن [قيل] : ما نشاهده من الموجودات ، ليس الا أجساما وأعراضا.
وإثبات قسم ثالث مما لا نعقله.
وإذا كانت
الموجودات منحصرة فى الأجسام ، والأعراض ؛ فالبارى ـ تعالى ـ ليس بعرض ؛ لأن العرض
مفتقر إلى الجسم ، والبارى ـ تعالى ـ لا يفتقر إلى شيء ، وإلا كان ما يفتقر إليه
أشرف منه ؛ وهو محال. وإذا لم يكن عرضا : تعين أن يكون جسما.
وأيضا : فإنه قد ثبت أن الرب ـ تعالى ـ فاعل على الحقيقة ، ولم
نشاهد فاعلا على الحقيقة إلا جسما. حتى أنه لو أخبر مخبر أنه رأى فاعلا على
الحقيقة ليس بجسم ؛ لكان ذلك منه مستنكرا : كاستنكاره أنه شاهد اجتماع السواد ،
والبياض.
__________________
وإذا ثبت استحالة
كون الفاعل / فاعلا فى الشاهد . وليس بجسم ؛ فكذلك فى الغائب ، وهذا كما أنه لما استحال
كون العالم عالما فى الشاهد بدون العلم ، وبدون الحياة ؛ وجب طرد ذلك فى الغائب.
وأيضا : فإنه قد
ثبت أن الله ـ تعالى ـ عالم بالأجسام. ولا معنى لكونه عالما بها ، غير انطباع
صورها فى نفسه. وانطباع المتجزئ فى غير المتجزئ محال.
وأيضا : قد ثبت اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالعلم ، والقدرة ، وغير
ذلك من الصفات ، ولا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا أنها موجودة فى الحيز تبعا
لمحلها. وإلا فلا يكون قيام أحدهما بالآخر ، بأولى من العكس. وإذا كان البارى ـ تعالى
ـ فى الجهة كان جسما.
وأيضا : فيدل على
كونه جسما : ما ورد من الظواهر الدالة على كونه بوجه ، ويدين ، وعينين ، إلى غير
ذلك من الصفات الخبرية ؛ وذلك دليل على كونه جسما.
ثم وإن سلمنا أنه
ليس جسما على الحقيقة ؛ ولكن ما المانع من إطلاق اسم الجسم عليه؟ وإن لم يكن جسما
فى الحقيقة. كما أطلق عليه أنه نفس ، وورد به القرآن بقوله ـ تعالى ـ (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ
ما فِي نَفْسِكَ) . وليس بنفس حقيقة ؛ إذ النفس لا تخرج عن كونها جسما لطيفا
، أو جوهرا ، أو عرضا ، على اختلاف المذاهب.
والجواب :
أما الشبهة الأولى
: فمندفعة ، فإن حاصلها يرجع إلى الوهم بإعطاء الغائب ، حكم الشاهد ، من غير جمع
بجامع ، والحكم على غير المحسوس ، بمثل ما حكم به على المحسوس ؛ وهو كذب غير صادق
كما سلف . وذلك : كحكم الوهم على أن أبعاد العالم لا نهاية لها ، وأنه ما من نهاية ،
إلا وبعدها نهاية أخرى ، إلى ما لا يتناهى.
وإن كان العقل قد
دل على النهاية.
__________________
ثم ولو لزم أن
يكون جسما كما فى الشاهد ؛ للزم أن يكون حادثا كما فى الشاهد. وإن كان لا يخلو عن
الأعراض التى لا تخلو عنها الأجسام فى الشاهد : كالحركة ، والسكون ، وغير ذلك ؛
وبه اندفاع الشبهة الثانية أيضا.
وما استشهدوا به
من فصل العلم ، والعالم عنه جوابان :
الأول : لا نسلم
أن كون العالم عالما ، يزيد على قيام العلم به حتى يكون العلم علة له ، على ما سيأتى فى إبطال الأحوال.
الثانى : وإن
سلمنا ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن مستند كونه علة فى الغائب ؛ لكونه عالما ؛ القياس على
الشاهد ؛ بل مستند ذلك إنما هو الدليل القاطع العقلى. العام للشاهد ، والغائب. أما
أن يكون أحدهما مقاسا على الآخر ؛ فلا.
وأما شبهة
الانطباع / فقد سبق جوابها .
والقول بأنه لا
معنى لقيام الصفة بالموصوف غير وجودها فى الجهة تبعا لمحلها ؛ غير مسلم.
وأما الظواهر
الدالة على التجسيم ؛ فقد سبق جوابها .
قولهم : ما المانع من مجرد التسمية؟
قلنا : لعدم مساعدة اللغة ، وورود الإذن من الشارع بذلك ولا
يلزم من تسميته نفسا ؛ تسميته جسما ؛ فإن مدلول النفس فى كل شيء ذاته وحقيقته ،
ولهذا يقال : نفس الجوهر ، ونفس العرض إشارة إلى ذاته. والرب ـ تعالى ـ له ذات
وحقيقة ؛ فكان مسمى باسم النفس.
وإن سلمنا إطلاق الاسم مجردا عن مسماه ؛ فلا يلزم مثله فى الجسم من
غير جامع ، وإن وجد الجامع ، فإنما يصح القياس ، والإلحاق أن لو كان القياس فى
اللغة صحيحا ؛ وهو ممنوع. وإلا لصح أن يسمى سخيا وفقيها ؛ وهو باطل كما سبق.
__________________
«المسألة الثالثة»
فى أنه ـ تعالى ـ ليس بعرض
وقد اتفق العقلاء
على أن الرب ـ تعالى ـ ليس بعرض ؛ لأنه لو كان عرضا : فإما أن يكون من جنس الأعراض
، أو لا يكون من جنس الأعراض .
فإن
كان من جنس الأعراض : فهو ممتنع لأربعة أوجه :
الأول
: أنه لو كان من جنسها
؛ لكان ممكنا ، أو كانت باقى الأعراض واجبة ؛ ضرورة التساوى فى معنى العرضية ؛ وهو
محال.
الثانى
: أنه لو كان من
جنسها : فإما أن يفتقر إلى محل يقوم به ، أو لا يفتقر.
فإن كان الأول :
خرج عن كونه واجب الوجود لذاته ؛ لافتقاره إلى ما يقوّمه فى وجوده.
وإن كان الثانى :
لزم منه استغناء باقى الأعراض عن المحل ، ضرورة الاتحاد فى معنى العرضية.
الثالث
: أنه لو كان عرضا
لاستحال بقاؤه على ما يأتى. وخرج عن كونه واجب الوجود لذاته.
الرابع
: أنه قد ثبت كون
الرب ـ تعالى ـ متصفا بالصفات النفسانية من العلم ، والقدرة ، وغير ذلك. وهذه
الصفات معان ؛ فلو كان عرضا ؛ لكان معنى. والمعنى لا يقوم بالمعنى ، على ما يأتى
تحقيقه. هذا إن كان من جنس الأعراض.
وإن
لم يكن من جنسها : فحاصل النزاع راجع إلى اللفظ دون المعنى ؛ كما سبق ، ولا وجه لإطلاقه مع عدم
ورود الشارع به ، والله أعلم.
__________________
«المسألة الرابعة»
فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى.
وقبل الخوض فى الحجاج لا بد من تخليص محل النزاع فنقول / المراد
بالحادث المتنازع فيه ، الموجود بعد العدم ، كان ذاتا قائمة بنفسها : كالجواهر ،
أو صفة لغيره : كالأعراض.
وأما ما لا وجود
له : كالعدم ، أو الأحوال عند القائلين بها ؛ فإنها غير موصوفة بالوجود ، ولا
بالعدم : كالعالمية ، والقادرية ، والمريدية ، ونحو ذلك. أو الكسب ، والإضافات ؛
فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها. فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال
له متجدد ، ولا يقال له حادث.
وعند هذا فنقول :
اتفق العقلاء من
أرباب الملل ، وغيرهم على استحالة قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ غير المجوس ، والكرامية ، فإنهم اتفقوا : على جواز قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ. غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب ـ تعالى
ـ ؛ بل قال أكثرهم : هو ما يفتقر إليه فى الإيجاد ، والخلق.
__________________
ثم اختلفوا فى هذا
الحادث.
فمنهم من قال : هو
قوله : (لكِنْ).
ومنهم من قال : هو
الإرادة. فخلق الإرادة ، أو القول فى ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث.
وأما خلق باقى
المخلوقات فمستند إلى الإرادة ، أو القول على اختلاف مذاهبهم. فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه
بالحادث. والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث.
ومنهم من زاد على
ذلك حادثين آخرين : وهما السمع ، والبصر.
وأجمعت الكرامية :
على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة ، لا يتجدد له منها اسم ، ولا يعود إليه
منها حكم ، حتى أنه لا يقال : إنه قائل بقول ، ولا مريد بإرادة ؛ بل قائل
بالقائلية ، ومريد بالمريدية. ولم يجوزوا عليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا
يزال ؛ بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى الرازق ، والخالق ، وإن لم يكن فى الأزل
رزق ، ولا خلق.
وأما ما كان من
الصفات المتجددة التى لا وجود لها. فما كان منها حالا ؛ فقد اتفق المتكلمون على
امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها ؛ غير أبى الحسين البصرى ، فإنه قال :
تتجدد عالميات
الله ـ تعالى ـ بتجدد المعلومات. وما كان من النسب ، والإضافات ، والمتعلقات ؛
فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها حتى يقال إنه موجود مع
العالم ، بعد أن لم يكن ، وأنه خالق للعالم بعد أن لم يكن. وما كان من الأعدام ،
والسلوب ، فإن كان سلب أمر يستحيل / تقدير وجوده لله ـ تعالى ـ ؛ فلا يكون متجددا
بالإجماع ؛ لكونه ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، إلى غير ذلك.
وإن كان سلب أمر
لا يستحيل تقدير اتصاف الرب ـ تعالى ـ به : كالنسب ، والإضافات ؛ فغير ممتنع أن
يتصف به الرب ـ تعالى ـ بعد أن لم يكن بالاتفاق ؛ فإنه إذا كان الحادث موجودا صح
أن يقال : الرب ـ تعالى ـ موجود مع وجوده ، وتنعدم هذه المعية
__________________
عند فرض عدم ذلك
الحادث ، فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن ، واذا أتينا على تلخيص محل النزاع ؛ فنعود إلي المقصود.
وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى
ـ بحجج ضعيفة :
الحجة الأولى :
قالوا
: لو كان البارى ـ تعالى
ـ قابلا لحلول الحوادث بذاته ؛ لما خلا عنها ، أو عن أضدادها ، وضد الحادث حادث.
وما لا يخلو عن الحوادث ؛ فيجب أن يكون حادثا ، والرب ـ تعالى ـ ليس بحادث ، وهذه
الحجة مبنية على خمس مقدمات :
المقدمة الأولى :
أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد.
والثانية : أن ضد
الصفة الحادثة لا بد ، وأن يكون حادثا.
والثالثة : أن ما
قبل حادثا ؛ فلا يخلو عنه ، وعن ضده.
والرابعة : أن ما
لا يخلو عن الحوادث ؛ حادث.
والخامسة : أن
الحدوث على الرب ـ تعالى ـ محال.
أما أن الرب ـ تعالى
ـ ليس بحادث ؛ فقد سبق تقريره .
وأما أن ما لا
يخلو عن الحوادث ؛ فهو حادث ؛ فسيأتى تقريره فى حدوث الجواهر . وإنما الإشكال فى المقدمات الثلاث الأول ؛ وذلك أن لقائل
أن يقول :
قولكم : إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد : فإما أن يراد بالضد
معنى وجودى يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما ، وإما أن يراد به ما هو أعم من
ذلك ؛ وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما ، حتى يقال :
بأن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها.
__________________
فإن
كان الأول : فلا نسلم أنه لا
بد وأن يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار ، والاستدلال على موقع المنع عسير جدا.
وإن
كان الثانى : فلا نسلم أنه
يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا. ولو
كان عدمه حادثا ، كان وجوده سابقا على عدمه ؛ وهو محال.
ثم وإن سلمنا أنه
لا بد وأن يكون ضد الحادث معنى وجوديا ؛ ولكن لا نسلم امتناع خلو المحل عن الصفة
وضدها بهذا الاعتبار. وحيث قررنا فى مسألة الكلام والإدراكات / أن القابل لصفة لا
يخلو عنها ، أو عن ضدها. إنما كان بالمعنى الأعمّ ، لا بالمعنى الأخص ، فلا مناقضة
.
الحجة
الثانية :
أنه لو قامت
الحوادث بذاته ؛ لكان لها سبب. والسبب إما الذات ، أو خارج عنها.
فإن كان هو الذات
: وجب دوامها بدوام الذات ، وخرجت عن أن تكون حادثة.
وإن كان خارجا عن
الذات : فإما أن يكون معلولا للإله ـ تعالى ـ أو لا يكون معلولا له.
فإن كان الأول :
لزم الدور.
وإن كان الثانى :
فذلك الخارج يكون واجب الوجود لذاته ، ومفيدا للإله تعالى ـ صفاته ؛ فكان أولى أن
يكون هو الإله.
وهذه المحالات
إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ فكان محالا.
ولقائل أن يقول :
وإن افتقرت الصفات
الحادثة إلى سبب ؛ فالسبب إنما هو القدرة القديمة ، والمشيئة الأزلية القائمة بذات
الرب تعالى ـ كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه. فليس
__________________
السبب هو الذات ،
ولا خارج عنها. ولا يلزم من دوام القدرة ، دوام المقدور ، وإلا كان العالم قديما ،
وهو محال.
فإن
قيل : إذا كان المرجح
للصفة الحادثة ، هو القدرة القديمة والاختيار ؛ فلا بد وأن يكون الرب ـ تعالى ـ قاصدا
لمحل حدوثها ، ومحل حدوثها ليس إلا ذاته ؛ فيجب أن يكون قاصدا لذاته ، والقصد إلى الشيء يستدعى كونه فى الجهة ؛ وهو باطل ، ثم ولجاز قيام كل حادث ، وهو محال .
وأيضا فإن الصفة
الحادثة عند الكرامية إنما هى قوله كن ، والإرادة التى هى مستند وجود المحدثات.
وعند ذلك : فلا
حاجة إلى الحادث الّذي هو القول ، أو الإرادة ؛ لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى
القدرة القديمة.
قلنا : أما الأول : فمندفع ، فإن القصد إلى إيجاد الصفة ، وإن
استدعى القصد إلى محل حدوثها ، فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل فى الجهة أن لو
كان القصد بمعنى :
الاشارة إلى
الجهة. وليس كذلك ؛ بل بمعنى : إرادة إحداث الصفة فيه ، وذلك غير موجب للجهة. ثم
وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة فى المحل يوجب كون المحل فى جهة ؛ فيلزم من ذلك
امتناع القصد من الله ـ تعالى ـ إلى إيجاد الأعراض ؛ لأن القصد إلى إيجادها يكون
قصدا لمحالها ، ويلزم من ذلك أن تكون محالها فى الجهات ، والقصد إلى ما هو فى جهة
ممن ليس فى الجهة محال. وذلك / يفضى إلى أن يكون الرب ـ تعالى ـ فى الجهة عند قصد
خلق الأعراض ؛ وهو محال.
والقول بأنه إذا
جاز خلق بعض الحوادث فى ذاته ، جاز خلق كل حادث ، فدعوى مجردة ، وقياس من غير جامع
؛ وهو باطل على ما أسلفناه فى تحقيق الدليل.
وأما
الثانى : فحاصله يرجع
إلى لزوم رعاية الغرض ، والحكمة فى أفعال الله تعالى ؛ وهو غير موافق لأصولنا.
__________________
وإن كان ذلك بطريق
الإلزام للخصم ؛ فلعله لا يقول به. وإن كان قائلا به ؛ فليس القول بتخطئته فى
القول بحلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ضرورة تصويبه فى رعاية الحكمة أولى من
العكس .
الحجة
الثالثة :
أنه يقال : لو كان
قابلا لحلول الحوادث بذاته ؛ لكان قابلا لها فى الأزل. وإلا كانت القابلية عارضة
لذاته ، واستدعت قابلية أخرى ؛ وهو تسلسل ممتنع. وكون الشيء قابلا للشىء فرع إمكان
وجود المقبول ؛ إذ القابلية نسبة بين القابل والمقبول ؛ فيستدعى تحقق كل واحد
منهما ، ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث فى الأزل ، وحدوث الحوادث فى الأزل ؛
ممتنع ؛ للتناقض بين كون الشيء أزليا ، وبين كونه حادثا.
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أنه لو
كان قابلا لحلول الحوادث بذاته ؛ لكان قابلا لها فى الأزل ؛ فإنه لا يلزم من
القبول للحادث فيما لا يزال ـ مع إمكانه ـ القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا.
والقول بأنه يلزم
منه التسلسل ؛ يلزم عليه الإيجاد بالقدرة للمقدور ، وكون الرب خالقا للحوادث ؛
فإنه نسبة متجددة بعد أن لم تكن ، فما هو الجواب به هاهنا يكون الجواب ثم.
وإن سلمنا أنه
يلزم من القبول فيما لا يزال ، القبول أزلا ؛ فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود
المقبول أزلا. ولهذا على أصلنا البارى ـ تعالى ـ موصوف فى الأزل بكونه قادرا على
خلق العالم ؛ ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا .
__________________
الحجة
الرابعة :
أنه لو قامت
الحوادث بذاته ؛ لكان متغيرا. والتغير على الله ـ تعالى ـ محال. ولهذا قال (الخليل
) عليهالسلام : (لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ) أى المتغيرين.
ولقائل أن يقول :
إن أردتم بالتغير
حلول الحوادث بذاته ؛ فقد اتحد اللازم والملزوم ، وصار حاصل الشرطية : لو قامت
الحوادث بذاته / ؛ لقامت الحوادث بذاته ؛ وهو غير مفيد ، ويكون القول بأن التغير
على الله ـ تعالى ـ بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع ؛ فلا تقبل.
وإن أردتم بالتغير
معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله ـ تعالى ـ ؛ فهو غير مسلم ، ولا سبيل إلى
إقامة الدلالة عليه.
وأما المعتزلة : فمنهم من قال :
المفهوم من قيام
الصفة بالموصوف ، حصولها فى الحيّز تبعا لحصول محلها فيه ، والبارى ـ تعالى ـ ليس
بمتحيّز ؛ فلا تقوم بذاته الصفة.
ومنهم من قال :
الجوهر إنما صح قيام الصفات به ، لكونه متحيزا ؛ ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن
متحيزة ؛ لم يصح قيام المعانى بها ، والبارى ـ تعالى ـ ليس بمتحيز ؛ فلا يكون محلا
للصفات وهاتان شبهتان تدلان على انتفاء الصفة عن الله ـ تعالى ـ مطلقا كانت قديمة
، أو حادثة ؛ وهما ضعيفتان جدا.
أما
الشبهة الأولى : فلقائل أن يقول : لا نسلم أنه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه ؛ بل
معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف فى الوجود.
وعلى هذا فلا يلزم
أن يكون المعلول قائما بالعلة ؛ لكونه متقوما بها فى الوجود ؛ إذ ليس المعلول صفة
، ولا العلة موصوفة به.
__________________
وأما
الشبهة الثانية : فلقائل أن يقول : لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر ؛ لكونه متحيزا ؛ بل أمكن أن
يكون ذلك بمعنى مشترك بينه وبين البارى ـ تعالى ـ وإن كان ذلك لكونه متحيزا ؛ فلا يلزم من انتفاء
الدليل فى حق الله ـ تعالى ـ انتفاء المدلول ؛ كما تقدم تحقيقه.
كيف : وقد أمكن أن
يكون ذلك لمعنى اختص به البارى ـ تعالى ـ ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين فى صورتين .
والمعتمد
فى المسألة حجتان
: تقريرية ، وإلزامية :
أما
التقريرية : فهو أن يقال :
لو جاز قيام
الصفات الحادثة بذات الرب ـ تعالى ـ فإما أن توجب نقصا فى ذاته ، أو فى صفة من
صفاته ، أو لا توجب شيئا من ذلك.
فإن
كان الأول : فهو محال
باتفاق العقلاء ، وأهل الملل.
وإن
كان الثانى : فإما أن تكون
فى نفسها صفة كمال ، أو لا صفة كمال. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كان الرب ـ تعالى
ـ ناقصا قبل اتصافه بها ؛ وهو محال أيضا بالاتفاق.
ولا جائز أن يقال
بالثانى لوجهين :
الأول
: اتفاق الأمة ،
وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف / الرب ـ تعالى ـ بغير صفات الكمال ،
ونعوت الجلال.
الثانى
: هو أن وجود كل شيء
أشرف من عدمه ؛ فوجود الصفة فى نفسها ، أشرف من عدمها ، فإذا كان اتصاف الرب ـ تعالى
ـ بها لا يوجب نقصا فى ذاته ، ولا فى صفة
__________________
من صفاته على ما
وقع به الفرض ، فاتصافه إذن إنما هو فى نفسه كمال لا عدم كمال. ولو كان كذلك ؛
لكان ناقصا قبل اتصافه بها ؛ وهو محال كما سبق .
الحجة
الثانية
: من جهة المناقضة
للخصم ، والإلزام ، وذلك من ثمانية أوجه :
الأول
: أن من مذهب
الكرامية : أنهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله ـ تعالى ـ فيما لا يزال كما
بيناه من قبل ، فلو قامت بذاته صفات حادثة ؛ لاتصف بها ، وتعدى إليه حكمها :
كالعلم ، فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما ، وكذا فى سائر الصفات القائمة
بمحالها. وسواء كان المحل قديما ، أو حادثا. وسواء كانت الصفة قديمة ، أو حادثة ؛
إذ لا فرق بين القديم ، والحادث من حيث أنه محل قامت به صفة ؛ إلا فيما يرجع إلى
أمر خارج ؛ فلا أثر له.
وإذا ثبت ذلك ،
فيلزم أن يقال : إنه قائل بقول ، ومريد بإرادة ، ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له
قبل قيام الصفة الحادثة به ؛ وهو مناقض لمذهبهم .
الثانى
:
هو أن الكرامية
موافقون على أن القول ، والإرادة. لا يقومان إلا بحى : كالسمع ، والبصر. وقد
وافقوا على أن الحى إذا خلا عن السمع والبصر ، لا يخلو عن ضدهما.
وعند ذلك : فإما
أن يقولوا بأن الله ـ تعالى ـ يخلو عن القول الحادث ، أو الإرادة الحادثة. وعن
ضدهما ؛ فلا يجدون إلى الفرق بينهما ، وبين السمع والبصر ، سبيلا.
وإن قالوا بأنه لا
يخلو الرب ـ تعالى ـ عن القول ، أو الإرادة ، أو عن ضدهما. فلا يخلو ذلك الضد :
إما أن يكون قديما ، أو حادثا.
فإن كان الأول :
فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ، ضرورة حدوث ضده ؛ وهو محال بالاتفاق ، وبالدليل
على ما يأتى.
__________________
وإن كان الثانى :
فالكلام فى ذلك الضد ، كالكلام فى الأول ؛ ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب ـ تعالى
ـ على وجه لا يتصور خلوه عن واحد منها. والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية
، على ما سبق فى إثبات واجب الوجود. وما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ضرورة .
الثالث
:
أن من مذهبهم / أن
القول الحادث ، والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم ، والرائحة ، وأنه يجوز فى
الشاهد تعرى الجواهر عن الأقوال ، والإرادات ، والطعوم ، والروائح والألوان ، مع
جواز اتصافها به. وقد أحالوا قيام الألوان ، والطعوم ، والروائح بذات الله ـ تعالى
ـ وجوزوا ذلك فى القول ، والإرادة.
ولو قيل لهم : لم
لا قضيتم بجواز قيام الطعوم ، والألوان ، والروائح بذات الله ـ تعالى ـ من غير أن
يلزم استحالة التعرى عنها كما فى القول الحادث ، والإرادة الحادثة ؛ لم يجدوا إلى
الفرق سبيلا .
الرابع
:
هو أن من مذهبهم
أن الرب ـ تعالى ـ متحيز ، وأنه مقابل للعرش ، وأكبر منه ، وليس مماثلا لجوهر فرد
من العرش.
وقد قالوا بأن
العرض الواحد لا يقوم بجوهرين : كالصفة الحادثة فى ذات الله ـ تعالى ـ وهى القول ،
أو الإرادة. كما هو مذهبهم ؛ فوجب قيامها مع اتحادها بجزءين ؛ فصاعدا ؛ وهو مناقض
لمذهبهم.
الخامس
:
هو أن من مذهبهم
أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث ، أو الإرادة الحادثة. ومستند القول ،
والإرادة إنما هو القدرة القديمة ، والمشيئة الأزلية. ولا فرق بين الحادث ،
والمحدث من جهة تجدده ، وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا
فى التجدد.
__________________
فلو قيل لهم : لم
لا اكتفى بالقدرة القديمة ، والمشيئة الأزلية فى حدوث المحدثات من غير توسط القول
، أو الإرادة كما اكتفى بها فى القول ، والإرادة ؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
السادس
:
ويخص القائلين
بحدوث القول. وذلك أنهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة ، والحروف
متضادة. فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض ؛ نعلم استحالة الجمع بين
الحروف ، وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله (كن). وقد وافقوا على استحالة
تعرى البارى ـ تعالى ـ عن الأقوال الحادثة فى ذاته ، بعد قيامها به.
وعند ذلك : فإما
أن يقال باجتماع حروف القول فى ذاته ـ تعالى ـ أو لا يقال باجتماعها.
فإن
قيل باجتماعها. فإما أن يقال بتجزؤ ذات الله ـ تعالى ـ وقيام كل حرف بجزء منه. وإما أن يقال
بقيامها [بذاته] مع اتحاد الذات.
فإن
كان الأول : فهو محال لوجهين
:
الأول
: أنه يلزم منه /
التركيب فى ذات الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه فى إبطال القول بالتجسيم .
الثانى
: أنه ليس اختصاص
بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض ، أولى من العكس.
وإن
كان الثانى : فيلزم منه اجتماع
المتضادات فى شيء واحد ، وهو محال.
وإن لم يقل
باجتماع حروف القول فى ذاته ؛ فيلزم منه مناقضة أصلهم فى أن ما اتصف به الرب ـ تعالى
ـ يستحيل عروه عنه ، بعد اتصافه به. والحرف السابق الّذي عدم عند وجود [الحرف] اللاحق قد كان صفة للرب ـ تعالى ـ وقد زال بعد وجوده له.
__________________
السابع
:
أنهم جوزوا اجتماع
الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ، ومنعوا ذلك فى العلم ، والقدرة ، ولو سئلوا
عن الفرق ؛ لكان متعذرا.
الثامن
: أنهم أطلقوا اسم
المحدث على ما كان متجددا فى الشاهد ، ومنعوا من ذلك فى الغائب ، والفرق مع
الاستواء فى التجدد ؛ غير مقبول.
وللكرامية ثلاث
شبه :
الشبهة الأولى :
أنهم قالوا : وقع
الاتفاق بين الأمة على أن الرب ـ تعالى ـ متكلم ، مريد ، سميع ، بصير ؛ ولا بد وأن
يكون متكلما بكلام ، مريدا بإرادة ، سميعا بسمع ، بصيرا ببصر ؛ على ما تقدم فى
الصفات. وقد قام الدليل على حدوث الكلام ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ؛ بما تقدم
فى الصفات أيضا.
وعند ذلك : فإما
أن تكون هذه المعانى قائمة بذاته ، أو بغيره ، أو لا بذاته ، ولا بغيره.
لا جائز [أن يقال ] بالثانى ، والثالث ؛ لما تقدم فى الصفات أيضا. فلم يبق
إلا الأول ؛ وهو المطلوب.
الشبهة الثانية :
وتخص القائلين
بقيام المعانى القديمة بذات الرب ـ تعالى ـ وهو أنهم قالوا : قيام المعانى القديمة
بذات الله ـ تعالى ـ صحيح بالاتفاق منا ، ومن القائلين بها ، ولا
فارق بينها وبين المعانى الحادثة ، غير القدم والحدوث. والقدم معنى سلبى ؛ وهو سلب
الأولية ؛ فلا يصلح لدخوله فى المقتضى لقيام المعنى بالذات ؛ فلم يبق إلا أن يكون
هو القدر المشترك بين القديمة والحادثة ، وعليه بناء المطلوب.
__________________
الشبهة الثالثة :
لو امتنع قيام
المعانى الحادثة بذات الرب ـ تعالى ـ فإما أن تمتنع. لما به الاتفاق بينها ، وبين
المعانى القديمة ، أو لما به الاختلاف . وما به الاختلاف ليس غير الحدوث ؛ وهو كون العدم سابقا على وجود الصفة.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا لامتنع قيام المعانى القديمة بذاته.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : / لأن الامتناع إنما يكون عند تقدير وجود الحادث ، وما به الامتناع ،
يجب أن يكون حاصلا عند فرض الامتناع ؛ فيجب أن يكون حاصلا ، عند تقدير الوجود
الممتنع. والعدم السابق لا تحقق له عند فرض الوجود الممتنع ؛ فلا يصح تعليل
الامتناع به.
والجواب
عن الشبهة الأولى : ما تقدم فى الصفات من امتناع حدوث المعانى القائمة بذات الله ـ تعالى
ـ.
وعن
الشبهة الثانية : بمنع الحصر ؛ والبحث لا يدل عليه يقينا على ما تقدم. وإن سلمنا الحصر ؛ ولكن
لا نسلم أن القدم عدم ؛ بل هو عبارة عن سلب العدم السابق ؛ وسلب العدم ثبوت.
وإن سلمنا أن
القدم عدم ؛ فالحدوث وجود ؛ إذ لا معنى للحدوث غير سلب القدم ، وسلب القدم يجب
أن يكون ثبوتيا.
وعند ذلك : فلا
مانع من كونه مانعا ، أو ما لازمه من القيام بذات الله ـ تعالى.
وعن
الشبهة الثالثة : بمنع التساوى بين القديم ، والحادث. فى غير الاسم. وإن سلمنا الاشتراك فى
المعنى من وجه ؛ فلا نسلم أنه لم يختص الحادث بمعنى غير الحدوث.
وإن سلمنا ذلك ؛
ولكن لا نسلم أن الحدوث سابق حالة تقدير الامتناع.
__________________
قولهم : إن الحدوث
عبارة عن سبق العدم ؛ لا نسلم ؛ بل هو عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم. وفرق
بين الأمرين. وكونه مسبوقا بالعدم ، أمر ملازم للحدوث ، ومع الحدوث. والله أعلم.
«المسألة الخامسة»
فى أن الله ـ تعالى ـ ليس فى جهة ، ولا مكان
والّذي صار إليه
أهل الحق من الملل كلها : أن البارى ـ تعالى ـ ليس فى جهة ، ومكان .
واتفقت المشبهة :
على أنه ـ تعالى ـ فى جهة. وخصصوها بجهة فوق دون غيرها من الجهات. ثم اختلفوا :
فذهب أبو عبد الله
محمد بن كرام : الى أن كونه فى الجهة : ككون الأجسام. حتى أنه قال : إنه
مماس للصفحة العليا من العرش. وجوز عليه الحركة ، والانتقال ، وتبدل الجهات عليه.
وإلى ذلك ذهبت اليهود ـ لعنهم الله ـ حتى [أنهم ] قالوا : إن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد ، وأنه
يفضل على العرش من كل جانب
__________________
أربعة أصابع. وقد
وافقهم على جواز مماسة الرب ـ تعالى ـ للأجسام بعض المشبهة كمضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمى. حيث قالوا : إن المخلصين من
المسلمين يعانقون الرب ـ تعالى ـ فى الدنيا ، والآخرة.
ومنهم من قال :
إنه محاذ للعرش من غير مماسة. ثم اختلف هؤلاء :
فمنهم من قال : إن
ما بينه ، وبين العرش من المسافة متناهية.
ومنهم من قال :
إنها / غير متناهية.
ومنهم من قال : إن
كون الرب ـ تعالى ـ فى جهة لا ككون الأجسام.
والمعتمد فى ذلك
أن يقال :
لو كان البارى ـ تعالى
ـ فى جهة وحيز ، لم يخل : إما أن يكون فى الجهة والحيز : ككون الأجسام : وهو أن
يكون بحيث يشار إليه بالحس : أنه هاهنا أو هاهنا ، وإما أن لا يكون فى الجهة والحيز : ككون الأجسام.
فإن كان الأول :
فإما أن يكون فى كل جهة ، أو فى جهة واحدة.
فإن كان فى كل جهة
: فيلزم منه أن تكون ذوات التحيزات ، وذوات الجهات مداخلة لذاته ـ تعالى ـ ومتحدة
بها ، أو لا يكون لشيء من الجواهر والأجسام المتحيزة حيز ، ولا جهة ؛ ضرورة كون
الرب ـ تعالى ـ شاغلا لكل جهة ، وحيز ؛ وهو محال.
وإن كان فى جهة واحدة
، وحيز واحد ؛ فهو ممتنع لوجهين :
الأول
: أن ذلك الحيز وتلك
الجهة : إما أن يكون وجوديا ، أو لا يكون وجوديا.
فإن كان وجوديا :
فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.
فإن كان قديما :
فهو محال ؛ لما سيأتى فى بيان حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ
__________________
وإن كان حادثا :
فالبارى ـ تعالى ـ قبل حدوث هذا الحادث لا يكون فى جهة ، ولا حيز ؛ وهو خلاف مذهب
الخصم.
وإن لم يكن وجوديا
: فليس كون الرب ـ تعالى ـ فى الجهة والحيز ككون الأجسام ؛ وهو خلاف الفرض.
الثانى
: أنه لا يخلو : إما
أن يكون ذلك الحيز المعين ؛ هو حيز العالم ، أو غيره.
فإن كان الأول :
فهو محال ، لما سبق فى القسم الأول.
وإن كان الثانى :
فإما أن يكون مماسا للعالم ، أو غير مماس له.
فإن
كان مماسا له : فهو ممتنع لوجهين :
الأول
: أنه إما أن يكون
مساويا له ، أو أكبر منه ، أو أصغر . فإن كان مساويا له : فيلزم أن يكون مركبا ؛ ضرورة أن
المماس منه لبعض العالم غير المماس منه للبعض الآخر ، ولأن العالم مركب ، فما ماسه
وساواه ؛ فيكون مركبا. وإذا كان الرب ـ تعالى ـ متحيزا مركبا ، فيكون جسما ؛ وهو
محال ؛ لما سبق .
الثانى
: هو أن ما ماس من
الرب ـ تعالى ـ العالم غير ما لم يكن منه مماسا له. وفى ذلك أيضا ما يوجب التركيب
فى ذات الله ـ تعالى ـ ؛ وهو محال.
وعلى هذا يلزم
بطلان القسم الثانى أيضا. وإن كان أصغر من العالم.
فإما أن يكون مع
ذلك قابلا للقسمة ، أو لا يكون قابلا لها.
فإن كان قابلا
للقسمة ؛ فهو محال ؛ لما تقدم.
وإن كان غير قابل
للقسمة : فهو فى الصغر والحقارة ، نازل منزلة الجوهر الفرد. / والرب ـ تعالى ـ منزه
عن ذلك بالإجماع منا ، ومن الخصوم.
وإن لم يكن مماسا
للعالم :
فإما أن يكون بينه
وبين العالم امتداد متناه ، أو غير متناه.
__________________
فإن كان الأول :
فهو أيضا محال لما سبق ـ فيما إذا كان مماسا له.
وإن كان الثانى :
فهو محال ؛ لأن ما بين الحيزين من الامتداد منحصر بين حاصرين. وما لا يتناهى لا
يكون منحصرا بين حاصرين.
ثم لو كان من
العالم على بعد لا نهاية له ، فمن مذهب الكرامية القائلين بهذا المذهب : أن الله ـ
تعالى ـ يجوز أن يكون مرئيا. ومن شرط الرؤية عندهم : أن لا يكون المرئى فى غاية
البعد المفرط. فإذا كان على بعد لا نهاية له ؛ فهو فى غاية البعد المفرط ؛ فيمتنع
أن يكون مرئيا على أصلهم.
هذا كله إن كان
الرب ـ تعالى ـ فى الجهة والحيز ، ككون الأجسام.
وإن كان فى الجهة
لا ككون الأجسام : فالنزاع آئل الى اللفظ دون المعنى ، والأمر فى الإطلاق اللفظى
متوقف على ورود الشرع. وسيأتى ما فيه عن قرب. وقد استدل الأصحاب على امتناع كون
الرب ـ تعالى ـ فى الجهة والحيز ، بمسالك لا بد من ذكرها ، والتنبيه على ما فيها.
المسلك الأول :
وهو مسلك القاضى
أبى بكر ، وهو أن قال : لو كان البارى ـ تعالى ـ متحيزا ؛ لكان مشاركا للجوهر فى أخص أوصافه ،
والمشتركات فى أخص الأوصاف يلزم تماثلها ، ويلزم من ذلك أن يكون الرب ـ تعالى ـ جوهرا
؛ وهو باطل كما سبق.
وبيان أن الاختصاص
بالحيز من أخص أوصاف الجوهر. أن تميز الجوهر عن جميع الأعراض ليس إلا بذلك ؛ فكان أخص
وصف له.
وبيان أن الاشتراك
فى أخص الأوصاف ، يوجب التماثل. أنه لو لم يكن كذلك ؛ لجاز اختصاص أحد السوادين ،
بصفة لا ثبوت لها فى الثانى ، ولجاز اشتراك المختلفات
__________________
فى أخص صفة الواحد
منها. ويلزم من ذلك جواز كون السواد حلاوة ، علما ، قدرة ، إلى غير ذلك ؛ وهو محال
كما يأتى [تحقيقه ] فى التماثل ، والاختلاف .
ولقائل أن يقول :
وإن سلم مشاركة
البارى ـ تعالى ـ للجوهر فى الاختصاص بالحيز ؛ فلا نسلم أن اختصاص الجوهر بالحيز ،
من أخص أوصاف الجوهر ، وإنما يكون من أخص أوصاف الجوهر أن لو لم يكن ذلك من صفات الرب ـ تعالى ـ وإنما يمتنع أن يكون من صفات الرب ـ تعالى ـ أن لو كان من أخص صفات الجوهر ؛ فإذن يتوقف امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ به / على أنه من أخص صفات
الجوهر. وكونه من أخص صفات الجوهر ، متوقف على امتناع كونه صفة للرب ـ تعالى ـ ؛ وهو دور ممتنع.
وإن سلمنا أن
الاختصاص بالحيز من أخص أوصاف الجوهر ؛ فالاشتراك فيه هل يكون موجبا للتماثل؟
فسيأتى تحقيقه فى التماثل ، والاختلاف .
المسلك الثانى :
أنه لو كان الرب ـ
تعالى ـ مختصا بحيز ، وجهة . لم يخل : إما أن يكون اختصاصه بذلك الحيز لذاته ، أو لكون
قام بذاته أوجب اختصاصه بذلك الحيز.
لا جائز أن يقال
بالأول : لأن نسبة جميع الأحياز إلى ذاته ـ تعالى ـ نسبة واحدة ؛ فليس اختصاص ذاته
بالبعض أولى من البعض.
وإن كان الثانى :
فذلك الكون : إما قديم ، أو حادث.
لا جائز أن يكون
قديما : إذ الكون عرض ، والعرض متجدد غير باق على ما سيأتى ؛ فلا يكون قديما.
__________________
وإن كان حادثا :
كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع كما سلف .
ولقائل أن يقول :
من الجائز أن تكون
الأحياز ، والجهات مختلفة ؛ فإن التماثل غير معلوم بالضرورة ، ولا قام عليه
دليل نظرى.
وعند ذلك : فلا
نسلم أن نسبتها إلى ذات البارى ـ تعالى ـ على السوية. وعند ذلك فمن الجائز أن يكون اختصاص
ذاته ببعض الجهات لذاته. أو (أن) بعض الأحياز اقتضى لذاته. أن يكون مختصا بالبارى تعالى.
دون غيره من غير كون موجب للاختصاص . ثم وإن سلمنا تساوى الأحياز بالنسبة إلى ذات البارى ـ تعالى ـ
؛ ولكن لا نسلم أنه لا بد من كون مخصص له بالحيز.
ولهذا فإنه يصح
اتصاف الحى بالعلم والجهل ، على البدل ؛ لكون الحياة مصححة لكل واحد منهما. وما
لزم من اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالعلم الأزلى بدلا عن الجهل مع وجود المصحح له ، أن
يكون مخصصا بكون ؛ فكذلك فى اختصاصه بالحيز ، والجهة .
فإن
قيل : إنما اختص بالعلم
، وبغيره من الصفات الأزلية من غير مخصص من حيث كانت صفات مدح وكمال ؛ بخلاف الاختصاص ببعض الأحياز
، دون البعض.
وأيضا : فقد ثبت
أن البارى ـ تعالى ـ هو المخصص لسائر الموجودات ، وذلك يستدعى أن يكون متصفا
بالعلم ، والقدرة ، والإرادة. فلو استدعى فى اتصافه بهذه الصفات مخصصا ؛ لزم
التسلسل الممتنع.
قلنا : أما الأول : فإنما يصح أن لو ثبت أن الاختصاص ببعض
الأحياز ، والجهات ليس من صفات المدح ؛ وهو غير مسلم / من حيث أن جهة العلو أشرف
من جهة
__________________
السفل ؛ فالاختصاص
بها يكون من صفات المدح. اللهم إلا أن يبين لزوم النقص من الاختصاص بالحيز من جهة
أخرى.
وعند ذلك : فيكون
تركا لهذا المسلك ؛ وعدولا إلى غيره.
وأما
الثانى : فإن قيل بأن
المخصص لا يستدعى فى اتصافه بصفاته إلى مخصص مطلقا ؛ لزم طرد ذلك فى الاختصاص ، بالحيز ، والجهة.
وإن قيل بأنه لا
يفتقر إلى المخصص فى اتصافه بالصفات التى بها يكون مخصصا دون غيرها ؛ فلا يخفى أن صفة
الكلام ، والسمع ، والبصر [ليست] من الصفات الموجبة للتخصيص ؛ فيلزم أن يكون فى اتصافه بها
مفتقرا إلى مخصص ؛ وهو محال.
وإن سلمنا أن
اختصاص الرب ـ تعالى ـ بالحيز يوجب قيام المعنى المخصص به ؛ ولكن لا نسلم أنه عرض
، ولا متجدد ؛ بل حكمه حكم باقى صفات الرب ـ تعالى ـ من العلم ، والقدرة ، ونحوه ؛ فلا يكون ذلك موجبا لحلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ.
المسلك الثالث :
أنه لو كان البارى
ـ تعالى ـ مختصا بحيز ، وجهة. فإما أن يصح عليه أن يقع فى امتداد الإشارة ،
أو لا يصح عليه ذلك.
فإن لم يصح عليه
ذلك : فليس فى تلك الجهة حقيقة ؛ بل لفظا.
وإن صح عليه ذلك :
فإما أن يكون له بعد ، أو لا بعد له أصلا.
فإن لم يكن له بعد
، وامتداد : فليس فى الحيز ككون الجوهر فى الحيز. والنزاع فى كونه إذ ذاك متحيزا
ليس إلا من جهة اللفظ ، لا من جهة المعنى.
__________________
وإن كان له بعد :
فلا بد وأن يكون متناهيا من جميع الجهات ، وإلا فهو غير متناه من جميع الجهات ، أو
من بعض الجهات ؛ وهو محال ؛ لما سيأتى فى تناهى الأبعاد.
كيف : ويلزم من
كونه غير متناه من جميع الجهات ، ما ألزمناه فى المسلك الأول ؛ وهو محال.
وإذا كان متناهيا
من جميع الجهات : فله شكل ، ومقدار. وما من شكل ومقدار يقدر له إلا وفرض الأكبر ، والأصغر جائز عليه عقلا ، ونسبة الكل إلى ذاته واحدة ؛ فاختصاص
ذاته بالبعض دون البعض ، يستدعى مخصصا من خارج ، وإلا فلا أولوية لما اختصت به دون
غيره.
ثم ذلك المخصص :
لا جائز أن يكون مخصصا بذاته ؛ لأن نسبة الذات إلى سائر الجائزات نسبة واحدة. فلم
يبق إلا أن يكون فاعلا بالاختيار. وفعل الفاعل بالاختيار لا يكون إلا حادثا ـ على
ما سنبينه فى مسألة حدوث العالم ، ويلزم من / ذلك أن يكون ما اختص به الرب ـ تعالى ـ من
الشكل والمقدار ، حادثا ؛ وهو محال ؛ لما فيه من القول بحلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى
ـ كما سبق .
ولقائل أن يقول :
القول بحدوث
المقدار ، والشكل ؛ فرع جواز اتصاف الرب ـ تعالى ـ بمقدار أكبر مما هو عليه ، أو
أصغر ؛ وهو غير مسلم ؛ إذ المقادير والأشكال مختلفة. وعند ذلك : فلا مانع من القول
بوجوب اختصاص الرب ـ تعالى ـ بواحد منها لذاته ، دون غيره. وإنما يلزم الامتناع أن
لو تماثلت المقادير ، والأشكال ؛ وهى غير متماثلة.
المسلك الرابع :
أنه لو كان الرب ـ
تعالى ـ مختصا بحيز ، وجهة : فإما أن يصح عليه الخروج والانتقال عنه ، أو لا يصح عليه ذلك.
__________________
فإن
كان الأول : فيلزم عليه جواز
اتصافه بالحركة ، والحركة حادثة لحدوث أجزائها ؛ فيكون محلا للحوادث ؛ وهو محال ؛
لما سبق .
وإن
كان الثانى : فيكون كالزّمن
العاجز ؛ وذلك صفة نقص فى حق الله تعالى.
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن امتناع
الخروج عليه من حيزه صفة نقص. والعجز عن الانتقال عنه إنما يتحقق فيما من شأنه أن
يكون قابلا للانتقال. فما لم يتبين أن الرب ـ تعالى ـ قابل للانتقال عن حيزه ؛
فامتناع الانتقال عليه منه ؛ لا يكون عجزا ، فلا يكون ذلك من صفات النقص. وإلا كان
الرب ـ تعالى ـ موصوفا بالعجز عن الحركة ؛ لامتناعها عليه ، وإن لم يكن متحيزا ؛
وهو محال.
وللخصوم شبه عقلية
ونقلية :
أما
الشبه العقلية : فأربع.
الأولى
: أن كل شيئين قاما
بأنفسهما بحيث لا يكون أحدهما محلا للآخر : فإما أن يكونا متصلين ، أو منفصلين.
وعلى كلا التقديرين. فلا بد وأن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر ؛ وهو معلوم
بالضرورة ، والبارى ـ تعالى ـ والعالم كل واحد قائم بنفسه ؛ فيجب أن يكون كل واحد
منهما بجهة من الآخر : كانا متصلين ، أو منفصلين.
وربما عبر عن هذا
المعنى بعبارة أخرى ؛ فقيل : البارى ـ تعالى ـ إما أن يكون قد خلق العالم فى ذاته
، أو خارجا عن ذاته.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كان محلا للحوادث ؛ وهو محال كما سبق.
وإن كان الثانى :
فإما أن يكون متصلا به ، أو منفصلا عنه ، وعلى كلا التقديرين.
يجب أن يكون بجهة
منه.
__________________
الثانية
: أنه اما أن يكون
داخل / العالم ، [أو خارجا ] عنه. أو لا داخل العالم ، [ولا خارجا ] عنه.
لا جائز أن يكون
لا داخل العالم ، ولا خارجا عنه ؛ فإن إثبات موجود هذا حاله غير معقول.
وإن كان داخل
العالم : فالعالم فى جهته ؛ فما هو فيه يكون فى جهة. وإن كان خارج العالم : فلا بد
وأن يكون موازيا للعالم ، ومقابلا له ؛ فيكون فى جهته ، وإلا لما كان خارجا عنه.
الثالثة
: هو أن الوجود
منقسم إلى : قائم بنفسه ، وإلى غير قائم بنفسه ؛ بل هو معنى قائم بغيره ، والقائم
بنفسه : لا معنى له غير المتحيز بنفسه ، والقائم بغيره : لا معنى له غير القائم
بالحيز تبعا لمحله فيه ؛ فالبارى تعالى إن لم يكن متحيزا بنفسه ؛ فيكون قائما بغيره ؛ وهو محال ؛ كما سيأتى بعد.
الرابعة
: أنا أجمعنا على أن
الرب ـ تعالى ـ متصف بصفات قائمة به ، ولا معنى لقيام الصفات بالذات إلا أنها
موجودة فى جهة الذات ، تبعا للذات ، فلو لم تكن ذات الرب ـ تعالى ـ فى جهة ؛ لما
عقل قيام الصفات بها.
وأما الشبه
النقلية :
فمنها : قوله ـ تعالى
ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) . [ومنها] قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الآية ؛ والعندية مشعرة بالحيز ، والجهة.
__________________
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) . وقوله ـ تعالى ـ : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ؛ وذلك مشعر بالجهة.
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا) . وقوله ـ تعالى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ؛ وذلك أيضا مشعر بالجهة.
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) .
دل على أن الرب ـ تعالى
ـ فى السماء ؛ فإن مثل ذلك الفعل لا يكون لغير الله ـ تعالى ـ.
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)
وأما من جهة السنة
فحديث النزول على ما سبق .
وأيضا : قوله عليهالسلام للجارية الخرساء : «أين الله؟». ووجه الاحتجاج به من وجهين
:
الأول
: قوله : «أين الله؟» سأل عن الأينية. ولو لا أن الله ـ تعالى ـ متأين
؛ لما سأل عن [الأينية] .
الثانى
: أنها أشارت الى
السماء. ولم ينكر النبي عليهالسلام عليها ؛ بل قررها على ذلك ، وتقريره نازل منزلة صريح لفظه.
قالوا : وإذا ثبت
أنه فى جهة ، وجب أن تكون هى جهة العلو ، إذ هى أشرف الجهات ، وتخصيص أشرف
الموجودات ، بأشرف الجهات أولى ، ولهذا فإن الناس / بفطرهم يرفعون أيديهم عند
الدعاء والمسألة ، إلى جهة السماء. ولو لا اعتقادهم أنها أشرف الجهات ، وأنه مختص
بها ؛ لما كان كذلك.
__________________
والجواب
عن الشبهة الأولى : أن يقال :
إن أريد بالاتصال
، والانفصال ؛ قيام أحدهما بالآخر ، وامتناع القيام به. فالبارى ـ تعالى ـ بهذا
الاعتبار منفصل عن العالم ؛ ولكن ذلك مما لا يوجب كون كل واحد منهما فى جهة من
الآخر إلا أن يكون الرب ـ تعالى ـ قابلا للكون فى الجهة ؛ وهو عين محل النزاع.
وإن أريد بالاتصال
: ما يلازمه الاتحاد فى الجهة ، والحيز. وبالانفصال : ما يلازمه الاختلاف فى الجهة
، والحيز ؛ فذلك إنما يتم ويلزم ، أن لو كان البارى ـ تعالى ـ قابلا للحيز ،
والجهة ؛ وإلا فلا مانع من خلوه عنهما معا. فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال بهذا
الاعتبار ـ والخصم (لا) يسلمه إلا فيما هو قابل للجهة ، والحيز ـ كان دورا ؛ ودعوى البديهة فى ذلك ممتنع ؛ فإن البديهى لا
يخالف فيه أكثر العقلاء ، وأكثر العقلاء ، مخالفون فى نفى الجهة عن الله ـ تعالى ـ
وإن اكتفى فى ذلك بمجرد الدعوى ؛ فقد لا تؤمن المعارضة بمثله فى طرف النقيض.
وعن الشبهة الثانية :
باختيار أنه لا
داخل العالم ، ولا خارجا عنه ؛ فإن ذلك إنما هو من لوازم الجهة والحيز ، فما لا يكون فى جهة ، ولا حيز
؛ فلا يكون متصفا به.
والقول بأن ذلك
غير معقول ، إنما يصح فيما كان من ذوات الجهة والحيز. أما ما ليس من ذوات الجهة
والحيز ؛ فالقول بأنه إما داخل العالم ، وإما خارج عنه ؛ لا يكون معقولا.
وعن الشبهة الثالثة :
منع أنه لا معنى
للقائم بنفسه غير المتحيز ؛ بل القائم بنفسه : هو المستغنى عن محل يقومه. والبارى
ـ تعالى ـ كذلك ؛ وذلك لا يلزم منه كونه فى الجهة.
__________________
وعن الرابعة :
بمنع أنه لا معنى
لقيام الصفة بمحلها إلا كونها موجودة فى الحيز تبعا لمحلها فيه ، ومن المعلوم أن
ذلك غير ضرورى ، ولا دليل عليه.
وأما الشبه النقلية :
فمن باب الظواهر
الظنية ؛ فلا تقع فى مقابلة الأدلة العقلية اليقينية .
كيف وأنه مهما
تعارض دليلان ؛ فالجمع بينهما أولى من العمل بأحدهما ، وتعطيل الآخر ، وقد أمكن الجمع
بتأويل ما ذكروه من الظواهر ، على وجه موافق للدليل العقلى الدال على نفى الجهة ،
والحيز.
أما / قوله ـ تعالى
ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) . فقد سبق تأويله. وقوله ـ تعالى ـ (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) لم يرد به التقارب بالذوات ، والأحياز ؛ بل أراد به
الاختصاص بالاصطفاء ، والإكرام ، والاجتباء. ولهذا يقال : فلان عند الملك بمنزلة
عظيمة ؛ أى أنه مختص بالاصطفاء ، والاجتباء.
وقوله ـ تعالى ـ :
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) . معناه وقوعه من الله تعالى ـ موقع الرضا ، وعلو الرتبة ، وتعظيم
شأنه ، وليس المراد به الحركة ، والانتقال إلى جهة الله ـ تعالى ـ ؛ فإن الكلام
عرض ؛ وهو غير منتقل.
وقوله ـ تعالى ـ :
(تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ؛ فالمراد به عروجهم إلى حيث يأمرهم بالتقرب إليه. وليس
المراد به التقرب بالذوات ؛ وذلك كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) : أى بالتقرب إليه بالطاعة لا أن المراد به التقرب
بالمسافة.
__________________
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ؛ ليس المراد به الحركة والانتقال ؛ بل المراد به مجىء أمر
الرب ـ تعالى ـ لفصل القضاء يوم الدين بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه
مقامه ؛ وذلك كما فى قوله تعالى ـ : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) : أى أمره ، بالاتفاق منا ، ومن الخصوم.
وقوله ـ تعالى ـ :
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ، أى عذاب الله فى ظلل من الغمام ، بطريق حذف المضاف ،
وإقامة المضاف إليه مقامه. وإنما خصصه بالظلل من الغمام ؛ لأن أكثر العقوبات كانت
يتقدمها ظلل من الغمام كما نقل.
وقوله ـ تعالى ـ :
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) . فيحتمل أن يكون المراد به من حكمه فى السماء وقهره.
ويحتمل أنه أراد به ملكا مسلطا على عذاب المستوجبين للعذاب : إما جبريل ، أو غيره
؛ ولهذا قد نقل أرباب التفسير أن جبريل عليهالسلام هو الّذي جعل قرى قوم لوط دكا ؛ بقلب أعاليها على أسافلها.
وقوله ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ؛ فليس فى الآية ما يدل على أن القرب ، والدنو من الله ـ تعالى
ـ للرسول. وعند ذلك : فيحتمل أنه أراد به قرب الرسول ، ودنوه من درجة لا تقرب منها
إلّا أجلّ الخلائق.
وإن أريد به القرب
من الله ـ تعالى ـ فليس المراد به القرب بالذوات ؛ بل بالطاعة.
وقوله : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) تأكيد له. وعليه حمل قوله ـ تعالى ـ «إذا تقرّب العبد إلى
ذراعا : ـ أى بالطاعة ـ / تقرّبت إليه باعا» بالرأفة والرحمة.
وأما حديث النزول
إلى سماء الدنيا ؛ فقد سبق تأويله .
وأما قوله عليهالسلام للخرساء : «أين الله؟» فيحتمل أحد أمرين :
__________________
الأول : أنه يحتمل أنه أراد استنطاقها بما ظن أنه معتقد لها من
الأينية ، ولا يدل ذلك على أن الرب ـ تعالى ـ متأين. وهذا كما روى عنه عليهالسلام ـ أنه قال لأم جميل «كم تعبدين من الآلهة»؟ فقالت : خمسة ،
وإن كنا نعلم امتناع التعدد فى الآلهة ، وامتناع اعتقاد النبي ـ عليه الصلاة
والسلام ـ لذلك. ويحتمل أنه أراد بقوله : «أين الله؟» : أى أين موقع معرفة الله ـ تعالى
منك. بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. إما أن يكون ذلك إشارة من
النبي عليه الصلاة والسلام إلى أينية الرب ـ تعالى ـ فكلا.
ولهذا قد روى عنه عليهالسلام أنه قيل له : أين الله؟ فقال «ليس لمن أيّن الأين أين» (١).
وأما إشارة
الخرساء إلى السماء. وتقرير النبي عليهالسلام لها ؛ فليس فيه ما يدل على أنها قصدت بالإشارة إثبات الجهة
؛ بل لعلها قصدت تعريف إلهها بخالق السماء ، ورافعها ؛ تنبيها بالأعلى ، على
الأدنى.
وأما رفع الأيدى
إلى السماء حالة الدعاء ؛ فليس فى ذلك ما يدل على أن الله ـ تعالى ـ فى جهة السماء
؛ بل إنما كان كذلك ؛ لأنها قبلة الدعاء. كما أن البيت العتيق قبلة للصلاة. وكما
أن جهة الأرض محل للسجود ؛ فكما لا يدل التوجه فى الصلاة إلى البيت على أن الله ـ تعالى
ـ فى جهة البيت ، ولا السجود ، ووضع الجبهة على الأرض على أن الله ـ تعالى ـ فى
جهة الأرض ؛ فكذلك رفع الأيدى إلى السماء وذلك لأن الله ـ تعالى ـ كما له تخصيص
بعض الأماكن ، وبعض الأزمان ؛ ببعض العبادات ؛ فكذا له تخصيص بعض الجهات ، بالتقرب
إليه ببعض العبادات ، دون البعض.
«المسألة السادسة»
فى أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس فى زمان
اتفق العقلاء على
أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس وجودا زمانيا ، ولم ينقل عن أحد من أرباب المذاهب خلاف
فى ذلك. وإن كان مذهب المجسمة يجر إليه كما يجر إلى التحيز ، والمكان. ومعنى كون الوجود
زمانيا : أنه لا يتصور كونه إلا فى زمان ، كما أن الوجود المكانى ، هو الّذي لا
يتصور كونه إلا فى مكان ، والدليل على أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس وجودا زمانيا.
هو أن المفهوم / من الزمان : إما أن يكون وجودا ، أو عدما.
لا جائز أن يكون
عدما : وإلا كان سلب الزمان قبل وجود العالم وجودا ولا أول لسلبه ؛ فيكون قديما ؛
وهو محال. كما سيأتى فى تحقيق حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ .
وإن كان المفهوم
من الزمان وجودا : فلا يخلو : إما أن يكون قديما ، أو حادثا. لا جائز أن يكون
قديما : لما يأتى.
وإن كان حادثا :
فإما أن يتصور وجود الرب ـ تعالى ـ دونه ، أو لا يتصور.
لا جائز أن يقال
بعدم وجود الرب تعالى دونه : وإلا كان وجود الرب تعالى حادثا ؛ ضرورة ملازمة
الحادث له ، وخرج عن كونه واجبا ؛ وهو محال.
وإن قيل بجواز
وجود الرب ـ تعالى ـ دونه : فليس وجوده وجودا زمانيا ؛ وهو المطلوب.
__________________
نعم غايته أنه
يصدق عليه أن وجوده مقارن فى وقتنا هذا للزمان ، وموجود مع وجود الزمان ؛ وذلك لا
يوجب كون وجوده زمانيا. كما أن وجوده فى الآن منع وجود المكان ، ومقارن له ؛ وليس
وجوده ؛ وجودا مكانيا.
وأما ما هو
المفهوم من المكان ، والزمان ؛ فسيأتى تحقيقه مفصلا فيما بعد إن شاء الله ـ تعالى
ـ .
__________________
«المسألة السابعة»
فى استحالة حلول ذات البارى ـ تعالى ـ أو صفة
من صفاته فى محل
اتفق العقلاء ،
وأرباب الملل على استحالة حلول ذات البارى ـ تعالى ـ وصفاته فى محل. خلافا للنصارى
، والنّصيريّة ، والإسحاقية من غلاة الشيعة ، وبعض المشبهة.
أما
النّصارى : فلهم تفصيل مذهب
فى حلول اللاهوت بالناسوت ، وتدرعه به ، واتحاده به ، نأتى على استقصائه عند الرد
عليهم إن شاء الله تعالى .
وأما
النّصيرية ، والإسحاقيّة : فإنهم قالوا : ظهور الروحانى بالجسد الجسمانى أمر غير منكر.
أما فى جانب الخير
: فكظهور جبريل عليهالسلام ببعض الأشخاص ، والتصور بصورة بعض الأعراب.
وأما فى جانب الشر
: فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعلم به الشر ، ويتكلم بلسانه.
وعلى هذا فغير
ممتنع أن يظهر الرب ـ تعالى ـ بصورة أشخاص. ولما لم يكن بعد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أفضل من على ـ عليهالسلام ـ وبعده أولاده
__________________
المخصوصون ، وهم
خير البرية ـ ظهر البارى ـ تعالى ـ بصورهم ، ونطق بألسنتهم. وأطلقوا باعتبار ذلك
اسم الآلهة عليهم. تعالى الله عن قولهم.
وأما بعض المشبهة : / فإنهم قالوا : روح الآدمى صفة من صفات الرب ـ تعالى ـ لأنها
من أمر الرب كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وأمر الله ـ تعالى ـ صفة من صفاته القديمة ؛ فكانت الروح
صفة من صفاته.
والدليل على مذهب
أهل الحق.
أما أن ذات البارى
ـ تعالى ـ يمتنع حلولها فى المحل.
فلنا فيه ثلاث
مسالك :
المسلك الأول :
أنه لو حلت ذاته
فى محل ؛ فذلك المحل : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.
لا جائز أن يكون
قديما ؛ لما سيأتى فى بيان حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى.
وإن كان حادثا
فقبل حدوثه. إما أن يكون الرب ـ تعالى ـ محتاجا فى وجوده إلى حلوله فى ذلك المحل ،
أو لا يكون محتاجا إليه.
فإن كان الأول :
فهو محال ؛ لثلاثة أوجه :
الأول
: أنه يلزم منه خروج
الرب ـ تعالى ـ عن كونه واجب الوجود ؛ وهو محال.
الثانى
: (أنه) يلزم منه : إما قدم المحل ؛ ضرورة احتياج القديم إليه ، أو
حدوث القديم ؛ وكل واحد من الأمرين محال.
الثالث
: أنه يلزم منه
الدور ضرورة توقف وجود المحل على وجود البارى تعالى ـ لكونه مصدر الكائنات ، وتوقف
وجود الرب ـ تعالى ـ على حلوله فى ذلك المحل ؛ وهو ممتنع.
__________________
وإن لم يكن الرب ـ
تعالى ـ قبل حدوث ذلك المحل محتاجا إلى حلوله فيه فبعد حدوثه : إما أن يكون محتاجا إليه ، أو لا يكون محتاجا إليه.
فإن كان محتاجا
إليه : ففى حالة احتياجه إليه يخرج عن كونه واجب الوجود ؛ وهو محال.
وإن لم يكن محتاجا
إليه : ففى حالة حلوله فيه : إما أن يكون قائما بنفسه ، أو بذلك المحل.
فإن كان قائما
بنفسه ؛ والمحل قائم بنفسه ؛ فليس القول بحلول أحدهما فى الآخر ، أولى من العكس ؛
بل الواجب أن كل واحد قائم بنفسه ، وليس محلا للآخر ، ولا حالا فيه.
وإن كان قائما
بذلك المحل لا بنفسه ؛ فليس واجب الوجود لذاته ؛ ضرورة تقومه بغيره ؛ وهو محال.
المسلك الثانى :
أنه لو حلت ذاته
فى محل ؛ فذلك المحل : إما أن يكون قابلا للانقسام ، أو لا يكون قابلا للانقسام.
فإن كان قابلا
للانقسام : فما حل فيه وطابقه ، يجب أن يكون أيضا قابلا للانقسام ؛ فتكون ذات الرب
ـ تعالى ـ قابلة للانقسام ، ومركبة من أجزاء ، وكل واحد من أجزائها غيرها ؛ إذ
المفهوم من الجملة ، يزيد على المفهوم من كل / واحد من الأفراد ؛ فيكون غير كل
واحد من الأفراد ، وهو مفتقر إلى كل واحد من الأفراد ، وما كان مفتقرا فى وجوده
إلى غيره ؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته.
وإن لم يكن المحل
قابلا للانقسام : فيكون من الصغر ، والحقارة بمنزلة الجوهر الفرد ، فما حل فيه
يكون مثله ؛ والرب يتعالى ويتقدس عن ذلك.
__________________
المسلك الثالث :
وهو خصيص بامتناع
حلول ذات البارى ـ تعالى ـ فى بعض الأجسام دون البعض كما هو مذهب الحلولية ، وهو أنه لو جاز حلول ذات البارى ـ تعالى ـ فى بعض
الأجسام ؛ فلا بد وأن تكون ذات ذلك الجسم قابلة لحلول ذات البارى تعالى ـ فيها ؛
وأن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ قابلة للحلول فى ذلك الجسم ، وإلا كان القول بجواز
الحلول مع امتناع القبول من الطرفين ، أو من أحدهما ؛ ممتنعا.
وعند ذلك : فإما
أن يكون قبول ذلك الجسم لحلول ذات الله ـ تعالى ـ فيه ، وقبول ذات الله ـ تعالى ـ لحلولها
فيه ، لعموم كونه جسما ، أو لما به تعينه ، وتخصصه من الصفات الموجبة لتميزه عن
غيره من الأجسام.
فإن كان الأول :
فيلزم منه جواز حلول الرب ـ تعالى ـ بكل جسم من الأجسام حتى أجسام الجمادات ،
والحشرات ، والمستقذرات من النجاسات والرب تعالى ـ يتقدس عن ذلك.
وإن كان الثانى :
فما اختص به ذلك الجسم من الصفات إما أن يكون ذلك لذاته ، أو لمخصص من خارج.
فإن كان لذاته :
فالأجسام مشتركة فى معنى الجسمية. فما اختص به جاز أن يختص به غيره ؛ فيكون أيضا
قابلا لحلول ذات البارى ـ تعالى ـ فيه. وإن كان لمخصص من خارج : فإما أن يكون
مخصصا بالطبع ، أو الاختيار. فإن كان مخصصا بالطبع ؛ فهو محال ؛ لتساوى الأجسام
بالنسبة إليه.
وإن كان مخصصا
بالاختيار ؛ فما جاز على الفاعل المختار تخصيص ذلك الجسم بما تخصص به ؛ جاز
أن يخصص به ما هو مماثل له فى الجسمية.
__________________
وعند ذلك : فيجوز
على ذات الرب ـ تعالى ـ الحلول بالنسبة إلى كل جسم من الأجسام ، ويمتنع
الاختصاص بالبعض دون البعض.
وعلى هذا : فلا
يمتنع أن يكون الرب ـ تعالى ـ حالا فى بدن كل من نراه من الناس ؛ بل فيما
نشاهده من أبدان الحيوانات العجماوات ، لجواز أن يكون متصفا بما به القبولية ،
وعدم المعرفة بذلك غير مانع من الجواز ، وأن يكون فى نفس الأمر كذلك / ؛ فإنه لا
يلزم من انتفاء الدليل ، انتفاء المدلول فى نفسه ؛ على ما سبق تحقيقه .
وأما أنه يمتنع
حلول صفة من صفات الله ـ تعالى ـ فى محل غير ذاته ، فلأن ما يقدر من الصفات
الثابتة لذات الرب ـ تعالى ـ حالا فى محل آخر غير ذات الله ـ تعالى ـ [ إما أن يكون ذلك مع بقاء تلك الصفة حالة فى ذات الله ـ تعالى
ـ] ، أو مع زوالها عن ذات الله ـ تعالى ـ
فإن
كان الأول : فيلزم منه قيام
الصفة المتحدة لمحلين ؛ وهو ممتنع.
وإن
كان الثانى : فهو محال لوجهين
:
الأول
: أنه يلزم منه خلو
ذات الله ـ تعالى ـ عما له من الصفات النفسانية ، أو بعضها ؛ وهو ممتنع ، لما سبق
فى إثبات الصفات .
الثانى
: أنه يلزم منه جواز
انتقال الصفة من محل ، إلى محل ؛ وهو محال ؛ لأن الصفة المنتقلة لها حالة اتصال
بالمحل الأول ، وحالة اتصال بالمحل الثانى. وليست حالة اتصالها بالمحل الأول. هى
حالة اتصالها بالمحل الثانى ، وإلا كانت الصفة الواحدة فى حالة واحدة ، قائمة
بمحلين ؛ وهو محال.
وإنما صارت متصلة
بالمحل الثانى بعد انفصالها عن المحل الأول بالانتقال ؛ إذ لو لم يقدر الانتقال ،
لما كانت زائلة عن المحل الأول ، ومتصلة بالمحل الثانى ، وليست
__________________
حالة الانتقال هى
حالة الاتصال ، لا بالمحل الأول ، ولا الثانى. وإلا كانت حالة اتصالها بمحلها
منتقلة عنه ، أو إليه ؛ وهو محال.
فحالة الانتقال :
إما أن تكون قائمة بمحل ، أو لا تكون قائمة بمحل.
فإن كانت قائمة
بمحل : فلا بد وأن تكون منتقلة إليه عن المحل الأول لما تحقق ، والكلام فى حالة
انتقالها إليه : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كانت قائمة لا
بمحل : فقد خرجت عن أن تكون صفة مفتقرة إلى المحل ؛ وهو خلف محال.
وهذه المحالات :
إنما لزمت من القول بجواز حلول صفات الرب ـ تعالى ـ بمحل غير ذاته ؛ فالقول به
محال.
وأما قوله ـ تعالى
ـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) (فليس) المراد به أن الروح بعض من الأمر الّذي هو صفة لله ـ تعالى
ـ ؛ لما بيناه من استحالة حلول الصفة القديمة بغير الله ـ تعالى ـ ؛ بل المراد من
قوله : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أى من خلق ربى ؛ على ما ذكره أهل التفسير ، والله أعلم.
__________________
«المسألة الثامنة»
فى الرد على النّصارى
وقد اتفقت النصارى
على أن الله ـ تعالى ـ جوهر. بمعنى أنه قائم بنفسه غير متحيز ، ولا مختص بجهة ،
ولا مقدر بقدر ، ولا يقبل حلول الحوادث / بذاته ، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ،
وأنه واحد بالجوهرية. ثلاثة بالأقنومية. والأقانيم : هى صفات الجوهر القديم. وهى
الوجود ، والعلم ، والحياة. وعبروا عن الوجود : بالأب ، والحياة : بروح القدس ،
والعلم : بالكلمة.
واتفقوا على تدرع
الكلمة : ـ وهى أقنوم العلم ـ بالمسيح ، واتحادها به دون باقى الأقانيم ، وعلى
تسمية المسيح مع ما تدرع به من أقنوم العلم ابنا.
واتفقوا أيضا على
أن عيسى ولدته أمه مريم ، وأنه قتل ، وصلب ، وصعد إلى السماء.
ثم اختلفوا :
فذهبت
الملكانية : أصحاب ملكا ـ الّذي ظهر بالروم ، واستولى عليها ـ إلى أن
الأقانيم : غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها : إله. وصرحوا بإثبات التثليث . كما قال الله ـ تعالى ـ إخبارا عنهم : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) . وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح ، وتدرعت بناسوته ، وامتزجت
به : كامتزاج الخمر بالماء ، أو اللبن. ثم صارا شيئا واحدا ، وانقلبت الكثرة قلة :
أى العدد وحدة ، وأن المسيح ناسوت كلى لا جزئى. وهو قديم أزلى ، وأن مريم ولدت
إلها أزليا ، مع اختلافهم فى مريم : أنها إنسان كلى ، أو جزئى.
واتفقوا : على أن
اتحاد اللاهوت بالمسيح ، دون مريم ، وأن القتل ، والصلب وقع على الناسوت ،
واللاهوت معا. واطلقوا لفظ الابن : على عيسى ، والأب : على الله تعالى.
__________________
وذهب
نسطور الحكيم : الّذي ظهر فى زمان المأمون ـ : الى أن الله ـ تعالى ـ واحد
، والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ، ولا هى نفس ذاته ، وفسر أقنوم العلم بالنطق ، والكلمة. وقال : الله ـ تعالى
ـ موجود حي ناطق. وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليهالسلام لا بمعنى الامتزاج ؛ بل بمعنى الإشراق ، أى أنها أشرقت
عليه : كإشراق الشمس من كوة على بلور.
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة : حي ، ناطق ،
إله ، وصرحوا بالتثليث : كمذهب الملكانية ؛ كما سبق.
ومنهم : من منع من
ذلك.
ومنهم : من أثبت
لله ـ تعالى صفات أخرى : كالقدرة ، والإرادة ، ونحوها ؛ ولكن لم يجعلوها أقانيم :
كالحياة ، والعلم . وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب ؛ وإنما تجسد ،
وتوحد بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ؛ فالمسيح إله تام ، وإنسان
تام ؛ وهما جوهران قديم ، وحادث ؛ والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ، ولا / لحدوث
المحدث ، واتفقوا على أن القتل ، والصلب إنما ورد على الناسوت ، دون اللاهوت.
ومنهم من قال : بأن الإله واحد ، وأن المسيح ابتدأ من مريم ، وأنه عبد صالح مخلوق.
إلا أن الله ـ تعالى ـ شرفه ، وكرمه ؛ لطاعته ، وسماه ابنا على سبيل التبنى ؛ لا
أنه ولد منه.
__________________
وذهب
بعض اليعقوبية : الى أن الكلمة : انقلبت لحما ، ودما ؛ فصار الإله هو
المسيح. وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)
ومنهم من قال :
ظهر اللاهوت بالناسوت ، بحيث صار هو ، هو ، كما يقال : ظهر الملك بصورة إنسان ،
وقد قال الله ـ تعالى ـ : (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) .
ومنهم من قال : إن
جوهر الإله القديم ، وجوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن ،
فصارا جوهرا واحدا وهو المسيح ؛ فهو إله كله ، وإنسان كله وصار الإله إنسانا ، وإن
لم يصر الإنسان إلها. كما يقال فى الفحمة إذا طرحت فى النار ، صارت الفحمة نارا ،
ولا يقال صارت النار فحمة ، ولا يكون فى الحقيقة لا نارا مطلقة ، ولا فحمة مطلقة ؛
بل جمرة.
وقالوا : إن اتحاد
اللاهوت بالإنسان الجزئى ، دون الكلى ، وأن مريم ولدت إلها ، وأن القتل ، والصلب ،
وقع على اللاهوت والناسوت معا ؛ وإلا فلو وقع على أحدهما ؛ لبطل معنى الاتحاد.
ومنهم من قال :
المسيح مع اتحاد جوهره قديم ، من وجه ، محدث من وجه.
ومن اليعقوبية من
قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا ، وإنما مرت بها كمرور الماء فى الميزاب.
ومنهم من زعم أن
الكلمة : كانت تداخل جسد المسيح ؛ فتصدر عنه الآيات التى كانت تظهر عنه ، وتفارقه
تارة ؛ فتحله الآفات ، والآلام ، والأوجاع.
ومن النصارى من
زعم : أن معنى : اتحاد اللاهوت بالناسوت ؛ ظهور اللاهوت على الناسوت ، وإن لم
ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ، ولا حل فيه ، وذلك : كظهور نقش الطابع على
الشمع المتصل به ، أو ظهور الصورة المرئية فى المرآة الصقيلة.
__________________
ومنهم من قال : إن
الوجود والكلمة ؛ قديمان ، والحياة ؛ مخلوقة.
ومنهم من قال : إن
الله ـ تعالى ـ واحد ، وسماه أبا ، وأن المسيح كلمة الله ، وابنه على طريق
الاصطفاء [والاجتباء] ؛ وهو مخلوق قبل خلق العالم ، وهو خالق الأشياء كلها.
وجملة هذه /
الأقاويل ، وحاصل هذه الأباطيل ـ مع أنها مخالفة للأصول ، ومراغمة للعقول ـ ؛ فمما
لا مستند لها ولا معول لهم فيها ؛ غير التقليد عن أسلافهم ، والأخذ بظواهر ألفاظ
لا يحيطون بمفهومها.
وأشبه ما احتج به
من قال إن المسيح عليهالسلام إله ، أنه قال : قد ثبت أن المسيح عليهالسلام أبرأ الأكمه ، والأبرص ، وأحيى الموتى ، وفعل أفعالا ، وقع
الاتفاق من العقلاء على أنها لا يمكن صدورها عن البشر المخلوقين ، وأنه لا صدور لها عن غير الله تعالى ـ ؛ فكان إلها.
وربما احتجوا على
ذلك نقلا : بما روى فى الإنجيل : أن مريم تلد إلها.
وربما احتج علينا
من قال بأن المسيح كلمة الله بما نطق به كتابنا من قوله تعالى ـ : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وبقوله ـ تعالى ـ (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) .
واحتجوا قاطبة على
جواز إطلاق اسم الأب على الله ـ تعالى والابن على المسيح. بما رواه فى الإنجيل «إنك
أنت الابن الوحيد» ويقول المسيح عليهالسلام : «من رآنى فقد رأى أبى فإننى وإياه واحد» ويقول شمعون الصفا : «إنك ابن الله حقا».
__________________
وإذا أتينا على
تفصيل مذاهبهم ، وإيضاح عقائدهم ، والتنبيه على الأشبه من أدلتهم ؛ فلا بد من التشمير
لا فسادها ، وتحقيق إبطالها. من جهة الاستدلال ، والمناقضة ، والإلزام فى كل موضع
على حسبه إن شاء الله تعالى.
فنقول :
أما قولهم : بأن
الله ـ تعالى ـ جوهر بالمعنى المذكور ؛ فلا نزاع معهم فيه من جهة المعنى ؛ بل من
جهة الإطلاق اللفظى سمعا ، وقد حققنا ما فيه فى مسألة أن الله ـ تعالى ـ ليس بجوهر .
وأما حصرهم
الأقانيم فى ثلاثة : وهى صفة الوجود ، والحياة ، والعلم ؛ فباطل.
أما
أولا : فقد بينا أن الحجج فى أن صفة الوجود هل هى زائدة على ذات الله ـ تعالى
ـ متعارضة ، متنافية من غير ترجيح ؛ وذلك مما يتعذر معه الجزم بكونه صفة زائدة .
وأما
ثانيا : فلأنهم لو طولبوا
بدليل الحصر ، لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم : بحثنا : فلم نجد غير ما ذكرناه ؛
وهو غير يقينى ؛ لما سلف .
ثم هو باطل بما
حققناه : من وجوب إثبات صفة القدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام.
فإن
قالوا : الأقانيم هى خواص
الجوهر ، وصفات نفسه ، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ، ولا تتعداه إلى غيره ؛ وذلك
متحقق فى الوجود ، والحياة ؛ إذ لا تعلق لوجود الذات / القديمة ، وحياتها بغيرها ،
وكذلك العلم ؛ اذ العلم مختص بالجوهر ، من حيث هو معلوم به. وهذا بخلاف القدرة
والإرادة ؛ فإنها لا اختصاص لها بالذات القديمة ؛ بل هى متعلقة بالغير مما هو
مقدور ، ومراد ؛ والذات القديمة غير مقدورة ، ولا مرادة.
وأيضا : فإن
الحياة تجرى من القدرة ، والإرادة من حيث أن الحى لا يخلو عنهما ، بخلاف العلم ،
فإنه قد يخلو عنه ؛ ولأنه يمتنع إجراء الحياة عن العلم ؛ لاختصاص
__________________
الحياة بامتناع
جريان المبالغة ، والتفضيل فيها ، بخلاف العلم ؛ فإنه يقال : هذا أعلم من هذا.
قلنا : أما قولهم
: إن الوجود ، والحياة مختصة بذات القديم ، ولا تعلق لهما بغيره ؛ فمسلم ؛ ولكن
يلزم عليه : أن لا يكون العلم أقنوما ؛ لتعلقه بغير ذات القديم ؛ إذ هو معلوم به.
فلئن قالوا : إن العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم ، لا من حيث
كان متعلقا بغيره ؛ فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما ، لتعلقه بذات القديم من حيث أنه
يرى نفسه ، ولم يقولوا به. ثم يلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله ـ تعالى ـ أقنوما ، لاختصاص
البقاء بنفسه ، وعدم تعلقه بغيره كما فى الوجود ، والحياة ، والعلم.
فلئن
قالوا : البقاء هو نفس
الوجود ؛ فيلزم أن يكون الموجود ، فى أول زمان حدوثه باقيا ؛ وهو محال.
وقولهم : بأن
الحياة تجرى عن القدرة ، والإرادة : فإما أن يريدوا بذلك : أن القدرة والإرادة ، هى نفس الحياة ، أو أنها خارجة
عنها لازمة لها ، لا تفارقها.
فإن
كان الأول : فقد نقضوا مذهبهم
؛ حيث قالوا : إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم ، والقدرة والإرادة غير [مختصتين]
بذات القديم تعالى ـ ؛ وذلك مشعر بالمغايرة ، ولا اتحاد مع المغايرة.
وإن
قالوا : إنها لازمة لها
مع المغايرة ؛ فهو ممنوع ؛ فإنه كما يجوز خلو الحى عن العلم ؛ فكذلك قد يجوز خلوه
عن القدرة ، والإرادة كما فى حالة النوم ، والإغماء ، [ونحوهما] .
وقولهم
: إنه يمتنع إجراء
الحياة عن العلم ؛ لاختصاص العلم بالمبالغة ، والتفضيل ؛ فيلزم منه أن لا تكون
مجربة عن القدرة أيضا ؛ لاختصاص القدرة بهذا النوع من المبالغة ، والتفضيل.
__________________
وأما
قولهم : بأن الكلمة حلت
فى المسيح ، وتدرعت به ؛ فهو باطل من وجهين :
الأول : ما ذكرناه
فى امتناع حلول صفة / القديم فى غيره.
الثانى : أنه ليس
القول بحلول الكلمة ، أولى من القول بحلول الروح ، وهى الحياة.
فلئن
قالوا : إنما استدللنا
على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه غيره فيها.
قلنا : وقد اختص عندكم بإحياء الميت ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، وبأمور لا يقدر غيره من المخلوقين عليها ، والقدرة عندكم ، فى حكم
الحياة. إما بمعنى أنها عينها ، أو ملازمة لها ؛ فوجب أن يقال : بحلول الحياة فيه
؛ ولم يقولوا به.
وأما
قول الملكانية : بالتثليث فى الآلهة ، وأن كل أقنوم إله. فإما أن يقولوا (إن) كل واحد متصف بصفات الإله ـ تعالى ـ : من الوجود ، والحياة
، والعلم ، والقدرة ، وغير ذلك من صفات الجلال ، أو لا يقولوا ذلك .
فإن
قالوا بالأول : فهو خلاف
أصلهم. ثم هو مع ذلك ممتنع ؛ لما سنبينه فى امتناع وجود إلهين.
وأيضا : فإنهم إما
أن يقولوا : بأن جوهر القديم أيضا إله. أو لا يقولوا بذلك.
فإن
كان الأول : فقد أبطلوا
مذهبهم. وإجماع النصرانية على التثليث ، وصارت الآلهة أربعة.
وإن كان الثانى :
لم يجدوا إلى الفرق سبيلا. مع أن جوهر القديم أصل ، والأقانيم صفات تابعة له ؛ فكان
أولى أن يكون إلها.
وإن
قالوا بالثانى : فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية ، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك
؛ ولا سبيل إليه.
__________________
وقولهم : بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح ، وتدرعت به ؛ فبطلانه
بما سبق. من امتناع حلول الصفات القديمة بغير ذات الله ـ تعالى ـ.
وقولهم
: بأن الكلمة اتحدت
بجسد المسيح ، فهو ممتنع من جهة الدلالة ، والإلزام.
أما
من جهة الدلالة : فلأنهما عند الاتحاد : إما أن يقال ببقائهما ، أو بعدمهما ، أو ببقاء أحدهما ،
وعدم الآخر.
فإن كان الأول :
فهو اثنان ، كما كانا.
وإن كان الثانى :
فالواحد الموجود ، غيرهما.
وإن كان الثالث :
فلا اتحاد للاثنينية ، مع عدم أحدهما.
وأما
من جهة الإلزام : فمن أربعة أوجه :
الأول
: أنه إذا جاز اتحاد
أقنوم الجوهر القديم بالحادث ؛ فما المانع من اتحاد صفة الحادث ، بالجوهر القديم؟
فلئن قالوا : لأن
اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه ؛ وهو ممتنع. واتحاد صفة القديم
بالحادث ، توجب شرفه / ؛ وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع.
قلنا : فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها ؛
فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث ؛ فليكن ذلك ممتنعا.
الثانى
: أنه قد وقع
الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح ؛ فما الفرق بين
ناسوت ، وناسوت.
فلئن
قالوا : الأقنوم إنما
اتحد بالناسوت الكلى دون الجزئى ، فالكلام عليه على ما سيأتى عن قرب
الثالث
: هو أن من مذهبهم : أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع
اختصاصها به ، ولم يوجب قيامها به الاتحاد ؛ فلأن لا يلزم اتحاد الأقنوم بالناسوت الاتحاد كان أولى.
__________________
الرابع
: أن الإجماع منعقد
منا ومن النصارى على أن أقنوم الجوهر القديم ، مخالف للناسوت. كما أن صفة نفس
الجوهر ؛ تخالف نفس العرض ، وصفة نفس العرض ؛ تخالف الجوهر.
فإن
قالوا : بجواز اتحاد صفة
الجوهر بالعرض ، أو صفة العرض بالجوهر ، حتى أنه يصير الجوهر فى حكم العرض ، أو
العرض فى حكم الجوهر ؛ فقد التزموا محالا ؛ مخالفا لأصولهم.
وإن
قالوا : بامتناع اتحاد
صفة نفس الجوهر بالعرض ، وصفة العرض بالجوهر ، مع أن العرض والجوهر
: أقبل للتبدل ، والتغير ؛ فلأن يمتنع ذلك فى القديم والحادث أولى.
وقولهم : إن المسيح إنسان كلى ؛ فهو باطل من أربعة أوجه :
الأول
: أن الإنسان الكلى
لا اختصاص له بجزئى دون جزئى من الناس ، وقد اتفقت النصارى على أن المسيح مولود من
مريم عليهماالسلام.
وعند ذلك : فإما
أن يقال : إن إنسان مريم كلى : كما ذهب إليه بعضهم ، وإما جزئى.
فإن كان كليا :
فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح ، أو غيره. فإن كان عينه فمحال : تولد الشيء من نفسه. ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ، ومريم هى
المسيح ، ولم يقل بذلك أحد منهم.
وإن كان غيره ؛
فالإنسان الكلى ما يكون عاما مشتركا بين جميع الناس ، وطبيعته جزء من معنى كل
إنسان ؛ ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح وطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم ،
وكذلك بالعكس ، وهو مقطوع بإحالته. وإن كان إنسان مريم جزئيا ، فمن ضرورة كون المسيح
مولودا عنها أن يكون الكلى الصالح لاشتراك الكثرة فيه منحصرا فى الجزئى الّذي لا /
يصلح لاشتراك الكثرة فيه ؛ وهو ممتنع.
__________________
الثانى
: (أن) النصارى مجمعة على أن المسيح كان مرئيا ، ومشارا إليه ؛
والكلى ليس كذلك.
الثالث
: هو أن إجماع
النصرانية منعقد على أن الكلمة حلت فى المسيح. إما بجهة الاتحاد ، أو لا بجهة
الاتحاد على ما بيناه من اختلاف مذاهبهم ، فلو كان المسيح إنسانا كليا ؛ لما اختص به بعض أشخاص
الناس دون البعض ، ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ؛ ولم
يقولوا به.
الرابع
: أن جماعة
الملكانية متفقون على أن القتل والصلب ، وقع على اللاهوت والناسوت. ولو كان ناسوت
المسيح كليا ؛ لما تصور وقوع الفصل الجزئى عليه.
وأما إطلاقهم لفظ
الأب على الله ـ تعالى ـ والابن على المسيح ؛ فسيأتى الكلام عليه .
وأما
ما ذهب إليه نسطور : من أن الأقانيم ثلاثة ، فالكلام معه فى الحصر ، فعلى ما تقدم .
وقوله : ليست عين ذاته ، ولا غير ذاته. فإن أراد بذلك ما أراده
الأشعرى من ذلك ؛ فهو حق. وان أراد غيره ؛ فهو غير مفهوم.
وأما تفسيره العلم
بالنطق والكلمة ؛ فالنزاع معه فى إطلاق العلم على النطق لفظى. ثم لا يخلوا إما أن
يريد بالنطق ، والكلمة : الكلام النفسانى ـ كما حققناه فيما تقدم ـ ، أو الكلام
اللسانى المؤلف من الحروف ، والأصوات.
فإن كان الأول :
فهو حق.
وإن كان الثانى :
فهو باطل ؛ على ما سبق .
وقوله
: بأن الكلمة اتحدت
بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه ؛ فكلام لا حاصل له ؛ لأنه : إما أن يريد بإشراق
الكلمة عليه ما هو مفهوم من مثاله : وهو أن يكون مطرحا
__________________
لشعاعها عليه ، أو
يريد به أنها متعلقة به : كتعلق العلم القديم بالمعلومات ، والكلام القديم بنا :
كما حققناه فى الصفات ، وغير ذلك.
فإن كان الأول :
فيلزم منه أن تكون الكلمة ذات شعاع ، وفى جهة من مطرح شعاعها ، ويلزم من ذلك أن
تكون الكلمة جسما ، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة له على ما حققناه
فى الصفات.
وإن كان الثالث :
فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.
وأما
قول بعض النسطورية : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله ، حي ، ناطق ؛ فهو باطل بما ذكرناه فى
إبطال التثليث على الملكانية .
وأما من أثبت منهم لله / تعالى ـ صفات أخرى : كالقدرة ، والإرادة ،
ونحوها ؛ فهو حق ؛ لكن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة
للأقانيم فى كونها من الصفات ؛ فحكم لا دليل عليه ـ سوى ما نبهنا عليه من الفرق الّذي ذكروه سابقا ـ وقد سبق إبطاله .
وقولهم : بأن المسيح إنسان تام ، وإله تام ؛ وهما جوهران ؛ قديم
وحادث ، فطريق الرد عليهم من وجهين :
الأول
: التعرض لإبطال كون
الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها ، وذلك بأن يقال : إما أن يقولوا : بأن ما اتحد
بجسد المسيح : هو الإله فقط ، أو أن كل أقنوم إله ـ كما ذهبت إليه الملكانية.
فإن كان الأول :
فهو ممتنع ؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى :
فهو أيضا ممتنع ؛ لما تقدم .
__________________
الوجه
الثانى : أنه إذا كان
المسيح مشتملا على الأقنوم القديم ، والناسوت الحادث : فإما أن يقولوا : بالاتحاد
، أو بحلول الأقنوم فى الناسوت ؛ أو حلول الناسوت فى الأقنوم ، أو أنه لا حلول
لأحدهما فى الآخر.
فإن كان الأول :
فهو باطل ، بما سبق فى إبطال الاتحاد .
وإن كان الثانى :
فهو باطل بما سبق فى إبطال حلول الصفات القديمة فى محل غير ذات البارى ـ تعالى ـ ، وبما سبق فى إبطال حلول الحادث بالقديم .
وإن كان الثالث : فإما
أن يقال بتجاورهما ، واتصالهما ، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بالتجاور
، والاتصال : فإما أن يقال بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم ، أو لا يقال به.
فإن قيل بانفصاله
عنه ، فهو ممتنع لوجهين :
الأول : ما تقدم
فى إبطال انتقال الصفة عن الموصوف.
الثانى : أنه يلزم
منه قيام الصفة حالة مجاورتها للناسوت ، بنفسها ؛ وهو محال. وإن لم يقل بانفصال
الأقنوم عن الجوهر القديم ، فيلزم منه أن تكون ذات الجوهر القديم ، متصلة بجسد
المسيح ؛ ضرورة اتصال أقنومها به.
وعند ذلك : فليس
اتحاد الأقنوم بالناسوت ، أولى من اتحاد ذات الجوهر القديم بالناسوت ؛ ولم يقولوا
به.
وإن لم يقل
بتجاورهما واتصالهما : فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح ، وليس القول بالاتحاد مع عدم
الاتصال بجسد المسيح ، أولى من غيره.
وأما قول من قال
منهم بأن الإله واحد ، وأن المسيح ولد من مريم ، وأنه عبد صالح مخلوق ، إلا أن
الله ـ تعالى ـ شرفه بتسميته ابنا ؛ فهو ما يقوله الموحدون. ولا خلاف مع هؤلاء فى
غير اطلاق اسم الابن على ما سيأتى
__________________
/
وأما قول بعض اليعقوبية : إن الكلمة انقلبت لحما ، ودما ، وصار الإله هو المسيح ؛ فهو أظهر بطلانا
مما تقدم وبيانه من وجهين :
الأول
: أنه لو جاز انقلاب
الأقنوم لحما ودما ، مع اختلاف حقيقتهما ؛ لجاز انقلاب المستحيل ممكنا ، والممكن
مستحيلا ، والواجب ممكنا ، أو ممتنعا ، والممكن ، أو الممتنع واجبا ؛ ولم يبق لأحد
وثوق بشيء من القضايا البديهية ؛ ولجاز أن ينقلب الجوهر عرضا ، والعرض جوهرا ، وانقلاب اللحم والدم أقنوما.
والأقنوم ذاتا ، والذات أقنوما. وانقلاب القديم حادثا ، والحادث قديما ، ولم يقل
بذلك أحد من العقلاء.
الثانى
: أنه لو انقلب
الأقنوم لحما ، ودما : فإما أن يكون هو عين الدم واللحم الّذي للمسيح ، أو زائدا
عليه منضما إليه.
فإن كان الأول :
فهو محال ؛ إذ لحم المسيح ، ودمه لم يتغير ، ولا معنى لانقلاب الأقنوم إليه مع عدم
الزيادة فيه عند عدم الأقنوم ؛ وهو غير قابل للعدم بالاتفاق.
وإن كان الثانى :
فلم يقولوا به.
وأما قولهم :
اللاهوت ظهر بالناسوت ، وصار هو هو :
فإما أن يريدوا به
أن اللاهوت صار عين الناسوت : كما صرحوا به من قولهم : صار هو ، هو ؛ فحاصله يرجع
إلى تجويز انقلاب الحقائق ؛ وهو محال كما تقدم.
وإما أن يريدوا به
أن اللاهوت اتصف بالناسوت ؛ وهو أيضا محال ؛ لما تقدم من امتناع حلول القديم
بالحادث . أو أن الناسوت اتصف باللاهوت ؛ وهو أيضا محال ؛ لما تقدم
من امتناع حلول (الحادث بالقديم )
وأما من قال منهم
بأن جوهر الإله القديم ، وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا : هو
المسيح ؛ فهو باطل من وجهين :
الأول : ما ذكرناه
فى إبطال الاتحاد.
__________________
الثانى : أنه ليس
جعل الناسوت لاهوتا بتركيبه مع اللاهوت ، أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه
مع الناسوت ؛ ولم يقولوا به.
وأما جوهر الفحمة
إذا ألقيت فى النار ؛ فلا نسلم أن جوهرها صار بعينه جوهر النار ؛ بل صار مجاورا
لجوهر النار. وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة ، وأعراضها ؛ بطلت بمجاورة النار .
أما أن جوهر
أحدهما انقلب إلى جوهر الآخر وصار هو ، هو ؛ فلا.
وقولهم : إن الاتحاد بالناسوت الجزئى دون الكلى ؛ فهو محال ؛ لما
تقدم فى إبطال الاتحاد ، وحلول القديم بالحادث ، وبه يبطل قولهم : إن مريم ولدت إلها.
وقولهم : بأن القتل ، والصلب وقع على اللاهوت ، والناسوت معا ، فهو فرع
تركب اللاهوت / بالناسوت ؛ وقد أبطلناه.
كيف وأن القول
بوقوع القتل على اللاهوت ؛ مما يوجب موت الإله ضرورة ، والقول بذلك يغنى عن
إبطاله.
وأما قول من قال :
بأن المسيح مع اتحاد جوهره ، قديم من وجه ، محدث من وجه ؛ فهو أيضا باطل ؛ فإنه
إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه ؛ فالحدوث : إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه
، أو لغيره.
فإن كان الأول :
فهو محال ، وإلا كان الشيء الواحد قديما : لا أول له ، حادثا : له أول ؛ وهو تناقض
ممتنع.
وإن كان الثانى :
فهو خلاف الفرض.
وأما قول من قال
منهم : إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء فى الميزاب ؛ فيلزم منه انتقال الكلمة ؛
وهو ممتنع كما سبق. وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح تارة ،
وتفارقه تارة.
__________________
وقولهم : إن ما ظهر من صورة المسيح فى الناسوت لم يكن جسما ؛ بل
كان خيالا : كالصورة المرئية فى المرآة : فهو باطل ؛ لأن من أصلهم أن المسيح :
إنما أحيا الميت ، وأبرأ الأكمه ، والأبرص ، بما فيه من اللاهوت. فإذا كان ما ظهر من اللاهوت فيه لا حقيقة له ، بل هو خيال محض ؛ فلا يصلح لحدوث ما
يحدث عن الإله عنه.
والقول بأن أقنوم
الحياة مخلوق حادث : ليس كذلك ؛ لما سبق فى الصفات ؛ بل هو قديم أزلى.
كيف : وأنه لو كان
حادثا ؛ لكان الإله قبله غير حي ، ومن ليس بحى لا يكون عالما ، ولا ناطقا.
وقول من قال : بأن
المسيح مخلوق قبل كل شيء ، وهو خالق كل شيء ؛ فباطل بما [سيأتى] من امتناع خالق غير الله تعالى.
وأما من ذكروه من
الاحتجاج على كون المسيح إلها : بالحجة العقلية ، فالجواب عنها من وجهين :
الأول
: أنا لا نسلم أن ما
صدر على يده ، من الأمور الخارقة للعادة. كانت من فعله ؛ بل لعلها صدرت عن خلق
الله ـ تعالى ـ لها ببركة دعائه على سبيل الإعجاز : كمعجزات سائر الأنبياء عليهمالسلام. ولو دل ذلك على كونه إلها ؛ لدل صدور باقى المعجزات
الخارقة للعادة على يد غيره من الأنبياء على كونه إلها ؛ وهو ممتنع بالإجماع منا ،
ومنهم.
الثانى
: أنه لو جاز أن
يكون المسيح إلها ؛ لجاز أن يكون كل من تلقاه من آحاد الناس إلها. وإن لم يوجد فى
حقه مثل هذه الخوارق ؛ فإن الخوارق غايتها أنها دليل الوقوع ، ولا يلزم من انتفاء
الدليل / انتفاء المدلول فى نفسه على ما سبق . ولا يخفى أن القول بذلك من باب التلاعب بالعقل ، والدين.
__________________
وأما ما نقلوه عن
الإنجيل : أن مريم تلد إلها. إن صح ، ولم يكن ذلك من أوضاعهم ، وتبديلهم فلا بد من
تأويله ؛ إذ الإله لا يولد عندهم ؛ بل المولود إنما هو الناسوت. وتأويله أن يقال
بحمله على الإنباء عن الغيب ، وهو أن مريم تلد من يعتقد أنه إله. وإن لم يكن إلها
حقيقة ، وذلك كما تسمى العرب الشمس إلها باعتبار أنها عبدت ، واعتقد كونها إلها ؛
بل هو معارض بما نقل فى الإنجيل مما يدل على كونه ليس بإله من وجهين :
الأول
: قول عيسى عليهالسلام للحواريين : «اخرجوا بنا من هذه المدينة ؛ فإن النبي لا
يكرم فى مدينته» . والنبي لا يكون إلها.
الثانى
: ما نقل فى الإنجيل
أنه عند الصلب قال : «إلهى لم خذلتنى ، وأسلمتنى» صرح بكونه مربوبا ؛ والمربوب لا يكون إلها.
وأما احتجاجهم من
كتابنا بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ)
فالجواب عنه : أن
معنى كونه كلمة : أى آية : فإن الكلمة تطلق بمعنى الآية. ومنه قوله تعالى (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) : أى آياته. ويدل على إرادة ذلك أمور ثلاثة :
الأول
: صدر الآية وهو
قوله ـ تعالى ـ (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) سماه رسولا ، ولو كان كلمة على الحقيقة ؛ لما كان رسولا.
الثانى
: قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) .
ووجه الاحتجاج به
من وجهين :
الأول : أنه سماه
آية.
الثانى : أنه وصفه
بكونه ابنا لها ، والإله ليس ابنا لها.
__________________
الثالث
: هو أن الآية إنما
وردت لتقريعهم ، وزجرهم عن الغلو فى اعتقادهم حيث قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) . فلو أراد بالكلمة ما اعتقدوه ؛ لكان مثبتا [لعين] ما قصد التقريع على اعتقاده ؛ وهو ممتنع.
وأما قوله ـ تعالى
ـ : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا). فلا يمكن حمل الروح على ما اتحد بالمسيح من الكلمة ؛ إذ
الروح عندهم هى الحياة ، وهى غير متحدة بالمسيح
وإنما المتحد به العلم ، وهو الكلمة ، فلا بد من حمله على ما
يحتمله اللفظ ، والروح قد يطلق على جبريل : كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)
وقد يطلق بمعنى
الوحى : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقد يطلق بمعنى روح الشخص.
وعند ذلك : فيمكن أن يكون المراد بقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) : أى روحه ، وأضافها إليه تشريفا ، وتكريما على ما سبق.
ويمكن أن يكون
المراد بقوله (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) : أى من جبريل. فإن نفخته فيه سبب علوقه من غير والد.
وأما ما احتجوا به
على جواز إطلاق اسم الأب على الله ـ تعالى ـ والابن على المسيح : فهو إن صح فمما
يتعذر حمله على الابن المتولد من الله ـ تعالى ـ إذ المسيح غير متولد من الله ـ تعالى
ـ بالاتفاق.
وعند ذلك فلا بد
من التأويل
أما قوله : «إنك
أنت الابن الوحيد» فيحتمل أنه أراد به المعتنى بتربيته ، واصطفائه. تعبرة باسم
النبوة عنه ؛ لكونه لازما لها فى الغالب.
__________________
وعلى هذا يمكن حمل
قوله : «من رآنى فقد رأى أبى» ويمكن حمله على جبريل من حيث أن نفخه فى مريم كان
سببا لعلوقه ، ووجوده. أو بسبب أنه كان هو المسدد له فى أحواله.
وعلى الوجه الأول
: يمكن حمل قول شمعون الصفا. ويدل على ظهور ذلك : أنه كما سماه أبا له ؛ فقد سمى
البارى ـ تعالى ـ أبا للحواريين. وليس بمعنى اتحاد اللاهوت بهم. ويدل عليه ما ورد فى الإنجيل من قوله عقيب وصية وصى بها الحواريون (لكى
تكونوا أبناء أبيكم الّذي فى السماء ، وتكونوا تامين كما أن أباكم الّذي فى السماء
تام) . وقوله : (لا تعطوا صدقاتكم قدام الناس لتراءوهم ؛ فلا يكون لكم أجر عند أبيكم الّذي فى السماء) .
وقوله عند صلبه : (أذهب
إلى أبيكم) .
فهذه الجمل مع
اختصارها ، وكثرة معانيها كافية فى التنبيه على فساد قواعدهم وإبطال عقائدهم على
اختلافها ، وتشعبها. والحمد لله على الإسلام ، والهداية إلى الإيمان.
__________________
«المسألة التاسعة»
فى امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بشيء من الكيفيات
المحسوسة بالحواس الظاهرة ، وغيرها
أما المحسوسة
بالحواس الظاهرة : فكاللّون ، والطّعم ، والرائحة ، والحرارة ، والبرودة ،
والرطوبة ، واليبوسة ، ونحو ذلك.
وأما غير المحسوسة
بالحواس الظاهرة : فكاللذة ، والألم ، والنفرة ، والحزن ، والفرح ، والغم ، والغيظ
، والغضب ، والوحشة ، والأنس ، والتأسف ، والتمنى ، والشهوة ، والبطر ، وغير ذلك.
وهذه المسألة مما
لا نعرف خلافا بين العقلاء فيها. وحيث قالت الفلاسفة إن الله ـ تعالى ـ ملتذ
بكمالاته ؛ لم يقولوا إنه ملتذ بلذة. غير أن العادة جارية / بذكر الدلالة عليه.
وقد استدل الأصحاب
فى ذلك بمسالك :
المسلك الأول :
وهو معتمد
الأكثرين ، وهو أنهم قالوا : لو اتصف الرب ـ تعالى ـ بشيء من هذه الكيفيات
المحسوسة لم تخل : إما أن تكون قديمة ، أو حادثة.
لا جائز أن تكون
حادثة : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع كما سبق .
ولا جائز أن تكون
قديمة : لأن جميع الكيفيات المحسوسة متساوية فيما يرجع إلى الكمال والنقصان ؛ وليس
منها ما هو صفة كمال للرب ـ تعالى ـ حتى يكون متصفا به دون غيره ؛ فتكون متساوية
فى جواز تقدير اتصاف الرب ـ تعالى ـ بكل واحدة منها. وليس تقدير اتصافه ببعضها ،
أولى من تقدير اتصافه بغيرها ، وما هذا شأنه استحال اتصافه بكونه قديما ؛ إذ
القديم واجب الوجود ، فيمتنع تقدير عدمه وفرض وجود ضده. وإذا امتنع كل واحد من
القسمين امتنع أن يكون متصفا بشيء منها.
__________________
ولقائل أن يقول :
لا نسلم تساوى
الكيفيات فى الكمال ، والنقصان بالنسبة إلى ذات الله ـ تعالى ـ ليلزم من ذلك
التساوى فى جواز تقدير اتصاف الرب ـ بكل واحدة منها ؛ بل لا مانع من أن يكون بعضها
صفة كمال دون البعض.
ولهذا قالت
الفلاسفة : إن الحرارة [واليبوسة صفتا] كمال للنار دون غيرها من الكيفيات. وفى (مقابلتهما) البرودة ، والرطوبة للماء. وأن الحرارة والرطوبة من كمالات
الهواء دون غيره. وفى مقابلة ذلك البرودة ، واليبوسة للتراب.
سلمنا عدم اختصاص
البعض منها بصفة الكمال ، وأنها متساوية فيما يرجع إلى عدم الكمال ، والنقصان ؛
ولكن ما المانع من اختلافها أن تكون ذات البارى مقتضية للاتصاف بها ، وإن لم تكن صفة كمال ، ولا نقصان؟
فلئن
قالوا : لأن الأمة مجمعة
على امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بغير صفات الكمال ، كما ذهب إليه القاضى أبو بكر
، فهو رجوع إلى السمع ، وترك لدلالة العقل .
المسلك الثانى :
أنهم قالوا : لو
اتصف الرب ـ تعالى ـ بشيء من هذه الكيفيات فإما أن تكون حادثة ، أو قديمة.
لا جائز أن تكون
حادثة : لما سبق .
وإن كانت قديمة :
فما من كيفية من هذه الكيفيات إلا ولها مثل حادث ، وعند التماثل فيمتنع اختصاص
إحدى الصفتين بالعدم ، والأخرى / بالحدوث ، لأن القديمة : إما أن تقتضى العدم
لذاتها ، أو لمخصص من خارج.
__________________
فإن كان الأول :
فيلزم أن تكون الحادثة أيضا قديمة ؛ ضرورة التماثل ، وأن ما اقتضاه أحد المثلين
لذاته ؛ كان الآخر مقتضيا له أيضا
وإن كان الثانى :
فذلك المخصص : إما أن يكون مخصصا بالذات ، أو الاختيار.
فإن كان مخصصا
بالذات ؛ فليس تخصيصه بالقدم لأحد المثلين ، والحدوث بالآخر أولى من العكس ؛
لتساوى نسبة ذاته إليهما.
وان كان بالاختيار
: فكل معلول بالاختيار لا يكون إلا حادثا على ما سيأتى ، ويلزم أن يكون معلوله من
القديم حادثا ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
قد ثبت على أصلكم
اتصاف البارى ـ تعالى ـ بالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغير ذلك من الصفات
المذكورة. فإما أن تكون مماثلة لما وجد من الصفات فى الشاهد من العلم ، والقدرة ،
والإرادة. أو هى غير مماثلة لها.
فإن كان الأول :
فالإشكال لازم عليكم ، وما هو جوابكم ثمة هو الجواب هاهنا.
وإن كان الثانى :
فما المانع من أن ثبوت كيفية لله تعالى ـ من بياض ، أو حرارة ، أو برودة ، أو غير
ذلك على وجه تكون نسبتها إلى ما فى الشاهد نسبة ما أثبتموه من الصفات النفسانية
إلى ما فى الشاهد.
سلمنا : امتناع
اتصافه بكيفية مماثلة لما فى الشاهد ؛ ولكن ما المانع من اتصافه بكيفية مخالفة لكل
ما وجد فى الشاهد ؛ وذلك مما لا دليل عليه؟
المسلك الثالث :
أنهم قالوا ثبوت
شيء من هذه الكيفيات مما لم يدل عليه عقل ، ولا أشار إليه نقل ؛ فلا يثبت.
وحاصل هذا المسلك
راجع إلى الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء دليله ، وهو فاسد ؛ لما تقدم فى قاعدة
الأدلة .
__________________
المسلك الرابع :
وهو اختيار
الاستاذ أبى إسحاق ، وهو أن قال : هذه الكيفيات ، هيئات للمتصف بها ، والبارى ـ تعالى
ـ ليس فى جهة ؛ والهيئة لمن لا جهة له محال.
ولقائل أن يقول :
إن قلتم إنها
هيئات بمعنى أنها صفات ، فلا يلزم من ذلك الجهة ، وإلا كان الرب تعالى فى جهة
ضرورة اتصافه بالصفات النفسية التى أثبتموها. وإن قلتم إنها هيئات لا بمعنى أنها
صفات ؛ فغير مسلم.
وعند ذلك ، فلا بد
من تصويره ، والدلالة عليه.
المسلك الخامس :
ويخص اللذة : أنه
لو كان متصفا باللذة ، لكان خلق الملتذ به إما فى الأزل / أو لا فى الأزل.
لا جائز أن يكون
خلقه له فى الأزل ؛ لأن خلق الأزلى محال ؛ كما يأتى.
ولا جائز أن يكون
خلقه لا فى الأزل : وإلا لكانت اللذة الحاصلة به حادثة ، ويلزم من ذلك حلول
الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ؛ وهو محال على ما تقدم .
ولقائل أن يقول :
هذا إنما يلزم أن
لو كان الملتذ به مخلوقا. وما المانع من أن يكون ملتذا بما له من كمالاته الواجبة
له ، لا بغيرها. وهو سؤال قاطع ، لا جواب عنه.
المسلك السادس :
ويخص اللذة أيضا :
أن اللذة لا معنى لها إلا إدراك الملائم للمزاج. والرب ـ تعالى ـ لا مزاج له ،
وإلا كان مركبا ؛ وهو محال على ما سبق ؛ فلا يكون متصفا باللذة ، وهو أيضا ضعيف ؛
إذ لقائل أن يقول :
__________________
لا أسلم أن اللذة
عبارة عن إدراك ما يلائم المزاج ؛ بل اللذة عبارة عن إدراك الملائم ، وهو أعم من
إدراك ملائم المزاج. ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم ؛ ولهذا قالت الخصوم
إن الله ـ تعالى ـ ملتذ بإدراك ما يلائم ذاته من كمالاته ، وإن لم يكن له مزاج ،
وكذلك النفوس بعد مفارقة الأبدان تلتذ بما حصل لها من كمالاتها الممكنة لها ،
وتتألم بمفارقة ما لكمالاتها. وإن لم تكن الأنفس ذات مزاج ؛ بل فى الشاهد يجد كل
عاقل من نفسه لذة الإيثار بالمطعومات المشتهاة الملائمة للمزاج ، المحبوبة ، حتى
أن ذلك أيضا فى الحيوانات العجماوات. وصرف الطعوم الملائم للمزاج إلى الغير ؛ لا
يكون ملائما للمزاج وهو لذة.
وإن سلمنا أن
اللذة فى الشاهد لا تتم دون المزاج ؛ ولكن لا يلزم من ذلك امتناعها فى الغائب ؛
لامتناع المزاج فى حقه ؛ لجواز أن تكون معلولة فى الشاهد بملائمة المزاج ، ولا
يلزم من انتفاء بعض العلل ، انتفاء المعلول.
فالأقرب فى ذلك :
ما ذكره القاضى أبو بكر من أن الأمة ؛ بل العقلاء كافة متفقون على أن اتصاف الرب ـ
تعالى ـ بشيء من هذه الكيفيات ليس من صفات المدح والكمال ، وأن الرب ـ تعالى ـ لا
يتصف بما ليس من صفات المدح والكمال ؛ فلا يكون متصفا بشيء منها ؛ وقد عرف ما يتجه
على الاحتجاج بالإجماع ، وما فيه فى قاعدة النظر .
والّذي يخص قول
الفلاسفة : أن اللذة إدراك الملائم ، والرب تعالى مدرك لما يلائم ذاته من كمالاته
؛ فحاصله يرجع إلى تفسير اللذة بالإدراك ، ونحن لا ننازع فيه من جهة المعنى ؛ بل
من جهة الإطلاق اللفظى / ؛ إذ هو متوقف على ورود الشرع به ؛ ولا سبيل إلى إثباته.
__________________
«المسألة العاشرة»
فى امتناع اتصاف الرب تعالى بالعجز
وهذه المسألة أيضا
مما لا نعرف فيها خلافا بين العقلاء. غير أن العادة جارية بالدلالة عليها.
والمعتمد فى ذلك
أن يقال :
لو اتصف الرب ـ تعالى
ـ بالعجز لم يخل : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.
لا جائز أن يكون
حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع.
ولا جائز أن يكون
قديما : لأنا لا نعنى بالعجز المنفى غير صفة مضادة خاصة للقدرة ، مقتضاها امتناع
وقوع الفعل الممكن بالقدرة ؛ ولهذا لا يوصف الإنسان ولا البارى ـ تعالى ـ بكونه
عاجزا عن الجمع بين الضدين ، وجعل الواحد أكثر من الاثنين ؛ لكونه غير ممكن ،
والفعل فى الأزل غير ممكن ؛ كما يأتى تحقيقه فى مسألة حدوث العالم ؛ فلا يتحقق عجز البارى ـ تعالى ـ بالنسبة إليه.
وإذا بطل أن يكون
قديما ، وحادثا ؛ بطل اتصاف البارى ـ تعالى ـ به ، ويعضد هذه الدلالة انعقاد إجماع
الأمة على امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالعجز قديما ، وحادثا.
فإن
قيل : سلمنا الحصر ؛
ولكن لم قلتم بامتناع كون العجز حادثا؟
قولكم : يلزم أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ محلا للحوادث. إنما
يلزم ذلك أن لو كان العجز صفة وجودية ، وأما إذا كان صفة سلبية ؛ فلا مانع من
اتصاف الرب ـ تعالى ـ به بعد أن لم يكن متصفا به ، بدليل أن الرب ـ تعالى ـ موصوف
فى الأزل بكونه عالما بأن العالم سيوجد فى وقت حدوثه ، وأنه قادر على إيجاده فى
وقت حدوثه ، ومريد له. وبعد حدوثه لم يبق متصفا بأنه عالم بأنه سيوجد ، ولا قادر
على إيجاده ، ولا مريد لإيجاده.
سلمنا أنه صفة
وجودية ؛ ولكن ما المانع من كونه قديما؟ وما ذكرتموه فهو لازم عليكم فى اتصاف الرب
ـ تعالى ـ بالقدرة فى الأزل ، مع امتناع وجود الفعل فى الأزل ، وكما أنه لا يوصف
الفاعل بالعجز عن الممتنع ، لا يوصف بكونه قادرا على الممتنع.
__________________
وإن قلتم بصحة
اتصافه بالقدرة نظرا إلى إمكان الفعل فيما لا يزال ، فجوزوا اتصافه بالعجز نظرا
إلى إمكان الفعل فيما لا يزال.
والجواب :
أما
السؤال الأول : وهو قولهم : إن العجز صفة سلبية ؛ فلا يمتنع اتصاف الرب ـ تعالى ـ به بعد أن
لم يكن كما قرروه ؛ فمندفع لثلاثة أوجه :
الأول
: أنا إنما نفينا
العجز بالتفسير المذكور وهو أن يكون صفة مضادة خاصة ، والمضادات كلها وجودية على
ما سيأتى
الثانى
: أن المفهوم من
العجز لو كان سلبيا فإذا كان حادثا ؛ فمفهومه يكون مسلوبا فى الأزل ، وسلب السلب
إثبات فيكون أزليا ، ويلزم من ذلك زواله بحدوث العجز ، وزوال القديم الثابت ،
ممتنع كما يأتى.
الثالث
: أن نقيض العجز لا
عجز ، فلو كان العجز أمرا عدميا ؛ لكان لا عجز وجوديا. ولو كان وجوديا ؛ لما اتصف
به الممتنع ؛ لكونه عدما محضا.
فإن
قيل : فهذا لازم عليكم
فى تعلق العلم : بالمعلوم ، والقدرة بالمقدور ، والإرادة : بالمراد ؛ فإن المفهوم
منه : إما وجود ، أو عدم.
فإن كان وجودا :
فقد زال بعد أن كان أزليا فى الصور المذكورة.
وإن كان عدميا :
فلا تعلق يكون وجوديا ، لما ذكرتموه. فتعلق العلم بأن العالم موجود حالة وجوده ،
متحقق لا محالة. وقد كان هذا التعلق مسلوبا أزلا ؛ فيكون مفهومه وجوديا أزلا ، وقد
زال بالتعلق ؛ فيكون الوجود الأزلى زائلا.
قلنا : أما التعلق ؛ فهو عندنا نسبة ، وإضافة ، والنسب ،
والإضافات ثابتة لا فى نفس الأمر ؛ بل فى حكم الوهم وتقديره ، والثابت التقديرى لا
يمتنع زواله عندنا ـ وإن كان تقديره ثابتا أزلا ـ وإنما الممتنع : زوال الأزلى ،
إذا كان وجوده وثبوته متحققا فى نفس الأمر.
__________________
وأما
السؤال الثانى : فمندفع أيضا ؛ لأن القدرة على ما تقدم معنى ، من شأنه تأتى الإيجادية ، لا ما
يلازمه الإيجاد كما تقدم فى الصفات ؛ فلا يستدعى وجود القدرة فى الأزل التمكن من
المقدور ؛ بل جاز أن ينتفى التمكن لمعارض القدرة بخلاف العجز ، فإنا قد بينا : أنه
معنى يلازمه امتناع الفعل الممكن على من قام به العجز : أما أنه يلازمه امتناع
الفعل ؛ فلأنه لو كان الفعل غير ممتنع عليه ؛ لما عقل العجز عن فعل ما هو متمكن
منه.
وأما اشتراط إمكان
الفعل فى نفسه ؛ فلأنه لو كان الفعل ممتنعا فى نفسه ؛ فلا يصح الاتصاف بالعجز عنه
؛ كما ذكرناه من امتناع الاتصاف بالعجز عن الجمع بين الضدين ؛ وإيجاد كل محال
الوجود فى نفسه ، وفيه دقة ؛ فليتأمل.
«المسألة الحادية عشرة»
فى استحالة الكذب فى كلام الله تعالى
لا نعرف خلافا بين
المعترفين بأن الله ـ تعالى ـ / متكلم بكلام فى استحالة الكذب فى كلامه ، وسواء
كان الكلام هو القائم بالنفس أو الحروف ، والأصوات على خلاف المذاهب ، وإن اختلفت
مآخذهم فى الاستدلال.
وقد استدل
المعتزلة على استحالة الكذب فى كلام الرب ـ تعالى ـ بأن الكلام من فعله ، والكذب
قبيح لذاته ، والله ـ تعالى ـ لا يفعل القبيح. وهو مبنى على فاسد أصولهم : فى أن القبح ، والحسن ذاتى. وفى إيجابهم رعاية الصلاح ، والأصلح ، وسيأتى بطلانه
.
وأما
أصحابنا : فلهم فى بيان
استحالة الكذب على كلام الله ـ تعالى ـ القديم النفسانى مسلكان : عقلى ، وسمعى.
أما المسلك العقلى
:
فهو أنا نقول :
الصدق ، والكذب فى الخبر من الكلام النفسانى القديم ليس لذاته ونفسه ؛ بل بالنظر
إلى ما يتعلق به من المخبر عنه.
فإن كان قد تعلق
به على ما هو عليه ؛ كان الخبر صادقا.
وإن كان الخبر على
خلافه ؛ كان الخبر كاذبا.
وعند ذلك : فلو
تعلق خبر الرب ـ تعالى ـ القائم بنفسه بأمر ما على خلاف ما هو عليه لم يخل : إما
أن يكون ذلك مع العلم به ، أو لا مع العلم به.
لا جائز أن يقال
لا مع العلم به : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ جاهلا ببعض الأشياء ؛ وهو ممتنع كما سبق
فى الصفات.
وإن كان ذلك مع
العلم به : فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم بنفسه الإخبار عنه على ما هو
به ؛ وهو معلوم بالضرورة.
__________________
وعند ذلك : فلو
قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حالة كونه عالما به ومخبرا عنه على ما
هو عليه ؛ لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب ، بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة ؛
وذلك معلوم بطلانه بالضرورة.
فإن
قيل : نحن نعلم بالضرورة من أنفسنا أننا حال ما نكون عالمين بالشيء
يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب ، ونعلم كوننا كاذبين ، ولو لا أننا عالمون بالشيء
المخبر عنه ؛ لما تصور علمنا بكوننا كاذبين.
قلنا : الخبر الّذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو
الخبر اللسانى. وأما الخبر النفسانى ؛ فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حالة الحكم به .
غير أن من نظر إلى
ما حققناه فى مسألة الكلام (علم) ضعف هذا المسلك ؛ فعليك بالالتفات إليه .
وأما
المسلك السمعى : فهو أنه قد ثبت صدق الرسول عليهالسلام بالمعجزة القاطعة فى دلالتها فيما هو رسول فيه على ما
سنبينه فى / النبوات .
وقد نقل عنه
بالخبر المتواتر أن كلام الله ـ تعالى ـ صدق ، وأن الكذب عليه محال ؛ فكان ذلك
مقطوعا به.
وفيه نظر ، إذ
لقائل أن يقول : صحة السمع متوقفة على صدق الرسول ، وصدق الرسول متوقف على استحالة
الكذب على الله ـ تعالى ـ من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازلة
منزلة التصديق من الله ـ تعالى ـ له فى دعواه ، فلو جاز الكذب على الله ـ تعالى ـ ؛
لأمكن أن يكون كاذبا فى تصديقه له ، ولا يكون الرسول صادقا ، فإذا توقف كل واحد
منهما على الآخر ؛ كان دورا ممتنعا.
__________________
فإن
قيل : إثبات الرسالة
لا يتوقف على استحالة الكذب على الله ـ تعالى ـ ليكون دورا ؛ فإنه لا يتوقف إثبات
الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق ، أو الكذب ؛ بل
إظهار المعجزة على وفق تحديه ينزل منزلة الإنشاء ، وإثبات الرسالة ، وجعله رسولا
فى الحال. وذلك كقول القائل لغيره : وكلتك فى أشغالى ، واستنبتك فى أمورى ، وذلك لا يستدعى تصديقا ولا تكذيبا.
قلنا : فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدى ؛ إذ هو
جائز على أصول أصحابنا ؛ لم تكن المعجزة دالة على نبوته ، وإثبات رسالته إجماعا.
ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته ؛ لوجب أن يكون رسولا
متبعا بعد ظهورها ؛ وليس كذلك.
فإن
قيل : [إن الإنشاء] مشروط بالتحدى ؛ فهو بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات ؛ فإن
من أنشأ أمرا ، وأثبته ابتداء لغيره لا يتوقف على سابقة الدعوى به لمن أثبت ذلك له
، وبتقدير أن يكون كذلك ؛ ولكن غايته ثبوت رسالته بطريق الإنشاء ، ولا يلزم منه أن
يكون صادقا فى كل ما يخبر به ، دون دليل عقلى يدل على صدقه ، فيما يخبر به ، أو
تصديق الله ـ تعالى ـ له فى ذلك بالمعجزة ، ولا دليل عقلى يدل على ذلك ، وتصديق
الله ـ تعالى ـ له لو توقف على صدق خبره ؛ كان دورا ؛ كما سبق.
غير أن التمسك
بمثل هذا المسلك السمعى فى بيان استحالة الكذب فى الكلام اللسانى ، الدال على
الكلام النفسانى ؛ صحيح ؛ كما تقدم تقريره. والسؤال الوارد عليه ثمّ منقطع هاهنا ؛
فإن صدق الكلام اللسانى ، وإن توقف على صدق الرسول ؛ فصدق الرسول غير متوقف على
صدق الكلام اللسانى ؛ بل على الكلام النفسانى ؛ فامتنع الدور الممتنع فيه ؛ والله
أعلم.
__________________
«النوع الخامس»
فى وحدانية الله ـ تعالى ـ
ويشتمل على فصلين :
«الفصل الأول»
فى تحقيق معنى الواحد ، وأقسامه ، ولواحقه ، وما هو التوحيد؟
أما حقيقة الواحد
:
فقد قال بعض
أئمتنا : إنه الشيء الّذي لا يصح انقسامه.
وفيه نظر ؛ فإن
الواحد قد يطلق على ما هو قابل للقسمة باعتبار اختصاصه بصفات لا يشاركه فيها أحد :
ومنه يقال : فلان واحد فى عصره : أى لا نظير له ، ولا شبيه له فى صفاته.
وكذلك قد يطلق على
آحاد الناس ، أو الموجودات : أنه واحد ، وإن كان صالحا للانقسام.
وقد يطلق على مبدأ
الكثرة.
فإن أريد بالحد
المذكور تحديد الواحد بالاعتبار الأول : فلا يخفى بطلانه.
وإن أريد به تحديد
الواحد بالاعتبار الثانى : فهو باطل أيضا ؛ فإنه لا معنى لقول القائل لا يصح
انقسامه ، إلا أنه لا تلحقه الكثرة ؛ فتكون الكثرة مأخوذة فى تعريف الواحد. والكثرة [متوقفة] فى معرفتها على معرفة الواحد ؛ لكونه مبدأ لها ، وأى حد
قيل فى الكثرة كان الواحد مأخوذا فيه. وذلك كما يقال : الكثرة ما تعد بالواحد ،
وأنها المجتمعة من الآحاد وغير ذلك ؛ فيكون دورا.
وفى معنى هذه
العبارة قول بعض الأصحاب : الواحد هو الّذي لا يصح تقدير رفع شيء منه مع إبقاء شيء
منه ، أو الّذي لا يقال فيه شيء وشيء ، إلا على طريق التكرار.
والأقرب : أن
معرفتنا للواحد الّذي هو مبدأ الكثرة ؛ غير نظرية. وأن كل ما يقال فيه إنما هو على
سبيل التذكير ، والتنبيه ، لا على سبيل التحديد المشروط فيما سلف.
__________________
وعند هذا :
فالواجب أن نعرف الواحد بذكر أقسامه ، وعد مسبباته.
فنقول : مسمى
الواحد : إما أن يكون غير منقسم ، أو هو منقسم.
فإن كان غير منقسم
: فإما أن يكون غير قابل للانقسام ، أو هو قابل للانقسام .
فإن كان غير قابل
للانقسام : فهو الواحد بالعدد مطلقا : كالجوهر الفرد.
وإن كان قابلا
للانقسام : فأجزاؤه : إما متشابهة ، أو غير متشابهة.
فإن كان الأول :
فيسمى الواحد بالاتصال ، كالماء المتصل الأجزاء.
وإن كان الثانى :
فيسمى الواحد بالتركيب : كالواحد من الحيوان ، أو النبات.
وإما أن يكون
منقسما بالفعل : فلا بد وأن تشترك أعداده فى معنى كلى بحيث يصح إطلاق / اسم الواحد
عليها باعتباره ، وإلا فلا معنى لإطلاق اسم الواحد عليها. وعلى حسب انقسام ذلك
الكلى المشترك ، يكون انقسام هذا الواحد.
فإن كان الكلى
المشترك جنسا : قيل لما تحته من الأنواع إنها واحدة بالجنس : كالإنسان ، والفرس
بالنسبة إلى الحيوان ، غير أن ما كان واحدا بالجنس ، فهو كثير بالنوع.
وإن كان الكلى
المشترك نوعا : قيل للأعداد الداخلة تحته ، إنها واحدة بالنوع : كزيد ، وعمرو
بالنسبة إلى الإنسان.
وإن كان الكلى
المشترك عرضا : قيل لما تحته من الأعداد ، إنها واحدة بالعرض. ومن لواحق هذه
الأقسام :
المجانسة : وهى
الاتحاد فى الجنسية.
والمشاكلة : وهى
الاتحاد فى النوعية.
والمشابهة : وهى
الاتحاد فى الكيفية.
__________________
والمساواة : وهى
الاتحاد فى الكمية.
والموازاة : وهى
الاتحاد فى الوضع.
وعلى هذا : فما
كان واحدا بالعدد ، فقد اتفق أن يكون واحدا ، بمعنى عدم النظير والشبيه على ما
تقدم ، والبارى ـ تعالى ـ واحد بكلا الاعتبارين : أما أنه واحد بالعدد : فعلى ما
تقدم.
وأما أنه واحد
بالاعتبار الثانى : فعلى ما سيأتى فى الفصل الثانى.
فإن
قيل : فما يقال له
واحد ، هل هو واحد لمعنى ، أو لنفسه؟
قلنا : قد نقل عن بعض المتكلمين أنه واحد لمعنى ، والّذي ذهب إليه أئمتنا أن الواحد واحد لنفسه لا لمعنى ،
وإلا كان ذلك المعنى أيضا واحدا ، ويلزم أن يكون واحد المعنى ؛ وهو تسلسل ممتنع.
ثم من صار إلى كون الواحد واحدا ، لا لمعنى ، فقد اختلفوا :
فذهب
أبو هاشم : الى أن معنى
الواحد يرجع إلى صفة نفى ، وأن حاصله يرجع إلى نفى ما عدا الموجود الفرد.
وذهب
القاضى أبو بكر : إلى أن حاصله يرجع إلى صفة إثبات ، هى صفة نفس غير معللة. ولعل الأشبه ما
ذكره القاضى ، وذلك لأنا إذا قلنا : إن معنى الواحد إنما هو سلب ما زاد على
الموجود الفرد ؛ فهو عبارة عن سلب الكثرة ؛ فالواحد يكون عبارة عن سلب الكثرة ؛
فيكون معناه عدما ، والكثرة إنما هى مركبة من الآحاد. فإذا كان معنى كل واحد من
الآحاد عدما ، فالكثرة المركبة من الآحاد تكون عدما. وإذا كانت الكثرة عدما ؛
فسلبها يكون وجودا ، وسلبها هو مفهوم الواحد ؛ فيكون مفهوم الواحد وجودا ، ويلزم
من ذلك أن / لا تكون الكثرة عدما ؛ بل وجودا ؛ لتركبها من الوجودات ؛ فالقول بأن
مفهوم الواحد عدم ما عدا الموجود الفرد ؛ يجر إلى كون الكثرة وجودا وعدما معا ؛
وهو محال.
وهو من دقيق
الكلام : فليفهم.
هذا ما يتعلق
بتحقيق معنى الواحد.
__________________
وأما التوحيد :
فقد يطلق
بالاشتراك على التفريق بين شيئين بعد سابقة اتصالهما.
وقد يطلق على
الإتيان بالفعل الواحد منفردا.
وقد يطلق ويراد به
اعتقاد الوحدانية لله ـ تعالى ـ وهذا هو المقصود من إطلاق لفظ التوحيد فى عرف
المتكلمين.
وربما أطلق على
الإخبار عن التوحيد ، وإن جهل اعتقاد المخبر به.
__________________
«الفصل الثانى »
فى امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات
الإلهية ما للآخر
وقد احتج النافون
للشركة بمسالك ضعيفة.
المسلك الأول
:
وهو ما ذكره
الفلاسفة ؛ وذلك أنهم قالوا : لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته. فلا
يخلو : إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه ، أو باختلافهما من كل وجه ، أو باتفاقهما
من وجه ، دون وجه.
فإن كان الأول :
فلا تعدد فى مسمى واجب الوجود ؛ إذ التعدد ، والتّغاير دون مميز ؛ محال.
وإن كان الثانى :
فما اشتركا فى وجوب الوجود.
وإن كان الثالث :
فما به الاشتراك غير ما به الافتراق ، وما به الاشتراك ، إن لم يكن
__________________
هو وجوب الوجود ؛
فليسا بواجبين ؛ بل أحدهما دون الآخر. وإن كان الاشتراك بوجوب الوجود ؛ فهو ممتنع
لوجهين :
الأول
: هو أن ما به
الاشتراك من وجوب الوجود : إما أن يتم تحققه فى كل واحد من الواجبين بدون ما به
الافتراق ، أو لا يتم دونه.
فإن كان الأول :
فهو محال. وإلا كان المعنى المطلق المشترك متحقق فى الأعيان [من] غير مخصص ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
كان وجوب الوجود ممكنا ؛ لافتقاره فى تحققه إلى غيره ، فالموصوف به ـ وهو ما قيل
بوجوب وجوده به ـ أولى أن يكون ممكنا.
الوجه
الثانى : هو أن مسمى واجب
الوجود إذا كان مركبا من أمرين : وهو وجوب الوجود المشترك ، وما به الافتراق ؛
فيكون مفتقرا فى وجوده إلى كل واحد من مفرديه ، وكل واحد من المفردين مغاير للجملة
المركبة منهما ، ولهذا يتصور تعقل كل واحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها
والمعلوم / غير المجهول. وكل ما كان مفتقرا إلى غيره فى وجوده كان ممكنا ، لا
واجبا لذاته ؛ إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته ، إلا ما لا يفتقر ، فى وجوده إلى غيره.
وهذه المحالات
إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته ؛ فيكون محالا.
وربما استروح بعض
الأصحاب فى إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا.
وهو ضعيف إذ لقائل
أن يقول :
وإن سلمنا الاتفاق
بينهما من وجه ، والافتراق من وجه ، وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ، ولكن لم
قلتم بالامتناع؟ وما ذكرتموه فى الوجه الأول ـ إنما يلزم أن لو كان مسمى وجوب
الوجود معنى وجوديا. وأما بتقدير أن يكون أمرا سلبيا ، ومعنى عدميا ، وهو عدم
افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا. فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا ؟
__________________
فلئن قلتم :
الدليل على كونه وجوديا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن وجوب
الوجود تأكد الوجود ، والوجود لا يكون متأكدا بالعدم.
الثانى : هو أن
نقيض الوجوب لا وجوب ، ولا وجوب عدم ؛ فالوجوب وجود ؛ ضرورة أن أحد النقيضين لا بد
وأن يكون وجودا.
وبيان أن لا وجوب
عدم ، صحة اتصاف العدم الممكن به ، ولو كان وجودا ؛ لما كان صفة للعدم المحض.
الثالث : هو أنه
لو كان وجوب الوجود عدما فى الخارج ، لم يكن الشيء فى الخارج موصوفا بكونه واجبا ؛
وذلك يقتضي نفى واجب الوجود فى الخارج ؛ وهو محال.
فنقول : لا نسلم
أن الوجوب تأكد الوجود ؛ بل [هو] عبارة عن عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة.
وقولكم : لا وجوب صفة العدم.
قلنا : فالوجوب أيضا صفة للعدم الممتنع ؛ فإنه يصدق عليه واجب
العدم ؛ فاتصاف العدم بلا وجوب ، وإن دل على كونه عدميا ؛ فاتصاف العدم بالوجوب ،
يدل على أن الوجوب عدمى.
وما ذكرتموه فى
الوجه الثالث ؛ فبعيد عن التحقيق ؛ فإنه إذا كان الوجوب عدما : وهو عدم الافتقار
إلى العلة ، فلا يمنع ذلك من وجود واجب فى الخارج : وهو وجود شيء فى الخارج متصف
بصفة سلب ، وهو أنه لا يفتقر فى وجوده إلى علة.
ثم بيان كون
الوجوب عدما هو أنه لو كان وجوب الوجود صفة وجودية : فإما أن تكون هى نفس ذات واجب
الوجود ، أو داخلة فيها ، أو خارجة عنها.
فإن
كان الأول : فهو محال ؛ لأن
الذات / الموصوفة بالوجود : قد تكون معلومة ، واتصافها بالوجوب مجهول ، والمجهول
غير المعلوم ؛ وبهذا يبطل القسم الثانى.
كيف : وأنه يلزم
منه أن تكون ذات واجب الوجود مركبة ، وقد قلتم بإحالته.
__________________
وإن
كان الثالث : فهو ممتنع
لوجهين : استدلالا ، وإلزاما.
أما
الاستدلال : فهو أن وجوب
الوجود : إما أن يكون واجبا ، أو ممكنا. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما كانت
صفة مفتقرة إلى الذات.
وإن كان الثانى :
فما وصف به. وقيل إنه واجب الوجود باعتباره أولى أن يكون ممكنا.
وأما الإلزام :
فهو أن مذهب
الفلاسفة ، أنه لا صفة وجودية تزيد على ذات الرب ـ تعالى ـ ولو كان وجوب الوجود
صفة وجودية زائدة على ذات الرب ـ تعالى ـ ؛ لكان مناقضا لمذهبهم.
وربما قيل فى بيان
كونه وجوديا وجوها أخر باطلة ، آثرنا الإعراض عن ذكرها. وعلى هذا : فقد بطل القول بالوجه الثانى ؛ فإنه إذا كان حاصل
الوجوب يرجع إلى صفة سلب ؛ فلا يوجب ذلك التركيب فى ذات واجب الوجود ، وإلا لما
وجد بسيط أصلا ، فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه. وإن سلمنا أن وجوب
الوجود وصف وجودى ، ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم. وإن كان واجب
الوجود واحدا من حيث أن مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ، ومن
الوجوب الذاتى. فما هو العذر عنه مع اتحاد واجب الوجود ؛ فهو العذر مع تعدده .
وربما قيل عليه
أسئلة أخرى لم نذكرها ؛ لضعفها ، وسهولة التقصى عنها.
المسلك الثانى :
وهو ما ذهب إليه
الأستاذ أبو بكر ، وجماعة من المعتزلة ، وهو أن قالوا : الطريق إلى معرفة وجود
الإله ـ تعالى ـ ليس إلا وجود الحادثات ؛ لضرورة افتقارها إلى مرجع تنتهى إليه ،
وهى لا تدل على أكثر من واحد.
__________________
وهو ضعيف أيضا ؛
لأن حاصله يرجع إلى الحكم بنفى المدلول ، لانتفاء دليله ؛ وهو باطل على ما سبق فى
تحقيق الدليل .
المسلك الثالث :
مسلك التمانع ،
وعليه اعتماد أكثر أئمتنا ، وهو أن يقال : لو قدرنا وجود إلهين متصفين بصفات الإلهية
من العلم ، والقدرة ، والإرادة ، ونحو ذلك مما سبق بيانه. وقدرنا أن أحدهما أراد
تحريك جوهر فى وقت معين ، والآخر أراد تسكينه / فى ذلك الوقت : فإما أن يحصل
مرادهما معا ، أو لا يحصل [ مرادهما معا. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر] .
فإن
كان الأول : لزم حصول
مراديهما ، ويلزم من ذلك ، اجتماع الحركة والسكون معا ؛ وهو محال.
وإن
كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين
:
الأول : أنه يلزم
منه أن يكون كل واحد منهما عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها.
الثانى : أنه يلزم
منه أن يكون كل واحد منهما عاجزا بعجز : إما قديم ، أو حادث ، وكل واحد من الأمرين
ممتنع ؛ كما تقدم فى بيان كون الإله ليس بعاجز .
وإن كان الثالث :
وهو حصول مراد أحدهما دون الآخر ؛ فممتنع للوجهين المذكورين فى القسم الّذي قبله.
وهذه المحالات ،
إنما لزمت من القول بتعدد الآلهة ؛ فيكون محالا.
وفيه نظر إذ لقائل
أن يقول : ما ذكرتموه من الأقسام المحالة ، إنما هو فرع تصور إختلاف الإلهين فى
الإرادة ؛ وهو غير مسلم.
__________________
فلئن
قلتم : دليل تصور ذلك من
خمسة أوجه :
الأول
: هو أنا لو قدرنا
انفراد كل واحد صح تعلق إرادته بالحركة ، أو السكون ؛ فلو امتنع ذلك حالة الاجتماع ؛ لانقلب الجائز مستحيلا ؛
وهو ممتنع.
الثانى
: هو أن صحة إرادة
كل واحد منهما بالحركة ، أو السكون حالة الانفراد أزلية ؛ فوجب القول ببقاء هذه
الصحة حالة الاجتماع ؛ لأن الأزلى لا يزول.
الثالث
: هو أن زوال
الصحتين حالة الاجتماع إنما يتصور أن لو تنافيا ، وإذا تنافيا ؛ فلا بد وأن تزول
كل واحدة من الصحتين بالأخرى ؛ وذلك محال ؛ لأن المؤثر فى عدم كل واحدة من الصحتين
إنما هو وجود الأخرى لا عدمها ، ووجود العلة واجب عند حصول المعلول ، فلو عدمت
الصحتان معا ؛ لحصلتا معا ؛ وهو محال.
وهذا المحال إنما
لزم من زوال الصحتين حالة الاجتماع ؛ فكان محالا.
الرابع
: هو أن صحة تعلق
إرادة كل واحد منهما بالحركة ، أو السكون حالة الانفراد ثابتة لنفس الإرادة وذاتها
، فلو امتنع ذلك حالة الاجتماع ؛ لزم منه قلب الحقيقة وإثبات نفس الإرادة مع
انتفاء صفة نفسها ؛ وهو محال.
الخامس
: هو أنه لو امتنع
حالة الاجتماع ما كان جائزا حالة الانفراد من صحة تعلق إرادة كل واحد منهما
بالحركة ، أو السكون لم يخل : إما أن يكون ذلك لنفس إرادة المريد ، أو لنفس ذاته ،
أو لصفة أخرى من صفاته ، وإما لذات القديم الآخر ، أو لإرادته ، / أو لصفة من
صفاته.
لا جائز أن يقال
بامتناع تعلق إرادة أحدهما بالحركة ، أو السكون لذاته ، ولا لنفس إرادته ، ولا
لصفة من صفاته ؛ وإلا لما تصور أن يكون تعلقها بذلك حالة الانفراد ؛ لتحقق المانع.
ولا جائز أن يقال
: بأن الامتناع لذات القديم الآخر ، ولا لإرادته ، ولا لصفة من صفاته. فإن ثبوت حكم للذات لا يكون إلا بما هو مختص بالذات اختصاص قيامه بها لا بما هو خارج عنها.
__________________
ولهذا فإنه لا يصح
أن تكون الذات عالمة بعلم قائم بغيرها ؛ بل بها.
فلقائل أن يقول : ما ذكرتموه مندفع :
أما
الوجه الأول : فلأنا لا نسلم أن ما أحلناه حالة الاجتماع هو ما كان جائزا فى نفسه ؛ فإن ما
كان جائزا : إنما هو التعلق حالة الانفراد مشروطا بحالة الانفراد ، ولم يزل جائزا
على هذا الوجه ، والمحال حالة الاجتماع لم يزل محالا مشروطا بحالة الاجتماع ، فلا
الجائز انقلب محالا ، ولا المحال انقلب جائزا ؛ ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد أحدهما
صح منه إرادة حركة الجوهر بدلا عن إرادة سكونه ، وكذلك بالعكس.
ومع هذا فقد
أجمعنا على استحالة تعلق إرادته بالحركة ، والسكون معا ، ولو لم يكن للإحالة لما
كان جائزا ؛ فكذلك ما نحن فيه.
وأما الوجه الثانى : فعنه جوابان :
الأول : لا نسلم
امتناع زوال كل أزلى إلا أن يكون وجوديا ، ولهذا فإن عدم العالم قبل وجوده أزلى ،
ويزول بحدوث العالم ، فلم قلتم بأن صحة التعلق وجودية؟ وبيان أنها غير وجودية أن
معنى الصحة يرجع إلى الإمكان ، والإمكان عدمى ، على ما سبق فى مسألة الرؤية.
الثانى : وإن
سلمنا أن صحة التعلق وجودية أزلية ؛ ولكن لا نسلم أن ما كان جائزا زائل ؛ إذ
الجائز إنما هو صحة التعلق مشروطا بحالة الانفراد ؛ وهو غير زائل على ما تقدم.
وأما
الوجه الثالث : فهو منقوض بامتناع صحة تعلق إرادة الإله المنفرد بالحركة ، والسكون
معا ، وإن كان تعلق إرادته بكل واحد منهما على البدل جائزا. وبه يندفع ما ذكرتموه من الوجه الرابع ، والخامس .
وعلى هذا فموقع
السؤال المذكور صعب جدا. وعسى أن يكون عند غيرى جوابه.
وقد ترد أسئلة أخر . يقرب الانفصال عنها ، وهى أن يقال فى تقرير منع الاختلاف
بينهما فى الإرادة. هو أن ما يريده الإله : إما أن يكون أولى من عدم إرادته ، أو أن
عدم الإرادة أولى ، أو أنه لا أولوية لأحدهما.
__________________
فإن كان عدم
الإرادة أولى / من الإرادة ، فالإرادة تكون ممتنعة ، وإلا كانت الإرادة عبثا. وإن
كان لا أولوية ؛ فليست الإرادة أولى من عدمها ، وإلا كان ترجيح أحد المتساويين من
غير مرجح ؛ وهو محال. فلم يبق إلا أن تكون الإرادة لما هو الأولى. والأولى من كل
شيء ، لا يكون إلا فى أحد طرفيه ؛ فتعين تعلق إرادتهما به.
سلمنا عدم اشتراط
الأولى ؛ ولكن كل واحد من الإلهين. لا بد وأن يكون عالما بعواقب الأمور ، وما يقع
وما لا يقع ، والمعلوم الواقع من كل شيء ليس إلا أحد طرفيه ، وتعلق الإرادة بخلاف
المعلوم محال ؛ فكان متعلق الإرادة واحدا.
سلمنا جواز فرض
اختلاف إرادتيهما ؛ ولكن ما ذكرتموه من المحالات ، إنما يلزم من وقوع الاختلاف ،
لا من جواز الاختلاف ، فلم قلتم بوقوع الاختلاف؟
سلمنا لزوم المحال
من جواز فرض الاختلاف ؛ ولكنه منتقض بتعلق القدرة بالمقدور ؛ وذلك أنه لو انفرد
أحدهما ، كان قادرا على إيجاد الحركة ، ولو انفرد الآخر كان قادرا على السكون ،
ولو اجتمعا تعذر على كل واحد منهما ما كان قادرا عليه حالة الانفراد.
والجواب :
أما
السؤال الأول : فإنما يلزم أن
لو لزم رعاية الغرض ، والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ وهو ممتنع على ما سيأتى .
وأما الثانى : فإنما يلزم أيضا أن لو كان تعلق العلم بالواقع مجردا عن كونه مرادا حتى
تكون الإرادة تابعة للعلم ؛ وهو ممنوع ؛ بل تعلق العلم بالواقع إنما يكون مشروطا
بكونه مرادا.
وعلى هذا فيكون
تعلق العلم بالواقع تبعا للإرادة ، لا أن الإرادة تكون تابعة للعلم.
وأما
الثالث : فمندفع ، فإنه
إذا سلم جواز الاختلاف ؛ فالجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه المحال ، والمحال لازم
من فرض الوقوع ؛ فالقول بفرض وجود إلهين على وجه يلزمه فرض المحال ، يوجب كونه محالا.
__________________
وأما
النقض بالقدرة : فمندفع ، فإن كل ما ذكرناه فى استحالة وجود إلهين من جهة تعلق إرادتيهما
بمرادين متقابلين فمطرد فى تعلق قدرتيهما بمقدورين متقابلين.
المسلك الرابع :
أنا لو قدرنا وجود
إلهين ، فإما أن يتفقا من كل وجه ، أو يفترقا من كل وجه ، أو يتفقا من وجه ويفترقا
من وجه.
لا جائز أن يقال
بالأول ، والثانى : لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.
وإن كان الثالث :
فلا بد وأن يكون بين ما به الاشتراك والافتراق ملازمة فى كل واحد منهما ، وإلا
لجاز افتراقهما / وخرج كل واحد منهما عن حقيقته.
وعند ذلك : فإما
أن يكون ما به الاشتراك مستلزما لما به الافتراق ، أو ما به الافتراق مستلزما لما
به الاشتراك ، أو أن كل واحد منهما مستلزم للآخر.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كان ما به الاشتراك مستلزما فى كل واحد منهما ما وقع به الافتراق
بينهما ؛ ضرورة اتحاد المستلزم ، ويلزم من ذلك امتناع وقوع الافتراق ؛ وهو خلاف
الفرض.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : وإلا فالأمران اللذان بهما الاختلاف :
إما أن يستقل كل
واحد منهما باستلزام المعنى المتحد ، أو أحدهما دون الآخر ، أو أنه لا استقلال لكل
واحد منهما ، دون الآخر.
فإن كان الأول :
فلا معنى لكون كل واحد [مستقلا
بالاستلزام إلا أنه مستلزم له وحده دون غيره ، وفى استقلال كل واحد] منهما ؛ بطلان استقلال كل واحد منهما ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
فما به الافتراق فى الآخر لا ملازمة بينه ، وبين ما به الاتحاد فيه ، وهو ممتنع
كما سبق.
__________________
وإن كان الثالث :
فما به الاتحاد فى كل واحد من الإلهين يتوقف تحققه فيه على اجتماع ما به الافتراق
بين الإلهين فيه ، وإلا فلا تحقق له فيه ؛ لعدم استقلال أحد المختلفين بالاستلزام
، ويلزم من ذلك عدم الافتراق بينهما ؛ وهو خلاف الفرض.
وأما إن قيل
بالقسم الثالث : وهو الاستلزام من الجانبين ؛ فهو محال لما سبق فى القسمين الأولين
؛ إذ هو مركب منهما.
واعلم أن هذا
المسلك وإن دق النظر فيه ، وحسن تحريره ؛ فإنما يلزم أن لو كان ما به الاتفاق ،
والافتراق فى الإلهين وجوديا ، وبتقدير أن يكون ما به الافتراق وجوديا ، وهما
مفترقان به لذاتيهما ، وما به الاتفاق سلبى : وهو عدم الافتقار إلى العلة كما سبق
فى المسلك الأول تقريره ؛ فهو غير لازم ، وإلا لما تصور وجود مختلفين أصلا ؛ ضرورة
أنهما لا بد من اتفاقهما فى سلب غيرهما عنهما ؛ وهو محال مخالف للعقل والحس.
ثم وإن سلمنا أن
ما به الاتفاق أمر وجودى ، غير أنه يلزم مما قيل من البرهان أن لا توجد الأنواع
المختلفة بذواتها ، المتفقة بأمور ثبوتية عامة لها ؛ وذلك كالسواد ، والبياض ؛ اذ
هما وجوديان ، وهما مختلفان لذاتيهما ، ومتفقان باللونية ، وكذلك الإنسان ، والفرس
، وسائر الأنواع ، وما لزم من القول به أمر محال ؛ فيكون لا محالة فاسدا فى نفسه
من جهة الجملة ، وإن لم يكن فساده مفصلا.
المسلك الخامس :
لو قدرنا وجود
إلهين لكل واحد [منهما] من صفات الإلهية ما للآخر فهما مثلان ؛ لاشتراكهما فى أخص صفة نفس أحدهما.
وعند ذلك : فلو
قدرنا جوهرا حدث : فإما أن يستند فى حدوثه إلى أحدهما / دون الآخر ، أو إليهما ،
أو لا إليهما.
لا جائز أن يقال
بالأول ؛ إذ ليس إضافته إلى ما أضيف إليه أولى من الآخر لتماثلهما.
__________________
ولا جائز أن يقال
بالثانى : لأنه لا يخلو : إما أن يكون كل واحد مستقلا بإيجاده ، أو لا استقلال
لأحدهما دون الآخر.
فإن كان الأول :
فهو محال ؛ لما سبق فى المسلك الّذي قبله.
وإن كان الثانى :
فهو مقدور واحد بين قادرين ؛ وهو محال ؛ لأن إحداث كل واحد منهما له إنما هو
بالقدرة ، والإرادة كما يأتى لا بالذات .
وعند ذلك : فإما
أن يقصد كل واحد منهما إيجاد الكل ، أو البعض ، أو بعض الإيجاد ، فإن قصد كل واحد
منهما إيجاد الكل ؛ فهو محال ؛ لتعذر استقلاله به كما وقع به الفرض. فإن قصد إيجاد
بعض المقدور ؛ فلا بعض له على ما وقع به الفرض ، وإن قصد بعض الإيجاد ؛ فهو متعذر
؛ لتعذر وقوع بعض الإيجاد بقصده.
وإن لم يستند
إليهما ، ولا إلى أحدهما : فإما أن يحدث بنفسه ، أو بمحدث آخر.
لا جائز أن يقال
بالأول ؛ لما سبق فى مسألة إثبات واجب الوجود.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : وإلا فذلك المحدث : إما إله آخر ، أو غير إله.
فإن كان إلها : فالكلام
فيه كما تقدم فى القسم الأول.
وان لم يكن إلها :
فسنبين أنه لا خالق غير الإله تعالى.
كيف وأن الكلام
مفروض فيما لو لم يحدث غير ذلك الجوهر ، ويلزم من ذلك امتناع الحدوث ؛ وهو محال.
وهذه المحالات
إنما لزمت من فرض وجود إلهين ؛ فهو محال.
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أنه يلزم
من اشتراك الإلهين فى صفات الإلهية تماثلهما ؛ لجواز أن يختلط بذاتيهما ، وهما
مشتركان فيما فرض من اللوازم العامة لهما.
وعند ذلك فلا
يمتنع إسناد الحدوث إلى أحدهما دون الآخر ؛ إذ لا تماثل حتى يقال لا أولوية.
ولا خفاء بأن بيان
التماثل مما لا سبيل إليه.
__________________
ثم وإن سلمنا
التماثل. غير أن الحدوث غير مستند إلى ذات الإله ، وطبعه ؛ بل إلى القدرة
والاختيار.
وعند ذلك : فلا
يمتنع قصد أحدهما لتخصيصه ، دون الآخر.
وإن تمسك المعتزلة
بهذا المسلك ؛ فقد ناقضوا أصلهم فى القول بامتناع اختصاص أحد المتماثلين بحكم لا
وجود له فى الآخر ؛ حيث زعموا : أن الإرادة القائمة لا فى محل ؛ مماثلة للإرادة
القائمة فى محل مع اختلافهما فى حكم افتقار إحداهما إلى المحل دون الأخرى. /
وكذلك حكموا
بتماثل العلم والجهل ، مع افتراقهما فى صفتيهما ، وبتماثل الأعراض التى لا بقاء
لها مع اختلافها باختصاص كل واحد منها بزمن لا يوجد فيما قبله ولا بعده ، إلى غير
ذلك.
وناقضوا أصلهم
أيضا : فى امتناع مقدور واحد بين قادرين. حيث قالوا : بجواز تولد فعل واحد من
اعتمادين صادرين عن قادرين ، ويلزم أن يكون فعلا لكل واحد منهما.
المسلك السادس :
أنا لو فرضنا وجود
إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر ، ولم ينفصل أحدهما عن الآخر بزمان
، ولا مكان ، ولا بصفة من الصفات ، ولا بعلم يميز أحدهما عن الآخر بصدور الفعل ؛
فإنه ما من فعل إلا ويجوز صدوره من كل واحد منهما. وكل موجودين لا يمكن التوصل إلى
تمييز أحدهما عن الآخر ؛ فالعلم بهما يكون ممتنعا
وهذه الطريقة مما
اعتمد عليها حذاق المعتزلة ، وبعض أصحابنا ؛ وهى بعيدة عن التحصيل ؛ فإنه وإن قدر عدم
امتياز أحدهما عن الآخر بالصفات الزائدة على ذاتيهما ؛ فلا يمتنع التمايز بالنظر
إلى ذاتيهما ، ويكون الاختلاف بينهما لذاتيهما. وإن اشتركا فى الصفات العامة لهما.
__________________
ثم وإن سلم امتناع
التوصل إلى التمييز بالدليل ؛ فلا يلزم امتناع العلم بالتمييز ؛ لجواز خلق العلم
الضرورى بذلك. وإن سلمنا امتناع العلم بذلك مطلقا ؛ ولكن لا يلزم من امتناع العلم
بتمييز أحدهما عن الآخر ، امتناع وجودهما فى نفس الأمر ؛ فإن انتفاء العلم بالشيء
لا يدل على عدمه فى نفسه.
المسلك السابع :
لو قدر وجود إلهين لم يخل : إما أن يقدر كل واحد منهما على نصب
دلالة تختص بالدلالة عليه ، أو لا يقدر على ذلك ، أو يقدر أحدهما دون الثانى.
لا جائز أن يقال
بالأول : إذ الدال على الصانع إنما هو صنعه ، ولا يتصور وجود صنع يعلم اختصاصه
بأحدهما.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : وإلا فهما عاجزان ، والعاجز لا يكون إلها كما تقدم.
فلم يبق إلا
الثالث : وهو أن يكون أحدهما قادرا ، والآخر عاجزا. والعاجز ليس بإله ، والقادر هو
الإله ، فلا تعدد فى الآلهة.
وهذا المسلك أيضا
مما اعتمد عليه بعض أصحابنا والمعتزلة ، وهو ضعيف أيضا. فإنا إذا فرضنا وجود إلهين ، وقدرنا استحالة قدرة / كل واحد منهما
على نصب دلالة عليه تخصه ـ بما سبق تقريره فى القسم الأول ـ فلا يكون كل واحد
منهما عاجزا مع فرض استحالة المقدور عليه. ولهذا فإن الإله لا يوصف بكونه عاجزا عن
الجمع بين الضدين ، وإيجاد المحالات.
وعلى هذا فلا يلزم
مما ذكروه خروج كل واحد منهما عن الإلهية.
وإن شئت قلت : إما
أن يكون نصب الدلالة الخاصة بكل واحد منهما ممكنة ، أو غير ممكنة.
فإن كانت ممكنة :
فقد بطل ما ذكروه فى تقرير القسم الأول.
__________________
وإن لم تكن ممكنة
: فلا يكون الإله موصوفا بالعجز عن إيجاد ما ليس بممكن كما تقرر. وبه إبطال ما قيل
فى القسم الثانى.
وربما انفردت
المعتزلة بمسلك آخر بناء على أصلهم فى أن الله ـ تعالى ـ مريد بإرادة حادثة لا فى
محل.
قالوا : فلو قدرنا وجود إلهين ، فالإرادة الحادثة لا اختصاص لها
بأحدهما دون الآخر.
وعند ذلك : فيلزم
أن يكون كل واحد منهما مريدا بتلك الإرادة ، ويلزم من ذلك أن تكون العلة الواحدة
موجبة لحكمين فى محلين ؛ وهو محال ، ولهذا يمتنع أن يكون العلم الواحد موجبا
لعالميتين فى محلين مختلفين. وبطلان هذا المسلك أظهر من حيث أنهم بنوه على كون
الإله تعالى مريدا بإرادة حادثة لا فى محل ، وقد سبق بطلانه .
ثم وإن سلم ذلك ؛
ولكن لم قالوا : بامتناع إيجاب العلة لحكمين فى محلين؟ وما ذكروه من الاستشهاد
بالعلم فلو قال قائل : إنما امتنع عليه ذلك لاشتراط قيامه بمحل الحكم ، وامتناع
قيامه بمحلين بخلاف الإرادة ؛ لم يجد إلى دفعه سبيلا.
حتى أنه لو قيل
بجواز وجود علم لا فى محل كما قيل فى الإرادة ؛ لما كان ذلك عليه ممتنعا.
وإن سلمنا دلالة
ما ذكروه على امتناع إيجاب العلة لحكمين فى محلين ، غير أنه ينتقض على أصولهم
بالفناء المضاد للجوهر ؛ فإنه مخلوق لا فى محل على أصلهم. ومع ذلك يوجب كون كل
جوهر فانيا مع عدم اختصاصه بواحد من الجواهر.
وعلى هذا فإذا كانت الطرق العقلية الدالة على الوحدانية مضطربة غير
يقينية.
فالأقرب فى
الدلالة. إنما هو الدلالة السمعية على ما ذهب إليه حذاق المعتزلة. وذلك قوله ـ تعالى
ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ
إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ووجه الاحتجاج به. أنه
__________________
أخبر بلزوم الفساد
من تقدير وجود الآلهة ولا فساد ، ويلزم من انتفاء اللازم / انتفاء الملزوم.
فإن
قيل : وإن سلمنا أن
لله ـ تعالى ـ كلاما [على ما ] أثبتموه فى الصفات ؛ ولكن لا نسلم أن خبره يجب أن يكون
صدقا. ولا سيما على أصلكم ؛ حيث قلتم إن الكذب غير قبيح لعينه ، وذاته. وإذا لم
يكن قبيحا لعينه ؛ فما المانع منه؟ وبتقدير عدم الصدق ؛ فلا ملازمة بين الآلهة
والفساد.
سلمنا أن كلام
الله النفسانى يجب أن يكون الخبر منه صادقا ؛ ولكن ما ذكرتموه دليلا ، ليس من الكلام النفسانى فى شيء.
فلئن
قلتم : إلا أنه من
الكلام الدال على الكلام النفسانى ، فغير مسلم ولا بد من إثباته.
سلمنا أنه من
الكلام الدال على الكلام القديم النفسانى ؛ ولكن لا نسلم أنه يجب أن يكون الخبر
منه صدقا ، وإن كان مدلوله صادقا .
سلمنا أنه [صادق] ؛ لكنه أخبر عن لزوم الفساد عن وجود الآلهة بتقدير أن
يكونوا أصناما كما كان معتقد الجاهلية أم لا؟ الأول : مسلم.
والثانى : ممنوع.
ويدل عليه قوله ـ تعالى
ـ فى صدر الآية (أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) : أى أصناما.
وعند ذلك : فلا
يلزم من لزوم الفساد بتقدير أن تكون الآلهة أصناما ، لزوم الفساد من كل آلهة.
سلمنا لزوم الفساد
من مطلق الآلهة ؛ ولكن بتقدير الاختلاف ، أو لا بتقدير الاختلاف. الأول : مسلم.
والثانى : ممنوع.
__________________
ولهذا فإنا لو
قدرنا تعدد الآلهة من غير اختلاف ، لم يكن الفساد لازما ، وغاية ما يلزم من انتفاء
الفساد ، انتفاء الآلهة المختلفة. ولا يلزم منه انتفاء الآلهة مطلقا ، بتقدير أن
تكون متفقة.
سلمنا لزوم الفساد
مطلقا ؛ ولكن حالا ، أو مالا؟ الأول : ممنوع ، والثانى مسلم.
ولهذا فإنه لو قال
القائل : لو جاء زيد لجاء عمرو ؛ فإنه لا يدل على تعقب مجىء عمرو لمجيء زيد ، فإن
حرف لو ليس للتعقيب ، بخلاف الفاء.
وعلى هذا : فلم
قلتم بانتفاء الفساد مآلا؟
سلمنا لزوم الفساد
حالا ، ولكن من وجود آلهة هى فى السماء والأرض ، أو مطلقا؟ الأول : مسلم. والثانى
: ممنوع. ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ) : أى فى السماء والأرض. كما قاله أهل التفسير.
وعند ذلك : فلا
يلزم من انتفاء الآلهة فى السماء والأرض ، انتفاء آلهة ليست فى السماء ، ولا فى
الأرض.
سلمنا لزوم الفساد
عند وجود آلهة غير الله ـ تعالى ـ مطلقا ؛ ولكن يحتمل أن يكون الفساد لازما عند
وجود آلهة غير الله ـ تعالى ـ لوجودهم فقط. ويحتمل أن يكون ذلك لاجتماعهم مع الله
ـ تعالى ـ فبالتقدير الأول : يلزم من نفى / الفساد نفى آلهة غير الله ـ تعالى ـ وبالتقدير
الثانى : يلزم نفى الاجتماع. وكما أن نفى الاجتماع يتحقق بنفى آلهة غير الله ؛
فيتحقق بنفى الإله ، ووجود ما سواه من الآلهة ، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر
؛ فلا بد لكم من دليل اليقين.
سلمنا لزوم الفساد
لخصوص وجود آلهة غير الله ـ تعالى ـ ولكن لم قلتم بعدم الفساد؟ وذلك لأن فساد
الشيء قد يكون بفساد تركيبه ووضعه ، واختلال مقصوده.
وعند ذلك : فمن
الجائز أن يكون تركيب السماء والأرض ووضعهما فاسدا بالنظر إلى تركيب آخر ، ووضع
آخر فى علم الله ـ تعالى ـ وإن كنا نظن عدم الفساد فيهما.
سلمنا أنها غير
فاسدة ؛ ولكن إنما يلزم من عدم الفساد ، انتفاء ما جعل ملزوما للفساد ؛ وذلك هو وجود آلهة. ولا يلزم من
انتفاء آلهة. أن لا يكون ثم إله آخر مع الله ـ تعالى ـ.
__________________
كيف وأن مفهوم
الآية يدل على وجود إله آخر مع الله ـ تعالى ـ حيث خصص الآلهة بالدلالة على
انتفائها ، ولو كان الإله الثانى مساويا للآلهة فى الحكم ؛ لما كان التخصيص مفيدا.
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على انتفاء الشركة فى الإلهية مطلقا. غير أنه معارض بما يدل على وجود
آلهة.
وبيانه : أنا قد
صادفنا فى العالم خيرا ، وشرا ، وكل واحد منهما يدل على مريد له ، ومريد الخير لا
يكون مريدا للشر ، ومريد الشر لا يكون مريدا للخير ، واختلاف المرادات يدل على اختلاف المريدين.
والجواب :
أما
السؤال الأول : فمندفع ، لما سبق فى مسألة امتناع الكذب على الله ـ تعالى.
وقولهم : لم قلتم إن ما ذكرتموه من الكلام هو الدال على كلام الله
ـ تعالى ـ النفسانى؟
قلنا : لأنه قد علم بالتواتر القاطع فى كل عصر إلى وقتنا هذا عن
النبي ـ عليهالسلام ـ المصدق بالمعجزة القاطعة ـ على ما سيأتى فى النبوات ـ إخباره عن القرآن الوارد على لسانه أنه كلام الله ،
والأمة من المسلمين قاطبة مجمعة عليه ، وأن هذه الآية منه ، وكلام الله : إما
كلامه القائم بنفسه ، أو الدال على كلامه القائم بنفسه ، وليست هذه الآية من
الكلام النفسانى ؛ فكانت من الكلام الدال على ما فى النفس.
قولهم : لم قلتم إنه يجب أن يكون صادقا؟
قلنا : لما سلف أيضا.
قولهم : أخبر عن الفساد بتقدير أن تكون الآلهة أصناما أم لا؟
قلنا : الآية أخبرت عن لزوم الفساد بتقدير أن يكون فيهما آلهة
مطلقا / فبتقدير كون الآلهة أصناما إضمار فى اللفظ ما ليس فيه ؛ وهو ممتنع من غير
دليل.
__________________
نعم غايته أن
الآية وردت بسبب اتخاذ الأصنام آلهة. غير أن الاعتماد على دلالة اللفظ الوارد لا على خصوص السبب.
كيف وأنه يمتنع
الحمل على الآلهة بتقدير أن يكونوا أصناما ، فإنه أخبر عن لزوم فساد السماء والأرض بهم ، وذلك
غير لازم من وجود آلهة يكونون أصناما.
قولهم : الفساد لازم بتقدير الاختلاف ، أو لا بتقدير الاختلاف.
قلنا : الآية مخبرة عن لزوم الفساد بتقدير وجود آلهة فيهما
مطلقا ؛ فيجب اعتقاد ملازمة الفساد بتقدير وجود الآلهة مطلقا. ثم الاختلاف : إما
أن يتوقف عليه الفساد ، أو لا يتوقف. فإن توقف عليه الفساد ؛ فيجب اعتقاد ملازمة
الاختلاف لوجود الآلهة مطلقا. حذرا من تعطيل دلالة اللفظ.
وإن لم يتوقف عليه
الفساد ؛ فالسؤال مندفع من أصله.
قولهم : الفساد لازم حالا ، أو مآلا.
قلنا : الآية إنما وردت تقريعا لمن اعتقد إلها غير الله ـ تعالى
ـ واحتجاجا على إبطال معتقده باتفاق الأمة ، وأهل التفسير ؛ فلو كان الفساد لازما
مآلا ، لا حالا ؛ لم يكن التقريع والاحتجاج على إبطال ما اعتقدوه صحيحا ؛ إذ كان
للمحتج عليه أن يقول : فالفساد لازم مآلا ، لا حالا.
قولهم : الفساد لازم من وجود آلهة فى السماء ، والأرض.
قلنا : الآية إنما
وردت لبيان امتناع وجود آلهة غير الله ـ تعالى ـ تقريعا لمعتقد ذلك كما سبق.
وإنما يتم التقريع
والدلالة أن لو حمل ذلك على الآلهة مطلقا غير أنه أضاف الآلهة إلى السماء والأرض
نظرا إلى اعتقاد الجاهلية لذلك ، كما قال الله ـ تعالى ـ (أَيْنَ شُرَكائِيَ) وليس المراد بذلك تثبيت الشركاء ؛ بل ذكر ذلك نظرا إلى
اعتقاد
__________________
المخاطب. وكذلك
قوله عليهالسلام للجارية الخرساء : «أين الله؟» على ما سبق تحقيقه فى مسألة إبطال الجهة ، ويدل على ذلك قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) ؛ فإنه يشعر بجواز أن يكون الله ـ تعالى ـ فى السماء ،
والأرض.
ولهذا فإنه لو قال
القائل : لو كان فى البلد عالم غير زيد لكان أصلح ؛ فإنه يشعر بكون زيد عالما ،
وبجواز كونه فى البلد. ولو لم يكن زيد عالما ، ولا جائز الوجود فى البلد ، لم يكن
الكلام صحيحا ، ولا من لغة العرب. ولا يخفى امتناع كون الرب / ـ تعالى ـ فى السماء
والأرض ـ على ما سبق ـ غير أنه ذكر ذلك نظرا إلى اعتقاد المخاطبين لا غير
قولهم : يحتمل أن يكون الفساد لازما من اجتماع آلهة غير الله ـ تعالى
ـ مع الله كما قرروه.
قلنا : الآية ظاهرة فى الإخبار عن لزوم الفساد ، من تقدير آلهة
غير الله ؛ فإضافة الفساد إلى الجمعية مع الله ـ تعالى ـ تقدير زيادة على ما أضيف
الفساد إليه ، من غير دليل ؛ فيمتنع.
قولهم : لم قلتم بعدم الفساد؟
قلنا : عنه أجوبة ثلاثة :
الأول
: أن المراد من قوله
ـ تعالى ـ (لَفَسَدَتا) : أى لخربتا على ما ذكره أهل التفسير ، وخراب السماء والأرض على ما هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الخراب
، وهو انحلال التركيب ، وانفصال أجزاء التأليف ، واختلال الأحوال.
ولا يخفى أن
السماء ، والأرض ، وما هما عليه من التأليف والتركيب ، غير منحل ولا مضطرب ، وما
هو عليه من الأحوال من سير الكواكب والأفلاك ، وشرق النيرات ، وغروبها ، وصعودها ،
وهبوطها ، ولزوم الفصول لها فى أوقاتها ، وجميع ما يلازمها من الآثار العلوية
والسفلية ، فعلى غاية الاعتدال ، وحسن النظام فى نظر كل عاقل متبحر ، حتى
__________________
أنه لو أراد مريد
تقرير حالة للسماء والأرض فى أكمل مما هى عليه ؛ لقد كلف نفسه شططا. والاحتجاج
إنما يكون بما هو مفهوم ، لا بما هو غير مفهوم.
الثانى
: أن الآية على ما
سبق ـ إنما وردت لتقريع من اعتقد آلهة غير الله ـ تعالى ـ فلو كان الفساد حاصلا ؛
لكان ذلك تقريرا ، لا تقريعا.
الثالث
: أن حرف لو فى
اللغة مشعر بامتناع الشيء ، لامتناع غيره. لا بوجود الشيء لوجود غيره ، وفى القول
بتحقيق الفساد قلب الواجب.
قولهم : لا يلزم من ذلك انتفاء الشريك الواحد ، وإن لزم منه
انتفاء الشركاء.
قلنا : الآية حجة
فى انتفاء آلهة غير الله ـ تعالى ـ بلفظها وهى حجة فى نفى الشريك الواحد بالنظر
إلى معناها ؛ لأن انتفاء الآلهة ، إنما كان لازما من انتفاء لازمه ، وهو الفساد
اللازم من الاختلاف بينهم ، فالواحد منهم لو قدر منفردا عنهم مع الله ـ تعالى ،
لكان من جملة المخالفين ؛ فيكون الفساد لازما له أيضا ، ويلزم انتفاؤه من انتفاء
لازمه.
قولهم : الآية تدل على وجود إله غير الله ـ تعالى ـ نظرا إلى
المفهوم.
قلنا : لا نسلم أن المفهوم حجة. وإن سلمنا أنه حجة ، فلا يقع فى
معارضة معنى المنطوق.
/ وما ذكروه من
المعارضة بالمعنى عنه جوابان :
الأول
: أن الاستدلال على
وجود الإله ، إنما هو مستند إلى حدوث الجائزات ، وافتقارها إلى المرجح من حيث هى
جائزة ، ولا اختلاف بينها فيه ، والفاعل لها إنما يزيدها من جهة حدوثها ووجودها ،
والوجود من حيث هو وجود ، ليس بشر حتى يمتنع صدوره عن مريد الخير ؛ بل الشر إما
عدم ذات ، أو كمال ذات ، كما يقول الفلاسفة. أو عبارة عن مخالفة الأعراض ، كما
يقوله المتكلم ، وليس ذلك من باب الإحداث ، والإيجاد فى شيء ؛ فلا يكون مراد
الوجود ، والحدوث.
الثانى
: أنا لو قدرنا أن
ذلك مما يصح قصده ، وإرادته ؛ ولكن لا نسلم امتناع إسناده إلى مريد الخير ، وإنما
يمتنع ذلك على فاسد أصول القائلين بالصّلاح ، والأصلح ، وتحسين العقل ، وتقبيحه
للأشياء فى ذواتها ، وسيأتى وجه إبطاله ، والله أعلم.
__________________
«النوع السادس»
«فى أفعال الله ـ تعالى»
ويشتمل على (ثلاثة
أصول ):
الأول : فى
التعديل ، والتجوير.
والثانى : فى أنه
لا خالق إلا الله تعالى.
[ الثالث : فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله ـ تعالى ]
__________________
الأصل الأول
«فى التعديل ، والتجوير»
ويشتمل على ثلاث
عشرة مسألة :
الأولى : فى
التحسين ، والتقبيح.
الثانية : أنه لا
حكم قبل ورود السمع .
الثالثة : فى أنه
لا يجب رعاية الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأنه لا يجب عليه شيء أصلا.
الرابعة : فى
الآلام ، وأحكامها.
الخامسة : فى
تكليف ما لا يطاق.
السادسة : فى معنى
النعمة ، وأنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟
السابعة : فى معنى
الهداية ، والإضلال.
الثامنة : فى معنى
الختم ، والطبع ، وغيره.
التاسعة : فى معنى
اللطف ، وحكمه.
العاشرة : فى معنى
التوفيق ، والخذلان ، والعصمة.
الحادية عشرة : فى
الآجال.
الثانية عشرة : فى
الأرزاق.
الثالثة عشرة : فى
الأسعار.
__________________
«المسألة الأولى»
(فى التحسين ، والتقبيح)
ذهبت المعتزلة ،
والكرامية ، والخوارج ، والبراهمة ، والثنوية ، والتناسخية ، وغيرهم : إلى أن الأفعال منقسمة فى أنفسها : إلى حسنة ،
وقبيحة ، غير أن منها ما يعرف بضرورة العقل : كحسن الإيمان ، وقبح الكفران ،
والكذب الّذي لا غرض فيه.
ومنها ما يدرك
بنظر العقل : كحسن الصدق الّذي فيه ضرر ، وقبح الكذب الّذي فيه نفع.
ومنها ما يدرك /
بالسمع : كحسن العبادات ، وقبح ترك الواجبات الشرعية عند المعترف بها.
ثم اختلف المعتزلة
:
فذهب الأوائل منهم
: إلى أن الحسن ، والقبح غير مختص بصفة موجبة لتحسينه ، وتقبيحه.
وذهب الجبائى ،
ومن تابعه : إلى أن الحسن ، والقبيح [ مختصان بصفة موجبة لتحسينهما ، وتقبيحهما ].
__________________
وذهب بعض المعتزلة
: إلى الفرق فقال : القبح متميز بصفة موجبة لتقبيحه بخلاف الحسن.
وعلى هذا تفرع
الخلاف بينهم فى أمرين :
الأول
: أن الضرر المحض
الّذي يصدر عن الصبيان ، والبهائم. هل يوصف بكونه قبيحا ، أم لا؟ وكذلك الكذب
الصادر من الصبيان إذا عرى عن النفع. هل يوصف بكونه قبيحا ، أم لا؟ فمن مال إلى
مذهب الأوائل منهم : حكم بنفى التقبيح. ومن مال إلى مذهب الجبائى ؛ حكم بالتقبيح.
الثانى
: الاختلاف فى
العبارات الحدية الدالة على معنى الحسن والقبيح ، فمن قال إن الحسن والقبيح غير
مختص بصفة موجبة للتحسين ، والتقبيح.
قال
فى حد الحسن : هو الفعل الّذي لا يستحق فاعله الذم عليه ، والمراد من الذم : الإخبار المنبئ
عن نقص حال المخبر عنه مع القصد لذلك. ولو لا القصد لما كان ذما.
وهو باطل من وجهين
:
الأول
: أنه يلزم عليه
أفعال البهائم ؛ فإنها لا تستحق الذم عليها ، ولا توصف أفعالها بكونها حسنة
بموافقة من الخصوم ، وكل قائل بمجارى العادات.
الثانى
: أنه يلزم عليه ترك
القبح ؛ فإنه حسن عندهم ، وليس بفعل ؛ بل هو ترك فعل.
ومنهم من زاد فى
الحد : مع علمه به. احترازا عن الإلزام بالبهائم ، وهو فاسد أيضا ؛ فإن تعلق العلم
بالمعلوم لا يغير صفته ؛ بل يتعلق به على ما هو عليه ، وإلا كان العلم به جهلا.
فإن كان الفعل
حسنا فى نفسه ؛ فعدم تعلق العلم به لا يخرجه عن كونه حسنا. فإذا أخذ تعلق العلم به
فى رسم الحسن كان منتقضا بما ليس بمعلوم ، وإن لم يكن حسنا فى نفسه ، فتعلق العلم به لا يجعله
حسنا. وإذا كان كذلك : لم يكن أخذ تعلق العلم به مفيدا فى الرسم ، وبقى الإلزام
بحاله.
__________________
ومن هؤلاء من قال
: الحسن هو ما للقادر عليه فعله. وهو أيضا باطل ؛ لأنه إما أن يراد بقولهم :
للقادر عليه فعله. الإذن فى الفعل ، أو أنه غير ممنوع منه ، أو التمكن منه حقيقة ،
أو معنى آخر.
فإن كان الأول :
فإما أن يراد بالإذن. إذن الشارع / ، أو العقل. فإن أريد به إذن الشارع : فقد عاد
تفسير الحسن إلى معنى شرعى.
ثم يلزم أن لا
تكون الأفعال قبل ورود الشرع حسنة ؛ لعدم ورود الشرع بالإذن ، وهو خلاف مذهبهم.
وإن أريد به إذن
العقل : فإما أن يراد به حكم العقل بأنه لا يستحق على فعله ذما ، ولا عقابا ، وإما
معنى آخر.
فإن كان الأول :
فهو راجع إلى الحد الأول ، وقد أبطلناه.
وإن كان الثانى :
فلا بد من تصويره.
وإن أريد به القسم
الثانى ، أو الثالث : فأفعال البهائم لازمة عليه.
وإن كان القسم
الرابع : فهو غير معقول ، فلا بد من تصويره.
وربما زاد بعضهم
فيه : مع العلم به ـ وقد عرف ما فى هذه الزيادة.
وأما القبيح :
فقد قيل فيه ـ بناء
على هذا الأصل هو ما يستحق فاعله الذم على فعله ما لم يمنع من استحقاقه مانع.
وإنما قيدوا الحدّ بقولهم : ما لم يمنع منه مانع ؛ لأنّ من أصلهم أنّ الصغائر
قبيحة. غير أنها لا يستحق على فعلها الذمّ إذا صدرت ممن يجتنب الكبائر.
وهو أيضا فاسد من
ثلاثة أوجه :
الأول
: هو أن الكلام مبنى
على أصل من لا يرى اختصاص الحسن ، والقبيح بصفة توجب تحسينه ، وتقبيحه ، ولا
التقبيح ، والتحسين راجع إلى الشارع.
وعلى هذا : فالقول
باختصاص أحد الفعلين باستحقاق الذمّ على فعله دون الآخر عقلا ، لا يكون معقولا.
الثانى
: أنه إذا كان الفعل
قبيحا لاستحقاق الذم على فعله ، فإذا منع مانع من استحقاق الذم ، فقد منع المانع
من كونه قبيحا.
الثالث
: هو أن الاستحقاق
يستدعى مستحقا عليه ، والمستحق عليه الذم :
إما الفاعل للقبيح
، أو غيره.
لا جائز أن يقال
بالأول : فإنه لا يحسن بأن يقال بأنه يستحق الذم لنفسه على نفسه.
وإن كان غيره :
فإما أن يكون هو الله ـ تعالى ـ أو غيره.
فإن كان هو الله ـ
تعالى ـ : فهو باطل ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يجب عليه شيء ، ولا يستحق على ما
سنبينه .
وإن كان غير الله
: فهو أيضا ممتنع. فإنّ من ترك الذم لغيره على فعل قبيح صدر عنه لا يقال إنه ترك
مستحقا عليه.
وربما قيل بناء
على هذا الأصل أيضا : أن القبيح هو الّذي يصح استحقاق الذم على فعله ، احترازا من
الصغائر فى حق مجتنب الكبائر ، فإنها عندهم قبيحة كما سبق ، وهى غير مستحقة للذم ؛
بل يصح عليها استحقاق الذم ، وإن امتنع الاستحقاق لمانع.
وهذه العبارة وإن كانت
/ أشد من التى قبلها غير أنها فاسدة ، لما تقرر فى الوجه الأول من
العبارة الأولى.
وأما من مال إلى
مذهب الجبائى : فقد قال فى الحسن : هو ما للقادر عليه فعله ، مع وقوعه على وجه
يقتضي تحسينه ، مع عروه عن وجوه القبح
والقبح : ما ليس
للقادر عليه فعله ، مع وقوعه على وجه يقتضي تقبيحه. وفساد هذه الحدود بفساد كون
الحسن ، والقبح وصفين ذاتيين للحسن ، والقبيح كما سيأتى عن قرب.
__________________
وأما من قال
بالتفرقة بين الحسن ، والقبيح : قال فى الحسن : هو الفعل العارى عن جميع وجوه
القبح. وقال فى القبح : هو ما ليس للقادر عليه فعله مع وقوعه على وجه يقتضي
تقبيحه.
وهو فاسد من وجهين
:
الأول
: أنه مبنى على أن
القبح وصف ذاتى للقبيح ، وسيأتى إبطاله .
الثانى
: أنه ليس تعريف
الحسن بأنه الّذي انتفت عنه جميع وجوه القبح أولى من تعريف القبح بأنه الّذي انتفت
عنه جميع وجوه الحسن.
ثم اتفق القائلون
بتحسين الأفعال وتقبيحها عقلا : على أن من فعل فعلا حسنا ، واستحق عليه ثناء ،
وثوابا ؛ أو فعل فعلا قبيحا ، واستحق عليه ذما وعقابا ؛ أنه لا بد وأن يكون ذلك
لصفة عائدة إلى نفس الفاعل يستحق بها الثواب ، والثناء ، أو الذم ، والعقاب ، غير
الصفة الموجبة للتحسين ، والتقبيح ؛ وسيأتى إبطاله.
ومذهب أهل الحق من
الأشاعرة وغيرهم :
أن الحسن ، والقبح
ليس وصفا ذاتيا للحسن ، والقبيح ، ولا أن ذلك مما يدرك بضرورة العقل ، أو نظره ؛
بل إطلاق لفظ الحسن ، والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية ؛ بل إضافية يمكن تغيرها
، وتبدلها بالنظر إلى الأشخاص ، والأزمان والأحوال وهى ثلاثة :
الأول
: أن الأفعال تنقسم
: إلى ما وافق الغرض ؛ فيسمى حسنا. وإلى ما خالف الغرض ؛ فيسمى قبيحا. وإلى ما لا
يوافق ، ولا يخالف ؛ فيسمى عبثا.
__________________
وبهذا الاعتبار قد
يكون الفعل الواحد حسنا بالنسبة إلى من وافق غرضه. قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه
: كقتل زيد مثلا ؛ فإنه قبيح بالنسبة إلى مواليه ، حسن بالنسبة إلى أعاديه : وهو
أمر إضافى غير ذاتى. لا كالسواد ، والبياض ؛ فإنه لا يتصور أن يكون المحل أسود ،
أبيض بالنسبة إلى شخصين.
الاعتبار
الثانى : إطلاق الحسن على
ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ويدخل / فيه الواجبات ، والمندوبات ، وأفعال الله
ـ تعالى ـ ويخرج منه المباحات ؛ لعدم ورود الشرع بالأمر بالثناء على فعلها ،
وتركها.
ولو قيل بأن الحسن
ما يجوز الثناء على فاعله ؛ لكان المباح حسنا ؛ لجواز الثناء على فاعله. وإطلاق
القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام ، ويخرج منه المكروه ، كراهة
التنزيه ، والمباح ؛ حيث أن الشارع لم يأمر بذم فاعله ؛ لكن المكروه وإن لم يكن
قبيحا بهذا الاعتبار ؛ فليس حسنا باعتبار الثناء على فعله ؛ بل باعتبار أن لفاعله
أن يفعله ، أو أنه موافق للغرض.
وإطلاق الحسن ،
والقبح بهذا الاعتبار أيضا مما يختلف ، ويتبدل ؛ إذ لا مانع من ورود الشرع بوجوب
الفعل فى حالة ، وتحريمه فى حالة ، وبوجوبه على شخص ، وتحريمه على آخر.
الاعتبار
الثالث : إطلاق الحسن على
ما لفاعله أن يفعله ، ويدخل فيه مع أفعال الله تعالى ـ والواجبات ، والمندوبات ؛
المباحات ، والمكروهات ، كراهة تنزيه ؛ غير أن إطلاق الحسن على المباح مختلف فيه
بين أصحابنا.
فمنهم : من منع منه
نظرا إلى أن الحسن : مقتضاه التحريض عليه ، والدعاء إليه ؛ وليس المباح كذلك.
ومنهم من سوغه :
نظرا إلى أن من فعل مباحا ، لا يمتنع على واصفه أن يقول : فعل حسنا ، من غير نكير
من أئمة المسلمين ، وأنه لو لم يكن حسنا ؛ لصح أن يقال لفاعل المباح. ما فعل حسنا ، وهو خلاف
المعهود من اصطلاح الشرع.
__________________
وعلى هذا : فما
لفاعله أن يفعله قد يصير ممنوعا منه بأن يرد الشرع بإباحة شيء فى حالة ، وتحريمه
فى أخرى ؛ فلا يكون ذاتيا.
واتفقوا على أن
فعل الله ـ تعالى ـ حسن بكل حال ، وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا ، وافق الغرض ، أو
خالف. وإن (كان) ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنسبة ، ولا إضافة ؛ لكن إن
كان بعد ورود الشرع ؛ ففعله موصوف بكونه حسنا ؛ بالاعتبارين الأخيرين. وسواء كان
واقعا ، أو متوقعا على أى حالة كان وضعه ، وإن كان قبل ورود الشرع ؛ فموصوف بكونه
حسنا ، بالاعتبار الأخير منهما.
ولا يمكن أن يقال
: إن افعال الله ـ تعالى ـ قبل ورود الشرع بالأمر بالثناء عليها حسنة. بمعنى أن
الأمر بالثناء على أفعاله قبل ورود الشرع موجود بتقدير ورود الشرع ، كما تخيله بعض
الأصحاب استنباطا / من تعلق الأمر بالمعدوم بتقدير وجوده. فإنا لو فرضنا عدم ورود
الشرائع ، وعدم خطور تجويز ورودها بالبال ؛ لما خرجت أفعال الله ـ تعالى ـ عن
اتصافها ، بكونها حسنة ، ولو كان الحكم بكونها حسنة متعلقا بتقدير ورود
الشرع ؛ لما كانت أفعاله متصفة بكونها حسنة ؛ وهو خرق للإجماع.
وأما ما كان من
أفعال العقلاء قبل ورود الشرع ؛ فموصوفة بالحسن ، والقبح باعتبار موافقة الأغراض ،
ومخالفتها ، أو بمعنى أن لهم فعلها. لا بمعنى ورود الشرع بالثناء ، أو الذم.
وعلى هذا التفصيل
يكون الكلام فى صفة أفعال أهل الجنة. بالحسن حالة وجودها ؛ لعدم ورود الشرع فى الآخرة.
وأما فى وقتنا هذا
؛ فهل يوصف ما يتوقع من أفعالهم فى الآخرة بالحسن شرعا فمتوقف على ورود الشرع به ؛
فإن ورد به فذاك. وإلا فلا.
وعلى ما حققناه من
وصف ما سبق من أفعال الله على ورود الشرع بكونها حسنة شرعا ؛ لورود الشرع بالأمر
بالثناء على ما مضى من أفعاله يكون التحقيق فى وصف ما
__________________
وقع من أفعال
العباد قبل ورود الشرع بالحسن ، والقبح بتقدير ورود الشرع بالثناء ، أو الذم
عليها. وإن كانت لا توصف بكونها حراما ، ولا واجبة ، ولا مندوبة ؛ فإن ذلك يتعلق
بخطاب التكليف ؛ ولا تكليف بما مضى من الأفعال قبل ورود الشرع ، ولا يصير مكلفا
بها بخطاب وجد بعد انقضائها. وهذا بخلاف ورود الأمر بالثناء ، أو الذم على ما مضى.
فإن
قيل : إذا كان فعل الله
ـ تعالى ـ حسنا بكل حال ، وأفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ عندكم ، وأنه لا أثر
للقدرة الحادثة فيها ؛ فهى فعل الله ـ تعالى ـ ؛ فتكون حسنة بكل حال. فكيف قضيتم
على بعضها بالتقبيح؟
وقد اختلف أصحابنا
فى ذلك :
فمنهم من قال : إن
القدرة الحادثة مؤثرة فى المقدور ، ومقتضية له حالا.
ومنهم من قال :
بالكسب من غير تأثير ، على ما يأتى تحقيق القول فيه. وعلى هذا فالحكم بالتقبيح
إنما هو على فعله ، أو كسبه ، لا على فعل الله تعالى.
ولنا فى المسألة
أنا نقول :
لو كان شيء من
الأفعال قبيحا لذاته ، لم يخل : إما أن يكون المفهوم من كونه قبيحا ، هو نفس ذات
ذلك الفعل ، أو زائد عليه.
لا جائز أن يكون
هو نفس ذات الفعل : لثلاثة أوجه :
الأول
: هو أنا قد نعقل /
ذات الفعل ، ونجهل كونه قبيحا : كالكذب الّذي فيه نفع إلى أن نعرف قبحه بالنظر كما هو مذهبهم ؛ والمعلوم غير المجهول.
الوجه
الثانى : أنه لو كان هو نفس ذات الفعل ؛ لكان يلزم أن ما حكم بكونه قبيحا ، أو
يكون مماثله قبيحا ؛ ضرورة الاشتراك فى مفهوم الذات ، ويلزم من ذلك أن يكون القتل
المستحق قبيحا ؛ ضرورة مماثلته لما هو قبيح فى ذاته ، وهو القتل الّذي ليس بمستحق.
__________________
الوجه
الثالث : أنا سنبين أن جميع
أفعال العباد مخلوقه لله ـ تعالى ـ فلو كان مسمى القبيح هو ذات الفعل ، والقبيح
على أصلهم ، لا يكون مخلوقا لله ـ تعالى ـ فلا يكون مخلوقا له ؛ وهو ممتنع كما
يأتى.
وإن كان المفهوم
من كونه قبيحا زائدا على ذات الفعل : فإما أن يكون صفة له ، أو لا يكون صفة له.
فإن لم يكن صفة له
: فوصف العقل به يكون ممتنعا. وإلا لجاز اتصاف الجسم بحركة لا تقوم به ؛ وهو محال.
وإن كان صفة له :
فإما أن تكون صفة ثبوتية ، أو لا ثبوتية.
لا جائز أن تكون
صفة ثبوتية لوجهين :
الأول : أنه قد
يكون صفة للعدم كما فى ترك الحسن الواجب. والترك عدم ، والثبوت لا يكون صفة للعدم.
الثانى : أنه يلزم
منه قيام المعنى بالمعنى ؛ وهو ممتنع كما يأتى.
ولا جائز أن تكون
عدمية ؛ لأن نقيض المفهوم من القبيح ، لا قبيح. ولا قبيح صفة للعدم ، وهو ترك
الفعل القبيح ؛ فالقبيح لا يكون عدما.
وهذه المحالات
إنما لزمت من القول بكون الفعل قبيحا لذاته ؛ فكان محالا.
فإن
قيل : لا شك فى وصف
الفعل بكونه ممكنا ، ومعلوما ، ومقدورا ، ومذكورا إلى غير ذلك من الأوصاف . وما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بهذه الصفات ؛
وذلك لأن [ المفهوم من كون ] الفعل ممكنا ، ومعلوما ، ومقدورا ، ومذكورا : إما أن يكون
المفهوم منه هو نفس ذات الفعل ، أو زائدا عليه. والتقسيم : كالتقسيم ، والتقرير
للمقدمات : كالتقرير إلى آخره ، وهو رفع لما علم الاتصاف به ضرورة ؛ فما هو الجواب
عنه فى صورة الإلزام. هو الجواب عنه فى محل الاستدلال.
__________________
قلنا
: هذه الصفات إنما
هى أمور اعتبارية ، وصفات وهمية تقديرية. يقدرها المقدر ، ويفرضها الفارض ، وليس
لها مدلول هو فى نفس الأمر صفة ثبوتية للفعل ، ولا سلبية.
فإن
قالوا : والمفهوم من القبيح كذلك / ؛ فقد خرج القبيح عن أن يكون قبيحا لذاته
؛ وهو المطلوب.
ومن هذا المسلك
يقتضي الاستدلال على أن الفعل لا يكون حسنا لذاته أيضا. وقد احتج الأصحاب فى
المسألة بمسالك ضعيفة :
المسلك الأول :
أنهم
قالوا : لو كان الكذب
قبيحا لذاته ؛ فلو قال القائل : إن عشت ساعة أخرى كذبت. فعند حضور تلك الساعة. إن
كذب ؛ فقد صار خبره الأول ـ صادقا. وإن صدق ؛ كذب خبره الأول.
وعند ذلك : فإما
أن يكون الحسن منه فى تلك الساعة الصدق ، أو الكذب
فإن كان الصدق :
فيلزمه الكذب فى الخبر الأول ؛ وهو قبيح. وما لزم منه القبيح ؛ فهو قبيح ، فيكون
الحسن قبيحا.
وإن كان الحسن فيه
الكذب : فليس الكذب قبيحا لذاته ؛ وهو ضعيف من ثلاثة أوجه :
الأول
: هو أن لقائل أن
يقول : ما المانع من أن يكون الصدق فى تلك الساعة هو الحسن؟ ولا نسلم أنه يلزم من
ملازمة القبيح له أن يكون قبيحا. وليس العلم بذلك ضروريا ، وإن كان نظريا ؛ فلا بد
من إثباته.
الثانى
: سلمنا اتصاف ما
لازمه القبح بالقبح ؛ ولكن ما المانع من كونه قبيحا من جهة ملازمة القبيح له؟ ومن
كونه حسنا من جهة تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به؟
وعلى هذا : فالفعل
المطلق لا يوصف بكونه حسنا ، ولا قبيحا دون النظر إلى الوجوه والاعتبارات على ما
سبق من مذهب أوائل المعتزلة ، وعند اختلاف الوجوه ، والاعتبارات ، فلا مانع من الحكم .
__________________
الثالث
: سلمنا امتناع ذلك
؛ ولكن ما المانع من الحكم على خبره بكونه قبيحا مطلقا.
أما بتقدير الصدق
؛ فلما يلزمه من القبيح.
وأما بتقدير الكذب
؛ فلكونه كذبا.
المسلك الثانى :
أنه لو قال القائل
: زيد فى الدار. ولم يكن فيها ، فلو كان قبيحا عقلا ؛ فالمقتضى لقبحه : إما ذات
هذه الألفاظ ، أو عدم كونه فى الدار ، أو المجموع ، أو أمر رابع.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كان خبره قبيحا ، وإن كان زيد فى الدار.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : لأن العدم لا يكون علة للأمر الثبوتى.
ولا جائز أن يقال
بالثالث : فإن العدم لا يكون جزءا من علة الأمر الثبوتى.
وإن كان الرابع :
فإما أن يكون ذلك المقتضى لازما لذلك القول مع عدم كون زيد فى الدار ، أو غير لازم
.
فإن لم يكن لازما : أمكن وجود ذلك القول . مع عدم زيد فى الدار ؛ ولا يكون / قبيحا.
وإن كان لازما :
فإما لنفس القول ، أو لعدم كون زيد فى الدار ، أو لهما ، أو لأمر آخر.
فإن كان لازما
لنفس اللفظ : لزم القبح ، وإن وجد زيد فى الدار.
وإن كان الثانى ،
أو الثالث ؛ فهو ممتنع ؛ لما تقدم من أن العدم لا يكون علة ، ولا جزء علة للأمر
الثبوتى.
وإن كان الرابع :
فالكلام فيه كالكلام فى الأول ؛ ويلزم [منه] التسلسل.
ولقائل أن يقول :
__________________
المحكوم بقبحه
إنما هو ذلك اللفظ مشروطا بعدم زيد فى الدار ، والعدم وإن لم يكن علة مقتضية للأمر
الثبوتى ، ولا جزء علة ، فلا يمتنع أن يكون شرطا. وعند ذلك : فما ذكر من لزوم
المحال لا يكون لازما.
المسلك الثالث :
أنه لو كان الخبر
الكاذب قبيحا عقلا ، فالمقتضى لقبحه : إما أن يكون صفة لمجموع حروفه ، أو لآحادها.
لا جائز أن يقال
بالأول : لاستحالة وجود جملة حروفه معا ، وما لا وجود له امتنع أن يكون متصفا بصفة
مقتضية لأمر ثبوتى ؛ لأن المقتضى للأمر الثبوتى لا بد وأن يكون ثبوتيا ، والأمر
الثبوتى لا يكون صفة للعدم.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : لأن جهة اقتضاء القبح فى الخبر الكاذب إنما هو الكذب ، والكذب لا يقوم
بكل واحد من آحاد الحروف ، وإلا كان كل حرف خبرا ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
ما ذكرتموه إنما
يصح أن لو كان تقبيح الأفعال وتحسينها بسبب اختصاصها بصفات موجبة للتحسين ، والتقبيح ؛ وهو غير مسلم ؛ بل كون الفعل
قبيحا ، أو حسنا إنما هو من الصفات النفسية : مثل كون الجوهر جوهرا ، والعرض عرضا
، ونحو ذلك ؛ وذلك لا يستدعى علة مقتضية له على ما سلف من إيضاح مذهب الأوائل من
المعتزلة.
سلمنا ذلك ؛ ولكن
ما المانع من أن يكون الحكم بالقبح على كل واحد من الحروف عند وجوده مشروطا؟
أما الحرف الأول :
فبوجود باقى الحروف بعده. والأخير : بوجود الباقى قبله ، والمتوسط : بوجود السابق
، واللاحق.
والقول بأن الجهة
المقتضية للقبح ، إنما هى الكذب. وهو فلا يقوم بكل واحد من آحاد الحروف ؛ فيلزم منه امتناع وجود الكذب ؛ لاستحالة
اتصاف كل واحد من الحروف بتقدير وجوده بالكذب ، واستحالة اتصاف الجملة لتعذر
اجتماعها ؛ وهو محال.
__________________
وعلى هذا / فما هو
الجواب فى صحة اتصاف الخبر بكونه كذبا ؛ هو الجواب فى صحة اتصافه بكونه قبيحا.
المسلك الرابع :
أنه لو كان قبح
الكذب صفة حقيقية ، لما اختلفت باختلاف الأوضاع ، والاصطلاحات ، وقد اختلفت
باختلاف الوضع ، والاصطلاحات ؛ فلا تكون صفة حقيقية.
أما المقدمة
الأولى : فبيانها أن الألفاظ ، والأوضاع تابعة للمعانى والمسميات ، والأصل لا
يتغير بالتابع ، ولهذا فإن معنى الجسم لما كان أمرا حقيقيا ؛ لم يختلف باختلاف
أسمائه.
وأما المقدمة
الثانية : فبيانها أن صفة القبح فى قول القائل : قام زيد ، مع عدم قيامه. قد يتغير
بأن يجعل الواضع قوله : قام زيد مقام الأمر ، أو النهى . أو غير ذلك من أقسام الكلام ، ويخرج ذلك اللفظ عن كونه
قبيحا ؛ بل ولو تلفظ به من لا يعرف مدلوله لغة ؛ فإنه لا يوصف بصفة القبح. ولو كان
القبح صفة حقيقية ؛ لما تغير بالجهل ، والمعرفة.
وهو ضعيف أيضا ، إذ
لقائل أن يقول :
ما المانع من أن
يكون قبح الخبر الكاذب مشروطا بكونه موضوعا للخبر ، وعدم مطابقته للمخبر عنه مع
علم المخبر به؟ وأنه مهما اختل شرط من هذه الشروط ؛ فقد خرج عن كونه قبيحا. كما
خرج عن كونه كذبا.
والقبح فإنما هو
صفة للكذب ؛ فيكون تابعا له فى الوجود ، والعدم.
المسلك الخامس :
أنه لو كان الكذب
الّذي لا غرض فيه قبيحا لذاته ؛ لكان الكذب الّذي يستفاد به عصمة دم نبى ، أو ولى
عن ظالم يقصد قتله قبيحا ؛ ضرورة كونه كذبا ، وليس كذلك ؛ بل هو حسن ؛ بل واجب
يأثم بتركه إجماعا. ولو كان قبيحا لما كان واجبا.
__________________
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن الكذب
فى الصورة المفروضة حسن [ولا واجب] ؛ بل الواجب إنما هو دفع الهلاك عن النبي ، وتخليصه مع
القدرة عليه ؛ وذلك ممكن بأن يأتى بصورة لفظ الخبر من غير قصد للإخبار ؛ فلا يكون
كاذبا فيه فى نفس الأمر ، وإن كان كاذبا فى الظاهر. وإذا لم يكن الكذب متعينا فى
الدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا ، ولا واجبا.
وإن سلمنا تعذر
ذكره دون قصد الإخبار ، غير أن الإخبار ممكن دون الكذب بطريق التعريض والتورية /
وقصد الإخبار عن غير المسئول عنه.
وعلى هذا : فلا
يكون كاذبا فى نفس الأمر ، ولهذا قال عليهالسلام «إنّ فى المعاريض
لمندوحة عن الكذب» . وإذا لم يكن الكذب متعينا فى الدفع ؛ لم يكن واجبا ، ولا
حسنا. نعم غايته أنه كاذب فى ظاهر الأمر ، دون باطنه ؛ فلا يكون كذبا ، ولا قبيحا
فى نفسه.
سلمنا تعذر الدفع دون الكذب ؛ ولكن لا نسلم مع ذلك وجوبه ولا
حسنه ؛ بل الواجب ، والحسن ما لازمه من دفع الهلاك عن النبي عليهالسلام.
ولا نسلم أن
اللازم هو نفس الملزوم ؛ فاللازم واجب حسن ، والملزوم قبيح ، نعم غاية ما فيه أنه لا يفضى بتحريمه
ولزوم الإثم له ؛ لأنه أمر شرعى ؛ فلا يمتنع انتفاؤه مع وجود ما يقتضيه لمانع هو
أرجح من المقتضى.
وأما القبح : فصفة
حقيقية لا تزول بالمانع ، وإن زال حكمها الشرعى.
المسلك السادس :
لو كان الظلم
قبيحا بوجه عائد إليه ؛ للزم منه أمر ممتنع ؛ فيمتنع.
وبيان الملازمة من
وجهين :
الأول : أنه يلزم منه تقدم المعلول على العلة.
__________________
وبيان أن قبح
الظلم متحقق قبل وجود الظلم. ولهذا فإنه ليس لفاعله أن يفعله. وإذا كان قبح الظلم
متحققا قبل وجود الظلم ، فلو كان القبح معللا بجهة عائدة إلى الظلم ؛ لكان المعلول
متقدما على علته ؛ وهو محال.
الثانى : أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم ؛ وتعليل الوجود
بالعدم ممتنع كما سبق.
وبيان ذلك : هو أن
القبح صفة وجودية ؛ فإن نقيضه لا قبح ، ولا قبح صفة للعدم ؛ فيكون عدما ؛ فالقبح
وجود.
وإذا كان وجوديا :
فلو كان معللا بالظلم ؛ لكان العدم من جملة علته.
وبيانه أن مفهوم
الظلم اضرار غير مستحق ، وكونه غير مستحق أمر عدمى ؛ فيكون داخلا فى العلة ؛ وهو
محال.
وهو فاسد أيضا [فإن
لقائل أن يقول] : لا نسلم الملازمة.
[وقولكم] فى
الوجه الأول : إن قبح الظلم
متقدم على وجود الظلم غير مسلم ؛ إذ القبح صفة للظلم ، والصفة لا تتقدم على
الموصوف ؛ بل المتقدم إنما هو حكم أهل العرف على ما سيوجد من الظلم بأنه بتقدير
وجوده قبيح ، وليس فى ذلك ما يوجب تقدم قبح الظلم على الظلم ، أو حكم الشارع
بشرعية الإثم [والمؤاخذة] على الظلم بتقدير وجوده ، والشرعية تكون سابقة أبدا على
الأفعال / والشرعية من الشارع ليست صفة للفعل.
وقولكم
فى الوجه الثانى : أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم ، غير مسلم.
قولكم : القبح صفة ثبوتية ؛ ممنوع.
قولكم : إن نقيضه صفة للعدم.
قلنا : إن دل ذلك على كون النقيض عدما ؛ فالقبح أيضا صفة لترك
الحسن الواجب ؛ فيكون عدما كما سبق.
__________________
وإن سلمنا أنه
وجود ؛ ولكن لا نسلم أن العدم داخل فى علته.
قولكم : عدم
الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم ؛ لا نسلم ذلك.
وإن سلمنا أنه
ملازم للظلم ؛ ولكن لا يلزم أن يكون اللازم داخلا فى مفهوم الملزوم.
سلمنا أن عدم
الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم ؛ ولكن ما المانع من أن تكون علة القبح من الظلم ما
هو الأمر الوجودى فيه؟ ، ولكنه مشروط بالقيد العدمى ؛ فالقيد العدمى شرط لا جزء ،
وعلة.
سلمنا امتناع
التعليل بمفهوم الظلم ؛ ولكن لا يلزم من امتناع تعليل قبح الظلم بالظلم ، امتناع
اتصافه بالظلم حقيقة. وإن لم يكن معلولا ، لا سيما ـ لشيء ما ، وذلك لأن قبح الظلم
عندنا من الصفات النفسانية التى لا علة لها : ككون الجوهر جوهرا ، والسواد سوادا ،
ونحوه.
المسلك السابع :
هو أن فعل العبد
لو كان حسنا ، أو قبيحا لذاته حقيقة ؛ لكان مختارا فيه ، وليس مختارا ؛ فلا يكون
حسنا ، ولا قبيحا.
أما بيان المقدمة
الأولى : فلأن كل فعل لا يكون العبد مختارا فيه ؛ لا يكون موصوفا بهذه الصفات
بالإجماع منا ، ومنهم.
وأما بيان المقدمة
الثانية : فهو أنه عند وجود القدرة مع الداعى للعبد على الفعل : إما أن يكون الفعل
واجبا : لا يسع تركه ، وإما أنه غير واجب ؛ بل يسع تركه.
فإن كان الأول :
فهو مضطر إلى فعله من غير اختيار.
وإن كان الثانى :
فإن توقف رجحان الفعل على الترك على مرجح ؛ فالكلام فى الفعل مع وجود ذلك المرجح :
كالكلام فى الأول ، وهو تسلسل.
وإن لم يتوقف على
مرجح : فإذا حصل كان حصوله اتفاقيا من غير مرجح ؛ فلا يكون العبد مختارا فيه أيضا.
__________________
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن فعل
العبد غير مختار فيه.
قولكم : إما أن يكون الفعل عند وجود القدرة ، والداعى واجبا ، أو
لا يكون واجبا.
قلنا : القدرة الحادثة وإن كانت مخلوقة لله ـ تعالى ـ بالإجماع
منا ومنكم ، غير أن تعلقها بالمقدور عندنا ، وإيجاد المقدور ، مستند إلى العبد.
وعلى هذا / فنقول
: إن تعلقت القدرة بالفعل ؛ فهو واجب الحصول. وإن لم تتعلق به ؛ فهو غير واجب
الحصول.
ووجوب الحصول
بتقدير التعلق بدلا عن عدم التعلق ، لا يخرج العبد عن كونه مختارا ؛ لإمكان عدم
التعلق بدلا عن التعلق. والاختيار بهذا التفسير هو المعتبر فى اتصاف فعل العبد
بالحسن ، والقبح. ولو لا ذلك لكانت أفعال الرب تعالى : إما اضطرارية ، أو اتفاقية. وخرج عن أن يكون مختارا ؛ وهو خلاف الإجماع
منا ، ومنكم.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع اتصاف فعل العبد بالحسن
، والقبح العقلى ؛ فهو لازم عليكم فى الحسن ، والقبح الشرعى ؛ فإن من كان مضطرا
إلى الفعل ، وقدرته غير مؤثرة فيه : كحركة المرتعش ، والنائم ، والمغمى عليه ؛
فإنه لا يوصف فعله بحسن ، ولا قبح شرعى.
فما هو جوابكم فى
الحسن ، والقبح الشرعى ؛ هو جوابنا فى العقلى.
ثم وإن سلمنا
دلالة ذلك فى أفعال العباد المختارين ؛ فهو غير جائز فى أفعال الله ـ تعالى ـ وإلا
لزم أن يكون مضطرا إلى أفعاله ، أو أن يكون وقوع أفعاله اتفاقيا ؛ وهو محال.
وللخصوم
شبه استدلالية ،
وإلزامية :
أما الشبه
الاستدلالية : فشبهتان :
__________________
[الشبهة]
الأولى
: أنهم قالوا :
العقلاء مجمعون على قبح الكذب الّذي لا غرض فيه ، والجهل ، والكفران ، والظلم.
وعلى حسن الصدق ، والعلم ، والإيمان ، والعدل. وأنه معلوم بالضرورة من غير إضافة
إلى حالة دون حالة ، ولا عرف ، أو شريعة . ولهذا قد يعتقد ذلك من لا يعرف العرف ، ولا يعتقد شريعة.
كالبراهمة ، وغيرهم ؛ فدل [ذلك] على كون الحسن ، والقبح ذاتيا ، وأنه مدرك بضرورة العقل.
الشبهة
الثانية : أنهم قالوا : من
عنّ له تحصيل غرض ، واستوى فى تحصيله الصدق ، والكذب فى نظره ؛ مال إلى الصدق ،
واثره قطعا ؛ وإن لم يكن عارفا بالعرف ، ولا معتقدا لشريعة. وليس ذلك إلا لحسنه فى
نفسه ، وكذلك نعلم أن من رأى شخصا مشرفا على الهلاك وهو يقدر على إنقاذه ؛ فإنه
يميل إلى إنقاذه ، وإن كان لا يرجو منه ثوابا ـ بأن لا يكون معتقدا للشرائع ، ولا
مجازاة وشكرا ، بأن يكون المنقذ غير عالم به بأن يكون طفلا صغيرا ، أو مجنونا لا
يعقل ، ولا ثم من يرى ذلك بحيث يتوقع منه الثناء ، والشكر ، ولا / له فيه غرض من نفع
، ولا دفع ضرر ؛ بل ربما كان يتضرر بالتعب ، والعنا ؛ فلم يبق إلا أن يكون ذلك لحسنه فى نفسه.
وأما
الشبه الإلزامية : فعشر شبه :
الأولى
: أنه لو كان السمع
هو مدرك الحسن ، والقبح ؛ لما فرق العاقل قبل ورود الشرع بين من أحسن إليه وأساء ؛
وهو ممتنع قطعا.
الثانية
: أنه لو لم يكن
معنى الحسن ، والقبح مفهوما قبل ورود الشرع ؛ لما فهم ذلك عند وروده ؛ واللازم ممتنع.
الثالثة
: أنه لو كان حسن
الأفعال لكونها مأمورة ، أو مأذونا فيها ؛ لما كان فعل الله ـ تعالى ـ حسنا ؛ إذ
هو غير مأمور ، ولا مأذون.
__________________
الرابعة
: أنه لو توقف معرفة
الحسن والقبح ، على ورود الشرع ؛ لتوقف معرفة الوجوب على الشرع ، ولو توقف معرفة الوجوب
على الشرع ؛ للزم منه إفحام الرسل على ما سبق فى قاعدة النظر .
الخامسة
: أنه لو توقف معرفة
الحسن ، والقبح على ورود الشرع ؛ لما كانت أفعال الله ـ تعالى ـ قبل ورود الشرع
حسنة ؛ وهو خروج عن العقل ، والدين.
السادسة
: لو كان لا معنى
للحسن والقبح ، إلا ورود الشرع بالإطلاق والمنع ؛ لجاز من الله ـ تعالى ـ أن يأمر
بالمعاصي ، وينهى عن العبادات.
السابعة
: أنه لو كان الحسن
، والقبح متوقفا على ورود الشرع ؛ لجاز إظهار المعجزات على يد الكاذب فى رسالته ؛
وذلك مما يقدح فى تصحيح النبوات الثابتة.
الثامنة
: أنه لو توقف معرفة
الحسن ، والقبح على ورود الشرع ؛ لامتنع الحكم بنفى القبح عن الكذب فى حق الله ـ تعالى
ـ ، والجهل عليه ؛ وهو ممتنع.
التاسعة
: أنه لو توقف معرفة
الحسن ، والقبح على ورود الشرع دون العقل ؛ لما حكم بهما من لم يعتقد الشرائع ، واللازم ممتنع ؛ فكذا الملزوم.
العاشرة
: أنه لو توقف الحسن
، والقبح على ورود الشرع ؛ لامتنع تعليل شرع لأحكام ، والأفعال بالمصالح ،
والمفاسد ، وفى ذلك سد باب القياس ، وتعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام ؛ ولم يقولوا
به.
والجواب :
أما
الشبهة الأولى الاستدلالية
:
فلا نسلم إجماع
العقلاء على الحسن ، والقبح فيما قيل ؛ فإن من الملاحدة من لا يعتقد ذلك ؛ وهم من
جملة العقلاء. كيف وإن من صور النزاع ، قبح إيلام البهائم من غير جرم ، ولا عوض ،
ونحن لا نوافق عليه ؛ بل نقول : يحسن من الله ـ تعالى ـ إيلام البهائم من غير
جريمة ولا عوض.
__________________
ثم وإن سلمنا
اتفاق / العقلاء على ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن مدرك العلم به الضرورة ؛ وبيانه من
وجهين :
الأول
: هو أن الضرورة لا
معنى لها إلا ما لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوه من غير التفات إلى نظر ، أو عرف متبع ؛ لوجد نفسه مصدقا به غير خال عنه : وذلك :
كالعلم باستحالة اجتماع الضدين ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، وأن الواحد فى آن
واحد لا يكون فى مكانين وكما يجده الإنسان فى نفسه من الألم ، والغم ، والحزن ، والفرح
، وغير ذلك.
ولا يخفى أن ما
مثل هذه الأشياء ليس كذلك ؛ فلا يكون العلم به ضروريا.
الثانى
: [هو] أن العلم الضرورى لا ينازع فيه خلق لا يتصور على مثلهم
التواطؤ على الكذب ، والمحال عادة ، ومن خالف ونفى كون العلم بهذه الأمور ضروريا
بهذه المثابة ؛ فلا يكون ضروريا.
وربما قيل فى بيان
امتناع الضرورة وجهان آخران.
الأول : هو أن
الحكم بكون الكذب ، والظلم قبيحا قضية تصديقية ، والحكم التصديقى لا يمكن دون تصور
مفرداته. فلو كان العلم به ضروريا ؛ لكان العلم بحقيقة الكذب ، والظلم ضروريا ؛
وليس كذلك.
وهو فاسد ؛ فإن القضية
الضرورية : هى التى يصدّق العقل بها من غير توقف على أمر خارج غير تصور مفرداتها ؛
بل إذا تصورت مفرداتها بادر العقل بالنسبة الواجبة لها من غير توقف على أمر آخر. فكون معنى الظلم ، أو القبح غير
معلوم بالضرورة ، لا ينافى أن تكون النسبة بين الظلم ، والقبح ـ بعد تصورهما ـ معلومة
بالضرورة.
ولهذا فإنا نعلم
استحالة الجمع بين السواد ، والبياض بالضرورة وإن كانت حقيقة السواد والبياض غير
معلومة بالضرورة على ما يجده كل عاقل من نفسه.
__________________
الثانى : هو أن
الضرر لا يحكم بقبحه على مذهب المعتزلة ، حتى ينتفى عنه جميع وجوه الحسن ، وإلا
فهو حسن.
ثم الوجوه التى
يحسن الضرر لأجلها ، إنما يتوصل إليها عندهم بالنظر والاستدلال ، وما كان ثبوته
نظريا ، فنفيه يكون نظريا ، فإذا كان قبح الضرر متوقفا على انتفاء وجوه الحسن ،
ونفيها نظرى ؛ فالعلم بقبح الضرر نظرى. وهو غير صحيح أيضا ؛ فإنهم حيث قضوا بكون
قبح الضرر ضروريا ، إنما قضوا به على وجه كلى مطلق : وهو أنّ الضّرر المجرد عن
جهات النفع قبيح ، ودعوى العلم الضرورى بذلك ، لا ينافيه عدم العلم الضرورى بقبح
الضرر فى آحاد الصور.
[وأما إذا ] عرف دليل امتناع الضرورة ؛ فالاقتصار / على مجرد الدعوى
لا يكون كافيا.
كيف وأنه قد لا
تؤمن المعارضة بدعوى النقيض ، وإن تعرض للدلالة مع تعذرنا ؛ فقد بطلت دعوى الضرورة ؛ فإن الضرورى لا يكون نظريا.
وإن سلمنا أنه
معلوم بالضرورة ؛ ولكن لا نسلم أن الحسن ، والقبح ذاتى للحسن ، والقبيح على ما
بيناه.
قولهم : إن ذلك قد
يكون مع قطع النظر عن التوابع ، والأعراض ، واختلاف الأحوال ، لا نسلم ذلك على ما سنبينه فى الشبهة الثانية.
وأما
الشبهة الثانية : فمندفعة أيضا.
أما ما ذكروه من
إيثار الصدق على الكذب فى الصورة المفروضة ؛ فهو استدلال على ما هو معلوم بالضرورة
عندهم.
وهو إما أن يكون
العلم به ضروريا فى نفس الأمر كما هو معتقدهم ؛ فلا معنى لإثباته بالنظر. وإن لم
يكن ضروريا ؛ فقد بطل مذهبهم فى دعوى الضرورة. وإن سلمنا
__________________
إمكان الاستدلال
فيه ؛ ولكن لا يخلو : إما أن يقال باستواء سلوك طريق الصدق ، والكذب فى العرف
الشرعى ، والعقلى ، وموافقة الغرض ومخالفته ، نفيا وإثباتا ، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بالاستواء
فى جميع هذه الجهات ؛ فلا نسلم صحة إيثار الصدق على الكذب.
وإن قيل بالتفاوت
؛ فقد بطل الاستدلال.
وما ذكروه من صورة
إنقاذ المشرف على الهلاك ؛ فمندفع أيضا ؛ إذ جاز أن يكون الميل إلى ذلك لتحصيل غرض
من شكر ، وثناء فى العاجل ، أو ثواب فى الآجل ، أو لما يلحقه من رقة الجنسية التى
لا ينفك عنها طبع إنسان ما ، أو دفع وهم القبح فى حقه بأن يقدر نفسه هو المشرف على
الهلاك ، ويقدر ذلك الغير معرضا عنه ، فإنه يستقبح إعراضه عنه ، فإذا أعرض هو عن
إنقاذ ذلك الغير ، فيقدر فى نفسه تقبيح ذلك الغير إعراضه عنه ، فيدفع ذلك عن نفسه بالميل إلى الإنقاذ ؛ وإن قدر ذلك فى حق من لا يعتقد الثواب ، ولا يتوقع الثناء ، ولا هو ممن تلحقه رقة الجنسية
بالنسبة إلى المشرف على الهلاك ، ولا يعرض لقبح الإعراض فى نفسه ، فلعل الميل إلى
الإنقاذ بسبب سبق الوهم إلى العكس وهو اعتقاد أن الثناء ، والمدح مقارن لصورة
الإنقاذ لما وجده من مقارنة صورة الإنقاذ للثناء والمدح ، فى بعض الصور.
فإن فرض فى شخص لا
يستولى عليه هذا الوهم أيضا ؛ فلا نسلم أن مثل هذا الشخص يميل إلى الانقاذ / ؛ بل
ربما كان ميله (عن) الإنقاذ أرجح ؛ لتضرره [به] من غير نفع عاجل ، ولا آجل ، ولا فيه فى معتقده مخالفة عرف
شرعى ، ولا عقلى.
__________________
ثم وإن سلمنا
دلالة ذلك على التقبيح ، والتحسين فى أفعال العباد ؛ ولكن لا يلزم مثله فى أفعال
الله ـ تعالى ـ مع أنها من صور النزاع ، إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد ؛ وهو
متعذر كما سبق .
ولهذا فإن السيد
لو ترك عبيده ، وإماءه يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم ، وقادر على منعهم ؛ لكان
ذلك قبيحا منه ، وقد وجد مثل ذلك فى حق الله تعالى ـ بالنسبة إلى العبيد ، ولم
يقبح منه ذلك.
فإن قيل : إنما
يمكن تقبيح ذلك من الله ـ تعالى ـ أن لو كان قادرا على منع الخلق من المعاصى ؛ ولا
نسلم أنه قادر عليه على ما هو مذهب النظام .
فإن قلتم : إنه
يقدر على ذلك بأن لا يخلق لهم القدرة على المعصية ؛ فإنما يصح أن لو كان هو الخالق
لقدرهم ؛ وهو غير مسلم ، كما هو مذهب معمّر .
وأيضا فإنه لا
يخلو : إما أن يكون الرب ـ تعالى ـ عالما بأن من ارتكب الفواحش لا ينزجر ، أو لم يعلم منه ذلك.
لا جائز أن يقال
بالثانى : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو ممتنع.
وإن كان عالما
بأنه لا ينزجر : فمنعه عن ارتكاب الفاحشة لا يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ بمعنى
منعه من الإتيان بها ، وإلا لزم من عدم الإتيان بها أن يكون علم الرب ـ تعالى ـ جهلا
؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فيمن علم الله ـ تعالى ـ أنه لا ينزجر عن المعصية ،
وأنه لا بد له من فعلها ؛ فلا يكون عدم زجرهم منه مستقيما.
قلنا : أما الإشكال الأول : فمندفع ، بما سنبينه من أنه لا خالق
إلا الله ـ تعالى.
__________________
وأما الإشكال
الثانى : فهو بعينه لازم فى حق السيد ، فإنه إذا علم الله ـ تعالى ـ من عبيد السيد
مع اطلاعه على ارتكابهم للفواحش أنه لا بد وأن تقع الفواحش منهم. وأنهم لا ينزجرون
؛ فلا يكون زجرهم من جهة السيد مقدورا له ؛ فترك ذلك لا يكون مستقبحا.
ومع ذلك فقد
استقبح عرفا ، ولم يستقبح فى حق الغائب عرفا ؛ فافترقا.
والجواب عن الشبه
الإلزامية :
أما
الأولى : فلا ننكر أن
العاقل قبل ورود الشرع يحسن الإحسان ، ويقبح الإساءة ؛ لكن لا نسلم أن مستند ذلك
قبح الفعل ، وحسنه فى نفسه ؛ بل مستند ذلك ، وإن لم يكن هو الشرع ، فموافقة الغرض
، ومخالفته ، أو اتباع العرف العادى حتى أنه لو فرض انتفاء / ذلك ؛ فلا نسلم أن
العاقل يحسن الإحسان ، ويقبح الإساءة.
وعن
الشبهة الثانية : أنا لا ننكر أن حقيقة القبح معلومة قبل ورود الشرع ؛ لكن بمعنى مخالفة الغرض ،
أو بمعنى أنه الّذي يرد الشرع فيه بالنهى والمنع من الفعل.
ولا نزاع فى ذلك
وإنما النزاع فى كون الحسن ، والقبح ذاتيا لما وصف به من الأفعال ، وليس فى فهم
معنى القبح بالاعتبار المذكور ما يوجب كونه ذاتيا ؛ لما وصف به.
وعن
الشبهة الثالثة : أنا لا ندعى أنه لا حسن إلا ما أمر به ، أو أذن فى فعله. حتى
يقال : بأن أفعال الله ـ تعالى ـ ليست حسنة ، أو أن يكون مأمورا بها ، ومأذونا
فيها ؛ بل ما أمر الشارع بفعله ، أو أذن فيه ؛ فهو حسن ، ولا ينعكس كنفسه ؛ بل قد
يكون الفعل حسنا باعتبار موافقته للغرض ، أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله.
وبهذا الاعتبار
كان فعل الله ـ تعالى ـ حسنا ؛ سواء وافق الغرض ، أو خالف.
وعن
الشبهة الرابعة : ما مر وسبق فى وجوب النظر.
وعن
الشبهة الخامسة : أن الحسن ، والقبح وإن كان قد يفسر بورود الشرع بالمنع والإطلاق ؛ فلا نسلم
أنه لا حسن ، ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ما قيل ؛ بل الحسن ،
__________________
والقبح أعم من
ورود الشرع كما عرف ، ولا يلزم من تحقيق معنى الحسن ، والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال.
وعن
الشبهة السادسة : أنه إذا كان حسن الطاعة ؛ بمعنى ورود الشرع بالأمر بها ، وقبح المعصية ؛ بمعنى
ورود النهى عنها ؛ فلا يمتنع عندنا الأمر بما كان معصية وقبيحا ؛ بسبب ورود النهى نحوه ، وكذا لا
يمتنع أن يرد النهى بما كان طاعة وحسنا بسبب ورود الأمر به ، ويصير ما كان حسنا قبيحا
، وما كان قبيحا حسنا بهذا الاعتبار.
وعن
(الشبهة)
السابعة
: من وجهين :
الأول
: أنا لا ندعى أن
الحسن ، والقبح لا يكون إلا بورود الشرع كما قررناه. وعند ذلك ؛ فلا يلزم انتفاء الحسن ، والقبح قبل ورود الشرع.
الثانى
: وإن كان لا معنى
للحسن إلا ما حسنه الشرع. ولا معنى للقبيح إلا ما قبحه الشرع ؛ فلا نسلم أنه يلزم
من انتفاء القبح قبل ورود الشرع ؛ جواز إظهار المعجزة على يد الكاذب فى الرسالة ،
اللهم إلا أن يكون مدرك امتناع ذلك القبح ؛ وليس كذلك.
وهذا هو الجوب عن
الشبهة الثامنة ، والتاسعة :
والجواب عن
الشبهة العاشرة :
أنه وإن امتنع
الحكم بالحسن ، والقبح على المصالح ؛ والمفاسد / باعتبار ورود الشرع قبل وروده ؛
فلا يمتنع ذلك باعتبار آخر كما سلف ؛ إذا أمكن تعليل الفعل بما فيه من المصلحة
الحسنة باعتبار موافقتها للغرض ، وبما فيه من المفسدة القبيحة باعتبار مخالفتها
للغرض.
وعلى هذا فالقياس
لا يكون منقطعا.
__________________
سلمنا حسن الأفعال
وقبحها لذواتها ؛ ولكن لا نسلم أن حسن الحسن ، وقبح القبيح لوجه هو فى نفسه علته
كما هو مذهب المتأخرين من المعتزلة.
وبيان امتناعه من
أربعة أوجه :
الأول
: أن ما اختص بالحسن
، والقبيح من الوجه ، والصفة جائز أن يكون مجهولا غير معلوم عندهم. ولو جاز
اختصاص أحد الفعلين المتماثلين بوجه مجهول يوجب تقبيحه ، أو تحسينه ؛ فما المانع
من اختصاص أحد المتماثلين بصفة نفسية غير معلومة ؛ وذلك مما لا ينفى معه تعين
التماثل بين شيئين أصلا.
الثانى
: أنه لا مانع من
اختصاص الفعل عند هذا القائل بوجه يوجب حسنه ، وبوجه يوجب قبحه.
ولهذا قال فى حدّ
الحسن : ما اختص بوجه من وجوه الحسن مع عروه عن وجوه القبح. وكذلك القبيح : ما
اختص بوجه من وجوه القبح مع عروه عن وجوه الحسن.
وعند ذلك : فإما
أن يقال : يكون الفعل الواحد حسنا ، وقبيحا ، وليس ذلك من أصل هذا القائل.
وإما أن يقال بأنه
لا حسن ، ولا قبيح ؛ فيلزم انتفاء الحسن ، والقبح مع وجود علته ؛ فلا يكون ما قيل
إنه علة ، علة ؛ لأن شرط العلة ، الاطراد كما يأتى ؛ وهو خلاف الفرض.
وإن قيل : بثبوت
حكم أحد الوجهين دون الآخر ؛ فليس هو أولى من العكس على أنه مخالف لمذهب هذا
القائل.
الثالث
: هو أن من مذهب
الجبائى القائل بهذا القول : انتفاء الأحوال ، ومع القول بانتفاء الأحوال يمتنع
التعليل.
الرابع
: هو أن قبح الكذب
عندهم معلل بخصوص الكذب ، وقبح الظلم معلل بخصوص الظلم. وكذلك حسن الإيمان ، معلل
بخصوص الإيمان ، وحسن الصدق معلل بخصوص الصدق.
__________________
ولهذا قالوا : إنا
إذا علمنا جهة الكذب ؛ علمنا القبح ؛ وإن جهلنا ما عداه. وكذلك فى باقى الصور
والقبح ، فحكم واحد ، وكذلك الحسن. وقد بان أن تعليل الحكم المتحد بعلل مختلفة
ممتنع فيما تقدم ، وسيأتى بيانه أيضا بزيادة شرح وإيضاح ، فى العلل ، والمعلولات .
وإن سلمنا أن حسن
الحسن ، وقبح القبيح معلل / بوجود عائد إلى الفعل ؛ ولكن لا نسلم أن من فعل فعلا حسنا ، واستحق عليه الثواب
والثناء ، أو فعل فعلا قبيحا ، واستحق عليه الذم والعقاب ، لا بد وأن يكون ذلك
لصفة عائدة إلى نفس المحسن والمسىء ، كما هو مذهب القائلين بالتحسين والتقبيح
العقلى ؛ كما سبق إيضاحه.
وبيانه : أن تعليل
استحقاق المحسن ؛ للثواب ، والمسىء ؛ للوم والعقاب : إما أن يكون القائل به قائلا بالأحوال ، أو
نفيها.
فإن كان قائلا
بنفى الأحوال : فلا حكم ، ولا علة.
وإن كان قائلا
بالأحوال : فالوصف الموجب لاستحقاق الثواب ، أو العقاب بفعل الحسن ، والقبيح : إما
أن يكون معلوما ، أو مجهولا.
لا جائز أن يقال
بكونه غير معلوم : لما سبق فى إبطال تعليل الحسن والقبيح ، بوجوه عائدة على الفعل
غير معلومة.
وإن كان معلوما :
فإما أن يكون هو نفس فعل الإحسان والإساءة ، أو كون الفاعل عالما بقبح ما يفعله
ومريدا له ، أو عالما بحسن ما يفعله ومريدا له ، أو معنى آخر.
فإن كان الأول :
فالإحسان والإساءة ، من صفات الأفعال ، والأفعال لا توجب للفاعل حالا. وأقرب دليل
يدل عليه أن الفعل لا معنى له إلا وجود الأثر عن المؤثر ، ووجود الأثر ليس من صفات
المؤثر ؛ فلا يكون موجبا لحكم فى المؤثر. كما يأتى تقريره فى العلل ، والمعلولات .
__________________
وأيضا : فإن الفعل
حادث : فلو أوجب حكما فى الفاعل ؛ لتجدد للبارى ـ تعالى ـ من أفعاله أحكام وصفات
قائمة بذاته لم تكن قبل وجود الفعل ؛ ويلزم من ذلك أن تكون ذات الرب ـ تعالى ـ محلا
للحوادث ؛ وهو محال على ما سبق .
وأيضا : فإن ترك
الواجب إساءة. وهو نفى محض ، والنفى لا يكون علة للحكم الخالى. وإن كان الوصف هو
كون الفاعل عالما بالحسن ، أو القبح مع القصد والإرادة ؛ فهو ممتنع على أصلهم أيضا.
وبيانه : أن من كان عالما بضرر إنسان ، وقصد إيجاده ؛ فيجب أن يكون
مسيئا ، مستحقا للوم والعقاب ؛ على أصلهم. وكذلك من علم مصلحة إنسان وقصد إيجادها
؛ فهو محسن ، ومستحق للثناء والمدح.
وعلى هذا : فيلزم
أن يكون محسنا ، ومسيئا عند اجتماع الأمرين ؛ لضرورة وجود حقيقة الإحسان والإساءة
على ما ذكروه ، ومع ذلك لو كان النفع المتأخر عن العذر السابق مرجوحا ؛ فإنه لا
يكون محسنا عندهم. وكذلك لا يكون مسيئا عندنا إذا كان الأمر / بالعكس مع أن حقيقة
الإحسان موجودة ، وما سبق من الإساءة غير مخلة بالإحسان اللاحق. وكذلك بالعكس.
وإن كان ما به
التعليل شيئا آخر ؛ فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.
وبما استقصيناه
إلى هاهنا تمام مسألة التحسين ، والتقبيح.
__________________
«المسألة الثانية»
فى أنه لا حكم قبل
ورود السمع
مذهب أهل الحق من
الأشاعرة ، وغيرهم : أن الأحكام بأجمعها سمعية ، وأنه لا حكم قبل ورود السمع.
وذهب المعتزلة ـ بناء
على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح عقلا ـ : إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة ،
وقبيحة كما عرف.
فأما
الحسن : فقالوا : ينقسم
إلى ما يقضى العقل فيه باستواء فعله وتركه فى النفع ، وانتفاء الضرر عنه : ويسمى
مباحا. وربما قال بعضهم إن المباح ليس حسنا ـ ، وإلى ما فعله أولى من تركه.
ثم ما فعله أولى
من تركه : منه ما يلحق للذم بتركه : فيسمى واجبا. ومنه ما لا يلحق الذم بتركه :
فيسمى مندوبا.
ثم قسموا الواجب
العقلى فقالوا : لا يخلو : إما أن يكون وجوبه لمعنى فى نفسه ، أو لا لمعنى فى نفسه
؛ بل لغيره.
فإن كان الأول :
فهو كشكر المنعم ، والإيمان ، والعدل ، والإنصاف ، ونحو ذلك.
وإن كان الثانى :
فمنه ما يستقل العقل بدركه : كوجوب النظر. ومنه ما لا يستقل العقل بدركه دون السمع
: كوجوب العبادات من جهة ما فيها من اللطف المانع من الفحشاء.
واختلفوا فى وجوب
الفعل ، الّذي يلزم منه ترك القبيح ، من حيث هو ترك للقبيح .
فقال بعضهم : إن
اتحد الترك كان واجبا ، وإن تعدد لا يكون الواحد من التروك واجبا ، وإلا كان
المباح الّذي يلزم منه ترك الحرام واجبا.
وقال الكعبى : ما
كان تركا للحرام ؛ فهو واجب. من حيث هو ترك [الحرام] وإن كان مباحا.
واختلفوا أيضا فى
عدم فعل القبيح ، هل هو واجب ، أم لا؟
__________________
واتفقوا على أنه
يجب على العاقل دفع الضرر عن نفسه عقلا ، وعن غيره شرعا.
وأما القبيح :
فمنقسم أيضا : إلى
ما يلحق الذم بفعله : ويسمى حراما. ثم منه ما هو حرام لعينه : كالكذب ، والظلم.
ومنه ما هو حرام لغيره : كالفعل الّذي يلزم منه ترك واجب.
ثم اختلفوا : فيما
لم يقض العقل فيه بحسن ، ولا قبح.
فمنهم من قال :
إنه قبل ورود الشرع على الحظر.
ومنهم / من قال :
هو على الإباحة.
ومنهم من قال : هو
على الوقف.
وقد احتجّ الأصحاب
بالنقل ، والعقل :
أما
النقل : فقوله ـ تعالى ـ :
(وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ووجه الاحتجاج به : أنه أمن من العذاب قبل بعثة الرسل ؛
فدل على أنه لا وجوب ، ولا حرمة قبل بعثة الرسل ، من حيث أن الواجب : ما لا يؤمن
من العذاب على تركه. والحرام : ما لا يؤمن العذاب على فعله. وأن العقل غير موجب ،
ولا محرم. وإلا لقال : وما كنا معذبين حتى نرزقهم عقولا .
فإن
قيل : ليس فى الآية ما
يدل على ثبوت الأحكام بالشرع.
أما قبل ورود
الشرع : فلعدم وروده.
وأما بعد ورود الشرع : فمسكوت عنه فى الآية ، والمسكوت عنه ، لا تكون الآية
دليلا على ثبوت حكم فيه ، أو نفيه عنه إلا بطريق المفهوم ، ولا نسلم كونه حجة.
__________________
سلمنا دلالة الآية
على لزوم العذاب بعد بعثة الرسل ، ونفيه قبل البعثة ؛ ولكن ليس فيها ما يدل على
لزوم العذاب بالبعثة ، وإن كان لازما عندها. وهذا كما يقال : لا أكرمك حتى يجيء
رأس الشهر ؛ فإنه لا يدل على أن الموجب للإكرام مجىء رأس الشهر ، وإن كان الإكرام
متحققا عنده.
سلمنا لزوم العذاب
بالبعثة ؛ ولكن لا نسلم أن لزوم العذاب من لوازم الوجوب ، والحظر.
ولهذا : فإنه قد
لا يعذب من ترك الواجب ، وفعل المحرم بناء على عفو ، أو شفاعة.
وإذا لم يكن لازما
: لم يلزم من وجوده ولا نفيه وجود الحكم ، ولا نفيه.
سلمنا ملازمة
العذاب للوجوب ، والحظر ؛ ولكن بعد ورود الشرع ، أو قبله. الأول : مسلم. والثانى :
ممنوع.
وعلى هذا فلا يلزم
من انتفاء العذاب قبل ورود الشرع ، انتفاء الوجوب والحظر قبله.
سلمنا أنه من
لوازم الوجوب والحظر ؛ ولكن الوجوب والحظر المستفادان من الشرع ، أو العقل. الأول
؛ مسلم. والثانى ؛ ممنوع.
وعلى هذا فلا يلزم
من انتفاء الوجوب والحظر (المستندين) إلى الشرع قبل ورود الشرع انتفاء الحظر ، والوجوب مطلقا.
سلمنا أنه من لوازم
الوجوب ، والحظر مطلقا ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من إسناد لازم الحكم ، إلى الشرع ،
إسناد الملزوم إلى الشرع.
سلمنا أنه يلزم من
ذلك إسناد الوجوب ، والحظر إلى الشرع ، وأنه لا تحقق له قبل [ورود] الشرع ؛ ولكن ليس فيه دلالة على امتناع ما عدا الوجوب
والحظر قبل الشرع. وذلك كالمندوب ، والمباح ، والصحة / والبطلان ، وغير ذلك من
الأحكام.
__________________
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على حصر مدارك الأحكام فى الشرع ؛ ولكنه معارض بما يدل على امتناعه ؛ وذلك
أنا لو حصرنا مدارك الأحكام فى الشرع ؛ لأفضى إلى إفحام الرسل ، كما أسلفناه فى
وجوب النظر .
والجواب عن السؤال
الأول : أن المقصود من الآية إنما هو انتفاء الأحكام قبل ورود الشرع لا بعده ؛
لوقوع الاتفاق عليه ، ووقوع الخلاف قبله ، وبه جواب السؤال الثانى أيضا.
وعن الثالث : أن
وقوع العذاب بالفعل ، وإن لم يكن لازما للوجوب والحظر ملازمة عدم الأمن من العذاب
ـ كما تقدم ـ واللازم قبل ورود الشرع منتف ـ على ما نطقت به الآية ـ ؛ فلا ملزوم.
وعلى هذا فقد خرج
الجواب عن الرابع ، والخامس.
والجواب عن السادس
: أنه إذا سلم لزوم عدم الأمن من العذاب للوجوب والحظر ، وسلم انتفاء اللازم قبل
ورود الشرع ؛ فيلزمه انتفاء الملزوم ؛ وهو المطلوب.
وعن السابع : أنه
ليس المقصود من دلالة الآية غير انتفاء الوجوب والحظر ، وما عداه فإنما يثبته
بدليل آخر.
وعن الثامن : ما
سبق فى وجوب النظر .
ومما تمسك به من جهة النقل أيضا : قوله ـ تعالى ـ : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
ووجه الاحتجاج به
أنه نفى احتجاجهم على المؤاخذة بترك الواجبات ، وارتكاب المحرمات ، بعد بعثة
الرسل. وأثبت بمفهومه الحجة قبل البعثة ؛ وذلك يدل على نفى
__________________
الموجب ، والمحرم
قبل البعثة ، وعلى إثباته بعد البعثة . غير أن دلالته دون دلالة الأول ، لكونه مفهوما ، ودلالة
الأول منطوق بها ، ولا يخفى وجه الكلام عليه نفيا ، وإثباتا.
وأما المسلك
العقلى :
فما بيناه فى وجوب
النظر من امتناع الإيجاب والتحريم ، بالعقل ، وقد استقصيناه تقريرا ، واعتراضا ،
وانفصالا ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا ؛ غير أنه مختص بنفى الوجوب ، والتحريم.
وأما
دليل إبطال
الإباحة
: فهو أن المباح :
إما أن يراد به ما لا حرج فى فعله ، ولا تركه ، وإما أن يراد به ما خير فيه بين
الفعل ، والترك ، أو معنى آخر.
فإن كان الأول :
فلا ننكر كون الأفعال قبل ورود الشرع مباحة بهذا التفسير. غير أن النزاع واقع فى
التسمية ، ولهذا فإن أفعال البارى ـ تعالى ـ لا حرج عليه فى فعلها ، ولا تركها ،
وكذلك / أفعال البهائم ، والصبيان ، ولا توصف بكونها مباحة لفظا.
وإن كان الثانى :
فالمخيّر بالإجماع لا يخرج عن الشرع والعقل ، ولا شرع قبل ورود الشرع. والعقل :
فإنما يخير عندهم فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح ، وإلا فلو كان الفعل حسنا ؛
لكان واجبا ، أو مندوبا عندهم. ولو كان قبيحا ؛ لكان حراما ، أو مكروها ؛ كما سبق
من تفصيل مذهبهم.
وعلى هذا : فتخيير
العقل ، فرع تحسين العقل وتقبيحه ؛ وقد أبطلناه .
ثم يلزم عليه شبهة
القائلين بالحظر ، وهو أن العالم ، وما فيه ملك لله ـ تعالى ـ وأن التصرف فى ملك
الغير بغير إذنه قبيح. والقبيح لا يكون مخيرا فيه ، ولا يلزم من عدم
__________________
ورود النهى من
الشرع انتفاء القبح. وإلا للزم من انتفاء التخيير من الشرع ، انتفاء التساوى ؛ وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر.
وإن كان الثالث :
فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.
فإن
قيل : المباح : هو
المأذون فى فعله ، وقد ورد دليل الإذن ، وإن لم ترد صورة الإذن.
وبيانه : هو أن
الله خلق الطعوم فى المأكولات ، والذوق فينا ، وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة
لنا غير مضرة ، مع تمكينه لنا منها بخلق قدرنا عليها. [وهو دليل] الإذن منه لنا فى الأكل ؛ وذلك كما لو قدم المالك الطعام بين يدى إنسان ، وعرفه أنه نافع له غير مضر ، ومكنه
منه ؛ فإنه يكون إذنا منه له فى الأكل عرفا.
قلنا : فإذا كان مأذونا فيه من جهة الشرع ؛ فإباحته من جهة
الشرع لا من جهة العقل ؛ وهو المطلوب.
وإن كان ممتنعا :
ففيه تسليم المطلوب.
وأما القائلون
بالوقف : فإن أرادوا به : أنه الحكم على الأفعال بالوجوب ، والحظر ، والإباحة ؛
موقوف على ورود الشرع ؛ فهو المطلوب.
وإن أرادوا به
التوقف فى الحكم للتردد بين دليل الوجوب ، والحظر والإباحة ؛ فخطأ ؛ لاستحالة دليل
هذه الأحكام قبل ورود الشرع كما تقدم.
__________________
«المسألة الثالثة»
فى أنه لا يجب رعاية الغرض ، والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ
وأنه لا يجب عليه شيء أصلا
مذهب
أهل الحق : أن رعاية الحكمة ، والغرض فى أفعال الله ـ تعالى ـ غير واجب ، وأنه لا يجب عليه فعل
شيء ، ولا تركه.
ووافقهم على ذلك
طوائف الإلهين ، وجهابذة الحكماء المتقدمين .
وأجمعت المعتزلة : / على أن البارى ـ تعالى ـ لا يخلو فعله عن غرض ومقصود وصلاح للخلق ؛ إذ هو يتعالى ، ويتقدس عن الأغراض ،
وعن الضرر ، والانتفاع ، وهو واجب فى فعله ؛ نفيا للعبث عنه فى إبداعه ، وصنعه.
ثم اتفقوا بناء
على وجوب رعاية الصلاح فى فعله ، على أن وجوب الثواب على الطاعات والآلام الغير
مستحقة كما فى أفعال البهائم ، والصبيان. ووجوب العقاب ، وإحباط العمل الصالح على
المعاصى ، وإحباط الصغائر ، عند اجتناب الكبائر ، ووجوب قبول التوبة ، والإرشاد
بعد الخلق ، وإكمال العقل إلى وجوه المصالح بالإقدار عليها ، وإقامة الحجج الدالة
عليها.
__________________
ثم التزموا على فاسد
أصولهم : أن ما ينال العبد فى الحال ، أو المآل من الآلام ، والأوجاع ، والضر ، والشر ؛ فهو الصالح له ، ولم يتحاشوا جحد الضرورة ،
ومكابرة العقل فى أن خلود أهل النار ، فى النار ؛ هو الصالح لهم ، والأنفع
لنفوسهم.
وما فارق به
البغداديون البصريين القول بوجوب ابتداء خلق الخلق ، وتهيئة أسباب التكليف من إكمال العقل ، واستعداد آلات التكليف. والبصريون لا
يرون ذلك واجبا ؛ بل ابتداؤه تفضل من الله ـ تعالى ـ.
وأما
الأصلح : فهم فيه مختلفون.
فمنهم من أوجبه :
ومنهم من نفاه ؛ بناء على أنه ما من صالح ، إلا وفوقه ما هو أصلح منه ، إلى غير
النهاية. ومنهم من قال بوجوب رعاية الأصلح : فى الدين دون الدنيا.
وعند ذلك : فلا بد
من تحقيق مسالك أهل الحق. ثم التنبيه على شبه أهل الضلال فى معرض الاعتراض ،
والانفصال.
وقد احتج الأصحاب
: على امتناع وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ بمسالك.
المسلك الأول :
أنه لو كان فعل
الله ـ تعالى ـ لا يخلو عن حكمة وغرض ؛ فذلك الغرض إما قديم ، أو حادث.
فإن كان قديما :
فإما أن يلزم قدم الفعل لقدم غرضه ، أو لا يلزم.
فإن لزم فهو محال.
على ما سنبينه من حدوث أفعاله.
وإن لم يلزم قدم
الفعل لقدم غرضه ؛ فالغرض غير حاصل من ذلك الفعل ؛ لحصوله دونه. وما لا يكون الغرض
حاصلا من فعله ، فلا يكون فى فعله غرض ؛ وهو المطلوب.
__________________
وإن كان الغرض
حادثا بحدوث الفعل : فإما أن يفتقر إلى فاعل ، أو لا يفتقر إلى فاعل.
فإن لم / يفتقر
إلى فاعل : لزم حدوث حادث من غير فاعل ؛ وهو محال لما فيه من سد باب إثبات واجب
الوجود.
وإن افتقر إلى
فاعل : فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله ـ تعالى ـ ، أو غيره.
لا جائز أن يكون
غيره : لما سنبينه من أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ
وإن كان هو الله ـ
تعالى ـ فإما أن يكون له أيضا فى فعله غرض ، أو لا غرض له فى فعله .
فإن كان الأول :
فالكلام فيه ، كالكلام فى الأول ؛ ولزم التسلسل.
وإن كان الثانى :
فقد خلا فعله عن الغرض ؛ وهو المطلوب.
فإن
قيل : فعله لذلك الغرض
، لغرض هو نفسه ، فما خلا عن غرض من غير تسلسل.
قلنا : فيلزم مثله فى كل مفعول مخلوق ؛ وهو أن يقال : الغرض منه
هو نفسه ، من غير حاجة إلى غرض آخر غيره ؛ وهو المطلوب.
المسلك الثانى :
أنه لو كان فعله
لغرض ؛ فذلك الغرض : إما أن يرجع إلى البارى ـ تعالى ـ أو إلى المخلوق.
لا جائز أن يقال
بالأول : إذ البارى ـ تعالى ـ يتقدس عن الأغراض ، والضرر ، والانتفاع.
وإن عاد إلى
المخلوق : فقد قيل فى إبطاله لا يخلو : إما أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إلى
الله ـ تعالى ـ أولى من عدم الحصول ، أو العدم أولى ، أو أن الحصول ، وعدم الحصول
متساويان بالنسبة إليه.
__________________
فإن كان الأول :
فهو ناقص بذاته مستكمل بغيره ؛ وهو محال.
وبه يمتنع القسم
الثانى. كيف : ويلزم منه عدم الحصول ، لا الحصول.
وإن كان الثالث :
فليس القول بالحصول أولى ، من عدمه.
وهو فاسد. فإنه
وإن كان حصول الغرض ، وعدم حصوله بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ سواء ؛ فلا يمتنع
الفعل ، لعود الغرض إلى المخلوق. وإن أورد التقسيم أيضا على عود الغرض إلى
المخلوق. وقيل إما أن يكون حصوله وعدم حصوله بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ سواء ، أو
أن أحدهما أولى ، فالجواب الجواب.
وإنما الطريق فى
إبطال عودة الغرض إلى المخلوق من وجهين :
الأول
: هو أنا لو فرضنا
ثلاثة أشخاص : مات أحدهم مسلما قبل البلوغ ، وبلغ الآخران ، ومات أحدهما مسلما ،
والآخر كافرا. فمن مقتضى أصول الخصوم على ما استدعاه التعديل أن تكون رتبة المسلم البالغ فوق رتبة الصبى المسلم ؛ لكونه أطاع بالغا ، وتخليد الكافر فى
الجحيم لكفره.
فلو قال الصبى :
يا رب العالمين. لم حرمتنى هذه الرتبة العلية التى أعطيتها للمسلم البالغ ، ولم
تمنعه إياها. فلو قدر الجواب : لأنه أطاع بالغا. وقال الصبى : / فلم لا أحييتني إلى أن أبلغ ، وأطيع ؛ فتحصل لى
هذه الرتبة. فلو قدر الجواب : لأنى علمت أنك لو بلغت لعصيتنى ؛ فكان اخترامك هو
الأنفع لك ، وانحطاطك إلى هذه الرتبة أصلح لنفسك ؛ فللبالغ الكافر أن يقول : فلم
لا أمتنى قبل البلوغ لعلمك بكفرى بتقدير البلوغ ، فلا يبقى لموجب الغرض جواب.
وهذا قاطع فى نفى
لزوم الغرض ، لا غبار عليه.
الوجه
الثانى : أنا نعلم علما
ضروريا أن خلود أهل النار فى النار ، من فعل الله ـ تعالى ـ ونعلم أنه لا فائدة
لهم ، ولا غرض فى خلودهم فى النار ، ولا لغيرهم فيه ؛ بل
__________________
والعاقل إذا فتش
علم أيضا ، أنه لا فائدة للجمادات والعناصر ، والمعدنيات ، وغيرها من أنواع النبات
فى وجودها ؛ إذ لا تجد بذلك لذة ، ولا ألما. ولا فرق بين كونها ، ولا كونها . ولا غرض فى إماتة الأنبياء ، وإنظار إبليس ، وتكليف نوع
الإنسان مع ما فيه من الآلام والمشاق ولزوم الحرج ؛ بل وكل عاقل أيضا راجع نفسه ،
وأمعن فى النظر بين الوجود ، ولا وجود ؛ فإنه يود أنه لم يوجد ؛ لما يعترضه من
الآفات الدنيوية ، والأخروية.
ولهذا نقل عن
المقتدى بهم من الأولين التكره لذلك ، والتبرم به حتى قال : يا ليتنى كنت نسيا
منسيا ، وقال آخر : يا ليت أمى لم تلدنى ، وقال آخر : يا ليتنى لم أك شيئا. إلى
غير ذلك من الأقوال الدالة على كراهة الوجود. وما فيه الغرض ، والصلاح للعبد ؛ لا
يكون مكروها له.
فإن
قيل : لو لم يكن فعل
البارى ـ تعالى ـ لغرض ومقصود ، مع أن الدليل قد دل على كونه حكيما فى فعله ،
عالما بصنعه ؛ لكان عابثا ، والعبث قبيح ، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق.
والخير المحض إذا كان عالما بقبحه ، وعالما باستغنائه عنه ؛ فإذن لا بد له فى فعله من غرض يقصده ، وحكمة يطلبها من
فعله ؛ نفيا للتقصير ، والعبث عنه.
ولا ننكر امتناع
عود الغرض من فعله إليه ؛ ولكن ما المانع من عوده إلى المخلوق؟
وما ذكرتموه فغاية
ما فيه عدم العلم بوجود الغرض فيما فرضتموه من الصور ، وليس فيه ما يدل على عدم
الغرض فى نفسه ؛ فإنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء. العلم بعدم الشيء ، ولا عدمه
فى نفسه.
كيف : وأنه ممكن
أن يكون خلود أهل النار فى النار ، هو الأنفع لهم ؛ لعلم البارى ـ تعالى ـ بهم.
أنهم (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) كما أخبر به الكتاب العزيز ، ويلزم من ذلك زيادة العقاب فى
حقهم / مضافا إلى ما كان مستحقا عليهم.
ولا يخفى أن
التزام شر قليل ، دفعا للشر الكثير ، أولى من التزام الشر الكثير.
__________________
وأمكن أن تكون الغاية ما فى ذلك نفى الخلف عن خبر البارى ـ تعالى عنهم بالخلود ، أو الجهل عنه. حيث تعلق علمه بذلك.
وأما الفائدة فى
خلق الجمادات ، وغيرها [فالعناية] بنوع الإنسان ؛ لأجل انتظام أحواله فى مهماته وأفعاله ،
والاستدلال بما فى طيها من الآيات ، والدلائل الباهرات على وجود واجب الوجود ،
ووحدانية المعبود ؛ ليعبد ويعظم ؛ فيستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ،
وبالإعراض عنها وعن النظر فيها العذاب الأليم ، وإليه الإشارة بقوله عليهالسلام حكاية عن الله ـ تعالى ـ : «كنت كنزا لم أعرف فخلقت خلقا
لأعرف به» . وقال ـ تعالى ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ) . وقد قال عليهالسلام لعائشة رضى الله عنها عند نزول هذه الآية ـ : «قد نزل عليّ
اللّيلة آية ويل لمن لاكها بين لحييه ولا يتفكّر فيها» ثم قرأ هذه الآية وقال ـ تعالى ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) . وقال إخبارا عن المؤمنين فى معرض الثناء والمدح لهم : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) . وقال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن خلق مثل هذه الأشياء
إنما هو لغرض الاستدلال بها عليه ؛ ليعبد ، ويعظم ؛ تحصيلا للثواب الجزيل ؛ كما
سبق.
__________________
وأما إماتة
الأنبياء : فلعله النافع لعلم الله ـ تعالى ـ أنهم لو عاشوا لتضرروا فى أبدانهم ، أو أديانهم ؛ فكان
اخترامهم هو الأنفع لهم ، ويحتمل أن يكون البارى ـ تعالى ـ قد علم أنهم لو عاشوا ؛
لأفضى ذلك إلى فساد بعض الأمة ؛ فكان اخترامهم لذلك ، أولى.
وأما فائدة إنظار
إبليس : فيحتمل أن يكون لما فيه من زيادة امتحان المكلفين ؛ لينالوا بسبب مقاومته
الثواب الجزيل.
وأما تكليف نوع
الإنسان مع ما يلزمه من المشاق ، والآلام فى الدنيا : فلغرض تحصيل الثواب الجزيل
فى الآخرة.
وما نقل عن بعض
المتقدمين من الكراهية للوجود ، فغايته أنه لم يظهر له الغرض من وجوده ، وما هو
النافع له ، وليس فى ذلك ما يدل على عدم الغرض فى / وجوده ؛ بل لعل وجوده الأنفع
له. وقد استأثر الله ـ تعالى ـ بعلمه بذلك دونه.
والجواب :
أنا لا ننكر كون
الله ـ تعالى ـ حكيما فى فعله ؛ ولكن ذلك يتحقق فيما يتقنه فى صنعه ؛ وتحققه على وفق علمه به ، وإرادته ، ولا يتوقف ذلك على
أن يكون له فى فعله غرض وغاية ، والعبث إنما يلزم فى فعله بانتفاء الغرض فيه. أن
لو كان فعله مما يطلب فيه الغرض ؛ وهو محل النزاع ، وتقبيح صدور ما لا غرض فيه من
البارى ـ تعالى ـ فمبنى على فاسد أصولهم بالتحسين ، والتقبيح الذاتى ، وقياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه
فيما تقدم .
وقولهم : غاية ما
ذكرتموه عدم العلم بوجود الحكمة والغرض ـ وليس فى ذلك ما يدل على نفى الغرض فى نفسه
ـ ليس كذلك.
__________________
قيل : بل العلم
بانتفاء الغرض فيما ذكرناه من الصورة الأولى والثانية ضرورى ، وإن انقدح الاحتمال
فيما وراء ذلك من صور الاستشهاد مع بعده.
وقولهم : يحتمل أن
يكون خلود أهل النار فى النار ، أنفع لهم من النعيم المقيم ؛ خروج عن المعقول ،
ومكابرة لضرورة العقل.
قولهم : ذلك أنفع لهم لعلمه ـ تعالى ـ أنهم (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) . فإنما يلزم أن لو أعادهم مكلفين ، وهو قادر على إخراجهم
من غير تكليف ، وإن كلفهم ؛ فهو قادر على منعهم من المعاصى بإماتتهم قبل فعلها ،
وعدم إقدارهم عليها ، أو إقدارهم على التوبة بعد الفعل ، والعفو ، والصفح بعد
الفعل ؛ بل وهو الأليق بحكمته ، والأقرب إلى رأفته ورحمته من أن يعذبهم ، وينتقم
منهم ، مع أنه لا ينتفع بعذابهم ، ولا يتضرر بالعفو عنهم ؛ بل العفو ، والعقوبة
بالنسبة إلى جلاله سيان ؛ فكان إخراجهم هو الأصلح ، والأنفع لهم .
كيف وقد وجدنا فى
الشاهد : المدحة للعافى ، دون المنتقم ؛ بل والعقلاء بأسرهم يقبحون مقابلة معصية
واحدة ، بالخلود فى العذاب الأبدى السرمدى ؛ فما باله استأثر العقوبة على العفو مع
ذلك ، وليس مستندهم فيما قضوا به غير التحسين ، والتقبيح ، وقياس الغائب على
الشاهد ؛ والتخليد فى العذاب على خلاف هذه القواعد.
قولهم : الغرض من ذلك إنما هو نفى الخلف فى خبر الله ـ تعالى ـ والجهل
عنه.
قلنا : فالغرض إذن
غير عائد إليهم ؛ إذ لا نفع لهم فى ذلك ؛ وهو خلاف الغرض.
كيف : وأن النزاع
/ إنما هو فى اعتبار الأغراض العائدة إلى المنافع ، والمضار ، والمصلحة ، والمفسدة
الدنيوية ، والأخروية ؛ وليس النزاع فى وجوب وقوع الفعل من الله تعالى ـ ضرورة
استحالة الخلف فى خبره ، واستحالة وقوع خلاف معلومه ؛ فإن ذلك متفق عليه.
__________________
ومن أطلق الغرض فى
أفعال الله ـ تعالى ـ (على) مثل هذه الأمور ؛ فلا نزاع معه فى غير اللفظ.
وما ذكروه من
الغرض فى خلق السموات ، والأرض ، وما بينهما ؛ فجوابه من أربعة أوجه.
الأول
: أنه لو كان ما
ذكروه غرضا ؛ لوجب حصوله من كل وجه ، وإلا كان البارى ـ تعالى ـ عاجزا عن تحصيل
غرضه من الوجه الّذي لم يحصل ، وليس كذلك ؛ فإنه كم من هالك بما خلق لأجل صلاحه ، وانتظام أحواله ، واستدلاله
على ما ينفعه : كالغرقى ، والحرقى ، والهلكى بالأسباب السماوية ، والأرضية ، وليس من الصلاح
خلق شيء لمنفعة شخص ، يكون هلاكه فيه ، مع علم الخالق به.
ولو قال الخالق :
إنما قصدت صلاحه بم علمت أن هلاكه فيه ، كان قوله مردودا مستنكرا ؛ بل وكم من تارك
النظر ، والاستدلال بموجودات الأعيان ؛ ولهذا لو نسبنا الناظر المؤمن إلى غيره لم نجده إلا قليلا من كثير.
الثانى
: أن الفائدة فى
معرفة وجود الله ـ تعالى ـ وما يجب له من الصفات ، وما يجوز وما لا يجوز ؛ لا يمكن
عودها إلى الله ـ تعالى ؛ إذ هو يتعالى ، ويتقدس عن الأغراض كما سبق. فلا
بد وأن تكون عائدة إلى العبد ، وتلك الفائدة عند البحث عنها (لا تخرج) عن الالتذاذ بالمعرفة والثواب عليها ؛ وذلك كله مقدور أن
يجعله الله ـ تعالى ـ للعبد من غير واسطة. بأن يخلق له العلم الضرورى به ، وبصفاته
، وأن ينله الثواب الجزيل ، بدون النظر ، والطاعة ؛ فلا حاجة إلى هذا التكليف
والمشقة ، مع إمكان حصول الغرض دونه ؛ بل ربما كان التكليف ، مع إمكان حصول الغرض
دونه عبثا ، والعبث فى حق الله ممتنع.
وبه يخرج الجواب
عما ذكروه فى القول بالتكاليف ، وإيجاب العبادات.
__________________
فإن
قيل : الثواب جزاء على
النظر ، والمشاق اللازمة بالتزام الطاعات وفعل المأمورات ، واجتناب المنهيات ؛ ألذ من ابتدائه ، وأنفى
للمنة ؛ فهو خروج عن الدين ، وتكبر عن الدخول فى منن الله ـ تعالى ـ وإسباغ نعمه.
وكيف السبيل إلى ذلك ، وأين المفر عنه مع القول : بإيجاده مبرأ عن الآفات ، ممكنا
من تحصيل اللذات ، وإقداره على ما يصدر عنه من الطاعات ، وتكميل عقله للفهم
والإدراك إلى غير ذلك من النعم التى لا تعد ولا تحصى ، وذلك / منه بدا من غير
سابقة طاعة ، أو فعل عبادة.
الثالث
: هو أن الخصم معترف
بأن ما يفعله العبد من الطاعات ، واجب عليه وملجأ إليه ؛ شكرا لله ـ تعالى ـ على
ما أولاه من مننه ، وأسبغ عليه من جزيل نعمه. فكيف يستحق الثواب على ما أداه من
الواجبات؟ والجزاء على ما حتم عليه من العبادات. وكيف السبيل إلى الجمع بين القول
بوجوب الطاعة على العبد شكرا ، والثواب على البارى ـ تعالى ـ جزاء. وذلك من جهة
أنّ الشّكر لا يجب ، إلا بعد سابقة النعم المتطوّل بها ابتداء ، لا بطريق الوجوب. والجزاء الواجب ،
لا يكون ؛ إلا بعد سابقة خدمة ، وطاعة متبرع بها ، لا على ما وقع بطريق الوجوب فى مقابلة النعم السابقة. وقوله ـ تعالى
ـ : (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) وقوله ـ تعالى ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) فليس المراد به التعليل ؛ وإنما المراد به تعريف الحال فى
المآل كما فى قوله ـ تعالى ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) . وقوله ـ تعالى ـ (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) .
ونحن لا ننكر وقوع
مثل ذلك ، وإنما ننكر كونه مقصودا بالتكليف حتى يقال إنه كلف بكذا ، أو لعله كذا ،
وبهذا يخرج الجواب عما ذكروه من النصوص الدالة على أن المقصود من خلق السموات ،
والأرض وما بينهما ، إنما هو النظر ، والاعتبار.
__________________
الرابع
: هو أن ما ذكروه
يرجع حاصله إلى أن حكمة خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإظهار الدلائل ، والآيات
، وإيجاب الطاعات ، وتصريف الخلائق ، بين المأمورات ، والمنهيات ، إلى لذة يجدها بعض المخلوقين ، فى مقابلة طاعته ، وتعبه فى النظر ،
والاستدلال ، يزيد على اللذة التى يجدها من ابتداء التفضل ، والإنعام من الله ـ تعالى
ـ الّذي لا سبيل إلى الخروج عن مننه مع أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يخلق له
أضعاف تلك اللذة فى التفضل الابتدائى ، من غير تعب ، ولا نصب ؛ وذلك مما لا يتفوه به عاقل ، ولا يستحسنه أحد.
قولهم : إن إماتة الأنبياء أنفع لهم ، أو لغيرهم كما ذكروه ؛
فحاصله يرجع إلى امتناع وقوع خلاف المعلوم وقد سبق جوابه ، وإلا فلو قطع النظر عن
تعلق العلم بوجود الإضرار الملازم لبقائهم ، لقد كان قادرا / على دفعه عنهم وعن
غيرهم دون إماتتهم ، وتفويت المنفعة الحاصلة بهدايتهم ، وإرشاد الخلق ، إلى نجاتهم.
وما ذكروه من
الغرض فى إنظار إبليس من زيادة الامتحان به ؛ لنيل الثواب الجزيل عليه ؛ لا يصح
لوجهين .
الأول
: أنه لو كان الغرض
منه ذلك ؛ لكان حاصلا من كل وجه حتى لا يكون الرب تعالى ـ عاجزا عن تحصيل غرضه
بإنظاره لإبليس
ونحن إذا أنصفنا ،
وجدنا متبعيه أكثر من مخالفيه ؛ فكان الإضرار بإنظاره أكثر من النفع الحاصل له ، وذلك قبيح على أصلهم ؛ فلا يصلح أن يكون غرضا.
الثانى
: أنّ المقصود منه
إذا كان هو زيادة الثواب الحاصل من الامتحان به فالرب ـ تعالى ـ قادر على تحصيل
ذلك للعباد ، دون هذه الواسطة التى الغالب منها ، الإضرار ؛ لا النفع ، وتمام
تقريره ما سبق فى التكاليف.
__________________
وإذا ثبت امتناع
رعاية الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ـ ؛ فقد بطل القول ، بوجوب رعاية الصلاح ،
والأصلح.
ويدل على امتناع
ذلك أيضا : أنه لو وجب على الله ـ تعالى ـ رعاية الصلاح ، أو الأصلح ؛ للزم أن تكون القربات ، من النوافل بالنسبة إلى أفعالنا
واجبة ؛ لما فيها من صلاحنا ؛ إذ الرب ـ تعالى ـ قد أمر بها ، وندب إليها ، وهو
فلا يأمر ، ويندب إلا بما هو صالح ، أو أصلح ؛ فإذا كان فعل الصالح ، أو الأصلح
عليه واجبا ؛ كان واجبا بالنسبة إلينا ؛ ضرورة عدم الفرق بين الغائب ، والشاهد.
كيف وأن أصل الخصم
فى ذلك : إنما هو قياس الغائب ، على الشاهد ؛ فيمتنع القول بالواجب فى الفرع ، مع
امتناعه فى الأصل.
فإن
قيل : لا يلزم من وجوب
رعاية الصلاح ، والأصلح على الله ـ تعالى ـ وجوب النوافل بالنسبة إلينا ؛ لكونها
صالحة ؛ فإن وجوب رعاية ذلك فى حقنا مما يوجب الكد ، والجهد ، وهو إضرار فى حقنا
بخلاف البارى ـ تعالى ـ فإنه قادر على نفع الغير ، وصلاحه ، من غير أن يلحقه ضرر ،
وجهد ، ولا كدر وتعب ؛ فافترقا. وليس القول بوجوب رعاية الصلاح ، أو الأصلح على
الله ـ تعالى ـ مستندا إلى قياس الغائب على الشاهد ؛ ليلزم ما ذكرتموه ؛ بل هو
مستند إلى ما ذكرناه من امتناع صدور العبث عن الحكيم فى فعله ، وصنعه.
قلنا : أما ما ذكروه من الفرق ؛ فهو يرجع على قاعدتهم ، فى وجوب
الطاعة والشكر على العبيد / فى مقابلة نعم الله ـ تعالى ـ عليهم بالإبطال ، وإن
نظر إلى ما يستحقه من الثواب فى مقابلته ؛ فهو باطل ؛ بما أسلفناه. ومع بطلانه ؛
فيلزم القول بمثله فى محل النزاع.
وما قيل : من أن
مستند الوجوب فى حق الله ـ تعالى ـ إنما هو نفى العبث ، والقبح عن الله ـ تعالى ـ ؛
فقد سبق جوابه.
وأما
ما يخص إبطال القول بوجوب رعاية الأصلح ؛ فمسلكان :
__________________
الأول
: هو مقدورات الله ـ
تعالى ـ فى الأصلح غير متناهية. فما من أصلح ، إلا وفوقه ما هو أصلح منه ، إلى غير
النهاية ، ووجوب رعاية ما لا يمكن الوقوف فيه على حد ، ونهاية ؛ ممتنع.
فإن
قيل : إنما تمتنع رعاية
الأصلح : أن لو لم يكن ما قيل بوجوب رعايته مقدورا مضبوطا ، وقد أمكن ضبط ذلك ،
وتقديره لما يعلم الله ـ تعالى ـ أن الزيادة عليه مما توجب للعبد العتو ، والطغيان
، ولا محالة أن رعاية ذلك غير ممتنع.
قلنا : عنه جوابان :
الأول : هو أنه :
ما من أمر يقدر طغيان الإنسان عنده ، إلا والرب تعالى قادر على عصمته عنه.
وعند ذلك :
فاعتبار ما هو الأصلح ، من الأصلح الأول ، أولى.
الثانى : هو أن ما
ذكروه ينقض قاعدتهم فى وجوب تكليف العبد ، رعاية لمصلحة العبد ، مع العلم بأنه
سيكفر ، ويفجر ، فإن امتنع رعاية الأصلح نفيا للطغيان ؛ فليمتنع التكليف ، رعاية
لدفع الفجور ، والكفران.
المسلك الثانى :
أن العالم فيه كفر ، وإيمان ، وخير ، وظلم ، وإحسان ، وعدل ، وجور إلى
غير ذلك من المتقابلات التى أحد المتقابلين فيها حسن ، والآخر قبيح لذاته على
أصلهم ؛ وكل واحد منهما مقدور لله ـ تعالى ـ ، وموجود بإيجاده على ما سنبينه.
وعند ذلك : إما أن
يكون وجود ما قيل بحسنه ، أصلح من وجود ما قيل بقبحه ، أو وجود ما قيل بقبحه أصلح
مما قيل بحسنه ، أو أن كل واحد منهما أصلح من الآخر ، أو لا واحد
منهما أصلح من الآخر.
فإن كان الأول :
فيلزم منه أن لا يوجد القبيح ؛ إذ الأصلح مقابله.
__________________
وإن كان الثانى :
فمحال أن يكون القبيح أصلح من الحسن ، ومع إحالته ؛ فيلزم منه أن لا يوجد الحسن ؛
إذ الأصلح مقابله.
وإن كان الثالث :
فهو محال أيضا ظاهر الإحالة.
وإن كان الرابع :
فهو أيضا محال ؛ لما فيه من القول بأن الحسن ليس أصلح من القبح.
وهذه المحالات
إنما لزمت من القول بوجوب رعاية الأصلح ؛ فيكون ممتنعا.
وإذا / ثبت امتناع
اعتبار الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ـ وامتناع وجوب رعاية الصلاح ، والأصلح ؛ لزم
بطلان ما بنى عليه من وجوب الثواب على الطاعات ، والعقاب على المعاصى ،
والتكليف ، والتّمكين مما كلف به العبد. إلى غير ذلك مما عددناه.
وأما وجه الاحتجاج
على امتناع وجوب شيء على الله ـ تعالى ـ مطلقا بجهة العموم.
فهو أن الواجب قد
يطلق بمعنى الثابت اللازم : ومنه يقال : وجب الحق : أى ثبت ولزم.
وقد يطلق : على ما
يلزم من فرض عدمه المحال.
وقد يطلق : على ما
هو متعلق الأمر اللازم.
وقد يطلق : على ما
يلحق بتركه ضرر من ذم ، أو غيره.
وقد يطلق : بمعنى
السّاقط : ومنه يقال : وجبت الشمس إذا سقطت.
وعند ذلك : فإما
أن يراد بالواجب على الله ـ تعالى ـ أحد هذه المحامل ، أو غيرها.
فإن أريد به أحد
هذه المحامل ؛ فهو ممتنع.
أما
الاعتبار الأول : وهو الثابت اللازم ؛ فلأن الخصوم متفقون على وجوب التمكين مما كلف به العبد
مع أنه غير لازم ؛ لاتفاقهم ، واتفاق الأمة على التكليف
__________________
[بالإيمان] لمن علم الله أنه لا يؤمن : كأبي جهل ، وغيره ؛ وهو غير
ممكن منه ؛ لعلم الله ـ تعالى ـ أن ذلك غير واقع منه ؛ ووقوع خلاف المعلوم ؛ محال. وإلا كان علم البارى ـ تعالى
ـ جهلا ؛ وهو ممتنع. على ما سبق فى الصفات.
وبهذا يبطل الوجوب
بالاعتبار
الثانى أيضا.
وأما الاعتبار
الثالث : فهو أيضا ممتنع ؛ لاستحالة كون الرب ـ تعالى ـ مأمورا ، ومنهيا بالاتفاق.
والرابع
أيضا ممتنع : لأنّ الرب يتعالى
، ويتقدس عن الإضرار ، والانتفاع ، والذم على فعل شيء ، أو تركه .
والخامس ؛ فغير مراد بالاتفاق.
وإن أريد غير هذه
المحامل ؛ فلا بد من تصويره لنتكلم عليه.
فإن
قيل : لا نسلم الحصر فى
الأقسام المذكورة. وذلك أنا نعنى بكون الفعل واجبا : أنه حسن ، وأن تركه قبيح ؛
وهو خارج عما ذكرتموه.
وإن سلمنا الحصر
فيما ذكرتموه من الأقسام ؛ ولكن لا نسلم امتناع تفسيره بما يلزم المحال من فرض
عدمه ، لا لذاته ؛ بل لغيره. فمعنى وجوب رعاية الصلاح فى فعله أنه يلزم من فرض
عدمه العبث فى حق الله ـ تعالى ـ والعبث قبيح ، والبارى ـ تعالى ـ عالم بقبح
القبيح ، وعالم باستغنائه عنه ؛ فيكون فعله عليه ممتنعا ؛ ولو فعله كان جاهلا ، أو مفتقرا إليه ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.
ومعنى / كون الثواب
على إيلام البهائم واجب أنه يلزم من عدمه الظلم فى حق الله ـ تعالى ـ ؛ والظلم على
الله محال. على ما سيأتى تفصيل القول فيه .
__________________
وأما قضية أبى جهل : فلا احتجاج بها ؛ إذ الإيمان منه ممكن ، وهو
ممكن منه ؛ لكونه مقدورا له. وهذا هو القدر الّذي يوجبه من التمكين ؛ وهو واقع .
والجواب :
أما
السؤال الأول : فمبنى على التحسين ، والتقبيح ؛ وقد أبطلناه.
وأما
الثانى : فمندفع.
أما قولهم : أنه
يلزم منه العبث ؛ فقد أجبنا عليه.
وقولهم : يلزم منه الظلم ، فإنما يتصور أن لو كان قابلا لاتصافه
بالظلم ، وليس كذلك ؛ فإن الظلم : إنما يتصور فى حق من تصرفه فى ملك غيره من غير
حق ، أو بمخالفة من المتصرف فيما هو داخل تحت أمره وحكمه ؛ وذلك كله مما لا يمكن
تحقيقه فى حق الله ـ تعالى ـ مع أن ذلك أيضا مبنى على أصولهم فى التحسين ،
والتقبيح ؛ وقد أبطلناه.
ثم يلزم على ما
ذكروه من التكليف بالإيمان لمن علم الله ـ تعالى ـ أنه لا يؤمن.
قولهم : الإيمان ممكن فى نفسه.
قلنا : الإيمان
غير كاف فى التمكين إلا مع الإقدار عليه.
قولهم : أنه مقدور له.
قلنا : لا نسلم أنه قادر عليه قبل الفعل ؛ إذ القدرة عندنا لا
تسبق الفعل ؛ على ما سيأتى تعريفه.
ثم وإن سلمنا كونه
مقدورا ؛ لكنه لا فرق فى عدم التمكين بين ما كان مستحيلا باعتبار ذاته ، وبين ما
كان ممتنعا باعتبار غيره ؛ لاستوائهما فى امتناع الوقوع.
__________________
«المسألة الرابعة»
فى الآلام وأحكامها
مذهب
أهل الحق : أن الآلام مقدورة لله ـ تعالى ـ ، وإذا فعلها فهى حسنة ،
وسواء كانت مبتدأ بها ، أو بطريق المجازاة ، وسواء تعقبها عوض أو لا. وأن العوض
عليه غير واجب على ما سبق ؛ بل إن كان فلا يكون منه إلا بطريق التفضل ، والإنعام ؛
وهو جائز عقلا فى الدنيا ، والأخرى. وأما الواقع فمستند إلى السمع ؛ فما ورد به
كان ، وإلا فلا.
وأما الآلام الصادرة
من المخلوقين بعضهم فى حق بعض : فإن كان من صدر عنه الإيلام مكلفا : فمنه ما هو
جائز ، ومنه ما هو حرام على حسب ورود الشرع بذلك.
وإن كان من صدر
عنه الإيلام غير مكلف ؛ فلا تبعة عليه فى الدنيا والأخرى عقلا ، إلا ما ورد الشرع
به بطريق التأديب ، والزجر ، والمتبع فى التعويض على / ذلك من الله ـ تعالى ـ فى
الدنيا ، أو الأخرى إنما هو السمع.
وأما
المعتزلة فإنهم
قالوا : الإيلام إما أن
يكون من الله ـ تعالى أو من المخلوقين.
فإن كان من الله ـ
تعالى ـ فقالوا : إنما يحسن بأن يكون مستحقا على جريمة سابقة ، أو لجلب نفع ، أو
دفع ضرر ، أو بأن يعوض عنه فى الدار الآخرة بما يزيد على مقدار الألم.
ثم اختلفوا فى
الأعواض الواجبة على الله ـ تعالى ـ :
__________________
فذهب
العلاف ، والجبائى ، وكثير
من متقدمى المعتزلة : إلى دوامها ، كدوام الثواب ، ووجوب تأخيرها إلى الدار الآخرة زائدة على قدر ما
يستحق من العوض معجلا ، وإلى إحباطها بالكفر والفسق ، كإحباط الثواب ، وإلا كان الكافر والفاسق ، مستحقا فى كل وقت فى الآخرة نعيم العوض ،
وعقاب الكفر ، والجميع ممتنع.
وذهب
أبو هاشم : إلى خلافهم فى الكل.
ومما اختلف فيه
المعتزلة أيضا : أنه هل يتصور التفضل من الله تعالى بمثل العوض ابتداء ، أم لا؟
فمن لم يجوز ذلك ، جوّز الآلام لمجرد التعويض : كالجبائى ، وأبى الهذيل ، وقدماء
المعتزلة. ومن جوز ذلك لم يجوز الآلام إلا بشرط التعويض واعتبار الغير بتلك الآلام
، وكونها ألطافا فى زجر غاو عن غوايته.
وذهب
عباد الضيمرى : إلى جواز الآلام لمحض الاعتبار من غير تعويض.
وذهب
أبو هاشم : إلى أن الآلام لا تحسن لمجرد التعويض مع القدرة على
التفضل بمثل العوض. إلا إذا علم الله ـ تعالى ـ أنه لا ينفعه إلا بجهة
التعويض.
واتفقوا على
امتناع الإيلام دون هذه الأمور ؛ لأنه يكون ظلما ، والظلم قبيح لذاته. غير أنهم
اختلفوا فى القبيح : هل هو مقدور لله ـ تعالى ـ أم لا؟
فذهب
النظام ، والجاحظ ، وغيرهما من قدماء المعتزلة : إلى استحالة كونه مقدورا لله ـ تعالى ـ.
وذهب
الجبائى ، وأبو الهذيل ، وكثير من المعتزلة : إلى كونه قادرا عليه ، غير أنه لما كان عالما بقبحه ،
وعالما باستغنائه عنه استحال صدوره عنه ؛ لعدم الداعى إليه ، ولو صدر عنه لدلّ على
جهله بقبحه ، أو على كونه محتاجا إليه ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.
__________________
وأما إن كان
الإيلام من المخلوقين بعضهم فى (حق) بعض : فيجب على الله ـ تعالى ـ إنصاف المظلوم من الظالم.
وعند ذلك : فإما
أن يكون للظالم عوض عند الله ـ تعالى ـ / أو لا عوض له. فإن كان الأول : فيجب أن
يصرف إلى المظلوم ما يستحقه الظالم من الأعواض بقدر إيلامه له.
وإن كان الثانى :
فيجب عليه صرفه عن الإيلام ابتداء بوجه من الوجوه ، أو أن يعوضه من عنده.
ثم اختلفوا فى وقت
وقوع أعواض البهائم :
فمنهم من قال بذلك
فى الدنيا. ومنهم من قال به فى الأخرى فى غير الجنة. ومنهم من قال بوقوعه فى الجنة.
وهل يجب عليه
تكميل عقولها لتعلم أن عوضها دائم غير منقطع؟ فمختلف فيه أيضا بينهم ؛ لكنهم
اتفقوا على أن الأعواض المستحقة على الخلق غير دائمة.
وأما
المجوس : فمعتقدهم أن الآلام قبيحة لذاتها ، ولا تحسن بوجه من
الوجوه ، غير أنها صادرة عن الظلمة ، دون النور.
وأما
التناسخية : فلم يجوزوا صدور الآلام من الله ـ تعالى ـ ابتداء بوجه
من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم ، ويتحقق ذلك فى
البهائم ؛ بأن تكون أرواحهم قبل انتقالها إلى أبدان البهائم فى أبدان أشرف من
أبدان البهائم ، وقد اقترفت الجرائم ؛ فنقلت إلى أبدان البهائم ؛ لتعذب على
جرائمها.
ثم التزموا على
هذا الأصل : أنّ البهائم مكلفة عالمة بما يجرى عليها من الآلام ، وأنها مجازاة على
فعلها ، ولو لا ذلك ، لما تصوّر انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير
انتقالها إلى بدن أشرف من أبدان البهائم.
__________________
ومنهم من زاد على
هذا ، وزعم أنه ما من جنس من أجناس البهائم ، إلا وفيهم نبى مبعوث إليهم من جنسهم.
ومنهم من زاد على
هذا ، وزعم أن جملة الجمادات أحياء مكلفة ، وأنها مجازاة على ما تقترفه من
الخير ، والشر.
ثم اختلفوا فى
التكليف :
فمنهم من قال بأن
الله ـ تعالى ـ كلف الأرواح ابتداء.
ومنهم من قال : لم
يكلفها ، غير أنه خيرها ؛ فاختارت التكليف.
ولهم اختلافات
كثيرة فى أمر التناسخ وأحكامه ، سنأتى على إيضاحها عند التصدى للرد عليهم.
وأما
البكرية : فإنهم لما اعتقدوا قبح الإيلام لذاته ، ولم يروا حسنه بما حسنه المعتزلة ، والتناسخية ، واعتقدوا ورود الأمر
بذبح الحيوان من الله ـ تعالى ـ ؛ زعموا أن البهائم لا تتألم ، وكذلك الأطفال
الذين لا يعقلون. وعند هذا : فلا بد من تحقيق مذهب أهل الحق أولا. والإشارة إلى
إبطال مذاهب الخصوم ثانيا :
أما تحقيق مذهب
أهل الحق :
/ فهو أن الآلام
ممكنة الوجود ، وكل ممكن الوجود ؛ فوجوده لا يكون إلا بإيجاد الله ـ تعالى ـ على
ما سنبينه بعد ، وما يكون فعلا لله ـ تعالى ـ فلا يكون قبيحا فى ذاته ؛ لما سبق فى
إبطال التحسين ، والتقبيح (الذاتيين) .
__________________
وعلى هذا :
فالقبيح عند أهل الحق لا يكون مقدورا لله ـ تعالى ـ لا بمعنى أنه موجود غير مقدور له ؛ بل بمعنى أنه لا وجود له ؛ فيكون مقدورا.
وأما الرد على
المعتزلة :
أما قولهم بتحسين
الآلام عقابا على ما سبق من الجرائم : فقد اعتمدوا فى ذلك على قضاء العقل بحسن
انتصاف من أو لم اعتداء من المعتدى عليه بالإيلام ، وحسن ضرب العبد تأديبا على
إساءته ؛ زجرا له ، وردعا عن مثلها.
ونحن لا ننكر
استحسان مثل ذلك فى حقنا ؛ للتشفى ؛ والانتقام ، ودفع ألم [الغيظ] عن نفس المجنى عليه. ولا يلزم مثله فى حق الله ـ تعالى ـ لاستحالة
ذلك عليه.
وعند ذلك ؛ فلا
يلزم أن يكون إيلامه للجانى حسنا مع استغنائه عنه.
فإن
قيل : الرب ـ تعالى ـ وإن
كان غنيا عن ذلك إلا أنه يجب القول بتحسين الإيلام عقوبة على الجناية لوجهين :
الأول : ما استقر
فى العقول من ذمّ الجانى على جنايته ، وإن قدر استغناء المجنى عليه عنه.
الثانى : أنه لو
لم يحسن ذلك ؛ لكان ذلك إغراء للجانى بالجنايات ، وارتكاب المحرمات.
قلنا : أما الوجه الأول : فدعوى محل النزاع.
وأما الثانى :
فمنتقض عليهم بوجوب قبول التوبة.
وأما قولهم بتحسين
الإيلام لغرض التعويض . فإنما يصح أن لو لم يكن الرب ـ تعالى ـ قادرا على التفضل
ابتداء بمثل ذلك العوض من غير سابقة إيلام ، وأما إذا كان قادرا عليه ؛ فلا.
__________________
ولهذا فإن من كان
قادرا على الإحسان إلى ضعيف دون سابقة إيلامه ، لا يحسن منه الإيلام لأجل الإحسان
، والله ـ تعالى ـ قادر على التفضل بمثل ذلك العوض من غير إيلام ؛ فلا يحسن منه
الإيلام.
فإن
قيل : لا نسلم أن الله
ـ تعالى ـ قادر على التفضل بمثل العوض ؛ وذلك لأن العوض مستحق غير مشوب بالمنة ،
والتفضل بضده.
قلنا : أما من اعترف منهم بأن التفضل بمثل العوض مقدور لله ـ تعالى
ـ فالإلزام لازم له . ومن منع من ذلك ، فمنعه باطل مردود عليه ؛ وذلك لأنا بينا
فيما تقدم أنه لا يستحق على الله شيء ، ولا يجب ؛ فالعوض لا يكون مستحقا ؛ فيكون
تفضلا من الله تعالى / أيضا. غير أنه اختص باسم العوض لكونه مسبوقا بالإيلام ،
وإذا كان تفضلا ؛ فهو مثل التفضل السابق للإيلام. والقادر على أحد المثلين يكون قادرا على
المثل الآخر.
وعلى هذا نقول :
إن التفضل بمثل الثواب مقدور لله ـ تعالى ـ أيضا ، وإن كان ممنوعا عند بعض
المعتزلة.
وما قيل : من لزوم
شائبة المنة ، فمع إبطاله بما أسلفناه لازم أيضا فى العوض بتقدير كونه غير مستحق.
ثم وإن سلمنا دلالة
ما ذكروه على تحسين الألم للتعويض ؛ لكنه يلزم عليه القضاء بتحسين إيلام الواحد منا لغيره
ابتداء إذا كان ملتزما للعوض ؛ وهو خلاف الإجماع منا ، ومن المعتزلة ، ومن كافة
الأمة.
فإن
قيل : البارى ـ تعالى ـ
عالم بعواقب الأمور ، وباقتداره على التعويض ، بخلاف الواحد منا ؛ فلا يلزم من
التحسين فى حق الله ـ تعالى ـ التحسين فى حق الواحد منا ، مع انطواء العاقبة عنه ،
وجواز تحقق الألم من غير عوض بخلاف الرب ـ تعالى ـ فهو باطل بإيلام الولى ، والقيم على الطفل بقطع السلع ، والفصد ، والحجامة
، والتأديب بالضّرب المؤلم ؛ ارتقابا لما يتوقع من النفع ، وإن كان مظنونا غير
متيقن.
__________________
وعلى هذا يمتنع
تحسين الإيلام لتحصيل نفع ، أو دفع ضرر. وكل ما قيل فى العوض ؛ فهو متجه هاهنا ،
والقول بتحسين الألم للعوض ، واعتباره معا فباطل أيضا ؛ إذ العوض إنما يكون مؤثرا فى التحسين أن
لو لم يكن مقدورا على التفضل بمثله ، أو أزيد ؛ وليس كذلك على ما سبق.
والاعتبار أيضا
غير مؤثر ؛ لما فيه من إلزام الضرر لأحد المكلفين ، لنفع الآخر ، وليس هو أولى من
العكس ؛ فيكون ظلما ، والظلم ـ عندهم ـ قبيح لذاته.
وبمثل هذا يبطل
قول الضيمرى : بالتحسين لمجرد الاعتبار.
والقول بأن الألم
إنما حسن بالعوض ، مع القدرة على التفضل بمثله إذا علم الله أنه لا ينفعه إلا بجهة
التعويض ؛ فهو أيضا باطل ؛ فإنه إذا كان قادرا على التفضل بمثل ذلك العوض ابتداء
من غير سابقة ألم ، ولا هو محتاج إلى التأليم ، ولا هو متضرر بالتفضل ؛ فالتأليم
يكون عبثا لا فائدة فيه ؛ فيكون قبيحا. وعلمه بأنه لا ينفعه إلا بجهة العوض لا
يخرج الألم عن كونه قبيحا.
وقولهم : إن الإيلام دون هذه الأمور يكون ظلما من الله ـ تعالى ـ والظلم
قبيح لذاته ؛ فقد سبق الكلام على الطرفين.
وقول
من قال : إن القبيح لذاته /
مقدور عليه لله ـ تعالى ـ ؛ فباطل ؛ لاستحالة القبيح لذاته كما سبق.
ثم وإن قدر وجود
القبيح لذاته ؛ فلا نسلم تصور وجوده من الرب ـ تعالى ـ
فلئن قالوا :
يتصور من الله ـ تعالى ـ إيلام الكافر عقوبة على كفره. ولا فرق فى الألم المقدور
فى حق الكافر ، وبين الألم فى حق من لم تسبق منه جناية غير وجود الجناية فى إحدى
الصورتين ، وعدمها فى الأخرى. وذلك غير داخل فى حقيقة الألم المقدور ؛ فكان الألم فى حق غير الجانى مقدورا لله ـ تعالى ـ وذلك الإيلام
قبيح ؛ فكان القبيح مقدورا.
__________________
قلنا : إذا اختلف الألمان بما أوجب قبح أحدهما ، وحسن الآخر ، فما المانع [أن] يكون وجود ذلك الفارق الموجب للقبح مانعا ، من الاقتدار ،
أو أن عدمه يكون شرطا فى الاقتدار ، وعدم الاطلاع على جهة المانعية ، أو الشرط ؛
لا يوجب انتفاء المانعية ، أو الشرطية ؛ لما سبق فى تعريف الأدلة.
ثم وإن سلمنا كونه
مقدورا لله ـ تعالى ـ فلم قالوا بامتناع وجوده عنه؟
قولهم
: إن ذلك يدل على
جهله بقبحه ، أو احتياجه إليه ؛ غير مسلم.
وما المانع من
إيجاده له مع العلم بقبحه ، واستغنائه عنه؟ وليس العلم بذلك ضروريا. والنظرى ؛ فلا بد من الدليل عليه.
وأمّا الرد على
الثنوية فى اعتقادهم قبح الآلام لذواتها : فما سبق فى مسألة التحسين والتقبيح ، وفى اعتقادهم وجود مدبرين ، ومبدأ للخير ومبدأ للشر كما سيأتى فيما بعد.
وأما الرد على
التناسخية فى أن الآلام قبيحة : فما سبق.
وأما فى اعتقادهم
حسنها بالأعواض : فما ذكرناه على المعتزلة. وفى التناسخ ما سيأتى أيضا فى موضعه.
وأما إنكار
البكرية لحلول الآلام بالبهائم ، والأطفال : فمكابرة للعقل ، والحس. وما نشاهده
منهم من الاضطراب ، والنفرة عند الضرب والجراحات ، والاحتراق بالنار ، وبكاء
الصبيان عند وجود الأشياء المؤلمة ، وإنكار ذلك لا يتقاصر فى البعد عن إنكار
حياتهم ، وحركاتهم ، وحسهم ، وإدراكهم ، ووضوح ذلك فى تناهى الفساد ، يغنى عن
إبطاله.
__________________
«المسألة الخامسة»
«فى تكليف ما لا يطاق»
نقل عن الشيخ أبى
الحسن الأشعرى ـ رحمهالله ـ فى بعض الأقوال أنه قال : لا يجوز / التكليف بالمحال :
كالجمع بين الضدين ، والأمر بما هو ممنوع منه : كأمر الزمن بالقيام ، ونحوه.
والّذي إليه ميله فى أكثر أقواله ، الجواز ؛ وهو لازم على مذهبه ؛ ضرورة اعتقاده :
أن الاستطاعة لا تكون ، إلا مع الفعل ، مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل ، وأن
القدرة الحادثة غير مؤثرة فى إيجاد الفعل ؛ فيكون العبد مكلفا بفعل غيره وإلى هذا مال أكثر أصحابه .
وقد نقل عن بعض
البغداديين من المعتزلة ما يوافق هذا القول : فإنهم قالوا بجواز تكليف العبد بفعل
، فى وقت علم الله أنه يكون ممنوعا منه ، وهو تكليف بما لا يطاق.
وإلى هذا أيضا :
ذهب بكر بن أخت عبد الواحد حيث قال : إن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان
والإخلاص ، مع كونه مأمورا بالإيمان. ومن أصحابنا : من مال إلى القول الأول : وهو
امتناع التكليف بالمحال. وهو مذهب البصريين ، وأكثر البغداديين. ثم اختلف القائلون
من أصحابنا ؛ فى جواز التكليف بما لا يطاق عقلا فى وقوعه : فمنهم من أثبته ، ومنهم
من لم يثبته.
وأجمعت الأمة على
جواز التكليف بما علم الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا :
كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن : كأبي جهل ، وغيره. خلافا لبعض
الثنوية.
__________________
وعند ذلك : فلا بد
من التنبيه على مأخذ كل فريق فيما ذهب إليه ، وإبانة الحق من الباطل منه.
وقد
احتج الأصحاب
على
جواز التكليف بما لا يطاق بأن قالوا : العبد مكلف بالفعل ، قبل وجود الفعل ، وكل تكليف بالفعل قبل
وجود الفعل ؛ فهو تكليف بما لا يطاق.
أما المقدمة
الأولى : فبالإجماع.
وأما المقدمة
الثانية : فبيانها ، هو أن المكلف بالفعل قبل وجود الفعل لا قدرة له على الفعل ،
وكل من لا قدرة له على الفعل ؛ فتكليفه بالفعل ، تكليف بما لا يطاق.
أما المقدمة
الأولى : فبيانها بما يأتى.
وأما الثانية :
فمعلومة بالضرورة.
وإذا ثبت جواز
التكليف بالقيام حالة كون الشخص قاعدا مثلا مع استحالته ، جاز تكليف العاجز عن
القيام ، بالقيام : كالزمن ، والتكليف بالمستحيل لذاته : كالجمع بين الضدين ،
ونحوه ؛ ضرورة اشتراك الكل فى امتناع وقوع الفعل من المكلف حالة التكليف.
/
فإن قيل : لا نسلم أن
التكليف بالفعل قبل وجود الفعل ؛ تكليف بما لا يطاق.
قولكم : أنه لا قدرة على الفعل قبل وجود الفعل. لا نسلم ذلك. وما
تذكرونه فى بيانه ؛ فسيأتى الكلام عليه أيضا. ثم هو على خلاف قوله ـ تعالى ـ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أثبت الاستطاعة على الحج قبل وجود الحج .
__________________
وكذلك قوله ـ تعالى
ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) . أثبت الطاقة على الصوم ، قبل الشروع فيه.
سلمنا أنه لا قدرة
(له) على الفعل قبل وجود الفعل ؛ ولكن لا يلزم من جواز التكليف بالفعل قبل الفعل ـ
مع كونه مقدورا حالة الفعل ـ جواز التكليف بما لا يطاق ، وهو بالمستحيل لذاته ،
والمعجوز عنه. وبيان الفرق من ستة أوجه :
الأول
: هو أن تكليف
القاعد بالقيام لا يعد قبيحا. وتكليف الزمن بالقيام ، والتكليف بالجمع بين الضدين
قبيح فى العقل.
الثانى
: هو أن القيام ممكن
للقاعد ، ومتصور الوجود. بخلاف قيام الزمن ، والجمع بين الضدين.
الثالث
: هو أن الزمن : به
آفة مانعة من القيام ، وهى الزمانة ، بخلاف غير الزمن.
الرابع
: هو أن المأمور
بالقيام : إذا لم يكن ممنوعا منه ، بزمانة ، أو غيرها ، وإن لم يكن قادرا على
القيام ؛ فهو قادر على ضده ، وهو ما هو متلبس به ، ولا كذلك المعجوز عنه ،
والمستحيل لذاته.
الخامس
: هو أن الاقتدار
على قيام القاعد ملازم لإرادته للقيام فى العادة ، بخلاف المعجوز عنه ، والمستحيل
فعله.
السادس
: هو أن التكليف : طلب ما فيه كلفة ، والطلب يستدعى مطلوبا ، وذلك المطلوب كما
يشترط فيه أن يكون معدوما فى الأعيان حالة طلبه ، ضرورة امتناع طلب الحاصل فيشترط
فيه أن يكون مقصودا فى الذهن ؛ فإن طلب ما لا تصور له فى الذهن محال.
وهذا الشرط متحقق
فى طلب القيام من القاعد ، وهو غير متحقق فى طلب الجمع بين الضدين ؛ لاستحالة
تصوره فى الذهن ولو تصور ذهنا ؛ لما امتنع وقوعه عينا ، وكذلك
__________________
طلب القيام من
الزمن مع زمانته. ومع هذه الفروق ؛ فلا يلزم من تجويز التكليف فى الأصل المتفق
عليه ، جوازه فى محل النزاع.
والجواب
:
قولهم
: لا نسلم انتفاء
القدرة على الفعل قبل الفعل.
قلنا
: سيأتى / بيانه ، وإبطال كل ما يتشككون به عليه.
وما ذكروه من
الاستدلال بالآيتين ؛ فحاصله يرجع إلى التمسك بالظواهر المحتملة التأويل فى مسائل
القطع ؛ فلا تقبل.
وبيان قبولها
للتأويل :
أما الآية الأولى
: فالاستطاعة وإن احتمل حملها على القدرة وكانت ظاهرة فيه ، غير أنه محمول على ما نقله الأئمة عن النبي عليهالسلام من تفسيره الاستطاعة بالزاد ، والراحلة.
ولهذا لا يجب الحج على من لا قدرة له على الحركة : كالزمن إذا كان واجدا
للزاد ، والراحلة ، ومن يقوم بإركابه ، وإنزاله.
وأما الآية الأخرى
: فيحتمل أن يكون المراد من الطاقة الصحة : وهى ما يتأتى معها خلق القدرة المقارنة
للفعل عادة وبتقدير إرادته ، ولا مانع منه.
وإن سلمنا امتناع
حمله على هذا المحمل ؛ لكنه يحتمل أن يكون الضمير فى قوله ـ تعالى ـ : (يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) راجعا إلى الفداء. ويكون تقدير الكلام. وعلى الذين يطيقون
الفداء فدية ، ويكون معنى طاقة الفداء ملك ما يفتدى به ؛ والفداء وإن لم يكن
مذكورا فى الآية غير أنه يجوز عود الضمير إلى ما ليس بمذكور ؛ إذا كان فى الكلام
ما يدل عليه كما فى قوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) الضمير فى عليها عائد على الأرض ،
__________________
وإن لم تكن
مذكورة. وقوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) فإن الضمير فى قوله (توارت) عائد الى الشمس مع عدم ذكرها.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) . والضمير فى قوله (به) عائد إلى الوادى الّذي (كانت) تطؤه الخيل وإن لم يكن مذكورا.
وأما الفرق الأول
: فحاصله راجع إلى التقبيح والتحسين العقلى ، وقد سبق إبطاله .
وأما الفرق الثانى
: فلا نسلم أن القيام فى حق القاعد ممكن فى حالة قعوده. وقبل خلق القدرة عليه ،
والتكليف متحقق قبل خلق القدرة عليه ؛ فيكون تكليفا بما ليس بممكن كما فى العاجز ،
والتكليف بالمحال. وتحقق الإمكان بتقدير خلق القدرة المقارنة للفعل لا يخرج الفعل
قبل خلق القدرة عن كون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وإلا لما كان تكليف العاجز
عن القيام بالقيام ؛ تكليفا بما لا يطاق ؛ لإمكان إزالة المانع ، وخلق القدرة له
عليه.
/ وعلى هذا فقد
خرج الجواب عن الفرق الثالث أيضا.
وأما الفرق الرابع
: فمندفع أيضا ؛ فإن القدرة على ضد الفعل المكلف به لا يوجب القدرة على نفس ذلك
الفعل. وإذا لم يكن الفعل المكلف به حالة التكليف به مقدورا ؛ فهو تكليف بما لا
يطاق.
ولهذا كان التكليف
بالحركة إلى جهة السماء صاعدا فى حق الآدمى تكليفا بما لا يطاق بالإجماع ؛ حيث لم
يكن ذلك مقدورا له ، وإن كان قادرا عندهم على الضد : وهو التحرك إلى جهة أخرى على
وجه الأرض.
وأما الفرق الخامس
: فباطل أيضا ؛ فإن ملازمة الاقتدار لإرادة الفعل ، فى حق غير العاجز ، لا يخرج
الفعل عن كونه معجوزا عنه ، قبل خلق القدرة عليه ، كما سبق.
__________________
وأما الفرق السادس
: فقد أجاب عنه بعض أئمتنا : أن التكليف ينقسم إلى : تكليف طلب واستدعاء للفعل ،
وإلى تكليف تعجيز وإعلام بحلول العقاب.
وعلى هذا فما ورد
التكليف به وهو ممكن ؛ فهو تكليف اقتضاء وطلب ، وذلك هو الّذي يستدعى تصور المطلوب فى نفس الطالب. ويشترط فهمه للمطلوب منه.
وما ورد التكليف
به وهو محال لذاته : كالجمع بين الضدين ، وتكليف الزمن بالقيام ؛ فالمراد به
التكليف بالاعتبار الثانى. وليس بطلب ؛ فلا يستدعى تصور المطلوب فى نفس الطالب.
وهو بعيد : فإنه
إما أن يعترف بأن التكليف بالفعل قبل خلق القدرة عليه ممكن ، أو ليس بممكن ، وإن قال إنه ممكن مع انتفاء القدرة عليه ؛ ففاسد لما سبق. وإن
اعترف بعدم الإمكان ؛ فيلزم منه امتناع ورود التكليف بمعنى الطلب ، والاقتضاء
مطلقا ؛ وهو خلاف إجماع الأمة.
والجواب فى ذلك أن يقال :
قد بينا أن طلب القيام من القاعد ، مع عدم القدرة عليه ؛
كطلبه من العاجز.
وعند ذلك : فإما
أن يكون القيام المطلوب من العاجز متصورا فى نفس الطالب ، وإما أن لا يكون متصورا.
فإن كان متصورا ؛
فقد بطل الفرق.
وإن لم يكن متصورا
؛ فهو أيضا غير متصور مع عدم القدرة.
ويلزم من ذلك :
إما الاستواء فى جواز التكليف ، أو فى عدمه. والاستواء فى عدم جواز التكليف محال ،
ضرورة الاتفاق على جواز تكليف القاعد / الّذي ليس عاجزا بالقيام.
فلم يبق إلا
الاستواء فى جواز التكليف.
__________________
وقد تمسك بعض
أصحابنا : فى جواز التكليف بما لا يطاق بقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ) . ووجه الاحتجاج به أنهم سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ،
ولو كان ذلك محالا فى نفسه ؛ لكان مندفعا بنفسه من غير حاجة إلى السؤال فى دفعه ؛
فحيث سألوا دفعه دل على كونه جائزا.
فإن قيل : لا نسلم
أن الآية ظاهرة فى سؤال دفع التكليف بالمحال ؛ فإنها إنما تكون ظاهرة فيه أن لو كان
التكليف بالمحال ممكنا ؛ لأنه إذا لم يكن ممكنا ؛ فيكون مندفعا بنفسه كما ذكرتموه
ولا حاجة إلى سؤال دفعه.
وعند ذلك : فيتوقف
إمكان التكليف بالمحال على كون الآية ظاهرة فيه ، ويتوقف ظهورها فيه على كونه
ممكنا ؛ وهو دور ممتنع.
سلمنا أنها ظاهرة
فى دفع التكليف بالمحال ؛ ولكن يحتمل أن يكون المراد إنما هو دفع ما فيه كلفة ،
ومشقة على النفس. ولهذا يصح أن يقال لمن كلف عبده ما شق عليه مشقة مفضية إلى هلاكه
، كلفه ما لا طاقة له به. ويدل عليه أول الآية وهو قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) والمراد بالإصر : ما فيه ثقل ومشقة ، هكذا قال أهل اللغة.
سلمنا أن المراد
به تكليف المحال ؛ ولكن ليس فيه ما يدل على جواز التكليف بالمحال ؛ إذ هو حكاية
حال الداعين ، ولا حجة فى قولهم ، ولو صرحوا بالجواز.
سلمنا صحة
الاحتجاج بقولهم ؛ ولكن لا يخلو : إما أن يقولوا بأن كل تكليف تكليف بما لا يطاق ،
أو بعض التكاليف ، دون البعض.
فإن كان الأول :
فالسؤال يكون لدفع كل تكليف ، ولا فائدة فى التخصيص بما لا يطاق.
وإن كان الثانى :
فالتكليف : إما تكليف عاجز ، أو غير عاجز ، فما يطاق إما تكليف العاجز ، أو من ليس
بعاجز.
__________________
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا لكان ما لا يطاق : هو تكليف من ليس بعاجز ؛ ولا يخفى أن العكس
أولى.
وإن كان الثانى :
فقد بطل ما ذكرتموه من الدليل العقلى.
والجواب عن السؤال
الأول : هو أن الآية بوضعها لغة تدل على طلب دفع التكليف بما لا يطاق ؛ ولهذا
يتبادر فهم ذلك من الآية عند إطلاقها إلى الفهم. / وإن كنا غافلين عن كون التكليف
بما لا يطاق ممكنا.
وعند ذلك : فيلزم
القول بالإمكان ضرورة حمل اللفظ على ظاهره. فإنه لو لم يكن ممكنا ؛ لما كان للسؤال
فائدة ، على ما سبق ، إلا بطريق التأويل ؛ وهو خلاف الأصل.
وعن السؤال الثانى
: أنه ترك للظاهر من غير دليل ، وليس فى أول الآية ما يدل على مخالفة الظاهر فى
آخرها ؛ إذ لا إحالة فى طلب دفع ما فيه ثقل ومشقة ، وطلب دفع ما لا يطاق فى نفسه ؛
بل ربما كان ذلك مما يوجب حمل آخر الآية على ظاهره تكثيرا لفائدة التأسيس ؛ إذ هى
أولى من التأكيد.
وعن الثالث : هو
أن الرب ـ تعالى ـ إنما ذكر ذلك فى معرض التقرير لهم على ما قالوه ، والتحريض
والندب إلى مثل هذه الدعوات باتفاق المفسرين ؛ فيكون الاحتجاج بذلك لا بقولهم فقط.
وعن الرابع : أنا
نقول : كل تكليف ، فإنه عندنا فى الحقيقة تكليف بما لا يطاق على ما
أسلفناه. غير أن العرف قد خصص التكليف بما لا يطاق بتكليف المحال لذاته : كالجمع
بين الضدين ، وتكليف العاجز عن القيام بالقيام ، ونحوه دون التكليف بالفعل قبل خلق
القدرة عليه ؛ والشارع إنما يخاطب أهل العرف بعرفهم غالبا.
وعند ذلك : فيجب
حمل اللفظ على ما لا يطاق عرفا ، لا عقلا ؛ لكن (مثل) هذا الظاهر إنما ينفع فى المسائل التى يقتنع فيها بالظهور
دون القطع ، وما نحن فيه ليس كذلك.
__________________
وربما احتجوا
بقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) . وهو دليل التكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة له .
وهو أضعف من الأول
؛ فإنه مع إمكان حمل نفى الاستطاعة على نفى السهولة ، والانقياد من غير حرج ومشقة
؛ فليس فيه ما يدل على تكليفهم بالسجود حتى يقال به مع عدم الاستطاعة ؛ إذ الدعاء
فى الدار الآخرة إلى السجود ليس بتكليف ، لانعقاد الإجماع على أن الدار الآخرة ليست
دار تكليف ؛ بل دار مجازاة ، ومقابلة على ما فعل فى الدنيا.
وإذا ثبت أن كل
تكليف ؛ فإنه قبل خلق القدرة عليه تكليف بما لا يطاق فلا معنى لمخالفة من وافق من
أصحابنا على ذلك فى كون التكليف بما لا يطاق واقعا ؛ فإن التكليف قبل خلق القدرة
متفق على وقوعه / بين الأمة إلا أن يريد به التكليف بالمحال الّذي لا يتصور تعلق
القدرة القديمة ، ولا الحادثة به : كالجمع بين الضدين ، ونحوه ـ فهذا هو موضع
الاختلاف فى الوقوع.
وقد استدل من قال
بوقوع التكليف بالجمع بين الضدين ، بتكليف أبى لهب بتصديق النبي عليه الصلاة
والسلام فى أخباره. ومن أخبار النبي عليهالسلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله ـ تعالى ـ لنبيه بذلك ؛
فقد كلفه بأن يصدقه فى إخباره بأنه لا يصدقه ؛ فتكليفه بالتصديق له ، تكليف له بأن لا يصدقه ؛ وهو تكليف بالجمع بين الضدين.
واستدل أيضا بقوله
ـ تعالى ـ : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أخبر أنه لا يؤمن غير من (آمن) مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به ، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقا له فى خبره : أنهم لا يؤمنون.
__________________
وللخصم أن يقول :
لا نسلم أن النبي
عليه الصلاة والسلام أخبر أن أبا لهب لا يؤمن قطعا. وغاية ما ورد فيه قوله ـ تعالى
ـ : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ) ، وليس فى ذلك ما يدل على الإخبار بمعنى تصديقه للنبى عليه
الصلاة والسلام قطعا ؛ فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن عندكم ، وبتقدير امتناع ذلك
أمكن أن يكون قوله : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ) بتقدير أن لا يؤمن.
وكذلك أيضا قوله ـ
تعالى ـ : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) بتقدير أن لا يهديهم الله ـ تعالى ـ ويبعث دواعيهم إلى
الايمان.
ثم وإن سلمنا وجود
الإخبار بعدم الإيمان والتصديق فى الآيتين قطعا ؛ ولكن لا نسلم تصور تكليفهم بأن
يصدقوه بأن لا يصدقوه ـ وهذا مما اتفق عليه المعتزلة ، ومن قال بامتناع وقوع
التكليف بالجمع بين الضدين.
وأما من قال من
الثنوية : بامتناع جواز التكليف بخلاف معلوم الله ـ تعالى ـ فمستندهم ليس إلا
تقبيح العقل له وقد أبطلناه.
__________________
«المسألة السادسة»
فى أنه هل لله ـ تعالى ـ على من علم إصراره على الكفر نعمة ،
أم لا؟ وفى معنى الحمد ، والشكر ، والتعظيم
ولا نعرف خلافا
بين أصحابنا فى أن الله ـ تعالى ـ ليس له نعمة دينية على من علم الله ـ تعالى ـ إصراره
على الكفر.
وأما النعم
الدنيوية : فقد اختلف فيها جواب الشيخ أبى الحسن الأشعرى / فأثبتها تارة ، ونفاها
أخرى.
ووافقه على كل
واحد من القولين جمع كثير من أصحابه . وميل القاضى أبى بكر إلى الإثبات.
وأجمعت المعتزلة :
على أن الله ـ تعالى ـ أنعم على الكفار بالنعم الدينية ، والدنيوية .
ونحن الآن نذكر حجة كل فريق ، وننبه على ما فيها. ثم نذكر ما هو المختار
إن شاء الله ـ تعالى ـ.
أما من نفى النعمة
الدينية ، والدنيوية :
فقد احتج على ذلك
بأن النعمة هى اللذة الخالصة ، عما يلزمها من الضرر المساوى ، أو الراجح فى العاجل
، والآجل ؛ وذلك غير متحقق فى حق من علم الله ـ تعالى ـ أنه يموت على كفره ؛ فإن
ما أمده به من أسباب الترفه ، والتنعم ، وإزاحة العلل وخلق الشهوات ، والتمكن من
إدراك اللذات ، والمرادات ، ونصب الأدلة ، والآيات الدالة على الهداية ، والحث على
ذلك ببعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات القاطعة ، وتكميل العقل وآلة الإدراك ؛ لتحصيل
السعادة الأخروية ، وإن كانت على صور النعم ؛ فهى نقم على الحقيقة ؛ وليست نعما.
وبيانه : هو أن ما
يلزمها من الإضرار راجح عليها ، وما يكون الإضرار اللازم منه راجحا عليه ، لا يكون
نعمة.
__________________
وبيان
المقدمة الأولى
بنصوص خمسة :
الأول
: قوله ـ تعالى ـ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)
ووجه الاحتجاج به
أنه جعل ما يقدره الكفار نعمة استدراجا ، مفضيا إلى الهلكة ، وفى معناه قوله ـ تعالى
ـ : (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ
بَلْ لا يَشْعُرُونَ)
الثانى
: قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً)
الثالث
: قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
الرابع
: قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ)
الخامس
: قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)
ووجه الاحتجاج به.
أن الابتلاء بصورة الإكرام والإنعام ، لتعرضه للشكر ، والقيام بموجب ما أنعم عليه
به. فإذا قابله بالكفر كان ذلك سببا لهلاكه ؛ ولذلك رد عليه ما توهمه من الإكرام
والإنعام بقوله / تعالى : (كَلَّا) ؛ فقد ثبت أن ما يلزم من صور النعم عليهم من الإضرار راجح.
وبيان المقدمة
الثانية :
وهى أن كل ما يكون
الإضرار اللازم عنه راجحا ؛ فلا يكون نعمة ـ وإن كان ملتذا به ، ومتصورا بصور
النعم ؛ بل هو نقمة ؛ فإن من قدم بين يدى إنسان طعاما لذيذا مشتهى ، وأذن له فى
أكله ، ومكنه منه ، وهو مسموم ، والمضيف يعلم كون الطعام
__________________
مسموما ، وأنه
يفضى إلى هلاكه ، والآكل جاهل بكونه مسموما ؛ فإنه لا يعد ذلك إنعاما عليه ؛ بل
إهلاكا له ، منقمة منه عليه ، وإن حصل به فى الحالة الراهنة لذة ، وقضاء شهوة ؛
فكذلك فيما نحن فيه. وهذا أمر ظاهر لا مراء فيه.
وربما احتجوا
بقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ؛ فإنه يدل ظاهرا على أنه قصد بخلق هذه الطيبات الإنعام على المؤمنين دون الكافرين.
وأما من أثبت
النعم الدينية ، والدنيوية : فقد قال :
أما
النعم الدينية : فلا يخفى أن الله ـ تعالى ـ أنعم على المؤمنين بخلق العقول المدركة ، ونصب
الأدلة على وحدانيته ، وما يليق (به) وما لا يليق. وبعثه الرسل ، والحث على سلوك طرق الهداية ، وتجنب مسالك الضلالة ، وتهيئة أسباب النجاة ،
والتمكين من ذلك. وأن هذه الأمور من أجل النعم المطلوبة ، والتفضلات المرغوبة ،
وأنه قد أنعم بها على الكفار حسب ما أنعم بها على المؤمنين. غير أن الكفار أساءوا
إلى أنفسهم ، وأهملوا وجوه مصالحهم ، ورفع مضارهم ؛ بتصامهم عن الإصغاء إلى سماع
إنذار الرسل ، وتعاميهم عن النظر فى الأدلة ، والآيات الدالة على ما ينجيهم من
الهلاك ، ويوصلهم إلى النعيم المقيم ؛ وذلك لا يخرج ما أنعم الله به عليهم من
الأمور المذكورة عن أن يكون نعمة ؛ وذلك كما لو قدم إنسان طعاما شهيا نافعا غير
مضر بين يدى مضطر فى مخمصة ، ومكنه منه ، وقال كل منه ؛ ففيه نجاتك من الهلكة ؛
فإنه يعد نعمة ، وإن امتنع المضطر من الأكل حتى هلك بسوء صنعه.
وأما
النعم الدنيوية : فلا يخفى أن ما الكفار فيه من تحصيل / اللذات العاجلة من المطعومات ،
والمشروبات ، والمنكوحات ، وغير ذلك من أنواع المرادات ؛ مخلوقة لله ـ تعالى ـ وقد
مكنهم منها ، وأزاح العلل المانعة عنها من غير سابقة إيجاب عليه ، وأن
__________________
ذلك من أجلّ
النعم. وغايته أنهم كفروا ، وسلكوا طريق الضلال المؤدى إلى الهلاك ، وقابلوا
الإحسان بالإساءة ، والنعمة بالكفر الموجب للعقاب ؛ وذلك لا يخرج ما فعله فى حقهم
ابتداء عن كونه نعمة وهذا كما أنه لو ابتدأ إنسان بالإحسان ، والإنعام على غيره. ثم
عاقبه بجنايته عليه ؛ فإن العقوبة على الجناية ، لا تخرج الفعل الأول عن كونه نعمة
وإحسانا.
هذا ما يخص كل
واحدة من النعمتين من الدلالة العقلية.
وأما الدلالة السمعية
:
فمنها ما يدل على
وجود النعمة ، غير مخصص بإحدى النعمتين دون الأخرى ، ومنها ما يدل على خصوص إحدى
النعمتين.
أما الدلالة
الأولى : فمن جهة الكتاب ، والإجماع.
أما من جهة الكتاب
: فآيتان.
الأولى : قوله ـ تعالى
ـ : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) .
والثانية : قوله ـ
تعالى ـ : فى قصة قارون : (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) .
وأما الإجماع :
فهو أن الأمة متفقة على أن الكفار تاركون لشكر نعم الله ـ تعالى ـ عليهم.
وأما ما يدل على
خصوص نعمة الدنيا من جهة الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ فى حق آل فرعون : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) . وقوله ـ تعالى ـ لثمود : (وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) . إلى غير ذلك من الآيات.
ثم اعترض هذا القائل على الحجة الأولى وقال :
__________________
أما قوله ـ تعالى
ـ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فقد قال أهل التفسير فيها : الاستدراج : أن ينعم على العبد
بنعمة ، ولا يلهم الشكر عليها ، أو يقضى عليه بنقمة ، ولا يلهم الصبر عليها ؛ وذلك
يفضى إلى ثبوت النعمة لا نفيها.
وقوله ـ تعالى ـ :
(إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) فالمراد من الإملاء الإبقاء ، وازدياد الإثم بسبب ما
يقترفون من الجنايات ، ويرتكبون من المحظورات ، وليس فيه ما يدل على نفى النعمة
فيما قررناه من النعم الدينية ، ولا الدنيوية.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا / تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) . فليس فيه دلالة أيضا ؛ فإن الأموال والبنين ليست سببا
للعذاب ، وإلا كانت سببا له فى حق الأنبياء ، والأولياء ؛ وليس كذلك ؛ بل
السبب لذلك. إنما هو ترك الشكر عليها ، وذلك يقرر كونها نعما. ويدل عليه قوله ـ تعالى
ـ : (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) . أثبت كون الباقيات الصالحات خيرا منها ؛ وذلك يستدعى
الاشتراك فى أصل الخير ، وأصل الخير نعمة ، لا نقمة.
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) ودليل إبقائه قليلا ، وأن مأواه إلى النار ، وليس فيه ما
يدل على نفى ما ذكرناه من النعم ، ولا إثباتها.
وقوله ـ تعالى ـ :
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآية ؛ فهى صريحة فى الإكرام ، والنعمة.
والقول بأن
الابتلاء بالإكرام ، والإنعام ؛ ليعرضه للشكر بما أنعم عليه حتى إذا تركه عوقب ،
ففيه ما يوجب كون المتروك شكره نعمة. وإلا لما استحق الشكر عليه ، ولما عوقب
بتركه.
__________________
والقول بأن كل ما
يكون الإضرار اللازم له زائدا عليه ، لا يكون نعمة. فإنما يلزم ذلك أن لو كان
الإضرار لازما من النعمة المفروضة ؛ وليس كذلك ؛ بل إنما هو لازم من الكفر ،
ومقابلة الإحسان بالإساءة ، والإنعام بالكفر على ما بيناه.
وإن سلمنا لزومه
عن النعمة المفروضة ؛ فلزوم القدر الراجح عن النعمة المرجوحة لا يخرجها عن حقيقتها
، وعن كونها نعمة ، كما لا يخرجها عن كونها لذة.
وأما الاستشهاد بالطعام
المسموم : فغير مناظر لما نحن فيه ؛ إذ الآكل غير عالم بمخالطة السم للطعام ، ولا
هو متميز فى علمه عن الطعام ، ولو كان كذلك لما تناوله ، وتناوله سبب للهلاك بخلاف
ما نحن فيه ؛ فإن النعم متميزة عن الأسباب الموجبة للهلاك ، ولا النعم سبب الهلاك
؛ فلا يلزم من كون ذلك ليس نعمة أن لا يكون ما نحن فيه نعمة.
وقوله ـ تعالى ـ :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ) . الآية. دليل على اختصاص من آمن فى الدنيا بالطيبات يوم القيامة ، وليس
فيه ما يدل على أنه قصد الإنعام بخلقها فى الدنيا على المؤمنين دون الكفار.
وأما من فرق بين
النعمة الدينية ، والدنيوية ، حتى / أنه نفى النعمة الدينية دون الدنيوية فقال :
النعمة الدنيوية هى اللذة الحاصلة فيها ؛ وذلك متحقق لا مراء فيه ، كما تقدم
تقريره.
وأما النعمة
الدينية : فهى الهدى. والهدى إنما يتحقق بشرح صدورهم على ما قال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ولم يتحقق ذلك ؛ فلا يكون نعمة فى حقهم.
والحق فى هذه
المسألة أنها اجتهادية ، وليست قطعية ؛ ولعل حاصل الخلاف فيها لا يرجع إلى غير
التسمية.
__________________
وذلك أن من نفى
النعم الدينية ، والدنيوية ، لا ينكر حصول الملاذ فى الدنيا وتحقيق أسباب الهداية
، غير أنه لا يسميها نعما ؛ لما يعقبها من الهلاك ، والنقم.
ومن أثبت كونها
نعما لا ينازع فى تعقبها الهلاك لها ، غير أنه سماها نعما لصورها ، ولا حرج فى
الاصطلاح اللفظى بعد فهم غور المعنى.
وقد جرت العادة
بتعقيب الكلام فى معنى النعمة بتحقيق معنى الحمد ، والشكر ، والتعظيم.
أما الحمد :
فقد قيل هو الشكر.
ومنه يقال : الحمد لله شكرا ، فيجعل الشكر مصدر الحمد. وقيل : الحمد هو الرضا.
ومنه يقال : الحمد لله حق حمده. أى حق رضاه.
والحق : أن الحمد
المطلق أعم من الشكر ؛ فإنه يتناول شكر النعمة ، والثناء على الخصال الحميدة ،
والصفات الكمالية. ولهذا يقال : حمدت فلانا على نعمته ، وحمدته على عمله ، وشجاعته . والشكر مخصص بالنعمة.
وأما
التعظيم
:
فإما أن يكون من
الخالق لغيره ، أو من المخلوق لغيره.
فإن كان من الخالق
لغيره : فقد يطلق ويراد به حمده له بطاعته. وقد يراد به إرادة منفعته.
وإن كان من
المخلوق لغيره : فقد يطلق أيضا ويراد به معنى فى النفس زائد على القول ، وعلى
العلم بكون المنعم منعما ، وإليه ميل أبى هاشم.
وقد يراد به المدح
بالقول ، وما يقوم مقامه من الأفعال : كالقيام له ، وتقديم نعله ، والمشى بين يديه
، ونحوه ، وإليه ميل كثير من المعتزلة.
وقال عباد : هو
العلم بحاله ، والمميز بينه وبين المنحط عن رتبته.
__________________
والحق أنه لا مراء
فى اختلاف هذه المعانى. وإنما النزاع فى إطلاق اسم التعظيم عليها ، والمتبع فى ذلك
كله التوقيف.
وعلى هذا فشكر
النعمة فى اللغة : هو إظهار النعمة.
وأما فى اصطلاح
الأصوليين : فقال بعضهم : هو الثناء / على المحسن بذكر إحسانه ، وبهذا الاعتبار
يجوز أن يسمى الرب ـ تعالى ـ شاكرا.
والّذي ذهب إليه
أئمتنا : أن شكر المنعم : هو قول فى القلب ، واعتراف بالنعمة على جهة الخضوع
والتعظيم ، ثم ما وجب من ذلك ؛ فإنما يجب بالشرع على ما تقدم ، وكذلك التعبرة عنه
بالأقوال وغيرها.
وعلى هذا يكون
الحكم فى وجوب التعظيم أيضا.
«المسألة السابعة»
فى معنى الهداية ، والإضلال .
أما الهداية ،
والإضلال ؛ وإن أطلقا بإزاء محامل على ما سيأتى.
غير أن الهداية :
عند أئمتنا حقيقة فى خلق الهدى ، وهو الإيمان ، ومجاز فيما سواه.
وربما ذهب بعض
أصحابنا : إلى أنها حقيقة أيضا فى الدعاء ، وشرع سبيل الرشد ، والزجر عن طريق الغى
، مع كونها حقيقة فى خلق الهدى ؛ فتكون الهداية عنده مشتركة بين المعنيين حقيقة ،
والاعتماد على الأول.
وأما الإضلال :
فهو حقيقة فى خلق الضلال ، ومجاز فيما عداه.
وذهبت المعتزلة :
إلى أن الهداية والإضلال ، حقيقة فيما وراء هذين المحملين على ما يأتى تحقيقه.
وقد
احتج الأصحاب بالنصوص ، والإطلاق العرفى.
أما النصوص :
فمنها : قوله ـ تعالى
ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الآية.
وأيضا : قوله ـ تعالى
ـ : (وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) .
__________________
وقوله ـ تعالى ـ :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .
وهذه النصوص ظاهرة
فى الهداية والإضلال ، بالاعتبار المذكور ؛ إذ هو المتبادر إلى الفهم منها .
وأما الإطلاق
العرفى :
فهو أنه لو قال
القائل : فلان هداه الله ؛ فإنه لا يتبادر إلى الفهم منه عند إطلاقه غير خلق الهدى
، وكذلك إذا قال : أضله الله. لا يتبادر. منه إلى الفهم غير خلق الضلال.
فإن
قيل : لا نسلم أن
الهداية والإضلال ، حقيقة فيما ذكرتموه ، والمراد بالنصوص / إنما هو الهداية بمعنى
الإرشاد إلى طرق الجنان. ومنه قوله ـ تعالى ـ فى حق الشهداء فى الجهاد : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ) .
قال أهل التفسير :
أى إلى طرق الجنان ، وهو متعذر الحمل على خلق الإيمان بعد الموت.
ومنه قوله ـ تعالى
ـ : (يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) : أى يدلهم على الجنان بسبب إيمانهم ، والإضلال فى مقابلته ؛ وهو تعمية
الطرق عليهم.
سلمنا تعذر الحمل
على هذا المعنى ؛ ولكن أمكن حمل الهداية على الدعاء ، وشرع سبيل الرشد ، والزجر عن
طريق الغى.
ومنه قوله ـ تعالى
ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) .
وليس المراد منه
خلق الهدى ؛ فإن من خلق له الهدى لا يستحب العمى عليه ؛ بل المراد بقوله :
فهديناهم ؛ أى دعوناهم ، وشرعنا لهم سبيل الرشد ، والإضلال فى مقابلته.
سلمنا تعذر الحمل
عليه ؛ ولكن ما المانع من حمل لفظ الهداية على تسمية الرب ـ تعالى ـ للمؤمن مقتديا
، والإضلال فى مقابلته؟
__________________
ومنه يقال : ضللت
فلانا. إذا نسبته إلى الضلال ، ووصفته به.
وربما حمل بعضهم
الإضلال على نفس المعاقبة فى العاجل ، والآجل ، تمسكا بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ
وَسُعُرٍ) .
والجواب :
أما منع كون
الهداية والإضلال ، حقيقة فيما ذكرناه ؛ فجوابه بما ذكرناه من الإطلاق النصيّ ،
والعرفى.
وما ذكروه من
الاحتمال الأول. فقد قال بعض الأصحاب فيه. أنه يمتنع حمل النصوص المذكورة عليه
لثلاثة أوجه.
الأول
: أنها دالة على
الهداية بالإضلال فى الحالة الناجزة. وما قيل من الاحتمال ؛ فلا يمكن إلا فى الدار
الآخرة ، وفيه نفى الهداية والإضلال فى الدنيا ، مع اتفاق الأمة على خلافه.
الثانى
: هو أن الهداية
والإضلال فى غالب النصوص المذكورة ، مقيدان بالمشيئة والاختيار ، وهو متعذر
فى الاحتمال المذكور ؛ ضرورة وجوبه فى حق المؤمن غير معلق بالاختيار على أصل المتأول.
الثالث
: هو أن قوله ـ تعالى
ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) نصّ فى وصف الهداية الواقعة فى الدنيا.
وهذه الأجوبة
بعيدة عن التحصيل :
أما
الأول : فلأنه ليس فى
النصوص المذكورة ما يدل على تنجيز الهداية والإضلال فى الدنيا.
__________________
أما قوله / ـ تعالى
ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) دليل على تنجيز شرح الصدر ، وجعله ضيقا حرجا فى الدنيا ؛
وليس فيه ما يدل على تنجيز الهداية ، والإضلال ؛ إذ أمكن أن يكون المراد من قوله ـ
تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ) : أى فى الدار الآخرة (يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ) فى الدنيا (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ) فى الآخرة (يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً) فى الدنيا.
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) . لا يمتنع أن يكون محمولا على الدعاء إلى دار السلام فى
الدنيا ، والهداية فى الأخرى ؛ إذ ليس فى اللفظ ما يدل على تخصيص الهداية بالدنيا لا من
جهة اللفظ ، ولا المعنى ، وكذلك الكلام فيما بقى من النصوص.
وليس فى حمل
النصوص على الهداية والإضلال ـ على ما تأوله الخصم أيضا ـ ما يوجب رفع الهداية ،
والإضلال فى الدنيا ؛ لجواز استفادته من دليل آخر.
وأما
الوجه الثانى : فإنما يلزم بتقدير أن يكون المتأول قائلا بإيجاب الهداية بالاعتبار المذكور ،
وإلا فلا.
وعلى تقدير أن
يكون قائلا به ؛ فلا يخرج بذلك عن الاختيار ـ وهو أن يكون ذلك بالقدرة ، والمشيئة
الأزلية ـ وإن كان لا بد من وقوعه. وإن كان لزوم الوقوع ، أو لزوم عدمه مع كونه
بالقدرة ، والمشيئة ـ مما يخرج الرب ـ تعالى ـ عن كونه مختارا ؛ للزم منه ذلك.
وإن حمل لفظ
الهداية ، والإضلال : على خلق الهدى ، والضلال فى الدنيا أيضا. وذلك لأنه لا يخلو
: إما أن يكون وقوع ذلك معلوما لله ـ تعالى ـ أو عدمه.
فإن كان المعلوم
هو الوقوع ؛ فلا بد منه.
وإن كان المعلوم
هو العدم ؛ فلا بد منه ؛ حتى لا يكون علم الله ـ تعالى ـ جهلا ؛ وذلك يوجب خروج
الرب ـ تعالى ـ عن كونه مختارا ، مع أن الوقوع وعدم الوقوع بالقدرة ، والمشيئة
الأزلية ؛ ولا محيص عنه.
__________________
وأما
الوجه الثالث : فقد سبق إبطاله فى إبطال الوجه الأول.
والأقرب فى ذلك أن
يقال :
نحن لا ننكر صحة
إطلاق لفظ الهداية والإضلال بالمعنى المذكور فيما ذكرناه من النصوص ، وما ذكروه ،
غير أن النزاع فيما وراء ذلك ؛ وهو أنه هل هو حقيقة؟ أو بطريق المجاز؟ وقد بينا
جهة الحقيقة فيما ذكرناه من ضرورة تبادره إلى الفهم عند إطلاق اللفظ ، بخلاف ما
عداه ؛ وهو / أمارة الحقيقة ؛ فإن الغالب إنما هو اشتهار اللفظ فى جهة الحقيقة دون
جهة المجاز.
وأما الاحتمال
الثانى :
فلا نسلم ورود لفظ
الهداية بمعنى الدعاء. وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) الآية ؛ فالمراد بها الهداية بمعنى خلق الهدى ؛ فإنهم
كانوا آمنوا لما رأوا الآية الباهرة ، من ظهور الناقة من باطن الصخرة الجامدة
وارتسموا بما رسمه لهم صالح ، من قسمة الماء بين الناقة وبينهم ، على ما قال ـ تعالى
ـ : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ
شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) . ثم إنهم عادوا لما نهوا عنه ، واستحبوا الضلالة على
الهدى.
وإن سلمنا أن
المراد من الآية ما ذكروه من الاحتمال ، غير أنه يمتنع حمل بعض ما ذكرناه من
النصوص عليه ؛ لأنه أثبت الهداية ، والإضلال ، وجعلهما متقابلين حيث قال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) . والشرح ، والضيق متقابلان ، والشرح ملازم للهداية ،
والضيق ملازم للإضلال ؛ فالملزومان متقابلان.
والهداية بمعنى
الدعاء ، وشرع سبل الخيرات ، لا تقابل الإضلال بالمعنى المذكور ؛ لتصور اجتماعهما.
ثم : وإن سلمنا
إمكان حمل ما ذكرناه من النصوص عليه. غير أنه لا بد له من دليل ، ضرورة أن ما
ذكرناه حقيقة على ما تقدم.
__________________
وأما الاحتمال
الثالث :
فالجواب عنه من
وجهين :
الأول
: أنا لا نسلم صحة
إطلاق الهداية ، والإضلال على تسمية الشخص مهتديا ومضلا ؛ فإنه لا يحسن أن يقال :
هدى فلان لفلان ؛ إذا سماه مهتديا ، وكذا فى الإضلال.
وأيضا : فإنه لو
جاز إطلاق الإضلال على تسمية الشخص مضلا ؛ لجاز أن يقال للأنبياء (عليهمالسلام)
مضلون للكفرة ؛ إذا سموهم بذلك ؛ وهو غير سائغ فى الإطلاق.
الثانى
: وإن سلمنا صحة
الإطلاق بذلك ؛ ولكن يمتنع حمل ما أوردناه من النصوص عليه لوجوه خمسة :
الأول
: أن الرب ـ تعالى ـ
إنما ذكر الهداية ، والإضلال ، وأسند كل واحد إلى مشيئته فى معرض التمدح ،
والاستعلاء. ولو كان المفهوم من ذلك محمولا على التسمية ؛ لبطلت فائدة التخصيص
بالتمدح.
الثانى
: أنه لو كان المراد
ما ذكروه ؛ لما امتنع على النبي عليهالسلام الهداية لمن شاء ؛ لعدم امتناع التسمية عليه بذلك ، وهو خلاف قوله
ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ / أَحْبَبْتَ) .
الثالث
: هو أن الله ـ تعالى
ـ أخبر بتقدم شرح الصدر على من أراد هدايته ، وضيقه على من أراد إضلاله ؛ وذلك مما
لا يتوقف عليه الهداية ، والإضلال بمعنى التسمية.
الرابع
: هو أن الأمة مجمعة
على التضرع إلى الله ـ تعالى ـ بالهداية ، وتجنب الإضلال مع حث الشرع ، وندبه إلى
ذلك ، وفى حمل ذلك على مجرد التسمية بهت ، وخروج عن تصرفات العقلاء.
الخامس
: أنه بعيد عن
الفهم. وما ذكرناه قريب ؛ فيمتنع الحمل عليه إلا بدليل.
وبهذا الوجه
الأخير يندفع ما ذكروه ، من تأويل الضلال على نفس المعاقبة أيضا.
__________________
وعلى الجملة :
فالبحث فى هذه المسألة ، بحث عن أمر لغوى ، لا معنوى والمستند فيها نفيا ، وإثباتا
؛ فظنى غير قطعى.
«المسألة الثامنة»
«فى معنى الطبع ، والختم ، والأكنة»
وقد ورد الكتاب
العزيز بالطبع ، والختم ، والأكنة على القلوب. قال الله ـ تعالى ـ (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها
بِكُفْرِهِمْ) الآية.
وقال ـ تعالى ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية. وقال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) .
وقد أختلف
المتكلمون فى مدلول هذه الألفاظ :
فذهب
أهل الحق : ـ إلى أنه عبارة عن خلق الضّلال فى القلوب.
وأما
المعتزلة : فمختلفون على
مذاهب سنبينها فى معرض الاعتراض والانفصال عنها إن شاء الله ـ تعالى.
ووجه الاحتجاج على
مذهب أهل الحق : هو أن خلق الضّلال فى القلوب مانع من الإيمان ، والهدى ؛ بمعنى
أنه يتعذر الجمع بينهما. والختم ، والطبع ، والأكنة ، فى اللغة موانع على الحقيقة.
وإنما سميت بذلك :
لكونها مانعة ، وخلق الضّلال فى القلوب مانع من الهدى ، فصح تسميته بهذه الأسماء ؛
إذ الأصل إنما هو الاطراد. اللهم إلا أن يمنع مانع ، والأصل عدمه ؛ فمن ادعاه
يحتاج إلى البيان.
فإن
قيل : إنما يتعين حمله
على ما ذكرتموه أن لو تعين ، وليس كذلك ؛ بل أمكن أن نحمل هذه الألفاظ على معنى
الوسم ؛ فإن الطّبع والختم فى اللغة ، هو الوسم.
__________________
وعلى هذا : فلا
يمتنع أن يخلق الله ـ تعالى ـ فى قلوب الكفار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار ـ على
ما قاله الجبائى ، وابنه [أبو هاشم] ـ ويبين ذلك للملائكة ؛ لفائدة ذم من رأوه متسما بسمة
الكفر ، حتى ينزجر الكافر عن كفره ؛ فإنه إذا علم أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها
ذمه ، ولعنه من الملائكة المقربين / كان ذلك سببا لزجره ؛ وذلك من أقوى مصالح
الدين.
سلمنا امتناع حمله
على هذا المحمل ؛ ولكن ما المانع من الحمل على وصف الرب ـ تعالى ـ للكفرة بكفرهم ،
وتسميتهم بما اتصفوا به من الكفر ، على ما ذهب إليه أوائل المعتزلة؟
ولهذا فإنه يصح أن يقول القائل : ختمت على فلان بالكفر ، والضلال ؛ إذا كان آيسا
من هداه.
سلمنا امتناع
الحمل على هذا المحمل أيضا ؛ ولكن ما المانع من حمل الختم والطبع ، على قطع اللطف
عن الكفار؟ ، وهو ما علم الله ـ تعالى ـ أن العبد يؤمن عنده ، ولا يكفر. على ما
قاله الكعبى من المعتزلة ؛ وذلك لأن قطع اللطف مانع من الإيمان. فأمكن إطلاق اسم
الختم ، والطبع عليه ، كما قررتموه فى خلق الضلال.
سلمنا امتناع حمله
على هذا أيضا ؛ ولكن ما المانع من حمل الطبع والختم ، على ما يخلقه الله ـ تعالى ـ من منع الإيمان؟ على ما ذهب إليه بشر بن يزيد ، وعبد
الواحد ، وبكر بن أخت عبد الواحد.
غير أن عبد الواحد
، وبشرا : زعما أنه لا يبقى العبد مع الختم ، والطبع ، مأمورا بالإيمان ؛ ولا
منهيا عن الكفر ، حتى لا يفضى إلى التكليف بما لا يطاق ؛ ولأنه إذا كان الإيمان
مأمورا به ؛ فالمنع منه يكون قبيحا ، بخلاف بكر بن أخت عبد الواحد.
سلمنا امتناع الحمل على هذا أيضا ؛ ولكن ما المانع من الحمل على
منع الإخلاص ، دون الإيمان؟ كما ذهب إليه بعض أصحاب عبد الواحد ؛ فإنه زعم أن
__________________
الختم والطبع ؛
منع الإخلاص دون الإيمان. حتى يقال : إنه يكون مع ذلك مأمورا بالإيمان ، دون
الإخلاص.
والجواب عن
الاحتمال الأول : من ثلاثة أوجه :
الأول : هو أن
الوسم : إما أن يكون بما هو مانع من الإيمان ، أو بما لا يمنع .
فإن لم يكن مانعا
من الإيمان : فلا يتحقق به المميز بين الكافر ، والمؤمن ؛ فلا يكون فيه معنى
الوسم.
وإن كان مانعا :
فهو المعنى بالضلال. ولا منافاة بينه ، وبين ما ذكرناه.
الثانى : هو أن ما
ذكروه فى تحقيق فائدة الوسم من الانزجار ، فغير مطرد فى حق من لا يعتقد صانعا ، ولا يعتقد وجود الملائكة ،
على ما لا يخفى.
الثالث : هو أن ما
ذكروه ، وإن استمر فى الختم ، والطبع ، فلا يطرد فى الأكنة ، فإن من وسم شخصا
بسمة ليميزه عن غيره. لا يقال غشاه / بالأكنة.
وعن الاحتمال
الثانى : من وجهين :
الأول : أنا لا
نسلم صحة ذلك لغة ؛ فإنه لا يقال : ختم فلان على قلب فلان ، وطبع عليه ، أو غشاه
بالأكنة ؛ بمعنى وصفه له بالكفر.
الثانى : أنه وإن
صح الإطلاق لغة ؛ لكن يمتنع حمل الختم ، والطبع الوارد فى النصوص المذكورة عليه
لوجهين :
الأول : هو أن
النصوص الواردة دالة على التمدح ، والاستعلاء ، وفى حمل الطبع ، والختم ، وتغشية
الأكنة ، على الوصف ، ومجرد التسمية إبطال فائدة التخصيص بالتمدح ، والاستعلاء ؛
لتصور ذلك من الواحد منا ؛ وهو ممتنع.
الثانى : أنه ـ تعالى
ـ أخبر بأن الختم على القلوب مانع من الإيمان حيث قال (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أى لأجل الختم. ومجرد الوصف بالكفر ، لا يمنع من الإيمان ؛
فامتنع الحمل عليه.
__________________
وأما الاحتمال
الثالث : فعنه جوابان أيضا :
الأول : منع صحة
ذلك لغة ؛ فإنه لا يطلق الطبع ، والختم ، وتغشية الأكنة ، على قطع الألطاف ،
وتركها لغة.
الثانى : هو أن
الألطاف : إما أن تكون ممكنة ، أو غير ممكنة.
فإن كانت ممكنة ،
فعند الخصم يمتنع قطعها ؛ لكونها واجبة على الله تعالى عنده.
وإن لم تكن ممكنة
: فلا يكون قطعها مضافا إلى الله ـ تعالى ـ والختم ، والطبع ، وتغشية الأكنة فى
النصوص مضاف إلى الرب ـ تعالى ـ والمضاف إلى الله ـ تعالى ـ غير ما ليس بمضاف
إليه.
وإن قيل : بإضافة
الطبع ، والختم على القلوب ، وتغشيتها بالأكنة إلى الله ـ تعالى ـ من حيث
لا يتمكن من خلق لطف بهم يؤمنون عنده ؛ فليس ذلك أولى من إضافته إلى الأنبياء ،
وغيرهم ؛ لمساواتهم للرب ـ تعالى ـ فى هذا المعنى.
وأما الاحتمال
الرابع : فباطل أيضا ؛ فإن المنع من الإيمان : إما أن يكون بأن لا يخلق الله لهم
الإيمان ، أو بأن يخلق ما يمنع من الإيمان.
فإن كان الأول :
فالبارى ـ تعالى ـ غير خالق للإيمان عندهم ، وليس إضافة الطبع ، والختم ، وتغشية
الأكنة إلى الله ـ تعالى ـ بهذا التفسير ، أولى من إضافته إلى غيره من المؤمنين ؛ لمشاركتهم لله ـ تعالى ـ فى هذا المعنى.
وإن كان الثانى :
فلا يخلو : إما أن يقال بأن الإيمان مأمور به ، أو غير مأمور به.
فإن كان مأمورا به
: فالمنع منه قبيح عندهم ، ولأنه يفضى إلى التكليف بما هو ممنوع منه ؛ وهو محال
عندهم / أيضا.
وإن كان غير مأمور
به : فهو خلاف إجماع المسلمين ، قبل ظهور هؤلاء المبتدعة الخارقين لقواعد الدين
؛ وفيه إبطال المذهبين المذكورين.
__________________
وبهذا الجواب ،
يندفع الاحتمال الخامس أيضا.
ويزيد جواب آخر :
وهو أن الله ـ تعالى ـ أخبر بأن الختم مانع من الإيمان على ما سبق تحقيقه. فمن فسر
الختم بالمنع من الإخلاص دون الإيمان ، كان مراغما لدلالة النص بدعوى لا أصل لها.
المسألة التاسعة
«فى معنى اللطف ، وحكمه»
واللطف فى عرف المتكلمين : عبارة عن كل ما يقع صلاح المكلف عنده بالطاعة
والإيمان ، دون فساده بالكفر والعصيان . وقد اختلفوا فيما وراء ذلك.
فقالت المعتزلة : إنه لا يتخصص بشيء دون شيء ؛ بل كل ما علم الله ـ تعالى
ـ أن صلاح العبد فيه ؛ فهو لطف به.
ثم قد يكون ذلك من
فعل الله ـ تعالى ـ كخلق القدرة للعبد ، وإكمال العقل ، ونصب الأدلة ، وتهيئة آلات
فعل الصلاح ، وترك الفساد.
وقد يكون من أفعال
العبد نفسه ، كنظره ، وفكره فيما يجب عليه ، وتوصله إلى تحصيله.
وقد يكون من فعل
غيره من المكلفين بالإعانة له فى تحصيل مصالحه ، ودفع مفاسده ، والتأسى به فى
أفعاله الصالحة ، وإيمانه ، وطاعته ، والانزجار عن أفعاله الفاسدة اعتبارا به. حتى
إنهم قالوا : كفر الكافر إذا كان فيه صلاح الغير بطريق الاعتبار ، والانزجار ؛ كان
كفره لطفا بذلك الغير ، وإن كان فسادا بالنظر إلى نفسه.
وقد لا يكون فعلا
؛ بل ترك فعل ؛ وذلك كما لو علم الله ـ تعالى ـ أنه لو بسط الرزق لعباده ، أو
لبعضهم لبغوا فى الأرض. ولو ترك بسطه لصلحوا ؛ فيكون ترك بسط الرزق لطفا بهم. وإلى
هذا مال القاضى أبو بكر من أصحابنا.
ثم زعمت المعتزلة
: أنه يجب على الله ـ تعالى ـ أقصى ممكن من اللطف ، والتزموا على هذا الأصل ، أنه
ليس فى مقدور الله ـ تعالى ـ لطف لو فعله لآمنت الكفرة ، وإلا كان تاركا للواجب.
__________________
وذهب الشيخ أبو
الحسن الأشعرى ، وأكثر أئمتنا : إلى أن اللطف شيء مخصوص ، وهو خلق القدرة على فعل الصلاح
من الإيمان والطاعة.
وهو الأقرب من جهة
أن كل ما يقدر سوى القدرة على فعل الصلاح قد لا يقع معه الصلاح والقدرة الحادثة ،
على أصل الشيخ كما سنبينه ، مقارنة للمقدور ، وهو ملازم لها ؛ فكانت بوصف / اللطيف
، أولى من غيرها.
وبالجملة : فحاصل
هذا الخلاف آئل إلى الاصطلاح اللفظى ، والأمر فيه قريب ، بعد فهم المعنى.
وإنما الّذي يجب
الاعتناء بإبطاله ، القول بوجوب اللطف على الله ـ تعالى ـ وأنه ليس فى مقدور الله ـ تعالى ـ لطف لو فعله لآمنت الكفرة.
أما الأول : فقد
سبق إبطاله فى مسألة نفى وجوب الغرض فى أفعاله .
وأما الثانى : فمع
أنه مراغم لقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) فهو مبنى على فاسد أصولهم فى وجوب اللطف على الله ـ تعالى
ـ ، وأنه لو كان فى مقدوره لطف لفعله ؛ كى لا يكون تاركا الواجب ؛ وقد أبطلناه.
__________________
«المسألة العاشرة»
«فى التوفيق ، والعصمة ، والخذلان»
أما
التوفيق : ففى اللغة : عبارة
عن تهيؤ العبد للموافقة.
وأما فى عرف المتكلمين
: فمختلف.
فالذى ذهب إليه
الشيخ أبو الحسن الأشعرى ، وأكثر الأئمة من أصحابه : أن التوفيق : هو خلق القدرة على الطاعة ، وهو موافق
للوضع اللغوى ؛ إذ الموافقة إنما هى بالطاعة ، وبخلق القدرة الحادثة يكون التهيؤ
للموافقة ضرورة ، وحصول الموافقة عنده ، وعدم حصولها عند عدمه ، وإن لم تكن القدرة
الحادثة مؤثرة فى الإيجاد.
وعلى هذا فمن زعم
من أصحابنا كالإمام أبى المعالى : أن التوفيق : هو خلق الطاعة ؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة
فى الطاعة ؛ فقد أبعد عن الوضع اللغوى ، من حيث أن الطاعة بها الموافقة لا التهيؤ
للموافقة ، وإن كان لا حرج عليه فى الاصطلاح على ذلك مع نفسه.
وأما المعتزلة : فمختلفون فى ذلك.
فمنهم : من زعم أن
التوفيق : هو الدعوة ، وإيضاح سبل المراشد ، وتبين مقاصدها.
ومنهم : من زعم أن
التوفيق : هو اللطف ، على ما سبق تحقيقه.
والمذهبان باطلان.
أما الأول : فلأنه
يلزم منه أن يقال : الكفار موفقون ، لتحقيق هذا المعنى فى حقهم ؛ وهو ممتنع.
وأما الثانى : فمن
جهة أن الأمة مجمعة على تسويغ الدعاء ، وطلب التوفيق من الله ـ تعالى ـ ؛ فلو كان
هو اللطف كما ذكروه : فإما أن يكون ممكنا ، أو لا يكون ممكنا.
__________________
فإن كان ممكنا :
فهو واجب على الله ـ تعالى ـ ولا بد من وقوعه ، ولا معنى لطلب ما لا بد منه ، ولا
للمتضرع / فى وجوده ، كما أنه لا معنى لقول القائل اللهم لا تظلمنى
، حيث لم يكن الظلم من الله ـ تعالى ـ متصورا .
وإن لم يكن ممكنا
: فلا معنى لطلب ما لا يمكن.
وأما العصمة :
فهى فى اللغة :
مأخوذة من المنع ـ ومنه قوله ـ تعالى ـ إخبارا عن ابن نوح عليهالسلام : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : أى يمنعنى. وقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أى لا مانع. وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) : أى يمنعهم عنك. وقوله ـ تعالى ـ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) : أى امتنعوا بالالتجاء إلى فضله عمن سواه. ويقال لقلل الجبال عواصم ؛ لامتناع من يلجأ إليها بها عن غيره.
وأما الفرق
الأصولى : فمذهب الشيخ أبى الحسن ، والأئمة من أصحابه : أن مدلول العصمة ما هو
مدلول التوفيق على ما سبق من أصله. وهو موافق للوضع اللغوى أيضا ؛ فإن خلق القدرة
على الطاعة ، والإيمان ، يلازمه الطاعة والإيمان. ويلزم من الطاعة امتناع المعصية
، ومن الإيمان امتناع الكفران ؛ فخلق القدرة على الطاعة ، والإيمان تكون عصمة عن
المعصية ، والكفران.
وعلى هذا فلا
يمتنع إطلاق اسم العصمة على خلق الطاعة والإيمان نفسهما ؛ لامتناع وقوع المعصية ،
والكفر معهما.
فإن
قيل : إذا كان خلق
القدرة على الإيمان ، وخلق الإيمان عصمة مانعة من الكفر ؛ فخلق القدرة على الكفر ،
أو خلق الكفر ، يكون أيضا منعا من الإيمان. وليس خلق القدرة على الكفر مانعا من
الإيمان.
__________________
وكذلك خلق الكفر ،
بدليل قوله ـ تعالى ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً) . دل على انتفاء كل مانع غير المستثنى ، وإذا لم يكن خلق
القدرة على الكفر ، أو خلق الكفر مانعا من الإيمان ؛ فكذلك خلق القدرة على الإيمان
، أو خلق الإيمان ؛ لا يكون مانعا من الكفر.
وأيضا : فإن إطلاق
المنع من الشيء ، إنما يحسن عند المحاولة لذلك الشيء ، ولا يحسن
بتقدير كون الشخص كارها له غير مريد له. ومن خلق له الإيمان ، أو خلقت له القدرة
عليه على وجه يكون مقارنا له ؛ فلا يكون محاولا للكفر ؛ بل كارها له ؛ فلا يحسن
إطلاق المنع بالنسبة إليه.
والجواب عن الأول
: لا نسلم أن خلق القدرة على الكفر ليس مانعا من الإيمان حالة كونه كافرا.
وأما / الآية فهى
دليل على أن المانع إنما هو استبعاد قدرة الله ـ تعالى ـ على أن يبعث بشرا رسولا ؛
وذلك عين الكفر ؛ وليس فيها ما يدل على أن الكفر ليس بمانع.
وعن الإشكال
الثانى : أن صحة إطلاق المنع عن الشيء يستدعى وقوع المحاولة له ، أو صحة المحاولة
لذلك الشيء. الأول ؛ ممنوع ، والثانى ؛ مسلم.
وعلى هذا فلا يلزم
من عدم وقوع المحاولة للكفر فى حق المؤمن ؛ امتناع صحة المحاولة له.
وأما
المعتزلة : فمدلول أصل العصمة عندهم أيضا ما هو مدلول اسم التوفيق على اختلاف
مذاهبهم ، غير أن من فسر التوفيق منهم باللطف اختلفوا. فمنهم من قال : اللطف إنما
يسمى عصمة إذا قارنه الإيمان والطاعة ، وقيل ذلك لا يسمى عصمة.
ومنهم من قال :
إنه يسمى مثل ذلك عصمة إذا كان فى علم الله ـ تعالى ـ أن ذلك اللطف يعود إلى
الإيمان.
والوجه فى إبطال
ما ذكروه. ما أبطلنا به تفسير التوفيق ، بالدعوة واللطف ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا.
__________________
وأما الخذلان :
فهو عند الشيخ أبى
الحسن ، وأصحابه ضد التوفيق. فكما أن التوفيق : خلق القدرة على الطاعة ؛ فالخذلان
: خلق القدرة على المعصية ؛ وهو على وفق العرف اللغوى.
فإن الخذلان فى
عرف أهل اللغة المنع من درك المراشد ، وقطع الأسباب المعينة عليها ، وخلق القدرة
على الكفر إذا كانت مقارنة للكفر ، مانعة من درك المراشد ؛ فكان ذلك خذلانا.
وأما البصريون من
المعتزلة فقالوا : الخذلان هو ذم الله ـ تعالى ـ للعصاة ، وتوبيخه لهم.
وأما الكعبى فقال
: الخذلان عبارة عن قطع الألطاف ، المعبر عنها بالتوفيق عنده كما سبق تعريفه.
والمذهبان بعيدان
:
أما الأول : فلأنه
على خلاف الإشعار اللغوى.
وأما الثانى :
فلأن ما قطع من اللطف : إما أن يكون ممكن الوجود ، أو غير ممكن.
فإن كان الأول :
فهو واجب على الله ـ تعالى ـ عنده ؛ فيمتنع قطعه.
وإن كان الثانى :
فما ليس ممكنا لا يكون قطعه لله ممكنا ، وليس القول بكون الله خاذلا للكافر
باعتبار أنه لم يخلق اللطف فى حقه ، أولى من كون الواحد منا خاذلا له بهذا
الاعتبار ؛ ضرورة الاشتراك فى عدم الاقتدار عليه.
وبالجملة : فالبحث
أيضا فى هذه المسألة لفظى. واللغة / ما ذكرنا ، ولا حرج فى الاصطلاح بعد فهم
المعنى.
__________________
المسألة الحادية عشرة»
«فى تحقيق معنى الأجل ، ووجه الاختلاف فيه»
والنظر فى الأجل
من طرفين :
الأول : فى حقيقته
، ومعناه.
الثانى : فى أنه
هل يجوز قطعه ، أم لا؟
أما
حقيقة الأجل : فاعلم أن أجل كل شيء هو وقت تحققه ، وأما ما هو الوقت ، فسيأتى الكلام فى
تحقيقه ، وبيان اختلاف الناس فيه ، وما هو الحق منه فيما بعد ؛ لكن لا بد من
الإشارة إلى ما إليه ميل المحققين من أصحابنا فى تحقيق معنى الوقت ؛ لبناء الفرض
عليه هاهنا.
والّذي إليه ميل
القاضى ، وحذاق الأصحاب : أن وقت كل شيء هو ما قارنه من معلوم متجدد ، لم يكن ذلك
الشيء قبله ـ وسواء كان ذلك المعلوم المتجدد وجودا : كما يقال : قدم زيد عند طلوع
الشمس ، أو عدما : كما يقال : تحرك الجوهر عند عدم سواده ، أو بياضه.
وعلى هذا : فما
جعل وقتا لشيء ، أمكن أن يكون ذلك الشيء وقتا له ؛ فإنه كما يقال قدم زيد عند طلوع
الشمس ، ويجعل طلوع الشمس وقتا لقدوم زيد فيقال : طلعت الشمس عند قدوم زيد ؛ فيجعل
قدوم زيد وقتا لطلوع الشمس على حسب قصد الموقت وإرادته ، وظهور ما جعل وقتا عند
المخاطبة بالنسبة إلى الشيء الموقت به ؛ فالتأقيت لكل شيء تخصيص تحققه بمقارنة
معلوم متجدد.
__________________
وعلى هذا فلا
يتصور تأقيت أمر ما بالقديم ؛ لعدم تجدده ؛ وسواء كان ذلك القديم عدما ، أو وجودا
، وكذا لا يتصور تأقيت القديم بوقت ؛ لأن الوقت متجدد كما سبق. والقديم فلا يكون
موقتا فى تحققه بالمتجدد ، وإلا لكان القديم متجددا ، أو المتجدد قديما ؛ وهو
محال. بلى إن قيل بأن القديم يتفق وجوده ، مع وجود المتجدد من غير تأقيت بالتفسير
المذكور ، فهو حق. وذلك كما يقال : وجود الرب ـ تعالى ـ فى الآن مع وجودنا.
فإن
قيل : ما ذكرتموه فى
تفسير الأجل مخالف للإشعار اللغوى ؛ إذ الأجل فى اللغة مشعر بالتأخير إلى أمد
معلوم ، ومنه سمى الدين مؤجلا نظرا إلى تأخير المطالبة إلى وقت معلوم.
قلنا : ليس كذلك ؛ بل الأجل فى اللغة هو التقدير بالوقت ،
والتخصيص به ، غير أن المؤجل : أى الموقت ، قد يكون تأخيرا : كتأخير المطالبة فى وقته المقدر ، فأجل تأخير المطالبة هو وقته ،
وأجل الأداء هو وقته.
وأما أنه هل /
يجوز قطع الأجل المقدّر فى حكم الله ، أم لا؟
فقد اختلف
المتكلمون فيه :
فذهبت الأشاعرة
وغيرهم : إلى امتناع ذلك ، وأن من قتل ظلما ، أو بحق ؛ فقد فاضت نفسه فى الأجل
المحتوم من غير زيادة ، ولا نقصان.
ووافقهم على ذلك
الجبائى ، وأبو هاشم ، ومتأخرى المعتزلة.
وأما المتقدمون من
المعتزلة فقد اختلفوا :
فمنهم من قال : من
مات حتف أنفه ؛ فقد مات بأجله ، ومن قتل ؛ فقد انقطع أجله بالقتل ،
وأنه لو لم يقتل ؛ لبقى إلى وقته المقدر.
ومنهم من قال
بجواز الحياة ، والموت ، بتقدير عدم القتل.
__________________
ومنهم من فصل وقال
: إذا اتفق هلاك عدد كثير بحريق ، أو غرق ، أو غير ذلك ، أمكن أن يقال فى بعضهم من
غير تعيين أنه لو قدر عدم ذلك السبب ؛ لجاز أن يبقى ، وأن يموت.
ولا جائز أن يقال فى الكل أنه لو قدر عدم ذلك السبب فى حقهم ؛ لجاز
موت الكل معا من غير سبب ؛ إذ هو خرق للعادة ، وخرق العادة لا بجهة الإعجاز ، قدح
فى المعجزات ، وهذا بخلاف الواحد ، أو الاثنين ، وما لا ينتهى الحال فيه إلى خرق العادة.
وذهب أبو الهذيل
العلاف منهم : إلى أن من قتل لو لم يقتل ؛ لمات قطعا ، ولما تصور تقدير بقائه.
وأما الرد على من
قال بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل ، وأن القتل قاطع للأجل المحتوم المقدر ؛ فمن جهة الاستدلال ،
والإلزام.
أما الاستدلال :
فهو أن من قتل فى
وقت معلوم ، لا يخلو : إما أن يكون وقوع قتله فى ذلك الوقت معلوما لله ـ تعالى ،
أو غير معلوم له.
لا جائز أن يكون
غير معلوم له : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو محال.
وإن كان عالما به
: فلا بد من وقوعه فى ذلك الوقت ، وإلا كان علمه جهلا ؛ وهو محال أيضا.
وإذا كان كذلك
استحال أن يكون له أجل يحيى فيه بعد ذلك الوقت فى علم الله ـ تعالى ـ لما فيه من
التناقض فى معلوم الله ـ تعالى ـ فبان أن أجله المقدر ، إنما هو وقت قتله لا غير ،
وأن القتل لم يكن قاطعا.
وأما
من جهة الإلزام : فمن ثلاثة أوجه :
__________________
الأول
: هو أن القول بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل إلى الوقت المعلوم إما أن يقال معه بجواز الموت ، أو لا يقال بجوازه .
لا جائز أن يقال
بعدم الجواز : فإنا لو قدرنا عدم تعلق علم الله / بالبقاء إلى ذلك الوقت كان الموت جائزا ، وتعلق علم الله بأن الأجل ممتد إلى الوقت مانع من جواز القتل عندهم ، قبل ذلك الوقت ؛ فلا يمنع من
الموت قبل ذلك الوقت ، وإلا فالفرق تحكم غير معقول. وإذا كان الموت ـ بتقدير عدم
تعلق العلم بالأجل المقدر ـ جائزا ، وتعلق العلم بالأجل غير مانع من جواز الموت ؛
فهو جائز.
وإذا كان الموت
جائزا قبل ذلك الأجل ؛ فقد بطل القول بوجوب البقاء.
الوجه الثانى فى
الإلزام :
أنهم حكموا بأن
الموت حتف أنفه غير قاطع لأجله ، والقتل قاطع.
ولو قيل : ما
المانع من أن يقال : لو قدرنا عدم موته فى ذلك الوقت ؛ لبقى إلى أجل معلوم لله ـ تعالى
ـ وأن الموت ـ فى ذلك الوقت ـ قاطع لأجله ـ كما قلتم فى القتل ـ؟ لم يجدوا إلى
الفرق سبيلا.
الثالث
: هو أنهم قضوا بأن
شخصا لو أتلف شيئا مما ليس بحيوان أنه لا يكون قاطعا لأجله المعلوم لله ـ تعالى ـ ؛
بل إتلافه وقع فى وقته ، وأجله.
ولو قيل لهم : ما
الفرق بين الأمرين؟ كان الجواب متعذرا.
فإن
قيل : ما ذكرتموه وإن
دل على أن القتل غير قاطع للأجل ؛ لكنه معارض بما يدل على كونه قاطعا للأجل ، وأن
الأجل مما يتصور فيه الزيادة ، والنقصان.
وبيانه من جهة
المعقول ، والمنقول.
__________________
أما من جهة المعقول
:
فهو أن القاتل
بغير حق محكوم عليه بكونه جانيا بالاتفاق شرعا وعقلا. ولو لم يكن قاطعا لأجل
المقتول ؛ لما كان بقتله جانيا ، ولا ظالما.
وأما
من جهة المنقول : فمن جهة الكتاب ، والسنة :
أما من جهة الكتاب
:
فقوله ـ تعالى ـ :
(وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [وهو] دليل جواز ازدياد الأجل ، ونقصانه.
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ؛ وهو دليل ثبوت أجلين.
وأما من جهة السنة
:
فما روى عن النبي عليهالسلام أنه قال : «من سرّه أن يبسط الله فى رزقه وينسأ فى أثره
فليصل رحمه» . ومعناه يؤخر أجله ؛ إذ الأثر ، هو الأجل.
قال الشاعر :
والمرء ما عاش
ممدود له أمد
|
|
لا ينقضى العمر
حتّى ينقضى الأثر
|
وأراد به الأجل ؛
والحديث ظاهر فى تأخير الأجل ، وزيادته.
سلمنا امتناع ذلك فى قتل الواحد ؛ لكنه غير ممتنع فى حق جماعة لا
يتصور فى العادة اخترامهم معا من غير سبب ، بتقدير عدم قتلهم. ولو قيل بوجوب
اخترامهم / معا
__________________
بتقدير عدم
الأسباب العامة المهلكة ؛ لكان ذلك من خرق العوائد فى غير جهة الإعجاز ، وفيه ما
يوجب إبطال المعجزة ؛ وهو ممتنع.
وإن سلمنا امتناع
ذلك مطلقا ؛ ولكن ما المانع من القول بوجوب الموت بتقدير عدم القتل؟ كما قاله أبو
الهذيل. ولو لا ذلك ؛ لكان العلم بانقضاء أجله عند قتله جهلا ؛ وهو محال.
وإن سلمنا امتناع
القول بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل ، وامتناع وجوب الموت ؛ ولكن ما المانع من
جواز الموت والبقاء ، كما قاله الباقون من الأوائل منهم؟ ، حتى لا يخرج كل واحد عن
كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ.
والجواب :
(أما) ما ذكروه من الشبه العقلية ، فجوابها من وجهين :
الأول
: أن ما ذكروه غير
لازم على أصلنا ، ولا على أصلهم.
أما
على أصلنا : فلما علم أن زهوق
نفس المقتول ، وخراب بنيته ؛ ليس مكتسبا للقاتل ؛ بل كسبه غير خارج عن محل قدرته ،
وهو فعله ، وما هو خارج عنه ؛ فهو من فعل الله ـ تعالى ـ وجناية العبد وظلمه ، ليس
بسبب كونه مفوتا للروح ؛ إذ هو غير مقدور له ؛ بل بكسبه ، وهو الفعل القائم بمحل
قدرته المقصود له على وجه يعقبه زهوق الروح بفعل الله ـ تعالى.
وأما
على أصلهم : فلجواز اشتمال فعل
القاتل ، وتسلّطه على قتل الغير بغير حق على مفسدة موجبة لقبحه ، كما هو أصلهم ، وعدم
ذلك فى إماتة الله ـ تعالى ـ له.
الثانى
: هو أن ما ذكروه
منتقض بإتلاف ما ليس بحيوان على ما سبق.
وما ذكروه من
الظواهر ؛ فظنية غير يقينية ؛ فلا يكون حجة فيما يطلب فيه اليقين.
__________________
ثم هى مؤولة ،
ومعارضة.
أما تأويل الآية
الأولى : فمن وجهين ذكرهما أهل التفسير :
الأول : أن المراد
من قوله : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ) بالنسبة إلى أعمار أقرانه.
الثانى : أن
المراد به ما يجرى فى نسخ الآجال التى الآجال مثبتة فيها ، من المحو ، والإثبات. وهو المراد من قوله ـ تعالى
ـ (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ؛ وليس هو عائد إلى ما هو معلوم لله ـ تعالى.
وأما الآية
الثانية : فقد قال أهل التفسير ، المراد من قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أى أجل الدنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ) أجل الآخرة.
ونحن لا ننكر ذلك
، وإنما ننكر ثبوت أجلين للموت ، والحياة ؛ وليس فى الآية ما يدل عليه ، والتأويل
للحديث ؛ فكتأويل الآية الأولى.
وأما
المعارضة /: فقوله ـ تعالى ـ :
(فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) . وهو صريح فى نفى التقديم ، والتأخير فى الأجل .
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) .
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) وفى القول بأن القتل قطع للأجل ؛ مخالفة هذه النصوص.
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (وَلَوْ لا أَجَلٌ
مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) .
ووجه الاحتجاج به
أنه أخبر بتوقف فعل الله ـ تعالى ـ على بلوغ الأجل ، فإذا كان فعل الله متوقفا على
الأجل ، ولا يكون قاطعا له ؛ ففعل الحادث أولى.
__________________
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (وَقالَ
أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) .
ووجه الاحتجاج به
، أن منهم من مات حتف أنفه ، ومنهم من قتل ، وقد قررهم البارى ـ تعالى ـ على
إخبارهم بلوغ آجالهم ، ولم ينكر عليهم ؛ فدل على أن ما قالوه حق ، ولو كان القتل
قاطعا للأجل ؛ لما كانوا صادقين على الإطلاق.
ولا يخفى أن ما
ذكرناه من النصوص أصرح وأدل ، على الغرض مما ذكروه ؛ فكان العمل بها أولى.
وعلى ما حققناه من
وجوب وقوع المعلوم على ما علمه الله ـ تعالى ـ يمتنع بتقدير عدم القتل ، إذا كان الله ـ تعالى ـ قد علم انقضاء الأجل فى ذلك الوقت بصفة القتل ، وإلا كان
العلم جهلا ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.
وعلى هذا فيمتنع
التفريع عليه بوجوب الموت ، أو بجوازه ، وجواز الحياة. وسواء كان المقدر أجله بالقتل واحدا ، أو أكثر ،
وبه اندفاع ما ذكروه من باقى التشكيكات.
ثم يلزم القائل
بوجوب الموت بتقدير عدم القتل ، أن يكون الذابح لشاة الغير دون إذنه ، غير متعد ،
ولا جان فى فعله ؛ بل محسنا ؛ فإنه لو لا ذبحه لها لماتت ، وفاتت مصلحتها على
مالكها.
وكذلك أيضا يلزم
امتناع الجزم بقبح ذبحه على أصل القائل بجواز الموت دون الوجوب ؛ لما ذكرناه من
وجوب رعاية المصلحة على أصلهم.
فلئن
قالوا : إنما قبح ذبح
الشاة دون إذن المالك ؛ لتضرر المالك بتسلطه على إتلاف ماله دون رضاه ، ولا يمتنع أن يكون ما
فيه الصلاح من وجه قبيحا من جهة ما فيه من المفسدة.
__________________
فنقول : إنما يكون ذلك قبيحا ، أن لو لزم منه مفسدة على أصلهم ،
وإنما يكون ما ذكروه من التسلط مفسدة ـ أن لو لم تحصل به مصلحة للمالك تفوت بتقدير
عدم الذبح ، وإذا كان الموت أيضا لازما بتقدير عدم الذبح فبالذبح / تحصل المصلحة ،
وبتقدير عدمه تفوت ، ومثل ذلك لا يعدّ مفسدة ، ولا قبيحا. وإن كان دون إذن المالك
وهذا كما لو رأى شاة الغير مشرفة على الهلاك من حريق ، أو غرق ، أو وقوع فى مهلكة
؛ فأخذ فى تخليصها ، والتصرف فيها بما ينجو به من الهلاك دون إذن المالك ؛ فإن
فعله يكون حسنا ؛ لما فيه من تحصيل المصلحة للمالك الفائتة بتقدير عدم تصرفه ؛
فكذلك فيما نحن فيه.
«المسألة الثانية عشرة»
«فى معنى الرزق ، واختلاف الناس فيه»
ولا خلاف بين
الأمة أن الرزق يستدعى رازقا ، ومرزوقا.
وإنما الخلاف
بينهم فى معنى الرزق ، ومن هو الرازق.
فأما الرزق :
فقد أجمعت
المعتزلة : على أنه لا يكون حراما.
ثم اختلفوا فى حده
:
فقال الجبائى : إن
الرزق هو الملك. وسواء كان أنتفع به ، أم لا؟ ويبطل بالحوادث بجملتها ؛ فإنها
مملوكة لله ـ تعالى ـ وليست رزقا له. ويبطل بالبهائم : فإنها مرزوقة ؛ ولها رزق
بالإجماع. وبدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ومع ذلك لا ملك لها بالإجماع.
فإن فسر الملك
بالقدرة الحسية ، على ما هو الإشعار اللغوى ؛ فيلزمه أن يكون الحرام رزقا للقادر
عليه حسا ؛ وهو خلاف إجماع المعتزلة.
وقال أبو هاشم :
الرزق كل ملك يتصور الانتفاع به من مالكه ، وهو وإن خرج عنه النقض بملك الله ـ تعالى
ـ إلا أنه منتقض بأرزاق البهائم على ما تقرر.
وقال أبو عبد الله
البصرى : الرزق كل ما للحى الانتفاع به ، من غير تعد فيه ، ولم
يلتفت فى التحديد إلى الملك ؛ لإدراج أرزاق البهائم فيه ؛ وهو باطل أيضا ، بما
تأكله السباع من المواشى ؛ فإنه يجوز لمالكها منع السباع من أكلها شرعا بالإجماع ؛
بل
__________________
وكذلك غير المالك
؛ لحفظ أرواح المواشى ، والملك المعصوم على مالكه.
وعند هذا : فإما
أن يقال : بأن ما أكله السبع يكون رزقا له ، أو ليس رزقا له.
فإن كان الأول :
فهو خلاف ما أجمعت المعتزلة عليه ، من أن الممنوع عن الشيء شرعا لا يكون ذلك الشيء
رزقا له.
وإن كان الثانى :
فقد انتقض الحد ؛ حيث وجد ولا محدود.
والّذي صار إليه
متأخروا المعتزلة ـ وهو اختيار صاحب المغنى ـ أن الرزق هو كل ما للحى الانتفاع به ، ولا يجوز منعه
منه.
وهو منتقض بالحشيش
، والكلأ فى الموات ؛ فإنه رزق للبهائم بإجماع منهم. ومع ذلك يجوز منعهم عنه
بإحياء الموات. وينتقض أيضا بالملك المباح / الّذي لمالكه الانتفاع به ؛ فإنه رزق له بإجماع منهم مع أن للرب
ـ تعالى ـ منعه من الانتفاع به.
إما بأن يفوته
عليه ، أو بإخراج المالك بالمرض ، أو بسبب آخر عن التمكن من الانتفاع به ؛ وفيه
وجود المحدود دون حده.
والّذي عليه معول
أهل الحق من الأشاعرة : أن الرزق كل ما انتفع به حىّ ، وسواء كان بالتعدى ، أو
بغيره. مباحا ، أو حراما ، مملوكا ، أو غير مملوك.
وربما ذهب بعض
أصحابنا إلى أن الرزق هو ما تتربى به الحيوانات من الأغذية ، والأشربة لا غير.
__________________
والمذهب هو الأول
؛ فإن الإطلاق من أهل العرف سائغ ذائع ، بأن ما انتفع به الحيوان ؛ فهو رزقه ، وأن
ما لم ينتفع به ليس رزقا له ، وإن كان مملوكا له ؛ بل رزق من انتقل إليه ، وانتفع
به.
والنزاع فى هذه
المسألة ليس فى غير التسمية ؛ فكان صحة الإطلاق كافيا فيه ؛ فإنه لو كان الرزق هو
المنتفع به ؛ لكان ما أخذه الغاصب وانتفع به ، رزقا. ولو كان رزقا له ؛ لما كان
ممنوعا من الانتفاع به ، ولا ملوما عليه ، ولا معاقبا.
ويدل على أنه ليس
رزقا له النص ، والإطلاق.
أما
النص : فقوله ـ تعالى ـ :
(وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أثنى على المنفق من رزقه ؛ وذلك غير متحقق فى حق الغاصب
بما ينتفع به ؛ فلا يكون رزقا له.
وأيضا قوله ـ تعالى
ـ : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ) . أمر بالانفاق من الرزق ، والغاصب منهى عن الإنفاق مما
اغتصبه ؛ فدل على أنه ليس رزقا له.
وأما
الإطلاق : فهو أن من أخذ
مال غيره ، وأحال بينه وبين ملكه ، يصح أن يقال أحال بينه وبين رزقه. وإن لم يكن
قد انتفع به ؛ فدل على أن مسمى الرزق غير المنتفع به ؛ وهو الرزق.
والجواب :
أما الحل وانتفاء
اللوم ، والعقاب ؛ فغير داخل فى مسمى الرزق ، حتى إذا لم يكن الانتفاع حلالا ، أو
كان ملوما معاقبا عليه ، لا يكون رزقا ؛ بل مسمى الرزق : هو المنتفع به لا غير ،
وهو متحقق فى حق الغاصب ، واللوم والعقاب والحرمة ، إنما كان لازما فى حق الغاصب
من مخالفة نهى الشرع ، وتفويت ملك المعصوم عليه دون إذنه ، ولا منافاة بين
الأمرين.
وأما ما ذكروه من
الآيتين : فإنما يصح الاحتجاج بهما أن لو اشتملتا على صيغة العموم ؛ ونحن لا نسلم
أن العموم له صيغة.
__________________
وإن سلمنا أن
للعموم صيغة ؛ ولكن لا نسلم وجودها فى الآيتين المذكورتين ؛ إذ المذكور فيهما حرف
من ؛ وهى للتبعيض لا للعموم.
وإن سلمنا صيغة
العموم فيهما ؛ ولكن لا نسلم أن ما اغتصب الغاصب ؛ يكون رزقا له ، قبل الانتفاع به
حتى يصح منه الإنفاق ؛ وأنه يصير رزقا له بالانتفاع.
وعند ذلك : يتعذر
الإنفاق منه ؛ فلا يكون الأمر بالانتفاع ، والتحريض على الإنفاق من الرزق تناولا
له.
وإن سلمنا إمكان
تناول الآيتين له ؛ ولكنه مخصوص ، بأرزاق البهائم والأطفال ، والعام بعد التخصيص
لا يبقى حجة لتردده بين أقل الجمع ، وما عدا محل التخصيص.
وبتقدير أن يكون
حجة ؛ ففى أقل الجمع ؛ لتيقنه. وبتقدير أن يكون حجة فيما عدا محل التخصيص ؛ فيجب
تخصيصه ، لما ذكرناه من النهى عن تفويت ملك المالك المعصوم عليه.
وأما إطلاق الرزق
على الملك الّذي لم ينتفع به ؛ فليس حقيقة لما أسلفناه ، وإنما هو بطريق المجاز من
حيث أنه بحال ينتفع به فى الغالب ، ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه من الإطلاق.
كيف : وأنه يلزم
مما ذكروه أن يكون من اغتذى بالحرام من أول عمره إلى منتهاه كأولاد القصاب ، أن
يكون قد عاش ومات ، ولم يرزقه الله رزقا ؛ وهو خلاف إجماع المسلمين ، قبل ظهور
المعتزلة.
وأما الرازق :
فقد اتفقت
المعتزلة : على أن الحرام لا يكون رزقا من الله ـ تعالى ـ وما كان حلالا مباحا ،
فما أتى العبد منه بنصب ، وتعب ؛ فالعبد هو الرازق لنفسه والله ـ تعالى ـ ليس
برازق له ذلك الرزق. وما أتاه منه بغير فعله ؛ فهو من الله ، والرازق له ذلك الرزق
هو الله ـ تعالى.
ثم منه ما هو واجب
على الله ـ تعالى ـ : وهو ما فيه صلاح المكلفين.
ومنه ما يجب المنع
عنه : وهو ما فيه فساد المكلفين.
ومنه ما يجوز
الرزق به ، والمنع منه : وهو ما استوى فيه صلاح المكلف وفساده.
وأما أهل الحق من
الأشاعرة وغيرهم : فقد أجمعوا أنه لا رازق إلا الله ؛ إذ الرزق مخلوق ، ولا خالق
غير الله ـ كما يأتى تقريره فى الأصل الثانى من هذا النوع ـ وأنه لا يجب عليه أن يرزق أحدا ؛ لتعاليه وتقديسه ، عن
أن يجب عليه شيء على ما سبق تقريره ؛ بل إن رزق فبفضله ، وإن منع فبعد له ، والعبد ليس له غير
الكسب ـ على ما يأتى تحقيقه فى خلق الأعمال ، ثم ما يكسبه العبد من الرزق : إن كان منهيا عنه ؛ فمحرم
، وإلا فمباح. وليس اكتساب الرزق وطلبه من المحرمات ، إذا تجنب فيه ارتكاب
المنهيات ، خلافا لشذوذ من العوام ـ لا يؤبه بهم ـ / فى ظنهم أن اكتساب الرزق
وطلبه من المحرمات.
ويدل على إباحة
ذلك نصوص الكتاب ، وإجماع الأمة.
أما نصوص الكتاب :
فقوله ـ تعالى ـ :
(فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) . وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) . وقوله ـ تعالى ـ (الَّذِي سَخَّرَ
لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) وقوله ـ تعالى ـ (وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) . وقوله ـ تعالى ـ (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
مِنْكُمْ) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جواز طلب الرزق ،
واكتسابه.
وأما
الإجماع : فهو أن الأمة من
الصحابة ، ومن بعدهم مجمعون على جواز اكتساب الرزق ، وأنه ما زال الناس يكتسبون ،
ويجتهدون فى طلب الأرزاق برا وبحرا ، فى زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، والصحابة
، ومن بعدهم ، ولم يزل ذلك مألوفا معروفا من النبيين ، والأولياء ، والصالحين ، من
غير نكير.
__________________
ولو كان ذلك محرما
؛ لما ساغ من النبي عليهالسلام ، ومن الصحابة ، وأهل الحل والعقد من بعدهم ، أن يتواطئوا
على الخطأ ؛ إذ هو متعذر عادة ، وممتنع شرعا.
فإن قيل : طلب
الرزق ، والاجتهاد فى اكتسابه ، يلزم منه أمر محرم ؛ فكان محرما.
وبيان ذلك : هو أن
طلب الرزق ، يشعر بعدم الإيمان بالله ـ تعالى ـ وقلة الثقة فيما أخبر به ؛ وذلك حرام ؛ فكان طلب الرزق حراما.
وبيان لزوم قلة
الثقة بخبره ، بتقدير طلب الرزق : هو أن قوله ـ تعالى ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) . وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) . وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ) . وقوله عليه الصلاة والسلام : «لو اتكلتم على الله حق
اتكاله لكنتم كالطير ، تغدوا خماصا ، وتروح بطانا» .
وذلك كله يدل على
أن الله ـ تعالى ـ متكفل بأرزاق عباده بخبره ؛ فالطلب لما أخبر بوقوعه ، يدل على
قلة الثقة بخبره ؛ وهو حرام.
وأيضا : فإن
الأرزاق مشوبة بالمحرمات ، وبالسعى لا يأمن من مصادفة المحرم بالتصرف فيه ، وأكله
؛ وذلك حرام ، وإذا وقع الاشتباه والتردد بين الحرام ، وما ليس بحرام ؛ فالتجنب ،
والكف ؛ واجب. كما لو اختلطت ميتة بمذكاة ، وأخت من الرضاع بأجنبية.
والجواب :
أنا لا نسلم أن
طلب الرزق يشعر بعدم الإيمان ، وقلة الثقة فيما أخبر به الله ـ تعالى ـ / من الرزق
لعباده ، وإلا كان ذلك موجبا للقدح فيمن سلف من الأنبياء ، وغيرهم من
__________________
الأولياء ؛ فإن
أكثرهم كانوا محترفين مكتسبين بأسباب مختلفة ، حتى أن داود كان يكتسب بالدروع ،
وإدريس بالخياطة ، وموسى بالرعاية ، والنبي عليه الصلاة والسلام بالتجارة قبل
المبعث ، وعلى هذا كان الأولياء من السلف ، والخلف.
ثم لو كان كما
ذكروه ؛ لحرم النظر فى معرفة الله ـ تعالى ـ والسعى فى الاتيان بالعبادات ، وتخليص
النفس من الهلاك ، عند الوقوع فى المهالك ، وأن يمد أحد يده إلى ما حضر بين يديه
من الطعام لتناوله ، وأن يتصرف فى شيء من مهمات الدنيا ، والآخرة ؛ لأن ذلك يدل
على عدم الإيمان ، وقلة الثقة بالله ـ تعالى. فيما ثبت من محتوم قضائه وقدره ، وأن
كل حادث يحدث بإحداثه ؛ وأنه لا دافع ، ولا مانع لما قضاه ، وأمضاه.
فلئن
قالوا : حيث قيل بانتفاء
الحرمة عن السعى ؛ كان السعى مأمورا به ، ومأذونا فيه.
قلنا : واكتساب الرزق أيضا ، مأذون فيه ، بدليل ما ذكرناه من
نصوص الكتاب ، وإجماع الأمة ؛ فإن ذلك وإن لم يدل على الوجوب ، فأدنى درجاته الإذن
، والإباحة.
وما قيل من أن
الأرزاق مشوبة بالمحرمات.
قلنا
: الأصل فى الكل
الإباحة ، واحتمال مخالطة المحرم لكل واحد من الأموال ، وإن كان قائما ، إلا أنه
بعيد. وبتقدير أن يكون مشكوكا فيه ؛ فلا يكون دافعا للأصل بخلاف ما ذكروه من الأمثلة
؛ إذ ليس الأصل هو الحل فى الكل ، والاجتهاد غير جار فيها ؛ لعدم العلامة المبيحة
، حتى إنه لو انقدح احتمال وجود العلامة الدالة على الإباحة كما فى الميتة
والمذكاة.
قلنا : منع بالإباحة على وجه لنا فى المذهب. ثم يلزم من ذلك
تحريم تناول الأغذية مطلقا. كما قيل بتحريم الاكتساب.
ولا يخفى ما فى
ذلك من الوقوع فى المحرم ، وهو إلقاء النفس فى التهلكة ؛ وهو خلاف إجماع الأمة ،
وخلاف قوله ـ تعالى ـ (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) .
__________________
المسألة الثالثة عشرة»
«فى السعر ، والغلاء ، والرخص ، وأنه من الله ـ تعالى»
أما
السّعر : فهو عبارة عن
تقدير أثمان الأشياء. وارتفاعه غلاء ، وانحطاطه رخص. وهل هو من الله ـ تعالى ـ أو
من العبيد؟
قالت
المعتزلة : إنه مستند إلى أفعال العباد . بتواضعهم على تقدير / أثمان الأشياء ، وتراضيهم بذلك فى
كل وقت على حسبه ، وأن ارتفاع السعر ، وانحطاطه ؛ غير خارج عن أفعالهم.
ولهذا يصح أن يقال
لمن حاصر بلدة ، وضيق على أهلها مدة ، ومنعهم من الامتيار بحيث قلت
عليهم الأشياء ، وتوفرت رغباتهم فيها حتى ارتفعت الأسعار : إنه أوجب الغلاء ، ورفع
السعر ، وأنه فى وقت الغلاء ، وارتفاع الأسعار ، إذا فتح أهراءه ، وأفاض ما فيها
على الناس ، ومكنهم من الامتيار منها بحيث انحط السعر ؛ فإنه يقال : أوجب بفعله ذلك الرخص ، وانحطاط السعر ، حتى إنه
يمدح على ذلك ، ويذم على الأول. ولو لم يكن من فعله ؛ لما كان كذلك.
ومذهب
أهل الحق : أن ذلك كله من الله ـ تعالى ـ ومستند إلى فعله ، وتقديره ،
وقضائه ، وقدره ؛ لأنه أمر حادث ، وكل حادث ، فلا يكون إلا بإحداث الله ـ تعالى ـ وخلقه
، وإرادته على ما سيأتى بعد . غير أن ذلك قد يكون بأسباب سماوية ظاهرة غير مكتسبة
للعباد : كانقطاع الغيث ، وجدب الأرض ، وقلة الزروع وهلاكها ؛ بحيث تتوفر الرغبات
على شر المطعوم ؛ لقلته ، وشدة الاحتياج إليه ؛ فيرتفع سعره ، على حسب قلته ،
وتوفر الدواعى عليه ، والرخص بأسباب أخرى مقابلة لهذه الأسباب.
__________________
وقد يكون ذلك
بأسباب مكتسبة للعباد كما ذكروه من الأمثلة ، غير أنه لا معنى لاكتسابهم أنهم
الفاعلون لتلك الأشياء ، والخالقون لها ؛ بل الخالق هو الله ـ تعالى ـ ، والقدرة
الحادثة ؛ فغير مؤثرة فى الخلق على ما سيأتى تعريفه .
وقد يكون ذلك من
اجتماع الأمرين.
وقد يكون بأسباب سماوية مخفية غير ظاهرة لنا ؛ وذلك كما نشاهده من الرخص
تارة ، مع وجود أسباب ظاهرة مقتضية للغلاء . ومن الغلاء تارة ، مع وجود الأسباب المقتضية للرخص.
وأما ما ذكروه من
إضافة الغلاء ، والرخص إلى فعل السلطان ؛ فلا يدل على أنه من فعله ، وخلقه ؛ فإنه
كما يصح أن يقال : أوجب الرخص ، والغلاء ، يصح أن يقال : أحيا الناس ، وأماتهم. مع
أن الإحياء ، والإماتة غير مقدورة له بالإجماع ؛ إذ هو خارج عن محل قدرته ، وما
وقع فيه الخلاف أنه مخلوق لله ، أو للعبد ؛ فإنما هو الفعل القائم بمحل قدرة العبد
؛ بل إضافة ذلك إلى فعله ، إنما كان بطريق المجاز ، من حيث أن الغلاء ، والرخص وقع
بحكم جرى العادة ملازما / لفعله المكتسب له ، القائم بمحل قدرته ، وإن كان حادثا
بخلق الله ـ تعالى ـ له ، كما يضاف إليه الموت ، والإحياء ، والله ولى التوفيق.
__________________
«الأصل الثانى»
فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ، ولا مؤثر فى حدوث الحوادث
سواه
ويشتمل على : مقدمة ، ومقصد ، وفروع
أما
المقدمة : ففى بيان معنى
الخلق ، والمخلوق.
أما
الخلق : فقد يطلق فى اللغة
ويراد به إيجاد الشيء ، واختراعه لا من شيء.
وقد يراد به الهم
بالشيء ، والعزم على فعله. ومنه قول الشاعر.
فلأنت تفرى ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثمّ لا يفرى
|
والمراد من قوله :
فلأنت تفرى : أى تمضى ، ما خلقت : أى هممت به.
ومنه قول الحجاج :
إذا هممت أمضيت ، وإذا خلقت فريت.
وقد يراد به
التقدير بمعنى الظن ، والحسبان ، ومنه يقال : خلقت زيدا فى الدار : أى قدرته فيها
، ومعنى قدرته : ظننته.
وقد يراد به
التقدير بمعنى المساواة بين شيئين. ومنه يقال للحذّائين الذين يقدرون بعض طاقات
النعل ببعض ، ويسدون بينها خالقين. ومنه يقال : خلقت الأديم : أى قدرته. وفى معنى
هذا إطلاق الخلق على إيجاد شيء على مقدار شيء آخر سبق له الوجود.
وقد يطلق الخلق :
بمعنى الكذب ، والافتراء ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) : أى أكاذيب الأولين. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) : أى تكذبون.
وعلى هذا : فإضافة
الخلق إلى الله ـ تعالى ـ بمعنى الاختراع والإيجاد ، وبمعنى القصد إلى الشيء ،
وبمعنى التسوية صحيح ، دون الخلق بمعنى الظن والكذب ، ويكون مشاركا للعباد فى
الاتصاف بالخلق بمعنى القصد إلى الشيء. وبمعنى التقدير والتسوية دون الخلق بمعنى
الإيجاد ، والاختراع ؛ إذ هو المنفرد به دون غيره كما يأتى .
__________________
وإذا عرف مدلول
اسم الخلق ، واختلاف اعتباراته ؛ فقد اختلف المتكلمون فيما هو جهة الحقيقة منه.
فذهب أئمتنا ،
وأكثر المعتزلة : إلى أنه حقيقة فى الإيجاد ، والاختراع ، ومجاز فيما عداه.
وذهب
الجبائى ، وابنه (أبو هاشم) : إلى أنه حقيقة فى التقدير بمعنى الظن ، والحسبان ،
ثم بنيا على هذا الأصل أن الرب ـ تعالى ـ لا يوصف بكونه خالقا حقيقة ؛ لاستحالة
الظن والحسبان ، الّذي هو مدلول اسم الخلق حقيقة فى حقه ، وإن كان موجدا ومخترعا
حقيقة .
والحق
فى هذه المسألة : أن إطلاق اسم الخلق بإزاء ما ذكرناه من الاعتبارات / واقع ، وكونه حقيقة فى
البعض مجاز فى البعض ، أو أنه مشترك : أى (أنه ) حقيقة فى الكل ؛ فمن جملة الوضع ، والوضع على أصول أرباب
الأصول دون من لا اعتبار له من الشذوذ ـ لا يثبت بغير الدليل القاطع : وهو النقل
المتواتر عن أرباب الوضع ، أو السمع القاطع من جهة الشرع ، ولم يوجد شيء من ذلك.
وإن كان الأشبه ، والأغلب على الظن ما ذهب إليه أهل الحق من أئمتنا ؛ إذ هو الشائع
، الزائع ، المتبادر إلى الأفهام من إطلاق اسم الخلق دون ما عداه من الاعتبارات
علي ما لا يخفى.
ثم الخلق بمعنى
الإيجاد ، والاختراع ، هل هو نفس المخلوق ، أو غيره؟ اختلفوا فيه :
فذهبت
الأئمة من المتكلمين ، وأهل الحق : إلى أن الخلق هو نفس المخلوق ، والإيجاد هو نفس الموجود ،
والإحداث نفس المحدث.
ثم بنوا على هذا
الأصل رسم الخلق بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة. وربما عبروا عنه بأنه
المقدور الموجود بالقدرة القديمة ، الخارج عن محل القدرة. وذهبت الكرامية إلى أن :
الخلق والإحداث صفات حادثة قائمة بذات الرب ـ تعالى ـ ؛ وهو باطل ؛ بما سبق من
بيان امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ.
__________________
وأما
أهل الحق : فقد احتجوا بالنص
، والإطلاق ، والمعقول.
أما
النص : فقوله ـ تعالى ـ (هذا خَلْقُ اللهِ) . وأراد به المخلوق.
وأما
الإطلاق : فالعرف شائع ذائع
بقولهم : انظر إلى خلق الله. وهذا خلق الله. إشارة إلى المخلوق.
وأما
المعقول : فهو أن الخلق لو
كان صفة زائدة على نفس المخلوق ، لم يخل : إما أن يكون وجودا ، أو لا وجود.
لا جائز أن يكون
لا وجود. فإن نقيض الخلق لا خلق. ولا خلق عدم ؛ لاتصاف المعدوم المستحيل به ؛ فكان
الخلق وجودا. وإذا كان وجودا : فإما قديم ، أو حادث.
لا جائز أن يكون
قديما : وإلا لزم قدم المخلوق ؛ ضرورة استحالة الخلق ، ولا مخلوق.
وإن كان حادثا :
استدعى خلقا آخر ، والكلام فيه ، كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ، أو دور ممتنع.
فإن
قيل : إذا كان الخلق هو
نفس إيجاد الشيء ، واختراعه ؛ فنحن نعقل التفرقة بين وجود الشيء فى نفسه ، وإيجاده
بإيجاد غيره له ، وبيانه
من وجهين :
الأول
: أنا قد نعقل وجود
الشيء فى نفسه ، ونجهل إيجاده / بالغير حتى نعرفه بالدليل ؛ والمعلوم غير ما ليس
بمعلوم.
الثانى
: أنه يصح أن يقال :
هذا موجود بإيجاد الغير له ؛ فنصف الوجود بالإيجاد ، والصفة غير الموصوف. وإذا كان
كذلك ؛ فلا يكون الخلق هو المخلوق ، ولا الإيجاد هو نفس الموجود.
وأما إطلاق الخلق
بإزاء المخلوق : فلا يدل على أن الخلق فى الحقيقة هو نفس المخلوق ؛ بل إنما ذلك
تعبرة باسم الخلق عن المخلوق بطريق التجوز بكونه سببا له ، أو ملازما له كما فى
إطلاق القدرة على المقدور فى قولهم : انظر إلى قدرة الله : أى مقدوره ، ودليل
التأويل : ما ذكرناه من الدليل على كون الخلق حقيقة زائدة على المخلوق.
__________________
وما قيل من
المعقول ؛ فهو لازم على القائل به فى تعلق القدرة بالمقدور ، والعلم بالمعلوم. مع
أن التعلق زائد على القدرة ، والمقدور ، والعلم ، والمعلوم.
والجواب :
قولهم : إنا ندرك
التفرقة بين الإيجاد والموجود ، والخلق والمخلوق.
قلنا : لفظا ، أو
معنى. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ بل التفرقة إنما هى بين الإيجاد ، والموجد.
والخلق ، والخالق . أما بين الخلق ، والمخلوق ، والإيجاد ، والموجود ؛ فلا.
وبهذا يندفع ما ذكروه من الوجه الأول.
وأما الوجه الثانى
: فمندفع أيضا ؛ إذ لا مانع من وصف الشيء بنفسه ، وإضافته إلى نفسه عند اختلاف
اللفظ ، كما تقدم تقريره .
قولهم : إن
التعبرة بالخلق عن المخلوق مجاز ؛ ليس كذلك ؛ إذ الأصل فى الإطلاق الحقيقة ، ولا
يلزم من التجوز فيما ذكروه من القدرة والمقدور ، التجوز فيما نحن فيه.
كيف وأن التجوز
بالخلق عن المخلوق ، يستدعى المغايرة بين مسمييهما ؛ وهو ممتنع بما بيناه من
المعقول.
وأما تعلق القدرة
، بالمقدور ، والعلم ، بالمعلوم ؛ فقد بينا أيضا أنه لا يزيد على كون المقدور
موجودا بالقدرة ، وكون المعلوم ؛ معلوما بالعلم ، وحققنا ذلك بما فيه كفاية.
__________________
وأما المقصد :
فهو أن جميع
الممكنات مقدورة للرب ـ تعالى ـ من غير واسطة ، وأن
حدوثها ليس إلا
عنه. هذا هو مذهب أهل الحق.
خلافا للفلاسفة ،
والطبائعيين ، وأصحاب التولد ، والصابئة ، والمنجمين ، والثنوية ، والمعتزلة ،
والشيعة على ما سيأتى تفصيل مذهب كل فريق فى موضعه .
وقد احتج الأصحاب
بمسالك :
الأول
: أنه لو كان شيء
سوى الله ـ تعالى ـ / موجدا لشيء من الممكنات الحادثة ؛ لكان علة لكل حادث ،
واللازم ممتنع ؛ والملزوم مثله.
بيان الشرطية : هو
أنه إذا كان شيء علة لوجود بعض الحوادث ؛ فالمعلول من كل حادث وجوده ، ومسمى
الوجود متحد فى جميع الحوادث ، فما كان علة له فى البعض ، كان علة له فى الباقى ؛
ضرورة اتحاد المعلول.
وبيان امتناع
اللازم : هو أن كل من خالف فى هذه المسألة معترف بأن ما أوجد بعض الحوادث ليس علة
لكل حادث ، على ما سيأتى تحقيقه فى مواضعه بعد.
ولقائل أن يقول :
هذا إنما يلزم أن
لو كان مسمى الوجود مشتركا بين الحوادث ؛ وليس كذلك على ما سلف.
وإن سلمنا أن مسمى
الوجود مشترك ، فما المانع من أن يكون تأثير العلة فى وجود بعض الحوادث مشروطا بما
به التعين؟ ، وما به التعين غير مشترك ؛ فلا يلزم الاشتراك فى المعلومية لتلك
العلة الواحدة.
وإن سلمنا عدم
الافتراق ؛ ولكن غاية ما فيه إلزام الخصم ، بإبطال الملزوم ؛ ضرورة تصويبه فى
اللازم ، وليس ذلك أولى من التخطئة فى اللازم ؛ ضرورة تصويبه فى الملزوم.
__________________
المسلك الثانى :
أنه قد ثبت فى
مسألة إثبات واجب الوجود انتهاء جميع الممكنات فى الوجود إليه ، ضرورة قطع التسلسل
، والدور الممتنع ، وبينا أن إيجاده لما يوجده من الممكنات ، لا يكون إلا بالقدرة والاختيار ؛ فصحة كون ذلك الحادث مقدورا لله ـ
تعالى ـ دون الواجب والممتنع ، حكم لا بد له من علة ، وعلته إنما هى الإمكان ،
والإمكان مشترك بين جميع الممكنات ، ويلزم من الاشتراك فى العلة ، الاشتراك فى
المعلول ؛ وهو صحة المقدورية ، ويلزم من كون جميع الممكنات مقدورة للرب ـ تعالى ـ امتناع
إسناد شيء من الحوادث إلي غير الله ـ تعالى ـ وإلا لزم عند اجتماع المؤثرين ، ما
ألزمناه من المحال فى مسألة التوحيد ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
وإن سلمنا صحة
المقدورية للرب ـ تعالى ـ بالنسبة إلى بعض الممكنات ، غير أنه لا معنى لصحة
المقدورية ، غير إمكان المقدورية ، والإمكان عدم ؛ والعدم لا يكون معللا على ما
سبق فى مسألة الرؤية ، ولا جواب له إلا بالعود إلى تعليل المقدورية نفسها.
وإن سلمنا إمكان
التعليل بصحة المقدورية ؛ ولكن لا نسلم أن الإمكان صالح للتعليل ؛ لكونه عدما كما
تقدم بيانه فى الرؤية.
وإن سلمنا إمكان
التعليل / بالإمكان ؛ ولكن إنما يلزم التعليل به أن لو لم يوجد غيره.
ولا نسلم أنه لا
متحقق سواه ، والبحث والسبر فلا يدل على عدم ما سواه يقينا على ما أسلفناه فى
تعريف أقسام الدليل .
وإن سلمنا دلالته
على عدم ما سواه ؛ ولكنه معارض بما يدل على وجود غيره ؛ وذلك لأن ما وقع الاتفاق
على كونه مقدورا ـ للرب ـ تعالى ـ وإن كان مشاركا لباقى الحوادث فى الإمكان ؛
فمفارق لها بخصوص ذاته وتعينه.
__________________
وعند ذلك : فلا
مانع من القول بأن خصوص تعينه هو العلة لصحة المقدورية ، أو أن العلة مجموع
الأمرين ، أو أن العلة خصوص التعين ، والإمكان شرط ، أو أن الإمكان شرط علة ، وخصوص التعين جزء شرط. وعلى كل تقدير فيمتنع تعدى الحكم
إلى غيره ضرورة عدم الاشتراك فيما به التعين.
وإن قيل بأن
الإمكان كان فى التصحيح ؛ فدعوى مجردة عن الدليل ، وليس ذلك أولى من القول بأن
خصوص التعين كاف ، وأن ذلك لا يتم إلا بالجموع.
وإن سلمنا دلالة
ما ذكرتموه على أن الإمكان هو العلة المصححة ؛ ولكن لا يلزم من الاشتراك فيه بين
الحوادث ، الاشتراك فى المقدورية لله ـ تعالى ـ وإلا للزم من كون بعض الحوادث ـ وهى أفعال العباد المختارين ـ مقدورة
لهم ، أن تكون صحة المقدورية للعبد أيضا معللة بالإمكان ؛ لاستحالة تعلق القدرة
الحادثة بالواجب والممتنع ، كما ذكرتموه ، ولا بد لها من علة مصححة ، ولا مصحح غير
الإمكان ، وهو مشترك بين مقدور العبد ، وما عداه من الأجسام ، والأعراض الخارجة عن
محل قدرة العبد ، وما لزم من ذلك أن تكون الأجسام والأعراض الخارجة عن محل قدرة
العبد مقدورة له ، فكذلك فيما نحن فيه.
وما وقع به
الافتراق من تأثير القدرة القديمة فى مقدورها دون القدرة الحادثة ؛ فخارج عن محل
الجمع ؛ فإن القدرة الحادثة ، وإن لم تؤثر فى مقدورها فيصح أن يقال بأن الفعل
القائم بمحلها هو مقدور لها دون غيره ، وصحة هذه المقدورية ، تستدعى مصححا كما فى
المقدورية بجهة التأثير.
وربما وردت عليه
أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها نبهنا عليها فى مسألة الرؤية ؛ فلا حاجة إلى ذكرها.
المسلك الثالث :
هو أنه قد ثبت أن
الإمكان صفة مشتركة بين الممكنات ، وأنه هو المحوج إلى المؤثر.
__________________
وعند ذلك : فإما
أن يكون الإمكان محوجا إلى مؤثر معين ، أو غير / معين.
لا جائز أن يكون
غير معين ؛ لأن ما لا يكون معينا فى نفسه ، لا يكون موجودا ، وما لا يكون موجودا ،
لا يكون علة لوجود غيره.
وإن كان معينا :
فذلك المعين : إما أن يكون ممكنا ، أو واجبا.
لا جائز أن يكون
ممكنا : وإلا كان إمكان ذلك الشيء يحوجه إلى نفسه ؛ فيكون موجدا لنفسه ، وكل
ما وجد بنفسه ؛ فهو واجب ، وليس بممكن ؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان واجبا ؛
فهو المطلوب.
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن
الإمكان هو المحوج إلى المؤثر ؛ بل هو شرط الاحتياج إلى المؤثر ، ولا يلزم من
الاشتراك فى شرط التأثير الاشتراك فى المحوج إلى المؤثر.
وإن سلمنا أن
الإمكان هو المحوج إلى المؤثر ، وأن المؤثر فى الوجود لا بد وأن يكون معينا ؛ ولكن
معينا واحدا ، لإيجاد جميع الممكنات ، أو لكل ممكن معينا بحسبه ، الأول ؛ ممنوع . والثانى ؛ مسلم .
وعند ذلك : فلا
يلزم من كون الإمكان محوجا فى كل حادث إلى معين يخصه ، أن يكون كل معين بتقدير أن
يكون ممكنا موجدا لنفسه ؛ بل جاز أن يكون وجوده بإيجاد غيره له ، وإن كان هو موجدا
لغيره.
المسلك الرابع.
هو أنه قد ثبت أن
البارى ـ تعالى ـ قادر : إما بذاته ، أو بواسطة قيام القدرة بذاته ؛ فذاته مستلزمة
لكونه قادرا : إما بواسطة ، أو بغير واسطة. وعلى كلا التقديرين ؛ فنسبة ذاته إلى
جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فيلزم أن يكون قادرا على جميع الممكنات. وإذا كان
قادرا على جميع الممكنات ؛ فلو أمكن إسناد بعض الممكنات إلى غيره فى
__________________
الوجود ، فعند
اجتماع المؤثرين إما أن يوجد بأحدهما ، أو بهما ، أو لا بواحدة ، منهما ؛ والكل محال.
أما الأول : فلما
فيه من تعطيل تأثير أحدهما من غير أولوية.
وأما الثانى :
فلما سلف فى امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين.
وأما الثالث :
فلما فيه من تعطيل المؤثرين.
وهذه المحالات :
إنما لزمت من فرض وجود الحوادث بغير الله ـ تعالى ـ فيكون محالا.
ولقائل أن يقول :
ذات الرب ـ تعالى
ـ وإن كانت مستلزمة لقادريته ؛ ولكن لا نسلم أن نسبة ذاته إلى جميع الممكنات نسبة
واحدة ؛ إذ الممكنات متمايزة بذواتها ، ومختلفة بتعينها ، وما هذا شأنه ؛ فلا يلزم
أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ بالنسبة إليها متساوية ، وليس العلم بذلك من الضروريات ، وإذا كان نظريا
فلا بد له من دليل .
وإن سلمنا أن نسبة
/ ذاته إلى جميع الممكنات واحدة ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن تكون جميع
الممكنات مقدورة له ؛ فإنه لا مانع من أن يكون تعين بعض الممكنات شرطا فى تعلق
القدرة القديمة به ، أو أن تعين البعض يكون مانعا من ذلك.
المسلك الخامس :
هو أن كل ممكن فهو
قابل للوجود ، والعدم ، فلو كان مؤثرا فى وجود غيره ؛ لكان الشيء الواحد قابلا
وفاعلا معا ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
هو ضعيف أيضا ؛ إذ
هو مبنى على أن وجود الممكن زائد على ذاته حتى يصح القول بالقابلية ، والمقبولية ؛
إذ القابل يجب أن يكون غير المقبول وإلا كان الشيء قابلا
__________________
لنفسه ؛ وهو محال.
وهو غير مسلم على ما سيأتى فى مسألة المعدوم هل هو شيء أم لا؟
وإن سلمنا صحة
كونه قابلا للوجود ؛ ولكن لا نسلم الإحالة فى كونه مع ذلك مؤثرا فى وجود غيره على
ما عرف من مذهب المعتزلة من قبولية العبد للأفعال القائمة بذاته مع كونه فاعلا لها
، ومؤثرا فيها.
كيف وأنه لا معنى
للمقبولية ، والتأثير غير نسب خاصة ، وإضافة معينة ، ولا مانع من اتصاف الذات
الواحدة ـ وإن كانت بسيطة لا تركيب فيها ـ بالنسب المتعددة ، والإضافات المختلفة
كما سبق تعريفه. فكيف إذا كانت مركبة؟.
والمعتمد هاهنا أن
نقول :
قد ثبت أن الله ـ تعالى
ـ قادر بقدرة قديمة ـ على ما سبق في الصفات.
وعند ذلك : فإما
أن يكون قادرا على كل الحوادث الممكنة ، أو أنه غير قادر على بعضها.
لا جائز أن يكون غير قادر على بعضها مع كونه ممكنا فى نفسه ـ وإلا كان الرب ـ تعالى ـ عاجزا ـ بالنسبة
إلى ذلك البعض الممكن ـ والعجز على الله ـ تعالى ـ محال ؛ كما سبق تحقيقه .
وإن كان قادرا على
كل الممكنات فلا يخلو : إما أن تفتقر فى حدوثها إلى مؤثر ، أو لا تفتقر إليه .
لا جائز أن يقال
بالثانى : لما بيناه فى مسألة إثبات واجب الوجود .
وإن كانت مفتقرة
إلى المؤثر : فإما أن يكون المؤثر هو الله ـ تعالى ـ أو غيره ، أو هما معا.
__________________
فإن كان المؤثر
غير الله ـ تعالى ـ : فعند تأثيره فيها : إما أن يقال بإمكان تأثير قدرة الله ـ تعالى
ـ فيها ، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بعدم
إمكان تأثير قدرة الله ـ تعالى ـ فيها : فهو عاجز عنها ، وليست مقدورة له. وهو مع
مخالفته للفرض يوجب كون الرب ـ تعالى ـ عاجزا عن بعض / الممكنات ؛ وهو محال كما
تقدم .
وإن قيل بإمكان
تأثير القدرة القديمة فيها ، فعند اجتماع المؤثرين : إما أن يكون وجود ذلك الحادث
بهما ، أو بأحدهما ، أو لا بواحد منهما.
فإن كان لا بواحد
منهما : ففيه تعجيز الرب ـ تعالى ـ ؛ وهو محال. وإن وجد بهما : فهو محال ؛ لما
سيأتى في امتناع مخلوق بين خالقين . وإن وجد بأحدهما دون الآخر : فإن كان المعطل هو الله ؛ فقد عجز ؛ وهو على الله محال ، وإن كان المعطل غيره ؛
فهو المطلوب.
وعلى هذا : فقد
بطل أن يكون المؤثر فى الوجود مجموع المؤثرين معا ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو
المطلوب.
فإن قيل : إنما
يلزم من كونه غير قادر على بعض الممكنات ، أن يكون عاجزا أن لو أمكن أن يكون
مقدورا له. وما لا يمكن أن يكون مقدورا له فلا يقال : إنه معجوز عنه ، ولهذا :
فإنه لما كان الجمع بين الضدين غير ممكن أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ لم يوصف
الرب ـ تعالى ـ بالعجز عنه.
وإن سلمنا أنها
مقدورة للرب ـ تعالى ـ ولكن لم قلتم إنها يجب أن تكون موجودة بإيجاده؟ وما المانع
من أن تكون مقدورة له غير موجودة بقدرته؟ كما قلتم فى أفعال العبيد المختارين إنها
مقدورة لهم ، وإن كانت قدرتهم غير مؤثرة فيها ، مع كونها مقدورة له لا يوصف بالعجز
عنها إذا لم يكن هو الموجد لها : كالعبد بالنسبة إلى أفعاله المقدورة له.
__________________
وإن سلمنا أنه يجب
أن يكون مؤثرا فيها ؛ ولكن ما المانع من اجتماع مؤثرين على أثر واحد؟.
وما يذكرونه فى
امتناع مخلوق بين خالقين ؛ فسيأتى الكلام عليه أيضا .
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ ولكنه معارض بما يدل على وجود خالق
غير الله ، ودليله المعقول ، والمنقول.
أما
المعقول : فما سيأتى تحقيقه فى مذهب كل فريق من المخالفين بجهة التفصيل إن شاء
الله ـ تعالى ـ.
وأما
المنقول : فآيات من الكتاب :
الأولى
: قوله ـ تعالى ـ : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
ووجه الاستدلال به
من وجهين :
الأول
: لفظ الآية صريح فى
إثبات خالقين.
الثانى
: أنه أثبت المفاضلة
بينه ، وبين غيره فى الخلق ؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى أصله.
الثانية
: قوله ـ تعالى ـ إخبارا
عن الخضر فى قوله لموسى (عليهالسلام) : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أضاف الإحداث إلى نفسه والرب ـ تعالى ـ قرره على ذلك.
الثالثة
: قوله ـ تعالى / : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) فدل على أن ما فيه التفاوت والاختلاف ، ليس خلقا لله تعالى
؛ فيكون خلقا لغيره.
__________________
الرابعة
: قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) دل على أنه لا يخلق إلا الحسن ؛ فالقبيح يجب أن يكون
مخلوقا لغيره.
الخامسة
: قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) .
السادسة
: قوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) . وقوله ـ تعالى ـ : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إضافة العمل إلى العباد. والعمل
المضاف إلى شخص لا يمكن أن يكون مضافا إلى غيره.
والجواب
عن الإشكال الأول : أن ما أمكن أن يكون مقدورا لله ـ تعالى ـ فلا يوصف بكونه عاجزا عنه ، وإنما
يوصف بالعجز عما لا يمكن أن يكون مقدورا له مع إمكان ذلك الشيء فى نفسه. والجمع
بين الضدين ؛ فغير ممكن في نفسه ؛ فلا يكون بعدم القدرة عليه عاجزا عنه ؛ كما
حققناه فى مسألة العجز .
وعن
الثانى : أنه لا معنى لكون
الشيء مقدورا بالقدرة غير إمكان تأثير القدرة فيه ، أو أن الأثر قائم بمحل القدرة
، وواقع على وفق الإرادة كما هو مذهبنا فى أفعال العبيد المختارين.
فإذا كانت قدرة
الرب ـ تعالى ـ غير مؤثرة فى الحادث ، ولا هو قائم بمحل قدرة الله ـ تعالى ـ ؛
لاستحالة قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ كما سبق بيانه ، فلا معنى لكونه مقدورا لله ـ تعالى ـ ؛ وما لا يكون
مقدورا له ـ مع إمكانه فى نفسه ـ ؛ فهو معجوز عنه.
__________________
وهذا بخلاف فعل
العبد المختار ؛ فإنه وإن لم تكن قدرته مؤثرة فى إيجاده. غير أنه قائم بمحل قدرته
، وواقع على وفق إيثاره وإرادته ؛ وهو معنى كونه مقدورا له.
وعن
الثالث : بما سنذكره فى
امتناع مخلوق بين خالقين ، وعن المعارضة.
أما
الشبه العقلية : فما نذكره فى الرد على كل فريق من المخالفين بجهة التفصيل فى موضعه.
وأما
ما ذكروه من الآيات : فظاهرة غير قطعية ، والتمسك بالظاهر فى موضع القطع ، واليقين غير مفيد ، ثم هى مؤولة ،
ومعارضة :
أما
التأويل : فإنه قد أمكن حمل ما ذكروه على غير الخلق بمعنى الإيجاد
والاختراع ؛ فيجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى ، وبما نذكره من
النقل أيضا.
أما
قوله ـ تعالى ـ : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) / فلا حجة فيه.
قولهم : إنه صريح فى إثبات خالقين عنه جوابان :
الأول
: أنه أمكن حمل
الخالقين على المقدرين ، ويكون معنى الآية فتبارك الله أحسن المقدرين ؛ ونحن لا
نمنع من كون العبد يسمى خالقا ، بمعنى كونه مقدرا ؛ كما حققناه فى المسألة الأولى.
الثانى
: هو أن الخلق قد
يطلق ويراد به الإيجاد ، والاختراع ، وقد يطلق ويراد به التقدير ، وقد يطلق ويراد
به الكذب ؛ على ما حققناه فى المسألة الأولى.
وأحسن معانى الخلق
إنما هو الإيجاد ، والاقتدار على الاختراع.
وعند ذلك : فأمكن
أن يكون المراد بقوله ـ تعالى ـ (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) أنه مختص بأحسن معانى الخلق ، وهو الإيجاد ، والاختراع ،
ويجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى.
__________________
وعند ذلك : فتكون
الآية حجة عليهم لا لهم.
قولهم : إنه أثبت التفاضل بينه ، وبين غيره في الخلق ؛ وذلك
يستدعى الاشتراك فى معنى أصل الخلق. عنه جوابان :
الأول
: المنع ، ولهذا
فإنه يصح أن يقال : الرب ـ تعالى ـ خير من الأصنام المعبودة ، وإليه الإشارة بقوله
ـ تعالى ـ : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) مع أنه لا خير فيما أشركوا به. ويقال : النبي خير من
المشرك ، وإن كان لا خير فى المشرك.
ومنه قول حسان بن
ثابت فى حق من هجا النبي عليهالسلام :
أتهجوه ولست له
بكفئ
|
|
فشرّكما لخيركما
الفداء
|
مع أنه لا خير
فيمن يهجو النبي عليه الصلاة والسلام. والإطلاق العرفى شائع ذائع بقولهم : الصائد
أحق بالصيد من غيره ، ورب المال أحق به من غيره ، مع أنه لا مشاركة بين الصائد
وغيره ، ولا بين رب المال وغيره ، فى أصل الحق.
الثانى
: هو أن العرب قد
تصف أحد الشيئين بصفة الآخر عند اقترانهما بالذكر كما فى قولهم : الأسودان ، للماء
، والتمر ، وقد تسميه باسمه : كالعمرين لأبى بكر ، وعمر. وكالقمرين : للشمس ،
والقمر ، فلما ذكر غير الله ـ تعالى ـ معه ؛ وصفه بصفته ، وإن لم يكن متصفا بها.
وهذا الاحتمال ،
وإن لم يكن مقطوعا به ؛ فهو قائم ، ويجب الحمل عليه ؛ لما ذكرناه من الدليل
العقلى.
وأما
قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ، فيحتمل أن يكون قد أضاف إحداث الذكر إليه ؛ لأنه مكتسب
له ، أو ملازم لفعله المكتسب له. وإن لم يكن خالقا له ، ولا موجدا ، وذلك كما يقال
: فلان أحيى فلانا. إذا استنقذه من الهلكة ، وإن لم يكن موجدا لحياته ، ويقال :
فلان / أمات فلانا ، وأزهق نفسه ، وإن لم يكن هو الموجب لإماتته ، وإزهاق نفسه.
والإطلاق بذلك شائع غير منكر.
__________________
وقوله
ـ تعالى ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ؛ فهو مرتب على قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ؛ فيكون عائدا إليه ، ومسكوتا عما سواه. وبتقدير عوده إلى
خلق الله ـ تعالى ـ مطلقا. فمعناه لا تفاوت فى خلق الله ـ تعالى ـ من حيث هو خلق
وإيجاد ؛ وذلك لا يدل على وجود خلق لغير الله إلا أن يكون من حيث هو خلق متفاوت ؛
وهو غير مسلم.
وقوله
ـ تعالى ـ : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) . معناه علم كل خلق. ومنه يقال : فلان يحسن الصناعة
الفلانية : أى يعلمها. وليس المراد به خلق الحسن ، ولهذا : فإنه لا يقال لمن أوجد
شيئا حسنا أنه أحسنه.
ثم وإن سلمنا أن
المراد به أن خلقه حسن ؛ فليس فيه ما يدل على أن غيره خالق. إلا أن يكون ثم ما هو
خلق قبيح. من حيث هو خلق ؛ وهو غير مسلم ، على ما حققناه فى مسألة التحسين
والتقبيح .
وقوله
ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أى باكتسابك ، والمكتسب ليس بخلق على ما يأتى. ثم هو معارض
بالقراءة الأخرى ، وهو قوله ـ تعالى ـ (فَمِنْ نَفْسِكَ) بفتح الميم ؛ إذ هو رد على وهم من توهم أن السيئة من
النفس.
وقوله
تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أى تكسبون ؛ فإن العمل قد يضاف إلى العبد بمعنى الاكتساب
، أو بسبب ملازمته للاكتساب كما ذكرناه ؛ وليس فى ذلك ما يدل على كون العمل مخلوقا
للعبد ، وبه تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.
وأما
المعارضة : فبآيات منها :
قوله
ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ). دل على أن أعمال العبيد المختارين مخلوقة لله ـ تعالى ـ
__________________
فإن
قيل : قوله ـ تعالى ـ :
(أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) : أى الأصنام التي كانوا ينحتونها ، ويتخذونها آلهة ؛ وهى
لا محالة مخلوقة لله ـ تعالى ـ وإطلاق اسم العمل على ما ينحت ، ويصور بصورة خاصة سائغ لغة ، ومنه يقال : هذا الباب من عمل فلان ، وإن
كان الباب نفسه ، ليس من عمله. ويدل على ذلك أيضا قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) . وإنما كانت تلقف الحبال ، والعصى ، وليست فعلا لهم.
ويدل على هذا
التأويل أنه لو أراد به الأعمال المقدورة للعباد حقيقة ؛ لكان القول بأنها من
أفعال الله ـ تعالى ـ تناقضا ؛ فإن ما يعمله العبد / لا يكون لغيره.
والجواب :
هو أن حمل العمل
على الأصنام مجاز ، والأصل فى الإطلاق الحقيقة ، وإضافة العمل إليهم بقوله : وما
تعملون ، إنما هو إضافة اكتساب لا خلق ؛ على ما تقدم.
وأيضا : قوله ـ تعالى
ـ : (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وهو ظاهر فى النعيم عند من يقول بصيغ العموم ، وعند من
لا يقول بصيغ العموم ؛ فلما اقترن به من قرينة التمدح ، والاستعلاء ، ولو كان غيره
خالقا لشيء من الأشياء ؛ لبطلت فائدة التمدح ، والاستعلاء ؛ وهو ممتنع.
ولا نسلم أن
المخاطب يدخل فى عموم خطابه حتى يقال : إن عموم الآية قد خص بذاته ، وصفاته ؛ حيث
أنها أشياء ، وليست مخلوقة له ؛ لأن التخصيص إنما يكون بإخراج ما هو داخل تحت عموم
اللفظ عن كونه مرادا باللفظ ، وما لا يكون داخلا تحت عموم اللفظ ؛ فخروجه عنه لا
يكون تخصيصا له.
والّذي يدل على أن
المتكلم لا يدخل تحت عموم كلامه ، أنه لو قال القائل : إنى قطعت كل مناظر لا يكون
نفسه داخلة فيه ، ولا يكون هو مفهوما من لفظه ، وإن كان
__________________
العموم مخصصا ؛
فهو خلاف الدليل ، ويجب حمله على غير محل التخصيص مطلقا ؛ تعليلا لمخالفة الدليل.
وأيضا
قوله : ـ تعالى ـ : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنا) . وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) . ذكر ذلك فى معرض الثناء على أرباب هذه الدعوات ، ولو لم
يكن الزيغ والغل ، مخلوقا لله ـ تعالى ـ على رأى من يرى أن صدور ذلك من الله ـ تعالى
ـ ممتنع ، لكونه ظلما ـ لما كان لسؤاله فى دفع ما لا يقدر عليه ، ولا هو مخلوق له معنى.
ولا يمكن حمل هذه
الدعوات على خلق الألطاف التي يعلم الله ـ تعالى ـ أمن الراغبين عندها من هذه
الأمور ؛ إذ هو تجوز ، وترك للظاهر من غير دليل.
وأيضا
: قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) . وهو دليل على كون الضحك والبكاء ، مخلوقا لله ـ تعالى ـ ؛
فيكون حجة على من قال : هو مخلوق للعبد. وحمل ذلك على خلق الأسباب الموجبة للإضحاك
، والإبكاء ، ترك للظاهر من غير دليل ؛ فلا يسمع.
وأيضا
: قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) : أى نخلقها ؛ فدل على أن كل مصيبة مخلوقة لله ـ تعالى ـ وذلك
يعم الكفر ، والمعاصى ، وكل مصيبة قيل إنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ إلى غير ذلك من
الآيات ، والظواهر ، ثم العمل بما ذكرناه أولى ؛ لاعتقاده بالدليل العقلى ،
ومخالفته لما ذكروه.
__________________
وأما الفروع : (فثمانية)
الأول : فى امتناع
/ مخلوق بين خالقين.
الثانى : فى الرد
على الفلاسفة الإلهيين.
الثالث : فى الرد
على الطبيعيين.
الرابع : فى الرد
على الصابئة فى قولهم بوجود موجد غير الله ـ تعالى ـ.
الخامس : فى الرد
على المنجمين ، وأرباب الأحكام.
السادس : فى الرد
على الثنوية والمجوس.
السابع : فى الرد
على المعتزلة فى خلق الأفعال.
الثامن : فى الرد
على القائلين بالتولد .
__________________
«الفرع الأول»
فى امتناع مخلوق بين خالقين
وهذا مما لا نعرف
فيه خلافا بين العقلاء ، غير أن الرسم جار بالدلالة عليه ، ليكون الحق معلوما
بدليله ، ودفعا لوهم من يتوهم جواز نقيضه.
ولنا فيه مسلكان :
المسلك الأول :
أنه لو جاز وجود
مخلوق واحد بين خالقين لم يخل : إما أن يكون كل واحد منهما مؤثرا فيه ، أو لا
تأثير لواحد منهما فيه ، أو أن أحدهما هو المؤثر فيه دون الآخر.
فإن كان لا تأثير
لكل (واحد ) منهما فيه : فليس مخلوقا لهما.
وإن كان أحدهما هو
المؤثر فيه دون الآخر : فالخالق له هو المؤثر فيه ، والآخر ليس بخالق ؛ فيكون
مخلوقا لأحدهما لا لهما.
وإن كان كل واحد
منهما مؤثرا فيه : فإما أن يكون كل واحد مستقلا بخلقه ، وإيجاده ، أو غير مستقل.
فإن كان كل واحد
مستقلا بالخلق : فلا معنى لكونه مستقلا به ، إلا أنه وجد به دون غيره ، ويلزم من
استقلال كل واحد منهما ؛ امتناع استقلال كل واحد منهما ؛ كما تقرر فيما تقدم .
وإن لم يكن كل
واحد مستقلا بالخلق : فتأثير كل واحد منهما فيه : إما فى كله ، أو فى بعضه.
فإن كان مؤثرا فى
كله : فإما أن يكون تأثيره على وجه يتحقق به الخلق ، والإيجاد ، أو لا على وجه
يتحقق به الخلق ، والإيجاد.
__________________
فإن كان الأول :
عاد قسم الاستقلال ؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى :
فلا تأثير ؛ إذ التأثير ولا أثر محال.
وإن كان كل واحد
مؤثرا فى البعض : فلا يخلوا : إما أن يكون المخلوق متبعضا ، أو غير متبعض.
فإن لم يكن متبعضا
: فالقول بالتأثير فى بعض ما لا بعض له محال.
وإن كان متبعضا :
فإما أن يؤثر كل واحد منهما فى كل بعض من الأبعاض ، أو كل واحد فى بعض غير البعض
الّذي أثر فيه الآخر.
فإن كان الأول :
عاد الكلام في كل واحد من الأبعاض ، وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى :
فمخلوق كل واحد منهما غير مخلوق الآخر ؛ وليس مخلوقا واحدا بين خالقين.
وهذه الطريقة /
على هذا التحرير ، والتقرير ، فمما لم أجدها لأحد غيرى ، وهى عامة فى نفى خالقين
لمخلوق واحد ، وسواء كان كل واحد خالقا بالذات ، أو بالقدرة ، والاختيار ، أو
أحدهما بالذات ، والآخر بالاختيار .
المسلك الثانى :
أنه قد ثبت فى
المسألة الأولى : أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ وثبت فى الوحدانية امتناع وجود
إلهين ـ ويلزم من ذلك امتناع وجود خالقين مطلقا. وسواء اتحد المخلوق ، أو تعدد ؛
وهو المطلوب.
فإن
قيل : لو فرضنا التصاق
جوهر فرد يكفى شخصين ، وأحدهما دافع له فى حالة كون الآخر جازيا له : فإما أن يحصل
من ذلك الجزء حركتان ، أو حركة واحدة.
الأول : باطل ؛ لاستحالة اجتماع المثلين فى محل واحد.
__________________
وإن كانت حركة
واحدة : فإما أن لا تكون مستندة إلى واحد منهما ، أو مستندة إلى أحدهما دون الآخر
، أو مستندة إليهما.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كان الفعل حاصلا من غير فاعل ؛ وهو محال.
ولا جائز أن يقال
بالثانى ؛ لعدم الأولوية.
فلم يبق إلا
الثالث ؛ وهو المطلوب.
قلنا : هذا إنما
يلزم على المعتزلة.
وأما نحن :
فالحركة عندنا مستندة في وجودها إلى الله ـ تعالى ـ لا إليهما.
«الفرع الثانى»
فى الرد على الفلاسفة الإلهيين
والّذي عليه
اعتماد الحذاق من الفلاسفة الإلهيين أن البارى ـ تعالى ـ واحد من كل جهة ، وأنه ليس له صفة
وجودية ، لا داخلة فى ذاته ، ولا خارجة عارضة لذاته ، كما أسلفناه من إيضاح مذهبهم ، وحكاية شبههم على ذلك فى إثبات الصفات.
ثم إنهم بنوا على
ذلك أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. محتجين على ذلك بأمرين.
الأول
: أنه لو صدر عنه
اثنان : لم يخل : إما أن يتفقا من كل وجه ، أو يختلفا من كل وجه ، أو يتفقا من وجه
، ويختلفا من وجه.
فإن كان الأول :
فلا تعدد ؛ لأن التعدد مع عدم التمايز محال.
وإن كان الثانى ،
أو الثالث : فهما فى الجملة مختلفان.
وعند ذلك : فإما
أن يكون صدور كل واحد منهما عنه من الجهة التى كان صدور الآخر عنه بها ، أو من جهة
أخرى.
لا جائز أن يقال
بالأول : لأن العلة لا بد وأن يكون بينها ، وبين المعلول ملاءمة مناسبة يتهيأ بها
وجود المعلول ، وإلا لما كان صدور ذلك المعلول عنها أولى من صدور غيره ، ولا أولى
من صدوره عن غيرها ؛ بل كان كل موجود صالحا لأن يكون علة لأى وجود كان ؛ وهو محال.
وما ناسب به أحد المعلولين / المختلفين لا يمكن أن يناسب به المخالف الآخر ، ولهذا
فإنا نستدل باختلاف الآثار من الحرارة والبرودة ، فى الجسم الواحد ، على اختلاف
المؤثرات فيه ، ويلزم من ذلك أن الواحد إذا كان علة الأمرين مختلفين ؛ أن يكون علة
لهما بجهتين مختلفتين ؛ وهو القسم الثانى.
__________________
وعند ذلك :
فالجهتان المختلفتان : إما من صفات ذاته ، أو لا من صفات ذاته.
فإن كانت من صفات
ذاته : فهو محال ؛ إذ لا صفة له ، لا داخلة فى ذاته ، ولا خارجة عنها كما سلف تحقيقه فى الصفات ؛ بل هو واحد من كل جهة ، وإن اختلفت الأسماء ، وتعددت ، وإن لم تكن من صفات ذاته
؛ فالكلام فى صدورها عنه :
كالكلام فى الأول
؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع.
الثانى
: أنه لو صدر عنه
شيئان ؛ فيكون قد صدر عنه شيء ، وما ليس ذلك الشيء ؛ وهو تناقض.
وهذه المحالات ؛
إنما لزمت عن صدور الكثرة عن واجب الوجود ؛ فلا كثرة ؛ بل يجب أن يكون ما يصدر عنه واحدا ، لا تعدد فيه. وهذا المعلول
الواحد إما أن يكون موجودا فى موضوع ، أو موجودا لا فى موضوع :
لا جائز أن يكون
موجودا فى موضوع : وإلا كان عرضا ، وكان علة لما بعده ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علة
لموضوعه الّذي لا قوام له فى الوجود إلا به ؛ وهو دور ممتنع.
وإن كان موجودا لا
فى موضوع : فهو جوهر : ولا يخلو : إما أن يكون مركبا ، أو بسيطا.
فإن كان مركبا :
فهو ممتنع لوجهين :
الأول
: أنه يلزم منه صدور
الكثرة عن واجب الوجود ؛ وقد قيل بامتناعه.
الثانى
: أنه يلزم (منه) أن يكون علة لغيره ، ومفرداته من جملة الأعيان ؛ فيكون علة
لها ، وهو فلا يتم وجوده دونها ؛ وهو أيضا دور.
وإن كان بسيطا :
فإما أن يكون داخلا فى المركب ، أو لا يكون داخلا فى المركب.
__________________
لا جائز أن يكون
داخلا فى المركب ، وإلا فهو : إما أن يكون حالا ، أو محلا (فإن) كان حالا : فهو الصورة الجسمية.
ويلزم أن يكون علة لغيره ، ومن جملة الأعيان المادة التى لا وجود للصورة الجسمية دونها كما يأتى ؛ وهو دور.
وإن كان محلا :
فهو المادة الجسمية ، ويلزم أن يكون علة لغيره ، ومن جملة الأعيان الصورة الجسمية ، التى لا وجود للمادة دونها ، كما يأتى
أيضا ؛ وهو دور.
وإن لم يكن داخلا
فى المركب : فإما أن يكون مجردا عن المادة وعلائقها ؛ فهو العقل ، أو هو مجرد عن
المادة دون علائقها / ؛ فهو النفس.
ولا جائز أن يكون
نفسا : وإلا كان علة لغيره ، والنفس وإن لم تكن موجودة فى المادة ؛ فلا توجد دون
وجود المادة كما يأتى تحقيقه.
فلو كانت علة لها
: لزم الدور الممتنع ؛ فلم يبق إلا أن يكون عقلا : وهو ماهية مجردة عن المادة ،
وعلائق المادة.
وهذا المعلول
يتبعه جهات : فإنه واجب بالواجب بذاته ، وممكن بذاته ؛ ضرورة كونه معلولا ، وهو عالم بنفسه ،
وبمبدئه ؛ لما تقرر فى علم واجب الوجود بنفسه ، وبغيره فى صفة العلم .
وهذه الجهات تابعة
لذاته ومن ذاته ، ما عدا وجوب الوجود ، فإن له من الواجب بذاته وباعتبار هذه
الجهات تصدر عنه الكثرة.
فباعتبار ما له من
وجوب الوجود من مبدئه : يوجب عقلا آخر.
وباعتبار علمه
بمبدئه : يوجب نفس الفلك الأقصى ؛ إذ الأفلاك عندهم ذوات أنفس كما يأتى تعريفه .
وباعتبار علمه
بنفسه : يوجب صورة جرم الفلك الأقصى.
__________________
وباعتبار كونه
ممكنا : يوجب مادة جرم الفلك الأقصى ، ترتيبا للأشرف على الأشرف من الجهات ،
والأحسن على الأحسن منها.
وهذه الجهات :
فمثلها أيضا ثابت للعقل الصادر عن المعلول الأول ، وباعتبارها أيضا يصدر عنه عقل
آخر ، ونفس لجرم فلك الكواكب ، ومادته ، وصورته ؛ إذ هو أقرب الأفلاك إلى الفلك
الأقصى.
ثم العقل الثالث :
يوجب باعتبار جهاته ، عقلا آخر ، ونفسا ، ومادة ، وصورة لفلك زحل.
ثم العقل الرابع :
يصدر عنه أيضا باعتبار جهاته عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك المشترى.
ثم العقل الخامس :
يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك المريخ.
ثم العقل السادس :
يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك الشمس.
ثم العقل السابع :
يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك الزهرة.
ثم العقل الثامن :
يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك عطارد.
ثم العقل التاسع :
يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك القمر ، الّذي
حشو مقعره : الكائنات ، الفاسدات.
ثم العقل العاشر :
الموجود مع جرم فلك القمر ، ويعبر عنه بالعقل الفعال. يصدر عنه باعتبار جهاته ما
فى مقعر / فلك القمر من الجسم المشترك بين العناصر ، وصورها ، والنفوس الإنسانية ،
بمشاركة من القوابل ، وتهيؤها للقبول ، بمعاضدة أسباب سماوية مستندة إلى إرادات
قديمة للأنفس الفكلية. وما زاد على ذلك من الأعراض : كالأشكال
__________________
والأوضاع ،
والحركات ، والألوان وغير ذلك من الأعراض الخاصة بالعلويات ، والسفليات فمن توابع ما أشرنا إليه من المعلولات كل لما يناسبه.
فهذا حاصل معتقدهم
فى هذا الباب ، حكيناه على جهة الإيجاز ، والاختصار.
وطريق الرد لأهل
الحق عليهم فى ذلك أن يقال : ما ذكرتموه من نفى صدور الكثرة عن واجب الوجود بذاته ،
مبنى على نفى الصفات الوجودية الزائدة على ذاته ، وقد سبق إبطاله فى الصفات.
وإن سلمنا أنه
واحد من كل جهة ؛ فما المانع من صدور الكثرة عنه مع اتحاده؟
وقولهم : إنه لا بد ، وأن يكون بين العلة والمعلول ، مناسبة. [إما
أن يراد به أنه ] لا بد وأن تكون العلة بحال يصدر عنها المعلول ، أو معنى
آخر.
فإن كان الأول :
فمسلم ؛ ولكن لا نسلم انتفاء هذا المعنى.
وإن كان الثانى :
فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.
وقولهم : إن اختلاف الآثار دليل على اختلاف المؤثرات ممنوع. وحيث
قلنا باختلاف المؤثرات إنما كان عند علمنا أن أحدهما غير صادر عن الآخر.
وقولكم
فى الوجه الثانى : إنه يفضى إلى التناقض ، ليس كذلك ؛ فإن نقيض صدور الشيء عن الشيء ، لا صدوره
عنه ، لا صدور ما ليس هو ذلك الشيء.
سلمنا أنه لا بد ،
وأن تكون العلة مؤثرة فى المعلولات المختلفة باعتبار صفات زائدة على ذات العلة ؛
لكن يلزم من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الأول ، أن يكون ما صدر عنه واحدا ،
ويلزم من ذلك أن يكون ما صدر عن ذلك المعلول أيضا واحدا ، وهلم جرا ، وأن لا تقع
الكثرة وهى واقعة ؛ وهو محال.
__________________
وما ذكرتموه من
الجهات ، والصفات التى هى مبدأ الكثرة فى المعلول الأول : إما أن تكون هى نفس ذاته
، أو زائدة عليها.
فإن كان الأول :
فلا تعدد ، ولا كثرة فى غير التسمية.
وإن كان الثانى :
فإما أن تكون وجودية ، أو غير وجودية.
فإن كانت وجودية :
فإما أن لا تفتقر إلى علته ، أو تفتقر.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كانت واجبة الوجود عندكم ، وخرجت عن أن تكون من الصفات ضرورة افتقار
/ الصفة إلى الموصوف.
كيف وأن ذلك مما يفضى إلى التعدد فى نوع واجب الوجود ، ولم يقولوا
به.
وإن كانت مفتقرة
إلى علة : فالعلة : إما ذات الموصوف بها ، أو واجب الوجود ؛ لأن ما
عدا ذلك من توابعها ؛ فلا يكون علة لها.
لا جائز أن تكون
هى ذات الموصوف بها : لأنه بسيط قابل لها. والقابل عندكم ليس هو الفاعل ، ولأنه
يلزم منه أن تكون ذات المعلول الأول قد صدر عنها أكثر من أربعة أشياء ، ولم يقولوا
به.
وإن كان علتها هو
ذات واجب الوجود : فقد صدرت عنه الكثرة ؛ ولم يقولوا به.
هذا كله : إن كانت
الجهات التى هى مبدأ الكثرة وجودية ، وإن كانت غير وجودية : كالسلوب ، والإضافات ؛
فلا يمكن صدور الكثرة عنها ؛ لأن ما ليس بوجود ، لا يكون سببا للوجود كما تقدم. وإن كانت سببا للوجود :
فلا مانع من صدور الكثرة عن واجب الوجود باعتبارها ؛ لاتصافه بالصفات السلبية
والإضافية ، كما ذكرتموه.
ثم وإن كان الأمر
على ما قيل ؛ فالمعلول الأول أيضا متصف بصفات أخرى إضافية وسلبية ، ككونه مبدأ
لغيره ، وعالما بمعلوله ، ومجردا عن المادة ، وعلائقها ؛ فلم لا كانت هذه الجهات
أيضا مصدرا للكثرة؟ أو أن يصدر عنها ، ويسببها زيادة على ما صدر عن غيرها؟
__________________
وإن سلم انحصار
الجهات المؤثرة فيما ذكرتموه : فلم كانت العقول المعلولة منحصرة فى عشرة؟ والأفلاك
، ونفوسها فى تسعة؟ ولم لا كانت أكثر من ذلك ، أو أقل؟
وإن سلم لزوم
الحصر فيما ذكرتموه : فلم كان اختصاص كل عقل بما صدر عنه ، أو من غيره من العقول؟
ولم كان العقل الفعال بما صدر عنه أولى من غيره؟ وما صدر عن غيره أولى به من العقل
الفعال؟.
فلئن قلتم : إن
العقول وإن اتحدت اسما ، فمختلفة نوعا ، فلذلك كان اختلاف تأثيرها ، فتحتاجون إلى
بيان الاختلاف بالنوعية.
ثم إذا قيل ذلك فى
العقول ؛ فما المانع من أن يقال مثله فى النفوس الفلكية ، والأجرام الفلكية؟ وأن
كل نفس معلولة لنفس ، وأن كل فلك معلول لفلك ، وأن الأنفس الإنسانية صادرة عن
الأنفس الفلكية ، والأجسام العنصرية صادرة عن الأجسام الفلكية ؛ بل أولى ؛ لأنكم
راعيتم المناسبة بين العلة ، والمعلول.
ولا يخفى أن
المناسبة بين النفوس / والنفوس ، والأجسام ، والأجسام ؛ أقرب منها بين العقول
والنفوس ، والعقول والأجرام.
فهذه كلها إلزامات
لازمة ، وإشكالات مشكلة ، لا جواب عنها ، إلا بمحض التحكم الّذي تأباه الفطر
المستقيمة ، وتنفر عن مثله العقول السليمة.
وأما إبطال قولهم
بالعقول ، والنفوس الفلكية : فسيأتى فى موضعه إن شاء الله ـ تعالى.
__________________
«الفرع الثالث»
فى الرد على الطبيعيين
واعلم أن ما يخالف
فيه الطبيعيون لأهل الحق من المسائل كثيرة متعددة ، وسنستقصى الرد عليهم فى كل
موضع على حسبه ، والرد عليهم هاهنا إنما هو خصيص بما نحن فيه ، من نفى
مؤثر ، وموجد غير الله ـ تعالى.
وقد ذهبت الفلاسفة
الطبيعيون : إلى أن بعض ما نشاهده من حركات الأجسام البسيطة ، والمركبة ، والآثار
الصادرة عنها ؛ إنما هو لقوى موجودة فى تلك الأجسام ، لو قدر خلوها عنها ؛ لم يكن
اختصاص ذلك الجسم بما صدر عنه أولى من غيره.
ثم صدور ما صدر عن
تلك القوة : إما أن يكون متنوعا ، أو غير متنوع ؛ بل هى على نهج واحد ، والمتنوع
به : إما أن يكون مع شعور به ، أو لا مع شعور به.
فإن كان الأول :
فكحركة الحيوان.
وإن كان الثانى :
فكحركة النبات فى نموه ، ونشو فروعه.
وإن كان على نهج
واحد : فإما أن يكون أيضا مع شعور به ، أو لا مع شعور به.
فالأول : كالحركة
الدورية للأفلاك. والثانى : كحركة الحجر فى هويه ، وتبريد الماء ببرده ، وتسخين
النار بحرها ، ونحو ذلك.
وزعموا أيضا : أن
ما نشاهده من أنواع المركبات فيما تحت مقعر فلك القمر من المعدنيات ، والنبات ،
والحيوانات ، وخواصها ؛ إنما هو بحركات العناصر بعضها إلى بعض ، وامتزاجها.
وربما زاد
الأقدمون منهم على ذلك وقالوا : إن أصل العالم أجزاء قديمة جسمانية صغار كرية فى
خلا ممتد متشابه الأجزاء ، وأنها لم تزل تلك الأجزاء الجسمانية
__________________
متحركة فيه ؛
لاستحالة قرارها فى جزء منه مع التشابه ، لعدم الأولوية ، حتى اتفق أن تصادمت ،
وتمانعت ، وامتزجت على هذا الشكل الّذي العالم عليه.
وربما جوزوا وجود
عوالم وراء هذا العالم ، على هذا الشكل ، وعلى غيره : إما متناهية ، أو غير
متناهية. على ما سنفصله ، ونوضح الكلام فيه ، فيما بعد إن شاء الله ـ تعالى .
وطريق الرد عليهم
أن يقال : / الأجسام عندكم كلها مشتركة فى معنى الجسمية. فاختصاص
كل واحد منها بما اختص به من القوى المؤثرة : إما أن يكون لذاته ، أو لاختصاصه
بقوة أخرى موجبة لها ، أو لمخصص من خارج.
فإن كان الأول :
فهو محال ؛ وإلا لما كان اختصاص بعض الأجسام بما اختص به أولى من غيره ؛ ضرورة الاتحاد ،
والحقيقة الجسمية ، ويلزم من ذلك أن لا يختص واحد من الأجسام بقوة ، أو أن تشترك
جميع الأجسام فى جميع القوى ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
فالكلام فى الاختصاص بتلك القوة : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثالث :
فما المانع أن يكون المخصص له بتلك الحركة وبذلك الأثر ، إنما هو المخصص الخارج.
لا بواسطة قوة فى الجسم ، ويكون ذلك المخصص فاعلا مختارا ؛ وهو البارى ـ تعالى ـ على
ما حققناه ـ وهو المخصص له بذلك الأثر ، وبتلك الحركة فى وقت دون وقت .
وهذه المطالبة :
لا سبيل إلى دفعها مع فرض وجود الفاعل المختار ، وإمكان تعلق قدرته بكل كائن ؛ وقد تحقق ذلك بما أسلفناه.
__________________
وعلى هذا : يكون
الكلام فى أنواع المركبات ، وخواصها ، وامتزاجاتها أيضا.
ويخص القائلين
بقدم الأجسام ، وتحركها فى خلاء ممتد غير متناه ؛ ما سنحققه من إبطال قدم كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ ، وامتناع وجود بعد لا نهاية
له ؛ فيما بعد .
__________________
«الفرع الرابع»
فى الرد على الصابئية فى قولهم بوجود موجد
غير الله تعالى
والأشبه فى تسمية
هذه الطائفة صابئة ؛ لميلهم ، وانحرافهم عن سنن الحق فى نبوة الأنبياء ، ولاتخاذهم
آلهة غير الله ـ تعالى ـ أخذا من قول العرب صبا الرجل ؛ إذا مال ، وانحرف.
وهم أربع فرق :
الفرقة الأولى :
أصحاب
الروحانيات
:
وقد يقال ذلك
بالضم : أخذا من الروح ، وهو جوهر.
وقد يقال بالفتح : أخذا من الروح ، وهو حالة خاصة به.
وقد زعم هؤلاء :
أن أصل وجود العالم واحد مقدس عن سمات الحدث. هو أجلّ وأعلا من أن يتوصل إلى جلاله
بالعبودية له ، والخدمة من السفليات ، وذوات الأنفس المنغمسة فى عالم الرذائل ،
والشهوات. وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات بينه ، وبين السفليات. وهى أمور : روحانية
، مقدسة عن المواد الجرمانية ، والقوى / الجسمانية ، والحركات المكانية ،
والتغيرات الزمانية ، فى جوار رب العالمين. مجبولون على تقديسه ، وتمجيده ،
وتعظيمه دائما سرمدا.
__________________
قالوا
: وهم آلهتنا ،
وأربابنا ، ووسائلنا إلى حاجتنا ، وبهم يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ وهى المديرة
للكواكب الفلكية ، والمدبرة لها على التناسب المخصوص. حيث يتبعها : انفعالات فى
العناصر السفلية ، وحركات بعضها إلى بعض ، وانفعال بعضها عن بعض ، عند الاختلاط ،
والامتزاج المفضى إلى التركيب الموجب لتنوع المركبات : إلى أنواع المعادن ،
والنبات ، والحيوانات ، وتصريف موجودات الأعيان من حال إلى حال ، ومن شأن إلى شأن
، إلى غير ذلك من الآثار العلوية ، والسفلية.
وزعموا
: أن الكواكب
الفلكية : هى هياكل هذه الروحانيات ، وأن نسبة الروحانيات إليها فى التدبير لها ،
والتدوير. نسبة الأنفس الإنسانية ، إلى أبدانها ، وأن لكل روحانى : هيكلا يخصه ،
ولكل هيكل : فلكا يكون فيه.
وزعموا
: أن المعرف لهم
بها : عادميون ، وهرمس ، اللذان هما أصل علم الهيئة ، وصناعة النجامة. وهرمس : هو
أول من قسم البروج ، ووضع أسماءها ، وأسماء الكواكب السيارة ، ورتبها فى بيوتها ،
وبين الشرف والوبال ، والأوج والحضيض ، والمناظر : بالتثليث ، والتسديس ، والتربيع
، والمقابلة ، والمقارنة ، والرجوع ، والاستقامة ، والميل ، والتعديل. واستقل
باستخراج أكثر أحكام الكواكب وأحوالها.
وقد قيل : إن عادميون
: هو شيث. وهرمس : هو إدريس عليهماالسلام .
الفرقة الثانية :
أصحاب الهياكل :
فإنهم قالوا : إذا
كان لا بد للإنسان من متوسط ؛ فلا بد ، وأن يكون ذلك المتوسط مما يشاهد ويرى ، حتى يتقرب إليه. والروحانيات ليست كذلك ؛ فلا بد من
متوسط بين الإنسان وبينها. وأقرب ما إليها هياكلها فهى الآلهة ، والأرباب
المعبودة ، والله ـ تعالى ـ
__________________
رب الأرباب ،
وإليه التوسل ، والتقرب ؛ فإن التقرب إليها تقرب إلى الروحانيات ، التى هى كالأرواح بالنسبة إليها ، ولا جرم دعوا إلى
عبادة الكواكب السبعة السيارة.
ثم أخذوا فى
تعريفها ، وتعريف أحوالها بالنسبة إلى طبائعها ، وبيوتها ، ومنازلها ، ومطالعها ،
ومغاربها ، واتصالاتها ، ونسبتها إلى الأماكن ، والأزمان ، والليالى ، والأيام ،
والساعات ، وما دونها إلى غير ذلك.
ثم تقربوا إلى كل
هيكل ، وسألوه / بما يناسبه من الدعوات فيما يناسبه من الأماكن والأزمان ، واللباس
الخاص به ، والتختم بالخاتم المطبوع على صورته ، والهياكل عندهم أحياء ، ناطقة ،
بحياة الروحانيات ، التى هى أرواحها ، ومتصرفة فيها.
ومنهم من جعل هيكل
الشمس : رب الهياكل والأرباب. وهذه الهياكل هى المدبرة لكل ما فى عالم الكون ،
والفساد ؛ على ما سلف تعريفه فى تعريف مذهب الفريق الأول.
وربما احتجوا على
وجود هذه المدبرات ، وأنها أحياء ناطقة : بأن حدوث الحوادث : إما أن يكون مستندا
إلى حادث ، أو قديم.
لا جائز أن يكون
مستندا إلى حادث : إذ الكلام فيه ؛ كالكلام فى الأول ، والتسلسل ، والدور محالان ؛
فلم يبق إلا أن يكون مستندا إلى ما هو فى نفسه قديم ، وذلك القديم : إما أن يكون
موجبا بذاته ، أو بالاختيار.
فإن كان الأول :
فإما أن يكون كل ما لا بد منه فى إيجاد الحادث متحققا معه ، أو أنه متوقف على تجدد
أمر.
فإن كان الأول :
فيلزم قدم المعلول ، لقدم علته وشرطه ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
فالكلام فى تجدد ذلك الأمر : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
فلم يبق : إلا أن
يكون فاعلا مختارا ، وليس فى عالم الكون والفساد : فاعل قديم مختار ؛ فلم يبق غير الأفلاك ، والكواكب ـ ولذلك حكموا بكونها أحياء ناطقة.
__________________
الفرقة الثالثة :
أصحاب الأشخاص :
وهؤلاء زعموا :
أنه إذا كان لا بد من متوسط مرئى ، فالكواكب ؛ وإن كانت مرئية : إلا أنها قد ترى
فى وقت دون وقت طلوعها ، وأفولها ، وظهورها ليلا ، وخفائها نهارا ؛ فدعت الحاجة
إلى وجود أشخاص مشاهدة ، نصب أعيننا ؛ تكون لنا وسيلة إلى الهياكل التى هى وسيلة
إلى الروحانيات ، التى هى وسيلة إلى الله ـ تعالى.
فاتخذوا لذلك :
أصناما مصورة على صور الهياكل السبعة. كل صنم من جسم مشارك فى طبيعته لطبيعة ذلك
الكوكب. ودعوه ، وسألوه بما يناسب ذلك الكوكب فى الوقت ، والمكان واللباس ،
والتختم بما يناسبه ، والتبخير المناسب له على حسب ما يفعله أرباب الهياكل ؛ لأنها
هى المعبودة على الحقيقة.
وهذا : هو الأشبه
بسبب اتخاذ الأصنام ، ويحتمل أن يكون اتخاذ الأصنام بالنسبة إلى غير هذه الفرقة
وتعظيمها ؛ / لاتخاذها قبلة لعباداتهم ، أو لأنها على صورة بعض من كان يعتقد فيه
النبوة والولاية ، تعظيما له ، أو لأن قدماء أرباب الهياكل ، والأصنام ، وعلمائهم
؛ ركبوا طلاسم ، ووضعوها فيها ، وأمروهم بتعظيمها ؛ لتبقى محفوظة منتفعا بها. وإلا
فاعتقاد الإلهية فيما اتخذ ، وصور من الأخشاب ، والأحجار ، وكونه خالقا لمن صوره ،
ومبدعا لما وجوده قبل وجوده من العالم العلوى ، والسفلى ؛ مما لا يستجيزه عقل عاقل ؛ بل البداية شاهدة برده ، وإبطاله ، وإن وقع ذلك معتقدا لبعض الرعاع ، ومن لا خلاق له ، من العوام منهم ؛ فلا التفات إليه ،
ولا معول عليه.
الفرقة الرابعة :
الحلولية :
وهؤلاء زعموا : أن
الإله المعبود واحد فى ذاته ، وأنه أبدع أجرام الأفلاك ، وما فيها من الكواكب ،
وجعل الكواكب مدبرات لما فى العالم السفلى.
فالكواكب : آباء ،
أحياء ، ناطقة. والعناصر : أمهات. وما تؤديه الآباء : من الآثار إلى الأمهات ،
فتقبلها بأرحامها ؛ فتحصل من ذلك المواليد ، وهى المركبات ، والإله ـ
__________________
تعالى ـ يظهر فى
الكواكب السبعة ، ويتشخص بأشخاصها من غير تعدد فى ذاته ، وقد يظهر أيضا : فى صور
الأشخاص الأرضية ، الخيّرة ، الفاضلة : وهى ما كان من المواليد : قد تركب من صفو
العناصر دون كدرها ، واختص بالمزاج القابل لظهور الرب ـ تعالى ـ فيه : إما ذاته ،
أو صفة من صفات ذاته ، على قدر استعداد مزاج ذلك الشخص.
وزعموا
: أن الله يتعالى
عن خلق الشرور ، والقبائح ، والأشياء الخسيسة الدنيئة : كالحشرات الأرضية ، ونحوها
؛ بل هى واقعة ضرورة اتصالات الكواكب سعادة ونحوسة ، واجتماعات العناصر صفوة ،
وكدورة.
وزعموا
أيضا : أنه على رأس كل
ستة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة يحدث زوجان من كل نوع من أنواع
الحيوانات ذكر ، وأنثى ، ولا يزال متعاقبا بالتوالد والتناسل ، إلى تمام ذلك الدور
، ثم ينقرض ويحدث على رأس الدور الآخر. وكذا إلى ما لا يتناهى.
وأن الثواب ،
والعقاب على أفعال الخير ، والشر فى كل دور واقع ؛ لكن فى الدور الّذي بعده فى هذه
الدار ، لا فى غيرها.
والصابئية على
اختلافهم فى المبادئ. متفقون على وجوب ثلاث صلوات لهم ، والاغتسال من الجنابة /
ومسّ الميت ، وعلى تحريم أكل لحم الخنزير ، والكلب ، والجزور ، وما له مخلب من
الطير ، والسكر.
وأمروا : بالنكاح
بولى ، وشهود ، ونهوا عن الجمع بين امرأتين ، وعن الطلاق إلا بحكم حاكم ، إلى كثير
من الأحكام المشروعة فى شرعنا هذا .
وطريق الرد عليهم
أن يقال :
جميع ما ذكروه :
مبنى على وجود ما أدعوه من قدم الجواهر الروحانية ، وهياكلها ؛ وهو باطل ـ بما
سيأتى فى حدوث العالم ـ وبتقدير قدمها ، فإسناد الكائنات فى عالم
__________________
الكون والفساد
إليها ، وإلى هياكلها : إنما يصح أن لو لم يكن البارى ـ تعالى ـ فاعلا مختارا ،
وإلا فعلى تقدير كونه فاعلا مختارا ؛ فلا يلزم شيء مما ذكروه ـ وقد بينا ذلك فيما
سلف.
وعلى هذا : فقد
اندفع ما ذكروه من دليل إسناد الكائنات إلى غير الله ـ تعالى.
وأما إبطال مذهب الحلولية
منهم : فقد حققناه (فيما) قبل بما فيه مقنع ، وكفاية.
__________________
«الفرع الخامس»
فى الرد على المنجمين ، وأرباب الأحكام
زعم الأحكاميون :
أن كل ما فى عالم الكون والفساد ، من التأثيرات ، والتغييرات ، والأمور الحادثة من
خير وشر ، ونفع وضر ؛ فمستند إلى الاتصالات الكوكبية ، والحركات الفلكية. كل أثر
إلى كوكب ، وأن التأثيرات مختلفة باختلاف المؤثرات السماوية . لكن المحققون منهم : معترفون بأن شيئا من ذلك غير مبرهن ،
وإنما هو مأخوذ من الوحى وأقوال الأنبياء : كهرمس ، وعادميون ، وغيرهما من
الأنبياء. أو التجربة ، ودوران الآثار الخاصة ، مع الاتصالات الخاصة وجودا ،
وعدما.
وربما : كان ذلك
عند الهنود والعرب ، مستفادا من خواص الكواكب. ولهم أقوال ، وأحكام مختلفة لا
مستند لها ، ولا برهان عليها.
ونحن ننبه : على
بطلان مآخذهم جملة ، ونبين وجه الضعف فى بعض أحكامهم تفصيلا. بحيث يتنبه الفطن منه
على ضعف ما عداه ، وفساد ما سواه.
أما من جهة الجملة
:
فهو أن استناد
التأثيرات إلى ما قيل من الاتصالات : إما أن يكون مستفادا من التجربة ، أو (من) الوحى ، أو من خواص الكواكب على ما ذهبوا إليه.
فإن قيل
بالاستقراء : فهو باطل ، وذلك لأن اتصال الكواكب السيارة ممتزج بالكواكب الثابتة ،
والشكل الفلكى إذا رؤى فى وقت ، فإنه قد لا يعود فى عمر الرائى أكثر من مرة ، أو
مرتين ، وربما لا يتكرر فى عمره البتة ؛ بل فى أعمار. وربما لا يعود دون تمام /
الدور عندهم فى بعض الأحكام ؛ وذلك مما لا تتحقق معه التجربة.
وإن سلمنا العلم
بتكرره : فقد لا يؤمن الانفكاك فى وقت آخر.
__________________
وإن سلمنا عدم
الانفكاك : فقد لا يؤمن حلول كوكب آخر مع ذلك الكوكب فى ذلك البرج ، وليس إضافة
التأثير إلى أحدهما أولى من غيره.
(وإن) سلمنا عدم غيره : فيمتنع إسناد التأثير إليه ؛ لأنه : إما أن يكون مؤثرا بذاته
وطبعه ، وإما بالاختيار.
والأول : ممتنع ؛ لما سبق فى الرد على الطبيعيين .
والثانى أيضا :
ممتنع ؛ لأن الفاعل بالاختيار عندهم لا يكون إلا مع مماسة ، واتصال بما يفعله ،
ولا مماسة واتصال بين العلويات ، والسفليات.
وإن سلم صحة إسناد
الأثر إليه : فلا يلزم من عوده لزوم الأثر ؛ لاحتمال وجود معارض.
وإن سلم عدم
المعارض : فالاحتمال عدم القابل السفلى.
وإن سلم وجود القابل
: ولكن يمتنع إسناد الأثر إليه ؛ لما بيناه من كون الرب ـ تعالى ـ قادرا على كل الممكنات. وأنه يمتنع وجود خالق غير الله ـ تعالى.
وأما إن كان
الاعتماد فى ذلك على خواص الكواكب : فقد بينا إبطاله فيما تقدم فى الرد على
الطبيعيين .
كيف : وأن اختلاف
خواص الكواكب والبروج ، مما يوجب اختلاف طبائعها ؛ لاستحالة اختلاف الخواص مع
التماثل فى الطبيعة ؛ وذلك يوجب كون الفلك مركبا من طبائع مختلفة. ولا يمتنع عليه
مع ذلك الخرق ، والانحلال ؛ وهو مبطل لأصل علم الهيئة.
وإن كان المستند
فى ذلك إنما هو الوحى وأقوال الأنبياء : فهو غير مسلم. ولا سبيل إلى إثباته.
وبتقدير نقله آحادا ؛ قد لا يكون نصا قاطعا فى الدلالة بحيث يمتنع تأويله.
__________________
وبتقدير ظهوره ؛
فهو معارض بما نقل فى الشريعة الظاهرة عن الرسول المعصوم ، وعلى لسانه : من الآيات
الدالة على أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ كما أسلفنا ، وبما أوضحناه من الدليل
العقلى ، والمستند القطعى. هذا من جهة الجملة.
وأما من جهة
التفصيل :
فبأمور فى أحكامهم
منها : أن أولى ما يعتمد عليه عند الحكم على المولود : إنما هو الطالع الرصدى ؛
وهو غير يقينى ؛ لأن الآخذ للطالع إذا أحس بانفصال الولد ؛ فلا بد عند أخذه للطالع
بكوكب من الكواكب ، ومعرفته بدرجة الطالع. من أن يرصد عضادة الأصطرلاب بحيث يقع /
ضوء ذلك الكوكب فى الثقب الأعلى من العضادة ، نافذا فى الثقب الأسفل منها فى ذلك
الوقت. ومن وقت انفصال الولد إلى أن يقع على درجة ذلك الكوكب من البرج ، الّذي هو
فيه يرتفع عن درجة الطالع وقت الانفصال : إما بدرجة ، أو أقل ، أو أكثر. وعند ذلك
: فلا يحصل الوثوق بالحكم. هذا مع سلامة الآلات التى بها أخذ الارتفاع ، وصحتها عن الأصطرلاب ، وذلك غير معلوم. وإذا كان كذلك فيما هو أولى
بالاعتماد عليه : فما دونه من الطالع النمودارى : وهو ما يستخرجه المنجم من طالع
المولود بعد ولادته عند ما إذا ذكر له وقت الولادة بالتقريب.
ولهذا : كان ما
يخلف من أحكامهم أكثر من المصيب.
ومنها : أنا قد
نصادف مولودين توأمين ، ولدا فى وقت واحد : وأحدهما فى غاية السعادة ، والآخر فى غاية
الشقاوة : والطالع لهما واحد ، ولا يمكن أن يكون ذلك : بسبب ما بينهما من التفاوت
فى وقت الولادة ؛ فإنه لو قدر التفاوت بزيادة درجة أو نقصانها ؛ فالحكم يكون على ما وصفناه. وإن كان التفاوت بمقدار الدرجة الواحدة :
غير مؤثر فى تغيير أحكامهم باتفاق منهم.
ومنها : أنا قد
نجد جما غفيرا ، وخلقا كثيرا ، لا يحويهم عدد يهلكون فى ساعة واحدة بقتل ، أو غرق
طوفانى ، أو حريق ، أو هدم فى زلزلة. مع القطع باختلاف طوالعهم،
__________________
وتفاوتها فى
السعود ، والنحوس. ومن كان طالعه بالسعد فى ذلك الوقت : فكيف يغير حكمه الخاص بالحكم
العام؟ وذلك مما لا مخلص لهم منه.
ومنها : أنهم
أجمعوا : على أن المريخ يثير الحرارة ، واليبوسة ، وأجمعوا : على أنه من أنجم
المطر ، والأنواء ، وهو جمع بين متناقضين.
ومنها : أنهم
اتفقوا : على أن من كان طالعه الحوت ، أو القوس ، وكان المشترى صاحب البيتين فى
درجة شرفه ، وانحطت عنه النحوس ؛ فإنه على رأى المنجمين يكون أسعد السعداء ، وأتقى الناس ، وأورعهم ، وأكثرهم ردا
على المنجمين ، وإنكار ما عدا الشريعة.
والسعد الأكبر :
وهو المشترى : لا يوجب لصاحبه رذيلة ، ولا صفة مذمومة. ولو كان التنجيم حقا ،
والقول بالحكم فيه صدقا ؛ لكان صاحب ذلك الطالع كاذبا ، والكذب رذيلة ، وصفة ذم ؛
وذلك مما لا يقتضيه الطالع المفروض.
ومنها : اتفاقهم :
على أن زحل أكبر / النحوس ، وهو مفيد عندهم للملك والرئاسة العظمى ، وأجل العلوم
عندهم : وهى الفلسفة. وكون النحس مفيدا للسعد الأعظم ؛ غير معقول.
ومنها : إجماعهم :
على أن الشمس محرقة لما يقارنها من الكواكب السيارة. ومدلول إحراقها لما تقارنه ؛
غير معقول. وذلك أن حمل الإحراق بالحرارة والخاصية : كإحراق النار لما يجاورها مما
هو قابل للإحراق ؛ متعذر ؛ إذ الشمس عندهم ليست حارة.
وإن عنوا به :
أنها بنورها تبهر نور الكوكب وتقهره ؛ فهو غير صحيح ؛ إذ الكواكب عندهم غير منيرة
بنفسها ؛ بل مستنيرة من نور الشمس.
ولا يخفى : أن
استنارتها بمقارنة الشمس لها. يكون أكثر منه عند عدم المقارنة. وإن عنوا بالإحراق
عند المقارنة : بهر أبصار الناظرين فى العالم السفلى عن رؤية الكوكب ؛ فذلك مما لا
يوجب تغير حكم العلويات.
__________________
ثم يلزم : أن يكون
ما لم ير عند طلوع الشمس نهارا ، لبهر نورها لأبصار الناظرين ، عن رؤية ما كان يرى
من الكواكب ، بتقدير عدم طلوعها ؛ احتراقا لتلك الكواكب ؛ وليس كذلك.
وأيضا : فإن الشمس
وكل كوكب من الكواكب السيارة مختص بمجراه فى فلكه لا يوجد معه فيه غيره ، وليست مقارنة الكوكب ، للكوكب عندهم اتصاله به
اتصال مماسة ؛ بل معنى مقارنته له ، تحاذيهما على درجة من برج. بحيث يمكن أن يفرض
بينهما خط مستقيم متصل. فإذا كانت مقارنة الشمس لبعض الكواكب : إنما هو بالمحاذاة ؛ فأى كوكب كان ناظرا إليها بتسديس ، أو تثليث ، أو تربيع
، أو مقابلة ؛ فهو محاذ لها. بحيث يمكن فرض خط مستقيم متصل فيما بينهما. فإذا كانت الشمس محرقة للكوكب بالمقارنة : أى بالمحاذاة ؛ فيجب
أن تكون محرقة له بكل محاذاة تفرض ؛ وليس كذلك عندهم.
ومنها : قولهم فى
الخسوف ، والكسوف :
أما خسوف القمر :
فإنهم زعموا : أن
جرم الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف كثيرة ، حتى أن الأوائل قدروا زيادتها على
الأرض بمائة وأربعة وستين مرة.
وزعموا : أنه إذا
انحطت الشمس فى الغرب امتد للأرض ظل على شكل مخروط صنوبرى ، ضرورة أن الشمس أكبر
من الأرض ، ولا يزال مخروط ظل الأرض يمتد ، ويستدق إلى أن ينمحق. ولا يتعدى فلك /
عطارد ، فإذا اتفق خطور القمر فى ذلك الظل من غير تيامن ، وتياسر ، بحيث يحجب عنه
نور الشمس ؛ فهو خسوفه. وعلى حسب تولجه فى مخروط الظل تكون زيادة الخسوف ، ونقصه.
ثم لا يزال القمر فى السير ، والظل فى الميل ، إلى حالة الانجلاء ، والعود إلى
مقابلة الشيء من غير حاجز.
وزعموا : أن
الكواكب الثابتة فى فلك البروج أيضا تكتسب نورها من الشمس : كاكتساب القمر.
__________________
فإذا
قيل لهم : فلم لا تنكسف
بحيلولة مخروط ظل الأرض بينها وبين الشمس؟
قالوا
: لأن الظل ينمحق
دون الوصول إليها.
فإذا
قيل : ولم قلتم بانمحاق مخروط الظل دونها؟
قالوا : لأنها لا تنكسف ؛ وهو دور ممتنع. ولا يتحقق لهم فيه جواب
؛ بل ولو قيل لهم : إن الكواكب الثابتة فى فلك البروج ، وكذلك زحل ، والمشترى ،
والمريخ ؛ نيرة بأنفسها ؛ فلذلك لم تنكسف بمخروط الظل فى وصوله إليها ؛ لم يكن لهم
جواب.
وأما كسوف الشمس :
فزعموا : أنه ستر
القمر للشمس عن أبصارنا عند ما إذا اتفق جريان القمر فى الاجتماع على سمت جريان
الشمس ، والّذي تراه مظلما حال اللون ، إنما هو القمر. وإلا فالشمس على نورها ،
ومقدار الكسوف على حسب اختلاف مقابلة القمر للشمس وستره لها. ولهذا لا يعهد كسوف الشمس فى غير أيام الاجتماع ، والمقاربة.
ولو قيل لهم : كما
أن القمر قد يقارن الشمس المقارنة السمتية ؛ فكذلك الزهرة ، وعطارد. فما بالهما لا
يحجبان الشمس عن أبصارنا فى وقت المقارنة والاجتماع ، كما فى القمر ؛ لم يجدوا إلى
الفرق سبيلا.
وأيضا : فإنهم
حكموا بانتخاس الشمس عند كسوفها ، مع بقائها على حالها ، فإن كان الانتخاس إنما هو
بانقطاع نورها عن عالمنا هذا ، وبالحاجز بينها وبين أبصارنا ؛ فيجب أن تكون منتخسة
مهما غربت ؛ لتحقق هذا المعنى فيها ؛ وليس كذلك عندهم.
وهذا أيضا : لا
جواب لهم عنه ، ويجب الاكتفاء بما نبهنا عليه من فساد أحكامهم ، وبطلان رسومهم ،
وإلا فخبطهم كثير ، وهذيانهم طويل ، لا يليق الاستقصاء فيه بمثل هذا الكتاب.
__________________
«الفرع السادس» فى الرد على الثنوية ، والمجوس
أما الثنوية
: فهم فرق خمس :
الفرقة
الأولى : المانويّة .
أصحاب مانى بن (فاتك)
الحكيم الّذي ظهر فى زمن سابور / بن أردشير ، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور ،
بعد مبعث عيسى عليهالسلام.
ومعتقدهم : أن أصل
العالم النور ، والظلمة ، وأنهما جسمان قديمان لم يزالا ، ولا يزولا ، حساسان (سميعان
، بصيران ) وهما متضادان : فى الصورة ، والفعل ، متحاذيان فى الحيز ،
تحاذى الشمس ، والظل ؛ وهما غير متناهيين. إلا من جهة التحاذى. وأن النور ، فوق
الظلمة ، والعالم مركب ممتزج منهما ؛ لكن امتزاجهما هل وقع اتفاقيا ، أو بسبب؟ ؛ فذلك
مما اختلفوا فيه ، ولهم فيه خبط كثير لا يليق ذكره هاهنا.
وزعموا : أن النور
خير محض ، والظلمة شر محض ، وأن ما كان فى العالم من الخير ؛ فمن النور ، وما كان
من شر ؛ فمن الظلمة. وهم معتقدون فى الشرائع ، والأنبياء. وأن أول مبعوث بالحكمة ،
والنبوة ، آدم عليهالسلام ، ثم شيث ، ونوح ، وإبراهيم ، وزرادشت ، والمسيح ، وبولس.
ومحمد عليهالسلام.
__________________
وكانوا يوجبون :
فى اليوم والليلة ، أربع صلوات ، ويحرمون الزنا ، والقتل ، والسرقة ، والكذب ،
والسحر ، والبخل ، وعبادة الأوثان إلى غير ذلك.
الفرقة الثانية :
المزدكيّة .
أصحاب مزدك الّذي
ظهر فى زمن أنو شروان ، وقتله أنو شروان. ومعتقدهم فى قدم النور ، والظلمة :
كاعتقاد المانوية ، إلا أنهم يقولون : إن النور عالم حساس ، وأنه يفعل ما يفعل بالقصد. والاختيار ، بخلاف الظلام ؛ فإنه جاهل أعمى ،
وأن ما يفعله بحكم الاتفاق ، والخبط ، وأن الامتزاج بينهما بالاتفاق ؛ وكذلك تخلص
أحدهما من الآخر.
ومن مذهبهم :
تحريم المخالفة ، والمباغضة ، والمقاتلة ، وإباحة الأموال ، والنساء ،
والحكم باشتراك الناس فيها : كاشتراكهم فى الماء ، والكلأ.
الفرقة الثالثة : الدّيصانيّة .
أصحاب ديصان :
فمذهبهم فى النور ، والظلمة ، كمذهب المزدكية ، إلا أنهم يخالفونهم فى أن ما يحدث
من الشّر كائن عن الظلام بطبعه ، لا بحكم الاتفاق.
الفرقة الرابعة : المرقونيّة .
وقد وافقوا من
تقدم ذكره : فى إثبات النور ، والظلام ، وخالفوهم فى إثبات أصل ثالث : وهو المعدل
الجامع بين النور ، والظلمة ، وسبب المزاج بينهما ؛ ضرورة أنهما متضادان ، وامتزاج
المتضادين لا يكون إلا بموجب للامتزاج.
__________________
قالوا : وذلك
الأصل دون النور فى المرتبة ، وفوق رتبة الظلمة.
ومنهم من قال : إن
الامتزاج / إنما حصل بين المعدل ، والظلام ؛ لقربه منه ، وهؤلاء يرون إباحة كل ما
فيه نفع لبدن الإنسان وروحه ، ويحرمون ذبح الحيوان.
الفرقة الخامسة :
الكينونية .
وهؤلاء يزعمون :
أن أصول العالم ثلاثة : النار ، والماء ، والأرض. وأن حدوث سائر الموجودات لا يكون
إلا عنها ، وأن النار بطبعها خيرة ، والماء ضدها ، والأرض متوسطة.
فما كان من خير
محض : فمن النار. وما كان من شر محض ؛ فمن الماء. وما كان متوسطا : فمن الأرض.
وهؤلاء هم المعتقدون فى النار ، وعن مذهبهم : نشأ اتخاذ بيوت النيران فى البلدان ،
وعبادتها تعظيما لها ؛ لكونها علوية نورانية ، لا وجود للعالم ولا بقاء له إلا
بها. وهؤلاء حرموا النكاح ، والذبائح ، واعتكفوا على عبادة النيران ، ويسمون
الصيامية أيضا.
وأما المجوس :
فقد اتفقوا أيضا
على أن أصل العالم : النور ، والظلمة ، كمذهب الثنوية ، وقد اختلفوا وتفرقوا أربع فرق .
الفرقة
الأولى : الكيومرثيّة .
أصحاب المقدم
الأول كيومرث : وهو آدم عليهالسلام ؛ لأنه أول من مرث الأرض. وهؤلاء أثبتوا أصلين : النور :
وعبروا عنه بيزدان. والظلام : وعبروا عنه بأهرمن.
__________________
وقالوا : يزدان
قديم ، وأهرمن مخلوق من فكرة ردية حدثت ليزدان : وهو أنه لو كان لى منازع فى ملكى
كيف يكون؟ ويزدان : أصل الخير. وأهرمن : أصل الشر.
الفرقة
الثانية : الزّروانيّة .
زعموا : أن النور
قديم ، وأنه أصل الموجودات ، وأنه أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية ؛ لكن الشخص
الأعظم منه واسمه زروان شك فى شيء من الأشياء فحدث منه أهرمن ، وهو الشيطان.
الفرقة
الثالثة : المسخيّة .
وهم الذين قالوا :
إن النور كان وحده فى القدم ، ثم انمسخ بعضه ؛ فصار ظلمة.
الفرقة
الرابعة : الزّرادشتيّة .
أصحاب زرادشت :
وهؤلاء زعموا : أن زرادشت كان نبيا ، وأنه كان يعتقد أن مبدأ العالم هو الله ـ تعالى
ـ وأنه قديم أزلى ، وأنه خلق النور ، والظلمة متضادين ، ومزجهما لحكمة رآها. ومن
امتزاجهما يكون العالم ، ولا يزالان فى التقاوم والتغالب : إلى أن يغلب الخير
والشر ، والنور الظلمة ، ويتخلص الخير إلى عالمه ، وينحط الشر عنه ، وهو المعاد.
وربما زعموا : أن
الله ـ تعالى ـ خلق النور أصلا ، ووقع الظلام تبعا له لا / بالقصد الأول : كاتباع
الظل ، لوجود الشخص.
__________________
ومن مذهب هؤلاء :
الإيمان بالله ، والكفر بالشيطان ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واجتناب
الخبائث.
ولكل فريق من فرق
الثنوية ، والمجوس : تفاريع فى مذاهبهم ، واختلاف كثير ، وهذيان طويل ، خارج عن
خصوص مقصدنا فى الرد عليهم هاهنا. آثرنا الإعراض عن ذكره ؛ إذ هو أليق بالتواريخ ،
والتنبيه على فساده لتناهيه فى الخلل ، وسهولة معرفته عند الاطلاع على أقوالهم لمن
لديه أدنى معرفة وتحصيل.
والطريق فى الرد
على الثنوية
أن يقال :
قولكم : إن النور ، والظلمة جسمان ؛ ليس كذلك ؛ بل هما عارضان
للأجسام بدليل أمور خمسة :
الأول
: أن الجسم قد يوصف
بالنور ، والظلمة فيقال : جسم منير ، وجسم مظلم ، والصفة غير الموصوف.
الثانى
: أن الأجسام غير
متضادة ، والنور ، والظلمة ؛ متضادان.
الثالث
: أن الأجسام مستوية
فى الحد ، والحقيقة ، ولا كذلك النور ، والظلمة.
الرابع
: أن النور ،
والظلمة يتعاقبان على الجسم الواحد : وبعد كل واحد منهما الآخر ، مع بقاء الجسم
بحاله.
الخامس
: هو أنه لا معنى
للنور غير الشعاع. والشعاع : ليس بجسم على ما تقدم فى الإدراكات.
والظلمة : فلا معنى لها إلا أنها عدم النور فيما من شأنه أن يكون مستنيرا
؛ على ما تقدم فى مسألة الرؤية.
وإن سلمنا أنهما
جسمان : ولكن لا نسلم قدمهما ؛ وذلك لأن كل جسم مركب ، فيكون مفتقرا إلى أجزائه ،
والمفتقر إلى غيره ؛ لا يكون واجبا لذاته ؛ بل ممكنا كما سلف بيانه ، وسنبين (أيضا)
حدوث كل موجود ممكن فيما بعد .
__________________
وإن سلمنا قدمهما
: فلا نسلم إمكان عدم التناهى فى أبعادهما ؛ على ما سيأتى تحقيقه أيضا.
وإن سلمنا عدم
التناهى فى أبعادهما : فلا نسلم إمكان امتزاجهما ، فإن الامتزاج بينهما : إما
بكليتهما ، أو ببعض كل واحد منهما.
لا جائز أن يقال
بالأول : لأن امتزاج أحدهما بالآخر ، لا يكون إلا بحركة كل واحد منهما إلى الآخر ،
أو بحركة أحدهما إلى الآخر ، وإلا فكل واحد باق فى حيزه ؛ ولا امتزاج.
والقول بالحركة
عليهما ، أو على أحدهما ممتنع لوجهين.
الأول
: أنه لو تحرك
أحدهما إلى الآخر / لخلا عنه حيزه ، وما لا يتناهى لا يخلو حيزه عنه ، وإلا لتناهى
ما لا يتناهى ؛ وهو محال.
الثانى
: أن حركتهما : إما
أن تكون واجبة ، أو ممكنة.
لا جائز أن تكون
واجبة : فإنها صفة (للمتحرك) ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، والمفتقر إلى غيره لا يكون
واجبا.
وإن كانت ممكنة :
فإما أن تفتقر فى وقوعها إلى مرجح ، أو لا تفتقر.
لا جائز أن يقال
بعدم الافتقار : لما تقدم فى إثبات واجب الوجود.
وإن قيل بافتقارها
إلى المرجح : فإما أن يكون المرجح لحركة أحدهما إلى الآخر هو نفسه ، أو غيره.
فإن كان نفسه :
فالمتحرك إن كان هو النور ، فحركته إلى الظلمة شر من وجه ؛ ويلزم منه صدور الشر عن
الخير.
وإن كان هو الظلمة
: فحركتها إلى النور خير من وجه ، ويلزم منه صدور الخير عن الشر ؛ وهو ممتنع على
أصلهم.
__________________
وإن كان المرجح
لحركة كل واحد منهما إلى الآخر غيره : فإما أن يكون المحرك لكل واحد منهما هو
الآخر ، أو غيرهما : كما قالت المرقونية.
فإن كان الأول :
فلا يخفى أن حركة النور إلى الظلمة خير من (وجه) لخروج فعل الظلمة عن تمحض الشر ، فإذا كانت الظلمة هى الموجبة لذلك ؛ فقد صدر ما هو
خير من وجه ، عن الشر المحض. وإن حركة الظلمة إلى النور شر من وجه ؛ لخروج فعل
النور عن تمحض الخير. فإذا كان النور هو الموجب ؛ فقد صدر ما هو شر من وجه ، عن
الخير المحض ؛ وهو ممتنع على أصلهم.
وإن كان الموجب
لحركتهما غيرهما : فإما أن يكون خيرا محضا ، أو شرا محضا ، أو خيرا من وجه ، وشرا
من وجه.
فإن كان الأول :
فقد صدر عنه الشر من وجه.
وإن كان الثانى :
فقد صدر عنه الخير من وجه ، وهو ممتنع عندهم.
وإن كان الثالث :
فيلزم أن يكون ذلك الثالث مركبا لا بسيطا. وعند ذلك فالأصول تكون أكثر من ثلاثة ،
ولم يقل به أحد منهم ، وبهذا الوجه الثانى يتبين امتناع امتزاج بعض كل واحد منهما
ببعض الآخر.
وإن سلمنا إمكان الامتزاج بينهما ؛ فلا نسلم وقوع الامتزاج ،
وبيانه من وجهين :
الأول
: أن الامتزاج : إما
أن يكون خيرا محضا ، وإما أن يكون شرا محضا ، وإما أن يكون خيرا من وجه ، وشرا من وجه.
فإن كان خيرا محضا
: فقد صدر عن النور والظلمة ؛ والخير / المحض لا يصدر عن الظلمة.
__________________
وإن كان شرا محضا
: فقد صدر عنهما ؛ والشر المحض لا يصدر عن النور عندهم.
وإن كان الثالث :
فإما أن يكون من جهة ما هو خير مقدورا على تحصيله للنور قبل حصوله ، أو معجوزا
عنه.
فإن كان الأول :
فترك النور له شر منه.
وإن كان الثانى :
فالعجز عن تحصيل الخير شر ؛ فلا يكون خيرا محضا.
الثانى
: هو أن الكذب
والظلم قبيح عندهم مطلقا : ولا يتصور صدوره عن النور ؛ بل عن الظلمة. فإذا قال من
صدر عنه الظلم ، أو الكذب : أنا ظلمت ، وكذبت.
فالقائل بهذا
القول : إما النور ، أو الظلمة ، أو هما :
فإن كان الأول :
فالنور كاذب ؛ والكذب شر.
وإن كان الثانى :
فالظلمة صادقة ؛ والصدق خير.
وإن كان الثالث :
فالنور كاذب ، والظلمة صادقة ، ويلزم من ذلك صدور الشر عن النور ، والخير عن
الظلمة ؛ ولم يقولوا به.
فإن
قالوا : الدليل على تركب
أجسام العالم من النور ، والظلمة : أنا وجدنا بعض الأجسام ذا ظل : فعلمنا أن
الظلمة غالبة عليه ، وبعضها لا ظل له : فعلمنا أن النور غالب عليه.
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان كل ما لا ظل له يكون نيرا ،
وليس كذلك. بدليل الهواء
وإن سلمنا أن كل
ما لا ظل له نير : ولكن لا يلزم أن ما كان له ظل ؛ فالظلمة غالبة عليه ؛ بل هو محض
ظلمة لا مركب وما لا ظل له ؛ فهو نور محض لا مركب.
وإن سلمنا أن كل
جسم من أجسام العالم لا يخلو عن النور ، والظلمة ؛ فلا نسلم أنه يلزم من اتصافه
بهما ؛ أن يكون مركبا منهما.
وإن سلمنا أن
أجزاء العالم مركبة من النور والظلمة : ولكن لا نسلم حدوث الامتزاج مع
القول بقدم الممتزجين.
__________________
فإن
قالوا : لأنا وجدنا النور
طالبا للخلاص من الظلمة صاعدا عنها ، ولو كان امتزاجهما أزليا ؛ لما كان طالبا
لترك الأزلى.
قلنا : لو لم يكن الامتزاج أزليا : كان التباين أزليا. وكما جاز
عليه طلب ترك التباين الأزلى ؛ جاز عليه طلب ترك الامتزاج بتقدير كونه أزليا.
وإن سلمنا وقوع
الامتزاج : ولكن لا نسلم امتناع صدور الشر عن النور ، والخير عن الظلمة ؛ وبيانه
من أربعة أوجه.
الأول
: أن الظلمة قد تستر
الهارب عن ظالم يقصد قتله ؛ وهو خير. والنور يدل عليه ؛ وهو شر.
الثانى
/: أن الظلمة تجمع
البصر ؛ وهو خير. والنور يفرقه ؛ وهو شر.
الثالث
: هو أن الظلمة تعين
على النوم ، والراحة به ؛ وهو خير. والنور بالضد.
الرابع
: هو أن النور قد [يلازمه]
الحر المحرق ؛ وهو شر ؛ بخلاف الظلمة.
وعلى هذا : فلا
يخفى الكلام على الكينونية أيضا.
وأما
الرد على المجوس : القائلين بقدم النور ، وأنه أصل وجود العالم أن يقال :
القول بقدم النور
: إنما يصح أن لو كان قائما بنفسه. وليس صفة عارضة لغيره ؛ وليس كذلك ؛ على ما سلف
فى الرد على الثنوية .
وإن سلمنا أن
النور قائم بنفسه : فإما أن يكون واجبا ، أو ممكنا.
فإن كان ممكنا :
فلا بد له من مرجح ، لوجوده على عدمه ، ويلزم من ذلك أن لا يكون قديما ؛ لما يأتى.
وإن كان قديما :
فلا يكون هو الأصل الأول فى وجود العالم ؛ بل (مرجح) .
وإن كان واجبا
لذاته : فإما أن يكون مشاركا لباقى الأنوار فى المعنى ، أو مخالفا لها.
__________________
فإن كان الأول :
فيلزم أن يكون كل نور واجبا لذاته ؛ وهو محال. وإلا لما كان نورا قابلا للعدم ؛
وهو محال.
وإن كان الثانى :
فإما أن يكون جوهرا ، أو عرضا ، أو شيئا ليس بجوهر ، ولا عرض.
لا جائز أن يقال
بالأول والثانى : لما سلف فى إبطال التشبيه . فلم يبق إلا الثالث ؛ وهو المعنى بالإله ـ تعالى.
وعند ذلك : فلا
نسلم امتناع صدور جميع الموجودات عنه من غير واسطة الظلمة كما أسلفناه.
فإن
قالوا : إنا صادفنا فى
العالم خيرا ، وشرا. والنور خير محض ، فلا يكون الشر صادرا عنه ؛ فلا بد من شيء
يكون صدور الشر عنه ؛ وذلك هو الظلمة.
فنقول : القول
بالخير والشر مبنى على التحسين والتقبيح الذاتى ؛ وهو ممتنع بما سلف فى التعديل ،
والتجوير وبتقدير كون الشر ذاتيا ؛ فلا مانع من صدوره عن النور على
مذهبهم ؛ وذلك لأن الشر الموجود فى العالم لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه ؛ ضرورة
حدوثه عندهم.
وإن كان ممكنا :
فلا بد له من علة : وهو إما أن يكون مستندا إلى النور ، أو الظلمة كما قالوه.
فإن كان الأول :
فقد لزم صدور الشر عن النور.
وإن كان الثانى :
فالظلمة ليست واجبة لذاتها ضرورة اعترافهم بحدوثها فهى ممكنة ، ولا بد لها من علة
موجبة لها ، وتلك (العلة) إما أن تكون هى / النور ، أو ما صدر عن النور ؛ ضرورة عدم
قديم سواه .
فإن كان الأول :
فقد صدرت الظلمة ، وهى شر عن النور.
__________________
وإن كان الثانى :
كما هو مذهب الكيومرثية ، والزروانية ؛ فتلك العلة : إما أن تكون خيرا ، أو شرا.
فإن كانت خيرا :
فقد صدر الشر عن الخير.
وإن كانت شرا :
فقد صدرت عن النور ؛ وهو خير ؛ وفيه إبطال مذهب المسخية أيضا.
والّذي
يخص الكيومرثية : فى قولهم بحدوث الظلمة من عروض فكرة ردية للنور. أنه ليس القول بقدم النور ،
وحدوث الظلمة بعروض الفكرة الردية للنور أولى من القول بقدم الظلمة ، وحدوث النور
بفكرة صالحة عرضت للظلمة.
وأما
الزرادشتية : فإن قالوا : إن
الظلمة مخلوقة لله ـ تعالى ـ لتكون سببا لوجود الشرور ؛ لامتناع إسناد الشر إليه ؛
فهو باطل ؛ لأن الظلمة شر ، وقد أوجدها. وإن لم يقولوا ذلك ؛ بل قالوا : إنه خالق
الظلمة ، وكل موجود ؛ فهو المطلوب.
«الفرع السابع»
فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال
واعلم أن هذا
الفرع من الفروع المشكلة ، والأمور المعضلة. ولا يتم تحقيقه إلا بتقديم أصول ،
وتنقيح فصول : لا بد من الإشارة إليها ، والتنبيه عليها : وهى إحدى وعشرون فصلا :
الأول : فى إثبات
القدرة الحادثة.
الثانى : فى
امتناع بقاء القدرة الحادثة.
الثالث : فى تعلق
الاستطاعة بالفعل.
الرابع : فى
امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين.
الخامس : فى أن
القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها.
السادس : فى تماثل
القدرة الحادثة ، واختلافها ، وتضادها ، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى
آلة ، وبنية مخصوصة ، أم لا؟
السابع : فى أن
فعل النائم هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة ، أم لا؟
الثامن : فى وجود
مقدورين قادرين ، وأن الله ـ تعالى ـ قادر على مثل فعل العبد ، أم لا؟
التاسع : فى امتناع
مقدور واحد. بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة.
العاشر : فى
امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين.
الحادى عشر : فى
العجز ، وتحقيق معناه.
الثانى عشر : فى
متعلق العجز.
الثالث عشر : فى
تعلق العجز بالمعجوز عنه.
الرابع عشر : فى
اختلاف / المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها من حمل مائة أخرى
، ومناقضتهم فى ذلك.
الخامس عشر : فى
أن القادر هل يكون ممنوعا من مقدوره مع وجود قدرته عليه ، أم لا؟
السادس عشر : فى
اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة ، والإشارة إلى مناقضتهم فيها.
السابع عشر : فى تعارض الموانع ، والرد على المعتزلة.
الثامن عشر : فى تحقيق معنى المضطر.
التاسع عشر : فى الملجأ وتحقيق معناه.
العشرون : فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم ، ولا يتجدد له
بسببه اسم.
الحادى والعشرون : فى ترك الفعل ، وتحقيق معناه.
__________________
«الفصل الأول»
" فى إثبات القدرة الحادثة"
ولا خلاف بين المتكلمين
فى أن الفاعل المختار منا : قادر بقدرة ، إلا ما نقل عن جهم وأتباعه أنه نفى القدرة الحادثة.
ثم اختلف القائلون
بالقدرة : فذهب ضرار بن عمرو ، وهشام بن سالم : إلى أن القادر : قادر ببعض
من أبعاضه .
ومنهم : من صرف
القدرة إلى بعض المقدور.
واتفقت الأشاعرة ،
والمعتزلة ، وغيرهم : على أن القدرة صفة وجودية يتأتى معها الفعل المقدور ، بدل
الترك ، والترك بدل الفعل ، خلافا لبشر بن المعتمر : فإنه قال : الاستطاعة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات ،
وأنها ليست بعضا من القادر ، ولا بعضا من المقدور ، وهى زائدة على كل ما يقدر من
صفات الأحياء.
وهو الحق ؛ لكن
اختلف هؤلاء فى طريق إثبات القدرة.
فذهب الهمذانى من
المعتزلة : إلى أن طريق العلم بذلك : إنما هو العلم بتأتى الفعل من بعض الموجودين
، وتعذره من غيره.
وذهب الجبائى :
إلى أن طريق العلم بها : إنما هو العلم بصحة الشخص ، وانتفاء الآفات عنه.
وهما فاسدان.
أما
الأول : فهو باطل على أصل
القائل به : بالممنوع ؛ فإنه قادر عنده على الفعل الممنوع منه ، وإن كان فعله
متعذرا عليه غير متأت منه.
__________________
وعند ذلك : فالجمع
بين القدرة مع التعذر ، والقول باختصاص القدرة بمن يتأتى منه الفعل دون غيره ،
ممتنع ، وكونه بحال يتأتى منه الفعل ، بتقدير ارتفاع المانع. لا يوجب كونه مختصا
بالقدرة ، قبل الارتفاع المانع ، وإلا كان العاجز مختصا بالقدرة ؛ لأنه بحال يتأتى منه الفعل ، بتقدير ارتفاع العجز ؛ وهو
خلاف الإجماع / ؛ ولا فاصل بينهما.
فإن
قيل : كون القادر قادرا
؛ مصحح للفعل ، ولا يلزم منه وجود الفعل : كما فى الحياة مع العلم.
فنقول : لا نسلم أن الحياة بمجردها مصححة للعلم ، وإلا لصح معها
، ولا فرق بين الموجب ، والمصحح فى ذلك ؛ على ما يأتى تحقيقه أيضا .
ثم إن ما ذكره : ينتقض أيضا بكون البارى ـ تعالى ـ قادرا على الأزل ، ومع ذلك فلا
يتأتى منه وجود الفعل أزلا.
وأما
الثانى : وهو مسلك الجبائى
: فلأنه : إما أن يقول مع ذلك بجواز خلو الصحيح السليم عن الآفات ، عن القدرة ، أو
لا يقول به.
فإن كان الأول :
فلم يلزم من وجود ما ذكروه من الدليل ؛ وجود المدلول ؛ فيكون باطلا.
وإن كان الثانى :
فهو باطل ؛ وإلا لما امتنع وجود القدرة فى حق الصحيح السليم عن الآفات مع وجود
أضداد القدرة ؛ وهو محال مجمع على إبطاله.
وأما
أهل الحق من الأشاعرة : فقد استدلوا على ثبوت القدرة الحادثة : بما يجده العاقل من نفسه : من التفرقة
الضرورية بين حركته مرتعشا ، وحركته مختارا ، وليست هذه التفرقة راجعة إلى صفتى
الحركتين ؛ إذ الاختلاف بين الحركة الاضطرارية ، والاختيارية ـ من حيث هى حركة ـ إلا
فى الاضطرار ، والاختيار ، وذلك من صفة المتحرك لا الحركة.
__________________
وعلى هذا : فقد
بطل القول بعود القدرة إلى بعض المقدور ؛ فلم يبق إلا أن تكون التفرقة عائدة إلى
صفة المتحرك من الاختيار ، والاضطرار.
وعند ذلك :
فاختصاصه بالاختيار في إحدى الحالتين دون الأخرى : إما أن لا يكون بموجب ، أو
بموجب.
لا جائز أن يقال
بالأول : لما سيأتى فى إثبات الأعراض .
وإن كان الثانى :
فذلك الموجب : إما عدم ، أو وجود.
لا جائز أن يكون
عدما : لما تحقق فى مسألة الرؤية ، ولما يأتى تحقيقه فى العلل ، والمعلولات ، وإثبات الأعراض ، وبه بطل قول من جعل الموجب انتفاء الآفات.
وإن كان وجوديا :
فإما ذاته نفسه ، أو بعض ذاته ، أو صفة زائدة على ذاته ونفسه.
لا جائز أن يقال
بالأول : لتحقق وجود ذاته وبعضها فى الحالتين ؛ والموجب لا بد وأن يكون مختصا
بإحدى الحالتين دون الأخرى.
وإن كان الثانى :
فإما أن تكون تلك الصفة الحياة ، أو العلم ، أو الإرادة ، / أو البنية المخصوصة ،
أو غير ذلك.
لا جائز أن تكون
هى الحياة ، أو العلم : لشمولها للحالتين : حالة الاضطرار ، والاختيار ، ولا
الإرادة : لأن الإرادة غير موجبة للتمكن من الفعل والاختيار في إيجاده ؛ بل
لتخصيصه بحالة دون حالة.
ولا بالبنية
المخصوصة : فإن الحياة غير مشروطة بالإجماع فى ثبوت كون من الأكوان.
__________________
وعند ذلك : فما من
بنية ، وكون يقدر موجبا للاختيار : إلا ويمكن فرض وجوده في الجماد ؛ مع انتفاء الاختيار عنه.
وإن كان الموجب
غير ذلك : فهو المطلوب. والمعبر عنه بالقدرة الحادثة. وتمام هذا التحقيق ، ودفع ما
يرد عليه من الإشكالات ؛ فسيأتى مستقصى فى إثبات الأعراض . إن شاء الله ـ تعالى ـ.
__________________
«الفصل الثانى»
«فى امتناع بقاء القدرة الحادثة»
مذهب
أهل الحق : استحالة بقاء
القدرة الحادثة. ووافقهم على ذلك البلخى من المعتزلة. خلافا لمعظم المعتزلة فى ذلك.
والمعتمد في ذلك
أن يقال :
القدرة الحادثة
عرض ، وكل عرض مستحيل البقاء ، فالقدرة الحادثة ، مستحيلة البقاء.
[أما بيان المقدمة الأولى : فما سبق فى الفصل الّذي قبله ]
وأما بيان المقدمة
الثانية : فما يأتى فى بيان الأعراض وأحكامها .
فإن
قيل : لا نسلم استحالة
بقاء كل عرض. وما يذكرونه فى ذلك ؛ فسيأتى الكلام عليه.
وإن سلمنا استحالة
بقاء كل عرض ما عدا القدرة ؛ فلا نسلم استحالة بقاء القدرة الحادثة.
وبيانه : أن من
كان مستقرا ببغداد مثلا ؛ فغير ممتنع أن تقوم به القدرة على الكون بالبصرة ، وبيانه من ثلاثة أوجه
:
الأول
: أن القابل للقدرة
على الكون بالبصرة ؛ إنما يكون قابلا لها بنفسه ، والأماكن لا تغير صفات النفس ،
فإذا كان ببغداد ؛ فهو على حكم نفسه أن لو كان فى البصرة ؛ فيكون قابلا للقدرة على
الكون بالبصرة.
الوجه
الثانى : أنه لو امتنع قيام
القدرة على الكون بالبصرة فى حق المستقر ببغداد : لأفضى ذلك إلى إبطال قيام القدرة
به من غير وجود ضد لها ، ولا لشرطها حالة كونه ببغداد ؛ وهو ممتنع.
__________________
الثالث
: أن السيد إذا أمر
عبده ـ وهو أهل للأمر ـ بالمسير إلى البصرة مثلا : وهو ببغداد أمرا جازما على
الفور ، ثم انقضى من الزمان ما يمكن قطع مثل تلك المسافة ، والكون بالبصرة في مثله.
وتوانى العبد فى امتثال / أمره من غير عذر ، ولم يزل فى مكانه ؛ فإنه يستحق اللوم
والتوبيخ ، ولو لا اقتدار العبد على الكون بالبصرة حالة الأمر ـ مع بقائه فى مكانه
ـ لما حسن اللوم ، والتوبيخ ، على ما لا قدرة للعبد عليه.
وإذا كان قيام
القدرة به على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ممكنا : فلنفرضه واقعا ؛ فإن الممكن
لا يلزم من فرض وقوعه المحال ، وعند فرض وجود القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه
ببغداد ، فلا بد وأن تكون تلك القدرة متعلقة بمقدورها ، وإلا كان فيه قلب جنسها ،
ووجود قدرة لا مقدور لها ؛ وهو ممتنع.
وإذا كانت متعلقة
بمقدورها : فهى لا توقع مقدورها : وهو الكون فى البصرة إلا فى الحالة الثانية من
وجود القدرة ، لا فيما بعد ذلك ؛ وذلك مستحيل فى الكون فى البصرة ، فلو استحال فرض
بقائها ؛ لاستحال كونها متوقعة لمقدورها ، فلا تكون متعلقة به ، وهو محال ، وما
لزم عنه المحال ؛ فهو محال.
والجواب :
أما منع استحالة
بقاء الأعراض : فسيأتى وجه إبطاله ، وإبطال ما يقال عليه في موضعه إن شاء الله ـ تعالى
ـ على وجه يدخل فيه القدرة الحادثة وغيرها .
والقول بإمكان
قيام القدرة على الكون بالبصرة ، حالة كونه ببغداد ممكن ، ممنوع.
وأما الوجه الأول :
فيلزم عليه نفس
الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ؛ فإنه قابل له بنفسه. ونفسه غير متغيرة بكونه فى
بغداد ، ومع ذلك فكونه فى البصرة غير ممكن أن يقوم به حالة كونه فى بغداد ، ولا
فرق فى ذلك بين الكون فى البصرة ، والقدرة عليه.
وإن قيل : بأن
الكون ببغداد مضاد للكون بالبصرة ؛ فكذلك امتنع قيام الكون بالبصرة به حالة كونه
ببغداد ، فما المانع من أن يقال بأن القدرة على الكون فى بغداد؟ أو أن نفس الكون
فى بغداد ضد للقدرة على الكون فى البصرة ؟.
__________________
وأما الوجه الثانى :
فلا نسلم أن
امتناع قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد من غير ضد لها ، ولا
لشرطها ؛ على ما تقرر فى الوجه الّذي قبله.
وإن سلمنا انتفاء
جميع الأضداد لها ، ولشرطها ؛ ولكن لم قلتم إن القول بانتفائها من غير ضد لها ،
ولشرطها ؛ ممتنع؟.
وإذا جاز عندهم :
امتناع وجود العلم بالشيء حالة النظر فيه ، مع أنه لا تضاد بين النظر فى الشيء
والعلم به عندهم ، ولا بين النظر / وشرط العلم ؛ فما المانع من تجويزه هاهنا؟
وأما الوجه الثالث :
فمبنى على امتناع
الذمّ على ما لا قدرة عليه ؛ وهو ممنوع على أصلنا : فإن المأمور عندنا بفعل غير
قادر عليه قبل التلبس به ؛ وهو مذموم على تركه.
وإن قيل إن ذلك
قبيح ، أو تكليف بما لا يطاق ؛ فقد أبطلنا القول بالتحسين ، والتقبيح الذاتي ، (وبينا
) جواز التكليف بما لا يطاق ، فى التعديل والتجوير .
وإن سلمنا إمكان
قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ، ولكن لا نسلم إمكان تعلقها
بالكون فى البصرة حالة كونه ببغداد. وما المانع من أن يكون شرط تعلقها به إمكان
الكون فى البصرة؟ والكون فى البصرة حالة الكون ببغداد ، ممتنع بالإجماع.
قولهم
: يلزم منه وجود
قدرة لا مقدور لها ؛ وهو ممتنع.
لا نسلم بامتناعه
: ثم هو على خلاف مذهب الخصم فى اعتقاده : أن الأعراض التى لا بقاء لها على أصله
بتخصيص وجودها بأوقات مخصوصة : والقدرة الحادثة لا تتعلق بها قبل تلك الأوقات ؛ بل
إنما تتعلق بها فى تلك الأوقات. وإذا انصرمت تلك الأوقات ؛ انقطع تعلق القدرة بها
: مع بقاء القدرة فى نفسها ؛ وهو قول بقدرة بلا مقدور.
__________________
«الفصل الثالث»
«فى تعلق الاستطاعة بالفعل»
مذهب أهل الحق من الأشاعرة : أن القدرة الحادثة لا تتقدم على مقدورها ،
ولا تتعلق به قبل حدوثه ؛ بل وقت حدوثه.
ووافقهم على ذلك :
النجار من المعتزلة ، ومحمد بن عيسى ، وابن الراوندى ، وأبو عيسى الوراق ، وغيرهم.
وذهب أكثر
المعتزلة ، والبكرية ، وكثير من الزيدية ، والمرجئة : كضرار بن عمرو ، وحفص الفرد : إلى أن القدرة يستحيل تعلقها بالحادث وقت حدوثه ،
وإنما تتعلق به قبل حدوثه.
ثم اختلف هؤلاء :
__________________
فمنهم : من جوز
انتفاء القدرة فى الحالة الثانية من وجودها ، وجوز وجود مقدورها فى الحالة الثانية
مع عدمها فى الحالة الثانية.
ومنهم : من منع من
ذلك ، وأوجب بقاءها إلى حالة وجود مقدورها بحكم الاشتراط : كاشتراط النية المخصوصة
؛ وإن لم تكن قدرة عليه فى تلك الحالة.
واختلفوا أيضا :
فى جواز خلو القادر بالقدرة الحادثة عن جميع مقدوراته.
فذهب أبو هاشم ،
وجماعة من المعتزلة : إلى جواز ذلك.
وذهب الجبائى :
إلى جوازه عند / وجود الموانع ، ولم يجوز ذلك عند عدم الموانع فى الأفعال المباشرة
دون المتولدة.
واتفقوا أيضا :
على انقسام الأفعال المقدورة : إلى ما لا يفتقر فى وقوعه إلى آلة : كالأفعال
القائمة بمحل القدرة ، وإلى ما يفتقر : وهى الأفعال الخارجة عن محل القدرة.
واتفقوا أيضا على
استحالة بقاء القدرة ، مع عدم تعلقها بمقدورها فى الدوام ؛ لكن منهم من قال :
القدرة الحادثة فى وقت وجودها ، متعلقة بالمقدور فى الحالة الثانية ، والثالثة ،
وما بعدها.
ومنهم من قال : لا
تصير متعلقة بالمقدور فى الحالة الثالثة ، إلا فى الحالة الثانية ، وكذلك المقدور
فى الحالة الرابعة ، لا تصير متعلقة به ، إلا فى الحالة الثالثة ، وهلم جرا.
ثم اختلف هؤلاء :
فذهب الجبائى ،
وأبو الهذيل العلاف : إلى أن القادر فى الحالة الأولى : يقال له فيها يفعل ، وفى
الحالة الثانية : عند وقوع المقدور يقال له فيها فعل ، ولا يقال يفعل.
وذهب أبو هاشم :
إلى أنه لا يقال له يفعل إلا فى الحالة الثانية. وأما الحالة الأولى : فيقال له
فيها سيفعل ، ولا يقال له يفعل.
وذهب بشر بن
المعتمر : إلى أنه يقال للقادر يفعل مطلقا غير مقيد بحالة دون
حالة.
__________________
وذهب أبو الهذيل
أحمد بن العلاف : إلى الفرق بين أفعال القلوب ، وأفعال الجوارح.
فقال : القدرة على
أفعال القلوب لا بد وأن تكون معها ، بخلاف القدرة على أفعال الجوارح ؛ فإنه قال :
بتقدمها عليها إلى غير ذلك من الاختلافات التى لا معول عليها ، ولا
مستند لها فيما بينهم. يظهر فسادها بأوائل النظر لمن له أدنى تنبه. آثرنا الإعراض عن ذكرها شحا على الزمان بتضييعه فى غير مهم.
ومعتمد أهل الحق :
أنه لو لم تكن
القدرة الحادثة متعلقة بالفعل حالة حدوثه ؛ لما كانت متعلقة به أصلا ، واللازم
ممتنع ، فالملزوم ممتنع.
أما
بيان الملازمة : فهو أنه : لو لم تكن القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث وقت حدوثه : فإما
أن تكون متعلقة به قبل حدوثه ، أو بعد حدوثه ، أو فى الحالتين ، أو أنه لا تعلق
لها به أصلا :
لا جائز أن تكون
متعلقة به قبل حدوثه : لوجهين :
الأول : أنه قبل
حدوثه : إما أن يكون ممكن الحدوث فى ذلك الوقت ، أو لا يكون ممكنا.
فإن كان / ممكنا :
فلا يلزم من فرض وقوعه فيه المحال لذاته ، ولو فرضناه حادثا فيه ، فالقدرة تكون
متعلقة به وقت حدوثه ؛ وقد قيل بامتناعه.
وإن لم يكن حدوثه
فيه ممكنا : فليس بواجب ؛ فيكون ممتنعا. وتعلق القدرة بالمستحيل يوجب كونه مقدورا
، وخرج عن كونه مستحيلا ؛ وهو خلاف الفرض. ثم ولجاز تعلقها بكل مستحيل ؛ ضرورة عدم
الفرق ؛ ولم يقل به قائل.
الوجه الثانى :
أنه لو تعلقت القدرة الحادثة بالفعل قبل حدوثه ؛ فالمقدور إما نفيه ، أو ثبوته :
__________________
لا جائز أن يكون
المقدور ثبوته ؛ إذ هو غير ثابت قبل وقت ثبوته.
وإن كان المقدور
نفيه : فالثبوت ليس هو المقدور ؛ وهو خلاف الفرض.
كيف وأن من أصل
الخصم أن المقدور لا بد وأن يكون أثرا للقدرة ؛ وأثر القدرة ؛ إنما هو الحدوث ،
فانتفاء الحدوث لا يكون مقدورا.
ولا جائز أن تكون
القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث بعد وقت حدوثه ؛ لأن متعلق القدرة : إنما هو
الحدوث الممكن بالاتفاق ، وحدوث الحادث بعد حدوثه غير ممكن ؛ فلا يكون متعلق
القدرة ، كيف وأنه لم يقل به قائل. وعلى ما حققناه : فلا يخفى امتناع تعلق القدرة
بحدوث الفعل ، فى الحالتين معا ، وهما القبلية ، والبعدية ؛ فلم يبق إلا أن لا
تكون القدرة متعلقة به أصلا ؛ وهو ممتنع ؛ لما ذكرناه فى إثبات القدرة الحادثة ،
ولأنه على خلاف الإجماع من الفريقين.
فإن
قيل : لا نسلم أنه لو
لم تكن القدرة متعلقة بالفعل وقت حدوثه ؛ لما كانت متعلقة به أصلا.
وما ذكرتموه من
الوجه الأول فى التقرير ؛ فمندفع بتفسير معنى تعلق القدرة بالحادث قبل وقت حدوثه :
وذلك أن معنى هذا التعلق : أن القدرة إذا حدثت فى وقت أثرت فى الإيجاد ، والحدوث
فى الحالة الثانية من ذلك الوقت.
وعلى هذا : فلا
يلزم من استحالة الحدوث المقدور مع القدرة : أن لا تكون متعلقة به بالتفسير
المذكور ، لا الحدوث فى الوقت الثانى من وقت حدوث القدرة ؛ وخرج عليه امتناع تعلق
القدرة بالمستحيلات ؛ لعدم إمكانها فى كل وقت.
وعلى هذا : فلا
يخفى إبطال الوجه الثانى أيضا ؛ فإنه ليس المقدور هو الحدوث قبل وقت الحدوث ولا
نفيه ؛ بل المقدور هو الإيجاد بالقدرة الحادثة للفعل فى ثانى الحال من وقت وجودها / ؛ وهو معنى تعلقها
بالحدوث قبل وقت الحدوث.
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على تعلق القدرة الحادثة بالفعل حال حدوثه ، لكنه معارض بما يدل على
امتناعه. وبيانه
من ثمانية أوجه :
__________________
الأول
: أنه لا معنى لتعلق
القدرة بالفعل الحادث غير تأثيرها فى إيجاده : فلو كانت متعلقة به وقت وجوده ؛
لكان ذلك إيجادا للموجود ؛ وهو ممتنع ؛ فإن الموجود إذا تحقق ؛ استقل بنفسه ،
واستغنى عن تعلق القدرة به.
الثانى
: هو أن القدرة
ممتنعة التعلق بالباقى حالة بقائه : وإنما كان ذلك ممتنعا ؛ لكون الباقى متحقق
الوجود ، والحادث حال حدوثه متحقق الوجود ؛ فلا تكون القدرة متعلقة به.
الثالث
: هو أن وجود الباقى
، هو نفس الوجود فى وقت الحدوث ؛ فلو كانت القدرة متعلقة به فى وقت الحدوث ؛ لكانت
متعلقة به فى حالة البقاء ؛ لاتحاد المتعلق وامتناع تأثير تعاقب الأوقات فى أحكام
الأنفس ؛ واللازم ممتنع ؛ فالملزوم ممتنع.
الرابع
: أنه لو كان حدوث
الفعل ووجوده حال وجوده مشروطا بتعلق القدرة به حال وجوده ؛ للزم طرد هذا الشرط في
كل ما هو من جنسه من أفعال الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك امتناع وجود مثل مقدور
العبد ، ضرورة فوات شرطه على ما تقرر فى بيان كون الله ـ تعالى ـ قادرا ، لا بقدرة
؛ وذلك ممتنع.
الخامس
: هو أنكم معاشر
الأشاعرة أثبتم لله ـ تعالى ـ قدرة قديمة أزلية ، وقضيتم بأنه لا بد لها من مقدور
تتعلق به فى الأزل ، وأحلتم إمكان المقدور أزلا ، ولا بد وأن تكون القدرة القديمة ،
متعلقة بمقدورها قبل وقت حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة ؛ لكان
ممتنعا فى القدرة القديمة أيضا.
السادس
: هو أن الاتفاق من
الأمة واقع ، على أن المكلف مأمور بالإيمان حالة كفره ، فلو لم يكن قادرا عليه
حالة الأمر ، لكان مأمورا بما لا يقدر عليه ، ولو ساغ ذلك ، لساغ التكليف بكل ما
لا يقدر عليه من الجواهر ، والأعراض ؛ وهو محال.
السابع
: هو أن أقوى أعذار
المكلف ، التى يجب قبولها ، لدفع المؤاخذة عنه ، كون ما كلف به غير مقدور له ؛
فإذا كان المكلف بالفعل ـ قبل الفعل ـ غير قادر عليه ؛ وجب رفع المؤاخذة عنه ،
بعدم الفعل المكلف به ؛ وهو خلاف الإجماع من الأمة ؛ وهذا المحال / إنما لزم من
امتناع تقدم القدرة ؛ فيكون ممتنعا .
__________________
الثامن
: أن الأمة متفقة
على صحة الإطلاق بأن الزوج قادر على الطلاق وعند ذلك : فإما أن يكون قادرا عليه
قبل الطلاق ، أو مع الطلاق. لا جائز أن يقال بالثانى ؛ فإنه لا زوج ، ولا زوجية مع
الطلاق. وإن كان الأول : فهو المطلوب. وكذلك الكلام فى وصف السيد بالقدرة على عتق عبده. ومن هذا الجنس
صحة الإطلاق : بأن الواقف فى مكان ، قادر على الانتقال منه.
وعند ذلك : فإما
أن يكون قادرا على الانتقال منه : قبل الانتقال ، أو مع الانتقال.
فإن كان الأول :
فهو المطلوب.
وإن كان الثانى :
فمع الانتقال لا يكون فى ذلك المكان ، فكيف يصح وصفه بالقدرة على الانتقال عنه؟
والجواب :
أما منع الملازمة
: فمندفعة بما سبق.
وما ذكروه فى
تفسير التعلق ؛ فمبنى على فاسد أصولهم فى تأثير القدرة الحادثة ، فى الحدوث ،
والإيجاد ،
وهو فاسد ؛ لما
سبق تقريره من أنه لا موجد إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الممكنات سواه .
وإن سلمنا تأثير
القدرة الحادثة فى الإيجاد ؛ فإنما يصح تفسير التعلق بما ذكروه : أن لو أمكن بقاء
القدرة ؛ وهو ممتنع على ما تقدم. وبتقدير أن لا يكون ما فيه فوجود الفعل فى ثانى
الحال من وجودها يكون فى حال عدمها ؛ فلا يكون الوجود أثرا لها ؛ لكونها معدومة وقت
وجوده ؛ فإن العدم لا يؤثر فى الوجود كما تقدم تقريره فى مسألة إثبات رؤية البارى
ـ تعالى ـ وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه علي الوجه الثانى أيضا.
__________________
قولهم
: فى الشبهة الأولى
:
لو تعلقت القدرة
بالحادث وقت حدوثه ، كان فيه تحصيل الحاصل : مبنى على أن القدرة مؤثرة فى الإيجاد
؛ وهو ممنوع على ما تقدم ، وإن كانت مؤثرة : فلا يلزم من تعلقها به فى وقت وجوده
إيجاد الموجود ؛ فإنه لا معنى لكونها مؤثرة فى وجوده ، فى وقت وجوده ، غير أنه لو
لا القدرة فى وقت الوجود : لما كان الفعل موجودا فى ذلك الوقت ؛ لا بمعنى أنها
موجدة للفعل الموجود.
وعلى هذا : فقد
بطل قولهم : الموجود إذا تحقق استغنى عن تعلق القدرة به.
ثم يلزمهم على قول
ذلك استغناء المعلول عند تحققه عن العلة : كالعالم ، والعلم. واستغناء المشروط عند
تحققه عن / الشرط : كالعلم مع الحياة ، واستغناء المسبب عند تحققه عن السبب :
كحركة الخاتم ، مع حركة اليد ؛ وهو ممتنع.
فلئن
قالوا : القدرة ليست
علة للمقدور ، ولا شرطا له ؛ فلا يلزم مقارنتها للمقدور بخلاف العلة ، والشرط ؛
فإن من حكم العلة مقارنتها للمعلول ، وكذلك الشرط مع المشروط. وأما المسبب :
فموجود بالقدرة لا بالسبب.
قلنا : القدرة وإن لم تكن علة للمقدور ، ولا شرطا له. غير أن
المقدور مفتقر إلى القدرة كافتقار المعلول إلى العلة ، والمشروط إلى الشرط ؛ فإذا
كان المقدور عند وجوده ، مستقلا بالوجود ، مستغنيا عما لا يتم وجوده إلا به ؛
فكذلك المعلول ، والمشروط ؛ ضرورة عدم الفرق من جهة كون كل واحد مفتقرا إليه فى
الوجود.
وقولهم
: إن المسبب مقدور
بالقدرة ؛ فلا يخفى أن الخارج عن محل القدرة غير حاصل بمجرد القدرة دون تقدير سبب
، فالسبب يكون مفتقرا إليه فى الوجود : كالافتقار إلى القدرة. فإذا جاز استقلال
الفعل المتوقف على القدرة بعد وجوده ، مستغنيا عن وجود القدرة معه ؛ فكذلك السبب.
قولهم
فى الشبهة الثانية : القدرة ممتنعة التعلق بالباقى ؛ لكونه موجودا ؛ فكذلك فى أول الوجود.
__________________
فنقول عنه أوجه ثلاثة
:
الأول
: لا نسلم امتناع
تعلق القدرة بالباقى ؛ لكونه موجودا ، وليس لهم فى إثبات ذلك غير الطرد ، والعكس ،
والسبر ، والتقسيم ؛ وقد سبق إبطال كل واحد منهما .
الثانى
: الفرق : وبيانه :
أن الحادث هو الموجود بعدم العدم ، فلو لم تتعلق به القدرة ؛ لبقى على العدم ؛ وقد
قيل بوجوده. بخلاف الباقى : فإنه كان موجودا فى حالة الحدوث ؛ فلو لم يقدر تعلق
القدرة به فى حالة البقاء ؛ لبقى على الوجود ؛ وليس بمحال ؛ لكونه واقعا.
الثالث
: النقض بصور ثلاث :
الصورة
الأولى : النقض بإحكام الفعل ، وإتقانه ؛ فإن المؤثر فيه علم المحكم أو
عالميته ، ولم يشترط مقارنة العلم ، أو العالمية للإحكام والإتقان حالة بقائه.
وإن كان ذلك مشترطا عندهم حالة وجود الإحكام ، ولا يخفى وجه الجمع بين الصورتين.
الصورة
الثانية : هو أن بقاء الفعل
بتقدير كونه باقيا عندهم ، لا يؤثر فى اتصاف الفاعل بكونه فاعلا حالة البقاء ، وإن
كان موجبا / لذلك حالة حدوث الفعل.
الصورة
الثالثة : هو أن الإرادة
مقارنة للحدوث ، دون حالة البقاء ، وما لزم من عدم مقارنتها للموجود حالة بقائه ،
أن لا تكون مقترنة به حالة حدوثه ؛ فكذلك فى القدرة ، ولو راموا الفرق بين هذه
الصور ، وبين القدرة ؛ لم يجدوا إليه سبيلا.
وعلى
هذا فقد اندفع ما ذكروه من الشبهة الثالثة أيضا.
وأما
الشبهة الرابعة : فمبنية على أن أفعال الله ـ تعالى ـ غير مقدورة بالقدرة وهو باطل : على ما سبق
تحقيقه فى إثبات القدرة القديمة .
__________________
وأما
الشبهة الخامسة : فالقدرة القديمة ؛ وإن كانت متقدمة على جميع المقدورات ؛ فهى إنما تتعلق
بالأفعال الممكنة ، والفعل فى الأزل غير ممكن ؛ فلا تكون متعلقة به أزلا ؛ بل
تعلقها بالفعل الممكن ؛ فيما لا يزال ؛ وذلك لا يناقض ما ذكرناه ؛ فإنها وإن كانت
متقدمة عليه فى الأزل ؛ فباقية ، ومقارنة له فيما لا يزال .
وأما
الشبهة السادسة : فمبنية على أن التكليف بما لا يطاق ممتنع ، وليس كذلك على ما أسلفناه .
وعلى هذا لا فرق
بين التكليف بالإيمان ، وبإحداث الجواهر ، والأعراض ، وإن فرقنا بين التكليف بالإيمان ،
والتكليف بإحداث الجواهر ، والأعراض حتى جوزنا الأول ، ومنعنا من الثانى ؛ فمن جهة أن إحداث الجواهر والأعراض ، غير مقدور الفعل
والترك بخلاف الإيمان ؛ فإنه وإن لم يكن مقدورا قبل حدوثه ؛ فتركه بالتلبس بضده ؛
وهو الكفر ؛ مقدور حالة كونه كافرا.
وأما
الشبهة السابعة : فمبينة على امتناع المؤاخذة على ما ليس بمقدور ، ومدار ذلك على التحسين ،
والتقبيح الذاتى ؛ وقد سبق ما فيه .
وأما
الشبهة الثامنة : فمعلولها على الإطلاقات اللفظية ، ولا اعتبار بها فى القضايا العقلية ،
والأصول الدينية.
كيف وأنا نقول :
هو قادر على الطلاق وقت الطلاق ، كما تقدم ، وإطلاق اسم الزوج عليه حالة الطلاق.
وإن كانت الزوجية زائلة : باعتبار ما كان عليه ؛ ولا مانع منه.
وعلى هذا فما
ذكروه من باقى الصور يكون الجواب. كيف وأن ما ذكروه ينعكس عليهم فى إطلاق اسم
المطلق على الزوج. فإن كان قبل الطلاق ؛ فهو ممتنع. وإن كان حالة / كونه مطلقا ؛
فليس بزوج.
وعند ذلك : فما هو
جوابهم هاهنا ؛ هو الجواب فيما ألزموه.
__________________
ثم
لو قيل لهم : إذا جوزتم تعلق
القدرة بالمقدور فى الوقت المتقدم على وقت حدوثه ، فما المانع من تعلقها به
قبل وقت حدوثه بأوقات مع أنكم لم تقولوا به ؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
فلئن
قالوا : القدرة مع
المقدور : كالعلم بالمنظور فيه مع النظر ، والنظر لا يقارن العلم بالمنظور فيه ،
ولا العلم متأخر عنه بتقدير عدم الأضداد المانعة منه ؛ فكذلك القدرة مع المقدور.
فنقول : هذا جمع من غير دليل جامع ؛ فلا يكون مفيدا. وما المانع
من أن تكون القدرة مع المقدور ، لا كالنظر مع العلم بالمنظور فيه ؛ بل من قبيل العلم ، والعالمية ، والإرادة ،
والمريدية ، إلى غير ذلك مما قيل بمقارنته دون تقدمه.
وقد استدل الأصحاب
فى المسألة بمسلكين ضعيفين :
المسلك
الأول : هو أنه لو كانت
القدرة الحادثة متقدمة على الفعل المقدور ، وهو واقع بها فى الحالة الثالثة ؛ لجاز
تقدير عدمها فى الحالة الثانية ، بتقدير وجود عجز مضاد لها فى الحالة الثانية ، أو
فوات شرطها ، ويلزم من ذلك ، وقوع الفعل فى الحالة الثانية ، مع تحقق العجز المضاد
، أو فوات شرط القدرة ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
العجز المفروض فى
الحالة الثانية من وجود القدرة الحادثة ؛ لا يلزمه انتفاء الفعل فى تلك الحالة ؛
فلا يكون ضدا للقدرة السابقة ؛ بل إنما يلزم انتفاء الفعل فى الحالة الثانية من
حالة وجوده ، كما أن القدرة لا تؤثر فى الفعل فى وقت وجودها ؛ بل فى ثانى الحال ؛
فالعجز المضاد للقدرة : إنما هو العجز المفروض وقوعه فى حالة فرض وقوع القدرة فيها
؛ فلا يكون موجودا معها.
فإن
قيل : فالقدرة المتقدمة
المتعلقة بالفعل فى ثانى الحال : إما أن تكون متعلقة بالفعل فى الزمن الثالث
وما بعده ، أو لا تعلق لها به فيه.
__________________
فإن كان الأول :
فيلزم من فرض وجود العجز فى الحالة الثانية قطع تعلق القدرة بالمقدور فى الحالة
الثالثة ؛ وفيه قلب جنس القدرة حيث قيل بانقطاع تعلقها بعد التعلق ، ولو جاز مثل
ذلك بالنسبة إلى الحالة الثالثة ؛ لجاز مثله فى الحالة الثانية ، وأنتم غير قائلين
به.
وإن كان الثانى :
فيلزم منه أن ما اقتضته القدرة ؛ فالعجز غير مانع منه ، وما منعه العجز فغير ما
اقتضته القدرة ، ويلزم / من ذلك ارتفاع التضاد بين العجز والقدرة ؛ وهو ممتنع.
فيقال : المختار من القسمين : إنما هو الثانى منهما ؛ ولكن غايته
أن العجز المفروض فى الحالة الثانية ، غير مضاد للقدرة الموجودة فى الحالة الأولى
، ولا يلزم منه ارتفاع التضاد بين القدرة ، والعجز مطلقا ؛ فإن العجز المضاد
للقدرة ما يقدر وجوده وقت وجود القدرة ، لا ما يقدر وجوده قبلها ولا بعدها ؛ وهما
مما لا يمنعان.
المسلك الثانى :
هو أن القول بتقدم
القدرة على المقدور مما يمنع من تفرقة العاقل بين كونه قادرا ، وبين كونه عاجزا ؛
واللازم ممتنع ؛ فالملزوم مثله.
وبيان الملازمة :
هو أنه إذا تقدمت القدرة الحادثة على المقدور ؛ فالمقدور بها ممتنع فى حال وجودها.
ولو قدر وجود العجز فى الوقت المتقدم على وقت وجود القدرة ؛ فالفعل يمتنع به فى
وقت وجود القدرة ؛ وهى الحالة الثانية منه ؛ فإذن قد ساوى وجود القدرة للعجز فى
حكمه ، وهو امتناع الفعل ، ويلزم من ذلك ، امتناع التفرقة بين الفعل مع القدرة ،
والفعل مع العجز ؛ وهو محال.
ولهذا : فإن كل
عاقل يجد من نفسه التفرقة بين حركته مختارا ، ومرتعشا ، وبين كونه ماشيا بالاختيار
، وبين كونه مسحوبا مجرورا على وجهه كرها.
ولقائل أن يقول :
هذا : إنما يلزم
أن لو كانت القدرة فى وقت حدوثها : قدرة على الفعل فى ذلك الوقت ، وليس كذلك ؛ بل
هى قدرة عليه فى الزمن الثانى على ما تقرر.
وعند ذلك :
فامتناع وقوع الفعل فى وقت القدرة الحادثة كان لانتفاء القدرة عليه فى الوقت
المتقدم ، وسواء كان عدمها للعجز ، أو لفوات شرطها ، فلا يلزم منه امتناع التفرقة
بين المقدور ، والمعجوز على ما ذكروه.
«الفصل الرابع»
فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين
مذهب أكثر أصحابنا
: امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين معا ، وعلى سبيل البدل ، وسواء كانا ضدين :
مختلفين ، أو متماثلين. أو مختلفين : من غير تضاد ، وأنها لا تتعلق إلا بمقدور
واحد.
وذهب
أكثر المعتزلة : إلى أن القدرة الحادثة : تتعلق بجميع مقدورات العباد المتضاد منها ، وغير
المتضاد.
واختلف
قول أبى هاشم : فى القدرة القائمة بالقلب ، والقدرة القائمة ببعض الجوارح.
فقال مرة : القدرة
القائمة بالقلب تتعلق بجملة أفعال القلوب : كالاعتقادات والإرادات / ونحوها ، ولا
تتعلق بغيرها من الحركات ، والألوان ، والاعتمادات. وكذلك القدرة القائمة ببعض
الجوارح تتعلق بجملة أفعال الجوارح من الأكوان ، والاعتمادات ، ولا تتعلق بشيء من
أفعال القلوب.
وقال مرة أخرى :
كل واحدة من القدرتين تتعلق بجميع المقدورات من أفعال القلوب ، والجوارح ، غير أنه
امتنع اتحاد أفعال الجوارح بقدرة القلب لفقد الآلات ، والبنية المخصوصة ، وكذلك
بالعكس.
وقال مرة : القدرة
القائمة بالقلب تتعلق بأفعال الجوارح ، ولا عكس.
وذهب
ابن الراوندى ، وكثير من أئمتنا : إلى أن القدرة الحادثة تتعلق بالمتضادات على سبيل البدل
، لا معا.
وأجمعت
المعتزلة : على جواز تعلق
القدرة الحادثة بالمتماثلات من كل جنس على ممر الأوقات ، وتعاقب الساعات ، مع
اتفاقهم على امتناع وقوع مثلين فى محل واحد ، بقدرة واحدة ، فى وقت واحد.
__________________
والمعتمد
لأهل الحق : فى امتناع تعلق
القدرة الحادثة ، بالضدين معا : الاستدلال والإلزام.
أما
الاستدلال :
فهو أن القائل
بتعلقها بالضدين معا : إما أن يكون قائلا بوجوب مقارنة القدرة للمقدور ، أو
بتقدمها عليها.
فإن
كان الأول : فالقول بتعلقها
بالضدين معا يوجب اقترانها بالضدين معا ، ويلزم من ذلك اجتماع الضدين ؛ وهو محال.
وإن
كان الثانى : فما ذكرناه من
دليل امتناع تقدم القدرة الحادثة علي مقدورها ، ووجوب مقارنتها له ، دليل عليه
هاهنا ، ويلزم من ذلك اجتماع الضدين كما قررناه.
وأما الإلزام :
فهو أن السهو ،
مضاد للعلم ، ويلزم من كون القدرة الحادثة متعلقة بالضدين معا ، أن تكون القدرة
المتعلقة بالعلم ، متعلقة بالسهو ؛ وهو غير مقدورها.
فإن
قيل : ما ذكرتموه فى
طرف الاستدلال ، فرع مقارنة القدرة للمقدور ؛ وهو متعذر لما سبق.
سلمنا وجوب
مقارنتها للمقدور : ولكن لا نسلم ، امتناع الجمع بين الضدين ؛ وذلك لأن الحكم على
الجمع بين الضدين بكونه مستحيلا : إما أن يكون مع تصوره فى العقل ، أو لا مع
تصوره.
فإن كان الأول :
فما هو متصور فى العقل لا يكون مستحيلا لذاته ، وما لا يكون مستحيلا لذاته ؛ فواجب
، أو ممكن. وعلى كل تقدير ؛ فلا يكون ممتنعا.
وإن كان الثانى :
فالحكم على ما لا تصور له فى العقل بنفى ، أو إثبات يكون ممتنعا.
كيف : وأن الحكم /
باستحالة جمع الضدين علم تصديقى ، وذلك مع عدم تصور مفرداته ؛ محال ، وأحد مفرداته
، الجمع بين الضدين ؛ فكان متصورا.
__________________
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على امتناع تعلق القدرة الحادثة بالضدين معا : لكنه معارض بما يدل على
جوازه ، وبيانه من ستة أوجه :
الأول
: أنه لو كان القادر
على شيء لا يكون قادرا على ضده ؛ لكان فى حكم الملجأ المضطر إلى ذلك المقدور ؛ حيث
لا يقدر على الانفكاك عنه ، وذلك يجر إلى إبطال التفرقة بين القادر ، والمضطر ؛
وهو كما تقدم تحقيقه .
الثانى
: هو أن العجز
المضاد للقدرة : وهو فلا يمتنع تعلقه بالشيء وضده ، ولهذا فإن العاجز عن القعود ،
قد يكون بعينه عاجزا عن القيام ، وكذلك بالعكس ، وكذلك العاجز عن الحركة يمنة ، قد
يكون عاجزا عن الحركة يسرة إلى نظائره ، ويلزم من ذلك : جواز
تعلق القدرة بهما ، لتكون القدرة على مناقضة ضدها.
الثالث
: هو أن القاعد :
قادر على القعود وهو تارك للقيام ، اختيارا ، وترك الشيء اختيارا يلزمه أن يكون
مقدورا ؛ فإن ما لا يكون مقدورا ؛ لا يمكن تركه اختيارا ؛ فالقيام مقدور عليه.
الرابع
: هو أن القادر على
القيام : فى حالة قيامه يجد من نفسه التمكن من القعود ، والاضطجاع وجدانا لا يمارى
فيه عاقل ، ولا يمكن مكابرته ؛ فيكون مقدورا مع القيام أيضا. ولا بد وأن يكون
قادرا عليهما ، بقدرة واحدة ، وإلا فلو كان قادرا على كل واحد منهما بقدرة غير
القدرة على الآخر ؛ لأمكن فرض عدم إحدى القدرتين ، دون الأخرى.
وعند ذلك : يلزم
أن من كان قادرا على القيام ، لا يكون قادرا على القعود وبالعكس ؛ وهو محال.
الخامس
: أنه لو اتحد متعلق
القدرة الحادثة وقدر أن الله ـ تعالى ـ خلق لمن هو فى مكان القدرة على الكون فى
غير ذلك المكان ، ولم يخلق له غيرها ؛ فيلزم أن لا يكون مقتدرا بها على الكون فى
مكانه ، وأن لا يكون مقدورها معها ، فيكون كالعاجز الّذي لا قدرة له ؛ وهو محال.
__________________
السادس
: هو أنه لو أقدر الله
ـ تعالى ـ الكافر على الكفر حالة كفرة ، فلو لم تكن قدرته على الكفر قدرة على
الإيمان ؛ لما كان لله ـ تعالى ـ على الكافر نعمة ؛ وهو خلاف المعقول والمنقول عن
الأنبياء والرسل ، من تذكير الكفار بنعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، وإحسانه إليهم ، وطلب
الشكر له منهم.
وبيان لزوم ذلك /
هو أن القدرة على الكفر ، إذا لم تكن صالحة لغير الكفر ، فهى سبب للعذاب ؛ فتكون
نقمة ؛ لا نعمة ، ووجوده ، ونيته ، واستعداده للذات ، واتصافه بصفات الكمالات شروط
لهذا العذاب ، إذ لولاها لما كان معذبا ؛ فهى إذن نقم لا نعم ، وليست هذه الأمور نعما ؛ لما فيها من اللذات
العاجلة ، وإلا لكان ارتكاب الفواحش نعما ، لما فيها من اللذات ، ولكان من قدم بين
يدى إنسان طعاما لذيذا ، مسموما ، مهلكا ـ وهو عالم به ـ فأكله ذلك الإنسان ، أن
يكون منعما عليه به ، وكل ذلك محال.
وهذا المحال :
إنما لزم من كون القدرة على الكفر ؛ ليست قدرة على غيره ؛ فيكون محالا.
وأما
الإلزام بالعلم
،
والسهو : فإنما يلزم أن لو كان السهو ضدا ومعنى وهو غير مسلم بل هو
سلب العلم فيما من شأنه أن يكون له العلم ؛ على ما ذهب إليه ابن عياش من المعتزلة.
سلمنا كون السهو
معنى ، ولكن لا نسلم أنه مضاد للعلم لذاته ؛ بل هو مضاد لشرطه ، ونسبة السهو إلى
العلم : كنسبة الموت إلى العلم فى كونه مضادا لشرطه ؛ وهو الحياة وليس من شرط
القدرة إذا تعلقت بشيء أن تكون متعلقة بضد شرطه على ما ذهب إليه أبو هاشم.
__________________
سلمنا أن السهو ضد
للعلم ؛ ولكن لا نسلم أنه ليس بمقدور.
وإن سلمنا أنه ليس
بمقدور ؛ فلا نسلم أن القدرة المتعلقة بالشيء تكون متعلقة بجميع أضداده ؛ بل ببعض
الأضداد ، وهذان القولان معزوان إلى البصرى الملقب ، بجعل .
سلمنا امتناع تعلق
القدرة الحادثة بالشيء وضده معا ؛ ولكن ما المانع من تعلقها بأحد الضدين على البدل؟
كما هو مذهب الهمذانى وبعض أصحابكم ، ويدل على ذلك : هو أن القيام ضد القعود ، والإيمان ضد
الكفر ، والقدرة على القعود : وإن قارنها القعود ؛ قدرة على القيام. والقدرة على
الإيمان : قدرة على الكفر ، وإن قارنها الإيمان ، وكذلك بالعكس.
سلمنا امتناع تعلق
القدرة الحادثة بالضدين معا ، وعلى البدل ؛ ولكن ما المانع من تعلقها بالمتماثلات
، كما هو مذهب المعتزلة؟
سلمنا امتناع
تعلقها بالمتماثلات ؛ ولكن ما المانع من تعلقها بالمختلفات التى لا تضاد فيها؟ وما
ذكرتموه من الدليل غير مطرد فيها.
والجواب :
قولهم : / ما
ذكرتموه فرع وجوب مقارنة القدرة للمقدور ؛ فقد حققناه ، وأبطلنا كل ما ورد عليه.
قولهم : لا نسلم
استحالة الجمع بين الضدين ، فهو منع لأمر بديهى ؛ فلا يقبل. وما ذكروه فتشكيك على البديهيات ؛ فلا يكون مسموعا. كيف وأن المحكوم
باستحالته بين الضدين ، إنما هو الجمع المتصور بين المختلفات التى لا تضاد فيها.
وعند ذلك : فحاصل
قولنا باستحالة الجمع بين الضدين (أن ما ) يتصوره من الجمع فى المختلفات منفى عن الضدين بالضرورة ؛
فلم قلتم المحكوم عليه بالنفى غير متصور؟.
__________________
قولهم
فى الشبهة الأولى : أنه لو لم يكن قادرا على ضد المقدور ؛ لكان مضطرا إلى المقدور المتعين.
قلنا : عن جوابان.
الأول
: إن عنيتم بكونه مضطرا
أن فعله غير مقدور ؛ فممنوع. وإن عنيتم بكونه مضطرا أن مقدوره ، ومتعلق قدرته
متعين ، وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواء ؛ فهذا هو عين ما رمناه ، ولا منازعة
فى التسمية. وعلى هذا فقد بطل القول بعدم التفرقة. حيث أن ما نحن فيه مقدور بقدرة
، والفعل الاضطرارى : غير مقدور بقدرة ، وإن وقع التساوى بينهما من جهة عدم
الانفكاك.
ولهذا : من أحاط
به بناء من جميع جوانبه ، وهو حاجز له عن التقلب فى باقى جهاته ؛ فإنه قادر على
الكون فى مكانه بالإجماع منا ومن المعتزلة ، وإن كان لا يجد إلى الانفكاك عن
مقدوره سبيلا.
الثانى
: وإن سلمنا أن
القادر على الشيء ، لا بد وأن يكون قادرا على ضده ، ولكن لم قلتم باتحاد القدرة
المتعلقة بهما؟ وما المانع من تعدد القدرة بتعدد المقدور؟
وأما الشبهة الثانية
: فجوابها من ثلاثة أوجه :
الأول
: أنه وإن كان
العاجز عن القيام عاجزا عن القعود ؛ فلا نسلم أنه بعجز واحد ، ليلزم مثله فى
القدرة.
ولو قيل : ما
المانع من تعدد العجز بتعدد المعجوز عنه؟
لم يجدوا إلى دفعه
سبيلا.
ولهذا ، فإنه
يتصور العجز عن أحدهما ، دون الآخر.
الثانى
: وإن سلمنا أن
العجز عن القيام والقعود واحد ، ولكن لا يخفى أن إلحاق القدرة بالعجز ، تمثيل من
غير دليل جامع ؛ فلا يصح.
الثالث
: الفرق : وهو أن
العجز عن القيام والقعود ، معنى يترتب عليه المنع من القيام والقعود ، والمنع من
القيام ، والمنع. من القعود مجتمعان ؛ فى مقارنة العجز ؛
__________________
فجاز أن يكون /
العجز لذلك واحدا بخلاف وجود القيام والقعود : فإنهما لا يجتمعان ؛ فلا تكون
القدرة عليهما واحدة ؛ لما سبق تقريره من وجوب مقارنة القدرة الحادثة لمقدورها.
وأما الشبهة الثالثة
:
فطريق دفعها أن
يقال : إن أردتم بكون القاعد تاركا للقيام اختيارا أنه متلبس بضده ؛ وهو القعود مقدورا
؛ فهذا مسلم ؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون القيام مقدورا.
وإن أردتم به أن
ترك القيام : وهو عدمه مقدور ؛ فمبنى على أن العدم يكون مقدورا ؛ وهو ممنوع.
وبتقدير أن يكون
عدم القيام مقدورا ( لمقارنته القدرة عليه ؛ فلا يلزم أن يكون وجود القيام
مقدورا ) ؛ لعدم مقارنته للقدرة ؛ على ما سبق تحقيقه. وإن أرتم به
معنى آخر ؛ فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه .
وأما الشبهة الرابعة
:
فباطلة أيضا : فإن
ما يجده القائم فى حالة قيامه من التمكن من القعود ليس عائدا إلى نفس القدرة عليه
فى الحال ؛ إذ هو ممتنع كما سبق ، وإنما هو عائد إلى إمكان وجود القدرة عليه فى
ثانى الحال وبه يقع الفرق بينه وبين الممتنع الوجود.
ثم وإن سلمنا أن
القائم القادر على القيام ، قادر على القعود مع الاستحالة ، فما المانع من كون كل واحد منهما مقدورا
بقدرة غير القدرة على الآخر؟.
قولهم : لو كان كذلك لأمكن فرض عدم إحدى القدرتين مع وجود
الأخرى.
قلنا : إن ثبت التلازم بين القيام والقعود فى المقدورية ؛ فما
المانع من التلازم فى القدرة؟
وعند ذلك : ففرض
عدم أحد المتلازمين مع فرض وجود الآخر يكون ممتنعا.
__________________
وأما الشبهة الخامسة
:
فمبنية على فرض
خلق القدرة قبل وجود المقدور ؛ وهو محل النزاع ؛ فلا يصح.
وأما الشبهة السادسة
: فجوابها من وجهين :
الأول
: أن من أصحابنا من
قال : إنه لا نعمة لله ـ تعالى ـ على الكفار ، وإطلاق اسم النعم عليهم ؛ فلا يمتنع أن يكون تجوزا ، إما باعتبار اعتقاد الكفار لذلك ، أو باعتبار مشابهة مسمى
النعم فى حقهم ، للنعم الحقيقية.
الثانى
: وإن سلمنا وجود
النعم من الله ـ تعالى ـ على الكفار ؛ فلا يتقيد ذلك بالإقدار على الإيمان تعين
القدرة على الكفر ؛ بل جاز أن يقول : ما أوجده لهم من اللّذات وأنواع الكمالات ؛
فهى نعم فى حقهم ؛ إذ هى غير ناشئة من الكفر ، ولا العذاب بسببها ، ولا هى شرط فى
العذاب كما قيل.
وعلى هذا : فلا
يبعد / القول بأن الملذات الحاصلة من الفواحش ، واللذة الحاصلة من أكل الطعام
المسموم ، نعمة من الله ـ تعالى ـ ؛ إذ الفاحشة والأكل غير مولد لها. وإن قارنها
نقمة غير أنه لما كان الاضطرار الملازم لهذه النعمة أعظم منها ، وكانت النعمة
المقارنة له مستحقرة بالنسبة إلى الاضطرار الملازم لها ؛ فربما جرى العرف بإطلاق
النقمة ، والاضراب عن مسمى النعمة ، ولا اعتبار بالإطلاق بعد فهم المعنى.
قولهم : السهو ليس ضدا للعلم ؛ بل هو عدم العلم فيما من شأنه أن
يكون عالما ، عنه جوابان :
الأول
: أنه يلزم من ذلك
أن يكون الشاك ساهيا ؛ لعدم علمه فيه مع كونه بحال يقوم به العلم.
الثانى
: هو أن العلم باق
على أصول المعتزلة ـ وابن عياش ؛ وإن خالف فى ذلك ؛ فمحجوج بما يجده
كل عاقل من نفسه من دوام علمه ببعض الأشياء ، والباقى
__________________
على أصولهم قاطبة
لا ينافيه غير المعانى المضادة. فلو كان السهو عدما ؛ لما كان على أصولهم منافيا
للعلم الباقى مع كونه منافيا له.
قولهم : السهو : وإن كان معنى : إلا أنه ليس ضدا للعلم ؛ بل
لشرطه.
قلنا : لو أمكن ادعاء شرط للعلم ينافيه السهو من غير بيان له ؛
لأمكن ادعاء ذلك فى كل ما يدعى بكونه ضدا.
ولا يخفى ما يلزمه
من الجهالات المقطوع بها ؛ فلا بد من بيان شرط للعلم ؛ ليكون السهو منافيا له ؛
فإنا لا نعقل للعلم شرطا ينافيه السهو.
قولهم : لا نسلم أن السهو ليس بمقدور.
قلنا : هذا خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه من أن سهوه ليس بمقدور
، كما يجد من نفسه عدم القدرة على الألوان ، والطعوم ، وغيرها.
قولهم : بأن القدرة متعلقة ببعض الأضداد دون البعض ؛ فهو تحكم
بالفرق من غير معنى فارق ، ولو طولبوا بالفرق ؛ لما وجدوا إليه سبيلا.
قولهم : ما المانع من تعلق القدرة الحادثة بالشيء وضده على طريق
البدل؟.
قلنا : قد بينا أنه لا تحقق لتعلق القدرة بالمقدور إلا
باقترانها به. فما اقترن بها : ؛ فهو المقدور ، وما لم يقترن وجوده بها ؛ فليس بمقدور.
وعلى هذا : فلا
يخفى أن دعوة القدرة علي القيام ـ حالة القيام ـ قدرة على القعود ؛ دعوى محل
النزاع ، وكذلك بالعكس.
فلئن
قالوا : المعنى بكون أحد
الضدين مقدورا بالقدرة الواحدة على طريق البدل ، فإنه أى الضدين وجد مقارنا للقدرة
، بدل / الآخر ؛ كان مقدورا بها.
فنقول : أما من زعم أن تعلق القدرة بالمقدور تعلق تأثير :
كالمعتزلة ؛ فيلزمه من دعوى تعلق القدرة بالضدين على طريق البدل بهذا التفسير أمر
ممتنع ؛ فيمتنع.
__________________
وبيانه : أنه إذا
كان المؤثر فى الضدين بتقدير وقوع كل واحد منهما ؛ إنما هو قدرة واحدة. فعند فرض
وجود القدرة المؤثرة إذا فرض انتفاء جميع الموانع المانعة للضدين ؛ ففرض وقوع أحد
الضدين عينا مع استوائهما فى وجود المؤثر فيهما ، وانتفاء الموانع ؛ يكون ممتنعا.
وهذا المحال : إنما يلزم من فرض تعلق القدرة بالضدين بالتفسير المذكور ؛ فكان
ممتنعا.
فلئن
قالوا : تخصيص ما تخصص
منهما مع الفرض المذكور مستند إلى الإرادة ؛ إذ الإرادة هى التى من شأنها أن تخصص
أحد الجائزين دون الآخر ، فيلزمهم صور تحقق فيها أحد المقدورين دون الآخر من غير
إرادة. وذلك كما فى صورة النائم ؛ فإنه وإن صدر عنه بعض المقدورات بالقدرة ؛ فمن غير إرادة.
وأما من زعم أن
تعلق القدرة بالمقدور من غير تأثير : كما هو مذهبنا ؛ فدفع هذا السؤال على أصله
عسير جدا.
ولو
قيل : ما المانع من
إيجاد الله ـ تعالى ـ لكل واحد من المقدورين على جهة البدل مقترنا بقدرة واحدة؟ لم
يجدوا إلى دفعه سبيلا. هذا ما عندى فيه ، ولعل غيرى قادر على دفعه.
قولهم
: ما المانع من
تعلق القدرة الواحدة الحادثة بالمتماثلات ؟
قلنا : سنبين أن المتماثلات أضداد : وعند ذلك ؛ فالحكم فيها كما
سبق فى الأضداد المختلفة.
ثم وإن سلمنا أنها
غير متضادة ؛ غير أن الإجماع منا ومن المعتزلة ، واقع على امتناع وقوع المتماثلات
معا ، فى شيء واحد ، بقدرة واحدة.
وإذا كان الجمع
بينهما متعذرا ؛ فيمتنع تعلق القدرة الواحدة الحادثة بهما معا ؛ بل ما اقترن بها ؛
فهو المقدور. وما لم يقترن بها ؛ فليس بمقدور.
قولهم
: ما المانع من
تعلق القدرة الواحدة بالمختلفات : التى لا تضاد فيها؟
__________________
قلنا : أما على أصلكم ، وأصل كل من يرى التعلق بجهة التأثير :
فلما ذكرناه فى تعلق القدرة بالضدين على طريق التعاقب.
وأما على أصلنا :
فلعل عند غيرى حله.
«الفصل الخامس»
فى أن القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها
هذا هو مذهب الشيخ
أبى الحسن الأشعرى / رضى الله عنه.
وقد نقل عن بعض
الأصحاب : القول بكون القدرة الحادثة موجبة للمقدور.
والحق ما ذكره
الشيخ ، وذلك لأن الموجب : قد يطلق فى اللسان بمعنى الموجد.
وقد يطلق بمعنى
المحتم الفارض.
وقد يطلق بمعنى
علة الحكم : كالعلم والقدرة ، بالنسبة إلى العالم والقادر ، وقد يطلق بمعنى المثبت
، وبمعنى المسقط.
لا جائز أن يقال
بكون القدرة الحادثة موجبة بالاعتبار الأول ؛ إذ القدرة غير موجدة ، ولا مؤثرة فى
الحدوث على ما سيأتى تحقيقه.
ولا بالاعتبار
الثانى : إذ التحتم ، والفرض إنما هو بالحكم. والقول بوجود ذلك ؛ غير متصور فى
القدرة الحادثة.
ولا بالاعتبار
الثالث : فإن ذلك فرع تحقق العلة والحكم ؛ وسيأتى إبطاله.
وإن سلم كون
القدرة علة ، فليست علة لكون المقدور مقدورا ؛ إذ العلة على ما يأتى تحقيقه : لا
بد وأن تكون قائمة بمحل حكمها ، والقدرة الحادثة عرض ، والمقدور بها هو الفعل
الحادث ؛ وهو عرض ؛ وقيام العرض بالعرض محال .
ولا بالاعتبار
الرابع ؛ إذ القدرة الحادثة ليست مثبتة للمقدور ؛ على ما يأتى تحقيقه ، ولا مسقطة
له ؛ فلا تكون موجبة بالنسبة إليه بأحد هذين الاعتبارين.
وأن أريد غير هذه
الاعتبارات المشهورة فى اللسان ؛ فلا بد من تصويره. وبتقدير تصويره ؛ فلا يقدح
فيما ذكرناه من نفى الإيجاب بالاعتبارات المذكورة ؛ وهو المطلوب ، ولا منازعة إذ
ذاك فى غير التسمية.
__________________
وإن أطلق مطلق لفظ
الموجب على القدرة الحادثة لمقدورها بسبب وجوب اقترانها بالمقدور من أصحابنا ،
فليس ذلك أولى من إطلاق لفظ الموجب على المقدور ، نظرا إلى وجوب اقترانه بالقدرة
أيضا ؛ فإن وجوب المقارنة مشترك بينهما ، كيف وأن حاصل النزاع معه ليس فى غير
التسمية.
«الفصل السادس»
فى تماثل القدر الحادثة ، واختلافها ، وتضادها ، وأنها
هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة ، وبنية مخصوصة أو لا؟
مذهب أهل الحق من
أصحابنا : أن كل قدرتين تعلقتا بمقدورين ؛ فهما مختلفان ، وكل قدرتين تعلقتا
بمقدور واحد ، وسواء اتحد محل القدرتين ، أو اختلف ؛ فهما متماثلان كما سبق فى
العلم . غير أن تعلق العلمين بالمعلوم الواحد جاز أن يكونا فى وقت واحد ، وفى وقتين بخلاف القدرتين ؛ / فإنهما لا يتعلقان بمقدور واحد فى وقت
واحد ، وسواء اتحد محلهما ، أو اختلف كما يأتى .
وإنما يتصور ذلك
بأن تتعلق إحدى القدرتين به فى حالة النشأة ، والأخرى فى حالة الإعادة.
وأجمعت المعتزلة :
على امتناع القول بتماثل القدر الحادثة اعتمادا منهم على أن ذلك يوجب تعلق المثلين بمقدور
واحد ؛ وهو محال.
وإنما كان كذلك ؛
لأن تعلقهما به : إما فى وقت واحد ، أو فى وقتين.
الأول : محال ؛
لما يأتى ، والثانى : يلزم منه أن يكون المقدور الواحد موجودا حالة فرض تعلق إحدى
القدرتين به ، لوجود مقتضيه ، وأن لا يكون موجودا ؛ لعدم تعلق القدرة الأخرى به فى
ذلك الوقت ؛ وهو محال. وهذا غير سديد ؛ فإنه وإن امتنع تعلق القدرتين به فى وقت
واحد ؛ فما المانع من تعلقهما به فى وقتين؟
قولهم : لأنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور الواحد فى وقت واحد ؛
موجودا معدوما معا .
__________________
قلنا : وإن سلم أنه يلزم من تعلق إحدى القدرتين به وجوده ؛ ولكن
لا نسلم أنه يلزم من عدم تعلق الأخرى به عدمه ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء سبب معين ؛
انتفاء المسبب مع تحقق سبب آخر.
وإنما يلزم
انتفاؤه : أن لو انتفت جميع الأسباب ؛ وهو غير مسلم.
كيف : وأن ما
ذكروه منتقض على أصلهم حيث قالوا : بأن مقدور العبد حالة كونه مقدورا له ؛ لا يكون
مقدورا للرب ـ تعالى ـ ويكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ بأن لا يخلق للعبد القدرة
عليه. ومع ذلك ما لزم من جواز تعلق القدرة الحادثة والقديمة بالمقدور الواحد فى
وقتين ؛ وجود المقدور ، وعدمه معا ؛ لتعلق إحدى القدرتين به ، وعدم تعلق الأخرى
به.
وأما
تضاد القدر : فقد اختلف أصحابنا فيه.
فمنهم : من جوزه
اعتمادا منه على أن القدرتين على الضدين لا يجتمعان ؛ فهما ضدان.
ومنهم : من لم
يطلق اسم التضاد فى ذلك ، مع اعترافه باستحالة الجمع نظرا إلى اختلاف متعلقهما ،
وأن كل واحدة غير متعلقة بما تعلقت به الأخرى.
وحاصل هذا
الاختلاف : يرجع إلى المنازعة فى الإطلاق اللفظى مع الموافقة على المعنى ، ولا
حاصل له.
وأما أن القدرة هل
تتوقف فى تعلقها بالمقدور على آلات وبنية مخصوصة؟ فقد اشترطه المعتزلة ؛ لما رأوه من جرى العادة أن الطائر لا يطير إلا
بجناحين ، والماشى لا يمشى إلا برجلين ، إلى غير ذلك ، وخالفهم أصحابنا فيه.
والكشف عن تحقيق الحق ، وإبطال الباطل ؛ فعلى ما سبق فى الإدراكات .
__________________
«الفصل السابع»
فى أن فعل النائم ، هل هو مقدور له؟
وأن النوم يضاد القدرة ، أم لا؟
وقد
اتفقت المعتزلة ، وكثير من أصحابنا : على امتناع وجود الأفعال الكثيرة المحكمة من النائم ، وعلى
جواز [صدور ] الأفعال القليلة منه.
ثم اختلف القائلون
بجواز صدور الأفعال القليلة منه : فى كونها مقدورة له.
فذهبت
المعتزلة ، وبعض أصحابنا : إلى كونها مقدورة له ، وأن النوم لا يضاد القدرة ، وإن [تضاد العلم ، وغيره من الإدراكات ] باتفاق العقلاء.
وذهب
الأستاذ أبو إسحاق : إلى أن النوم يضاد القدرة كمضادته للعلم ، وباقى الإدراكات.
وذهب
القاضى أبو بكر ، من أصحابنا : إلى أن الفعل القليل الصادر من النائم غير مقطوع بكونه
مكتسبا ، ولا بكونه ضروريا مع إمكان كل واحد من الأمرين.
وقد احتج من قال
بكونها مقدورة له بحجج.
الأولى
: أن النائم كان
قادرا فى يقظته ، والقدرة باقية ، والنوم لا ينافى القدرة ؛ فوجب استصحاب الحال
فيها.
الثانية
: هو أن النائم إذا
انتبه ، فهو على ما كان عليه فى نومه ، ولم يتجدد أمر وراء زوال النوم ، وهو قادر
بعد الانتباه ، وزوال النوم غير موجب للاقتدار ، ولا وجوده ناف للقدرة ؛ فوجب
الاستواء فيما قبل النوم ، وبعد زواله فى الاقتدار.
الثالثة
: هو أنه قد يوجد من
النائم ما لو وجد منه فى حالة اليقظة ؛ لكان واقعا منه على حسب القصد ، والاختيار
، والداعية ، والنوم ، وإن نافى القصد والداعية ؛ فغير مناف للقدرة.
__________________
وهذه الحجج واهية
:
أما
الأولى : فمن وجهين :
الأول
: منع كون القدرة
باقية فى حالة اليقظة على ما سبق.
الثانى
: وإن كانت باقية :
فلم قلتم بوجودها فى حالة النوم. والقول بأن النوم غير مناف للقدرة : عين
محل النزاع.
وأما
الثانية : فمن وجهين أيضا :
الأول
: لا نسلم أن النائم
إذا انتبه ؛ فهو قادر قطعا ؛ بل لعله انتبه (نائما) .
الثانى
: وإن سلم أنه إذا
انتبه ؛ فهو قادر ؛ ولكن ما المانع أن يكون الانتباه شرطا ، أو أن النوم مانع؟
وقولهم : إن النوم غير مضاد للقدرة : عين محل النزاع أيضا.
وأما
الثالثة : فحاصلها يرجع إلى
دعوى محل النزاع فى قولهم : إن النوم غير مناف للقدرة.
وبالجملة : فمن
رام الدلالة على كون أفعال النائم مقدورة له ، أو غير مقدورة على وجه القطع ؛ فقد
كلف نفسه شططا.
/ وأقرب ما فى ذلك
: إنما هو دعوى الضرورة بالعلم بكونها مقدورة له من حيث أنا نفرق بين ارتعاد يده
فى نومه ، وبين تقلبه ، وقبض يده وبسطها ، حسب ما تفرق بينهما فى حق المستيقظ من
غير فرق.
ومن رام التسوية :
بين رعدة يده حالة نومه ، وبين تقلبه فى كونها ضرورية ؛ لم يبعد تطرق التشكيك عنده
فى التسوية بينهما فى حق المستيقظ ؛ وهو بعيد عن المعقول ؛ لكن هذا وإن كان فى
غاية الوضوح ؛ فى النفس من مذهب القاضى أبى بكر حزازة ؛ من حيث أنه لا يبعد أن
يكون ذلك الفعل ضروريا غير مكتسب له ، وحيث فرقنا بالضرورة فى
__________________
حق المستيقظ بين
رعدة يده ، وقيامه وقعوده ، حتى قطعنا بكون الرعدة ضرورة ، والقيام ، والقعود مقدورا مكتسبا ، كان مع الاستيقاظ ،
ولعله شرط فيه ، أو أن النوم مانع منه ؛ فلا يكون الجمع مقطوعا به.
فإن
قيل : إذا قد قلتم بأن النوم مضاد للعلم ، وسائر الإدراكات ، فما وجه الجمع
بينه وبين ما يراه النائم فى منامه ، ويدركه بالسمع ، والبصر ، وغيره من أنواع
الإدراك.
قلنا : أما المعتزلة : فقد أجمعوا على أن ذلك ليس من الإدراكات
فى شيء ؛ بل خيالات ، وظنون بناء على أصولهم من اشتراط انبثاث الأشعة من العين ،
وتوسط الهواء المشف ، والبنية المخصوصة ، وانتفاء الحجب ، والقرب المفرط ، والبعد
المفرط ، إلى غير ذلك من شروط الإدراكات المستقصاة فى الإدراكات ، وعدم تحققها فى
حق النائم.
ووافقهم
على ذلك جماعة من أصحابنا : وإن كانوا مجوزين للإدراكات من غير شرط وبنية ، على ما سبق
، لكن اما بناء على أن النوم ضد لها ، أو لأنها على خلاف العادة.
وذهب
الأستاذ أبو إسحاق : إلى أنها إدراكات حقيقية. فإن الإنسان يجد من نفسه إبصار المبصرات [وسماع المسموعات ] فى حالة نومه حسب ما يراه فى حالة يقظته ، ولو ساغ التشكك
فى ذلك حالة النوم ، لساغ التشكك فيه حالة اليقظة ؛ لكنه لم يخالف فى كون النوم
ضدا للإدراك ، غير أنه زعم أن الإدراك لا بد وأن يقوم بجزء غير ما قام به النوم ؛
وكل واحد من المذهبين محتمل غير يقينى.
__________________
«الفصل الثامن»
فى وجود مقدور بين قادرين ، وأن الله ـ تعالى ـ قادر
على مثل فعل العبد ، أم لا؟
مذهب
أصحابنا : جواز وجود / مقدور
بين قادرين : خالق ، ومكتسب. وامتناع ذلك بين قادرين خالقين ، أو مكتسبين.
وأجمعت
المعتزلة : على اجتماع ذلك
مطلقا غير أبى الحسين البصرى.
أما
حجة أصحابنا : على امتناع مقدور بين قادرين خالقين ؛ فما تقدم .
وأما
بين مكتسبين : فلأن المقدور المكتسب لا يخرج عن محل القدرة عندهم ، والمقدور الواحد لا
يقوم بمحلين مختلفين.
وأما حجتهم على
جواز مقدور بين قادرين : خالق ، ومكتسب ، فحجج .
الأولى
:
أنه إن جاز وجود معلوم بين عالمين ، ومدرك بين مدركين ؛ لم يبعد وجود
مقدور بين قادرين.
(الثانية ): أنه إذا جاز وجود محمول من حاملين ، جاز وجود مقدور من قادرين.
الثالثة
: أنه إذا جاز وجود
مملوك بين مالكين ؛ فكذلك مقدور بين قادرين.
الرابعة
: أن المقدور إذا
كان متوقفا على القدرة ، والبنية المخصوصة والآلة ؛ فلا يبعد توقفه على قدرتين.
الخامسة
: أنه لو لم يكن الرب
ـ تعالى ـ قادرا على مقدور العبد ؛ لما كان قادرا على جنس مقدور العبد ، وهو قادر
على جنس مقدور العبد.
__________________
السادسة
: أنه إذا لم يبعد
عند الخصم تعلق قدرة بمقدورات ، لم يبعد تعلق قدر بمقدور واحد.
السابعة
: أنه إذا كانت قدرة
العبد على الفعل : إنما هى بأقدار الله ـ تعالى ـ له عليه ، وتمكينه له منه. فلأن
يكون الرب ـ تعالى ـ قادرا على مقدور العبد أولى ؛ لأن الإقدار تمكين من الشيء ،
والتمكين من الشيء فوق التمكن منه.
ولهذا : فإنه لو
أعلم الله العبد بشيء ، لزم أن يكون الرب عالما به. وإذا جعل العبد مدركا لشيء ؛
كان مدركا له.
الثامنة
: أنا لو فرضنا جسما
جمادا ؛ فلا يخلو :
إما أن يقال : بأن
الله قادر على ما يمكن أن يوجد فيه من الحركات ، والسكنات مطلقا من غير استثناء
بتقدير خلق الحياة فى ذلك الجسم ، وإقداره على حركاته ، وسكناته ، أو أنه غير قادر
على ذلك مطلقا ؛ بل على ما لا يكون مقدورا للعبد بتقدير خلق الحياة فيه ، وإقداره
عليه.
فإن كان الأول :
فعند خلق الحياة فى ذلك الجسم ، وإقداره على الحركة والسكون : إما أن يقال
باستمرار تعلق قدرة الله ـ تعالى ـ بتلك الحركة ، وذلك السكون ، أو لا يقال
باستمراره.
لا جائز أن يقال
بالثانى : فإنه ليس امتناع استمرار تعلق القدرة القديمة بما نجد من تعلق القدرة
الحادثة أولى من العكس.
وإن كان الأول :
فهو المطلوب.
وإن
قيل : إنه غير قادر على
ذلك مطلقا ؛ بل على ما لا يكون مقدورا للجسم بتقدير إقداره عليه.
/ فنقول : لو كان كون البارى ـ تعالى ـ قادرا مختصا ببعض الحركات ،
والسكنات ؛ لما اختلف حكم الاختصاص بذلك فى أن يقدر إقدار الجسم ، أو لا يقدر ؛
ويلزم من
__________________
ذلك أن لا يكون
الرب ـ تعالى ـ قادرا على كل ما يفرض من الحركات والسكنات ، فى الجسم الجمادى الّذي علم الله أنه لا يقدره ، وهو محال.
وهذه
الحجة : هى أشبه الحجج المذكورة ؛ والكل ضعيف.
أما
الحجج الست الأول : فحاصلها يرجع إلى دعوى مجردة ، وتمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح.
ثم لو لزم طرد ما ذكروه ، من جواز معلوم بين عالمين ، ومحمول بين حاملين
، ومملوك بين مالكين ، فى مقدورين قادرين ؛ لزم طرده في مخلوق بين خالقين ؛ وهو
محال كما تقدم .
وأما
الحجة السابعة : فدعوى مجردة أيضا ؛ فإنه لا معنى لإقدار الرب تعالى للعبد على الفعل ، غير
خلق قدرة العبد على الفعل. ولا يلزم من كونه قادرا على خلق القدرة على الفعل ، أن
يكون قادرا على نفس الفعل.
ولا يخفى ؛ أن
القول بذلك تمثيل من غير دليل جامع ؛ وهو باطل على ما تقدم ذكره . وبمثله يبطل التمثيل أيضا بما ذكر من الأمثلة ، وإن اكتفى
فى ذلك بمجرد دعوى اطراد حكم الإعلام فى الإقدار ؛ فيلزم منه اطراد ذلك فى الشهوة
حتى يقال : إنه إذا خلق للعبد الشهوة أن يكون مشتهيا ، وكذلك فى الجهل والنسيان ،
والألم ، وغير ذلك ؛ وهو محال.
وأما
الحجة الثامنة : فلأنه لو قيل : ما المانع من أن يكون قادرا على حركات الجسم ، وسكناته
مطلقا بتقدير عدم إقداره للجسم ، والقول بقطع الاستمرار وبتقدير إقدار الجسم ،
وجعل تعلق قدرة الجسم به مانعا منه.
قولكم : ليس هو أولى من العكس.
__________________
لا نسلم عدم
الأولوية : وغايته أنكم لم تطلعوا على ما به الأولوية بعد البحث التمام ، والسير
الكامل ؛ وهو غير مفيد لليقين على ما تقدم .
وإن سلمنا أنه لا
أولوية : فما المانع من القسم الثانى : وهو أن لا يكون قادرا على ما يكون مقدورا
للعبد بتقدير إقداره.
قولكم : لو كان البارى ـ تعالى ـ قادرا مختصا ببعض الحركات والسكنات ؛ لما
اختلف حكم الاختصاص بأن يقدر إقدار العبد أو لا ليس كذلك ؛ فإنه إذا كان كونه
قادرا مختصا بما لا يقدر العبد عليه بتقدير إقداره. فلو قطعنا النظر عنه ؛ لكان
قادرا مطلقا ؛ وهو خلاف الفرض.
وعلى هذا فللقائل
أن يقول :
إذا علم الله ـ تعالى
ـ / من جسم من الأجسام أنه لا يقدره على الحركة والسكون ؛ فالحركة والسكون اللذان
لو أقدر الله العبد عليهما ، بتقدير أن لا يعلم عدم إقداره عليهما ؛ لا يكونان
مقدورين للرب ـ تعالى ـ بتقدير علمه أنه لا يقدر العبد عليهما ـ ولا محالة أن موقع
المنع صعب جدا.
والأقرب فى ذلك أن
يقال :
قد ثبت بما قدمناه
فى امتناع خالق غير الله ـ تعالى ـ وجوب تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بكل ممكن.
وثبت بما قدمناه
فى إثبات القدرة الحادثة ، وجوب تعلقها بمقدورها ؛ ويلزم من الأمرين أن يكون مقدور
العبد اكتسابا ؛ مقدورا للرب خلقا.
فإن
قيل : ما ذكرتموه ، وإن
دل على جواز وجود مقدور واحد بين قادرين ؛ فهو معارض بما يدل على امتناعه.
وبيانه من أربعة
أوجه :
الأول
: أنه لو قدر مقدور
بين قادرين : فإما أن يكونا قديمين ، أو محدثين ، أو أحدهما قديما ، والآخر محدثا.
__________________
لا
جائز أن يقال بالأول : لاستحالة وجود قادرين قديمين ، كما سبق تحقيقه.
وإن
كانا محدثين : فإما أن يكون المقدور قائما بمحل قدرتيهما ، أو خارجا عنهما ، أو هو قائم
بمحل قدرة أحدهما دون الآخر.
فإن
كان الأول : فهو محال ؛
لاستحالة قيام المتحد بالمحال المتعدد.
وإن
كان الثانى : فهو محال
لوجهين :
الأول : لأنه إذا
أراده أحدهما ، وكرهه الآخر : فإما أن يوجد أو لا يوجد.
فإن وجد مع كون
القادر عليه كان كارها له ؛ فهو محال.
وإن لم يوجد مع
كون القادر عليه مريدا له ؛ فهو محال.
الثانى : أنهما لو
أرادا إيجاده : فإما أن يوجد بإيجادهما ، أو لا يوجد ، ولا بإيجاد واحد منهما ، أو يوجد بإيجاد
أحدهما دون الآخر.
لا جائز أن يوجد
بإيجادهما ؛ لما سبق فى امتناع مخلوق بين خالقين. وإن لم يوجد أصلا ؛ فيلزم منه
عدم المقدور مع وجود القادر عليه ، وإرادته له من غير مانع ؛ وهو محال.
وإن وجد بإيجاد أحدهما دون الآخر ؛ فلا أولوية.
وإن
كان الثالث : فهو أيضا محال ؛
لهذين الوجهين ، ويخصه وجه ثالث ؛ وهو أن أحدهما موجد له بجهة التولد والسبب ، وهو
الّذي لم يقم المقدور بمحل قدرته ، والثانى قد لا يكون موجدا له بجهة التولد
والسبب.
وعند ذلك : فإما
أن يصح وجوده من غير سبب ، أو لا يصح وجوده إلا بالسبب.
فإن كان الأول :
فقد استغنى المقدور فى وجوده عن الإيجاد بالتولد والسبب.
وإن كان الثانى :
فقد بطل القول / بأن أحدهما يكون موجدا له من غير سبب ، وكل ذلك محال.
__________________
وإن كان أحد
القادرين قديما ، والآخر حادثا ؛ فالكلام فيه كما لو كانا حادثين ، وسواء كان
المقدور قائما بمحل قدرة الحادث ، أو خارجا عنه.
ويزيد هاهنا وجهان
:
الأول : هو أن الفعل إذا وقع مخترعا بإيجاد القديم له ؛ فالقادر
الحادث يصير مضطرا غير مختار [ حيث وقع مقدوره ] مخترعا للرب ـ تعالى ـ ومقتضى كونه قادرا ، أن يكون
مختارا ؛ والجمع بين الاضطرار ، والاختيار ، محال.
الثانى : أن فعل العبد ، ومقدوره لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية
بخلاف فعل القديم ، فلا إيجاد.
الوجه
الثانى : فى الدلالة على
امتناع وجود مقدوريين قادرين : أن تعلق المقدور بالقادر : كتعلق المعلول بالعلة.
وكما استحال تعليل المعلول بعلتين ؛ فيستحيل كون الشيء الواحد مقدورا بقدرتين.
الوجه
الثالث : هو أن الفعل ـ فعل
لفاعله لنفسه ، لا لغيره ، فلو جاز أن يكون فعله لغيره ؛ لجاز أن يكون كونه ؛ كونا
لغيره ، وعبده ، عبدا لغيره.
الرابع
: أنه لو لو جاز أن
يكون فعلا لفاعلين ، لجاز أن يكون لونا واحدا لمتلونين ، وحركة لمتحركين ؛
وهو محال.
والجواب
: أما الشبهة الأولى : فالمختار منها : إنما هو القسم الثالث : وهو أن يكون أحد القادرين ، قديما
مخترعا ، والآخر حادثا ، مكتسبا.
قولهم : إنه إذا أراده أحدهما ، وكرهه الآخر ؛ وجب أن لا يوجد
لكراهة الآخر له.
قلنا : لا يخلو : إما أن يكون الكاره هو المخترع ، أو المكتسب.
فإن كان هو
المخترع : فلا يتصور المقدور ؛ لأن قدرة المكتسب عندنا غير مؤثرة فى الإيجاد على
ما سيأتى.
__________________
وإن كان الكاره هو
المكتسب : فلا يمتنع معه الإيجاد ، ضرورة وجود القادر المؤثر ، وعدم تأثير قدرة
المكتسب ، وكراهيته فى المقدور.
وقولهم : لو أراد إيجاده : فإما أن يوجد بإيجادهما ، أو لا يوجد ،
أو يوجد بإيجاد أحدهما دون الآخر ؛ فالمختار أنه موجود بإيجاد المخترع دون
المكتسب.
قولهم : لا أولوية : إنما يستقيم ، أن لو استويا فى التأثير ،
بأن كان كل واحد (منهما ) مؤثرا بقدرته ، وأما إذا كان القديم هو المؤثر دون الحادث
، فلا.
قولهم : إذا وقع الفعل مخترعا بإيجاد القديم له ؛ فقد صار
المكتسب مضطرا غير مختار.
قلنا : إن قلتم إنه غير مختار ( بمعنى أنه ما وقع الفعل مقارنا لقدرته ؛ فممتنع. وإن قلتم
إنه غير مختار ) بمعنى أن الفعل ما وقع بقدرته ، وأنه لا تأثير لقدرته فى
المقدور نفيا وإثباتا ؛ فمسلم.
وهذا هو نص /
مذهبنا. ولا بعد فى قولنا : إن القدرة متعلقة بالمقدور من غير تأثير ، وإن المقدور
واقع بغيرها : كما فى تعلق العلم بالمعلوم ؛ فإنه لما كان علمنا متعلقا بالمعلوم
من غير تأثير فيه ؛ لم يبعد معه كون المعلوم حاصلا بغيره.
قولهم : إن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية ، بخلاف
فعل الله ـ تعالى.
قلنا : الطاعة ، والمعصية من الصفات العارضة للفعل المقدور بسبب
قصد القادر ، وداعيته. والاختلاف فى العوارض ؛ لا يوجب التفاوت فى ماهية الفعل
المقدور.
قولهم : كما استحال تعليل معلول واحد بعلتين ؛ استحال كون الشيء
الواحد مقدورا بقدرتين.
قلنا : هذا تمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح. كيف وأن الفرق حاصل :
__________________
وهو أن امتناع
تعليل معلول بعلتين : إنما كان لكون العلة موجبة للمعلول ، واجتماع موجبين محال ؛
كما تقدم. بخلاف المقدور بين القادرين : المخترع ، والمكتسب : فإنهما غير موجبين ؛ بل الموجب المخترع دون المكتسب.
قولهم : فعل القادر فعله لنفسه. فلو كان فعله لغيره ؛ لكان كونه لغيره.
قلنا : كون المقدور فعلا للمكتسب : أنه مقارن لقدرته فى محل
قدرته ، ومعنى كونه لغيره : أنه مؤثر فيه. ومع اختلاف هذين الاعتبارين ؛ فلا
منافاة. ودعوى امتناع ذلك ؛ عين محل النزاع.
وما ذكروه أخيرا ؛
فحاصله يرجع إلى التمثيل من غير دليل.
كيف : وأنه وإن
تعذر لون واحد لمتلونين ، وحركة المتحركين ؛ فلا يمتنع معلوم واحد بعلمين ، ومدرك
واحد بإدراكين ؛ وليس إلحاق المقدور بأحد القسمين ، أولى من إلحاقه بالآخر.
وأما أن الله ـ تعالى
ـ قادر على مثل فعل العبد ؛ فهذا مما اتفق عليه أصحابنا ، والمعتزلة : ودليله ما
حققناه من وجوب تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بكل ممكن ؛ ولم يخالف فى ذلك غير البلخى
من المعتزلة ؛ فإنه قال : الرب ـ تعالى ـ لا يقدر على مثل فعل العبد ، اعتمادا منه
على أن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية ، ومقدور الرب ـ تعالى ـ وفعله
ليس كذلك ؛ فلا يكون فعل الرب ـ تعالى ـ مماثلا لفعل العبد ؛ وجوابه ما سبق.
__________________
«الفصل التاسع»
فى امتناع مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة
وهذا مما اتفق علي
امتناعه أرباب المذاهب.
أما بالنسبة إلى
البارى / تعالى ـ ؛ فلاستحالة التعدد فى قدرته.
وأما القادر
المحدث : فمن زعم أن قدرة الحادث مخترعة : كالمعتزلة فقد منعوا من وجود مخترع بقدرتين ، كما
منعوا من صدور واحد بقادرين ؛ وهو ظاهر.
وأما من زعم أن
قدرة الحادث غير مؤثرة ؛ فقد احتج على امتناع ذلك ؛ بأنه لو جاز تعلق قدرتين فى
محل واحد بمقدور واحد ؛ لأمكن فرض وجود كل واحدة من القدرتين فى محل غير محل الأخرى ، مع
فرض تعلقهما بذلك المقدور ؛ وذلك يجر إلى وقوع مقدور بين قادرين ؛ وهو ممتنع كما
سبق .
وهذا الاحتجاج :
ضعيف على أصول أصحابنا من حيث أن القدرة المختلفة المحال ؛ مختلفة عندهم.
وعند ذلك : فلا
يلزم من جواز تعلق القدرتين القائمتين بمحل واحد مع تماثلهما بمقدور واحد ، جواز
تعلقهما به مع اختلافهما.
وإن سلم التماثل بينهما
؛ فالمقدور : إما أن يكون خارجا عن محليهما ، أو قائما بمحليهما ؛ أو بمحل إحداهما
دون الأخرى.
لا جائز أن يقال
بالأول : إذ هو خلاف مذهب القائل بالكسب.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : لاستحالة قيام المقدور المتحد بمحلين مختلفين ؛ فلم يبق إلا الثالث.
وعند ذلك : فلا
يلزم من جواز تعلق القدرتين فى المحل الواحد بالمقدور القائم به ، جواز تعلق
القدرة الخارجة عن محل المقدور بالمقدور.
__________________
والأقرب فى ذلك أن
يقال :
لو جاز وجود مقدور
واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة ؛ لم يخل : إما أن يقال : القدرتان
متماثلتان ، أو غير متماثلتين.
فإن كان الأول :
لزم اجتماع المثلين فى محل واحد ؛ وهو محال كما يأتى تحقيقه فى التضاد .
وإن لم يكونا
متماثلين ؛ فهما مختلفان ، والاختلاف بينهما ، إما مع التضاد أو لا مع التضاد.
فإن كان الأول :
لزم اجتماع الضدين ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى :
فهو محال أيضا ؛ لأن متعلق القدرتين واحد. وطريق تعلقهما به كتعلق العلمين بمعلوم
واحد. فلو جاز الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد متعلقهما ؛ لأمكن القول باختلاف
العلمين مع اتحاد متعلقهما ، ضرورة عدم الفرق ، ولما وقع الوثوق بتماثل مثلين ؛
وهو محال.
وعلى هذا : إن
قلنا بجواز إعادة الأعراض ، فلا يمتنع تعلق المقدور الواحد بقدرتين لقادر واحد فى
وقتين بأن تتعلق إحدى قدرتيه به فى النشأة الأخرى فى حالة الإعادة ، إذ لا يلزم
منه الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد المحل ، ولا اجتماع المثلين فى محل واحد.
__________________
«الفصل العاشر»
فى امتناع تعلق القدرة / الواحدة بمقدور واحد
من وجهين. وأن القادر على الحركة هل يقدر على
تحريك جزء فرد من أجزائه دون الباقى ، أم لا؟
وقد اتفق أرباب
المذاهب : على امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين ، وسواء كانت
القدرة قديمة ، أو حادثة ، وسواء كانت القدرة الحادثة مؤثرة ، أو غير مؤثرة. على
اختلاف المذاهب.
وعند ذلك : فلا بد
من التفصيل فنقول :
أما
القدرة القديمة المخترعة : فيظهر امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين : على رأى من يعتقد
أن الوجود هو نفس الذات ، لا زائد عليها من جهة أن تأثير القدرة : إنما هو فى
الوجود ، فإذا كان الوجود هو الذات ، والذات واحدة ؛ فالوجود واحد لا تعدد فيه ،
وما لا تعدد فيه ؛ فلا يتصور تعلق القدرة به من وجهين.
وأما من يرى أن
الوجود زائد على الذات الموجودة : كالمعتزلة فيبعد امتناع ذلك على معتقده ؛ لأن
الوجود عنده حال زائدة على الذات ، ومن معتقده جواز ثبوت حالين متماثلين لذات
واحدة ؛ حيث قضى بجواز قيام علمين متماثلين بعالم واحد. وقيام العلمين المتماثلين
بالواحد ؛ يوجب له عالميتين متماثلتين. وعند ذلك : فلو قيل له ما المانع من تعلق
القدرة الواحدة بمقدور واحد. بالنظر إلى وجودين متماثلين؟ لم يجد إلى دفعه سبيلا ،
ومن منع من ثبوت عالميتين متماثلتين لمن قام به علمان متماثلان ؛ فقد خرق قواعد
المعتزلة ، وقال قولة لم يقل بها قائل.
كيف : وأنه لو
كانت العالمية الثابتة ، لمن قام به العلمان المتماثلان ، متحدة غير متعددة : فإما
أن تكون ثابتة بالعلمين ، أو بأحدهما.
لا سبيل إلى الأول
؛ لما فيه من تعليل الحكم الواحد بعلتين ؛ وهو محال كما يأتى .
__________________
ولا سبيل إلى
الثانى : فإنه ليس إضافة الحكم إلى أحدهما أولى من الآخر. ثم يلزم منه أن يكون
العلم قائما بشخص لم توجب له العالمية ، وفيه إبطال حقائق العلل ، والمعلولات.
فإن
قيل : لو كان للذات
الواحدة وجودان ؛ فيلزم من تقدير وقوع أحدهما ، وانتفاء الآخر ؛ أن تكون الذات
الواحدة موجودة ، غير موجودة ؛ لما ثبت من أحد الوجودين ، وانتفاء الآخر ؛ وهو
محال.
فلقائل أن يقول :
ما المانع من
تلازم الوجودين على وجه يتعذر الانفكاك بينهما؟ ولا يبعد ذلك فى الأحوال بالنسبة إلى ذات واحدة كما فى التلازم
الواقع بين قبول / الجوهر للأعراض ، وكونه متحيزا.
وإن سلم : جواز
تقدير ثبوت أحدهما ، ونفى الآخر ؛ ولكن لا يلزم منه كون الذات منفية مع تقدير ثبوت
أحد الموجودين لها ، وإنما يلزم ذلك أن لو قدر انتفاء الوجودين ؛ فإنه لا يلزم من
انتفاء إحدى العلتين ، انتفاء معلولها ما لم يقدر انتفاء جميع العلل.
وأما
القدرة الحادثة : فيظهر أيضا امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين على رأى من يرى أنها متعلقة بعين
مقدور القدرة القديمة ، من غير تأثير لها فيه ؛ وأن الوجود الّذي هو متعلق القدرة
القديمة ؛ هو نفس الذات المقدورة على ما تقدم تقريره.
وأما من يرى أنها
مؤثرة فى نفس وجود الذات ، وأن الوجود زائد على الذات المقدورة : فيبعد امتناع ذلك
على رأيه ؛ كما حققناه فى القدرة القديمة.
وأما من يرى أنها
مؤثرة فى ثبوت حالة زائدة على نفس الذات المقدورة بالقدرة القديمة : كالقاضى أبى
بكر ؛ فيبعد أيضا امتناع ذلك على معتقده من حيث أنه إذا لم يمتنع أن يكون للذات
الواحدة حالة زائدة تكون القدرة مؤثرة فيها ، فلا يمتنع أن يكون لها حالتان ؛ تكون
القدرة الواحدة مؤثرة فيهما.
__________________
فإن
قيل : قد دل الدليل على
أن فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ على ما سبق ؛ وعلى ما يأتى ؛ ودلّ الدليل على تعلق قدرة العبد
بالفعل ، وتعلقها به من غير تأثير فيه ؛ لقدم التعلق ، ودل الدليل على امتناع
مخلوق بين خالقين ؛ فيلزم من المجموع دلالة الدليل على تعلق القدرة الحادثة بصفة
زائدة ، ولم يدل على أكثر من ذلك ، وإثبات صفة مجهولة غير معلومة ، بلا اضطرار ولا
نظر ؛ ممتنع.
وأيضا : فإنه لو
جاز أن تؤثر القدرة فى إثبات صفتين للمقدور المكتسب ؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى
الصفتين دون الأخرى ؛ ويلزم من ذلك أن تكون الذات المكتسبة مقدورة ، ضرورة وجود
إحدى الصفتين ، وغير مقدورة ؛ لعدم الصفة الأخرى ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : فإنه لو
جاز تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت صفتين ؛ لم يمتنع أن تكون القدرة الحادثة مؤثرة
فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث ، وفى الأخرى حالة بقاء الذات ؛ ويلزم من ذلك
جواز كون الباقى مقدورا للعبد مع امتناع كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ ؛ وهو محال.
قلنا : أما ما ذكر من دلالة الدليل على وجود تأثير القدرة / الحادثة فى
صفة زائدة ؛ فسيأتى إبطاله فى خلق الأعمال .
وإن سلم دلالة
الدليل على ذلك ؛ فحاصل ما ذكره يرجع إلى انتفاء المدلول ؛ لانتفاء الدليل ؛ وقد سبق إبطاله .
وقوله
: بأنه لو جاز ذلك
؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى الصفتين دون الأخرى ؛ فقد سبق إبطاله فى القول بتعدد
الوجود.
والقول بأنه لو
جاز ذلك لم يمتنع تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث ، وفى
الأخرى حالة البقاء إلي آخره. فمبنى على بقاء الأعراض ؛ وهو غير مسلم على ما يأتى
تحقيقه .
__________________
وإن سلمنا البقاء
، والاستمرار : ولكن لا نسلم أن ذلك يفضى إلى كون الباقى الّذي ليس مقدورا للرب ـ تعالى
ـ حالة بقائه مقدورا للعبد ؛ فإن مقدور العبد إنما هو الصفة الزائدة على نفس الذات
الباقية. لا نفس الذات الباقية.
وإن سلمنا لزوم ما
ذكر : لكن ما ذكره فى الصفتين لازم عليه فى الصفة الواحدة ؛ وذلك بأن يخلق
الله ـ تعالى ـ مقدور العبد ، ثم يخلق له القدرة حالة بقاء المقدور على تلك الصفة
؛ فإنه يلزم أن يكون العبد قادرا حالة البقاء على الباقى مع كونه غير مقدور للرب ـ
تعالى ـ وما هو الجواب فى الصفة الواحدة ؛ هو الجواب فى الصفتين.
وأما أن القادر
على الحركة : هل يمكن أن يحرك جزءا من أجزائه الفردة ، دون حركة ما هو متصل به من
الأجزاء؟ فالذى عليه اتفاق المعتزلة : امتناع ذلك ؛ لأنه لا يتصور ذلك إلا بسكون
باقى الأجزاء ، وانفصال ذلك الجزء عنها ؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون تحركه بالقدرة ؛
لاختلال شرطها : من البنية المخصوصة ؛ وهو مبنى على فاسد أصولهم فى اشتراط البنية ؛ وهو باطل على ما سبق. وأنه لا
مانع من خلق الله ـ تعالى ـ القدرة على الحركة فى الجوهر الفرد. ثم لو قيل : لمن
جوز منهم وقوع المقدور فى الحالة الثانية من وجود القدرة ـ وإن كانت القدرة معدومة
حالة وجود المقدور ـ ما المانع أن تكون حركة الجوهر الفرد حالة انفصاله بقدرة
موجودة حالة التأليف ـ وإن كانت معدومة حالة الانفصال؟ لم يجد إلى الانفصال عن هذه
المطالبة مخلصا.
__________________
«الفصل الحادى عشر»
فى العجز ، وتحقيق معناه
اتفقت الأشاعرة ،
وكل من أثبت الأعراض : على / أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة ، خلافا لأبى هاشم فى أحد
أقواله : فإنه نفى كون العجز معنى ثابتا ، وإن كان معترفا بالأعراض. وللأصم ؛ حيث أنه نفى كون العجز عرضا ؛ لنفيه سائر الأعراض.
والحق ما ذكره أهل
الحق ؛ وذلك لأن كل عاقل يجد من نفسه : التفرقة الضرورية بين كونه ممنوعا من
القيام : حالة كونه زمنا ، وغير ممنوع منه : حالة كونه غير زمن ؛ فاختصاصه بالمنع
من القيام الممكن له حالة كونه زمنا : إما أن يكون بمخصص ، أو لا بمخصص.
لا جائز أن يكون لا بمخصص : وإلا لما كان المنع أولى من عدمه.
وإن كان بمخصص :
فإما أن يكون وجوديا ، أو عدميا.
لا جائز أن يكون
عدميا ، لما سبق فى إثبات القدرة الحادثة.
وإن كان وجوديا :
فليس شيء من الأمور المشتركة بين الحالتين ، وإلا فلا تخصيص.
فلم يبق إلا أن
يكون خاصا بحالة الزمانة دون غيرها : وليس ذلك هو ذاته ، أو بعض ذاته ، ولا العلم
، أو الحياة ، أو الإرادة ، أو البنية المخصوصة ؛ لما تقدم فى إثبات القدرة
الحادثة ، بل لا بد وأن يكون زائدا على ذلك : وهو ما عبر عنه بالعجز ، وهو
المطلوب.
ولأبى هاشم
ومتبعيه ثلاث شبه :
الشبهة الأولى :
أنه قال : قد ثبت
أن البنية المخصوصة شرط فى القدرة ؛ فامتناع القيام على
__________________
الزمن : إنما يلزم
أن يكون بالعجز المضاد للقدرة ، أن لو لم تكن البنية المخصوصة قد اختلت ، ولم يفت
شرط من شرائط القدرة ، ولا سبيل إلى إثباته.
الشبهة الثانية :
أنه قال : من أثبت
العجز : استدل عليه بتعذر الفعل معه ، وليس ذلك من الأحكام المختصة بالعجز ؛
لإمكان ربطه بنفى القدرة ، وكذلك كل حكم يفرض مرتبا على العجز ـ وهو دليل العجز ؛
فإنه يمكن تقديره مع فرض عدم العجز ، وإذا كان كل أثر يستدل به على العجز غير مختص به ؛ امتنع
الاستدلال به عليه.
الشبهة الثالثة :
أن العجز غير
محسوس فى نفسه : كالألوان ، والطعوم ، ولا هو موجب لحال زائدة عليه يستدل بها عليه
؛ فلا سبيل إلى إثباته .
والجواب عن الشبهة
الأولى من وجهين :
الأول
: أن (ما ذكروه) إنما يلزم المعتزلة القائلين باشتراط البنية.
وأما نحن : فلا
نسلم وجود شرط للقدرة وراء الحياة ، وقد بينا كونها مشتركة بين حالة / العجز ،
والاختيار ؛ فلا تصلح للتخصيص.
الثانى
: أن (ما ذكروه) فى العجز ينعكس عليه فى القدرة : وذلك أنه أمكن أن
يضاف التمكن من الفعل إلى صحة البنية لا إلى القدرة كما أمكن إضافة عدم التمكن إلى
اختلال البنية لا إلى العجز ، ولا جواب له عنه.
وعن
الشبهة الثانية : لا نسلم أن الاستدلال على العجز بمجرد تعدد الفعل ، وعدم صحة الاستدلال على
العجز بحكمه ، لا يوجب عدم العجز ؛ بدليل الروائح ، والطعوم ، وكل ما لا يوجب
لمحله حالا ؛ فإنه ثابت ، وإن تعذر الاستدلال عليه بحكمه.
__________________
وعن
الشبهة الثالثة : فإن العجز ، وإن لم يكن محسوسا ؛ فلا نسلم أنه لا حال له ؛ بل
الزمن يجد من نفسه : أنه عاجز عن القيام. كما يجد من قامت به القدرة من نفسه كونه
قادرا.
ثم وإن سلمنا
انتفاء الحال ؛ فلا نسلم أنه يلزم منه انتفاء كل دليل.
وإن سلمنا انتفاء كل دليل ؛ فلا يلزم منه انتفاء المدلول فى
نفسه كما سبق تقريره .
__________________
«الفصل الثانى عشر»
فى متعلق العجز
الأصح فى قولى الشيخ أبى الحسن الأشعرى : أن العجز لا يتعلق
بالمعدوم ؛ بل بالموجود. فالمقعد الزمن عاجز عن القعود الموجود ، لا عن القيام
المعدوم ، وأنه لا يسبق المعجوز عنه ، ولا يتعلق بالضدين على نحو قوله فى القدرة.
ووافقه على ذلك كثير من أصحابنا.
وله قول ضعيف : أن
العجز أنما يتعلق بالمعدوم دون الموجود ، فالمقعد : عاجز عن القيام المعدوم ، دون
القعود الموجود ، وإن كان مضطرا إليه . وقضى بناء على ذلك بجواز تعلق العجز الواحد بالضّدين دون
القدرة كما تقدم ؛ لأن القدرة متعلقة بالوجود ، والعجز بالعدم ، ولا يمتنع اجتماع
الضدّين اللذين هما متعلق العجز فى العدم بخلاف الوجود.
وإلى هذا ذهب كثير
من أصحابنا ؛ وهو مذهب المعتزلة.
ومعتمد القول
الأول : أن العجز هو الضّد الخاص بالقدرة فى جهة التعلق ، فمتعلقه : إما أن يكون
هو متعلق القدرة ، أو غيره.
لا جائز أن يكون
غير متعلق القدرة : وإلا لما تضادا فى التعلق.
وإن كان عينه :
فقد بينا أن متعلق القدرة الوجود ، وأنه يمتنع تعلقها بالضّدين ؛ فكذلك العجز.
وضار ذلك كما فى الإرادة ، والكراهة : فإنهما لما تضادا كان متعلقهما واحدا ، ولو
اختلف متعلقهما بأن كانت الإرادة لشيء ، والكراهة لغيرها ؛ لما تضادا.
فإن
قيل : التفرقة بين /
القدرة ، والعجز ، واقعة بالضرورة. فإذا قيل : بأن متعلق القدرة ، والعجز واحد. ومن مذهبكم : أنه لا أثر للقدرة فى متعلقها
، ولا للعجز فى متعلقه ؛ فلا يبقى للتفرقة وجه.
__________________
وإن سلمنا كون
التعلق واحدا : ولكن لا نسلم وجوب مقارنة العجز للمعجوز عنه ،
وبيانه من وجهين :
الأول
: أن القاعد قادر
على قعوده ، وليس قادرا على قيامه عندكم ، لأنكم قضيتم بوجوب مقارنة القدرة لمقدورها ، ولا يتصور القيام مع
فرض القعود ؛ فلا يكون مقدورا قبل وجوده. فإذا كانت القدرة على القيام منتفية قبل
وجوده ؛ وجب اتصافه بالعجز عنه ؛ فإن المقدور جنسه لا يخلو عن القدرة عليه ، أو
العجز عنه ، ويلزم من تحقق العجز عن القيام حالة القعود ، أن يكون العجز عنه
متقدما عليه.
الثانى
: أن العقلاء مجمعون
على كون الزمن المقعد عاجزا عن القيام مع عدم القيام.
سلمنا وجوب مقارنة
العجز للمعجوز عنه : ولكن لا نسلم وجوب تعلقه بمعجوز واحد ؛ وذلك لأنه يلزم من
وجوب تخصيص كل عجز بمعجوز واحد ، وجود إعجاز لا نهاية لها ، لضرورة أن ما يجوز تقدير القدرة عليه لا يتناهى ، وما لا قدرة عليه مما يجوز
تقدير القدرة عليه يستدعى العجز عنه ، لما سبق تقريره ، فإذا كان ما لا قدرة عليه
مما يجوز تقدير تعلق القدرة به غير متناه ، ولكل واحد عجز متعلق به ؛ فالإعجاز غير
متناهية ؛ وذلك محال.
والجواب عن السؤال
الأول :
أنا لا نسلم أنه
لا يلزم من امتناع تأثير المتعلقين فى المتعلق الواحد ؛ امتناع الاختلاف ؛ بدليل
العلم مع الإدراك.
وعن السؤال الثانى من
وجهين :
الأول
: أن القاعد : وإن لم يكن قادرا على القيام ؛ فلا نسلم أنه لا
بد وأن يكون عاجزا عنه. وما لا يخلوا عن الضدين : إنما هو ما كان قابلا لاتصافه
بأحدهما على البدل. والقاعد حال قعوده ، لا نسلم تصور قدرته على القيام ، ولا عجزه
عنه.
__________________
الثانى
: أنا وإن سلمنا :
امتناع خلو القيام حالة القعود عن القدرة عليه ، وعن ضد القدرة ؛ ولكن لا نسلم أنه
خلا عن ضد القدرة عليه ؛ فإنه كما أن العجز عن القيام . يضاد القدرة على القيام ؛ فالقدرة على القعود. مضادة
للقدرة على القيام ؛ لاستحالة اجتماعهما. والقدرة على القعود وإن كانت ضدا للقدرة
على القيام ؛ فلا يلزم أن تكون عجزا عن القيام.
حتى يقال بتقدم
العجز على / المعجوز عنه ، فإن الموت ضد للقدرة على القيام ، وليس الموت عجزا عن القيام ، ومن أطلق اسم
العجز على الموت بمعنى مشابهته للعجز فى امتناع الفعل ؛ فهو متجوز ، وإن أراد
حقيقة العجز ؛ فقد أخطأ ، وهذا هو الجواب عن الإطلاق فى الوجه الثانى أيضا.
وأما السؤال الثالث :
فإنما يلزم وجود
أعجاز لا نهاية لها : أن لو كان متعلق العجز العدم ؛ وليس كذلك ؛ كما بيناه ، بل
متعلقه إنما هو الوجود ، والوجود منحصر لا أنه غير متناه.
__________________
«الفصل الثالث عشر»
فى تعلق العجز بالمعجوز عنه
مذهب
أصحابنا : أن العجز لا بد
وأن يكون وجوده مقارنا للمعجوز عنه كما فى القدرة ، والمقدور.
وأما
المعتزلة : فمن أثبت العجز منهم اختلفوا.
فمنهم
: من صار إلى وجوب
تقدم العجز (على ) المعجوز عنه فى الوجود كما قالوا فى القدرة ، والمقدور.
ثم بنوا على ذلك امتناع وجود العجز فى الحالة الأولى من وجود المقدور ؛ مع فرض
وجود القدرة فيها ، وجوزوا وجود العجز فى الزمن الثانى من وجود القدرة ؛ لكنه لا
يمنع وجود القدرة السابقة ولا من تعلقها ؛ بل هو عجز عما سيكون فى الزمن الثالث.
ومنهم من لم يوجب
تقدم العجز على المعجوز عنه : مع مصيرهم إلى وجوب تقدم القدرة على المقدور. ثم
بنوا على ذلك امتناع الجمع بين وجود القدرة فى الحالة الأولى ، ووجود العجز فى
الحالة الثانية ، وأنه مهما فرض وجود القدرة فى حالة ، امتنع وجود العجز فى الحالة
الثانية منها. وإن وجد العجز فى الحالة الثانية : امتنع وجود القدرة فى الحالة
الأولى. وبينا أنه لا قدرة فى الحال الأولى ، ولا مقدور لها فى الحالة الثانية ،
وهذا هو مذهب هشام.
وأما
مذهب أهل الحق : فمعتمدهم فيه : أنه لو لم يكن العجز مقارنا للمعجوز عنه ؛ لما كان ضدا للقدرة
؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة :
هو أنا قد بينا أن متعلق العجز : هو متعلق القدرة. وأن القدرة يجب أن تكون فى
تعلقها بالمقدور مقارنة له : فلو كان العجز متقدما على المعجوز عنه ؛ لكان متقدما
على القدرة المقارنة له ، لأن المتقدم على أحد المقترنين في الوجود ؛ يكون متقدما
على الآخر. ويلزم من لزوم تقدم العجز على القدرة ، أن لا يكون ضدا للقدرة ،
__________________
ولا منافيا لها ؛
لأن الضد الموجود فى زمان ؛ لا يلزم أن يكون منافيا لضده فى زمان آخر ؛ إذ لا مانع
من التعاقب. وإنما يكون منافيا له ، ومضادا : فى حال وجوده / والقول بامتناع
التضاد بين العجز والقدرة ، عند المعترفين بالعجز محال ؛ فإن
القادر على الفعل حال كونه قادرا : لا يكون عاجزا عنه ؛ وكذلك بالعكس.
وعلى هذا : فقد
بطل القول بجواز تقدم العجز على المعجوز عنه ، وبطل القول يكون العجز فى الزمن
الثانى من وجود القدرة منافيا لمقدورها ، فإن مقدورها متحقق معها ، والعجز الطارئ
بعده لا يكون منافيا ( له فى ) وقت وجوده ، ولو كان منافيا له فى الزمن الثانى من وجود
القدرة.
كيف : وأنه إذا
وجدت القدرة فى وقت ، وفرض وجود العجز فى الوقت الثانى من وجودها ؛ فإن انتفت
القدرة السابقة ؛ فقد بينا أنه لا تنافى مع اختلاف الزمان ؛ فإن نفى مقدورها مع وجودها
؛ فقد خرج من قامت به عن كونه قادرا مع قيام القدرة به ؛ لوجود العجز المانع من
مقدوره. ولو ساغ وجود قدرة ولا قادر ؛ لساغ وجود علم ، ولا عالم ، وإرادة ولا مريد
؛ وهو محال.
__________________
«الفصل الرابع عشر»
فى اختلاف المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل
لا يتمكن معها
من حمل مائة أخرى
، ومناقضتهم فى ذلك
وقد
اختلفت المعتزلة : فى أن من تمكن من حمل مائة رطل ، ولا يتمكن من حمل مائة رطل أخرى معها .
فذهب بعضهم : إلى
كونه عاجزا عن حمل المائة الأخرى.
ومنهم : من لم
يجوز إطلاق العجز ، ولا القدرة ، وأنه لا يوصف بكونه قادرا على حمل المائة الأخرى
، ولا عاجزا عنها.
ومنهم : من فصل
وقال : هو قادر على حمل مائة من الجملة غير معينة ، وغير قادر على حمل مائة غير
معينة.
وعلى كل قول ؛ فقد
ناقضوا مذهبهم فى وجوب تعلق القدرة الواحدة الحادثة بجميع أجناس مقدورات العبد ،
والمائة الأخرى معينة كانت ، أو غير معينة من جنس مقدورات العبد.
فإذا قيل : إنه
عاجز عنها ، أو غير قادر عليها ؛ كان مناقضا لأصلهم.
فإن
قيل : هذا : وإن كان
أصلنا ؛ لكن لا مطلقا ، بل بشرط أن لا تتعلق مع اتحادها فى الوقت الواحد ، فى محل
واحد ، من الجنس الواحد ، بأكثر من واحد ، والقدرة على حمل المائة ، لو كانت قدرة
على حمل المائة الأخرى ؛ لكان على خلاف هذا الأصل.
قلنا : إنما يكون على خلاف هذا الأصل ، أن لو كان ما تعلقت به
القدرة مع اتحادها ، واتحاد الوقت فى محل واحد كما هو أصلكم ، وليس كذلك ؛ فإن
المقدور : إنما هو الحركة ، ومحلها مختلف ، وهو المائة ، والمائة.
__________________
/
فإن قالوا : المحل وإن كان
مختلفا ، إلا أنه إذا لم يوجد له من القدر غير ما يوازى الاعتمادات فى إحدى
المائتين ؛ فهو لا يقدر على رفع الجميع إلا بزيادة قدر ( أخر موازية لاعتمادات) المائة الأخرى حتى أنه لو خلق له ذلك ؛ لكان قادرا.
قلنا : هذا وإن تخيل فى المائتين المتلاصقتين ، فما يقولون فى
مائة رطل أخرى منفصلة عن المائة المحمولة ؛ إن قلتم بأنه يكون متمكنا من حملها مع
حمل المائة الأخرى ، مع أنه لم يوجد له من القدر غير ما يوازى جواهر المائة المحمولة ؛ فهلا جاز ذلك فى المائتين المتصلتين.
وإن
قلتم : لا يكون متمكنا
من حملها بالقدرة التى بها تمكن من حمل المائة المحمولة : مع أن المقدورين من جنس
واحد فى محلين ؛ فقد ناقضتم أصلكم لا محالة.
__________________
«الفصل الخامس عشر»
فى أن القادر هل يكون ممنوعا عن مقدوره مع وجود قدرته
عليه ، أم لا؟
مذهب
أهل الحق من أصحابنا : أن القادر حالة كونه قادرا ، لا يتصور أن يكون ممنوعا عن الفعل المقدور له.
وذهبت
المعتزلة : إلى جواز ذلك ،
وفرقوا بين العجز ، والمنع ؛ من جهة أن العجز : ما يضاد القدرة دون المقدور.
والمنع بعكسه : وهو ما يضاد المقدور وينافيه ، مع بقاء القدرة. وسواء كان وجوديا
مضادا للمقدور : كالسكون بالنسبة إلى الحركة المقدورة ، أو مولدا لضد المقدور :
كالاعتمادات فى الجسم الثقيل المولدة للحركة السفلية ؛ فإنها مضادة للحركة العلوية. أو عدميا :
كانتفاء ما يشترط ثبوته فى وقوع المقدور : كانتفاء العلم بالفعل المحكم ؛ فإنه
يمنع من وقوعه مقدورا ، وإن لم يمنع من نفس القدرة.
والمعتمد لأهل
الحق فى ذلك مسلكان : استدلالى ، وإلزامى.
أما الاستدلالى :
فهو أنه لو تصور
منع القادر عن مقدوره ؛ لما كانت القدرة مقارنة للمقدور وجوبا ؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة :
أنه إذا تصور وجود القدرة مع امتناع وجود المقدور بالمانع ؛ فالانفكاك بين القدرة
الحادثة ، والمقدور ، لازم قطعا ، واللازم ممتنع ؛ لما بيناه من وجود مقارنة
القدرة لمقدورها ، ويلزم من الملازمة ، وانتفاء اللازم ، انتفاء الملزوم لا محالة
؛ وهو تصور منع القادر عن مقدوره.
فإن
قيل : ما ذكرتموه : وإن
دل على امتناع المنع ، لكنه معارض بما يدل على وقوعه ، وبيانه من ثلاث أوجه :
__________________
الأول
: أنه لو لم يتصور
منع القادر عن مقدوره / مع وجود قدرته عليه ، وإلا لما تصور الفرق بين حال المقيد
إذا كان لا ينافى مكان ، وبين حاله مطلقا عن ذلك مع الصحة ، والسلامة عن الآفات
المانعة من الحركة ؛ حيث أن كل واحد منهما غير قادر حالة لبثه عن الحركة ،
والانتقال عن مكانه ؛ وهو خلاف ما تشهد به العقول.
الثانى
: هو أنا لو فرضنا
شخصا لم تبدل ذاته ، ولم تتغير صفاته فى حالتى القيد ، والإطلاق ، ماشيا ؛ فإنه
يلزم أن يكون قادرا حالة القيد ؛ لكونه قادرا حالة الاطلاق ، ضرورة عدم تغير ذاته
، وصفاته ، ومع ذلك : فإنا نعلم كونه ممنوعا من الفعل حالة القيد.
ولهذا ، فإن
العقلاء إذا أرادوا منع شخص من الحركة ، والانتقال ؛ أوثقوه بالقيود ، وقدروه منعا
من ذلك.
الثالث : هو أن القدرة من الأعراض الباقية ، والباقى لا ينتفى إلا
بضده على ما يأتى تحقيقه. والقيد ليس ضدا للقدرة الحادثة ؛ فوجب أن تكون القدرة
موجودة معه.
والجواب عن الشبهة
الأولى :
أنه وإن لم يتحقق
الفرق بين حال المقيد ، والمطلق من كون الفعل غير مقدور له فى الحالتين على أصلنا
؛ فلا يمنع ذلك من الفرق من جهة أخرى ؛ وذلك أن العادة جارية بعدم خلق الله ـ تعالى
ـ للمقيد القدرة على الحركة ، بخلاف المطلق ، وذلك هو مستند أهل العرف في الحبس
والتقييد ، والتفرقة بين الحالتين : أما أن يكون مستند ذلك المنع فى إحدى الصورتين
، وعدمه فى الأخرى. فلا.
كيف : وأن التمسك
فى القضايا العقلية بالأمور العرفية ممتنع.
وأما الشبهة الثانية
:
فمبنية على امتناع
تغير الصفات فى إحدى الحالتين ؛ وهو غير مسلم. فإنا نعتقد أن الله ـ تعالى ـ خلق
له القدرة حالة كونه ماشيا مطلقا دون الحالة الأخرى بحكم جرى العادة ، واتفاق أهل
العرف والعقل على أن التقييد كان لما ذكرناه فى جواب الشبهة الأولى.
وأما
الشبهة الثالثة : فالجواب عنها من وجهين :
الأول
: لا نسلم أن القدرة
باقية.
الثانى
: وإن سلمنا أنها
باقية ؛ ولكن ما المانع من انتفائها بوجود ضد خلق الله ـ تعالى ـ مقارنا للقيد ، وإن لم يكن القيد
ضدا لها.
وأما
المسلك الإلزامى : فمن أربعة أوجه :
الأول
: هو أنهم قالوا :
القدرة مشاركة لباقى الأعراض فى كل صفة ، ولم تتميز عن باقى الأعراض على أصل
الخصوم بغير صفة التمكن من الفعل ؛ فإذا امتنع التمكن من الفعل : بالمانع مع / وجود القدرة ؛ ففيه قلب لحقيقتها ، وإبطال
لخاصيتها ؛ وهو محال.
الثانى
: هو أن العجز :
إنما كان مضادا للقدرة من جهة اقتضائه ؛ لامتناع الفعل ، فلو جاز أن يمتنع الفعل
مع بقاء القدرة ؛ لما لزم كون العجز ضدا.
الثالث
: هو أن مقتضى
القدرة على أصل الخصوم : التمكن من الفعل ، ومقتضى المنع : امتناع التمكن ، فلو
جاز اجتماع القدرة ، والمنع ؛ إما أن يثبت مقتضاهما ، أو لا يثبت مقتضى واحد منهما
، أو يثبت مقتضى أحدهما دون الآخر. لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو جمع بين النفى
، والإثبات معا ؛ وهو محال. ولا جائر أن يقال بالثانى : لما فيه من إثبات واسطة
بين النفى ، والإثبات ؛ وهو ممتنع.
ولا جائز أن يقال
بالثالث : إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
الرابع
: هو أن القول
باستمرار القدرة مع ارتفاع التمكن بالمنع وثبوته مع زوال المنع يوجب تغيير حكم
الذات ، وتغيير حكم الذات يوجب ثبوت معنى زائد على الذات ؛ وهو محال مخالف
للمعقول.
__________________
وفى هذه الإلزامات
نظر.
أما
الأول : فلأنه لا مانع من
أن يقال : إن مقتضى القدرة التمكن مشروطا بعدم المانع ؛ فانتفاء التمكن
من وجود المنع ؛ لا يكون قلبا لحقيقة القدرة.
وأما
الثانى : فلأنه قد يمتنع
كون العجز مضادا للقدرة ؛ لاقتضائه امتناع الفعل ؛ بل إنما كان مضادا للقدرة بذاته ، وامتناع الفعل
كان لامتناع القدرة عليه ؛ لا للعجز المانع له.
وأما
الثالث : فجوابه ما سبق عن
الإلزام الأول : وهو جواب الإلزام الرابع (أيضا ).
__________________
«الفصل السادس عشر»
فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة ، والإشارة
إلى مناقضتهم فيها
الاختلاف الأول :
ذهب
الجبائى : إلى أن المنع
المضاد للمقدور ، منع له فى الحال الثانى من وجوده ، كما فى القدرة ، والعجز.
وطرد ذلك فى التخلية ، والإطلاق فى اقتضائه للتمكن ، وهو الإقدار على الفعل.
وخالفه
أبو هاشم فى ذلك : وزعم أن المنع : منع للمقدور فى حال حدوثه ، وكذلك التخلية ، والإطلاق
مقتضيان للتمكن فى حال حدوثه .
وعلى هذا ؛ فلو
خلق الله القدرة فى وقت ، وخلق معها المنع ، فعند الجبائى : يمتنع وقوع المقدور فى
الحالة الثانية من وجود المنع.
وعند أبى هاشم :
لا يمتنع به المقدور فى الحالة الثانية إلى أن يستمر إلى الحالة الثانية.
ولو خلق الله
المنع فى الحالة الثانية من وجود القدرة : فعند أبى هاشم : يمتنع به وجود المقدور
فى الحالة الثانية من وجود القدرة.
وعند الجبائى : لا
يمتنع ؛ بل إنما يمتنع به المقدور فى الحالة / الثالثة من وجود القدرة. وكذلك لو
خلق الله القدرة فى وقت ، ووجد معها الإطلاق والتخلية ؛ أمكن وقوع المقدور فى
الوقت الثانى ، وإن لم يكن الإطلاق محققا فيه. ولو كان الإطلاق متحققا : وقت وجود
المقدور دون الأول لما أمكن وجود المقدور فى ذلك الوقت : عند الجبائى.
وعند أبى هاشم :
لا بد من تحقق الإطلاق والتخلية فى وقت وجود المقدور ، ولا أثر له قبل ذلك فى
المقدور فى الوقت الثانى.
__________________
وأما نحن : فقد
عرف من مذهبنا أنه لا أثر للمنع ، والإطلاق ، والتخلية فحاصله عندنا لا يرجع إلا إلى الإقدار ، وعدم الإقدار.
ثم لقائل أن يقول
:
من جعل المانع
مؤثرا فى الحالة الثانية من وجوده : كالجبائى لا يخلو : إما أن يشترط استمرار تحققه فى الحالة الثانية ، أو
لا يشترط.
فإن لم يشترط
الاستمرار : أمكن أن يكون المانع فى الحالة الثانية معدوما ، ويلزم من ذلك
الامتناع في الحالة الثانية ، والمانع معدوم ؛ وهو محال.
وإن اشترط
الاستمرار : فالمؤثر إما ذات المانع ، أو خصوصية وجوده فى الحالة الأولى ، أو فى الحالة الثانية.
فإن كان الأول :
فالمؤثر فى الامتناع مقارن للامتناع ؛ وهو خلاف مذهبه.
وإن كان الثانى :
فخصوصية المانع فى الحالة الأولى غير متحقق فى الحالة الثانية ، وذلك يجر إلى تحقق
الامتناع ، والمانع معدوم ؛ وهو محال.
وإن كان الثالث :
فالمانع مقارن للامتناع فى الحالة الثانية ، وهو خلاف مذهبه.
وأما من شرط
مقارنة المانع للامتناع : كأبي هاشم : فلو قيل له ما الفارق بين تأثير القدرة فى
المقدور ، وتأثير المانع فى المنع حتى قيل باشتراط تقدم القدرة على المقدور ، واشتراط
مقارنة المانع للممنوع ؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.
كيف : وأنه ليس
المنع من حكم القدرة السابقة بالمنع الطارئ ؛ أولى من منع القدرة السابقة لحكم
المنع.
فإن
قال : بل نفى حكم
السابق الطارئ أولى ؛ لقوة الطارئ ؛ لقربه من السبب. وضعف السابق ، لبعده من السبب
، ولهذا : فإن الأيد القوى إذا اعتمد على صخرة ، وأراد الضعيف حملها ؛ فإنه لا
يقدر على إثبات أضداد السكنات الحادثة بالاعتماد وقت
__________________
حدوثها
بالاعتمادات ، ويقدر على ذلك فى حالة دوام تلك السكنات إذا زال ذلك بالاعتماد.
وكذلك / أيضا ؛ فإنه ينتفى السابق من الضدين بالطارئ منهما : كالبياض ، والسواد
مثلا.
قلنا
: بل إبطال حكم
الطارئ السابق المستمر أولى من جهة استقلاله بنفسه في طرف استمراره ،
وعدم الاستقلال الطارئ دون سببه.
وأما
صورة الاستشهاد : فغير لازمة : من جهة أن امتناع حمل الصخرة عند اعتماد الأيد عليها ، إنما كان
لعدم خلق الله ـ تعالى ـ له القدرة على الحمل بحكم جرى العادة.
وأما الأضداد :
فلا نسلم أن الطارئ منها يبطل السابق ؛ بل كل واحد منهما لعرضيته زائل بنفسه من
غير مزيل ؛ على ما يأتى تحقيقه.
وإن سلمنا بقاء
الأعراض : غير أن ما ذكره منتقض على أصله حيث أنه زعم أن التأليف منع من المباينة
عند حدوثه ودوامه ، وأنه أولى بنفى المباينة فى دوامه من نفى التأليف بالمباينة
الطارئة.
الاختلاف الثانى :
أن الممنوع عن
جميع أضداد الشيء : هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء؟ وذلك كمن أحاط به بناء محكم من
جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات ، هل يكون ممنوعا من السكون فى ذلك
المكان؟
والذي ذهب إليه
الجبائى : المنع. واستدل على ذلك بثلاثة مسالك :
الأول
: أنه لو لم يكن
المحاط به ممنوعا من السكون ؛ لكان مع قدرته عليه متمكنا منه ؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة :
أنه إذا كان قادرا على السكون ، وقدر عدم كل مانع ؛ فالتمكن لازم بالضرورة.
__________________
وأما بيان انتفاء
اللازم : هو أن التمكن من فعل الشيء يستدعى عندنا أن يكون متمكنا من فعله ، وتركه
، والسكون غير متمكن من تركه ، بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى.
المسلك الثانى :
أنه قال : من تردى
من شاهق كان فى هويه ممنوعا من الحركة إلى جميع الجهات غير جهة هويه ؛ ويلزم من
ذلك أن يكون ممنوعا من الحركة فى جهة هويه ؛ لأنه لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة هويه ؛
لكان متمكنا من السكون فى الهوى ؛ لما تقرر : أن الفاعل لا بد وأن يكون متمكنا من
ذلك الفعل ، وضده ، وإلا كان مضطرا لا فاعلا. وهو غير متمكن من السكون ؛ بل ممنوعا
منه. ومنعه من السكون : يدل على كونه ممنوعا من الحركة في جهة الهوى.
المسلك الثالث :
هو أن المحاط : لو
كان غير ممنوع من السكون ، وقادرا عليه ؛ لما كان أمره بالسكون قبيحا ؛ لكن أمره
بالسكون قبيح ؛ فلا يكون متمكنا منه.
وصار أبو / هاشم
فى آخر أقواله : إلى مخالفة أبيه فى ذلك. واستدل عليه بأن قال : لو كان البناء المحيط
بالشخص مانعا له من السكون ؛ لكان منافيا له ؛ إذ الممانعة مع عدم المنافاة محال.
ولا منافاة بين الأجسام فى باقى الجهات ، وبين السكون فى الجهة المحاطة ؛ فلا يكون
مانعا.
هذا وأما نحن :
فعلى أصلنا وقولنا بانتفاء المنع كما تقدم ؛ فالسكون غير ممنوع فى حق المحاط به ،
ولكن لا بد من التنبيه على وجه الضعف فيما ذكر.
أما
المسلك الأول للجبائى : فغير صحيح ؛ فإن التمكن من الفعل عندنا : يرجع حاصله على خلق القدرة ، وعدم
التمكن : إلى عدم خلق القدرة عليه. فقوله على هذا : لو لم يكن ممنوعا منه مع قدرته
عليه ؛ لكان متمكنا منه : إما أن يريد به : أنه يكون
__________________
متمكنا منه ،
بمعنى كونه قادرا عليه ، أو بمعنى : أنه لا يكون ممنوعا منه ، أو بمعنى : أنه يكون
قادرا على تركه مع قدرته على فعله ، أو بمعنى آخر.
فإن كان الأول :
فيرجع حاصل الشرطية : أنه لو كان قادرا عليه ؛ لكان قادرا عليه ؛ وهو غير مفيد.
وإن كان الثانى :
فيرجع حاصله : إلى أنه لو لم يكن ممنوعا منه ؛ لما كان ممنوعا منه ؛ وهو من النمط
الأول.
وإن كان الثالث :
فهو أيضا ممتنع ؛ لأن القدرة على ما تقدم لا بد وأن تكون مقارنة للمقدور ، فإذا كان قادرا على السكون ؛ فالسكون يجب أن يكون مقارنا للقدرة
، ويلزم من ذلك استحالة كونه قادرا على عدم السكون ، أو ضد من أضداده : حالة وجود
السكون ؛ لأنه لو كان قادرا عليه ؛ لكان وجوده مقارنا للقدرة ؛ وهو محال ؛
لاستحالة الجمع بين السكون ، وضده. وإن أراد غير ذلك ؛ فلا بد من تصويره ،
والدلالة عليه.
وأيضا : فإنه لو
لم يكن السكون فعلا للمحاط به ؛ لكان من فعل الله ـ تعالى ـ وكما أنه لا يمكن ترك
السكون للمحاط به مع فرض إحاطة الأجسام به ؛ فلا يمكن ترك السكون بالنسبة إلى الله
ـ تعالى ـ مع فرض إحاطة الأجسام به ، ولم يكن ذلك مانعا من فعل الله ـ تعالى ـ للسكون
؛ فكذلك فى فعل المحاط به. غير أن الفرق هاهنا منقدح من جهة أن الله ـ تعالى ـ قادر
على ترك السكون بإزالة الموانع بخلاف المحاط به.
وأيضا : فإن أبا
هاشم : قد نقل عن أبيه : أنه لو لم يكن المحاط به عالما بالإحاطة ، لم يكن ممنوعا
من السكون ، فإن صحت هذه الرواية. لم يبق للفرق بين حالة العلم ، وعدمه معنى ،
فيما يرجع إلى جهة المنع.
وأما
/ المسلك الثانى : فلا نسلم أن المتردى ممنوع من الحركة إلى جميع الجهات ؛ بل هو غير قادر : أى لم يخلق له القدرة
عليها على ما سبق. وعلي هذا : فقد بطل قوله ؛ فيلزم أن يكون ممنوعا من الحركة فى
جهة هويه.
__________________
ثم وإن سلمنا :
أنه ممنوع من الحركة إلى غير جهة الهوى ؛ فلا نسلم أنه يجب أن يكون ممنوعا منها فى
جهة الهوى.
قوله : لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة الهوى ؛ لكان متمكنا
من السكون فى الهوى. لا نسلم ذلك. فإنه لا مانع من كونه غير ممنوع من الحركة ، ولا متمكنا منها ؛ لعدم القدرة عليها.
وإذا لم يكن
متمكنا من الحركة ؛ فلا يلزم أن يكون متمكنا من السكون ؛ لجواز اشتراكهما في عدم
خلق القدرة عليهما.
سلمنا : أنه قادر
على الحركة فى جهة الهوى ، ولكن لا نسلم لزوم تمكنه من السكون ؛ لما تقرر فى
المسلك الأول.
وأما
المسلك الثالث : فمبنى على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح ، وقد أبطلناه .
ثم وإن سلمنا صحة
ذلك ؛ ولكن لا يلزم من كونه غير ممنوع أن يكون قادرا ؛ خلق القدرة عليه. وإذا لم
يكن قادرا ، كان أمره قبيحا.
وإن سلمنا كونه
قادرا : فما المانع من أن يكون امتناع الأمر لعدم شعوره بكونه فعلا له؟ وتصور وقوع
الامتثال به.
وأما
مسلك أبى هاشم : فخارج عن التحقيق ؛ فإنه لا يلزم من كون وجود الأجسام فى باقى الجهات غير
منافية للسكون فى الجهة المحاطة أن لا تكون منافية لكون السكون فعلا للمحاط به.
ولا يخفى : أن
ادعاء ذلك عين محل النزاع ؛ فلا يمكن أخذه فى الدليل.
الاختلاف الثالث.
ذهب الجبائى : إلى
أن العلم الضرورى مانع عند حدوثه ، ودوامه من حدوث العلم المكتسب الواحد ، وإنما
ينتفى العلم الضرورى الباقى بعلمين كسبيين ، وبالجملة بضدين من أضداده.
__________________
ووافقه أبو هاشم
فى قول. وخالفه فى قول.
وزعم : أن العلم
الضرورى يكون مانعا فى ابتداء حدوثه من حدوث العلم الكسبى ، ولا يكون مانعا منه فى
دوامه ، وأنه يكفى فى امتناع وجود العلم الضرورى فى دوامه ، وجود ضد واحد من
أضداده.
احتج الجبائى على
مذهبه بمسلكين :
الأول
: أنه لو لم يكن
العلم الضرورى في بقائه مانعا من حدوث العلم الكسبى ؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى ،
ولو حدث العلم الكسبى ؛ لكان مانعا من بقاء / العلم الضرورى ؛ وهو ممتنع. فإنه لا
يخفى أن جعل الباقى مانعا من حدوث الحادث لاستقلاله بالوجود فى حالة البقاء. أولى
من جعل الحادث مانعا من بقاء الباقى. مع كونه غير مستغن فى حدوثه عن العلة الموجبة
لحدوثه ، وخرج عليه ما إذا اجتمع ضدان ، أو أكثر من أضداد العلم الضرورى ؛ حيث
أنها تكون مانعة من بقائه ؛ لقوتها فى الممانعة بالنسبة إلى الواحد منها.
المسلك الثانى :
أنه لو لم يكن
العلم الضرورى فى حال بقائه مانعا من ضده ؛ لأمكن العالم بنفسه ، وألمه ، ولذته.
من إزالة علمه بذلك ، وهو ممتنع مخالف للمعقول.
واحتج أبو هاشم
على القول المخالف لأبيه : بأن العلم الضرورى بالشيء يماثل العلم الكسبى به ، ومن
علم شيئا علما كسبيا ، أمكنه نفيه بإيجاد ضد واحد من أضداده ؛ فكذلك العلم الضرورى
؛ ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للمثل الآخر.
ولا بد من التنبيه
على ما فى هذه الحجج.
أما الحجة الأولى
للجبائى.
قوله
: لو لم يكن العلم
الضرورى فى بقائه مانعا من العلم الكسبى ؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى ؛ مسلم.
__________________
قوله
: ولو حدث العلم
الكسبى : لكان مانعا من بقاء العلم الضرورى.
لا نسلم ذلك :
وانتفاء العلم الضرورى ، وإن كان لازما عند حدوث العلم الكسبى ؛ فليس لأن العلم
الكسبى مانع منه ؛ بل لعدم خلق الله ـ تعالي ـ له فى ذلك الوقت ؛ لكونه عرضا
متجددا.
وإن سلمنا كون
العلم الكسبى الحادث مانعا منه : ولكن لا نسلم أنه ليس أولى بالمانعية.
قوله
: لأن الباقى مستقل
بالوجود مستغن عن العلة : لا نسلم ذلك بناء على أن العلم الضرورى عندنا عرض ،
والعرض غير باق على ما سيأتى . ومعنى بقائه ليس إلا بمعنى تجدد أمثاله من غير تخلل فاصل
محسوس.
وإن سلمنا كونه
باقيا من غير تجدد ؛ فلا نسلم كونه أولى بالمنع.
قوله
: لأنه مستغن عن
العلة.
قلنا
: إلا أنه بعيد
عنها. والحادث فى أول حدوثه قريب من العلة ؛ فيكون لذلك أقوى.
وأما
الحجة الثانية : فلا نسلم أنه لو لم يكن العلم الضرورى فى حال بقائه مانعا من ضده : لأمكن العالم بنفسه من إزالة علمه بنفسه ؛ لإمكان القول بأنه ليس بمانع. ولا يلزم من ذلك
التمكن من إزالته ؛ لجواز أن لا يخلق الله ـ تعالى ـ له القدرة على إزالته بحكم
جرى العادة.
وأما
حجة أبى هاشم ؛ فهى لازمة
لأبيه.
وأما
نحن فنقول : لا نسلم / أن من
علم علما كسبيا ، أمكنه إزالته بإيجاد ضده ؛ إذ هو غير موجد للضد ، ولا لغيره علي
ما سيأتى .
__________________
وإن أمكن إزالته
بإيجاد ضده ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من جواز ذلك فى العلم الكسبى ؛ جوازه فى العلم
الضرورى.
قوله
: لأن العلم
الضرورى مماثل للعلم الكسبى.
فنقول
: وإن كان مماثلا
له : من حيث هو علم. إلا أنهما لا يفترقان بما به التميز. والتعين.
وعلى هذا : فأمكن
أن يكون ذلك جائزا فى العلم الكسبى ؛ لخصوص تعينه ، أو أن تعين الضرورى مانع منه.
الاختلاف الرابع :
هو أن من اعتمد
على جبل عظيم لا يقدر على تحريكه : هل يكون ثقله المانع من تحريكه مانعا من تجدد
سكون مضاف إلى سكونه؟
فالذى
أجمع عليه الجبائى وابنه : امتناع السكون المتجدد فى مثل هذه الصورة بحكم التولد : غير أنهما اختلفا :
فذهب
الجبائى : إلى أن الاعتماد
لا يتولد عنه شيء أصلا ، لا حركة ولا سكونا : وإنما المولد للحركة والسكون :
الحركة.
وذهب
أبو هاشم فى قول : إلى أن الاعتماد لا يولد السكون ؛ بل الحركة.
وفى
قول آخر : إلى أن الاعتماد
قد يولد الحركة والسكون ؛ لكن فيما يتأتى من المعتمد تحريكه.
وذهب
بعض المعتزلة : إلى أن المعتمد على الجبل يولد السكون فيما يقدر منه على تحريكه لو فصل منه
دون غيره.
ومنهم : من صار
إلى أن المعتمد على الجبل يولد سكونا فى جميع أجزائه.
__________________
وهذا الاختلاف
مبنى على القول بالمنع ؛ وقد أبطلناه ، وعلى القول بالتولد ، وسيأتى إبطاله .
غير أنا نشير إلى
ضعف كل مقالة بما يخصها هاهنا.
فنقول : أما القول بأن الاعتماد لا يولد سكونا : يلزم منه إبطال القول بالتولد مطلقا ؛ وهو خلاف مذهبهم ، وذلك لأن من ألصق حجرا بجدار
واعتمد عليه ؛ فإنا نشاهد سكونه مترتبا على الاعتماد فى جهة الإلصاق ، ولو تركه
لهوى لما فيه من الاعتمادات اللازمة له. فليس سكونه لما فيه من الاعتمادات ؛ إذ هى مقتضية للهوى ، فلو
أمكن القول بعدم استناد السكون إلى ما وجد منه من الاعتماد من الإحساس بمشاهدة
ترتب السكون عليه ؛ لأمكن أن يقال ذلك فى كل ما قيل بتولد شيء عنه ، وإن كان ترتبه
عليه محسوسا.
والّذي
يخص أبا هاشم فى قوله : إن الاعتماد يولد التسكين فيما / يتأتى للمعتمد تحريكه : أن من أحاط به بناء
محكم من جميع جوانبه ، وتحت رجله حجر غير ملصق بمقره ؛ فالمحاط به مسكن لذلك الحجر
باعتماده عليه على أصله ، وإن لم يتأت منه تحريكه.
فإن
قال : هو قادر على
تحريكه بتقدير ارتفاع الموانع.
قلنا : فليكن المعتمد على الجبل العظيم مسكنا للقدر الّذي اعتمد
عليه منه ؛ لكونه قادرا على تحريكه بتقدير زوال الاتصال ، والتأليف المانع من
الحركة. ثم يلزم من ذلك فى البعض الملاصق ، وكذا فى كل بعض منه إلى آخر أجزاء
الجبل ؛ وهو غير قائل به.
__________________
وأما
القول : بأن الاعتماد على
الجبل أوجب تسكينا فى القدر الّذي يقدر على تحريكه بتقدير انفصاله ؛ فيلزم عليه
جواز تسكينه لجميع الجبل ؛ لأنه إذا أمكن تسكين ما امتنع حمله لاتصاله ، والتصاقه
؛ فما المانع من تسكين ما امتنع حمله لثقله؟
والقول بأنه مسكن
لجميع الجبل بالاعتماد عليه. فمع كونه خارقا للعقل ، وجاحدا للضرورة ؛ مخصوم بما
به إبطال التولد .
__________________
«الفصل السابع عشر»
فى تعارض الموانع ، والرد على المعتزلة
مذهب
المعتزلة : أن رجلين
مستويين فى القدرة والقوة ، لو تجاذبا جبلا فى جهتين مختلفتين ؛ وأوجب كل واحد
منهما فى جهته اعتمادات مساوية لاعتمادات الآخر فى جهته ؛ فكل واحد من الاعتمادين
مانع من تولد الجذب من الاعتماد الآخر ، ولا تمانع بين الاعتمادين ، فإنهما لو
تمانعا ؛ لما اجتمعا ، وقد اجتمعا ، ولا أن كل واحد من الجذبين مانع من الجذب الآخر ؛ لأن التمانع بين الجذبين : إما بين
وجوديهما ، أو بين عدميهما ، أو بين وجود أحدهما ، وعدم الآخر.
لا جائز أن يقال
بالأول : إذ لا وجود لواحد منهما.
ولا بالثانى :
لاجتماعهما فى العدم.
ولا بالثالث :
فإنه لا منافاة بين وجود أحدهما ، وعدم الآخر.
ولو تمانعا :
لتنافيا. ولو تنافيا ؛ لامتنع فرض وجود أحدهما مع عدم الآخر.
واعلم : أن ما
ذكروه مبنى على طرفين : وهما التولد ، والمنع.
أما
التولد : فسيأتى إبطاله .
وأما
المنع : فقد أبطلناه .
وبتقدير تسليم
الأمرين فى الجملة ؛ ولكن لا نسلم أن كل واحد من الاعتمادين مانع من تولد الجذب من
الاعتماد الآخر.
وإنما كان كذلك :
لأنه لو كان الاعتماد من أحد الطرفين مانعا من تولد الحركة من الاعتماد الآخر ؛
لتنافيا. ولو تنافيا ؛ لما اجتمعا. وقد اجتمعا / عندنا إذا كانت اعتمادات أحد
الطرفين أزيد من تولد الاعتمادات فى الطرف الآخر.
__________________
فإن
قيل : إن الاعتماد :
إنما يكون مانعا من تولد الحركة عن الاعتماد الآخر بشرط أن يكون مساويا للاعتماد
الآخر ، أو راجحا عليه. وأما إذا كان مرجوحا ؛ فلا.
قلنا : فإذا جاز انتفاء المانع عن المرجوح ؛ فما المانع من أن
يقال : شرط المانع أن يكون راجحا؟ وأما إذا كان مساويا ؛ فلا.
وحيث تعذر تولد
الجذبين إنما كان بناء على انتفاء صلاحية ما عنه التولد ، أو أن يكون شرط صحة
التولد عن الاعتماد الرجحان ، كما كان شرط صحة الممانعة المساواة ، أو الرجحان ؛
وهو صعب لا مخلص لهم منه.
«الفصل الثامن عشر»
فى تحقيق معنى المضطر
قال
الشيخ أبو الحسن الأشعرى : إن المضطر : هو الملجأ إلى مقدوره ؛ لدفع ضرر متوقع بتقدير عدم المقدور
الملجأ إليه.
وقال
القاضى أبو بكر : المضطر : هو المحمول على ما عليه فيه ضرر من مقدوراته ؛ لدفع ما هو أضر منه.
واتفق
الجبائى ، وابنه : على أن المضطر : هو الّذي يفعل فيه الغير فعلا هو من قبيل مقدورات المضطر.
غير أن الجبائى :
لم يشترط أن يكون المفعول فيه غير قادر على مدافعة الفاعل ، وشرطه ابنه.
وحاصل النزاع فى
هذه المسألة : وإن كان يرجع إلى الإطلاقات اللفظية ؛ فالذى قاله القاضى أقربها.
وأما ما قاله الشيخ ؛ فإنه يوجب أن يكو الملجأ إلى أكل المطعوم
اللذيذ الّذي لا ضرر عليه فيه ، وداعيته مصروفة إليه مضطر ؛ وهو خلاف وضع اللغة ، والعرف.
وأما
ما ذهب إليه الجبائى : فباطل من ثلاثة أوجه :
الأول
: أنه ينتقض بالضعيف
المدنف إذا حرك يد الأيّد القوى ، ولم يقصد القوى دفعه وممانعته ؛ فإنه قد فعل فيه
الغير فعلا هو من قبيل مقدوره ، ومع ذلك لا يسمى مضطرا.
الثانى
: هو أن المضطر :
حكم يرجع إلى الجملة ، وما فعل فيه مختص بمحل الفعل ؛ وهو خلاف مذهب الجبائى.
__________________
الثالث
: هو أن من ألجئ إلى
فعل أمر مضر ؛ دفعا لما هو أضر منه ؛ فإنه مضطر. وإن لم يفعل فيه غيره فعلا. ولا
يخفى أن وجود المحدود دون الحد نقض للحد ؛ لكون المحدود أعم من الحد ، والحد يمتنع
أن يكون أعم من المحدود ، أو أخص منه.
وبهذا الوجه
الثالث : يبطل ما ذكره أبو هاشم أيضا.
وقد
أورد بعض / الأصحاب على ما ذكره الجبائى ، وابنه : نقوضا أخر فقال : يلزم على ما ذكرتموه أن يسمى الصحيح
مضطرا إلى صحته ، والحى مضطر إلى حياته ، من حيث أن الصحة ، والحياة فعل الغير فيه
، وكذلك أيضا الكلام فى : قدرته ، وسواده ، وبياضه ؛ وهو غير وارد عليهما ؛ حيث
أنهما شرطا كون الفعل من قبيل مقدورات المضطر .
وما ذكر من الصفات
؛ فليست من قبيل مقدورات المضطر .
فإن
قيل : فيلزم على ما
قاله القاضى : أن لا يكون من خلقت فيه حركة الارتعاش مضطرا ، ومن خلق فيه العلم
الضرورى مضطرا ؛ إذ لا ضرر عليه فيه. وأن لا يكون متناول الميتة حالة مخمصة مضطرا
؛ إذ لا ضرر عليه فى تناولها ؛ وهو خلاف المشهور المعهود من الإطلاق عرفا.
ثم يلزم منه : أن
لا يقع الفرق بين المضطر ، وغير المضطر ؛ إذا كان كل واحد من الفعلين مكتسبا.
قلنا : المضطر إلى الحركة ، والعلم ؛ هو على أصل القاضى ؛ هو
الملجأ إليهما على الشرط المذكور.
وأما من خلقت فيه
الحركة ، أو العلم ؛ فليس مضطرا على الحقيقة عنده ، وإن أطلق اسم المضطر عليه ؛
فليس إلا بطريق التجوز.
وأما تناول الميتة
: فقد أجاب عنه بأنه لا يخلو : إما أن يكون نفس المتناول للميتة حالة المخمصة
عائفة لها ، أو غير عائفة لها.
__________________
فإن كان الأول :
فما خلا فى أكله لها عن ضرر.
وإن كان الثانى :
فلا أسميه مضطرا على الحقيقة ؛ بل تجوزا لمشابهة حاله حال من ألجئ إليها مع
العيافة.
وأما الفرق :
فمتحقق بالاختيار فى أحد الفعلين ؛ وإلا لجاز فى الآخر.
«الفصل التاسع عشر»
فى الملجأ ، وتحقيق معناه
اتفقت الأشاعرة ،
والمعتزلة : على أن الملجأ قادر على ما ألجئ إليه ، وأنه لم يفعل غيره فيه فعلا ، وإن اختلفت عباراتهم فى معنى الملجأ.
فقالت الأشاعرة : الملجأ إلى الفعل : هو الفاعل الّذي يناله ضرر ظاهر من
ترك فعله ، والملجأ إلى ترك الفعل : هو الّذي يناله ضرر ظاهر من الفعل. وهو على
وفق عرف أهل العرف فى إطلاق لفظ الملجأ.
وقد ترددت عبارة
أبى هاشم فيه : فقال تارة : الملجأ إلى الفعل : من فعل ما أخرج فعله عن استحقاق
الذم ، والمدح ، والملجأ إلى ترك الفعل : من أخرج تركه عن استحقاق الذم ، والمدح.
وقال تارة :
الملجأ إلى الفعل : هو الّذي لو حاول ترك الفعل لمنع منه. والملجأ إلى الترك : هو
الّذي لو حاول الفعل لمنع منه.
والعبارتان
مدخولتان :
أما
الأولى : فلأنها / باطلة
بالصبى ، والمجنون المحمول على الفعل ؛ بل البهيمة ؛ فإنه يسمى ملجأ ، وإن لم يكن
فعله مما يستحق عليه ثوابا ولا عقابا. حتى يقال بأن الإلجاء مسقط له ، وكذلك إلجاء
المكلف إلى الفعل المباح إلجاء ، وإن لم يك مسقطا للثواب ، والعقاب على فعل المباح
؛ لأن إسقاط ذلك يستدعى سابقة استحقاقه ، ولا سابقة لذلك فى الفعل المباح.
وأما
العبارة الثانية : فباطلة : من جهة أن المحمول على قول ، أو فعل بإلحاق الضرر به بتقدير تركه ؛
غير ممتنع عليه تركه. وإن لحقه الضرر بسببه ، ومع ذلك فهو ملجأ إليه عرفا : وإن لم
يكن ممنوعا من تركه.
__________________
فإن قيل : علمه
بما يناله من الضرر بتقدير الترك ؛ هو المانع له من الترك ؛ فهو باطل من وجهين :
الأول
: أن هذا يوجب إطلاق
لفظ الإلجاء على كافة القادرين ؛ فإنه ما من أحد إلا ويعلم أنه يتضرر بإلقاء نفسه من شاهق ، أو غيره من
المهالك : كالمياه المغرقة ، والنيران المحرقة ؛ فيكون ملجأ إلى تركه ؛ وهو خلاف
العرف.
الثانى
: أنه يلزم على
سياقه أن يكون البارى ـ تعالى ـ ملجأ إلى ترك القبائح ؛ ضرورة علمه بقبحها ،
واستغنائه عنها ؛ وكل من هذا شأنه ؛ ففعل القبيح يكون عليه ممتنعا.
ولهذا قالت
المعتزلة : إن أهل الجنان ملجئون إلى ترك القبائح ؛ لعلمهم بقبحها .
واستغنائهم عنها ،
والله ـ تعالى ـ يتقدس عن ذلك.
فإن
قيل : الملجأ عندنا :
هو الممنوع الّذي يناله ضرر بتقدير إقدامه على ترك ما ألجئ إليه ، والرب ـ تعالى ـ
متنزه عن لحوق الضرر به.
قلنا : فيلزم على هذا : أن لا يكون أهل الجنة ملجئين إلى ترك
القبائح ، إذ لا ضرر عليهم فى فعلها ؛ لعدم التكليف فى الجنة ، وقد قالوا بإلجائهم
إلى تركها.
__________________
«الفصل العشرون»
فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم ، ولا يتجدد له
بسببه اسم
أما
الأول : فلا نعرف خلافا
بين العقلاء ، وأرباب المذاهب أنه لا يثبت للفاعل من فعله حكم.
أما على رأى من لا
يرى القول بالأحوال : فظاهر.
وأما من يرى القول
بالأحوال : فمداركهم مختلفة.
والّذي يخص أصحابنا القائلين بالأحوال فمسلكان :
الأول
: أنه لو اقتضى فعل
الفاعل له حكما ؛ لكان الفعل قائما بالفاعل على ما سنبنيه : كما فى العلم ، والقدرة ، ونحوه. والفاعل على
التحقيق ليس غير الله ـ تعالى ـ على ما سبق ، وفعله غير قائم به ؛ فامتنع أن يوجب
له حكما.
وهذه الطريقة /
غير مستمرة على أصول المعتزلة القائلين بكون البارى ـ تعالى ـ مريدا بإرادة حادثة
لا فى محل.
المسلك
الثانى : أنه لو أوجب الفعل
لفاعله حكما ، وحالا ؛ للزم تجدد الأحوال فى ذات الله ـ تعالى ـ عند تجدد أفعاله ،
وإحداثه للمحدثات ، وحلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ؛ ممتنع كما سبق .
وهذه
الطريقة أيضا : غير مستمرة على أصول المعتزلة القائلين بتجدد كون البارى ـ تعالى ـ مريدا ،
بتجدد الإرادة الحادثة لا فى محل.
فإن
قيل : البارى ـ تعالى
ـ غير متصف بكونه عالما بوقوع العالم قبل وقوعه ، وبعد وقوعه صار متصفا بكونه
عالما بوقوعه ؛ فقد تجدد له حكم ، وحالة بعد وجود العالم ، لم تكن ثابتة له قبله.
__________________
قلنا
: العالم : عبارة
عمن قام به العلم ، وعلم الله ـ تعالى ـ قديم قائم بذاته أزلا ؛ فهو عالم أزلا ،
والمتجدد بحدوث العالم : تعلق عالميته به لا نفس العالمية ، على ما حققناه من
امتناع إيجاب الفعل للفاعل حكما وحالة زائدة. فبتقدير أن يكون البارى ـ تعالى ـ خالقا
للظلم ، والشر ، والفساد ؛ فيمتنع أن يعود إليه من ذلك حكم ، أو وصف بكونه ظالما ،
أو شريرا ، أو مفسدا.
وأما
المعتزلة : فربما استدلوا
على ذلك : بأنه لو أوجب الفعل لفاعله حالا ، وكل ما يشترط فيه الحياة ؛ فالحال الواجبة به تكون عائدة إلى
الجملة : كالعلم والقدرة ، ونحوه ، ويلزم من ذلك أن يكون الفاعل للظلم في شيء ،
والعدل فى شيء معا موصوفا بكونه عادلا ، وجائرا معا ، وأن يكون الموجب للحركة فى
شيء. والسكون فى شيء معا ، متحركا ساكنا معا ؛ وهو محال.
وهو ضعيف ؛ فإنا
لا نسلم خروج الحال عن محل العلة.
وإن سلمنا ما
ذكروه : غير أنا لا نسلم امتناع اتصاف الجملة بكونها عادلة جائرة بالنسبة إلى قيام
العدل بجزء (والجور ) بجزء آخر من الجملة.
وأما التسمية :
فقد اتفق أصحابنا
: على أنه كما لا يعود إلى الفاعل من فعله حال ، فكذلك لا يعود إليه بسببه اسم ،
وأنه كما لا يوصف الفاعل للظلم والجور ، بكونه ظالما جائرا ؛ فكذلك لا يسمى ظالما ، ولا جائرا ؛ خلافا المعتزلة ؛ فإنهم أوجبوا تسميته ظالما ، جائرا ،
وإن منعوا من وصفه بكونه ظالما جائرا.
وبالجملة : فحاصل
النزاع فى التسمية راجع إلى اللغة التى لا ثبت لها بغير النقل عن أهل الوضع ، وقد
بحثنا فلم نجد نقلا تقوم الحجة به عن العرب يدل على أن
__________________
من فعل الظلم ، أو
العدل : يسمى ظالما ، أو عادلا ؛ لكونه فاعلا للظلم ، أو العدل. فمن ادعى ذلك
يحتاج إلى الدليل.
فإن
قيل : الدليل على ذلك
من وجهين :
الأول
: هو أن قول القائل
ضرب كلمة موضوعة فى اللغة لصدور الفعل / من فاعل فى زمن معين ، ولا فرق فى اللغة
بين أن يقول القائل : ضرب زيد عمروا وبين قوله : فعل زيد بعمرو ضربا ؛ فكذلك إذا
قال : ظلم زيد عمروا معناه : فعل فى عمرو ظلما.
الثانى
: أن من فعل الظلم
فى الشاهد ؛ يسمى ظالما بالاتفاق ، واسم الظالم مشتق من الظلم.
وعند ذلك فمستند
تسميته ظالما : إما قيام بحال به أوجبها الظلم ، أو قيام الظلم به ، وحلوله فيه ، أو لأنه فعل الظلم.
لا جائز أن يقال
بالأول ؛ لما سبق.
ولا جائز أن يقال
بالثانى ؛ لوجهين :
الأول : أنه يلزم
منه أن يكون ما قام به الظلم من أجزاء جملة الإنسان مسمى باسم الظالم ؛ وهو محال ؛
فإن بعض أجزاء الإنسان لا يقال له ظالم.
الثانى : هو أن
الظلم قد يقوم بالمظلوم : كالألم القائم بالجرح ، وقد يقوم بالآلة التى يستعملها
الظالم : كحركات السيف فى (مضاربه ) ولا يسمى المظلوم ، والسيف الّذي قام به الظلم ظالما ؛
فلم يبق إلا القسم الثالث ؛ وهو المطلوب.
والجواب
عن الشبهة الأولى : أنه وإن تحقق ما ذكروه بالنسبة إلى بعض الأفعال. فلم قالوا بلزوم طرد ذلك فى
كل الأفعال : ولو لزم ذلك ؛ للزم أن يسمى الإله ـ تعالى ـ مفسدا ، وأن يقال له
أفسد عندنا : إذا خلق الفساد ، وفعله فى الزروع ، والثمار ، والمواشى ، وغير ذلك
من الموجودات ؛ وهو محال.
__________________
وعن الشبهة الثانية :
بمنع الحصر فيما
ذكروه من الأقسام : ولا سبيل إلى الدّلالة على مواقع المنع بغير البحث والسبر ؛
وقد عرف ما فيه. كيف : وأنه متحرم إذا أمكن أن يقال مستند تسميته ظالما : أنه فعل
ما هو محرم عليه منهى عنه ، أو فعل ما ليس له فعله ، أو لكونه مكتسبا للظلم ، وعلى
كل تقدير ؛ فيمتنع تسمية الرب ـ تعالى ـ ظالما ؛ لكونه فاعلا للظلم.
فإن
قيل : يمتنع تسمية من
فعل الظلم ظالما ؛ لكونه فعل محرما منهيا عنه ؛ لأن من فسق ، وارتكب معصية تخصه ،
ولا تتعدى إلى غيره ؛ فإنه فعل محرما .. ولا يسمى ظالما ؛ ضرورة أنّ الظلم ما
يتعدى إلى الغير.
وأيضا : فإنه سمى ظالما ؛ لكونه فعل فعلا محرما منهيا عنه ؛
فيلزم أن يكون العادل : من فعل واجبا مأمورا به ؛ ويلزم من تسمية الرب ـ تعالى ـ عادلا
؛ أن يكون قد فعل ما وجب عليه ، وأمر به ؛ وهو مقدس عن ذلك.
وأيضا : فإن أرباب
اللسان : وإن لم يكونوا معتقدين للشرائع يسمون مرتكب الفواحش قبل ورود الشرع /
ظالما ، وإن كان ما ارتكب محرما ، ولا منهيا عنه ؛ ضرورة عدم ورود الشرع بذلك ،
وعدم اعتقادهم لذلك.
وعلى هذا : فيمتنع
أن يسمى ظالما ؛ لكونه فعل ما ليس له ؛ إذ لا معنى لكونه فعل ما ليس له إلا أنه
فعل ما نهى عنه ، ويمتنع تسميته ظالما ؛ لكونه مكتسبا للظلم ؛ فإن مستند الاسم
اللغوى لا بد وأن يكون معلوما لأهل اللغة والكسب ، فلم يكن معلوما لهم.
قلنا : لا نسلم أن من ارتكب معصية خاصة به : أنه لا يسمى ظالما.
قولهم : الظلم ما يتعدى إلى الغير ، ممنوع ويدل عليه قوله ـ تعالى
ـ (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) . وقوله (لكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) .
__________________
قولهم : يلزم أن يكون العادل من فعل مأمورا به : لا نسلم لزوم
ذلك على مقتضى ما ذكرناه ، ومرتكب الفواحش قبل ورود الشرع : وإن سمى ظالما ، وامتنع كونه مرتكبا للمنهى شرعا ـ فما امتنع كونه مرتكبا المنهى عقلا. ونحن فلم نخصص النهى بالشرع ، ليرد علينا ما ذكروه.
فإن
قيل : فالعرب قد تسمى
الحية ظالمة : وإن لم تكن مرتكبه منهيا عقلا ، ولا شرعا.
ولهذا تقول العرب
: فلان أظلم من حية ؛ بل قد تسمى الجمادات بذلك كما فى قولهم : ظلم السهم وجار :
إذا مال عن سننه ، وظلم السقا : إذا منع الزبد ، ولم يخرجه بالمخض. وظلمت السماء :
إذا حبست قطرها فى أوانه ، ومطرت فى غير أوان المطر.
وقد قال الله ـ تعالى
ـ (كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) ، أى آتت بثمرها من غير نقص.
قلنا : ما ذكرتموه : إما أن يكون مع الاعتراف منكم بجواز صدور
الظّلم من الجمادات ، والحيوانات العجماوات ، أو لا مع الاعتراف به.
فإن
كان الأول : فإما أن يكون
السبب فى تسميتها ظالمة صدور الظلم منها ، أو غير ذلك.
فإن كان السبب هو
صدور الظلم منها ؛ فيلزمكم أن يسمى الأسد المفترس الضارى ظالما ، والحمل الهائج
المؤذى ظالما ، والطفل الّذي لا تمييز له ـ إذا صدر منه الأذى ـ ظالما ؛ وهو محال
غير سائغ فى اللغة.
وإن كان الثانى :
فقد بطل قولكم : إن الظالم من فعل الظلم ، وكذلك يبطل إن قلتم إن الظلم غير صادر
منها.
قولهم : يمتنع أن يسمى ظالما ؛ لكونه فعل ما ليس له ؛ فجوابه ما
سبق أيضا فى الوجه الأول.
__________________
قولهم : العرب لا تعرف كسبا .
قلنا : هذا مردود بقول العرب : اكتسب فلان / شرا ، واكتسب فلان
خيرا ، ومثوبة.
ثم وإن سلمنا
الحصر فيما ذكروه : ولكن ما المانع من تسميته ظالما ؛ لقيام الظلم به.
قولهم
: يلزم أن ما قام
به الظلم من أجزاء الإنسان : أن يسمى ظالما مسلم ؛ (لكن ) لم قلتم بإحالته ؛ وهو مذهبنا؟
ولهذا يقال : فلان
أسود البشرة. وكذل يقال : فلان أخرس اللسان. إذا قام السواد بالبشرة ، والخرس
باللسان.
ويدل عليه تسمية
القلب فى كلام الله ـ تعالى ـ متكبرا عند قيام الكبرياء به بقوله : (قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) .
قولهم : ليس كل ما قام به الظّلم يسمى ظالما. ممنوع.
قولهم : المظلوم قد قام به الظلم : ولا يسمى ظالما ، وكذلك
السيف.
قلنا : لا نسلم قيام الظلم بغير الفاعل ؛ فإنّ الظلم عندنا هو
الفعل المحرم على ما أسلفناه ؛ وذلك لا يتعدى محل قدرة الفاعل.
سلمنا صحة تسميته
ظالما فى اللغة ، لكونه فاعلا للظلم ؛ ولكن لا نسلم وجوب اطراد هذا الاشتقاق حتى
يقال بتسمية الرب ـ تعالى ـ ظالما ؛ لكونه فاعلا للظلم ؛ ولهذا فإن اسم القارورة :
فى اللغة مشتق من قرار المائعات فيها ، وهو مخصص بالزجاجة ، المخصوصة ، غير مطرد
فى الجرة ، والكوز ، وغير ذلك. وكذلك اسم الدابة : مشتق من الدبيب. وهو غير مطرد
فى الإنسان. عرفا إلى غير ذلك من الأسماء.
سلمنا لزوم
الاطراد فى الألفاظ المشتقة : ولكن فى عرف اللغة ، أو الشرع.
الأول ؛ مسلم ،
والثانى ؛ ممنوع.
__________________
ولهذا فإن كثيرا
من الأسماء اللغوية مغيرة فى الشرع ، ومحمولة على غير محاملها فى اللغة : كلفظ
الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والإيمان ، ونحوه .
وإن سلمنا لزوم
ذلك مطلقا ؛ لكن غايته لزوم تسمية من فعل الظلم ظالما ، بناء على أمر ظنى ، لا على
أمر قطعى ؛ وهو غير سائغ فى اللغات.
ثم يلزمهم على
مقتضى أصلهم فى تسمية من فعل الظلم ظالما ؛ ما يوجب مناقضتهم فيه ، وبيانه من
أربعة أوجه.
الأول
: هو أن يسمى النبي
عاصيا ، مفسدا ، شريرا ؛ عند فرض صدور الصغائر من المعاصى منه ؛ إذ هو غير ممتنع
على أصلهم : وإطلاق ذلك على الأنبياء ممتنع بالإجماع ؛ لما فيه من حطهم فى أعين
المبعوثين إليهم ، وإهانتهم فيها بينهم ؛ وذلك مما يفضى إلى اطراح قولهم عندهم ؛ وهو خلاف المقصود من البعثة ، وإذا امتنع ذلك على المحدث
، فلأن يمنع على خالق المحدث / أولى.
الثانى
: أنه لو خلق الله ـ
تعالى ـ صيغة الإخبار فى شخص قائلة أنا كاذب. وأراد من قامت به الإنباء بها عما
دلت عليه لغة ؛ فهى خير لا محالة ؛ إذ هى مشعرة بما دلت عليه حسب إشعارها ، أن لو
كانت مخلوقة لذلك الشخص.
وإذا كانت خيرا :
فالمخبر بها إما الله ـ تعالى ـ ، أو العبد.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا كان الله ـ تعالى ـ مخبرا بخبر هو : أنا كاذب ، والله ـ تعالى ـ يتقدس
عن ذلك.
وإن كان الثانى :
فقد ثبت كون العبد مخبرا بخبر ليس هو من فعله. وإذا جاز ذلك فى المخبر ؛ جاز مثله
فى الظلم ؛ وإلا كان الفرق تحكما.
فإن
قيل : صيغة الخبر وإن
لم تكن من فعل العبد ؛ فهى لا تصير خيرا دون إرادة العبد الإنباء بها عما فى نفسه
وإرادته من فعله ؛ فالخبر يكون متعلقا بفعله ؛ فيكون مخبرا به.
__________________
قلنا : المحكوم عليه بكونه خيرا : إنما هو الصيغة الدالة وضعا
على المخبر عنه مع القصد والإرادة لذلك ، والصيغة ودلالتها وضعا على المخبر عنه
ليس من فعله.
وإن كان قصد
الإنباء بها على ما دلت عليه وضعا من فعله ؛ فلا يكون الخبر من فعله.
ثم ليس القول
بكونه من فعله ؛ لكونه لا تحقق للخبر دون إرادة الإنباء أولى من كونه من فعل الله
ـ تعالى ـ مع أنه لا تحقق للخبر دون الصيغة ؛ وهى من فعل الله ـ تعالى ـ.
كيف : وأنهم قد
ناقضوا فيما لو خلق الله ـ تعالى ـ أمثال أفعال العباد
ضرورة ، وأرادها العبد عبادة ؛ فإنهم قالوا لا يكون بها عابدا.
الثالث
: هو أن المصلى ،
والصائم ، والعابد ، والخاشع ، مأخوذ من فعل الصلاة ، والصوم ، والعبادة ،
والخشوع.
ثم اتفقوا : على
أنه لا يسمى بهذه الأسماء : إلا من قامت به هذه الأفعال ؛ وهو خلاف أصلهم فى
الأسماء المأخوذة من الأفعال حيث لم يفرقوا فيها بين من قام به الفعل ، وبين من لم
يقم به.
ثم إذا جاز أن
يشترط فى تسمية من فعل الصلاة ، والعبادة ، والخشوع ، مصليا ، وعابدا ، وخاشعا ؛
قيام فعل الصلاة ، والعبادة ، والخشوع به ؛ فما المانع من اشتراط تسمية من فعل
الظلم ظالما. قيام فعل الظلم به؟.
الرابع
: هو أن العلل فى
الشاهد عندهم موجبة لأحكامها عقلا : ومع ذلك ما التزموا طردها فى الغائب حتى إنهم
قالوا : العالم فى الشاهد معلل بالعلم ، والقادر معلل بالقدرة / ونحوه ، بخلاف
الغائب حتى أنهم قالوا : البارى ـ تعالى ـ عالم بلا علم ، وقادر بلا قدرة ،
والأفعال فى الشاهد غير موجبة للأسماء المأخوذة منها عقلا ؛ بل مأخوذة من الوضع ،
والاصطلاح.
فكيف قيل بطردها
غائبا ؛ ولقد كان الأولى العكس.
__________________
فإن
قيل : لأن العالمية ،
والقادرية واجبة لله ـ تعالى ـ فلا تعلل ، بخلاف الأسماء ؛ فقد سبق إبطال ذلك فى الصفات.
وهذا كاف فى نقض
عقائدهم ، وإبطال قواعدهم.
__________________
«الفصل الحادى والعشرون»
فى الترك ، وتحقيق معناه
اعلم أن الترك :
قد يطلق فى اللغة على عدم الفعل. ولهذا يصح أن يقال : ترك فلان الفعل الفلانى. إذا
لم يفعله ، وسواء تعرض لضده ، أم لا.
وسواء كان قاصدا
له ، أم لا. كما فى حالة النوم ، والغفلة. ولا مانع منه لغة مع شيوعه ، وإن خالف
فيه بعض المتكلمين ؛ لكن بشرط أن يكون ذلك الفعل مقدورا فى العادة.
ولهذا : فإنه لا
يحسن أن يقال : ترك فلان خلق الأجسام ، والألوان : عند عدم خلقه لهما ؛ حيث لم يكن
الخلق له مقدورا ، وقد يطلق الترك فى غالب اصطلاح المتكلمين : على موجود مقدور مضاد لموجود
آخر مقدور فى العادة ؛ وذلك كما يقال :
ترك فلان الحركة يمنة
بالحركة يسرة ، وكذلك بالعكس ، وترك فلان الحركة بالسكون ، وبالعكس ، ولا يحسن
إطلاق ذلك عند كون كل واحد من الضدين غير مقدور.
ولهذا لا يحسن أن
يقال : ترك فلان بقعوده ، أو قيامه : الصعود إلى السماء ، أو خلق الأجسام ،
والألوان ؛ حيث لم يكن الصعود إلى السماء ، وخلق الأجسام والألوان ، مقدورا للعبد.
ولا يحسن أن يقال : ترك فلان بحركته الاضطرارية ، الحركة الاختيارية. ولا بحركته الاضطرارية ، الصعود إلى السماء.
وعلى هذا : إن
أوجبنا ربط الثواب والعقاب ، بالأفعال ؛ فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل ؛
بل بالاصطلاح الأصولى. وإن لم يوجب ارتباطه بالفعل ؛ بل جوزنا نصب العدم علامة على
الثّواب ، والعقاب ؛ فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوى.
وعلى كلا
الاصطلاحين : فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم فى الأزل على الله ـ تعالى ـ إذ الخلق
فى الأزل غير مقدور.
ويخص امتناع ذلك
على الاصطلاح الأصولى : أن الترك لذلك فعل مضاد لخلق العالم ، وتقدير فعل الله ـ تعالى
ـ فى الأزل غير ممكن.
__________________
فإن
قيل : إذا اشترطتم على
الاصطلاح الأصولى أن يكون الترك والمتروك / مقدورين ، فمن ترك الصلاة بفعل ضدها :
فإما أن يقولوا : بأن الصلاة مقدورة حالة كون ضدها مقدورا ، أو لا يقولوا بكونها
مقدورة.
فإن كان الأول :
فهو خلاف أصلكم فى تعلق قدرة واحدة ، أو قدرتين بضدين معا ؛ ضرورة أن المقدور لا
بد وأن يكون مقارنا للقدرة عند تعلقها به ، وذلك يفضى إلى اجتماع الضدين ؛ وهو
محال.
وإن كان الثانى :
فالصلاة غير متروكة ؛ لفوات شرط الترك ؛ وهو خلاف الشرع. واصطلاح العقلاء وأهل
اللسان.
قلنا : ليس المراد من قولنا : يجب أن يكون الترك ، والمتروك
مقدورين معا ؛ بل على سبيل البدل ؛ وذلك لا ينافى ما ذكرناه.
ومن المعتزلة : من
شرط فى الترك أن يكون التارك معتمدا بالفعل الانفكاك عن ضده.
وهو بعيد ؛ فإنه
إذا لم يبعد كونه متصفا بالفعل مع عدم القصد : كما فى الفعل القليل فى حالة النوم
؛ فكذلك فى الترك.
ومن المعتزلة : من
زعم أن الترك من أفعال القلوب : وهو انصراف القلب من ارتياد الفعل ؛ بخلاف أفعال
الجوارح.
وهو بعيد أيضا ؛
فإن العرب تقول : ترك فلان القيام ، وإن لم يخطر لهم ما هجس فى قلبه.
ومنهم : من لم
يجوز إطلاق الترك على الله ـ تعالى ـ وهو خلاف قوله ـ تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) .
وبالجملة :
فالنزاع فى هذه الإطلاقات آئل إلى الاصطلاح ، ولا حرج فيه.
وإذ أتينا على ما
أردناه من الأصول ، ونقحناه من الفصول ، فنعود إلى المقصود من خلق الأفعال.
__________________
«القول فى خلق الأفعال »
مذهب
الشيخ أبى الحسن الأشعرى
: أنه لا تأثير
للقدرة الحادثة فى حدوث مقدورها ، ولا فى صفة من صفاته. وإن أجرى الله ـ تعالى ـ العادة
بخلق مقدورها مقارنا لها ؛ فيكون الفعل خلقا من الله ـ تعالى ـ إبداعا ، وإحداثا ،
وكسبا من العبد ؛ لوقوعه مقارنا للقدرة .
ووافقه على ذلك
جماعة من أصحابه ، والقاضى أبو بكر : فى أحد أقواله ، والنجار من المعتزلة.
وذهب
القاضى أبو بكر فى قول آخر : إلى أن القدرة الحادثة مؤثرة لا فى نفس الفعل القائم بمحل
القدرة ؛ بل فى صفة وحالة للفعل ، وهى ما تقول المعتزلة : إنها من توابع الحدوث
والوجود ؛ وذلك لأن المفهوم من الفعل مطلقا ، ومن كونه حادثا : أعم من المفهوم من
خصوص القيام والقعود ، وغيره من الأفعال الخاصة من حيث / هو قيام ، وقعود ؛
فالقدرة القديمة مستقلة بالتأثير فى أصل الفعل ، ووجوده.
وأما
القدرة الحادثة : فهل هى مستقلة بالتأثير فى الصفة؟ اختلف قوله فيه.
فقال مرة : بأنها
أثر للقدرة القديمة ، والحادثة ، وأثبت مقدورا بين قادرين من جهة واحدة ، ووافقه
على ذلك ضرار بن عمرو.
وقال مرة : وعليه
تعويله. إن القدرة الحادثة مستقلة بالتأثير فى تلك الصفة ، ولا تأثير للقدرة القديمة
فيها ، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.
ووافقه على هذا
الأستاذ أبو إسحاق ، وذلك مما يبعد من الأستاذ أبى إسحاق مع اشتهار إنكاره
للأحوال.
__________________
وذهب
إمام الحرمين : إلى أن إثبات قدرة لا أثر لها بوجه : كنفى القدرة ، وإثبات تأثيرها فى حالة
لا تعقل : كنفى التأثير ؛ فلا بد من نسبة فعل العبد إلى قدرته وجودا. وإلى قدرة الله ـ تعالى ـ بواسطة خلق قدرة العبد
عليه.
وذهب
أكثر المعتزلة : إلى أن القدرة الحادثة موجبة لحدوث مقدورها ، وأنه لا تأثير للقدرة القديمة
فيه ، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.
وعند هذا : فلا بد
من الإشارة إلى إبطال تأثير القدرة الحادثة فى حدوث مقدورها . ثم نحقق بعده إبطال مذهب القاضى ، والإمام أبى المعالى. ونحقق بعده
اختيار الشيخ أبى الحسن فى الكسب ، والخلق آخرا.
فنقول : أما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى حدوث مقدورها ؛ فقد
استدل عليه الأصحاب بمسالك ضعيفة.
المسلك الأول :
أنه لو جاز تأثير
القدرة الحادثة فى الفعل بالإيجاد ، والإحداث ؛ لجاز تأثيرها فى إيجاد كل موجود ،
واللازم ممتنع ؛ فكذا الملزوم.
وبيان الملازمة من
وجهين :
الأول
: هو أن الوجود قضية واحدة مشتركة بين جميع الموجودات الممكنة على ما سبق
تقريره.
وإن اختلفت محاله
، وجهاته. ويلزم من صحة تأثير القدرة فيه فى البعض الصحة فى الكل ؛ ضرورة اتحاد
المتعلق ، وأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ يكون ثابتا للآخر.
الثانى
: هو أن المصحح
للتأثير فى البعض : إنما هو الإمكان المشترك على ما سبق فى امتناع خالق غير الله ـ
تعالى ـ ويلزم من الاشتراك فى المصحح لتأثير القدرة الحادثة فى المقدور ؛ الاشتراك
فى صحة التأثير.
__________________
وبيان امتناع
اللازم :
أنها غير مؤثرة فى
إيجاد الأجسام ، وما عدا الأفعال / القائمة بمحل القدرة من الأعراض : كالطعوم ،
والروائح ، والألوان ، ونحو ذلك بالاتفاق ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم
؛ وهو غير سديد ؛ لما حققناه فى امتناع خالق غير الله ـ تعالى.
والّذي يخصه هاهنا
: هو أن غير ما ذكروه فى امتناع تأثير القدرة الحادثة فى الإيجاد لازم على القول
بجواز تعلق القدرة الحادثة ببعض الموجودات دون البعض.
وإن لم يكن تعلق
تأثير ؛ فما هو الجواب عن صورة الإلزام ؛ فهو بعينه جواب فى محل الاستدلال ، ولا
مخلص منه .
المسلك الثانى :
أنه لو كانت
مقدورات العباد مخلوقة لهم ؛ لما كانت مخلوقة لله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت مخلوقة
لله ـ تعالى ـ : فإما أن تكون مخلوقة له وحده ، أو له وللعبد.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا لما كانت مخلوقة للعبد ؛ وهو خلاف الفرض.
ولا جائز أن يقال
بالثانى : وإلا لزم منه وجود مخلوق بين خالقين ؛ وهو محال كما سبق .
ولا جائز أن تكون
غير مخلوقة لله ـ تعالى ـ : لأنها لو امتنع كونها مخلوقة لله ـ تعالى ـ لم يكن إلا
لاستحالة مقدور بين قادرين ؛ واللازم ممتنع.
وبيانه : أنه قبل
إقدار العبد على الفعل ؛ لم يكن الفعل مقدورا للعبد ؛ فيجب أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى.
وبيانه : أن الفعل
فى نفسه ممكن ، والمانع من كونه قادرا بعد إقدار العبد : إنما هو استحالة وقوع
مقدور بين قادرين. وهذا المانع غير موجود قبل إقدار العبد ، وإذا كان مقدورا لله ـ
تعالى ـ قبل إقدار العبد ، فعند إقداره على الفعل يستحيل أن يخرج ما كان
__________________
مقدورا لله ـ تعالى
ـ عن كونه مقدورا ؛ فإنه لو خرج عن كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ بسبب تعلق القدرة
الحادثة به ، لم يكن أولى من امتناع تعلق القدرة الحادثة به ، واستيفاء تعلق
القدرة القديمة ؛ بل بقاء ما كان على ما كان أولى من نفيه ، وإثبات ما لم يكن ،
وإذا ثبت كونه مقدورا للرب ؛ وجب أن يكون الرب ـ تعالى ـ خالقه ، ومبدعه ، من حيث
أنه يستحيل انفراد العبد بخلق ما هو مقدور لله ـ تعالى.
وهو ضعيف (أيضا) إذ لقائل أن يقول :
وإن سلمنا
الملازمة : فلا نسلم انتفاء اللازم.
والقول : بأنه لو
امتنع كون أفعال العباد مخلوقة للرب ـ تعالى ـ لم يكن (إلا لامتناع ) مقدور واحد بين قادرين ؛ لا نسلم الحصر. وما المانع من
امتناع / كونها مخلوقة له ؛ لامتناع قبول قدرته لإيجاد الأفعال لذاتها وإن كان
لمانع من خارج ؛ فما المانع أن يكون غير ما ذكرتموه؟ ولا طريق إلى نفيه بغير البحث
، والسبر ؛ وهو غير يقينى كما تقدم .
ثم وإن سلمنا حصر
المانع فيما ذكروه : ولكن لا نسلم انتفاء قولهم قبل إقدار العبد على الفعل : يجب
أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ لا نسلم ذلك.
قولهم : لأن الفعل قبل إقدار العبد ممكن فى نفسه : والمانع من
كون الرب قادرا عليه بعد إقدار العبد : إنما هو استحالة كون المقدور الواحد بين
قادرين ؛ لا نسلم أيضا حصر المانع من كونه قادرا على فعل العبد فيما ذكرتموه. ولا
سبيل إلى إثباته إلا بالبحث ؛ وهو غير يقينى.
ثم وإن سلمنا كونه
مقدورا للرب قبل إقدار العبد : ولكن ما المانع أن يكون مقدورا له ، مشروطا بعدم
إقدار العبد عليه. وعند إقدار العبد لا يكون مقدورا للرب ؛ لفوات شرطه.
__________________
ثم وإن سلمنا كونه
مقدورا للرب ـ تعالى ـ قبل إقدار العبد مطلقا لا بشرط : فما المانع من أن يكون
إقدار العبد مانعا من دوام اقتدار الرب ـ تعالى.
قولهم : ليس جعل الحادث مانعا من استمرار ما كان ، أولى من
العكس.
قلنا : فتحتاجون إذن إلى الترجيح ؛ لأنكم فى مقام الاستدلال.
وما ذكروه من
الترجيح ؛ فغير موجب لليقين. كيف : وهو مقابل بمثله ، فإن الشيء فى ابتداء وجوده
لقربه من سببه يكون أقوى منه فى حالة دوامه ، لبعده من سببه كما تقدم.
ثم وإن سلمنا كونه
مقدورا للرب مع كونه مقدورا للعبد : ولكن ليس نسبته إلى الله ـ تعالى ـ بالإيجاد ؛
لكونه مقدورا له : أولى من نسبته إلى العبد ؛ لكونه مقدورا له. والرب ـ تعالى ـ وإن
كان أقدر من العبد ؛ فليس إلا بمعنى أن مقدوراته أكثر ، وأعظم ؛ وليس فى ذلك ما
يوجب الترجيح بالنظر إلى مقدور واحد.
ولا سبيل إلى
القول بكونه مخلوقا لهما ؛ لأنه محال على ما تقدم ؛ ولأنه على خلاف الإجماع.
المسلك الثالث :
أن الرب ـ تعالى ـ
قادر على مثل جميع الأجناس التى هى مقدورة للعبد.
وعند ذلك : فيجب
أن يكون قادرا على مقدور العبد ؛ فإنه لو لم يقدر عليه. لم يكن قادرا على مثله ؛
وهو خلف.
وإذا ثبت أنه قادر
على أفعال العباد. فإذا حدثت : وجب أن تكون مخلوقة له ؛ لما تقدم فى المسلك الّذي
قبله.
وهو أيضا / غير
سديد ؛ إذ لقائل أن يقول :
لا نسلم أن الرب ـ
تعالى ـ قادر على مثل مقدور العبد : على ما هو مذهب البلخى.
__________________
وإن سلم كونه
قادرا على مثل فعل العبد : ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون قادرا على فعل
العبد. وما المانع أن يكون تعين ذلك الجنس شرطا ، أو أن تعين مقدور العبد مانع؟ ثم
لو كان يلزم من تعلق قدرة الرب بمثل مقدور العبد ؛ لكونه مثلا له. أن تكون متعلقة
بمقدور العبد ، للزم أن تتعلق قدرة العبد بمقدور الرب ؛ لكونه قادرا على مثله على ما قررتموه ؛ وهو محال.
ثم وإن سلم كون الرب ـ تعالى ـ قادرا على فعل العبد ؛ فلا يلزم أن
يكون هو الخالق له ، على ما سبق فى المسلك الّذي قبله.
المسلك الرابع :
لو كان العبد
موجدا لأفعال نفسه : لأمكن أن يريد من أفعاله ما هو ضد مراد الله ـ تعالى.
وعند ذلك : فإما
أن يقع مرادهما : وهو محال ؛ لما فيه من اجتماع الضدين. وإما أن لا يقع واحد من
مرادهما : وهو أيضا محال ؛ لأن وجود كل واحد من المرادين ممكن الوقوع بتقدير
انفراد مريده به ، وتعلق قادريته ، أو قدرته به. فلو لم يقع مرادهما : فإما أن
يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين تعلق إرادة الآخر بمراده ، وقدرته
بمقدوره. وإما أن يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين : وقوع مراد الآخر ؛ إذ
لا نتخيل سواهما.
فإن كان الأول :
فقد بينا فى المسلك الّذي قبله : أن كل ما كان مقدورا للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى
ـ فإذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العبد مانعا من وقوع مقدور العبد بقدرته ؛ فهو
المطلوب ؛ فعلم أن ذلك ليس هو المانع.
وإن كان الثانى :
فإما أن يكون المانع من وقوع مراد كل واحد منهما وقوع مراد الآخر ، أو عدم وقوعه.
فإن كان الأول :
فيلزم من امتناع وقوع المرادين ، وقوع المرادين ؛ وهو محال.
__________________
وإن كان الثانى :
فلا يخفى أن المانع لا بد وأن يكون منافيا لما منع منه. وعدم أحد المرادين ؛ غير
مناف لوقوع المراد الآخر ؛ لتصور اجتماعهما.
وإما أن يقع مراد
أحدهما دون الآخر : وهو أيضا محال ؛ لأن عدم حصول مراد أحدهما : إما أن يكون مع
بقاء قادريته ، أو لا مع بقاء قادريته.
فإن كان الأول :
فهو ممتنع ؛ لأن قادرية كل واحد منهما إذا كانت باقية ، فترجح مراد / أحدهما على
الآخر : إما أن يكون لذات ذلك المراد ، أو لأمر من خارج.
لا جائز أن يقال
بالأول : لأن مراد كل واحد منهما ممكن لذاته ، والممكن لذاته هو ما فرض وجوده ، وعدمه بالنسبة إلى ذاته سيان.
وإن كان الثانى :
فذلك الخارج لا بد وأن يرجع إلى ترجيح أحد القادرين على الآخر. إما بأن تأثيره فى
مقدوره أكثر من تأثير الآخر فى مقدوره ، أو بأن ما يفعله بقادريته من الأمثال أكثر مما يفعله الآخر.
والأول باطل : لأن
الموجود الواحد لا يقبل الزيادة والنقصان ؛ فلا يكون التأثير فيه قابلا للزيادة ، والنقصان.
والثانى : باطل ؛
لاستحالة اجتماع المثلين.
وأما إن كان عدم
حصول مراده لا مع بقاء قدرته : فهو محال ؛ لأن أحد القادرين لا يمكنه إعدام قادرية
الآخر حال حصول قادريته ؛ لما فيه من اجتماع الوجود ، والعدم فى شيء واحد من جهة
واحدة.
وإن كان إعدامه
لقادريته فى الحالة الثانية من حال وجود قادريته : فعدم القادرية فى الحالة
الثانية من وجودها لا يمنع من وجود مقدورها ؛ لأنه إن كان وجود المقدور مقارنا
للقدرة على ما هو مذهبنا ؛ فعدم القادرية فى الحالة الثانية لا يمنع من وجود
المقدور مفارقا للقادرية فى الحالة الأولى.
__________________
وإن كان وجود
المقدور لا يقع إلا فى الحالة الثانية من وجود القدرة : فعدم القدرة فى الحالة
الثانية لا يمنع من وجود المقدور بها فى الحالة الثانية : كما هو مذهب المعتزلة ؛
كما سبق تقريره .
وهذه المحالات
اللازمة : إنما لزمت من فرض كون العبد موجدا لأفعال نفسه ؛ فيكون محالا.
وهو من النمط
الأول فى الضعف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :
اجتماع الإرادة
القديمة ، والحادثة على التضاد : إما أن يكون محالا ، أو لا يكون محالا.
فإن كان محالا :
فهذه المحالات اللازمة من الأقسام المذكورة : إنما هى لازمة من فرض
اجتماع الإرادتين ؛ لا من كون العبد خالقا لفعله.
وإن لم يكن اجتماع
الإرادتين محالا : فيجب اعتقاد عدم الاستحالة فى بعض الأقسام اللازمة عند اجتماع
الإرادتين ؛ لأن ما ليس بمحال لا يلزم عنه المحال.
وأيضا : فما
المانع من عدم وقوع المرادين؟
قولهم : بأن وقوع كل واحد من المرادين ممكن بتقدير الانفراد :
مسلم. ولكن لا يلزم منه أن / يكون ممكنا حالة الاجتماع ؛ لجواز أن يكون الإمكان
مشروطا بحالة الانفراد.
وإن سلم الإمكان
حالة الاجتماع : ولكن لا نسلم انحصار المانع من الوقوع فى تعلق الإرادة ، والقدرة
بوقوع المراد. وعدم الاطلاع على مانع غير المذكور : لا يدل على عدمه فى نفسه ؛ لما
تقدم تحقيقه.
سلمنا الحصر ؛
ولكن لم قلتم بأن المانع ليس هو تعلق القدرة بالمقدور؟
قوله : لأنا بينا
أن كل ما كان مقدورا للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى.
__________________
فهو ممنوع على ما
سلف فى المسلك الّذي قبله.
وإن سلم أن كل مقدور للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى ـ ولكن ما
اللازم منه.
قوله : لأنه إذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العهد مانعا من تعلق
قدرة العبد به ؛ فهو المطلوب. ليس كذلك ؛ فإن الفرض أن تعلق قدرة كل واحد منهما
بمقدوره مانع من تعلق قدرة الآخر بمقدوره. فهذا وإن لزم منه امتناع تعلق قدرة
العبد بمقدوره ، فتعلق قدرة العبد بمقدوره مانع من تعلق قدرة الرب بمقدوره. وكما
يلزم منه امتناع كون العبد هو الفاعل لفعل نفسه ؛ فيلزم منه امتناع كون الرب هو
الفاعل لفعل العبد ؛ وهو المطلوب أيضا من جانبنا.
ثم وإن سلمنا
امتناع عدم المرادين : فما المانع من وقوع أحد المرادين دون الآخر؟
قوله : لأن عدم حصول مراد أحدهما : أما أن يكون مع بقاء قادريته
، أو لا مع بقاء قادريته.
قلنا : ما المانع من ذلك مع بقاء قادريته؟
قوله : لأن ترجح مراد أحدهما على الآخر : إما أن يكون لذات
المراد ، أو لأمر خارج.
قلنا : ما المانع أن يكون لأمر خارج؟
قوله : وذلك الخارج لا بد وأن يعود إلى ترجيح أحد القادرين على
الآخر بما ذكر ؛ غير مسلم.
وما المانع من أن
يكون امتناع مراد أحدهما ، لا لترجيح قادرية الآخر (على ) قادريته ؛ بل لاختصاصه بمانع لا وجود له بالنسبة إلى
الآخر؟
وإن سلم أنه لا بد
وأن يعود إلى ترجيح قادرية أحد القادرين على قادرية الآخر :
__________________
ولكن لا نسلم حصر
الترجيح فيما ذكره وعدم الاطلاع على غير المذكور لا يدل على عدمه فى نفسه على ما
علم.
وإن سلمنا أن
امتناع وقوع المراد مع بقاء القادرية : فما المانع من امتناعه مع انتفاء القادرية؟
قوله : لأن أحد القادرين لا يقدر على إعدام قادرية الآخر فى وقت
حصول قادريته : مسلم ؛ / ولكن ما المانع أن يكون مانعا لابتداء وجودها فى وقت
إمكان وجودها؟
وعند ذلك : فيمتنع
وجود المقدور بها ، وسواء قيل بمقارنته للقدرة بتقدير وجودها كما هو مذهبه ، أو فى
الحالة الثانية من وجودها كما هو مذهب الخصم ؛ إذ لا وجود للقدرة عليه.
وإن سلمنا امتناع
ذلك : فما المانع من كونه مانعا لها فى الحالة الثانية من وجودها؟
قوله : لأن ذلك لا يمتنع معه وجود المقدور ؛ لا نسلم ذلك ، وما المانع من القول بتأثير القدرة فى المقدور فى ثانى الحال من
وجودها مشروطا ببقائها إلى الحالة الثانية من وجودها ، كما قدمناه من مذهب بعض
المعتزلة.
سلمنا امتناع ذلك
: غير أن ما ذكروه ينتقض بامتناع جواز تعلق قدرة الإله ـ تعالى ـ بالحركة ، والسكون معا. مع جواز تعلق
قدرته بكل واحد منهما بتقدير الانفراد مع لزوم كل ما ذكروه من الأقسام ، فما هو
الجواب فى صورة الإلزام ؛ فهو الجواب فى محل التعليل.
المسلك الخامس :
لو صلحت القدرة
الحادثة للإيجاد ، والإحداث : للزم حصول مخلوق بين خالقين ؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة :
أن القدرة الحادثة لو كانت صالحة للإيجاد ؛ لكان مقدورها مقدورا للرب ـ تعالى.
__________________
وبيان ذلك : هو أن
العبد إذا كان قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر ؛ فلا نزاع فى أن الرب قادر على
إيجاد السكون أيضا فى ذلك الجوهر.
وعند ذلك : فإما
أن يكون ما هو متعلق قادرية الله ـ تعالى ـ هو عين متعلق قدرة العبد ؛ أو غيره.
فإن كان الأول ؛
فهو المطلوب.
وإن كان الثانى ؛
فهو باطل ؛ لأن المقدور قبل وجوده عدم صرف ، والعدم الصرف يمتنع وجود أعدام متمايزة فيه ، حتى يقال : بأن منه ما هو مقدور الرب ، ومنه
ما هو مقدور العبد ، وبتقدير جواز التعدد ، والتغاير ؛ فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدورا لله ـ تعالى ـ وبيانه من وجهين :
الأول
: أن الإجماع منعقد
على أن الرب ـ تعالى ـ قادر على مثل كل ما يقدر عليه العبد ؛ فوجب أن يكون قادرا
على فعل العبد ؛ ضرورة كونه قادرا على مثله ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ يكون
ثابتا للمثل الآخر.
الثانى
: هو أن الله ـ تعالى
ـ قادر على بعض الموجودات بالاتفاق ، والمصحح لذلك : إنما هو الإمكان / على ما
تقدم ، وفعل العبد ممكن ؛ فكان مقدورا لله ـ تعالى ـ وإذا كان مقدور العبد ، هو
مقدور الرب ؛ لزم حصول مخلوق بين خالقين.
وبيان ذلك : هو أن
البارى لو علم حصول المصلحة فى إيجاده هو لذلك الفعل ، فحينئذ يحاول البارى ـ تعالى
ـ إيجاد ذلك الفعل ، فلو قدرنا أن العبد حاول إيجاد ذلك الفعل. فإما أن لا يوجد
ذلك الفعل ، أو يوجد. لا جائز أن يقال بالأول : لأن الفعل كان ممكنا. وامتناع
الوجود : إما أن يكون لتعلق قادرية كل واحد منهما به ، أو لوقوع المقدور ، وكل
واحد من القسمين محال ؛ لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.
__________________
وإن كان الثانى :
فإما أن يكون وجود ذلك الفعل بأحدهما ، أو بهما. لا جائز أن يقال بالأول :
لاستوائهما فى الاستقلال بالتأثير ، وعدم الأولوية.
وإن كان الثانى :
فقد لزم وجود خلق بين خالقين ؛ وهو محال كما تقدم تقريره .
وهو بعيد عن
التحقيق أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :
لا نسلم أنه لو
صلحت القدرة الحادثة للإيجاد ، أنه يلزم حصول مخلوق بين خالقين.
قولهم : لأنه يلزم أن يكون مقدور العبد ، مقدورا للرب ـ تعالى ـ لا
نسلم ذلك.
قولهم : إذا كان العبد قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر ؛ فالرب
قادر عليه أيضا.
قلنا : الرب ـ تعالى ـ وإن كان قادرا على إيجاد السكون فى
الجوهر ؛ فلا نسلم أن العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر.
أما
على أصول أصحابنا : فظاهر. فإن مقدوره : لا يخرج عن محل قدرته ، وهو الفعل
القائم به ، والسكون : فصفة فى الجوهر ؛ فلا يكون مقدورا للعبد ، ولا هو مخلوق له
؛ بل هو مخلوق لله ـ تعالى.
وأما
على أصول المعتزلة : فهو ممنوع على مذهب كثير منهم : كثمامة ، ومعمر ، وغيرهما.
وعلى هذا : فقد
بطل كل ما يبنى عليه من الأحكام ، والأقسام.
وإن سلمنا أن
العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر ، وكذلك الرب ـ تعالى : ولكن ما المانع من
تعدد المقدور؟
قولهم : لأن المقدور قبل
وجوده عدم صرف ،
والعدم لا تمايز فيه.
__________________
قلنا : لا نسلم أنه عدم صرف ؛ بل عدم مضاف. وإذا كان كذلك فلا
نسلم أن الاعدام المضافة لا تمايز فيها.
وما ذكروه من
الوجهين فى بيان أن مقدور العبد / هو مقدور الرب بتقدير التعدد فى السكون المقدور
؛ فقد سبق إبطالهما فيما تقدم.
وإن سلمنا أن
مقدور العبد هو مقدور الرب : فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجود مخلوق بين خالقين.
وما المانع من
كونه مخلوقا للعبد ، ومقدورا للرب من غير تأثير فى إيجاده؟ كما قلتم بأن العقل
مخلوق للرب ـ تعالى ـ ومقدور للعبد من غير تأثير فى إيجاده.
قولهم : لو علم الله
ـ تعالى ـ أن
المصلحة فى إيجاده هو لذلك الشيء ؛ فيحاول إيجاده.
قلنا : متى يعلم أن
المصلحة فى خلقه لذلك الشيء : إذا أمكن أن يكون مخلوقا له ، أو إذا لم يكن.
الأول ؛ مسلم.
والثانى ؛ ممنوع.
فلم قلتم : إنه
يلزم من كونه مقدورا له : إمكان كونه مخلوقا له ، ولو لزم ذلك فى حق الرب ـ تعالى
ـ ؛ للزم مثله فى حق العبد ؛ ولم يقولوا به.
وإن سلمنا إمكان
كونه مخلوقا له : ولكن متى إذا علم الله ـ تعالى ـ أن العبد يحاول إيجاده وخلقه ،
أو إذا لم يعلم؟
الأول : ممنوع.
والثانى : مسلم.
فلم قلتم
بالمحاولة لإيجاده مطلقا؟
سلمنا إمكان
المحاولة للعبد ، والرب معا : ولكن لم قلتم بامتناع عدم الوقوع ، أو بوقوعه بقدرة
أحدهما دون الآخر؟ وما قيل فيهما ؛ فقد سبق إبطاله فى المسلك الّذي قبله.
__________________
المسلك السادس :
أنه لو كان العبد
موجدا لأفعال نفسه ، فعند ما يوجد منه الفعل : إما أن يصح منه الترك بدلا عن الفعل
، والفعل بدلا عن الترك ، أو لا يصح منه ذلك.
فإن كان الأول :
فترجح أحد الطرفين على الآخر : إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف على مرجح.
فإن توقف على
المرجح : فذلك المرجح : إما أن يكون من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من فعل
أحد.
فإن كان (من ) فعل العبد : فالكلام فيه كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل
ممتنع.
وإن كان من فعل
الله ـ تعالى ـ : فعند حصول ذلك المرجح : إما أن لا يصح معه الترك ، أو يصح معه
الترك.
فإن كان الأول ؛
فهو مجبور غير مختار.
وإن كان الثانى :
فكل ما هو ممكن أن يكون لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض الفعل تارة ، والترك
أخرى.
وعند ذلك : ففرض
الوجود دون العلم به : إن كان لا بمرجح ؛ فقد تحقق (ترجح ) أحد الجائزين لا بمرجح ؛ وهو محال.
وإن
كان بمرجح : فما فرض أو لا
ليس هو المرجح ؛ وهو خلاف الفرض. ثم إن التقسيم بعينه عائد : وهو أنه مع
فرض / وجود هذا المرجح هل يصح معه الترك ، أو لا؟ والجبر ، أو التسلسل يكون لازما.
وإن كان وجود ذلك
المرجح لا بفعل أحد فهو : إما قديم ، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما
: وإلا لما كان صفة للحادث.
__________________
ولا جائز أن يكون
حادثا ؛ إذ الحادث لا يستغنى عن محدث على ما سبق تقريره.
وأما إن كان أحد
الطرفين لا يتوقف فى وقوعه على مرجح : ففيه وقوع أحد طرفى الجائز من غير مرجح ؛
وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود .
كيف : وأنه لا
يلزم منه أن يكون وقوع أحد الطرفين لا بأمر صدر من العبد ؛ وهو أيضا جبر.
هذا كله : إن كان
العبد ممن يصح منه كل واحد من الطرفين بدلا عن الآخر.
وإن كان لا يصح
منه ذلك ؛ فهو مجبور غير مختار.
وهذا المسلك أيضا
ضعيف ؛ إذ لقائل أن يقول :
قولكم : إذا صح منه بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل ؛ فلا
بد لوقوع أحد الأمرين من منع ؛ مسلم.
قولكم : المرجح إما من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من
فعل أحد : مسلم ؛ ولكن لم قلتم إنه لا يكون من فعل العبد؟
قولكم : التسلسل يكون لازما : ممنوع. وما المانع من كونه من فعل
العبد على وجه لا يكون متمكنا من تركه؟ ولا يلزم من سلب الاختيار عن العبد فى فعل
المرجح ؛ سلبه عنه فى أفعاله مطلقا.
وإن سلمنا أنه من
فعل الله ـ تعالى ـ فما المانع منه
قولهم : إما أن يصح معه الترك أو لا؟ والجبر ، أو التسلسل يكون
لازما.
قلنا : إن عنيتم
بكونه مجبورا : أنه غير مختار فى تركه بتقدير وجود المرجح للفعل : فسلم ، ونحن لا
ننفى الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.
وإن عنيتم به أنه
وجد لا بإيجاده : فهو ممنوع.
ونحن إنما ننفى
الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.
__________________
وإن سلمنا امتناع
الجبر عن فعل العبد على ما ذكرتموه ؛ فما المانع من صحة الترك مع وجود المرجح؟
قولكم : يلزم منه التسلسل.
قلنا : متى إذا كان المرجح : هو القدرة ، والاختيار ، أو إذا لم
يكن؟
الأول : ممنوع.
والثانى : مسلم.
وذلك لأن المرجح
إذا كان هو القدرة ، والاختيار ؛ فليس يمتنع معه الترك ، ولا يفتقر إلى مرجح آخر.
بتقدير الوجود حتى يقال : بالتسلسل ، أو خروج ما فرض مرجحا عن كونه مرجحا على ما
ذكروه ؛ فإن هذا / هو شأن القدرة وخاصيتها.
ثم وإن سلمنا أنه
لا من فعل الله ـ تعالى ـ : فما المانع من كونه لا من فعل أحد ، وأن يكون قديما؟
قولكم : إنه صفة للحادث : ممنوع. وإلا كان موجد الحادث حادثا ؛
وهو محال.
ثم وإن سلمنا
دلالة ما ذكرتموه : لكن غايته الدلالة على أن العبد غير مختار فى فعله ، وليس فيه
ما يدل على امتناع كونه فاعلا مطلقا.
ثم ما ذكرتموه
لازم عليكم من وجهين :
الأول
: أنه لازم عليكم فى
إثبات الكسب ؛ حيث أثبتم كون الفعل مكتسبا للعبد ، غير مجبور عليه.
وبيان ذلك : هو أن
ما أثبتموه من الكسب : وهو الفعل المقدور بالقدرة الحادثة : إما أن يكون بحيث يصح
للعبد معه الفعل ، بدل الترك ، وبالعكس : أو لا.
فإن صحّ : فلا بد
له من مرجح ؛ وذلك المرجح : إما من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من فعل أحد
، وهلم جرا إلى آخر القسمة ، ولا بد من الجبر ، أو التسلسل الممتنع ، أو حدوث
الجائز ، من غير مرجح.
__________________
الثانى
: أنه لازم عليكم فى
كون الفعل حاصلا بخلق الله ؛ إذ التقسيم وارد عليه حسب وروده على كون العبد خالقا
لفعله ؛ فما هو الجواب فى صور الإلزام ؛ فهو بعينه الجواب فى محل النزاع.
فإن
قيل : الفرق بين
البارى ـ تعالى ـ والعبد ، أنّ صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة. والإرادة
فى الشاهد محدثة ؛ فافتقرت إلى (محدث ). فإن كان ذلك المحدث هو العبد : لزم التسلسل ؛ فوجب
انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله ـ تعالى ـ فى القلب ابتداء ،
ويلزم منه الجبر. بخلاف إرادة الله ـ تعالى ـ إذ هى قديمة مستغنية عن إرادة أخرى ؛
فلا تسلسل.
قلنا : وإن كانت إرادة البارى ـ تعالى ـ قديمة : فإما أن يصح
معها الفعل بدلا عن الترك ، أو الترك بدلا عن الفعل ، أو لا :
فإن كان الأول :
فلا بد لأحد الطرفين من مرجح ، والكلام فى ذلك المرجح كالكلام فى الأول ؛ وهو
تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى ؛
فقد لزم الجبر ، ولا خلاص عنه.
المسلك السابع :
أن ضلال الكافر ،
وجهله عند الخصوم ؛ مخلوق للكافر ، وموجود بإيجاده اختيارا ، ولو كان كذلك ؛ لكان
قاصدا له ؛ إذ القصد من لوازم الفعل اختيارا ؛ واللازم / ممتنع فإن عاقلا لا يقصد
لنفسه الضلال ، والجهل ؛ (فلا يكون ) فاعلا له اختيارا.
وهو فاسد أيضا ؛
إذ لقائل أن يقول :
ما يفعله الكافر
من الضلال ، والجهل لا بد وأن يكون قاصدا له.
وقولكم
: العاقل لا يقصد
لنفسه الضلال ، والجهل.
قلنا
: متى إذا علم كونه
ضلالا ، وجهلا ، أو إذا ظن كونه هديا ، وعلما؟
__________________
الأول : مسلم.
والثانى : ممنوع.
وعلى هذا : فلا
يبعد أن يكون قاصدا لإيجاده مع هذا الظن.
فإن
قيل : فإذا كان قصده
لإيجاد الكفر
متوقفا على الظّن بكونه هديا وحقا ؛ فهذا الظن أيضا جهل.
فإن كان القول فيه
: كالقول فى الأول ؛ لزم أن يكون كل جهل مسبوقا بجهل آخر إلى غير النهاية ؛ وهو
محال.
وإن وقع الانتهاء
إلى جهل : غير مسبوق بجهل آخر ؛ فذلك الجهل لا يكون مقصودا له ؛ فلا يكون من فعله
؛ بل من الله ـ تعالى ـ وباقى الجهالات مترتبة عليه ؛ فكان الكل مستندا إلى خلق
الله ـ تعالى ـ وتكوينه.
قلنا : بل لا بد من
الانتهاء إلى جهل
لا يكون مقصودا ، ولا هو من فعله ، ولا يمتنع أن تكون بعض الجهالات مقدورة للعبد ، والبعض غير مقدورة له ؛ بل كما فى العلوم. وذلك الجهل الأول : الّذي ليس
بمقدور للعبد ، وإن كان شرطا فى قصد باقى الجهالات ؛ فلا يلزم أن تكون باقى
الجهالات مخلوقة لله ـ تعالى ـ ؛ بل جاز أن تكون مخلوقة للعبد. وإن توقفت على شرط
مخلوق لله ـ تعالى ـ كما فى الحياة ؛ فإنها شرط كون الفعل مقدورا للعبد على اختلاف
المذهبين. وإن كانت الحياة غير مقدورة للعبد بالاتفاق.
والمعتمد فى
المسألة مسلكان :
الأول
: لو كان العبد
خالقا لأفعال نفسه ؛ للزم وجود خالق غير الله ، ووجود خالق غير الله ، محال ؛ لما
سبق. ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
المسلك الثانى :
لو كان العبد
موجدا لفعل نفسه ، ومحدثا له ؛ لكان عالما به ، واللازم ممتنع ، فالملزوم ممتنع.
__________________
وبيان الملازمة :
أنه لو كان موجدا لأفعاله فلا يخلو : إما أن يكون موجدا لها بذاته وطبعه ، أو
بالقدرة ، والاختيار.
لا جائز أن يقال
بالأول ؛ إذ هو خلاف الإجماع منا ، ومن الخصوم.
كيف : وأنا قد
بينا امتناع الإيجاد بالطبع فى الرد على الطبائعيين .
/ وإن كان الثانى
: فالموجد بالقدرة ، والاختيار ؛ لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده ، ومخصصا له
بالقصد دون غيره ، وإلا لما كان وجود ذلك المخصص بالوجود دون غيره أولى من العكس ،
وإذا كان لا بد من القصد ؛ فلا بد وأن يكون القاصد للشىء عالما به ؛ فإن قصد
العاقل لما لا علم له به محال ؛ وهو معلوم بالضرورة.
وإذا ثبتت
الملازمة. فبيان انتفاء اللازم : هو أنا نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم العلم
بوجود أكثر حركاتنا ، وسكناتنا فى حالة المشى ، والقيام ، والقعود. ولو أردنا قصد كل جزء
من أجزاء حركاتنا فى حالة إسراعنا بالمشي ، والحركة ، والإحاطة به ؛ لم نجد إليه
سبيلا ؛ بل ويعلم ذلك من حال أكمل العقلاء. فما ظنك بالحيوانات العجماوات : البرية
، والبحرية ، والهوائية فى مشيها ، وسباحتها ، وطيرانها. حتى الذر ، والبعوض ؛ بل
وكذا حال النائم فى منامه ؛ بل أبلغ من حيث أن النّوم ضدّ للعلم باتفاق العقلاء ،
وقد قالوا : إنه فاعل لما يصدر عنه من الأفعال القليلة دون الكثيرة.
وإذا ثبت انتفاء
اللازم ؛ لزم انتفاء الملزوم.
فإن قيل : سلمنا
أنه لا بد وأن يكون الموجد بالقدرة ، والاختيار قاصدا لما يوجده ، وعالما به ؛
ولكن على وجه كلى ، أو على وجه جزئى.
الأول : مسلم.
والثانى : ممنوع ؛ فلم قلتم : إنه غير عالم وقاصد ، لما يوجده على وجه كلى.
__________________
وإن كان جاهلا
بخصوص الواقع المخصص من الجزئيات كما ذكرتموه ، وقررتموه من أحوال العقلاء.
وبيان امتناع
اشتراط القصد للجزئى الحادث فى الإحداث : هو أن القصد للشىء نسبة بينه ، وبين القاصد له ؛ فيكون صفة له من حيث هو نسبة بينه ،
وبين القاصد. والصفة تابعة للموصوف فى الوجود ؛ فيكون القصد تابعا لذلك الجزئى فى
الوجود. فلو كان حدوث ذلك الجزئى مشروطا بالقصد إليه ؛ لكان تابعا للقصد إليه فى
الوجود ؛ وهو دور ممتنع.
ثم وإن سلمنا :
دلالة ما ذكرتموه على امتناع كون العبد خالقا لفعله ؛ لكنه قدح فى البديهيات ،
وإبطال للضّروريات كما قاله أبو الحسين البصرى الملقب بجعل.
وبيان ذلك : هو أن
كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر عنه : من الحركات ، والسكنات الواقعة على
/ وفق قصده ، وداعيته : كقيامه ، وقعوده ، ومشيه ، وغير ذلك من أفعاله. بخلاف حركة
الارتعاش ، والمجرور المسحوب على وجهه : على وجه لا يتمارى فيه عاقل ولا يشككه
مشكك ، والقدح فى الضروريات لا يكون مقبولا.
سلمنا أن العلم
بكون العبد فاعلا ، وموجدا لفعله غير ضرورى ؛ لكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على
كونه موجدا ، وفاعلا.
وبيانه من حيث
المعقول ، والمنقول :
أما المعقول :فمن
عشرين وجها :
الأوّل
: أنه قد قام الدليل على وجود القدرة الحادثة بما سبق .
وعند ذلك : فلو لم
تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى الفعل المقدور ، ولا فى صفة من صفاته ؛ لم يبق بين
المقدور ، وغير المقدور معنى ؛ وفيه إبطال دليل وجود القدرة الحادثة.
__________________
الثانى
: أنه قد ثبت كون
فعل العبد مقدورا للعبد. فلو لم يكن مخلوقا له ؛ لكان مخلوقا لغيره ، ؛ لضرورة
حدوثه ، ويلزم من كونه مخلوقا للغير أن يكون مقدورا لذلك الغير.
وعند ذلك : فإما
أن يبقى مقدورا للعبد ، أو لا يبقى مقدورا له.
فإن كان الأول :
لزم وجود مقدور بين قادرين ؛ وهو محال كما سبق.
وإن كان الثانى : فيلزم
منه إبطال دليل القدرة الحادثة ؛ وهو ممتنع.
الثالث
: هو أن الفعل
المقدور واقع على حسب القصد ، والداعية ؛ بخلاف ما ليس بمقدور. فلو كان الفعل
المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة ؛ لما وقع على حسب القصد ، والداعية ؛ بخلاف ما
ليس بمقدور. فلو كان الفعل المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة ؛ لما وقع على حسب
القصد ، والداعية لغير المقدور.
الرابع
: هو أن الأفعال
الاختيارية مختلفة باختلاف القدر. حتى أن الأيّد القوى ؛ يقدر على حمل أضعاف ما
يقدر عليه الضّعيف ، ولو استويا فى عدم تأثير القدرة فى المقدور ؛ لما وقع التفاوت
أصلا.
وحيث وقع التفاوت
؛ دلّ على تأثير القدرة الحادثة فى مقدوراتها.
الخامس
: هو أنه لو كان
تعلق القدرة الحادثة بمقدورها من غير تأثير لها فيه ؛ لما امتنع تعلقها بالألوان ،
والطعوم ، والجواهر ، والمستحيلات : كما فى العلم. وحيث لم تتعلق بهذه الأمور ؛ لم
يكن إلا لكونها مؤثرة.
السادس
: هو أنه لو لم تكن
قدرة العبد مؤثرة فى مقدوره ؛ لكان / مقدوره حاصلا فيه بفعل الله ـ تعالى ـ ضرورة
: كما فى حركة الارتعاش ، ويلزم من ذلك أن يكون العبد مضطرا إلى الفعل ، وهو مقدور
له ؛ وذلك محال.
السابع
: أنه لو لم تكن
القدرة الحادثة مؤثرة فى مقدورها ؛ بل المؤثر فيه هو الله ـ تعالى ـ ؛ لأمكن وجود
مقدورات من العبد فى غاية الحكمة والإتقان : كالصنائع البديعة ، والأبنية المشيدة الرفيعة.
وهو لا يشعر بها ، ولا يحيط بها مع كونها مقدورة له ؛ لضرورة وقوعها بفعل الله ـ تعالى ـ ؛ وذلك محال.
__________________
الثامن
: هو أن مقدور العبد
ينقسم : إلى طاعة ، ومعصية ، وخير وشر ، وذل ، وخشوع. وفعل الله ـ تعالى ـ لا يوصف
بشيء من ذلك ؛ فلو كان مقدورا للعبد غير مخلوق له ؛ بل لله ـ تعالى ـ ؛ لا تصف
بهذه الصفات ؛ وهو محال.
التاسع
: أنه من فعل الظلم
: فإنه يسمى ظالما ، والشر : شريرا ، والفسق : فاسقا ، والخير : خيرا ، والمعصية :
عاصيا ، والخشوع : خاشعا ، إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن
مقدورات العبد : منقسمة إلى هذه الأقسام. فلو لم تكن من فعله ؛ بل من فعل الله ـ تعالى
ـ ؛ لسمى بما ذكرناه ؛ وهو محال.
العاشر
: أنه لو لم يكن
مقدور العبد حاصلا بقدرته ؛ بل بإيجاد الله ـ تعالى ـ ؛ لكان كفره بإيجاد الله ـ تعالى
؛ وهو ممتنع لوجهين :
الأول
: أنه لو كان كذلك ؛
لكان الرب ـ تعالى ـ أضر على العبيد من إبليس اللعين ، من حيث أن إبليس داع إلى
الكفر ، والرب ـ تعالى ـ موجد له ؛ وذلك غير لائق بالموصوف باللطيف ، وأرحم
الراحمين ، على ما قال ـ تعالى ـ (اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ) وقال ـ تعالى ـ (وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) .
الثانى
: أنه يلزم منه أن
لا يكون لله ـ تعالى ـ على الكافر نعمة على ما تقرر قبل ؛ وهو محال لما سبق.
الحادى
عشر : هو أن العقلاء :
يستحسنون شكر المحسن ، وذم المسىء ولا يستحسنون شكره ، ولا ذمه على سواده ، وبياضه
، وطوله ، وقصره ، وحركته حال ارتعاشه. ولو لم يكن ما شكر ، وذم عليه : من فعله ، وإيجاده ؛ لما حسن الشكر ، والذم :
كما فى الصور المستشهد بها ؛ ضرورة التساوى فى عدم تأثير القدرة الحادثة.
الثانى
عشر : هو أن العقلاء : (يستحسنون)
الأمر ، والنهى للقادر على الفعل ، وطلبه منه ، وزجره عنه ، والوعد والوعيد
عليه. ولا يستحسنون ذلك فيما ليس بمقدور :
__________________
كحركة / الارتعاش
، ووجود الجواهر ، والألوان ، والطعوم ، ولو تساويا فى عدم تأثير القدرة الحادثة
فى الكل ؛ لما حسن هذا الفرق.
الثالث
عشر : أن القول يكون
العبد غير خالق لفعله : يسد باب إثبات الصانع ؛ وذلك من حيث أن الطريق إلى إثبات
الصانع : إنما هو حدوث العالم ، وافتقاره إلى محدث بالقياس على أفعالنا الحادثة ،
فإذا كان حكم الأصل فى الأصل غير ثابت ؛ ففى الفرع أولى.
الرابع
عشر : أن الإجماع من
الأمة منعقد على أن العبد مأمور ، ومنهى ؛ فلو كان ما أمر به ، ونهى عنه : ليس من
فعله ؛ لكان ذلك تكليفا بفعل الغير ؛ وهو تكليف بما لا يطاق. ولو أمكن ذلك ؛ لأمكن
التكليف بخلق الجواهر ، والألوان ، والطعوم ؛ بل بالمستحيلات ؛ وذلك محال. كما سبق
تقريره فى مسألة تكليف ما لا يطاق .
الخامس
عشر : أن مقدورات العبد
منقسمة : إلى حسنة ، وقبيحة ؛ فلو لم تكن مقدوراته من فعله. وإيجاده ؛ لكانت من
فعل الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك أن يكون الله فاعلا للقبيح ؛ وهو محال من ثلاثة
أوجه :
الأول
: أن من يفعل القبيح
إذا كان مختارا له ؛ فلا يتصور فعله له إلا بتقدير جهله بقبحه ، أو احتياجه إليه ،
ويلزم من ذلك أن يكون الرب ـ تعالى ـ جاهلا ، أو محتاجا ؛ وهو محال.
الثانى
: أنه لو جاز عليه
فعل القبيح ؛ لجاز أن يبعث نبيا كاذبا : داعيا إلى الكفر ، والضلال ، والبدع ،
والفسق ، وأفعال الشر ؛ وذلك كله محال.
الثالث
: أنه إذا جاز عليه
فعل القبائح ؛ فلا يمتنع عليه الكذب فى وعده ، ووعيده ، وكل ما يخبر به.
__________________
ويلزم من ذلك :
إبطال الشرائع ، وتجويز أن يكون ما أخبرنا به من (أن) دين الإسلام حق ، وما عداه باطل بالضد ؛ وكل ذلك محال لا يرتضيه عاقل لنفسه ؛ فضلا عن خالقه.
السادس
عشر : لو كانت مقدورات
العبد من أفعال الله ؛ لكانت حسنة بكل حال ؛ وليس كذلك.
السابع
عشر : أنه لو لم يكن
العبد موجدا لفعله ؛ لما كان الثواب ، والعقاب على فعل العبد مجازاة له على فعله ،
وهو خلاف قوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) . وقوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) . وقوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) . وقوله ـ تعالى ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) .
/ إلى غير ذلك من
الآيات ، والدلالات السمعيات ؛ وذلك محال.
الثامن
عشر : أنه يلزم من كون
العبد غير موجد لفعله : أن يكون الثواب والعقاب من الله ـ تعالى ـ لا بطريق المجازاة
على الفعل. ولو كان كذلك لجاز عقاب الأنبياء ، وثواب الكفرة الأغبياء ، وعقاب
الطائع ، وثواب العاصى ، ولم يبق لأحد وثوق بعمله.
ولا يخفى : ما فى
ذلك من تشويش الدين ، والخبط فى الشريعة ، وتعطيل معنى الرسالة.
التاسع
عشر : أنه لو كان البارى
ـ تعالى ـ هو الفاعل لمقدورات العبد ، وهو آمر بها ، وناه عنها ؛ لكان آمرا للعبد
بفعل نفسه ، ناهيا له عنه ، ولا يخفى أن أمر الآمر لغيره بفعل الأمر ، ونهيه عن
فعله ، مما يعد جهلا ، وحمقا ؛ والرب منزه عن ذلك كله.
العشرون
: أنه لو كان الكفر
، والإيمان من فعل الله ـ تعالى ـ ؛ لكان من قضائه ، وقدره.
__________________
وعند ذلك : إما أن
يكون قضاؤه حقا ، أو باطلا.
فإن كان باطلا :
فالإيمان باطل.
وإن كان حقا :
فالكفر حق ؛ وهو محال.
وأيضا : فإنه :
إما أن يرضى بقضائه وقدره ، أو لا يرضى به.
فإن كان الأول :
لزم الرضى بالكفر.
وإن كان الثانى :
لزم أن لا يرضى بالإيمان ؛ وهو محال مخالف لإجماع الأمة.
وأما من جهة
المنقول :
فمن جهة الكتاب ،
والسنة ، وإجماع الأمة.
أما الكتاب :
فقوله ـ تعالى ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) . وقوله ـ تعالى ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ) . وقوله ـ تعالى ـ (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) . وقوله تعالى ـ (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) . وقوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) . وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نسبة العمل إلى العبد.
وأما السنة :
فقوله ـ عليهالسلام ـ : «الأعمال بالنّيات» . وقوله : «لا عمل إلّا بنيّة». وقوله:
__________________
«نيّة المؤمن خير
من عمله» . وقوله : «اعملوا وقاربوا وسدّدوا فكلّ ميسّر لما خلق له» .
وأما الإجماع :
فهو أن الأمة
مجمعة على إطلاق القول : بإضافة العمل إلى العبد ، وأنه فاعل. وأنه فعل كذا ، وما
فعل كذا. وكذا فعله.
والفعل : عبارة عن
الحادث ممن كان قادرا عليه.
والفاعل : هو
القادر على إيجاد الفعل.
وإن سلمنا أن
القدرة الحادثة غير مؤثرة فى نفس الفعل : ولكن ما المانع من كونها مؤثرة فى إثبات
صفة للفعل؟ / كما هو مذهب القاضى أبى بكر والأستاذ أبى إسحاق ؛ وهو أولى ؛ لما
فيه من الجمع بين الأدلة الدالة على كون الرب خالقا لفعل العبد ، والأدلة الدالة
على كون العبد فاعلا ، ومؤثرا.
ولا يخفى : أن
الجمع بين الأدلة أولى من العمل بالبعض ، وتعطيل البعض.
والجواب :
قولهم : الموجد بالاختيار لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده ،
وعالما به على وجه كلى ، أو جزئى.
قلنا : القصد يجب أن يكون إلى الشيء الّذي يتعلق به الحدوث
والوجود ، وليس ذلك غير الجزئى ، لا الكلى.
__________________
وإذا كان القصد لا
يكون إلا للجزئى ؛ فالمقصود يجب أن يكون معلوما ؛ لضرورة تعلق القصد بإيجاده. فلو
كان المقصود المعلوم هو الكلى دون الجزئى : لكان المعلوم المقصود غير الحادث ، والحادث غير
مقصود ولا معلوم ؛ وهو محال.
قولهم : لو اشترط قصد الجزئى : من حيث هو جزئى ؛ لزم الدور كما
قرروه. إنما يلزم : أن لو كان القصد نسبة ، وإضافة ؛ وليس كذلك ؛ بل المراد بالقصد
: الإرادة. والإرادة : كما سبق ـ عبارة عن صفة وجودية صالحة أن يتأتى بها تخصيص
المقدور بحالة دون حالة. والّذي يتخيل أنه نسبة وإضافة : إنما هو تعلقها بالمقدور.
والدور أيضا : غير لازم من تعلقها بالمقدور الجزئى ؛ لأن معنى
تعلق الإرادة بالمقدور : حصول تخصيصه مستندا إليها : بمعنى أنه : لو لا الإرادة
لما كان ذلك التخصيص.
ولا يخفى : أن
تفسير التعلق بهذا المعنى مما لا يلزم منه الدّور أصلا.
قولهم : ما ذكرتموه تشكيك فى الضّروريات ؛ ممنوع.
قولهم : كل عاقل يعلم من نفسه أنه موجد لما يفعله ضرورة.
قلنا : كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود فعله : مقارنا لقدرته ،
أو أن قدرته مؤثرة فى فعله. الأول : مسلم ، ولا منافاة بينه ، وبين ما ذكرناه.
والثانى ؛ ممنوع.
ولهذا : خالف فيه
خلق كثير ـ تقوم الحجة بقولهم ـ من العقلاء : كالأشاعرة ، والقدرية ؛ والضرورى ليس
كذلك.
قولهم : لو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة : لما فرق بين المقدور ، وما ليس بمقدور.
قلنا : لا نسلم أنه يلزم من عدم تأثير القدرة الحادثة فى
مقدورها ؛ امتناع الفرق بين المقدور ، وما ليس بمقدور ، كما لا يلزم من امتناع
تأثير العلم فى المعلوم ؛ امتناع الفرق بين المعلوم ، وما / ليس بمعلوم. اللهم إلا
أن يبينوا : امتناع تعلق القدرة الحادثة بالمقدور ؛ ولا سبيل إليه.
ولا يلزم : من
امتناع التأثير ؛ امتناع التعلق : بدليل العلم ، والإدراك.
__________________
ثم كيف السبيل :
إلى إنكار المعتزلة انقسام القدرة : إلى مؤثرة ، وغير مؤثرة. ومن أصلهم : أن
الإرادة مما تقع بها الصفات التابعة للحدوث كصرف صيغة أفعل. إلى الإيجاب ،
والاستحباب. وصرف الفعل إلى التعظيم ، والإهانة ؛ ومع ذلك فحدوث الفعل غير واقع
تبعا مع كونه مرادا بها.
وكذلك حكموا :
بأنّ صفة الاتفاق ، والإحكام فى الفعل المحكم المتقن واقعه بالعلم ؛ وهو غير مؤثر
فى ذات الله ـ تعالى ـ والجواهر وكثير من الأعراض. وإن كان متعلقا بها ؛ وهى
معلومة به ؛ ولو سئلوا عن الفرق لم يجدوا إليه سبيلا.
قولهم
: يلزم مما ذكرتموه
: وجود مقدور بين قادرين.
قلنا : قادرين خالقين ، أو قادرين مخترع ، ومكتسب. الأول ؛
ممنوع ، والثانى مسلم.
ولكن لا نسلم
امتناع ذلك على ما سبق تقريره.
قولهم : الفعل المقدور واقع على حسب القصد ، والداعية.
قلنا : لا معنى للقصد : غير الإرادة. والداعى : لا معنى له غير
علم الفاعل ، أو اعتقاده ، أو ظنه بما يتوقعه من نفع فى فعله ، أو دفع ضرر به.
وعند ذلك : فلا
نسلم أن الفعل المقدور واقع على حسب القصد والداعية ؛ فإن الفعل القليل : مقدور
للنائم بالإجماع منا ، ومنهم. وهو غير واقع على حسب القصد ، والداعية إليه ؛ إذ
النوم : مضاد للعلوم ، والإدراكات بالإجماع منا ، ومنهم.
وكذلك الحركة
الواقعة لا على خط مستقيم : مقدورة لمن قصدها على خط مستقيم ؛ وهى غير واقعة على
حسب قصده ، وداعيته ؛ بل أبلغ من ذلك ما نراه من حركات الحيوانات العجماوات : فى طيرانها ، وسباحتها ،
وحركة أجفانها : انفتاحا ، وانطباقا ؛ فإنها مقدورة لهم بالإجماع مع علمنا أن كل
حركة منها ـ على الخصوص ـ غير واقعة على حسب القصد ، والداعية.
__________________
وعلى أصلهم :
المتولدات من حركات المختارين مقدورة لهم ؛ وبعضها غير واقعة على حسب القصد ،
والداعية.
وأيضا : فإنهم
أثبتوا للعبد أفعالا لا بقاء لها : كالحركات ، وما لا بقاء له من الأعراض ؛ فإنهم
أوجبوا : اختصاصه بوقت لا يتصور تقدمه عليه ولا تأخره / عنه ؛ فوقوعه فيه لا يكون
على حسب القصد ، والداعية ؛ لأن القصد ، والداعية متوقف على التمييز بين الفعل ، والترك.
سلمنا وقوع
المقدور على حسب القصد ، والداعية : ولكن لا نسلم أن ما ليس بمقدور ، ليس كذلك ؛
وبيانه من ثلاثة أوجه :
الأول
: أن من طلب منه فعل
فأتى به ؛ فقد وقع على حسب قصد الطالب ، وداعيته. وليس ذلك الفعل مقدورا له ؛ فإن
فعل زيد لا يكون مقدورا لعمرو بالاتفاق.
الثانى
: أن الاتفاق منا ،
ومنهم واقع على أن الشبع ، والرى واقعان عقيب الأكل ، والشرب. بفعل الله ـ تعالى ـ
على وفق القصد ، والداعية فى الأكثر ؛ وليس ذلك من فعل العبد.
الثالث
: أنا قد اتفقنا :
على إمكان خلق إرادة ضرورية ، وداع ضرورى لفعل مخلوق فى العبد بالضرورة على وفق قصده ، وداعيته ؛ ولا يكون
فعلا للعبد.
سلمنا أن المقدور
واقع على حسب القصد ، والداعية ، وأن ما ليس بمقدور ليس كذلك : ولكن لا نسلم أنه
يلزم من ذلك أن يكون المقدور مفعولا لمن له القصد ، والداعية.
قولهم : لو لم يكن كذلك ؛ لما وقع المقدور على حسب القصد
والداعية ، لغير المقدور. إنما يلزم ذلك : أن لو كان عدم وقوع الفعل على حسب القصد
والداعية ، فيما ليس بمقدور ؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة فيه ؛ وهو غير مسلم.
__________________
وما المانع أن
يكون ذلك لكونه غير مقدور؟ لا لعدم تأثير القدرة فيه؟ أو لمعنى آخر لا سبيل إلى
نفيه بطريق قطعى .
كيف : وأنه إذا لم
يستبعد امتناع وقوع الفعل بالقصد والداعية ، مع وقوعه على حسبهما ، فكيف يستبعد
وقوعه لا بالقدرة الحادثة؟
قولهم : الأفعال الاختيارية مختلفة باختلاف القدر على ما ذكروه.
قلنا : التفاوت : إنما هو فى كثرة المقدورات لكثرة القدر ؛ وليس
فى ذلك ما يدل على وقوع الفعل بالقدرة.
قولهم : لو لم تؤثر القدرة الحادثة فى مقدورها ؛ لما امتنع
تعلقها بالجواهر ، والألوان ، والطعوم ، والمستحيلات : كما فى العلم.
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو بينوا أن علة تعلق العلم بالجواهر ،
وباقى ما ذكر ، عدم تأثيره ؛ وهو غير مسلم ، ولا مبرهن عليه ؛ فيكون ما ذكروه
تمثيلا من غير علة جامعة / ؛ وهو غير صحيح.
فإن
قيل : فإذا قيل : تتعلق القدرة بالمقدور من غير تأثير ؛ فليس تعلقها
ببعض المقدورات دون البعض ؛ أولى من العكس.
قلنا : (ليس) كذلك ؛ فإنه لا مانع أن تكون لذاتها مقتضية للتعلق بما
تعلقت به لخصوص تعينه ، أو أن يكون تعين ما لم تتعلق به مانعا من تعلقها به.
ثم هو لازم : على
القائل بتأثير القدرة الحادثة فى مقدور ، دون مقدور ، وكل ما يقال فى الجواب فى
تخصيص التأثير ؛ فهو جواب فى تخصيص التعلق من غير تأثير.
قولهم : لو كان مقدور العبد مخلوقا للرب ـ تعالى ـ فيه ؛ لكان
العبد مضطرا إليه ؛ وقد سبق جوابه فى الفصول المتقدمة.
__________________
قولهم
: لو كان المؤثر فى
مقدورات العبد القدرة القديمة ؛ لجاز أن يوجد منه فعل فى غاية الحكمة ، والإتقان ؛
وهو لا يشعر به ؛ عنه جوابان :
الأول
: أنا نقول بجوازه
، وإن كان على خلاف العادة (الغالبة) .
الثانى
: وإن كان ذلك
ممتنعا : فما المانع أن يكون ذلك لتلازم القدرة الحادثة والعلم ، وإن كان المؤثر
فى المقدور القدرة القديمة ؛ وذلك كتلازم : الألم ، والعلم به. وإن كان المؤثر فى
الألم هو القدرة القديمة.
قولهم : من فعل ظلما : يسمى ظالما ؛ سبق الجواب عنه فيما تقدم.
قولهم : لو كان الرب هو الخالق للكفر ؛ لكان أضرّ على العبيد من
إبليس على ما قرروه.
قلنا : هذا هو اللازم على الخصم من وجهين :
الأول
: أنه إن كان الموجد
للكفر ؛ أضرّ من الدّاعى إليه ؛ فالممكن منه بخلق القدرة عليه ، والداعى إليه ،
وآلات التوصّل إلى الكفر مع علمه بوقوعه ممن مكنه أيضا ؛ أضرّ من الدّاعى إليه.
ولهذا : فإن فى
الشاهد لو خلق الله ـ تعالى ـ العلم الضرورى لشخص ، أو باعلام نبى مرسل له بطريق
الوحى : أنه لو مكن عبدا من العدد ، والأموال ؛ لقطع الطريق ، وأخاف السبيل ،
وارتكب الفواحش ؛ فإنه يكون أضرّ على العبد من الداعى إليه. إذا لم يكن موجدا ،
ولا ممكنا لتلك المعاصى والرب ـ تعالى ـ قد مكن عبده من الكفر على أصلكم بما
حققناه ؛ فليكن أضرّ عليه من إبليس الداعى إليه.
وما هو جواب لكم :
عن هذا الإلزام ؛ فهو جواب لنا : هاهنا.
الثانى
: أنه يلزم على سياق
ما ذكروه : أن يكون العبد ؛ لكونه فاعلا للإيمان ـ على أصلهم ـ أحق بالثناء من
الله ـ تعالى ـ لكونه ممكنا منه غير فاعل له ؛ وهو محال.
فلئن
قالوا : إنما كان الرب
أحق / بالثناء من العبد ؛ لأنه لو لا تمكينه من الكفر لما أوجد العبد الإيمان.
__________________
قلنا : فليكن الرب أحقّ بالذّم على تمكينه من الكفر ؛ لأنه
لولاه لما أوجد العبد الكفر.
فلئن
قالوا : الرب ـ تعالى ـ محسن
بتمكينه العبد من الكفر ؛ ليعظم ثوابه بإيمانه عن الكفر ، وامتناعه منه.
قلنا : الثواب عندكم : إنما يكون على الفعل ، ولا فعل عدم ؛ وليس بفعل. والمتحقق
هاهنا : إنما هو التمكين من الفعل ، وعدم الفعل. والتمكين من فعل الله ؛ فلا يستحق
عليه العبد ثوابا. ولا فعل غير مثاب عليه ، فلو أثيب ؛ لأثيب على ما ليس من فعله ؛ وهو محال على أصلكم.
هذا كله : إذا علم
الله ـ تعالى ـ أن العبد لا يفعل ما مكنه منه.
وأما إذا علم أنه
لا يمتنع مما مكنه منه ، وأنه يفعله ؛ فلا يعد محسنا.
كيف : وأن جميع ما
ذكروه فمبنى على إلحاق الغائب بالشاهد ؛ وهو ممتنع كما سبق .
فلو صح : لصح تقبيح فعل الله ـ تعالى ـ تمكينه للخلق من الفواحش وارتكابهم لها ؛ مع اطلاعه عليهم ، وعلمه
أنهم لا ينزجرون ؛ كما يقبح ذلك فى الشاهد من السيد إذا ترك عبيده ، وإماءه
يرتكبون الفواحش ؛ وهو مطلع عليهم ، وقادر على منعهم ؛ وهو محال.
قولهم : يلزم من ذلك أن لا يكون لله ـ تعالى ـ على الكافر نعمة.
قلنا
: قد بينا ـ فيما
سبق ـ أن مذهب أصحابنا : أنه لا نعمة لله ـ تعالى ـ على الكافر من النعم الدينية ،
وإن اختلفوا فى النعم الدنياوية ، وبينا ما فى ذلك فى موضعه.
__________________
قولهم
: العقلاء يستحسنون
شكر المحسن ، وذم المسىء ، ولا يستحسنون الشكر والذم على سواده ، وبياضه ؛ مسلم.
قولهم : ولو لم يكن ذلك من فعله ، وتأثيره ؛ لما حسن ذلك ؛ كما
فى السواد ، والبياض.
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو بينتم أن امتناع الشكر ، والذم على
سواده وبياضه ؛ لعدم تأثيره فيه ؛ ولا سبيل إليه بأمر يقينى.
كيف وأن حاصل ما
ذكروه : يرجع إلى الاحتجاج على قضية عقلية ؛ بأمر عرفى ؛ وهو فاسد.
قولهم : العقلاء يستحسنون الأمر والنهى ، للقادر ؛ مسلم.
قولهم : ولو لم يكن موجدا لما أمر به ؛ لما حسن ذلك.
قلنا : القول بامتناع الأمر ، والنهى بما ليس من فعل المأمور :
إما أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.
فإن لم يكن معلوما
: امتنع الجزم به.
وإن كان معلوما :
فإما بالضرورة ، أو بالدليل. لا سبيل إلى الأول : إذ ليس دعوى الضرورة فى محل
الخلاف : / أولى من دعوى الضرورة فى الضد.
كيف : وإنه لم يقل
بذلك قائل ممن يؤبه به من المعتزلة غير الملقب بجعل.
وإن كان بدليل :
فلا بد من إظهاره ضرورة إصرار الخصم على المنع.
وعند ذلك : فإن
احتجوا بالعرف ؛ فقد سبق ما فيه.
وإن عادوا إلى
شبهة أخرى غير هذه الشبهة من الشبه المذكورة ، عاد الكلام فيها.
كيف : وأن ما ذكره
المعتزلة من استبعاد الأمر والنهى ، بما ليس مفعولا للمأمور ، والمنهى ينعكس عليهم
من وجهين :
__________________
الأول
: أنهم زعموا أن
القدرة الحادثة غير مؤثرة فى المقدور فى حال حدوثها ؛ بل فى الحالة الثانية من وقت حدوثها. وقد بينا
فيما تقدم أنه يلزم من ذلك : امتناع تعلق القدرة بالمقدور. ومع ذلك ؛ فهو مأمور ،
ومنهى.
الثانى
: هو أن الذوات
ثابتة عندهم فى العدم. والوجود حال زائدة عليها ، والقدرة غير متعلقة بالذوات
عندهم ، والوجود حال ، والأحوال غير مقدورة عندهم. والأمر بالفعل لا يخرج عن أن
يكون بالذات ، أو الوجود ، أو بهما ؛ والكل تكليف بما ليس بمقدور.
وقد عكس القاضى
عليهم هذه الشبهة من وجهين آخرين :
الأول
: أنه قال : ليس
الغرض عندكم من الفعل المأمور به حدوثه ، ووجوده. وإلا لعم الأمر جميع الأفعال ؛
ضرورة اتحاد معنى الوجود عندكم فى جميع الأفعال ؛ بل المقصود : إنما هو حسنه.
والحسن على أصول المعتزلة غير واقع بالقدرة ؛ بل هو من توابع الحدوث عندهم. وإذا
لم يبعد كون المقصود بالأمر غير مفعول بالقدرة ؛ فلأن لا يبعد كون الفعل ـ مع أنه ليس بمقصود من الأمر ـ غير مفعول
بالقدرة كان أولى.
وهو ضعيف ؛ إذ لهم
أن يقولوا :
المأمور إنما : هو
حدوث الفعل الّذي من توابعه الحسن ؛ وهو المقصود.
فإن
قيل : إذا كان الحدوث
والحسن ، من الصفات الزائدة على نفس الفعل ، ولا انفكاك لإحداهما عن الأخرى. فإذا
خرج الحسن عن كونه مقدورا ـ مع كونه المقصود الأصلي ـ فلأن يخرج الحدوث عن كونه
مقدورا ؛ كان أولى.
قلنا : عنه جوابان :
الأول
: لا نسلم أن
المقصود : هو الحسن ؛ بل الحدوث : الّذي من توابعه الحسن.
الثانى
: وإن كان المقصود :
هو الحسن ؛ فالقول بأنه إذا لم يكن مقدورا ؛ فما ليس بمقصود أولى. دعوى مجردة عن
الدليل ؛ فلا تقبل.
__________________
وما المانع من أن
/ تكون القدر لذاتها تقتضى التعلق بالحدوث لتعينه دون الحسن ، أو أن تعين الحسن ؛
يكون مانعا من تعلقها به؟
الثانى
: أنه قال : الفعل
وإن كان حادثا بالقدرة الحادثة عندكم. إلا أنه لا يتم وقوعه دون القدرة ، وحدوث
القدرة : غير مقدور للعبد.
وإذا جاز توجه
الأمر بفعل متعلق بما ليس مقدورا للعبد ؛ فلا يمتنع توجهه بما ليس مفعولا للعبد.
وهو أيضا ضعيف :
فإنه لا يلزم من جواز توجه الأمر بما هو مقدور ، متوقف على ما ليس بمقدور ؛ لكونه ممكن الوقوع عادة ؛ جواز توجهه إلى ما ليس مقدورا أصلا.
قولهم : يلزم من كون العبد غير خالق لأفعاله : سد باب إثبات
الصانع على ما ذكروه : إنما يلزم أن لو انحصر طريق الإثبات فيما ذكروه ؛ وهو غير
مسلم. ولا سبيل لهم إلى نفى طريق آخر : بغير البحث ، والسبر ؛ وهو غير يقينى ؛ لما
سلف .
كيف : وأن حاصل ما
ذكروه من الطريق : يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد ؛ وهو فاسد لما سبق .
ثم وإن سلمنا صحته
: لكن بشرط الاشتراك فى العلة الدالة على كون العبد مؤثرا وهى غير مشترك فيها.
وذلك أن من أصلهم فى الدلالة على كون العبد فاعلا ، ومؤثرا فى مقدوره : وقوع
مقدوره على حسب قصده ، وداعيته. ولا سبيل إلى إثبات القصد فى حق الله ـ تعالى ـ إلا
بصدور الفعل عنه ، فلو وقفنا العلم بصدور الفعل عنه على كونه واقعا ، على حسب قصده
؛ لكان دورا ممتنعا.
قولهم : لو لم يكن مقدور العبد من فعله ؛ لكان تكليفه به تكليفا
بما لا يطاق.
فقد
أجاب عنه بعض الأصحاب : مع تقريره لطريقة الشيخ أبى الحسن الأشعرى رضى الله عنه ؛ فى امتناع تأثير
القدرة فى مقدورها بأن التكليف : إنما هو بكسب العباد لا بفعل الله ـ تعالى ـ ولا
وجه له ؛ فإنه لا معنى للكسب : غير الفعل القائم بمحل القدرة والمحل والقدرة فى
المقدور.
__________________
وقيام المقدور
بمحل القدرة : ليس من فعل العبد. والتكليف لا يخرج عن أن يكون بأحد هذه الأمور ،
أو بجملتها ، والجملة ، والأفراد ليست من فعله ؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق.
فالطريق المرضى
على تقرير قاعدة الشيخ : إنما هو التكليف بفعل الغير ، وتجويز تكليف ما لا يطاق
على ما تقدم تقريره فى التعديل ، والتجوير .
قولهم : إن مقدورات العبد منقسمة إلى حسنة ، وقبيحة فلو كانت من
فعل الله ـ تعالى ـ ؛ لكان الله / ـ تعالى ـ فاعلا للقبيح.
قلنا : هذا إنما يلزم على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح
الذاتى ؛ وقد بينا إبطاله فيما تقدم ، وعلى ما قررناه فمعنى كون الفعل القائم بمحل قدرة العبد
قبيحا أنه مأمور بذمه ، أو أنه منهى عنه. والفعل بالإضافة إلى فعل الله ـ تعالى ـ ليس
كذلك ؛ فلا يكون قبيحا.
وعلى
هذا فقد اندفع ما ذكروه من المحالات الثلاثة.
على أنا نجيب عما ذكروه من الإلزامات من وجهين :
الأول
: إن كل ما ألزموه جائز عندنا عقلا. ما عدا الكذب على الله ـ تعالى ـ فإنا
بينا استحالته على الله ـ تعالى ـ بالدليل العقلى لا من جهة كونه قبيحا لذاته ،
ومع جواز تلك الأمور : فنقطع بعدم وقوعها كما نقطع بعدم انقلاب البحر دما ، وغور
الجبال الراسية ، نظرا إلى العادة ، وإن كان ذلك يجوز عقلا.
الثانى
: هو أن ما ذكروه
لازم عليهم فى خلق الدواعى ، والصوارف إلى هذه الأفعال ؛ فإنه كما يقبح من الله ـ تعالى
ـ بعثة الرسل بها ، والحث عليها وشرعها ؛ لكونها قبيحة ، وأن ما يفضى إلى القبيح
قبيح.
__________________
فلا يخفى : أن خلق
القدرة عليها ، والداعى إليها مما يفضى إليها ؛ فيكون قبيحا.
فما هو جواب لهم
فى خلق الداعية ، والقصد إليها : هو جوابنا فى شرعها ، وإرسال الرسل بها.
وعلى هذا : فقد
خرج الجواب عن الشبهة السادسة عشرة إلى بعد هذه الشبهة.
قولهم : لو لم يكن العبد موجدا لفعله ؛ لامتنع الثواب والعقاب
عليه ، بجهة المجازاة. لا نسلم ذلك ؛ بل الثواب والعقاب عندنا يستدعى كون الفعل
مقدورا لا مخلوقا.
كيف : وأن ما
ذكروه لازم عليهم : حيث اعتقدوا أن ذات الفعل غير مقدورة ، وأن الوجود حال زائدة
غير مقدورة كما بينا. والثواب لا يخرج عن أن يكون على الفعل ، أو الحدوث ، أو
مجموع الأمرين ؛ والكل غير مقدور ؛ فالإلزام يكون مشتركا.
قولهم : لو لم يكن مقدور العبد من فعله ؛ لجاز عقاب الأنبياء ،
وثواب الكفرة.
قلنا : مسلم ؛ ولكن جوازا تحيله العادة ، أو لا تحيله العادة.
الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.
وعلى هذا : فلا تشكك
فى انتفاء ما ذكروه ، وإن كان جائزا عقلا.
قولهم : لو كان مقدور العبد من فعل الله ـ تعالى ـ مع ورود الأمر
به ؛ لكان الله ـ تعالى ـ آمرا بفعل نفسه ، وهو محال.
لا نسلم الإحالة
فى ذلك ، ولا يلزم (من) قبح ذلك فى الشاهد ، قبحه فى الغائب ؛ لما / بيناه من امتناع
قياس الغائب على الشاهد .
أما ما ذكروه من شبه القضاء ؛ فجوابها يستدعى تحقيق معنى
القضاء ، وبيان اعتباراته.
__________________
فنقول : القضاء : قد يطلق بمعنى الإعلام : كما قال ـ تعالى ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ) : أى أعلمناهم.
وقد يطلق بمعنى
الأمر : منه قوله ـ تعالى ـ : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : أى أمر ربك.
وقد يطلق بمعنى
الاختراع ، والخلق : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) : أى خلقهن.
وقد يطلق : بمعنى
انقضاء الأجل ـ ومنه يقال : فلان قضى نحبه ، ونزل به القضاء. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) .
وقد يطلق بمعنى
إلزام الحكم ، وإبرامه ومنه يقال : «قضى القاضى».
وقد يطلق : ويراد
به توفية الحق : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ) : أى وفاه حقه.
وقد يطلق ويراد به
الإرادة : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : أى إذا أراد.
وعلى هذا :
فالإيمان من قضاء الله ـ تعالى ـ بكل اعتبار ، ولا يكون الكفر من قضاء الله :
بمعنى أنه مأمور به. وإنما هو من القضاء : بمعنى خلقه ، وإرادته ، والحكم به ،
والإعلام به.
وعلى هذا : فخلق
الكفر ، وإرادته ، والإعلام به ، والإلزام به : يكون حقا. وإن كان الكفر فى نفسه
باطلا.
وعلى هذا : فقولهم
: القضاء : إما أن يرضى به ، أو لا يرضى به على ما قرروه.
__________________
قلنا : إن أريد بالرضى عدم الاعتراض على الله ـ تعالى ـ (فيما قضى به ، وبعدم الرضاء ) الاعتراض ؛ فعندنا الرضى بهذا الاعتبار واجب فى كل قضاء
كان طاعة ، أو معصية.
وإن أريد بلزوم
الرضى : الركون إلى المقضى به. وبعدم الرضى : النفرة والإباء عن قبوله ؛ فما كان
من الطاعات المقضية : فالرضى بها بهذا الاعتبار ؛ لازم واجب ، وما كان من غيرها ؛
فالرضى به بهذا الاعتبار ليس واجبا ، ولا لازما.
ولهذا : فإن من
اعترته الآلام ، والأسقام ؛ فله السعى فى دفعها ، وإزالتها. ولو قيل بامتناع ذلك ؛
لكونها من قضاء الله ؛ كان خرقا لإجماع الأمة.
وأما ما ذكروه من
المنقول ، والأدلة السمعية : فظواهر غير قطعية ، ثم غايتها إطلاق اسم الفاعل على
العبد ، وإضافة الفعل إليه ، وليس فى ذلك ما يدل على كونه موجدا ، أو محدثا لفعله
/ أو ليس ؛ لأن الفاعل من كان قادرا على إيجاد الفعل ، أو أن الفعل هو الحادث ممن
كان قادرا عليه ممنوع ؛ بل الفاعل على الحقيقة عندنا : هو من وقع الفعل مقدورا له
، وهو أعم من الموجد. والفعل هو الحادث المقدور.
وعلى هذا : فإطلاق
الفاعل على الله ـ تعالى ـ وعلى العبد يكون حقيقة.
وإن سلمنا أن
الفاعل فى الحقيقة هو الموجد المحدث ؛ فلا يمتنع إطلاق ذلك على العبد فى لسان
الشارع ، وأهل اللغة تجوزا بمعنى كون الفعل مقدورا له. وإن أطلق ذلك فى لسان أهل
اللغة على اعتقاد كونه حقيقة ـ بناء على اعتقادهم كون العبد موجدا لفعله ـ فقد
أصابوا فى الإطلاق بناء على اعتقادهم ، وأخطئوا فى الاعتقاد : كإصابتهم فى إطلاق
لفظ الآلهة على الأصنام ؛ لاعتقادهم أنها هى الملجأ ، والملاذ فى دفع الضرر
والبلوى. وإن أخطئوا فى اعتقادهم ذلك.
ثم ما ذكروه :
معارض بما حققناه من النصوص الدالة على كون العبد غير خالق : فى مسألة نفى خالق
غير الله ـ تعالى ـ.
__________________
وما ذكروه : من
إطلاق الأمة معارض بإطلاقات أخرى دالة على نقيضه ، وبيانه من خمسة أوجه :
الأول
: هو أن الأمة مجمعة
على أن الله ـ تعالى ـ أولى بالثناء عليه من العبد. فلو كان العبد هو الخالق لمعرفته بالله ـ تعالى
ـ وطاعته له ، وإيمانه به ؛ لكان أولى بالثناء عليه من الله ـ تعالى ـ ؛ وهو خرق
لإجماع المتكلمين.
وبيان الملازمة :
هو أن إيجاد المعرفة بالله ، والإيمان به ، أحسن من إيجاد الأجسام الخسيسة ، والحشرات ، والقاذورات ؛ وذلك لأن استحقاق الثناء ،
والمدح على أصولهم متعلق بحسن الفعل ، فكلما كان الفعل أحسن ؛ كان أولى ، وأحق
بالثناء على فاعله.
فإن
قيل : لا نسلم أن
المعرفة والإيمان أحسن من خلق الأجسام ؛ بل الأمر بالعكس.
وبيانه : أن
الأجسام ، وأعراضها من الآيات المفضية بالناظر فيها إلى السعادة الأخروية ،
ومعرفتها غير مختصة بطائفة دون طائفة ، وما نفعه أعم ؛ فهو أحسن.
سلمنا أن إيجاد
المعرفة والإيمان أحسن ؛ غير أن المنة لله ـ تعالى ـ فى ذلك : حيث أنه مكن منه بخلق القدرة عليه ، والداعى الصارف إليه ؛ فكان أولى
باستحقاق الثناء من العبد.
قلنا : أما الأول : فهو خلاف إجماع / المسلمين.
وما ذكروه فى التقرير : فبالضد أولى ؛ وذلك لأن حسن الأجسام وأعراضها :
إنما كان لكونها دلائل المعرفة كما ذكروه ، وما كان حسنه من أجل غيره ؛ فذلك الغير يكون أحسن.
وأما الثانى :
فيلزمهم منه : أنه إذا كان أولى باستحقاق الثناء لتمكينه من فعل الإيمان : أن يكون
أولى بالذم ؛ لتمكينه من فعل الكفر.
__________________
الثانى
: هو أنه لم تزل
الأمة مجمعة على الدعاء لله ـ تعالى ـ والتضرع إليه ، فى أن يرزقهم : الإيمان ،
ويجنبهم : الكفر ، والعصيان. وكذلك الأئمة الصالحون ، والأنبياء المرسلون حتى قال إبراهيم
الخليل : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) . وقال ـ تعالى ـ حكاية عنه ، وعن إسماعيل : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) . وقال يوسف : (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَ) .
ولو لا أن ذلك كله
من فعل الله ؛ لما كان كذلك.
فإن
قيل : المراد من السؤال
: إنما هو للتمكين من الطاعة والإيمان ؛ بالإقدار عليهما ؛ فهو خلاف الظاهر من لفظ
الجعل ، والصرف ، وسائر الألفاظ المذكورة من غير دليل ؛ فلا تقبل.
كيف وأن الإقدار
على الإيمان ، والطاعة منهم من باب اللطف : وهو حتم على الله ـ تعالى ـ عندهم ،
ومن لوازم الإلهية ، فلا معنى لسؤاله ما لا بد منه ؛ وهو حتم عليه ، كما لا يحسن
أن يسأل ويقال : لا تظلم ، ولا تجر ؛ مع استحالة الظلم ، والجور فى حقه.
الثالث
: هو أن المعتزلة
موافقون : على استحالة عرو الأجسام عن الحركة والسكون. فلو كان العبد هو المخترع
لحركة يده ، وسكونها ؛ فبتقدير إضرابه عن تحقيق مقدوره ، مع استمرار قدرته عليه ؛
فيلزم منه : إما عرو يده عن الحركة ، والسكون معا ؛ وهو محال. أو أن يكون البارى ـ
تعالى ـ هو الخالق لذلك مشروطا بإضراب العبد عن مقدوره ؛ فيكون الرب ـ تعالى ـ فى
فعله مرتبطا بإضراب العبد ؛ وهو خلاف إجماع الأمة .
الرابع
: هو أن الأمة مجمعة
: على اقتدار الرب ـ تعالى ـ على استيفاء حقوقه من الطاعات من العباد. فلو كانت
مخلوقة لهم ؛ لما كان قادرا على استيفائها بتقدير انصرافهم عنها ؛ وهو خلاف إجماع
الأمة. وبتقدير خلقها فيهم اضطرارا : فعندهم تخرج عن كونها طاعة ؛ لكونها فعل
الغير.
__________________
الخامس
: هو أن الأمة مجمعة
: على امتناع وقوع خلاف مراد الله ـ تعالى ـ وأنه لا يقع فى ملكه ما لا يريد ؛ /
فإن ما أراده ؛ فهو واقع.
ومن
أصل المعتزلة : أن الله ـ تعالى ـ يريد صلاح العبيد ، ويكره منهم الكفر ، والفسوق. فلو كان العبد : مستبدا بكفره خالقا له ؛
لكان ذلك موجبا لانتفاء مراد الله ـ تعالى ـ ووقوع مكروهه ؛ وهو خلاف الإجماع.
وربما تمسك
الأصحاب هاهنا : بأمور واهية يظهر فسادها بأوائل النظر لمن له أدنى تنبه ، آثرنا
الإعراض عن ذكرها شحا على الزمان من تضييعه بذكر ما لا فائدة فيه.
قولهم : ما المانع أن تكون القدرة الحادثة مؤثرة فى صفة زائدة
على نفس الفعل؟ ، كما هو مذهب القاضى.
قلنا : القول بهذه الصفة التى هى أثر القدرة الحادثة عند القائل
بها ، مع كونها مجهولة ؛ فهى من الأحوال. والقول بالأحوال باطل على ما سيأتى .
وبتقدير صحة القول
بالأحوال : إما أن يكون العبد مستقلا بإثباتها ، أو أنه لا يستقل بإثباتها إلا مع
القدرة القديمة على ما عرف من اختلاف مذهبه فى ذلك.
فإن كان الأول :
فقد وقع فيما فر عنه من تأثير القدرة الحادثة فى نفس الفعل ، ومن وجود خالق غير
الله ـ تعالى ـ.
وإن كان الثانى :
فيلزم منه مخلوق واحد بين خالقين ؛ وهو محال كما سبق .
فقد
ينحل من هذه الجمل : أن مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى هو الطريق العدل ، والمسلك المتوسط بين طرفى
الجبر المحض ، وإثبات خالق غير الله ـ تعالى ـ بتوفيقه : بين دليل إثبات القدرة
الحادثة ، ودليل انتفاء خالق غير الله ـ تعالى ـ.
__________________
وعند هذا : فلا بد
من الإشارة إلى تحقيق مذهبه فى الكسب ، والخلق ، وتحقيق الفرق بينهما ، وللعبارات
فى ذلك ـ على أصله ـ متسع ، وأوفاها بالغرض ، وأولاها عبارتان :
الأولى
: أن الكسب : عبارة
عن المقدور بالقدرة الحادثة. وفى مقابلته الخلق : وهو المقدور بالقدرة القديمة.
العبارة
الثانية : أن الكسب : هو
الفعل القائم بمحل القدرة عليه.
وفى
مقابلته : الخلق : وهو
الفعل الخارج عن محل القدرة عليه ، والله أعلم.
«الفرع الثامن»
فى الرد على القائلين بالتولد
ويشتمل على ثلاثة
فصول :
الأول : فى تحقيق
معنى التولد على أصول المعتزلة ، وتفصيل مذاهبهم فيه.
الثانى : فى
الدلالة على إبطال القول بالتولد ، وإبطال شبه مثبتيه.
الثالث : فى مأخذ
تفريعات المعتزلة فى المتولد ، ومناقضتهم فيها.
«الفصل الأول»
فى تحقيق معنى التولد ، والمتولد على أصول المعتزلة ،
وتفصيل مذاهبهم فيه
أما المتولد :
فقد
/ قال بعض المعتزلة فيه : هو ما جاز أن يقع من غير قصد إليه.
وعلى قياسه :
التولد : هو وقوع الفعل من غير قصد إليه.
وهو باطل : بالفعل
القليل المباشر فى حالة النوم ، والغفلة ؛ فإنه ليس متولدا ، ولا وقوعه تولدا. وإن
لم يكن مقصودا إليه.
ومنهم من قال :
المتولد : ما وقع بسبب من الفاعل فى غير حيز الفاعل.
وهو باطل بالعلم
النظرى ؛ فإنه متولد عندهم من النظر ، وليس خارجا عن حيز الناظر .
والأقرب فى ذلك ـ على
أصولهم ـ أن يقال :
التولد : عبارة عن وقوع فعل من فعل آخر لفاعله.
والمتولد : الفعل الواقع من فعل آخر لفاعله بخلاف الفعل المباشر ؛
فإنه غير واقع لفعل آخر للفاعل ؛ بل بالقدرة ، والقدرة ليست فعلا للقادر بها ثم
اختلفوا :
فذهب
بعضهم : إلى أن المتولدات
بأسرها كانت قائمة بمحل القدرة : كالعلم النظرى ، المتولد من النظر ، أو غير قائمة
بمحل القدرة : كالآلام المتولدة من الضرب من فعل فاعل السبب ، وإن كان فاعل السبب
معدوما حالة وجود الآلام : كمن رمى بسهم ، ثم اخترمته المنية قبل بلوغ السهم
الرمية ، ثم أصاب الرمية بعد موته ؛ فنفس الإصابة وما تجددت منها من الآلام من فعل
الميت.
__________________
ومنهم
من قال : كثمامة بن أشرس :
إنها حوادث لا محدث لها.
وذهب
معمر : إلى أنها واقعة
بطباع الأجسام ، وطرد ذلك فى جميع الأعراض غير الإرادة.
وذهب
النظام : إلى أن المتولدات
من فعل الله ـ تعالى ـ لا من فعل العبد الفاعل للسبب.
وذهب ضرار بن عمرو
، وحفص الفرد : إلى أن ما يقع من المتولدات فى محل قدرة الفاعل ، فهو فعله ، وما
كان منها مباينا لمحل قدرته : فما وقع منها على وفق اختيار الفاعل ؛ فهو من فعله
كالقطع والذبح. وما لا يقع على وفق اختيار الفاعل ؛ فليس من فعله : كالآلام فى
المضروب ، والاندفاع فى الثقيل المدفوع.
ثم اختلف القائلون
بأن المتولدات من فعل فاعل السبب.
فذهب
أكثرهم : إلى أنها مقدورة
بقدر فاعل السبب ، وإن لم تكن مباشرة بالقدرة ، وسووا بينها وبين السبب المباشر
بالقدرة فى كونهما مقدورين. غير أنهم فرقوا بينهما من أربعة أوجه :
الأول
: أن السبب المباشر
بالقدرة الواحدة فى المحل الواحد فى الوقت الواحد ، لا يكون أكثر من واحد من جنس
واحد ، بخلاف المتولدات ؛ فإنها قد تتكون وأن اتحد سببها : كالآلام المتولدة / من الاعتماد ،
والوهى.
الثانى
: أن السبب المباشر
بالقدرة ، لا بد وأن يكون قائما بالقادر ؛ بخلاف المتولد.
الثالث
: أن السبب المباشر
بالقدرة لا يكون مع الموت ؛ بخلاف المتولد.
الرابع
: أن السبب المباشر
بالقدرة لا يخرج عن كونه مقدورا بوجوده ، والمتولد يخرج عن كونه مقدورا بوجود سببه
على بعض الآراء.
وذهب
بعضهم : كعباد الصيمرى : إلى أنها غير مقدورة ؛ بل المقدور بالقدرة بسببها.
__________________
ثم اختلف القائلون
بكون المتولدات مقدورة بالمقدورة على السبب.
فذهب
بعضهم : إلى كونها مقدورة
قبل وجود سببها ، ولا تكون مقدورة بعد وجود سببها.
وذهب
آخرون : إلى كونها مقدورة
بعد وجود سببها إلى حالة وجودها.
واختلفوا
أيضا : فى أن مباشر
السبب إذا قصد المسبب ، وكان معصية ، هل تصح توبته عنه قبل وقوعه ، أم لا؟
فذهب
عباد الصيمرى : إلى المنع منه ، وجوزه آخرون.
وقال
أبو هاشم : لو كان المتولد
جهلا ؛ فلا يصح التوبة عنه قبل وقوعه ، ولا حالة وقوعه ؛ إذ التوبة تستدعى معرفة
كونه جهلا ؛ ليندم عليه ، ويكف عن أضداده ؛ وذلك غير متصور فى الجهل ؛ إذ لو علم
كونه جهلا ؛ لكان عالما لا جاهلا.
هذا كله فى أفعال
العباد المختارين.
وأما أفعال الله ـ
تعالى ـ فقد اختلفوا فيها :
فمنهم : من منع من
تولد بعضها من بعض ، وأوجب كونها مقدورة بالقدرة ، أو القادرية القديمة من غير
توسط.
ومنهم : من لم
يمنع من ذلك.
ثم اختلف القائلون
بتولد أفعال الله ـ تعالى ـ : هل يجوز أن يقع أمثال المتولد منها مقدورا مباشرا
بالقدرة القديمة أم لا؟
فمنهم : من جوزه.
ومنهم : من منعه.
مع اتفاق الكل على أن المتولد من أفعالنا لا يكون مثله مقدورا لنا مباشرا بالقدرة
من غير توسط ، وأن الجواهر لا تكون متولدة عن سبب من الأسباب.
«الفصل الثانى»
فى الدلالة على إبطال القول بالتولد
وإبطال شبه مثبتيه
وقد اعتمد الأصحاب
فى ذلك على مسالك
:
الأول
: أنه إذا قيل بتولد
الفعل عن الفعل ؛ فإذا وجد المسبب : وهو المتولد عقيب وجود السبب ؛ وهو المتولد
منه ؛ فحدوث المسبب المتولد إما أن يكون : عن القدرة المباشرة للسبب ، أو عن نفس
السبب ، أو عنهما ، أو لا عن واحد منهما.
فإن كان الأول :
فهو باطل / من أربعة أوجه :
الأول
: أن السبب على
أصلكم موجب للمسبب عند ارتفاع الموانع ، فلو كانت القدرة هى المقتضية حدوث المتولد
؛ لما كان السبب موجبا للمسبب.
الثانى
: أنه لو جاز أن
يكون المتولد من فعل العبد ؛ حادثا بقدرة العبد. فمن أصلهم أن الرب ـ تعالى ـ قادر
على إيجاد مثل ما تولد من فعل العبد من غير واسطة ، ويلزم من ذلك جواز إيجاد
المسبب للعبد بقدرته من غير واسطة ؛ ضرورة مضاهاة القدرة الحادثة فى تأثيرها
لتأثير قادرية الله ـ تعالى ـ وكذلك أحالوا وجود مقدورين العبد ، والرب تعالى.
الثالث
: هو أن السبب على
أصولهم : موجب للمسبب عند ارتفاع الموانع : كإيجاب العلة معلولها من غير تفاوت فى
نفس الإيجاب. والمعلول غير مقدور. وإن كانت العلة مقدورة ؛ فكذلك المسبب بالنسبة
إلى السبب.
الرابع
: هو أن المتولد لو
وقع بالقدرة ؛ لوقع دون السبب.
__________________
وبيان الملازمة : من
وجهين :
الأول
: هو أن السبب ليس
شرطا فى وقوع القدرة : لوجودها دون وجود السبب عندهم ، ولا هو شرط لوقوع جنس
المتولد ؛ بدليل ما لو كان جنس المتولد واقعا بقدرة الله ـ تعالى ـ فإنه لا يفتقر
إلى سبب على أصولهم. ولو كان السبب شرطا فى الشاهد ؛ لكان شرطا فى الغائب :
كالحياة مع العلم ، ولا عدم السبب مانع من إيجاده بالقدرة ؛ لما ذكرناه فى الشرط.
وإذا كانت القدرة
مقتضية له ، والسبب ليس شرطا للقدرة ولا له ، ولا عدم السبب مانعا ؛ لزم وجود
المقدور بها من غير توقف على السبب.
الثانى
: أنه لو افتقر فى
كونه مقدورا إلى وجود السبب ؛ لافتقر السبب فى كونه مقدورا إلى سبب آخر ؛ وهو
تسلسل ممتنع.
وإن كان حدوثه عن
نفس السبب على انفراده ؛ فهو ممتنع لوجهين :
الأول
: أن السبب عندهم
يجوز تقدمه على المسبب. فإذا جاز وجود السبب فى زمان دون مسببه ، أمكن ذلك فى كل
زمان ؛ لعدم تأثير الأزمنة فى اقتضاء الأسباب لمسبباتها ؛ وذلك يدل على امتناع إيجاب السبب للمسبب.
الثانى
: أنه لو كان السبب
موجبا للمسبب ؛ لما جاز تأخر المسبب عنه ، كما فى إيجاب العلة / لمعلولها ؛ ضرورة
اتحاد معنى الإيجاب. وإن كان الحدوث بالسبب ، والقدرة معا ؛ فيلزم منه جواز وجود
مقدور بقدرتين ؛ وهو محال على ما تقدم.
وكل ما يدل على
امتناع مقدور واحد بقدرتين ؛ فهو لازم هاهنا. وإن كان لا بالقدرة ، ولا بالسبب ؛
فلا تولد ؛ وهو المطلوب.
وهذا المسلك ضعيف
؛ إذ لقائل أن يقول :
ما المانع من كون
المتولد حادثا عن القدرة؟
__________________
وما
ذكرتموه فى الوجه الأول : فحاصله يرجع إلى إلزام الخصم بمذهبه ، وذلك لا يدل على امتناع الإيجاب بالقدرة
بالنسبة إلى من لا مذهب له ، وكذلك لو قدر قول الخصم : أخطأت فيما ألزمتنى إياه.
فما الدليل على المطلوب؟ وذلك مما لا مخلص منه إلا بالانتقال إلى طريق آخر.
وأما الوجه الثانى :
فمبنى على أن الرب
ـ تعالى ـ قادر على مثل المتولد من فعل العبد ؛ وهو ممنوع على ما سبق من مذهب
البلخى.
وإن سلمنا أنه
قادر على مثل فعل العبد : ولكن لا نسلم أنه لا يتوقف على واسطة ؛ بل ما كان متولدا
من أفعال العبد ، جاز أن يكون فعله متولدا من فعل الله ـ تعالى ـ على ما هو مذهب
بعض المعتزلة.
وإن سلمنا امتناع
جواز مثل ذلك فى حق الله ـ تعالى ـ : ولكن لا يلزم مثله فى حق العبد إلا بطريق
قياس الشاهد على الغائب ؛ وهو ممتنع لما سلف .
وأما الوجه الثالث :
فحاصله يرجع إلى
إلحاق السبب بالعلة بقياس تمثيلى ؛ وهو فاسد لما سبق أيضا .
وأما الوجه الرابع :
فلا نسلم دعوى
الملازمة فيه.
قولكم
فى الوجه الأول : السبب ليس شرطا فى حق الغائب فى جنس المتولد من مقدور العبد ؛ غير مسلم.
وإن سلم : أنه ليس
بشرط فى حق الغائب ؛ فلا يلزم من اشتراطه فى الشاهد اشتراطه فى الغائب إلا بالقياس
التمثيلى ؛ وهو غير صحيح على ما عرف.
__________________
ولا نسلم : أن
اشتراط الحياة للعلم غائبا مبنى على اشتراطه شاهدا ؛ بل بناء على مدرك آخر.
وأما
الوجه الثانى من الوجه الرابع : فحاصله أيضا راجع إلى دعوى مجردة من غير دليل.
وإن سلم امتناع
حدوثه بالقدرة ؛ فما المانع من حدوثه بالسبب؟
قولكم
فى الوجه الأول : أنه إذا جاز وجود السبب فى زمان دون المسبب ، أمكن ذلك فى كل زمان. دعوى لا
دليل عليها.
قولكم : لأنه لا تأثير للأزمنة فى اقتضاء الأسباب / لمسبباتها .
قلنا : ما المانع أن يكون اقتضاء السبب للمسبب مشروطا بوقوع
المسبب فى الزمن الثانى من وجود السبب؟ وحيث لم يكن المسبب موجودا فى زمان وجود
السبب ؛ كان لفوات شرطه. ولا يلزم مثله فى باقى الأزمنة ؛ ضرورة تحقق الشرط.
قولكم : لو كان السبب موجبا للمسبب ، لما تأخر عنه : ممنوع ؛
لجواز أن يكون إيجاب السبب له مشروطا بما ذكرناه قبل ، ولا يلزم من اشتراط ذلك فى
السبب ؛ اشتراطه فى العلة. إلا أن يبين الاشتراك فى المعنى الموجب للاشتراط ؛ ولا
سبيل إليه بأمر يقينى.
المسلك الثانى :
أنه لو كانت أفعال
العبيد المباشرة بقدرهم ؛ متولدة عند انتفاء الموانع : فلا يخلو : إما أن يقال بأن
أفعال الله ـ تعالى ـ المباشرة بقدرته ، أو قادريته مولدة للمسببات ، أو غير
مولدة.
فإن
كان الأول : فيلزم منه
الاسترابة فى كون الجواهر متولدة من فعل من أفعال الله ـ تعالى ـ المباشرة
بقادريته ، ولا يبقى الوثوق بكونها مباشرة بالقادرية من غير واسطة ، ولم يقل به
قائل.
__________________
وإن
كان الثانى : فيلزم منه أن لا
يكون اعتماد الرياح الشديدة على غصون الأشجار ، وأوراقها ؛ موجبا لتحريكها ، ولا
يخفى استواء نسبة اعتماد الواحد منا على الجسم إلى تحريكه ، مع انتفاء الموانع ،
ونسبة اعتماد الرياح الشديدة على غصون الأشجار ، وأوراقها عند انتفاء الموانع ؛
فإذا لم يكن اعتماد الرياح موجبا لتحريك غصون الأشجار ؛ فكذلك اعتماد الواحد منا
على ما يعتمد عليه من الأجسام.
وهو ضعيف أيضا ؛
إذ لقائل أن يقول :
ما المانع من كون
أفعال الرب المباشرة بقادريته مولدة؟
قولكم : لأنه لا يبقى الوثوق بكون الجواهر غير متولدة دعوى مجردة
؛ وهى إما أن يدعى فيها الضرورة ، أو النظر.
لا سبيل إلى الأول
؛ لما تقدم فى أمثاله.
وإن كان الثانى ؛
فلا بد من الدليل.
وإن سلم امتناع
التولد فى أفعال الله ـ تعالى ـ فما المانع منه ؟
قولكم : يلزم منه أن لا يكون فعل الواحد منا مولدا على ما قررتموه ؛ غير صحيح. فإنه لا يمتنع أن يكون شرط
تولد الفعل من الفعل المباشر بالقدرة ؛ امتناع / مباشرة المتولد بالقدرة. وهذا
الشرط متحقق بالنسبة إلى اندفاع الجسم المتولد ، عن اعتماد الواحد منا على الجسم ؛
لكونه خارجا عن محل قدرته ؛ فإن مباشرته بقدرة الواحد منا ؛ ممتنع بالإجماع منا
ومنكم. وهذا بخلاف ما هو خارج عن محل قدرة البارى ـ تعالى ـ وقادريته ؛ فإنه
غير ممتنع أن يكون مباشرا بقدرة البارى ـ تعالى ـ أو قادريته.
وعند ذلك : فلا
يلزم من امتناع التولد فى إحدى الصورتين ؛ امتناع التولد فى الأخرى ، ولا من جواز
التولد فى إحداهما ؛ جوازه فى الأخرى.
__________________
ثم وإن سلم : أنه
يلزم من امتناع تولد حركة غصون الأشجار من اعتماد الرياح العواصف عليها ؛ امتناع
تولد اندفاع الجسم من اعتماد الواحد منا عليه ؛ فليس فى ذلك ما يدل على إبطال
التولد مطلقا. ولا يلزم من إبطال تولد ما هو خارج عن محل قدرة العبد من الفعل
القائم بمحل قدرته ؛ إبطال تولد ما هو قائم بمحل قدرته عما هو مباشر بقدرته : كما
هو مذهب ضرار بن عمرو ، وحفص الفرد.
وعند ذلك :
فالواجب أن يذكر ما فى هذين المسلكين على سبيل الإلزام ، والتشكيك للخصم عند ذكر
شبهه : أما على طريق الاستدلال ؛ فلا.
المسلك الثالث :
أنه يلزم من القول
بالتولد ؛ وجود مخلوق بين خالقين ، واللازم ممتنع ؛ لما تقدم .
وبيان الملازمة :
أنه لو التصق جوهر يكفى شخصين ، ودفعه أحدهما إلى جهة الآخر حالة جذب الآخر إلى
جهته ؛ فحركته واحدة لا محالة.
وهى : إما أن تكون
متولدة من اعتماد أحدهما دون الآخر ، أو من اعتماديهما.
فإن كان الأول :
فهو ممتنع ؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى :
لزم منه مخلوق بين خالقين ؛ وهو محال. وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال.
وهذا المسلك : وإن
كان حجة فى امتناع تولد بعض ما هو خارج عن محل قدرة العبد عن الفعل المباشر بقدرة
العبد ؛ فليس حجة على ضرار بن عمرو ، وحفص الفرد ـ القائلين بتولد ما قام بمحل
القدرة دون غيره كما سبق.
وعند هذا :
فالواجب أن يكتفى فى إبطال التولد على العموم بما أسلفناه من الدليل فى امتناع
موجد غير الله ـ تعالى ـ وأن كل موجد ممكن ؛ فوجوده ليس إلا بالله ـ تعالى.
__________________
فإن
قيل : ما ذكرتموه : وإن
دل على إبطال التولد ؛ فهو معارض بما يدل على التولد ، وبيانه من ثمانية أوجه.
الأول
: هو أن / من رام
دفع حجر فى جهة من الجهات ، كان اندفاعه على حسب قصد الدافع ، وداعيته : إن رام
اندفاعه ؛ اندفع ، وإلا ؛ فلا.
فدلّ على أن
الاندفاع من فعل العبد على ما قررناه فى الأفعال المباشرة بالقدرة الحادثة ، وليس
اندفاع الحجر مباشرا بالقدرة بالإجماع منا ، ومنكم ؛ فلم يبق إلا أن يكون من فعله
بواسطة ما باشره من الدفع.
وعلى هذا : يكون
الكلام فى حصول العلم النظرى ، من النظر ، والاستدلال ، ونحوه.
الثانى
: هو أنا حيث رأينا
اختلاف القدرة الحادثة ، يؤثر فى اختلاف الأفعال ، التى يحكم عليها بكونها متولدة
، حتى إن الأيّد القوى ؛ يقوى على حمل ما لا يحمله الضعيف المدنف ؛ علمنا كونها
مستندة إليها ، ولو كانت مستندة إلى قدرة الله ـ تعالى ـ لا إلى قدرة العبد ؛ لما
كان لاختلاف القدر تأثير ؛ بل كان يجوز تحريك الجبل باعتماد الضعيف المدنف عليه ،
وأن لا تتحرك الخردلة باعتماد الأيّد القوى عليها ؛ لخلق الله ـ تعالى ـ الحركة فى
إحدى الصورتين دون الأخرى.
ولا يخفى : ما فى
ذلك من الجهالة ، ومخالفة المعقول.
وإذا كانت مستندة إلى القدرة الحادثة ؛ فالقدرة غير مباشرة لها بالإجماع ؛ فلزم وجود الواسطة.
الثالث
: أن العقل والشرع ،
مجوزان للأمر بحمل المثقلات ، ودفعها ، وتحصيل العلوم النظرية. وإيلام من ينبغى
إيلامه إلى غير ذلك. كما يجوزه فى الأفعال المباشرة
__________________
بالقدرة ، ولو لا
تعلقها بالقدرة الحادثة ؛ لما حسن الأمر بها ، كما لا يحسن الأمر بإيجاد الجواهر ،
والألوان ، وليست مباشرة بالقدرة ؛ فلزم الواسطة.
الرابع
: هو أن العقلاء
يستحسنون الذّم والمدح على ذلك ، ويحكمون باستحقاق الثواب ، والعقاب عليه ؛ فدلّ
على أنه من فعل العبد ، وليس مباشرا بالقدرة ؛ فكان متولدا.
الخامس
: هو أن من حمل
ثقيلا ، أو ضرب شخصا ؛ فآلمه يصح أن يقال حمل المثقل ، وآلم فلانا. وليس ذلك من
المجاز عندهم ؛ فيجب حمله على حقيقته ؛ وهو إضافة حمل الثقيل ، والإيلام إليه ،
وليس ذلك مباشرا بقدرته ؛ فتعين كونه من فعله بواسطة مقدوره المباشر بالقدرة.
السادس
: هو أن العظام المكسوة
باللحم ، لا حياة فيها ، وهى تتحرك بحركة الأعصاب الملتفة عليها. فلو لم تكن
متولدة من حركة الأعصاب ؛ لما كانت حركات العظام من / أفعال العباد ؛ (وهو فى غاية النكر ).
السابع
: هو أنه لو كان كل
ما هو خارج عن محل القدرة غير مقدور ؛ لكان كل ما هو قائم بمحل القدرة مقدورا.
وحيث وقع الانقسام من القائم بمحل القدرة : إلى مقدور ، وغير مقدور ؛ فكذلك فيما
هو خارج عن محل القدرة.
الثامن
: أنه يصح أن يقال :
قتل زيد عمرا. فيضاف القتل إلى زيد ، ويحكم عليه بأنه من فعله ، والقتل قائم
بالمقتول ، لا بالقاتل ؛ فدل على كونه متولدا من فعله المباشر بقدرته.
وبيان كون القتل
قائما بالمقتول من وجهين :
الأول
: أنه لو لم يكن
قائما به ؛ لكان مقتولا لم يقم به قتل. ولو جاز ذلك ؛ لأمكن وجود متحرك لم تقم به
حركة ؛ وهو بعيد.
__________________
الثانى
: أنه إذا قيل : قتل
الله شخصا ؛ فالقتل يكون قائما بالمقتول ؛ لاستحالة قيامه بالله ـ تعالى ـ فكذلك
إذا قيل : قتل زيد عمرا.
وجب أن يكون القتل
قائما بالمقتول ؛ لتكون حقيقة المقتول متحدة بالنسبة إلى الغائب ، والشاهد.
والجواب عن الشبهة
الأولى :
بما أسلفناه فى
الأفعال المباشرة بالقدرة ، والّذي يخصها هاهنا. أنا وإن سلمنا وقوع الأفعال
المباشرة بالقدرة على حسب القصد ، والداعية ؛ فهو غير متصور فى المتولدات ؛ فإن
المتولد عندهم : قد يقع بعد عجز المتسبب ، وبعد موته بدهر. وعاقل ما : لا يجوز
وقوع ما هذا شأنه على حسب الداعية ، والقصد.
وإن سلمنا وقوعها على حسب القصد ، والداعية ؛ فليس فى ذلك ما يدل على أنها من فعل العبد. وحيث سلمنا أن الأفعال
المباشرة بالقدرة من أفعال العبد ، لم يكن ذلك لمجرد وقوعها على حسب القصد ، والداعية ؛ بل
لاستقلال القدرة بالإيجاد عند القصد ، والداعية من غير احتياج إلى سبب ، وفى
المتولدات لا بد من السبب ؛ وإلا لخرجت عن كونها متولدة.
وإن سلمنا أنها
متولدة ؛ ولكنها كما دارت مع الفعل المباشر بالقدرة دارت مع القصد ، والداعية ،
وليس القول بتولدها من الفعل المباشر بالقدرة أولى من تولدها من القصد ، والداعية.
فإن
قيل : إنما كانت متولدة
من السبب دون القصد ، والداعية ؛ لأن وجود المسبب عقيب السبب واجب ؛ بخلاف القصد ،
والداعية.
(قلنا : هذا ) تناقض ؛ فإن وجود الفعل عقيب القصد ، والداعية ، إن كان
واجبا : فما ذكروه خلف. وإن لم / يكن واجبا ، ولا لازما ؛ فقد بطل الاستدلال بكونه
فعلا للعبد ؛ لوقوعه على حسب قصده ، وداعيته.
__________________
كيف : وأنه يلزم
من كون المسبب واجب الوقوع عقيب السبب : أن لا يكون مقدورا للعبد ؛ فإنه لا معنى
للمقدور بالقدرة : إلا ما يمكن فعله بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل ؛ وهو
خلاف معتقد الأكثرين منهم.
وعن الشبهة الثانية :
ما سبق فى خلق الأفعال .
وعن الشبهة الثالثة :
أنه إنما حسن
الأمر بها ، والنهى عنها ؛ لوقوعها بحكم جرى العادة عقيب الفعل المقدور ، لا أنه
متولد منه.
وبه
يخرج الجواب عن الشبهة الرابعة ، والخامسة أيضا.
وعن
الشبهة السادسة : بمنع كون العظام غير حية ، وبتقدير كونها غير حية ؛ فالحكم فى حركتها ، تبعا
لحركة الأعصاب بخلق الله ـ تعالى ـ عقيب حركة الأعصاب بحكم جرى العادة ؛ فعلى ما
سبق فى باقى المتولدات.
وعن
الشبهة السابعة : أنها دعوى مجردة من غير دليل.
وعن
الشبهة الثامنة : أن القتل ، وإن كان قائما بالمقتول ؛ فإضافته إلى زيد ، أو عمرو : إنما كان
لاتيانه بفعل يلازمه القتل ، بحكم جرى العادة كما سبق ، والله أعلم.
__________________
«الفصل الثالث»
فى مأخذ تفريعات المعتزلة على التولّد ،
ومناقضتهم فيها
التفريع الأول :
اتفقت المعتزلة :
على أن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة ؛ لا يتصور أن يكون مباشرا
بالقدرة الحادثة : من غير توسط السبب ؛ وقد احتجوا على ذلك بمسالك.
المسلك الأول :
قال أبو هاشم : لو
جاز وقوع المتولد مباشرا بالقدرة : لأمكن وجوده بوجود سببه ، وأمكن وجود مثله
مباشرا بالقدرة من غير سبب ؛ وذلك يفضى إلى جواز قيام مثلين بمحل واحد مع اتحاد
القدرة ؛ ويلزم منه جواز حمل الذرة للجبل العظيم ، بأن يفعل فيه أعدادا من الحمل موازنة لأعداد أجزائه ؛ فيرتفع ؛ وذلك
محال.
المسلك الثانى :
أنهم قالوا : لو
أمكن وجود المتولد : بالسبب تارة ، وبالقدرة من غير سبب تارة ؛ لأمكن فرض أحد
الأمرين دون الآخر ؛ ويلزم من ذلك أن يكون الشيء الواحد موجودا : نظرا إلى وجود
أحد مقتضيه ، ومعدوما : بالنظر إلى عدم المقتضى الآخر ؛ وهو محال.
المسلك الثالث :
أنه لو / جاز وقوع
المسبب مباشرا بالقدرة ؛ لأمكن وقوعه بالقدرة بعد فرض وجود السبب من غير احتياج
السبب ؛ ويلزم من ذلك خروج السبب عن كونه مؤثرا فى المسبب من غير مانع ؛ وهو محال.
__________________
المسلك الرابع :
أنه إذا كان النظر
مولدا للعلم ؛ فلو جاز تقدير وقوع العلم بالقدرة من غير نظر ؛ للزم منه وقوع علم
كسبى من غير سابقة نظر ؛ وهو محال.
المسلك الخامس :
أنه لو أمكن وقوع
المسبب مباشرا بالقدرة ؛ لما امتنع أن يتخير القادر بعد وجود السبب فى إيقاع
المسبب ، والانفكاك عنه ؛ وهو محال.
واعلم أن هذه
المسالك : وإن كانت باطلة ؛ لبطلان ما هى مفرعة عليه من التولد. غير أنا نسلم صحة التولد جدلا ، ونبين مناقضتهم فيها.
أما المسلك الأول
:
فمبنى على امتناع
إيجاد مثلين : فى محل واحد ، بقدرة واحدة ؛ وهو خلاف أصل القائل به ؛ فإن من جعل
جوهرا فردا بين ستة جواهر متألف بها ؛ فقد قام بالجوهر المتوسط تأليفات ستة : متماثلة ، حادثة
، بقدرة حادثة عنده.
كيف : وأن الرب ـ تعالى
ـ قادر عندهم على خلق مثلين فى محل واحد من حيث هو قادر ، والواحد منا قادر.
والقادر لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا ؛ فما جاز على أحدهما جاز على الآخر.
وإن سلمنا امتناع
خلق مثلين فى محل واحد بقدرة واحدة ؛ فما المانع من أن تكون القدرة موجدة لغير ما
يمكن وجوده بالسبب بدلا عن السبب لا غيره. وعند ذلك ؛ فلا إحالة.
وأما المسلك
الثانى :
فقد سبق الجواب
عنه فيما تقدم.
__________________
وأما المسلك
الثالث :
فباطل أيضا : فإنه
ما المانع من القول بأن القدرة لا تؤثر فى المسبب بعد وجود السبب؟ ؛ بل إنما تؤثر
فيه بشرط أن لا يكون السبب موجودا ، أو أن يقال : شرط تأثير السبب فى المسبب : أن
تكون القدرة مباشرة للمسبب. فإذا باشرته ؛ امتنع تأثير السبب فيه ؛ وهذه المطالبة
لا مخلص منها.
وأما المسلك
الرابع :
فمبنى على امتناع
وقوع العلم بالمقدور من غير نظر ، واستدلال ؛ وهو ممنوع على ما تقدم.
وإن سلمنا امتناع
ذلك ؛ ولكنه لا يدل على امتناع مباشرته بالقدرة ، مشروطا بالنظر السابق لا بمعنى
أن النظر مولد له.
وأما المسلك
الخامس :
فلا نسلم ملازمة
التخيير فى المقدور / لكونه مقدورا : فإن الفعل القليل مقدور للسليم بالإجماع ، وإن لم يكن مخيرا فيه.
وإن سلمنا ملازمة
التخيير فى المقدور لكونه مقدورا ؛ فإنما يمتنع ذلك أن لو قيل : إن المسبب يكون
مقدورا بعد وجود السبب ، ولا مانع أن يقال بكونه مباشرا بالقدرة ، مشروطا بعدم
وجود السبب كما تقدم. وعند ذلك فلا يمتنع التخيير.
التفريع الثانى :
ذهب
بعض المعتزلة : إلى أن جميع
أفعال الرب مقدورة بالقادرية من غير توسط سبب ، وأنه لا يتصور وقوع فعل من أفعاله
متولدا عن سبب .
وذهب
أبو هاشم فى أحد قوليه : إلى جواز وقوع بعض أفعاله متولدا عن سبب ، وأن ذلك المتولد لا يقع إلا
متولدا.
__________________
ووافقه على ذلك
جماعة من المعتزلة.
وقال
فى قول آخر : إنه لا يمتنع أن يقع
المتولد من أفعاله غير متولد. أما مأخذ أبى هاشم فى جواز وقوع التولد فى أفعال
الله ـ تعالى ـ : فما هو المأخذ فى التولد فى أفعال العبيد ؛ وذلك أنا كما نشاهد
حدوث حركة الجسم من اعتماد الواحد منا عليه ؛ فنشاهد حركة غصون الأشجار ، وأوراقها
حادثة من اعتماد الرياح العاصفة عليها ؛ مع أن حركة الرياح العاصفة ، واعتمادها
مخلوقة لله ـ تعالى ـ.
ومأخذه فى امتناع
كون المتولد من أفعاله : لا يكون مباشرا بالقدرة ، أو مباشرا ؛ فما سبق فى التفريع
الأول ؛ وقد سبق بطلان ذلك كله.
وأما النافون
للتولد فى أفعال الله ـ تعالى ـ مطلقا ؛ فقد احتجوا بحجتين :
الأولى
: أنه لو وقع فى
فعله شيء متولد ؛ لافتقر الرب ـ تعالى ـ فى فعله إلى السبب المولد كما فى أفعال
العباد ؛ وذلك محال على الله ـ تعالى.
الثانية
: أنه لو جاز وقوع
التولد فى أفعال الله ـ تعالى ـ لأمكن أن يقال : بأن نمو الناميات ، واغتذاء
الحيوانات ، والصحة ، والمرض ، وكل ما اتفق على كونه مباشرا بقدرة الله ـ تعالى ـ أنه
متولد من الأسباب ؛ وذلك محال.
والحجتان باطلتان
:
أما الحجة الأولى
: فمن وجهين :
الأول
: أنه إنما يلزم
افتقار الرب ـ تعالى ـ فى فعله إلى السبب : أن لو قيل : بأن المسبب لا يوجد بدون
السبب ؛ وهو غير مسلم على ما ذكرناه من أحد قولى أبى هاشم.
الثانى
: أنه وإن سلم
امتناع وجود المتولد من أفعاله دون السبب : فهو لا يزيد على امتناع إيجاده للألوان ، والأعراض / دون محل يقوم به.
وعند ذلك : فما هو
العذر فى خلق الأعراض ؛ هو العذر فى المتولدات.
__________________
وأما الحجة
الثانية :
إن دلت على إبطال
التولد غائبا ؛ فهى أيضا دالة على إبطال التولد شاهدا ، وما هو العذر فى الشاهد ؛
يكون عذرا فى الغائب.
التفريع الثالث :
اتفقت المعتزلة :
على أن النظر الصحيح يولد العلم بالمنظور فيه ، وأنه لو ذهل عن النظر ، وعن العلم
المتولد عنه ، ثم تذكر النظر ؛ فالعلم الحاصل عند التذكر ، لا يكون متولدا ؛ بل
مقدورا مباشرا بالقدرة غير ضرورى.
واحتجوا : على أن
العلم الحاصل عند تذكر النظر ، غير متولد من تذكر النظر بأمرين:
الأول
: أنه لو كان متولدا
من تذكر النظر ؛ لكان فعلا لمن تذكر النظر من فعله ، وتذكر النظر ضرورى من فعل
الله ـ تعالى ـ (فالعلم ) المتولد منه يكون ضروريا. ولو وقعت المعرفة بالله ـ تعالى
ـ عند تذكر النظر ضرورية ؛ لخرجت عن أن يكون مأمورا بها ، ومثابا عليها ؛ وهو محال
بإجماع الأمة.
الثانى
: أنه لو كان تذكر
النظر مولدا للعلم ؛ لولده ؛ وإن عارضه شبهة ؛ لأن التذكر قبل معارضة الشبهة كهو
بعدها.
والحجتان باطلتان
:
أما
الأولى : فمبناها على أن
الأمر لا يكون إلا بما هو مخلوق للعبد ، وكذلك الثواب ؛ وقد أبطلناه فى مسألة خلق
الأفعال.
وأما
الحجة الثانية : فمبنية على جواز عروض الشبهة عند تذكر النظر الصحيح ؛ وهو غير مسلم التصور.
وإن سلم تصور عروضها عند تذكر النظر الصحيح ؛ فإن كان ذلك يمنع من
تولد العلم من تذكر النظر عند عروض الشبهة ؛ فلا يمنع من تولده منه بتقدير عدم
عروضها :
__________________
كما فى ابتداء
النظر ؛ فإن عروض الشبهة يمنع من تولد العلم من النظر ، ويمنع من تولده منه بتقدير عدم الشبهة.
فإن
قيل : الشبهة من فعل
العبد ؛ فالنظر من فعله ، فأمكن أن يكون فعله مانعا لفعله من التولد ، والتذكر ؛
ضرورى من فعل الله ـ تعالى ـ والشبهة من فعل العبد ؛ فلا يكون فعل العبد مانعا
لفعله من التولد ، والتذكر ضرورى من فعل الله ـ تعالى ـ والشبهة من فعل العبد
مانعا من فعل الرب ؛ فيلزم عليهم : أن لا يكون إمساك الأيّد القوى للشىء مانعا من
الحركة الواجبة له من اعتماد الريح العاصفة عليه بتقدير عدم مسك الأيّد له ؛ لكونه
مانعا من فعل الله ـ تعالى ـ وسواء / كان تحرك ذلك الجسم متولدا من الاعتماد المخلوق لله ـ تعالى ـ فى
الريح ، أو مباشرا بقادريته عند اعتماد الريح عليه ؛ وهو خلاف أصلهم.
التفريع الرابع :
القائلون بالتولّد
متفقون : على أن الأصوات ، والآلام من أفعال الآدميين لا تقع إلا متولدة.
وزاد أبو هاشم
وقال : بأن التأليفات الواقعة من أفعال الآدميين ، لا تقع إلا متولدة ، من غير
تفصيل : بين التأليف القائم بمحل قدرتين من قادر واحد : كالذى يؤلف بين إصبعيه ،
وبين التأليف القائم بجسمين متباينين لمحل القدرة ، أو جسمين أحدهما محل القدرة ،
والآخر خارج عنه .
ووافقه الجبائى :
فى التأليف القائم بجسمين مباينين لمحل القدرة دون غيره.
وحجتهم فى ذلك :
أنه لا يعقل صوت دون اعتمادات لبعض الأجرام على بعض ، واصطكاك بينها ، وكذلك لا
يعقل تأليف بين جوهرين دون مجاورة بينهما ، ولو كان ذلك
__________________
مباشرا بالقدرة ؛
لما توقف على هذه الأسباب. والّذي يخص الألم الخارج عن محل القدرة ، والتأليف
الخارج عن محل القدرة : أن كل ما كان من أفعال العبيد ـ وهو خارج عن محل قدرهم ـ فلا
يكون مباشرا بالقدرة ؛ بل متولدا.
ولقائل أن يقول :
وإن سلمنا صحة
التولّد ، فما المانع أن يكون الصوت ، والألم ، والتأليف ، مباشرا بالقدرة؟
والاعتمادات فى الأصوات ، والآلام ، والمجاورة ـ بالنسبة إلى التأليف ـ شروطا
لوقوعها بالقدرة من غير تولد.
واختلاف
الاعتمادات ؛ لا يمنع من جعلها شروطا لشيء واحد. وإلا لامتنع اشتراط المحل فى العلم ، وكون العالم حيا ؛ لاختلافهما ؛
وهو محال. والّذي يخص التأليف القائم بمحل القدرة ، وغيره : أنه ليس القول بكونه
متولدا لقيامه بغير محل القدرة ، أولى من كونه مباشرا بالقدرة ؛ لقيامه بمحل
القدرة.
كيف : وأنه مبنى
على جواز قيام عرض واحد بمحلين ؛ وهو غير متصور.
والحق فيه : أنه
إذا وجد تأليف بين جوهرين ؛ فتأليف كل واحد مع الآخر ، غير تأليف الآخر معه ؛ فهما
تأليفان قام كل واحد منهما بجوهر غير الجوهر الّذي قام التأليف الآخر به.
التفريع الخامس :
ذهب
كثير من المعتزلة : إلى أن من اعتمد على غيره بضرب ؛ أو قطع : كان اعتماده عليه مولدا للألم
فيه.
وقال
ابن الجبائى : على / المختار من قوليه : إن تولّد الألم : إنما هو من الوهى : وهو افتراق
الأجزاء المبنية بنية الصحة ، وتولد الوهى من الاعتماد ، محتجا على ذلك : بأنّ
وقوع الألم على حسب الوهى فى القلة ، والكثرة ، لا على حسب الاعتماد ؛ وهذا هو
خاصية الأسباب المولدة ، ولهذا : فإن من اعتمد بضربه على جارحة دقيقة ، قد يجد
__________________
المضروب من الألم
، أضعاف ما يجده لو كان ذلك الاعتماد بعينه على جارحة مكتنزة قوية منه مع تساوى
الاعتمادين ، وليس ذلك إلا للتفاوت فى الوهى ؛ فدلّ على أن الوهى ؛ هو السبب
المولد للألم دون الاعتماد بالضرب ؛ وهو فاسد من وجهين :
الأول
: أن من مذهب أبى
هاشم : أن ما يتولد عن الاعتماد فى العضو الرقيق من الوهى أكثر مما يتولد عنه من
الوهى فى العضو المكتنز القوى.
ولذلك : كان ما
يتولد عنده من أحد الوهايين أكثر من الآخر.
وإذا أمكن أن يكون
المتولد من أحد الاعتمادين المتساويين من الوهى أكثر ، فما المانع من
القول : بأن تولد الألم من الاعتماد ، وأن وقع التفاوت فيه فكما أن العضو الرقيق
أقبل للوها من العضو الكثيف ؛ فكذلك هو هو أصل للألم ولا فرق ؛ فلا تفرقة من هذا الوجه.
الوجه
الثانى : هو أن الآلام قد
تتفاوت مع تساوى الوهى ، وتساوى الاعتمادات ؛ وذلك كالوها الحاصل من غرز الإبرة ،
والحاصل من غرز زبانة العقرب.
وعند ذلك : فليس
القول بتولد الألم عند الوهى مع التساوى فيه ؛ أولى من تولده من الاعتمادات مع تساويها ، ولا يمكن أن يقال بتساوى الألمين المتولدين من الوهايين
، والزائد فى أحدهما ؛ فمن خلق الله ـ تعالى ـ أو أن تولد الألم من الوهى مشروط
بالنفرة ، أو أن ألم اللذع الزائد متولد من السم.
أما الأول : فلأنه
أمكن أن يقال مثله بتقدير تولّد الألم من الاعتماد.
وأما الثانى :
فلأنه أمكن أن يقال بتولد الألم من الاعتماد مشروطا بالوهي والنفرة ، وأمكن أن يقال
بوقوع الألم مباشرا بالقدرة مشروطا بالاعتماد ، والوهى ، والنفرة ؛ وليس أحد هذه الاحتمالات أولى من الآخر.
__________________
وأما الثالث :
فلأن التولد : إما من جسم السمّ ، أو من عرض من أعراضه.
فإن كان الأول ؛
فالأجسام عندهم غير مولدة.
وإن كان الثانى ؛
فهو عود إلى القول بالطبع ؛ وهو مع بطلانه بما تقدم لم يقر به أحد من المعتزلة.
/ التفريع السادس
:
قسم القائلون
بالتولد الأسباب المولدة : إلى ما يولد فى ابتداء حدوثه ، وفى دوامه عند زوال
الموانع : كالاعتماد : اللازم السفلى. وإلى ما يولد فى ابتدائه دون دوامه : كالمحاورة
: المولدة للتأليف ، والوهى المولد للآلام ، ولم يعلموا أن المحاورة والوهى فى
ابتدائه ؛ كهو فى دوامه.
فإذا قدّر انتفاء
الموانع من التولّد حسب انتفائها فى الابتداء ؛ فيلزم من كونها غير مولدة فى
الدوام ، أن لا تكون مولدة فى الابتداء. ومن كونها مولدة فى الابتداء ، أن تكون
مولدة فى الدوام ؛ ضرورة عدم الفرق. ولو أخذ خصوص الابتداء ، أو ما لازمه شرطا فى
التولّد ؛ لكان ذلك شرطا فى جميع الأسباب المولدة ؛ ولم يقولوا به.
التفريع السابع :
اختلفت المعتزلة
القائلون بالتولّد فى الألوان ، والطعوم.
فذهب
بعضهم : إلى جواز وقوع
بعض الألوان ، والطعوم متولدة من أفعال العبيد غير مباشرة بقدرهم : وذلك كلون الدبس ، وطعمه الحاصل من ضرب الدبس ، وسوطه
بالمسواط ، وكذلك الحرارة الحادثة فى الجسم بمحاكته بجسم آخر ، والاعتماد عليه ،
محتجين على ذلك بمآخذ احتجاجهم فى غيره من المتولدات ؛ وهو حصول اللون ، والطعم
على حسب الضرب ، والسوط.
وذهب
أكثرهم : إلى أن الألوان ،
والطعوم ، وكذلك الحرارة لا تقع من أفعال العبيد ، لا مباشرة بقدرهم ، ولا متولدة
من أفعالهم. محتجين على ذلك بأنه لو جاز تولد
__________________
اللون ، أو الطعم
عن سبب من الأسباب ؛ لما اختص ذلك بجسم دون جسم ؛ ضرورة أن الأجسام قابلة لجميع
الألوان المتضادة والطعوم ، وليس الأمر كذلك. أو التولد فى ذلك الجسم لون أو طعم ،
غير ذلك اللون والطعم ؛ ضرورة كونه قابلا للكل ؛ والكل ممتنع ، وليس بحق.
إذ لقائل أن يقول
:
ما المانع من أن
يكون اختصاص بعض الأجسام بالطعم ، واللون المتولد لاختصاصه بصفة مشروطة فى تولد
ذلك اللون ، والطعم من السبب المفروض لا وجود لها فى غيره من الأجسام؟ ، وكذلك
الكلام فى اختصاص السبب بتولد بعض الألوان ، والطعوم عنه ، أو أن يكون المسبب المختص بتولد بعض الألوان ، والطعوم عنه على هيئة خاصة من
الاعتمادات مخصوصة لا يتهيأ وجود مثلها فى غير ذلك الجسم ، ولا بالنسبة إلى لون آخر ، أو طعم آخر ؛ وهذه طلبات لا مخلص عنها.
التفريع الثامن :
اختلفت المعتزلة /
فى الموت هل يكون متولدا عن الآلام المتولدة من الجرح؟
فذهب الجبائى إلى جوازه ، ونفاه آخرون.
ومن نفاه ؛ فقد
خالف قياس التولد ، وترتب الموت على الآلام ، وهدم البنية حسب ترتب الآلام على
الوهى ، والاعتمادات.
ومن أثبت ذلك :
كان مراغما للدليل الدال على إبطال التولد ، وإجماع الأمة ، ونصوص الكتاب.
أما الدليل : فما
سبق .
__________________
وأما
إجماع الأمة : فلأن الأمة مجمعة على أن المستقل بالموت ، والإحياء : إنما هو الله ـ تعالى
ـ.
وأما
نصوص الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ) . وقوله ـ تعالى ـ : (رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) . إلى غير ذلك من الآيات.
ثم يلزم الجبائى
القائل : بتولد الموت من فعل العبد. أن يكون العبد قادرا على الحياة المضادة للموت
؛ لأن من مذهبه أن القادر على الشيء يكون قادرا على ضده ؛ وهو محال.
التفريع التاسع :
اتفق
القائلون بالتولد : على تعذر اجتماع حركتين ، متماثلتين فى جزء واحد ، فى وقت واحد ، بقدرة
واحدة ، إلى خلاف جهة اعتماده ، ولم يمنعوا من وجود حركات ؛ كل حركة فى محل بقدرة
واحدة ؛ لكن بشرط تفرق المحال. وإن تضامت المحال واجتمعت ؛ فيمتنع على القدرة
الواحدة ما كان جائزا لها حالة الافتراق إلا أن يقوم بمحل القدرة أعداد من القدر
موازية لأعداد الأجزاء المحركة المجتمعة ، وكل قدرة تؤثر فى كل جزء وحركة ؛ فيجتمع
فى كل جزء حركات بعدد جملة الأجزاء المحركة.
وعلى هذا : فلو
كانت الأجزاء المحركة عشرة مثلا ؛ فلا بد من عشر قدر قائمة بالفاعل القادر على
التحريك. وكل قدرة ؛ فهى مؤثرة فى كل جزء بحركة ؛ فالحركات القائمة بكل جزء عشر.
هذا أصل القوم ،
وعليه اتفاقهم ، وهو من التحكمات الباردة ، والدعاوى الجامدة.
فإنه لو قيل لهم :
لم كانت القدرة الواحدة تحرك الأجزاء المتفرقة؟ ، وتوجب فى كل واحد منها حركة.
ويمتنع عليها ذلك عند تضام الأجزاء. مع أنه ما حدث بالتضام ثقل ، ولا زيادة فى الأجزاء ، ولا فارق غير الاجتماع
والافتراق ، لم يجدوا إلى
__________________
الفرق سبيلا. بل
ولو قيل (لهم ) : لم كانت القدرة الواحدة موجبة فى كل جزء من الأجزاء
المنضمة حركة عند انضمام قدر أخرى إليها موازية للأجزاء المحركة ، ولم تكن مؤثرة
بانفرادها؟ / مع أن مقدور كل قدرة غير مقدور الأخرى. ولا تتعلق قدرتان بمقدور واحد
، ولا تؤثر كل واحدة من القدر فى القدرة الأخرى ، ولا فى مقدورها ؛ بل كل واحدة
حالة انفرادها كهى حالة الاجتماع مع غيرها ، ولم لا كانت مؤثرة فى الحالتين ، أو
غير مؤثرة فى الحالتين؟ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
ولهذا قال ابن
الجبائى ، وغيره من فضلاء المعتزلة : لا نعرف لذلك سببا ، غير أنا وجدنا أن ما
يسهل علينا حركته عند الافتراق ؛ عسير عند الاجتماع. وهذا : وإن كان حقا ؛ فليس
فيه ما يدل على وجوب اجتماع قدر موازية لأعداد الأجزاء المنضمة ، ولا أن يكون فى
كل جزء من الحركات ما يوازى أعداد الأجزاء ؛ بل أمكن أن يكون ذلك لعدم خلق الله ـ تعالى
ـ القدرة على الدفع حالة الانضمام ، وخلقه لها حالة التفريق بحكم جرى العادة ، أو
لتوقفت الحركة والدفع فى الأجزاء المنضمة ، على وجود قدرة أخرى واحدة ، منضمة إلى
القدرة الأولى ، أو أكثر.
وبالجملة : على
قدر لا تكون فى عددها موازية لعدد الأجزاء ، ولا محيص عنه.
وأما الجبائى فإنه
قال : انضمام الأجزاء مانع من التحريك.
ولهذا : فإنا نجد
القادر على المشى يمتنع عليه المشى بالربط والتقييد ؛ بسبب انضمام أجزاء القيد إلى
رجليه ؛ وهو مبنى على أصله فى جواز منع القادر ؛ وقد أبطلناه.
وإن سلمنا صحة
المنع ؛ فلا نسلم صحة التعليل ، بانضمام أجزاء القيد إلى رجليه ؛ بل أمكن أن يكون
ذلك لمعنى مختص بتلك الصورة لا وجود له فيما نحن فيه ، ولا طريق إلى نفى ذلك بأمر
يقينى على ما أسلفناه.
كيف : والفرق واقع
من جهة أن مانع القيد لا يزول ـ وإن تضاعفت القدر ـ بخلاف ما نحن فيه فإنه
قال بزوال المانع بتقدير أن توجد قدر موازية لأعداد الأجزاء المنضمة.
__________________
ثم يلزم عليهم :
أنه لو كانت أعداد الأجزاء المنضمة عشرة ؛ فخلق فى المحرك لها إحدى عشرة قدرة ؛
فالقدرة الزائدة على العشر : إما أن تكون مؤثرة مع تأثير باقى القدر ، أو غير
مؤثرة.
فإن
كان الأول : فهو محال ؛ لأنها
: إما أن تؤثر فى حركة أخرى زائدة على حركات القدر العشر ، أو فيما أثرت فيه باقى
القدر.
لا سبيل إلى الأول
؛ للاستغناء عنها.
ولا سبيل / إلى
الثانى ؛ لامتناع تأثير قدرتين فى مقدور واحد.
وإن
كان الثانى : فليس سقوط اعتبار
أى قدرة فرض دون الباقى أولى من العكس وهذه المحالات ، إنما لزمت مما ذكروه ؛
فيكون محالا.
التفريع العاشر :
ذهب
بعض المعتزلة : إلى أن ما يتحرك به الثقيل من الاعتمادات يمنة ، ويسرة ؛ يمكن أن يرتفع به
إلى جهة فوق.
وخالفهم أبو هاشم
، وأتباعه فى ذلك : محتجا عليهم بما يجده كل عاقل من التفاوت بين التحريك دحرجة ،
وبين التحريك صعدا ؛ لكنه زعم أن ما يفتقر إليه الثقيل فى تحريكه يمنة ويسرة ، من
الحركات القائمة بكل جزء منه ، لا بد منه فى جهة الدفع مع زيادة حركة واحدة.
ولو قيل : لم حصرت الزيادة فى حركة واحدة؟ ، ولم لا كانت أكثر
من ذلك؟ وهى ما يعلم الله ـ تعالى ـ تحرك الثقيل عندها ؛ لم يجدوا إلى الحصر
سبيلا.
التفريع الحادى
عشر :
إذا تمالأ على حمل
ثقيل اثنان يستقل كل واحد منهما بحمله ـ بتقدير انفراده به.
فقال
عباد الصيمرى ، والكعبى : إن كل واحد منهما منفرد بحمل بعض من المثقل لا يشاركه فيه صاحبه ، ولا يثبت
لهما فعلان فى جزء من المثقل.
__________________
وقال أكثر
المعتزلة : يثبت لكل واحد منهما فى كل جزء من أجزاء المثقل من الأفعال حالة
الاجتماع ، ما كان يثبت له حالة الانفراد.
والمذهبان واهيان :
أما
الأول : فلأنه لا بد وأن
يكون فعل كل واحد منهما فى بعض معين فى نفس الأمر ، وليس ما تعين لفعل زيد فيه
أولى من غيره ؛ لعدم الأولوية.
وأما
الثانى : فلأنه لو قيل :
إذا كان المنفرد به لا يتم حمله له دون ما به حركة فى كل جزء مثلا. فما المانع عند
اجتماعهما من صدور خمسين حركة فى كل جزء ، من كل واحد منهما ، من غير حاجة إلى ما
به من كل واحد منهما؟ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.
التفريع الثانى
عشر :
(فيما ) اختلف فيه الجبائى ، وابنه.
من ذلك أن الثقيل
الساكن ؛ هل يمكن أن يولد فيه سكون ، أم لا؟ فمنع الجبائى من ذلك ؛ لاعتقاده أن
مولد السكون الحركة ، ولا حركة. وجوزه ابنه ؛ لاعتقاده أن المولد للسكون : إنما هو
الاعتماد ، والاعتماد على الثقيل فى جهة ممكن.
وكل واحد من
القولين مقابل للآخر من غير دليل.
ومن ذلك أن
الجبائى : أحال قيام ألم بجسم من فعل الله ـ تعالى / دون الوهى ، وتفريق الأجزاء : محتجا على ذلك : بأنا لم نصادف ألما إلا كذلك ؛ فكان
لازما.
وخالفه أبو هاشم
فى ذلك وقال : لا يلزم من اطراد ذلك فى الشاهد ، اطراده فى الغائب ؛ لأن ما خرج عن
محل القدرة فى الشاهد ، لا يكون مباشرا بالقدرة ؛ بخلاف الغائب.
__________________
وما ذكره أبو هاشم
: تفريعا على القول بالتولد منقدح.
كيف : وأن ما ذكره
الجبائى يجرّ إلى أن لا تكون بيضة إلا من دجاجة ، ولا دجاجة إلا من بيضة ، ولا
إنسان إلا من إنسان بناء على الشاهد ، وهو قول بقدم العالم ؛ وذلك محال.
ومما خالف فيه ابن
الجبائى للمعتزلة : أنه لم يطلق على السبب مولدا للمسبب ، قال لأن ذلك يوهم انقطاع
المسبب عن كونه فعلا لفاعل السبب ؛ بل المولد للمسبب من السبب ، هو فاعل السبب ، والأمر فى الاصطلاح اللفظى قريب.
__________________
الأصل الثالث
فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله ـ تعالى ـ وأنه مريد
لكل كائن ، وغير مريد لما لم يكن
ولما كان هذا
الأصل من أعظم أصول هذا الكتاب ، وأغمضها على ذوى العقول والألباب ، وجب أن نقدم
عليه فصولا لا يتم تحقيقه دونها ؛ وهى ستة فصول.
الأول : فى إثبات
الإرادة الحادثة ، وأحكامها.
الثانى : فى أضداد
الإرادة الحادثة.
الثالث : فى أن
الإرادة للشيء ، كراهية لضده.
الرابع : فى أن
الإرادة الحادثة لا توجب المراد.
الخامس : فيما
يجوز تعلق الإرادة به ، وما لا يجوز.
السادس : فى تحقيق
متعلق الإرادة.
الفصل الأول
فى إثبات الإرادة الحادثة ، وأحكامها
كنا بينا فى مسائل
الصفات اختلاف الناس فى معنى الإرادة ، وما هو المختار فيها ، وبينا أنها منقسمة :
إلى قديمة ، وحادثة ، وبينا ثبوت القديمة منها .
وهذا : أوان بيان
ثبوت الحادثة منها.
وقد
اتفق العقلاء : على ثبوت الإرادة الحادثة شاهدا ، غير الجاحظ. علي ما أسلفناه فى مسائل
الصفات. وهو مخصوم : بما يجده كل عاقل من نفسه من مكنة تخصيص حركاته المقدورة بوقت
دون وقت ، وحالة دون حالة ، بخلاف حركاته الاضطرارية ، وليست مكنة التخصيص بحالة
دون حالة راجعة إلى صفة الحركة المقدورة ، والحركة الاضطرارية / ؛ بل هى راجعة إلى
المتحرك ، وليست هى نفس ذاته ؛ لوجود ذاته فى الحالتين ؛ فلم يبق إلا أن تكون صفة
من صفات ذاته واختصاصه بالتمكن من التخصيص فى إحدى الحالتين دون الأخرى : إما أن
يكون بمخصص أو لا بمخصص.
لا جائز أن يكون
لا بمخصص ؛ لما سيأتى فى إثبات الأعراض .
وإن كان بمخصص :
فذلك المخصص : إما عدم ، أو وجود.
لا جائز أن يكون
عدما ؛ لما تحقق فى مسألة الرؤية ، ولما يأتى في العلل ، والمعلولات ، ولما يأتى فى إثبات الأعراض .
وإن كان وجوديا :
فإما ذاته ، أو بعض ذاته ، أو زائدا على ذاته.
لا جائز أن يقال
بالأول ، والثانى : لكونه عاما للحالتين. وإن كان زائدا على ذاته ؛ فليس هو نفس
الحياة ، ولا العلم ، ولا غيره من الصفات المشتركة بين الحالتين ، ولا هو
__________________
نفس القدرة ؛ إذ
القدرة ليس من شأنها تخصيص الحادث بحالة دون حالة ؛ بل ما من شأنه أن يأتى به
الفعل بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل ، كما تقدم تحقيقه ؛ فلم يبق إلا أن
يكون زائدا على ذلك كله ؛ وهو المعنى بالإرادة ، فقد ثبت بذلك أن العبد متصف بالإرادة ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أثبت كون العبد مريدا ، والمريد من قامت به الإرادة ، على
ما سبق. وكذلك قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا
مَيْلاً عَظِيماً) . إلى غير ذلك من الآيات ، والدلائل الواضحات.
وإذا ثبتت الإرادة
الحادثة ؛ فالقول فى امتناع بقائها ، وفى وجوب مقارنتها للمراد ، وامتناع تعلق
الإرادة الواحدة الحادثة بمرادين ، وفى تماثلها واختلافها ، وتضادها ، وأنها هى
تفتقر في تعلقها بالمراد إلى نية مخصوصة؟
وأن فعل النائم هل
هو مراد؟ وأن النوم مضاد للإرادة. وأنه هل يتصور وجود مراد بين مريدين؟ وأن الله ـ
تعالى ـ يريد مثل فعل العبد ، وأنه هل يتصور وجود مراد واحد بإرادتين لمريد واحد
من وجهين ؛ فعلى ما سبق فى القدرة الحادثة من المزيف ، والمختار ؛ فعليك بنقله إلى
هاهنا.
__________________
الفصل الثانى
فى أضداد الإرادة الحادثة
وهى تنقسم : إلى أضداد خاصة. وإلى أضداد عامة.
أما الخاصة :
فالكراهية
: وهى ضد الإرادة
باتفاق الأئمة. ولم يمنعوا من اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها ، خلافا للأستاذ أبى إسحاق
، فإنه قال : الكراهة لا يوصف بها البارى ـ تعالى ـ لأن الكراهة راجعة إلى النفرة
عن الشيء ، والنفرة عنده من ضروب الآلام. والرب ـ تعالى ـ لا يوصف بشيء من الآلام
، وهو على خلاف الإطلاق الشائع الذائع من الأمة بكون الله ـ تعالى ـ كارها لكذا ، وغير كاره لكذا ، ولو كانت الكراهة
ألما ، أو نفرة ؛ لما وصف بها الرب ـ تعالى ـ إذ هو لا يوصف بالألم ، والنفرة.
وأيضا : فإنه لو
كانت الكراهية هى النفرة ، أو ضرب من الألم ؛ لكان قول القائل : كرهت بمنزلة قوله
: تألّمت ، ونفرت. ولو كان كذلك ؛ لما صح قول القائل : كرهت الأمر الفلانى ؛ إذ هو بمنزلة قوله :
تألمت الأمر الفلانى ، أو نفرت الأمر الفلانى ؛ وهو محال.
فإن
قيل : لو كانت
الكراهية ضد الإرادة ، لما اجتمعا. والمعصية الواقعة عندكم مرادة لله ـ تعالى ـ ومكروهة
له.
قلنا : حدوث
المعصية الواقعة عندنا هو المراد ، وحدوثها ليس بمكروه ؛ بل المكروه كونها معصية ،
وكونها معصية ؛ خارج عن نفس الحدوث المراد ؛ فما اجتمعا.
وأما الأضداد
العامة :
فالموت ، والنوم ؛
بالاتفاق.
وأما الغفلة ،
والسهو ؛ فالإجماع منا ، ومن المعتزلة ، وكل عاقل ـ واقع على أنه لا يجامع
الإرادة. بمعنى أن إرادة الشيء لا تجتمع مع السهو عن ذلك الشيء. وهل هما
__________________
ضدان؟ فالذى عليه
أصحابنا : التضاد خلافا للمعتزل ؛ فإنهم قالوا : هما غير متضادين ، وإن امتنع
الجمع بينهما.
احتج
الأصحاب : بأن الإرادة ،
والسهو : معنيان يمتنع الجمع بينهما فى المحل الواحد بالنسبة إلى شيء واحد ، ولا
يتخيل فيهما مانع للمنع من الجمع غير التضاد ؛ فهما متضادان.
وفيه نظر ؛ إذ ليس
كل معنيين يمتنع الجمع بينهما فهما متضادان ؛ فإن القدرة على الحركة على أصولنا معنى
، والسكون المضاد للحركة المقدورة معنى ، ولا يتصور الجمع بين القدرة على الحركة ،
والسكون ؛ ضرورة مقارنة القدرة علي الحركة للمحركة ، وليست القدرة / على الحركة ،
والسكون ضدين ؛ بل للقدرة على الحركة لازم ضد السكون ؛ وهو الحركة.
وقول القائل : لم
يتخيل من الإرادة والكراهة ما يجعل الجمع غير التضاد ، دعوى تفتقر إلي البحث
والسبر ، وهو غير يقينى كما سلف .
وأما حجة الخصم :
فمن وجهين :
الأول
: لو كان السهو
مضادا للإرادة ؛ لتعلق بمتعلقها على ضد تعلقها : كالجهل ؛ فإنه لما ضاد العلم كان
متعلقا بمتعلق العلم (على) النقيض من تعلق العلم به ، والسهو ليس كذلك ؛ فإنه متعلق
مثيله بالقديم ، والباقى مع استحالة تعلق الإرادة بهما.
الثانى
: أنه لو كان السهو
مضادا للإرادة ؛ فهو عندكم أيضا مضاد العلم ، ولو كان ضدا لهما ، لتضادا : كالسواد
؛ فإنه لما كان ضدا للبياض والحمرة ؛ كان البياض ، والحمرة ضدين. وليس العلم ضدا
للإرادة ؛ فلا يكون السهو ضدا لها.
والجواب عن الحجة
الأولى :
لا نسلم أنه لو
كان السهو مضادا للإرادة ؛ لكان متعلقا بمتعلقها على النقيض ، ولا يلزم من وقوع
ذلك فى بعض المتضادات : كالعلم ، والجهل ؛ وقوع ذلك مطلقا فى كل
__________________
متضادين ؛ فإن
السواد والبياض ضدان ، ولا تعلق لأحدهما بمتعلق الآخر على النقيض ، وكذلك الموت ؛
فإنه عندنا ضد الإرادة ، وليس هو على ما ذكروه.
وإن سلمنا : أنه
لا بد وأن يكون الأمر فى المتضادين على ما ذكروه ؛ ولكن لا نسلم أن السهو الّذي هو
مضاد (للإرادة) غير متعلق بمتعلق الإرادة ؛ فإن إرادة الشيء يضادها السهو
عن ذلك الشيء ، لا عن غيره.
وعلى هذا : فلا
يلزم من كون السهو عن القديم والباقى ، غير مضاد للإرادة ، أن لا يكون السهو عن
الشيء مضادا لإرادة ذلك الشيء.
أما الحجة الثانية :
فلا نسلم أن ما
ضاد مختلفين ؛ أنه لا بد من تضاد المختلفين ، ولا أنه يلزم من وقوع ذلك فى بعض
المتضادات ، طرده فى الباقى ؛ فإن عندنا الموت مضاد للعلم ، والقدرة ، والإرادة ؛
ولا تضاد بين العلم ، والقدرة ، والإرادة ، ومجرد الدعوى فى ذلك غير مقبولة فى ما
ليس بضرورى.
ومن
مذهب الشيخ : إن الإرادتين
المتعلقتين بالضدين فى وقت واحد فى محل واحد ؛ ضدان : كإرادة الحركة يمنة ، وإرادة
الحركة يسرة.
قال
القاضى أبو بكر : والّذي يصح عندى عدم / التضاد محتجا على ذلك بأن من جهل تضاد شيئين. وقدر
فى نفسه جواز اجتماعهما ؛ فإنه يتصور منه إرادتهما معا على رأى الشيخ ، ولو تضادا
، لما اختص امتناع الجمع بينهما بحالة العلم دون غيره : كالسواد ، والبياض ؛
فإنهما لما تضادا امتنع الجمع بينهما مطلقا سواء علما ، أو جهلا.
وفيه نظر ؛ إذ
الإرادة على ما حققناه : عبارة عن معنى من شأنه أن يتخصص به كل واحد من الجائزين
بدلا عن الآخر ، وما لا يكون كذلك ؛ فغير خارج عن القصد ، والتمنى ، والشهوة ،
والميل ، والعزم ، وليس إرادة على التحقيق.
وعلي هذا : فتعلق
الإرادة بالمراد لا معنى له غير تخصيص المراد بها ؛ فلا يعقل تعلقها بالمراد من غير تخصيص له بها.
__________________
وعند ذلك : فلا
يخفى أن تعلق الإرادتين (بالضدين) ممتنع سواء علم تضادهما ، أو لم يعلم ؛ ضرورة استحالة
تخصيصهما معا فى وقت واحد ، فى محل واحد ، ولا معنى لتضاد الإرادتين غير امتناع
اجتماع تعلقهما بالضدين معا.
وعلى
هذا : فالمذهبان مدخولان.
أما
مذهب الشيخ : فلاعتقاده أنه لا
تضاد حالة الجهل.
وأما مذهب القاضى
: فلاعتقاده انتفاء التضاد مطلقا. فإن قال ناصر كلام القاضى أن الإرادة الحادثة
عندكم غير مخصصة للمراد كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد ؛ فكيف يصح
هذا النبأ؟
قلنا
: وإن كانت الإرادة
الحادثة غير مؤثرة فى التخصيص ، فمعنى تعلقها بالمراد ، وقوع التخصيص مقارنا لها.
كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد. ومعنى تعلقها بالمقدور مقارنته لها ،
على ما تقدم.
ولا يخفى : أن
تعلق الإرادة الحادثة بالمراد ـ على هذا التفسير ـ مما يمنع من الجمع بين تعلق
الإرادتين بالضدين على ما عرف.
وعلى هذا : فكل
ضدين لا واسطة بينهما ، ويمتنع عرو المحل عنهما ؛ فيمتنع الكراهية لهما ؛ إذ من
ضرورة الكراهية لهما امتناع إرادة كل واحد منهما ؛ لاستحالة الجمع بين كراهية
الشيء ، وإرادته. ويلزم من ذلك خلو المحل عنهما ؛ وهو محال.
وإن كان بينهما
واسطة ؛ فلا يمتنع تعلق الكراهة (بهما) ؛ لإمكان اجتماعهما فى العدم.
__________________
الفصل الثالث
فى أن الإرادة للشىء كراهية لضده
مذهب الشيخ أبى
الحسن ، وكثير من أصحابه : أن عين إرادة الشيء ، كراهية لأضداد ذلك الشيء ؛ ولكن
مقتضي أصل الشيخ ، وإن لم يكن مصرحا به من جهته : أن يكون المريد للشيء عالما بأن
الشيء له أضداد ، فإن من لا يعلم وجود الشيء ؛ فلا يتصور أن يكون كارها له.
فإذن الإرادة
للشيء : كراهية لأضداده ، حالة علم المريد بالأضداد ، لا حالة جهله بها.
وقال
الاستاذ أبو إسحاق : إرادة الشيء لا تكون بعينها كراهية لأضداد ذلك الشيء مطلقا ؛ لأنها لو كانت
الإرادة للشيء كراهية للضد ؛ لكان ذلك لها من صفات نفسها ، وصفات النفس لا تزول. ولو
كان كذلك ؛ لكانت الإرادة للشيء كراهية لضده حالة الجهل به ؛ وهو محال لما تقدم.
وقال
إمام الحرمين : هذا هو أيضا مقتضى أصل القاضى ، والحجة لمذهب الشيخ أبى الحسن : أن المريد
للشيء تلازمه الكراهية لأضداده لا محالة على ما يجده كل عاقل من نفسه ، والكراهة :
إما أن تكون عين الإرادة ، أو غيرها.
لا جائزة أن يقال
بالمغايرة : وإلا فذلك الغير : إما أن يكون مثلا للإرادة ، أو لا يكون مثلا لها.
فإن كان مثلا :
فالمثلان لا يجتمعان فى محل واحد على ما يأتى فى التضاد .
وإن لم يكن مثلا :
فهو خلاف ؛ والخلاف : إما ضد ، أو ليس بضد. لا جائز أن يكون ضدا : وإلا لما اجتمعا
؛ وقد اجتمعا.
وإن لم يكن ضدا :
فكل خلافين ليسا بضدين أمكن وجود أحدهما دون الآخر : كالعلم ، والقدرة ، ونحوهما ؛
وهو خلاف ما قيل من التلازم ؛ بل وأمكن وجود كل واحد
__________________
منهما مع ضد
الآخر. وضد الكراهية ، الإرادة ؛ وذلك يجرّ إلى جواز إرادة الشيء ، وإرادة ضد ذلك
الشيء معا ؛ وهو محال ؛ لما تقدم من أن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان.
وإذا لم يكن كارها
لغير ما هو مريد له ، تعين كون الإرادة للشيء عين الكراهة لضد ذلك الشيء ؛ وبهذا
عرفنا أن عين القرب من المشرق ؛ هو عين البعد من المغرب ، وأن عين شغل الجوهر لحيز انتقل إليه ، عين تفريقه للحيز
الآخر ، ونحو ذلك.
وهذه الحجة فيها
نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن المريد للشيء يكون كارها لضده ؛ بل غايته أن
يكون كارها ، لعدم المراد. أما الضد : فأمكن أن يكون كارها له ، وأمكن أن لا يكون
/ وإن سلم أنه لا بد وأن يكون كارها للضد ؛ ولكن لا نسلم أن الإرادة عين الكراهة.
والمختار من الأقسام : إنما هو الاختلاف من غير تضاد.
وعلى هذا : فلا
نسلم إمكان وجود أحد المختلفين دون الآخر مطلقا فى كل مختلفين ؛ ليلزم ما قيل.
وما المانع من
كونهما متلازمين؟ بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر ، ولا يلزم من جواز الانفكاك فى
بعض المختلفات جوازه مطلقا.
ولهذا : فإن
التحيز مع الجوهر من المختلفات ، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر على أصل المستدل.
وأما حجة مذهب
الأستاذ أبى إسحاق : فإنما تلزم أن لو قيل : بأن إرادة الشيء عين الكراهة لضد ذلك
الشيء مطلقا ؛ وليس كذلك.
وما المانع أن
تكون الإرادة للشىء عين الكراهة لضده مشروطا بالعلم به؟ كما أن أصل الكراهة للشىء.
أو الإرادة له مشروطا بالعلم به.
__________________
فإن
قيل : لو جاز أن تكون
الإرادة للشىء عين الكراهة لضده ؛ لكان العلم بالشيء جهلا بضده ؛ وهو
محال ؛ فإنه لا يلزم من العلم بالسواد ، الجهل بالبياض ، ونحوه
قلنا
: هذه دعوى مجردة ،
وتمثيل من غير دليل جامع ؛ فلا يصح. كيف : وأن الاتفاق واقع على أن إرادة الشيء كراهية لعدم ذلك الشيء إما بعين الإرادة ، أو بغيرها ، وما
لزم أن يكون العلم بوجود الشيء ؛ جهلا بعدمه ، كان الجهل بالعدم عين العلم ، أو
غيره.
__________________
الفصل الرابع
فى أن الإرادة الحادثة لا توجب المراد
مذهب
الأشاعرة : أن الإرادة غير موجبة للمراد
ووافقهم على ذلك
الجبائى ، وابنه ، وجماعة المتأخرين من المعتزلة.
وذهب النظام ،
والعلاف ، وجعفر بن حرب ، وطائفة من قدماء البصريين : إلى أن الإرادة توجب المراد
؛ إذا كان المراد فعلا للمريد ، وكانت الإرادة قصدا إلى إيقاع الفعل المقدور عند
زوال الموانع.
وأما إن كانت
الإرادة عزما ، أو كانت الإرادة لفصل الغير فلا.
أما حجة أصحابنا
على امتناع كون الإرادة موجبة للمراد : فما أسلفناه فى امتناع كون القدرة الحادثة
موجبة للمقدور ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا .
وأما النظام :
فإنه قال : إذا أراد المريد الحركة إلى جهة اليمنة تقديرا ، وكانت إرادته قصدا
لإيقاع الفعل مع ارتفاع / الموانع : فإما أن يقال بجواز وقوع الحركة فى الحالة
الثانية من وجود الإرادة إلى جهة غير جهة اليمنة ، أو أنه لا بد من وقوع ما عينه
من الحركة.
لا جائز أن يقال
بالأول : وإلا فتلك الحركة : إما أن تقع مرادة ، أو غير مرادة.
لا جائز أن تقع من
غير إرادة : وإلا لأمكن مثل ذلك فى كل حركة ؛ إذ ليس البعض بالاستغناء عن الإرادة
أولى من البعض.
وإن كان وقوعها
بالإرادة : فالإرادة لها : إما أن تكون مقارنة لها ، أو متقدمة عليها.
لا جائز أن يقال
بالمقارنة : لأن الإرادة قصد ، والقصد إلى الشيء يجب أن يكون مقدما على ذلك الشيء.
__________________
ولا جائز أن يقال
بتقدمها عليها : لأن ذلك يجر إلى اجتماع الإرادتين لضدين مع العلم بهما فى وقت
واحد ؛ وذلك محال.
فلم يبق إلا القسم
الثانى : وهو وجوب وقوع ما عينه من الحركة فى الوقت الثانى ، وهو المعنى بإيجاب
الإرادة للمراد .
واعلم أن هذه
الحجة إنما تلزمنا : أن لو قلنا بوجوب تأثير الإرادة فى المراد بالتخصيص ، وليس
كذلك ؛ بل غايته أنا نقول بوجوب مقارنتها للمراد من غير تأثير كما قلنا فى القدرة
، وليس القول : بكون الإرادة موجبة للمراد بسبب المقارنة بينهما من غير تأثير
لأحدهما فى الآخر ، بأولى من كون المراد موجبا للإرادة ؛ كما سبق فى القدرة.
وإن سمى مسم
الإرادة موجبة بهذا الاعتبار ؛ فلا منازعة معه فى غير التسمية ؛ بل هذه الحجة
لازمة على المعتزلة القائلين بأن الإرادة غير موجبة للمراد ، مع اعترافهم بتأثيرها
فى صفة المراد ، ولصعوبة معركها على أصلهم.
اختلفوا فى جوابها
؛ بعد الاتفاق منهم على جواز وقوع الحركة فى الوقت الثانى من وجود الإرادة إلى
خلاف جهة الحركة المرادة.
فمنهم من قال :
بأنها تقع مرادة إذ لو وقعت غير مرادة ؛ لأمكن ذلك فى كل حركة لما سبق.
ثم من هؤلاء من
قال : بأن الإرادة لضد الحركة المرادة أو لا تقع مقارنة لها ، لا مقدمة عليها ، حتى لا تجتمع إرادتان لضدين فى وقت واحد ـ مع
العلم بهما ـ إذ هو محال ؛ لما سبق ؛ وهذا هو قول الجبائى.
ومنهم من قال :
إنها تقع بإرادة متقدمة عليها ، ولو وقع ذلك ؛ لما كانت الإرادة الأولى ؛ وهذا هو
قول أبى هاشم.
ومن المعتزلة
القائلين بامتناع إيجاد الإرادة للمراد من قال : / بأن الحركة المرادة تقع فى الوقت الثانى من غير إرادة ؛ لأنها لو كانت مرادة ؛
فالإرادة : إما مقارنة لها ، أو متقدمة عليها.
__________________
لا جائز أن تكون
مقارنة لها ؛ لما تقدم ، ولا متقدمة عليها ، للمحال المذكور أولا.
وربما أسند بعضهم
وقوعها إلى البنية المخصوصة.
وكل هذه الأجوبة
فمدخولة.
أما جواب الجبائى
: فإما أن يقول : بأن كل إرادة تقارن المراد ؛ كما هو المنقول عنه من أحد قوليه.
وإما أن يقول بالمقارنة فى صورة الإلزام دون غيرها ، كما هو المنقول عنه فى قول
آخر.
فإن كان الأول :
فلا يخفى أنه يلزم من مقارنة الإرادة للمراد مع تأثير الإرادة فى صفة المراد ، أن
تكون موجبة المراد : كما قال النظام ، وموافقوه.
وإن كان الثانى :
فيلزم منه أن تكون الإرادة فى صورة المقارنة موجبة ، وهو خلاف مذهبه ، ثم إنه ليس
القول : بمقارنة الإرادة لإحدى الحركتين ، وتقدم إرادة الأخرى عليها ، أولى من العكس.
وأما جواب أبى
هاشم : فحاصله راجع إلى أن الإرادة المفروضة أو لا لم تكن بتقدير وقوع الحركة
المضادة ؛ وهو محال ؛ لما فيه من القول بعدم ما قيل بوجوده فى وقت وجوده.
والقول بأن الحركة
المضادة ـ بتقدير وقوعها ـ لا تكون مرادة ؛ يوجب أن تكون كل حركة هكذا ؛ لما تقدم
من عدم أولوية بعض الحركات بالاستغناء عن الإرادة دون البعض.
وعلى هذا : يبطل
القول بإسناد الحركة المضادة إلى البنية المخصوصة أيضا.
__________________
الفصل الخامس
فيما يجوز تعلق الإرادة به ، وما لا يجوز
أما (ما لا يجوز ) تعلق الإرادة به : فالمستحيلات : كالجمع بين الضدين ،
وانقلاب الحادث قديما ، والقديم حادثا. إلى غير ذلك.
ولا فرق فى ذلك
بين الغائب ، والشاهد ؛ لكن مع العلم بالاستحالة شاهدا ، وكذلك الحكم فى إرادة
القديم الواجب ؛ إذ الإرادة إنما هى للتحصيل ، وتحصيل الحاصل محال. وكل ذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء.
وأما ما يجوز تعلق
الإرادة به : فكل ما هو جائز فى نفسه ، وسواء كان مقدورا للمريد ، أو غير مقدور له. وسواء
كان وجودا ، أو عدما. وسواء كان العدم طارئا ، أو أصليا : كإرادة أن لا يحدث
الشيء.
وذهب
بعض المعتزلة : إلى امتناع إرادة العدم المحض.
/ ومنهم : من جوز
ذلك ؛ لكنه لم يصف العدم بكونه مرادا ، وإن تعلقت الإرادة به كما قال أبو هاشم فى
العلم بالمستحيلات.
والمذهبان باطلان.
أما
الأول : فلأنه خلاف ما
يجده كل عاقل من نفسه من إرادة أن لا يكون الشيء كما يجده من إرادة كونه ؛ وليس ذلك
عائدا إلى إرادة الضد ؛ فإنه قد يريد ألا يحدث ما لا ضد له : كالجوهر. وليس الفناء
ضدا للجوهر ليقال بتعلق الإرادة به على ما سنبينه ، وبتقدير كون الفناء ضدا ؛
فإنما يكون بعد حدوث الجوهر لا قبله ؛ فلا يمكن أن تكون إرادة ألا يحدث الجوهر
إرادة لفنائه. وبتقدير تحقق الفناء قبل حدوث الجوهر ، فقد يريد ألا يحدث الجوهر من
لا يخطر الفناء بذهنه.
وأما
المذهب الثانى : فبطلانه بما أبطلنا به قول أبى هاشم فى علم لا معلوم له.
فإن
قيل : إذا جوزتم تعلق
الإرادة بكل جائز ؛ فكل باق مما ليس واجبا لذاته جائز ، (فلتكن) الإرادة متعلقة به ، ولم يقل به أحد من العقلاء.
__________________
فقد أجاب عنه :
الأستاذ أبو إسحاق : بأن إرادة المعنى الّذي به بقاء الباقى ممكن.
وأما الباقى من
غير بقاء : فغير ممكن ؛ فلا تتعلق به الإرادة . وليس بحق ؛ فإنه إن كان الباقى باقيا بنفسه ؛ فالإشكال لازم. وإن كان باقيا
بمعنى : فلو قيل : لم لا يجوز أن تتعلق الإرادة بالباقى مع جوازه ، وبقطع النظر عن
المعنى الموجب للبقاء؟ لم يكن ما ذكره الأستاذ فى الجواب كافيا.
والحق
فى الجواب : أنه لا امتناع من
تعلق الإرادة بالباقى. وإنما الّذي يمتنع تعلقها به تجدد وجود الباقى ؛ فإنه محال.
وعليه معول إمام الحرمين.
هذا ما قاله
الأصحاب : فى تعلق الإرادة بالمراد.
والواجب إنما هو
التفصيل فى هذا الباب ؛ وهو أن يقال :
إن أريد بالإرادة
: المعنى الّذي من شأنه تخصيص الحادث بوقت حدوثه وبحالة دون حالة ، كما أسلفناه فى
تحقيق معنى الإرادة ؛ فيمتنع تعلقها بما لا تكون مخصصة له. وسواء كان جائزا فى
نفسه ، أو لم يكن كما أسلفناه فى الفصل الثانى من هذا الأصل .
وإن أريد به ما
سوى ذلك : من القصد له ، أو التمنى ، أو الشهوة ، أو الميل ، أو غيره ؛ فمسلم.
وعلى كل حال ؛ فلا
يتصور أن يكون الفاعل عالما بفعله ، إلا وهو مريد له بموافقة جميع المعتزلة. ما
سوى المتولدات من الأسباب ؛ فإنها يجوز أن تكون عندهم مرادة ، وغير مرادة. وإن /
كانت من أفعال فاعل السبب.
وأما الإرادة :
فلو أقدر الله ـ تعالى ـ عبده على الإرادة ، فهل يجب أن تكون تلك الإرادة مرادة له
بإرادة أخرى؟ وهل تتعلق إرادته ، بإرادته المقدورة ، أم لا؟
__________________
فذهب
أصحابنا : إلى وجوب ذلك ؛
لأنه لا يتصور فعل من فاعل ، وهو عالم به ، ذاكر له من غير إرادة له.
ومنع الجبائى من
ذلك : وأحال كون الفاعل للإرادة مريدا لها بإرادة أخرى.
وأما أبو هاشم
فإنه قال : إن كانت الإرادة قصدا إلى الفعل مقارنة له ، أو متقدمة عليه :
كتقدم القدرة على المقدور ، جاز أن تكون مرادة وأن لا تكون مرادة.
وأما إن كانت
متقدمة على الفعل بأزمنة ، وكانت عزيمة على الفعل ؛ فلا بد وأن تكون مرادة. وكل
ذلك يخيل فى دفع سؤال التسلسل على قولهم : بأن الله ـ تعالى ـ مريد بإرادة حادثة
لا فى محل.
احتج
أصحابنا : بأن الإجماع منا
، ومن المعتزلة منعقد على أن كل مقدور معلوم ، ما عدا موضع النزاع ؛ فإنه لا بد
وأن يكون مرادا بإرادة مخصصة له.
وإنما افتقر إلى
تعلق الإرادة به من جهة كونه جائزا ؛ فإن المخصص للجائزات : إنما هو الإرادة ـ كما سبق تقريره فى مسائل الصفات ـ والإرادة المقدورة جائزة ؛ فكان تخصيصها مفتقرا إلى مخصص
من جهة الفاعل لها ؛ وذلك المخصص هو الإرادة. ولو أمكن استغناؤها ـ مع جوازها ـ عن
الإرادة المخصصة ؛ لاستغنى كل جائز عن المخصص ؛ وذلك محال ؛ لما فيه من تخصيص بعض
الجائزات دون البعض من غير مخصص.
فإن
قيل : ما ذكرتموه :
إنما يلزم منه وجود الإرادة مع جوازها من غير مخصص ، بتقدير أن لا تكون مرادة أن
لو لم يكن الداعى إليها كافيا فى التخصيص ؛ فلم قلتم بأنه غير كاف؟
وإن سلمنا دلالة
ما ذكرتموه على إرادة الإرادة ؛ لكن معنا ما يدل على امتناع ذلك ، وبيانه من وجهين
:
الأول
: أنه لو كانت
الإرادة المقدورة مرادة للفاعل ؛ لكانت تلك الإرادة الثانية مفتقرة إلى ثالثة ، والثالثة
إلى رابعة ، وهلم جراء إلى ما لا نهاية له ؛ وهو محال.
__________________
الثانى
: أنه لو جاز أن
تراد الإرادة ؛ لجاز أن تشتهى الشهوة ، وأن يتمنى التمنى ، وكل ذلك محال.
قلنا
: أما داعى الإرادة
لو اكتفى به عن إرادة الإرادة ؛ لاكتفى بداعى المراد عن إرادة المراد. وأما التسلسل
: فإنما يلزم أن لو كانت كل إرادة مكتسبة مرادة بإرادة / مكتسبة ؛ وليس كذلك ؛ بل
أمكن قطع التسلسل بالانتهاء إلى إرادة ضرورية حاصلة للفاعل بخلق الله ـ تعالى.
فإن
قيل : فلو كان المراد معصية ؛ فإرادته تكون معصية ؛ لأن إرادة المعصية معصية ،
وهلم جرا ؛ فالإرادة المخلوقة لله ـ تعالى ـ تكون معصية ، ولا يكون الرب ـ تعالى ـ خالقها ؛ فقد سبق الجواب عن أمثال هذا فى مسألة خلق الأفعال.
وما ذكروه آخرا ؛
فدعوى مجردة ، وتمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح على ما عرف.
كيف وأن ما ذكروه
، لازم عليهم فى الإرادة السابقة على المراد بأزمنة ؛ فإنها لا بد وأن تكون مرادة
على أصلهم كما بيناه. فما هو جوابهم ثم ؛ فهو جوابنا هاهنا.
__________________
الفصل السادس
فى تحقيق متعلق الإرادة
ذهب القاضى أبو
بكر ، والبصريون من المعتزلة : إلى أن الإرادة إذا تعلقت بقول ، أو فعل ؛ فلا بد
وأن تثبت له حالة زائدة على ذاته.
أما
فى القول : فكما لو قال
القائل لغيره : افعل. فإنه إذا أراد به الإيجاب ، أو الندب ، أو الإباحة ، أو التعجيز ، أو التسخير ، أو التأديب ، إلى غير ذلك من
المحامل ؛ فقد أفادت الإرادة قوله : افعل. إثبات حالة زائدة فى كل واحدة من هذه
الصور : وهى ما به التمايز بين هذه الجهات. وإن كان قوله : افعل. متحدا لا اختلاف
فيه.
وأما
فى الفعل : فكالسجود : فإنه
بالإرادة لله ـ تعالى ـ ثبتت له صفة الطاعة ، وبالإرادة للصنم يثبت له بها صفة المعصية. وإن كان السجود متحدا ؛ لا
اختلاف فيه إلى نظائره.
ولهذا قال الكعبى
: إن قوله : افعل ، وهو موجب ، خلاف قوله : افعل ؛ وهو نادب.
وخالفهم فى ذلك
بعض أصحابنا.
احتج
القاضى ، ومتبعوه : بأن الإرادة لا بد لها من مراد ، وأنه يستحيل وجود إرادة لا مراد لها ، كما
يستحيل وجود علم لا معلوم له ، وقدرة لا مقدور لها. ومتعلق الإرادة فى هذه الجهات
القولية ، والفعلية ، ليس هو نفس القول ، أو الفعل ، لعدم الاختلاف فيه ؛ فلم يبق
إلا أن تكون صفة زائدة عليه.
وأيضا : فإن العاقل
يجد من نفسه التفرقة بين هذه الأقوال ، والأفعال ؛ وليست التفرقة عائدة إلى ما به
الاتفاق : من القول ، أو الفعل ؛ فلم يبق إلا أن تكون عائدة إلى ما به الافتراق.
وما به الافتراق غير ما به الاتفاق ؛ وذلك هو المطلوب.
__________________
والحق
عندى فى / ذلك : أن ما ذكره القاضى فى الدلالة على أن متعلق الإرادة فى
الصور المذكورة ليس هو نفس القول ، والفعل المطلقين ؛ بل هو أمر زائد عليهما ؛ فهو مسلم لا مراء فيه ؛ لكنه إن أراد بذلك الأمر الزائد ـ الّذي
هو أثر الإرادة ـ صفة وجودية ، وحالة ثبوتية للفعل ، أو القول فى جهاته المختلفة ؛
فهو ممتنع. وإلا كانت الإرادة مؤثرة فى حدوث تلك الصفة وثبوتها ؛ ويلزم من ذلك
ثبوت أخص صفة القدرة للإرادة ، وأن تكون الإرادة قدرة ، والقدرة إرادة ؛ وهو قلب لحقيقة كل واحدة من الصفتين.
كيف : وأن القائل
: إذا بحث مع نفسه ، ونظر بعقله نظر منصف ؛ علم أن قول القائل حالة كونه موجبا ؛ كهو حالة كونه
نادبا ، وأنه ليس لأحدهما صفة ثبوتية يمتاز بها عن الآخر. وبه يبطل قول الكعبى
باختلافهما فى نفسيهما.
وإن أراد به أن
صيغة افعل المقدورة مما يجوز أن ترد للوجوب تارة ، وللندب أخرى. وأن كل واحد من
الجائزين ؛ فمتعلق القدرة من جهة حدوثه ، ووجوده ، وأن متعلق الإرادة ، تعين أحد
الجائزين لأن يوجد بالقدرة بدلا عن الآخر ، فهو الحق.
وإن أراد به غير
هذين المحملين ، فلا بد من تصويره ، وبيان وجوده ، وهو غير متصور ، ولا مبرهن.
وإذ أتينا على ما
أردناه من الأصول ، وأوردناه من الفصول ؛ فنعود إلى المقصود فى بيان أن كل كائن
مراد لله ـ تعالى ـ وما ليس بكائن ليس مرادا له.
__________________
القول فى أن كل كائن فمراد لله ـ تعالى ـ
وما ليس بكائن غير مراد الكون
مذهب
أهل الحق من أصحابنا : أن كل جائز كائن ؛ فهو مراد لله ـ تعالى ـ وأن كل جائز ليس بكائن ؛ فغير مراد الكون .
واتفقوا : على صحة
إسناد جميع الكائنات إلى إرادته جملة بقولهم : جميع الكائنات مرادة لله ـ تعالى.
واختلفوا : فى
جواز إسنادها إليه مفصلا :
فمنهم : من منع ذلك وأن يقال : الكفر ، والفسوق مراد لله ـ تعالى حذرا من تخيل السامع
أن الإرادة هى الأمر : كما ذهب إليه بعض العلماء ، وأن الكفر ، والفسوق مأمور به.
وعند توقع
الالتباس فى الإطلاق ؛ يجب التوقف فيه على ورود الشرع به ؛ ولم يرد.
وهذا كما يصح أن يقال بالإجماع ، وبالنص : الله خالق كل شيء.
ولا يقال : الله خالق المستقذرات ، والنجاسات ، والكلاب ، والخنازير ، وإن كانت من
مخلوقاته.
وكما يقال : إن كل
شيء فى العالم لله ـ تعالى ـ بالإضافة / الملكية ، ولا يقال له الزوجة والأولاد ،
وإن كان فى العالم زوجة وأولاد ، وهم مضافون إليه إضافة ملك ، وليس ذلك إلا لما
فيه من احتمال اللبس ، والتوقف على ورود الشرع بالإطلاق.
ومنهم : من جوز
ذلك وقال : إن الله مريد للكفر ، والفسوق معصية معاقبا عليه.
__________________
ومن أصحابنا : من
فصل بين قوله : إن الله يريد بالكافر الكفر ، وبين قوله : يريد منه الكفر ؛ فأجاز
الأول ، ومنع الثانى ؛ لإنبائه عن الرضا بالكفر بخلاف الأول.
وأما
المعتزلة فإنهم قالوا : ما كان من أفعال الله ـ تعالى ـ فهو مراد له ، غير إرادته الحادثة على ما
فصلنا مذهب الجبائى ، وابنه فيه .
وما كان من أفعال
العباد المكلفين ؛ فإن كان واجبا : أراد وقوعه ، وكره تركه.
وإن كان حراما :
كره وقوعه ، ولا يريد وقوعه.
وإن كان مندوبا :
أراد وقوعه ، ولا يكره تركه.
وإن كان مكروها :
كره وقوعه ، ولا يريده.
وإن كان مباحا :
فلا يريده ، ولا يكرهه.
وما كان من أفعال
غير المكلفين : كالصبيان ، والمجانين ، والبهائم ؛ فحكمها حكم الأفعال المباحة من
المكلفين.
(وأما) حجة أصحابنا فى الطرف الأول ـ وهو أن كل (جائز) كائن فمراد لله ـ تعالى ـ : هو أن كل كائن فهو مخلوق لله ـ تعالى ـ ،
وكل مخلوق لله ـ تعالى ـ ؛ فهو مراد له ؛ فكل كائن فهو مراد له.
أما بيان المقدمة
الأولى : فما مر فى الأصل الّذي قبل هذا الأصل.
وأما المقدمة
الثانية : فهو أن كل مخلوق لله ـ تعالى ـ فلا بد وأن يكون جائز الوجود ، وجائز
العدم ، وإلا كان واجبا لذاته ، أو ممتنعا ؛ وخرج عن كونه مخلوقا.
وكل جائز : فلا بد
له فى وجوده وحدوثه ، من مخصص ، وإلا كان وجود أحد الجائزين من غير مخصص ؛ وهو محال.
فإذن كل مخلوق لله
ـ تعالى ـ لا بد له من مخصص ؛ وكل ما لا بد له من مخصص ؛ فلا بد وأن يكون مرادا ؛
إذ لا مخصص غير الإرادة ؛ على ما تقدم. فكل مخلوق
__________________
لله ـ تعالى ـ مراد
، وليس مخلوقه مرادا مخصصا بإرادة غيره ، وإلا لخرج عن كونه مستندا لخلقه ؛ وهو
محال. فإذن كل كائن ؛ فهو مراد لله تعالى.
وفى الطرف الثانى
: وهو أن ما لا يكون غير مراد الكون :
فهو أن ما ليس
بكائن من الجائزات ؛ فلا بد وأن يكون الرب ـ تعالى ـ عالما بأنه لا يكون. وإلا كان
جاهلا به ؛ والجهل على الله محال كما سبق. ويلزم من علمه بأن لا يكون ؛ استحالة /
الكون ، وإلا لانقلب العلم جهلا بتقدير الكون ، والعلم باستحالة وقوع الشيء معلوم
بالضرورة ، أنه لا يريده ، ولأنه لو أراده : فإما أن يقع مراده ، أو لا يقع.
والأول : يلزم منه
انقلاب العلم جهلا.
والثانى : يلزم
منه أن يكون عاجزا قاصرا عن تحقيق مراده ، والكل على الله ـ تعالى ـ محال.
ويعضد هذه الدلائل العقلية ؛ إجماع السلف والخلف ، فى جميع
الأعمار ، والأمصار على إطلاق قولهم : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، من
غير نكير ، وهو دليل على الطرفين.
فإن
قولهم : ما شاء الله كان.
يدل على الطرف الثانى : وهو أن كل ما ليس بكائن ؛ فهو غير مراد الكون ؛ لأنه لو
كان مراد الكون ، ولم يكن ؛ فيكون على خلاف قولهم : ما شاء الله كان.
وقولهم
: وما لم يشأ لم
يكن ، دليل على الطرف الأول : وهو أن كل كائن ؛ فهو مراد الكون له ؛ لأنه لو لم
يكن مرادا له ؛ لكان كونه على خلاف قولهم : وما لم يشأ لم يكن.
فإن
قيل : لا نسلم أن كل
كائن مخلوق لله تعالى على ما سبق فى الأصلين المتقدمين. سلمنا أن كل كائن مخلوق
لله ـ تعالى ـ ولكن لا نسلم أنه لا بد وأن يكون مريدا له.
__________________
وما ذكرتموه فى
بيانه ، وإن سلم دلالته عليه ؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه من سبعة أوجه
:
الأول
: أن الكفر الواقع ،
والمعاصى الواقعة منهم منهية ، وكل منهى ؛ فهو مكروه غير مراد الكون.
أما أنها منهية :
فبالإجماع.
وأما أنها مكروهة
غير مرادة الكون : فمن وجهين :
الأول : أنه لو جمع الناهي بين قوله : أنهاك عن كذا ، وأريده منك ،
ولست كارها له منك. كان فى نظر أهل اللسان ، والعقل متناقضا.
الثانى : أن قوله
: لا تفعل : قد يرد بمعنى النهى كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى) ، (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ) . إلى غير ذلك.
وقد يرد بمعنى
التحقير كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) .
ولبيان العاقبة (كقوله
ـ تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) . وللدعاء كقوله تعالى (وَلا تُحَمِّلْنا ما
لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ) .
ولليأس كقوله : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) .
وللإشارة كقوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) .
وإنما يتميز النهى
عن غيره من المحامل بإرادة ترك الفعل ، وكراهته.
__________________
الثانى
: أن الكفر ،
والمعاصى من الكائنات ، فلو كانت مرادة لله ـ تعالى ـ لكان فاعلها بموافقته لإرادة
الله ـ تعالى ـ مطيعا. ويدل على أن موافقة المريد فيما أراد طاعة : هو أن من أفاد
إظهار الطاعة لغيره ، وقال : إنى أفعل ما تريد كما تقول : إنى أفعل / ما تأمر ؛
ولهذا قال الشاعر :
ربّ من انضجت
غيظا صدره
|
|
قد تمنّى لى
موتا لم يطع
|
أى لم يجب إلى ما
أراد ، وفيه إضافة الطاعة إلى الإرادة.
ويدل عليه من
السنة : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمه أبى طالب : «إن أطعت الله أطاعك» : أى
إن فعلت ما أراد فعل ما تريد. ويلزم من كون الكافر والعاصى ، مطيعا بكفره ومعصيته
، أن يكون مستحقا للثواب ؛ وهو باطل بالإجماع.
الثالث
: أن من جملة
الكائنات : السفه ، والظلم. فلو كان الرب ـ تعالى مريدا له ؛ لكان سفيها ظالما.
على ما يشهد به العرف. والسفيه الظالم مذموم ملام ، والرب يتعالى عن ذلك.
الرابع
: أن من الكائنات
القبائح ، وإرادة القبيح قبيحة ؛ فلو كان الرب ـ تعالى ـ مريدا للقبائح ؛ لكانت
إرادته قبيحة ؛ وهو محال.
الخامس
: هو أن الله ـ تعالى
ـ عالم حكيم. ورعاية الصلاح فى فعله واجب على ما تقدم فى التجوير ، والتعديل ، ولا
مصلحة فى إرادة الكفر والمعصية ؛ لكونه موبقا مهلكا ؛ فلا يكون مريدا له.
السادس
: أنه إذا جاز أن
يكون خالقا الكفر ، والمعصية. ثم ينهى عنه ؛ فلا مانع أن يكون خالقا له ؛ وهو غير
مريد له.
السابع
: المعارضة بالنصوص :
فمنها قوله ـ تعالى
ـ : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) والعسر من جملة الكائنات.
__________________
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) . والظلم من جملة الكائنات.
ومنها قوله ـ تعالى
ـ : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) . وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) . والعسر ، والظلم ، والفساد ، والكفر من جملة الكائنات ،
وقد دلت هذه النصوص على أنه غير مراد.
سلمنا أن كل كائن
مراد لله ـ تعالى ـ ؛ ولكن لا نسلم أن كل ما ليس بكائن غير مراد الكون.
قولكم : لا بد وأن يكون
الرب ـ تعالى عالما بأنه لا يكون ، مسلم ، ولكن لا نسلم استحالة كون ما علم الله
أنه لا يكون.
وإن سلمنا استحالة
كونه ؛ فلا نسلم استحالة إرادة ما علم الله أنه لا يقع على وفق الإرادة.
ولهذا فإن كل أحد
يريد البقاء ألف سنة ، أو أكثر ، وإن علم بالقطع بقول نبى صادق مخبر عن الله أنه لا يبقى تلك المدة.
قولكم
: ولأنه إما أن يقع
مراده أو لا يقع. لم قلتم أنه يمتنع أن لا يقع؟
قولكم : يلزم منه أن يكون عاجزا قاصرا عن تحقيق مراده.
قلنا : متى يلزم منه القصور والعجز فيما هو من فعله ، إذا لم
يقع وهو / مراد له أولى من فعله. الأول ؛ مسلم ؛ والثانى ؛ ممنوع.
ولهذا : فإن فى
الشاهد من أراد القيام ، والقعود ، وما هو من أفعاله ، ولم يتمكن منه عد عاجزا.
بخلاف من أراد من غيره القيام والقعود ، ولم يفعل ؛ فإنه لا يعد عاجزا. والّذي
نسلم أنه لا يقع من مراد الله : إنما هو فعل غيره ، لا ما هو من فعل نفسه.
__________________
وإن سلمنا إمكان
تحقيق العجز بالنسبة إلى فعل الغير : ولكن فى حق من يقدر على اضطرار ذلك الغير إلى
مراده ، أو فى حق من لا يقدر؟ الأول ؛ ممنوع. والثانى ؛ مسلم.
والإيمان من
الكافر ، وإن لم يكن من فعل الله ـ تعالى ـ فقادر على اضطراره إليه باظهار آية يظل
عنقه لها خاضعا ، على ما قال ـ تعالى ـ : (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) . وقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) : أى لجعلناهم على الهدى قسرا ، وقهرا.
والّذي يدل على
ذلك : أنه لو فاجأ زمن مقعد ضعيف لملك عظيم فى دست مملكته ، والأعوان من حوله (وأخذ يسبه ، يلعنه ). فإنا نعلم من الملك أنه لا يمنعه ذاك منه ، ولا يعد إهماله مع العلم بقدرته على ردعه ، وزجره ، عجزا
منه ، ولا قصورا.
سلمنا إمكان العجز
، والقصور مطلقا : ولكن بالنسبة إلى من يتضرر وينتفع بموافقة إرادته ومخالفتها ،
أو بالنسبة إلى من ليس كذلك. الأول ، مسلم ، والثانى ، ممنوع. والرب يتعالى ،
ويتقدس عن الاضرار ، والانتفاع ؛ فلا يعد قاصرا ، ولا عاجزا بعدم نفوذ إرادته.
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على امتناع إرادة ما لم يقع ؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه : أن الله
ـ تعالى ـ أمر بالإيمان ، والطاعة ، ويلزم من كونه مأمورا ، أن يكون مرادا لله ـ تعالى
ـ ويدل عليه وجهان :
__________________
الأول
: أنه لو جمع الأمر
بين قوله لغيره آمرك بكذا ، (ولا أريده ) منك. كان متناقضا كما عرف فى النهى.
الثانى
: أن قول القائل
لغيره : افعل. قد يرد للإيجاب كقوله ـ تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) .
والندب : كقوله ـ تعالى
ـ : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) .
والإرشاد : كقوله
ـ تعالى ـ : (فَاسْتَشْهِدُوا) .
والإباحة : بقوله
: (فَاصْطادُوا) .
والتأديب : كقوله عليهالسلام لابن عباس : «كل ممّا يليك».
والامتنان : كقوله
(كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) .
والإكرام : كقوله (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) .
والتهديد : كقوله (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) .
وللتسخير : كقوله (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) .
وللتعجيز : كقوله (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) .
والإهانة : كقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
/ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) .
__________________
وللتسوية : كقوله (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) .
والإنذار : كقوله (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) .
وللدعاء : كقول
القائل : «اللهم اغفر لى».
ولكمال القدرة
كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) .
وللتمنى كقول
الشاعر : ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلى.
وإنما تتعين
للإيجاب بإرادة المأمور به ؛ فدلّ على أنه قد يريد الإيمان من الكافر ؛ لكونه
مأمورا به ، ومع ذلك فهو غير واقع منه.
وأما ما ذكرتموه
من الاستشهاد بقول أهل الإجماع : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. فتمسك
بالإطلاقات ، والظواهر الظنيات فى القطعيات ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : فإن من مذهبكم
أن العموم لا صيغة له.
وعند ذلك : فلا
مانع من حمل هذا الإطلاق على بعض المرادات دون البعض. وإن كان ظاهرا فى العموم ؛
فهو معارض باجماع آخر ، وهو أن الإطلاق أيضا شائع ذائع بقولهم : استغفر الله مما
كره الله من غير نكير أيضا.
وذلك يدل على أن
المعاصى واقعة مع كراهية الله ـ تعالى ـ لها . ويلزم من كونه كارها لها ؛ أن لا يكون مريدا لها.
سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على أن كل كائن مراد لله ـ تعالى ـ وأن كل ما ليس بكائن ، غير مراد الكون له ؛ ولكنه معارض بما يدل على عدم ذلك.
__________________
وذلك لأنه لو كان
كما ذكرتموه ؛ فكل ما هو مراد لله ـ تعالى ـ فلا بد من وقوعه ، وما ليس مرادا لله ؛ فيمتنع وقوعه.
ويلزم من ذلك أن
يكون العبد مضطرا ، وملجأ إلى ما يفعل ، وإلى ما لا يفعل على وجه لا يتمكن من الفعل بدل الترك ، والترك بدلا
عن الفعل ؛ وهو خلاف الحس.
ويلزم منه إبطال
الأمر ، والنهى ، والثواب ، والعقاب : على الطاعات ، والمعاصى ؛ وهو خلاف الشرع ،
والدين ، وإجماع المسلمين.
والجواب :
قولهم
: لا نسلم أن كل
كائن مخلوق لله ـ تعالى ـ فدليله ما سبق فى الأصل الثانى.
قولهم : لا نسلم كونه مريدا له.
قلنا : دليله ما بيناه.
قولهم : الكفر ، والمعاصى منهى عنه ، وعنها ، مسلم.
قولهم : كل منهى مكروه غير مراد الكون.
قلنا : لا نسلم أن كل منهى غير مراد الكون ، والمكروه لله من
المنهى الواقع : إنما هو كونه معصية ، لا نفس حدوثه ؛ كما سبق فى أضداد الإرادة.
قولهم : لو قال القائل لغيره : أنهاك عن كذا ، وأريد وقوعه منك ،
ولا أكرهه ؛ كان تناقضا.
لا نسلم ذلك. وكيف
يستقيم ذلك ، والسيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده المتواعد منه بأليم
عقابه : إذا اعتذر عن ذلك / بمخالفته لنهيه فقال : انهه بين يدى. فنهاه عن فعل من الأفعال طلبا للخلاص
من عقاب السلطان ؛ فإنا نعلم أنه لا يكره منه الفعل الّذي نهاه عنه ؛ بل يكون مريدا منه أن
لا يفعل ، تحقيقا لنجاته ، وبسط
__________________
عذره. ومع ذلك يعد
العبد مطيعا : بتقدير الامتثال. وعاصيا : بتقدير المخالفة ، ويتحقق تمهيد عذر
السيد بتقدير المخالفة. ولو لا أن ما أتى به نهى ؛ لما تحقق شيء من ذلك.
قولهم : إنما يتحقق صرف قوله : لا تفعل إلى النهى دون غيره من
المحامل بكراهة الفعل المنهى عنه ؛ لا نسلم ذلك. وما المانع من الصرف
بقرينة أخرى غير ما ذكروه؟ وما المانع أن يكون الصارف القرائن الدالة على اللوم ؛
بتقدير الفعل. والثناء ؛ بتقدير الترك قصدا؟
قولهم : الكفر ، والمعاصى من الكائنات ؛ مسلم.
قولهم : لو كان مرادا لله ـ تعالى ـ ؛ لكان الكافر ، والعاصى
مطيعا بموافقته للإرادة.
قلنا : الكفر ،
والمعصية من حيث هو فعل حادث مراد لله ـ تعالى ـ لا من حيث هو كفر ، ومعصية على ما
سبق.
وعلى هذا : فلا
يلزم أن يكون الكافر بكفره ، وبمعصيته مطيعا.
وإن سلمنا أن
الكفر والمعصية مرادان : ولكن لا نسلم تحقق الطاعة بفعل المراد من حيث هو مراد ؛
بل من جهة كونه مأمورا به لظهور الأمر ، وشهرته بخلاف الإرادة ؛ إذ هى كامنة
باطنة.
ولهذا يقال فى
العرف : فلان مطاع الأمر. ولا يقال : فلان مطاع الإرادة ومنه قوله ـ تعالى ـ إنباء
عن قول موسى لهارون : عليهماالسلام (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ولم يقل إرادتى.
والّذي يدل على أن
موافقة الإرادة ليست طاعة أمور ثلاثة :
الأول
: أنه لو أراد مريد
من شخص شيئا ، فوقع المراد من فعل ذلك الشخص على وفق إرادة المريد من غير شعور
للفاعل بإرادة المريد ؛ فإنه لا يكون طاعة ، وإن تحقق ما ذكروه من موافقة الفعل
للإرادة.
__________________
الثانى
: أنه لو كان الفعل
على الإرادة طاعة للمريد ؛ لكان من أراد فعل أمر ففعله ، يكون مطيعا لنفسه بنفسه ،
وهو ممتنع. ولهذا فإنه لما كان امتثال الأمر طاعة ؛ امتنع أمر المرء لنفسه.
الثالث
: أنه لو كان موافقة
الإرادة طاعة ؛ لكان موافقة المريد فى إرادته طاعة له.
ولهذا : فإن من
أراد إظهار الخضوع لغيره لا يفرق بين قوله : إنى فاعل لما تريد ، وبين قوله : إنى
مريد لما تريد ، ولو كان كذلك ؛ لكانت إرادة الواحد / منا لموت الأنبياء ، وإنظار
ابليس طاعة لله ـ تعالى ـ لموافقة إرادة الرب ـ تعالى ـ ذلك ؛ وهو محال.
وبه يبطل ما ذكروه
من قولهم : إن من أراد إظهار الطاعة لغيره قال : إنى أفعل ما تريد.
وأما
الشعر : فبتقدير أن يكون
ممن يحتج بقوله فى اللغة ؛ فلا حجة فيه ؛ إذ المذكور فيه التمنى ، والتمنى ليس بإرادة
؛ وإلا كان الرب ـ تعالى ـ متمنيا ؛ لكونه مريدا. وموافقة المتمنى ؛ ليست طاعة
بالاتفاق.
وإن قيل : إنه
تجوز بالتمنى عن الإرادة ؛ فليس أولى من القول : بأنه تجوز به عن الأمر.
ثم وإن سلمنا أن
موافقة المريد فى إرادته طاعة : ولكن مطلقا ، أو بشرط أن يكون الآتى به قاصدا
لموافقة الإرادة. الأول ، ممنوع على ما تقدم. والثانى ؛ مسلم ؛ ولكن الكافر لا
يأتى بالكفر لقصد موافقته إرادة الرب ـ تعالى ـ فلا يكون مطيعا بذلك.
قولهم : لو كان مريدا للسفه والظلم ؛ لكان سفيها ظالما ، سبق
جوابه فى خلق الافعال.
قولهم : إن إرادة القبيح قبيحة ؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم فى
التحسين ، والتقبيح الذاتى ؛ وقد أبطلناه .
قولهم : رعاية الصلاح فى فعله واجب ؛ باطل بما سبق فى التعديل
والتجوير .
__________________
قولهم : إذا جاز أن يكون آمرا بالشيء ، وليس مريدا له ؛ جاز أن
يكون خالقا له ، ولا يكون مريدا له ؛ فهو جمع من غير دليل جامع ؛ فلا
يقبل.
كيف والفرق حاصل ؛
وذلك لأن الأمر لا يتوقف عليه وجود المأمور بخلاف الإرادة فى الاتحاد ، ضرورة كون
الحادث جائزا ، وتخصيص الحادث دون مخصص ؛ محال كما سبق.
وأما
النصوص : فقد سبق جوابها فى مسألة الإرادة .
قولهم : لا نسلم استحالة كون ما علم الله أنه لا يكون.
قلنا : لأنه لو وقع لانقلب علم البارى جهلا ؛ وهو محال. وما لزم
عنه المحال ؛ فهو محال. غير أن إحالته لا لذاته ؛ بل لغيره ، والمحال لغيره مساو
للمحال لذاته من جهة أنه لا يقع.
قولهم : لا نسلم امتناع إرادة ما علم أنه لا يقع.
قلنا : امتناع ذلك مما يعلمه كل أحد من نفسه بالضرورة.
وما ذكروه من
المثال ، فلا نسلم أنه إرادة ؛ بل هو تمن ؛ والتمنى على الله ـ تعالى ـ محال.
قولهم : العجز والقصور إنما يلزم فيما هو من فعل نفسه. لا فيما
هو من فعل غيره ؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم أن ثم خالقا غير الله ـ تعالى وفاعلا
سواه. وقد أبطلناه فى مسألة الأصل الثانى ، وبينا أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا
مبدع سواه.
قولهم : إنما يكون عاجزا : أن لو لم يكن قادرا ؛ على اضطرار
العبيد إلى ما يريد.
قلنا : الاضطرار / بطريق إظهار الآيات ، وأنواع المحرمات : إما
أن يكون مفضيا إلى الإيمان فى حق من يعرف الإله ـ تعالى ـ ، أو فى حق من لا يعرفه .
__________________
الأول : ممنوع ؛
لأن المعرفة حاصلة له ؛ وتحصيل الحاصل محال.
والثانى : أيضا
ممتنع ؛ لأن من لا يعرف الله ـ تعالى ـ لا يعلم أن المقصود من ذلك الانقياد إلى
معرفته ؛ فلا يكون مفضيا إلى المعرفة.
فإن
قالوا : بأن الله ـ تعالى
ـ يقيض له ملكا يقول له : إنك إن آمنت نجوت من هذه المهالك ، وإن أصررت على كفرك
هلكت.
فنقول : الإيمان
بالملائكة فرع الإيمان بالله ـ تعالى ـ فمن لا يصدق بالله ـ تعالى ـ ؛ فلا يكون مصدقا بالملائكة.
ثم وإن كان مصدقا
بالملائكة : فما الّذي يؤمنه أن يكون المخاطب له عفريتا ، لا ملكا.
ثم وإن سلمنا
إمكان معرفته بذلك : ولكن لا نسلم أن ظهور الآيات ، وأنواع المخوفات مما يوجب الاضطرار إلى الإيمان ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ
(وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) . وقوله ـ تعالى ـ : (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) .
ثم وإن سلمنا لزوم
الاضطرار إلى الإيمان من ظهور الآيات ، غير أن القول بالاضطرار منهم لا يصح ؛ فإن
المقصود من التكليف بالإيمان ، والطاعة عندهم : إنما هو الفوز بالنعيم المقيم ،
وإزاحة العذاب الأليم ، وذلك لا يحصل عندهم بالاضطرار ؛ بل إنما يحصل بالاختيار.
وعند ذلك :
فالتكليف بالإيمان مع عدم حصول الغرض منه ، والحكمة المطلوبة يكون قبيحا ؛ والقبيح
يستحيل صدوره من الله ـ تعالى ـ عندهم. وأما ما تمسكوا به من الآيات : فظواهر غير يقينية محتملة التأويل ، والتخصيص
، والمعارضة.
__________________
كيف وأن قوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) . وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) .
إما أن يكون ذلك
بطريق الاضطرار ، أو لا بطريق الاضطرار.
فإن كان بطريق
الاضطرار ؛ فهو قبيح عندهم على ما سبق.
وإن كان لا بطريق
الاضطرار ؛ فلا يكون الإيمان لازما.
وعلى هذا فقد خرج
الجواب عما ضربوه من مثال الملك.
قولهم : إنما يوصف بالنقص ، والقصور من يتضرر ، وينتفع.
قلنا : فيلزم على نفوذ ما قالوه أن لا يوصف الرب ـ تعالى ـ بالنقص
، والقصور بتقدير عدم نفوذ إرادته فى أفعاله ؛ وهو محال.
ويلزم أيضا أن لا
توصف الجمادات بالنقص نظرا إلى ما فاتها من كمالات الحيوانات ؛ لعدم تضررها /
وانتفاعها ؛ وهو أيضا ممتنع.
قولهم : يلزم من كون الإيمان مأمورا أن يكون مرادا ، (فقد بينا إبطال ) ملازمة الإرادة للأمر فى مسألة الكلام ،
وما ذكروه فى
التقرير من الوجهين ؛ فجوابهما على ما عرف فى النهى.
قولهم : ما ذكرتموه من الإجماع فأمر ظنى.
قلنا : وإن كان ظنيا ؛ فلم نذكره للاستدلال ؛ بل إنما ذكرناه لبيان أن ما ذكرناه على وفق
الدين ، وإجماع المسلمين ؛ بخلاف ما ذكروه.
قولهم : العموم عندكم لا صيغة له.
__________________
قلنا : بمعنى أنه ليس ثم صيغة يقتضي مجردها العموم ، مع قطع النظر عن القرائن ، والقرائن فيما نحن فيه
متضافرة على إرادة العموم من قولهم : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. فإنهم
إنما يوردون ذلك فى معرض التعظيم لله ـ تعالى ـ وإعلاء شأنه ـ ولا يمكن أن يقال
بتحقيق هذا المعنى بنفوذ مشيئته فى أفعاله دون أفعال العباد ؛ إذ الواحد منا أيضا
بهذه المثابة ، ولا فائدة فى تخصيص الرب ـ تعالى بذلك.
وما ذكروه من
المعارضة بقولهم : استغفر الله مما يكره الله ؛ فيجب حمله على المنهى عنه لا على
ما يناقض الإرادة ؛ فإن تسمية المنهى مكروها ، شائع ؛ وهو الأولى. جمعا بين
الدليلين ؛ فإنه أولى من تعطيل أحدهما.
قولهم : ما ذكرتموه يلزم منه أن يكون العبد مضطرا إلى آخر ما
ذكروه.
قلنا : هذا لازم عليكم فى العلم ؛ فإن ما علم الله وقوعه ؛ لا
بد من وقوعه ، وما علم عدمه ؛ فلا بد من عدمه. وقد يخرج العبد بذلك عن الاختيار
كما قلتم فى الإرادة.
وما هو الجواب فى
العلم ، هو الجواب فى الإرادة ، والله أعلم.
__________________
النوع السابع
فى أسماء الله الحسنى
ويشتمل على ثلاثة
فصول :
الأول : فى الاسم
، والتسمية (والمسمى)
الثانى : فى جواز
مأخذ تسميات الأسماء الحسنى.
الثالث : فى معانى
أسماء الله الحسنى.
__________________
الفصل الأول
فى الاسم ، والتسمية ، والمسمى.
اتفق
العقلاء : على المغايرة بين
التسمية ، والمسمى ، واختلفوا فى الاسم.
مذهب
الأكثر من أصحابنا ، والجم
الغفير : إلى أن التسمية :
هى نفس الأقوال الدالة. والاسم : هو نفس المدلول.
وسواء كان المدلول
وجودا ، أو عدما ؛ خلافا لشذوذ من أصحابنا فى قوله : إن قول القائل : معدوم. تسمية
لا مسمى لها ؛ لظنه أن الاسم لا يكون إلا ثبوتيا.
ثم اختلف هؤلاء فى
الاسم : هل هو نفس المسمى ، أم لا؟
فقال
بعضهم : كالأستاذ أبى بكر بن فورك ، وغيره : أن كل اسم ؛ فهو المسمى بعينه ، وأنه / إذا قال القائل :
الله. فقوله : دال على اسم هو المسمى بعينه.
وإذا قال : الله
عالم ، أو خالق. فقوله : دال على الرب الموصوف بكونه عالما ، وخالقا.
وقال
بعضهم : الأسماء منقسمة :
فمنها : ما هو (عين)
المسمى : كالموجود ، والذات.
ومنها : ما هو غير
المسمى : ككون البارى ـ تعالى ـ خالقا ، وفاعلا ؛ فإن المسمى بكونه خالقا ، وفاعلا
هو ذاته ، والاسم هو نفس الفعل ، والخلق ، وفعله ، وخلقه ؛ غير ذاته.
ومنها : ما ليس هو
نفس المسمى ، ولا غيره : كاتصاف الرب ـ تعالى ـ بصفاته النفسانية : ككونه عالما ،
وقادرا ، ونحوه ؛ فإن المسمى ذاته ، والاسم ؛ علمه ، وقدرته. وعلمه ، وقدرته ليس
نفس ذاته ولا غيرها ؛ كما سبق فى الصفات.
__________________
وذهبت
المعتزلة : إلى أن الاسم :
هو التسمية. ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا.
وذهب
الأستاذ أبو نصر بن أبى أيوب : إلى أن الاسم مشترك بين التسمية والمسمى ، وأنه قد يرد تارة
، ويراد به التسمية ، وتارة ويراد به المسمى. فما قام الدليل فيه على عود الاسم إلى التسمية دون المسمى وبالعكس ؛ وجب اتباعه ؛ وإلا تعينا
على الوقف ؛ وهو قريب من مذهب أهل اللغة.
احتج أصحابنا على
أن الاسم غير التسمية : بالنصوص ، واللغة ، والإجماع.
أما
النصوص : فقوله ـ تعالى ـ :
(سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) : أى ربك ؛ لاستحالة كون الأقوال الدالة عليه مسبحة.
وأيضا : قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) والمراد به تبارك ربك ؛ لاستحالة اتصاف التسمية بذلك.
وأيضا : قوله ـ تعالى
ـ : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) . والمراد به الأصنام ، لا نفس الأقوال الدالة عليها ؛
فإنهم ما كانوا يعبدون أقوالهم.
وأيضا : قوله ـ تعالى
ـ : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) والمراد به ذكر الله لا نفس التسمية ؛ إذ التسمية هى نفس الذكر ؛ فلو أراد بالاسم نفس الذكر ؛ لكان معناه : ولا
تأكلوا مما لم يذكر (ذكر الله عليه) ؛ وهو ممتنع.
وأما
فى اللغة : فمن وجهين :
__________________
الأول
: قول سيبويه : «الأفعال أمثلة أخذت من لفظ إحداث الأسماء» والإحداث :
إنما يتصور من المسميات لا من الأقوال.
الثانى
: قول لبيد
أتى الحول ثمّ
اسم السّلام عليكما
|
|
ومن يبك حولا
كاملا فقد اعتذر.
|
والمراد من قوله.
فاسم السلام : نفس السلام ، الّذي هو متبادر إلى الفهم عند إطلاق السلام.
وأما
الإجماع : فهو أن الأمة من
المسلمين مجمعة قبل ظهور هذا الخلاف على أن الأسماء الحسنى كانت لله ـ تعالى ـ فى أزله ، ولو كانت / الأسماء
هى التسميات : أى الأقوال الدالة ، والعبارات ؛ لكانت العبارات الدالة قديمة ،
ولما كانت الأسماء الحسنى قديمة ؛ وكل واحد من الأمرين ممتنع.
وأيضا : فإن أرباب العقول متفقون على أن المسميات لها أسماء ، وإن سكت المسمون عن
التسميات ، والأقوال الدالة.
وإذا ثبت أن الاسم
مغاير للتسمية ؛ فيمتنع أن يكون الاسم هو المسمى مطلقا ؛ بل لا بد من التفصيل الّذي ذكرناه ؛ لأنا نعلم
بالاضطرار اختلاف المدلولات فى قول القائل : الله. وفى قوله : الله عالم ، والله
خالق. وأن كل واحد منهما ينبئ عن معنى مغاير لما أنبأ عنه القول الآخر ؛ وذلك مع
اتحاد المسمى ممتنع.
__________________
وعلى هذا : فكل
تسمية من حيث إنها صفة للقائل بها اسم لا يدخله الصدق ، ولا الكذب ، وإن دخلها ذلك
من جهة كونها تسمية ، وليس كل اسم تسمية ؛ فإن العلم اسم لمن هو صفة له ، وليس
تسمية ؛ لأنه ليس بقول دال. ولو قال الله ـ تعالى ـ : كلامى صدق ؛ فالاسم ،
والتسمية فيه ، والمسمى واحدا ؛ إذ التسمية كلامه ، وهو الاسم المدلول ، وهو
المسمى ولو قال تعالى : أنا الله ؛ فالاسم هو المسمى. والتسمية كلامه ؛ وليست عين
المسمى ، ولا غيره.
ولو قال ـ تعالى ـ
: أنا العالم ؛ فالتسمية قوله والاسم علمه ، والمسمى ذاته ؛ وليس كل واحد من
التسمية ، والاسم ، والمسمى هاهنا هو عين الآخر ، ولا غيره.
ولو قال ـ تعالى ـ
: أنا الخالق ؛ فالتسمية قوله ، والمسمى ذاته ؛ وليست التسمية هاهنا عين المسمى ،
ولا غيره. والاسم هو (الخالق) ؛ وهو غير التسمية والمسمى.
ولو قال الواحد
منا : الله ، أو قال : الله عالم ، أو الله خالق ؛ فالتسمية هى قول الواحد منا.
وهى غير الاسم ، والمسمى فى جميع هذه الصور.
وفى الصورة الأولى
: الاسم هو المسمى.
وفى الثانية :
الاسم ليس هو عين المسمى ، ولا غيره.
وفى الثالثة :
الاسم هو غير المسمى.
فإن
قيل : المراد من النصوص
المذكورة : إنما هو المسمى ، بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، كما
فى قوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) . أى أهل القرية على ما سبق تحقيقه. وعليه يجب حمل كلام
سيبويه. ودليل التأويل ما سنذكره عن قرب.
__________________
والمراد بالسلام
فى قول لبيد : إنما هو الله ـ تعالى ـ ؛ إذ / السلام من أسمائه على ما يأتى :
وأما الإجماع على
الأسماء الحسنى فى الأزل ؛ ( فلا يمكن ) التمسك به.
أما على أصلكم :
فإنه وان تعذرت الأقوال الحادثة أزلا ؛ فالأقوال القديمة غير متعذرة عندكم ، فما
المانع من أزلية الأسماء ؛ لأزلية الأقوال القديمة عندكم؟
وأما عندنا :
فلانه يجب الحمل على أن الأسماء الحسنى كانت له فى الأزل بالقوة ، والإمكان.
وعليه : يجب حمل
اتفاق العقلاء على الأسماء ، وإن سكت المسمون.
ويدل عل ما ذكرناه
من التأويل فى جميع ما ذكرتموه أمور ثلاثة :
الأول
: هو أن الاسم فى
اللغة مأخوذ من السّمة : وهى العلامة ؛ وذلك إنما يتحقق فى الأقوال الدالة ؛ دون
المدلولات.
الثانى
: أنه لو كان الاسم
هو المسمّى ؛ للزم تعدد الإله ـ تعالى ـ ؛ ضرورة تعددها ، وانعقاد الإجماع على
تعدد الأسماء ، وأنها تسعة وتسعون اسما ؛ والتعدد فى الله تعالى ـ محال.
الثالث
: أنه لو كان الاسم
هو المسمى ؛ لكان المسمى للنار عاما عليها ؛ وهو محال.
والجواب :
أما ما ذكروه على
النصوص ، وقول سيبويه : فراجع إلى الإضمار فى الكلام ما ليس فيه ؛ وهو ممتنع إلا
لضرورة ولا ضرورة ؛ فإنا سنبطل ما يذكرونه من دليل التأويل.
وأما حمل السلام
فى قول الشاعر على الله ـ تعالى ـ فبعيد ؛ لما حققناه من أن السلام المعهود هو
المتبادر إلى الفهم من لفظ السلام عند الإطلاق ؛ فلا بد له من دليل.
__________________
قولهم : ما المانع على أصلكم من قدم الأسماء ؛ لقدم الأقوال
الربانية؟
قلنا : نحن إنما ذكرنا الإجماع من هذا الوجه بطريق الإلزام على
الخصوم ، وهم لا يعتقدون قولا قديما ، لا أنا ذكرناه استدلالا على ما نعتقده.
وما ذكروه من
الحمل على القوة ، والإمكان ؛ فتأويل لا بد له من دليل. وكذلك القول فى تأويل
إجماع العقلاء.
وما ذكروه من
الدليل الأول فى التأويل : فمما لا يدل على اختصاص الاسم بالسّمة ؛ فإن سمة كل شيء
، وعلامته خصوص تعينه ؛ وذلك متحقق فى مدلول اللفظ .
وأما الدليل
الثانى : فإنما يلزم من اعتقد كون الأسماء متعددة ، والمسمى واحدا.
وأما من قال بأن
المسميات متعددة بتعدد الأسماء ، وأنها منقسمة : إلى أسماء ذات ، وأسماء صفات ،
وأسماء أفعال ؛ فلا ؛ لكن يلزم على هذا القائل إشكال مشكل ؛ وهو أن هذا وإن ساعد
فى أسماء الذات ، والصفات ، / والأفعال ؛ فغير مساعد فى أسماء الذات مع تعددها ،
واتحاد الذات ؛ وذلك يجوز تسميته ذاتا موجودا إلها ؛ ولا جواب له إلا باعتقاد عدم تعدد أسماء الذات مع اتحادها ، وإعادة كل
اسم إلى صفة زائدة على نفس الذات كما ذكره القاضى أبو بكر ، أو أن التعدد فى
التسمية ؛ لا فى الاسم.
وأما الدليل
الثالث : فإنما يلزم أن لو كان الاسم هو القول الدال ؛ وهو المسمى ؛ وليس كذلك على
ما حققناه.
__________________
الفصل الثانى
فى مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى
وليس مأخذ الجواز
فى ذلك دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا ، وإلا كان تسمية الرب ـ تعالى ـ بكونه فقيها ، وعاقلا مع صحة معانى هذه التسميات فى حقه ؛ وهى العلم ، (والعقل ) ، والفقه ؛ أولى من تسميته : بالمكر ، والخديعة ، والكيد
، والوكيل مع إشكالها فى ظواهرها ؛ بل مأخذ ذلك : إنما هو : الإطلاق ، والإذن من
الشارع. فكل ما ورد الإذن من الشارع به ؛ جوزناه ، وما ورد المنع منه ؛ منعناه ،
وما لم يرد فيه إطلاق ، ولا منع :
فقد قال بعض
أصحابنا ؛ بالمنع منه ؛ وليس القول بالمنع مع عدم ورود المنع منه ؛ أولى من القول
بالجواز ؛ مع عدم ورود التجويز ؛ إذ المنع والتجويز ، حكمان ، وليس إثبات أحدهما
مع عدم دليله ؛ أولى من الآخر ؛ بل الحق فى ذلك الوقف. وهو أنا لا نحكم بجواز ،
ولا منع. والمتبع فى ذلك من الظواهر الشرعية ما هو المتبع فى سائر الأحكام ، وهو
أن يكون ظاهرا فى دلالته ، وفى صحته.
ولا يشترط فيه
القطع ، كما ذهب إليه بعض الأصحاب ، لكون التجويز والمنع ، من الأحكام الشرعية ،
وأن التفرقة بين حكم ، وحكم فى اشتراط القطع فى أحدهما دون الآخر ؛ تحكم لا دليل
عليه.
فإن
قيل : تسميات أسماء
الصفات ، وإن كان مفيدا. إلا أن ما ورد من تسميات الذات فغير مفيد ؛ لأن المقصود
من التسمية : إنما هو التعريف ، والتعريف بها لنفس الذات ؛ غير ممكن.
أما بالنسبة إلى
الله ـ تعالى ـ : فلأن علمه بذاته ، وبغيرها ؛ غير متوقف على تسمية ، ولا غيرها من
التعريفات ، وإلا كان بتقدير عدم ذلك المعرف جاهلا ؛ وهو محال.
__________________
وأما بالنسبة إلى
الواحد منا ؛ فلأن معرفة حقيقة ذات الإله غير ممكنة له على ما سبق فى مسائل الصفات.
قلنا : ما ذكرتموه ، فمبنى على وجوب رعاية الغرض ، والمصلحة / فى أفعال الله ـ تعالى ـ وقد سبق بطلانه .
وإن سلمنا ذلك :
ولكن لا نسلم أن معرفة حقيقة ذات الإله غير ممكن على ما سبق فى مسائل الصفات.
__________________
الفصل الثالث
فى معانى أسماء الله ـ تعالى ـ
والأسماء الحسنى
تسعة وتسعون اسما .
١ ـ أولها : الله
: وهو من الأسماء الخاصة بذاته لا يوصف به غيره ـ تعالى ـ وقد اختلف فيه.
فذهب ذاهبون : إلى
أنه اسم علم للذات ، لا اشتقاق له .
وذهب ذاهبون : إلى
أنه مشتق ؛ إذ الأصل فيه : إله ، غير أنه دخلت عليه اللام للتفخيم والتعظيم ،
فقالوا : الإله.
ولما كان استعمال
ذلك غالبا ، والهمزة مستقلة ، حذفوا الهمزة ، وأدغموا لام التعظيم فى اللام الأخرى
فقالوا : الله.
ومنهم من قال :
الأصل فيه لاه. غير أنهم أدخلوا عليه لام التعظيم فقالوا : الله.
__________________
ثم أختلف هؤلاء فى
جهة اشتقاقه :
فمنهم من قال :
إنه مأخوذ من التأله ؛ وهو التعبد.
ومنهم من قال :
إنه مأخوذ من الوله ؛ وهو الحب .
وقيل معنى الإله :
هو القادر على الخلق ؛ فيرجع حاصله إلى صفة القدرة.
وقيل : هو الّذي
لا يكون إلا ما يريد.
وقيل : هو الغالب
الّذي لا يغلب.
وقيل : هو الّذي
لا يصح التكليف إلا منه.
وحاصل هذه الوجوه
يرجع إلى صفة فعلية ، وسلبية.
٢ ـ ٣ ـ الرّحمن.
الرّحيم
معناهما مريد
الإنعام على الخلق ؛ فيرجع حاصلهما إلى صفة الإرادة ؛ وهما بمنزلة الندمان ،
والنديم.
والرحمن : من
الأسامى المختصة بالله ـ تعالى ـ دون غيره ؛ بخلاف الرحيم.
وقال ابن عباس :
الرّحمن لخلقه جميعا ، والرّحيم للمؤمنين خاصة.
وقيل : الرّحيم
لأهل الدنيا. والرّحمن لأهل الآخرة.
وقيل : الرّحمن
يرحم خلقه. والرّحيم هو العطوف بالرزق على عباده.
٤ ـ الملك
قيل معناه : أنه
يعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويستحيل عليه الإذلال ؛ وحاصله راجع إلى صفة فعلية ؛ وسلبية.
وقيل : هو الملك
السالب ؛ فيرجع حاصله إلى صفة فعلية.
__________________
وقيل : هو الّذي
يولى ، ويعزل ؛ ولا يتصور عليه تولية ، ولا عزل ؛ وهو أيضا راجع إلى صفة فعلية ،
وسلبية.
وقيل : هو المنفرد
بالعز ، والسلطان : أى متصف (بهما) دون غيره.
والعز : هو القدرة
على ما يأتى ؛ فيرجع حاصله إلى صفة القدرة ، وصفة سلبية.
وقيل : هو ذو
الملك / والملك خلقه.
وعلى هذا :
فتسميته بالملك إنما يصح فيما لا يزال ، لا فى الأزل.
وقال القاضى أبو
بكر : هو القادر.
وعلى هذا : فيعود
إلى صفة القدرة ، ويكون مسمى بالملك فى الأزل ؛ لكونه قادرا أزلا ، والجواهر فى
حال بقائها ، وإن لم تكن مقدورة الإيجاد ؛ فلا تخرج عن كونها مملوكة باعتبار
القدرة على إبقائها ، إما بخلق البقاء لها ، أو بخلق الأعراض التى لا يتم بقاء
الجواهر إلا بها.
٥ ـ القدّوس
قيل معناه : إنه
البريء من المعايب ؛ فيكون صفة نفى.
وقيل : هو الّذي
له الكمال فى كل وصف اختص به.
وقيل : هو الّذي
لا تحدّده الأوهام ، ولا تصوّره الأبصار ؛ فيكون صفة سلبية.
٦ ـ السّلام
قيل معناه : ذو
السلامة عما يستحيل عليه من النقائص ؛ فيكون صفة سلبية.
وقيل : هو ذو
السلم : أى أن السلامة به ، ومنه ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل : بل معناه
إنه يسلم على خلقه. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) ؛ فيكون صفة كلامية.
__________________
٧ ـ المؤمن
قيل معناه :
المصدّق لنفسه ورسله ، فيما أتوا عنه فى تبليغهم : إما بالقول ؛ فيكون صفة كلامية ، أو بخلق
المعجزة ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل معناه : أنه
يؤمّن عباده من الفزع الأكبر : إما بأن يخلق لهم الطمأنينة من ذلك ؛ فيرجع إلى صفة
فعلية ، أو بأن (يخبرهم) بالأمن من ذلك ؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
وقيل معناه : إن
الحقائق منكشفة له ؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل معناه : إن
القول قوله ، لا خلاف عليه ؛ فيرجع إلى صفة كلامية ، وسلبية.
وقيل معناه :
استحالة الزوال عليه ؛ فيكون صفة سلبية.
٨ ـ المهيمن
قيل معناه :
الشاهد. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) : أى شاهدا عليه. ومنه قول الشاعر :
إنّ الكتاب
مهيمن لنبيّنا
|
|
والحقّ يعرفه
ذوو الألباب
|
لكن من الأئمة من
فسر كونه شهيدا بمعنى كونه عالما ؛ فيرجع إلى صفة العلم.
ومنهم من فسره
بالقول المصدق ؛ فيرجع إلى صفة الكلام.
وقيل معنى المهيمن
: الأمين : أى الصادق فى قوله :
وقيل معناه :
الحفيظ ؛ وسيأتى شرحه .
__________________
٩ ـ العزيز
هو الّذي لا يرام .
وقيل : هو الّذي
لا يخالف فى مراده.
وقيل : هو الّذي
لا يخوف / بالتهديد.
وقيل : هو الّذي
لا يحط عن منزلته.
وقيل : هو الّذي
لا مثل له.
وقيل : هو الّذي
لا يحد بحد.
وقيل : هو الّذي
لا يصح عليه نقص ؛ وحاصل الكل يرجع إلى صفات سلبية.
وقيل : هو الّذي
يعذب من أراد.
وقيل : هو الّذي
عليه ثواب العاملين ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل : هو القادر
، والعزة هى القدرة. ومنه المثل قولهم : من عز بز .
وقال ـ تعالى ـ : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : أى قومنا ، وأيدنا ؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
١٠ ـ الجبّار
قيل هو مأخوذ من
الجبر ، وهو الإصلاح. ومنه يقال : جبرت العظم ، فانجبر.
وقيل : هو الحامل
لخلقه على ما يريد.
وقيل : هو المنيع
الّذي لا ينال. ومنه يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدى جبارة.
وقيل : هو الّذي
لا يخبو عند التقدير ، ولا يشفق عند البذل.
__________________
وقيل : هو الّذي
لا يتمنى ما لا يكون ، ولا يتلهف على ما لم يكن.
وقيل : هو الّذي
لا يناقش فى فعله ، ولا يطالب بعلة ؛ ولا يحجر عليه فى مقدور.
وقيل : هو الّذي
لا يجب عليه شيء.
وقال ابن عباس :
هو العظيم ، والعظيم : هو ما انتفت عنه جميع صفات النقص.
وحاصل الجميع يرجع
إلى صفات سلبية.
وقيل : معنى
العظيم : هو ما ثبت له جميع صفات الكمال ، وانتفت عنه جميع صفات النقص ؛ وذلك
مشتمل على الصفات النفسانية ، والفعلية ، والسلبية.
١١ ـ المتكبّر :
قيل معناه ما قيل فى معنى العظيم.
١٢ ـ الخالق : وهو
المختص باختراع الأشياء.
١٣ ـ البارئ : فى
معنى الخالق.
١٤ ـ المصوّر :
وهو المختص بابداع التركيب ، وكل ذلك من صفات الفعل.
١٥ ـ الغفّار :
معناه المريد لإزالة العقوبة بعد استحقاقها ؛ وهو راجع إلى صفة الإرادة.
١٦ ـ القهّار :
ومعناه الغالب الّذي لا يغلب ؛ وهو صفة سلبية ، وفعلية.
١٧ ـ الوهّاب :
وهو المختص بكثرة العطاء ؛ وهو صفة فعلية.
١٨ ـ الرّزّاق :
وهو المختص بعطية ما يقوت ويدفع التلف ؛ وهو صفة فعلية.
١٩ ـ الفتّاح :
قيل معناه :
المختص بتيسير ما يعسر ؛ فيكون صفة فعلية.
__________________
وقيل : هو الحاكم.
ومنه قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) : أى احكم ثم الحكم قد يكون بالقول ، والإخبار ، وقد يكون بالقضاء ، والقدر.
فالأول : يرجع إلى
صفة كلامية.
والثانى : / يرجع
إلى القدرة ، والإرادة :
وقيل : الحاكم هو المانع. ومنه يقال : حكم اللجام لمنعها من جماح الدابة ، وهو راجع إلى صفة فعلية.
وقيل : معنى
الفتاح ، خالق الفتح ؛ وهو النصر. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ
الْفَتْحُ) معناه : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ؛ وهو أيضا راجع إلى
صفة فعلية.
٢٠ ـ العليم :
ومعناه العالم بجميع المعلومات ؛ وهو صفة علمية.
٢١ ـ القابض : وهو
المختص بالسلب.
٢٢ ـ الباسط : وهو
المختص بالتوسعة ، والمنح ، وهما صفتان فعليتان.
٢٣ ـ (الخافض ) : ومعناه دافع البلية ، وهو صفة فعلية.
٢٤ ـ الرّافع :
معناه المعطى للمنازل ؛ وهو صفة فعلية.
٢٥ ـ المعزّ :
ومعناه معطى القوة ؛ وهو صفة فعلية.
__________________
٢٦ ـ المذلّ :
ومعناه الموجب لحط المنزلة ؛ وهو صفة فعلية.
٢٧ ـ ٢٨ ـ السّميع.
البصير : أى هو ذو سمع وبصر.
٢٩ ـ الحكم :
معناه الحاكم. وقد سبق تفسيره.
٣٠ ـ العدل :
معناه أنه لا يقبح منه ما يفعل ؛ فهو صفة سلبية.
٣١ ـ اللّطيف :
قيل معناه : خالق اللطف ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل : هو العليم
بالخفيات ؛ فيرجع إلى صفة العلم.
٣٢ ـ الخبير : قيل
معناه : العليم ، وقيل معناه : المخبر.
فالأول : صفة
علمية ، والثانى : صفة كلامية.
٣٣ ـ الحليم : قيل
معناه : أنه الّذي لا تستفزه زلات العصاة بتعجيل العقاب عليها قبل
وقتها المقدر ؛ فيكون صفة سلبية.
٣٤ ـ العظيم : وقد
سبق معناه .
٣٥ ـ الغفور :
ومعناه مريد إزالة العقوبة بعد استحقاقها.
٣٦ ـ الشّكور :
قيل معناه :
المجازى على الشكر. وقيل معناه : المثيب على القليل من الطاعة بالكثير من نعمه.
وعلى التقديرين
يرجع حاصله إلى صفة فعلية.
وقيل معناه : أنه
المثنى على من تمسك بطاعته ؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
٣٧ ـ العلىّ :
ومعناه معنى المتكبر ، وفى معناه ..
٣٨ ـ الكبير :
أيضا.
__________________
٣٩ ـ الحفيظ :
قيل معناه :
العليم ؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل : هو الّذي
لا يشغله شيء عن شيء ؛ فيرجع إلى صفة سلبية.
وقيل : هو الّذي
يبقى ما يريد ابقاءه ؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
٤٠ ـ المقيت :
قيل معناه : خالق
الأقوات : وقيل هو المقدر ؛ وحاصلهما يرجع إلى صفة فعلية.
وقيل معناه :
الشهيد وهو العالم بالحاضر ، والغائب ؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل : / هو
المقتدر ؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
٤١ ـ الحسيب :
قيل معناه :
الكافى. يخلق ما يكفى العباد فى مهماتهم ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل هو المحاسب
بإخباره للمكلفين عما فعلوه من خير وشر ؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
٤٢ ـ الجليل :
ومعناه معنى المتكبر ، كما سبق.
٤٣ ـ الكريم :
قيل معناه :
الجواد ؛ فيكون صفة فعلية ؛ إن قيل : الجواد : هو ذو الجود ، أو صفة القدرة ، إن
قيل : الجواد : هو المقتدر على الجود.
وقيل : هو العلى
الرتبة ، ومنه يقال : كرائم المواشى لنفائسها ؛ وقد سبق تفسير العلى. وقيل : هو
الّذي يعفو عن الذنوب ، وسيأتى شرح العفو.
٤٤ ـ الرّقيب :
ومعناه الحفيظ ، وقد سبق تفسيره.
٤٥ ـ المجيب : قيل
معناه : الّذي يجيب الأدعية.
__________________
وقيل : هو الّذي
يسعف الداعى بما أراد.
والأول : يرجع إلى
صفة كلامية ، والثانى : إلى صفة فعلية.
٤٦ ـ الواسع : قيل
معناه : العالم ، وقيل معناه : الغنى. وقيل معناه : الكافى للخلق ، والأول : صفة
علم ، والثانى : صفة سلب ، والثالث : صفة فعل.
٤٧ ـ الحكيم : قيل
معناه : الحاكم ، وقد سبق تفسيره. وقيل معناه : العليم ، وهو صفة علمية. وقيل : هو
المحكم المتقن للأشياء ؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
٤٨ ـ الودود : قيل
معناه : المودود : كالحلوب ، والركوب بمعنى المحلوب ، والمركوب ؛ وهو المحبوب.
وقيل هو الواد : أى المحب ، ومعنى كونه محبا ثناؤه على المطيع فى الدنيا ، وثوابه
له فى الأخرى ؛ فيرجع إلى صفة فعلية ، وكلامية.
٤٩ ـ المجيد : قيل
معناه : الحميد الأفعال. وقيل معناه : الكثير الأفضال. ومنه قول العرب :
مجدت الإبل إذا صادفت مرعا خصيبا ؛ فيكون راجعا على التفسيرين إلى صفة فعلية. وقيل : هو الّذي لا يشارك فيما له من أوصاف
المدح لغيره ؛ فيكون صفة سلبية.
٥٠ ـ الباعث :
معناه المعيد.
٥١ ـ (الشّهيد) : ومعناه : العالم بالحاضر ، والغائب ؛ فهو صفة علمية.
__________________
٥٢ ـ الحقّ :
قيل معناه :
الموجود الواجب لذاته : أى لا يفتقر فى وجوده إلى غيره ؛ فيرجع إلى صفة سلبية.
وقيل معناه :
المحق : أما الصادق فى القول.
وقيل : هو مظهر
الحق ؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
وقيل : معنى الحق العدل ؛ وهو صفة فعلية.
٥٣ ـ الوكيل / :
قيل معناه :
الكفيل : أى المتكفل بحاجات الخلق ؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل : هو الموكول
إليه فى أمر الخلق.
٥٤ ـ القوى :
معناه : المتمكن من كل مراد القادر عليه ؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
٥٥ ـ المتين :
معناه : نفى النهاية فى القدرة ؛ وهى صفة نفسية ، وسلبية.
٥٦ ـ الولىّ :
ومعناه الحافظ للولاية.
٥٧ ـ الحميد :
معناه المحمود.
٥٨ ـ المحصى :
قيل معناه :
العالم. وقيل : هو القادر ، ومنه قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ) : أى لن تطيقوه.
وقيل : هو المنبئ عن عدد كل معدود.
فالأول : يرجع إلى
صفة العلم ، والثانى : إلى صفة القدرة : والثالث : إلى صفة الكلام.
٥٩ ـ المبدى : وهو
المختص بإبداء الفضل ؛ فهو صفة فعلية.
__________________
٦٠ ـ المعيد :
معناه المختص بإعادة الخلق ؛ وهو صفة فعلية.
٦١ ـ المحيى :
معناه : خالق الحياة ؛ فيكون صفة فعلية.
٦٢ ـ المميت :
ومعناه خالق الموت ؛ وهو صفة فعلية.
٦٣ ـ الحىّ : ظاهر
، وهو صفة نفسية.
٦٤ ـ القيّوم :
قيل معناه :
الدائم الباقى. وقيل معناه : إقامة التدبير فى العالم.
فالأول : صفة ذات
، والثانى : صفة فعل.
٦٥ ـ الواجد :
قيل معناه : أنه
الغنى الّذي لا يفتقر ، ومنه قوله ـ تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) . وقيل : هو العالم.
والأول : صفة
سلبية ، والثانى : صفة ذاتية .
وقيل : هو المختص
بإيجاد ما يرزق ؛ فهو صفة فعلية.
٦٦ ـ الماجد :
قيل معناه :
المرتفع العالى. وقيل : هو المختص بالولاية ، والتولية.
فالأول : صفة
ذاتية ، والثانى ، صفة فعلية.
٦٧ ـ الأحد : سبق
تفسيره فى إثبات الوحدانية .
٦٨ ـ الصّمد : قيل
معناه : السيد ، ومنه قول الشاعر :
ألا بكر الناعى
يخبر بنى أسد
|
|
بعمرو بن مسعود
وبالسيد الصمد
|
ثم قيل : السيد هو
المالك. وقيل : هو الحليم. وقيل : هو العالى الدرجة. وقيل : هو المدعو المسئول.
وقيل معنى الصمد : هو الّذي لا جوف له ؛ فيكون صفة سلبية.
__________________
والأول : صفة
نفسية ، وقيل : معنى الصمد أنه الّذي لم يزل.
٦٩ ـ ٧٠ ـ القادر.
المقتدر : معناهما ظاهر ، وهو إثبات القدرة ؛ (فهما صفتان نفسيتان) .
٧١ ـ ٧٢ ـ المقدّم.
المؤخّر : (معناهما) المختص بتقديم من يشاء ، وتأخير من يشاء.
٧٣ ـ ٧٤ الأوّل.
الآخر : معناهما : أنه أزلى ، ولا يزال ، وأنه قبل كل شيء ، وليس قبله شيء ، وبعد
كل شيء ، وليس بعده شيء ، وهما صفتان سلبيتان.
٧٥ ـ الظّاهر :
قيل / معناه : القاهر ، والغالب. ومنه يقال : ظهر فلان على فلان ، إذا قهره ؛
فيكون صفة فعلية. وقيل : هو المعلوم بالأدلة القاطعة.
٧٦ ـ الباطن : قيل
معناه : المحتجب عن حواس خلقه بحيث لا يدركونه فى الدنيا ؛ فيكون صفة سلبية. وقيل
: هو العالم بخفيات الأمور ؛ فيكون صفة نفسية.
٧٧ ـ الوالى :
معناه : المالك لكل شيء ، والقادر عليه ؛ فيعود إلى صفة نفسية.
٧٨ ـ المتعالى :
ويقرب معناه من العالى ؛ وقد سبق تفسيره .
٧٩ ـ البرّ :
معناه : البار : أى فاعل البر : وهو الإحسان إلى الخلق ؛ وهو صفة فعلية.
٨٠ ـ التّوّاب :
معناه : أنه يرجع
بفضله ، وإحسانه على عبيده ، إذا عادوا عن معاصيهم ، وتابوا إليه ؛ فإن التوبة
بمعنى العود ، والرجوع. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) : أى رجع عليهم ليرجعوا ؛ وهو صفة فعلية.
٨١ ـ المنتقم :
معناه : المعاقب لمن عصاه ؛ وهو صفة فعلية.
٨٢ ـ العفو : معناه : الماحى .
__________________
٨٣ ـ الرءوف :
معناه : المريد للتخفيف عن العبيد.
٨٤ ـ مالك الملك :
معناه : المتصرف فى المخلوقات على حسب ما يشاء ويختار ؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
٨٥ ـ ذو الجلال
والإكرام : وهو قريب من معنى الجليل.
٨٦ ـ المقسط :
معناه : العادل. ومنه يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار ؛ وهو صفة فعلية.
٨٧ ـ الجامع :
معناه : المختص بجمع الخصوم يوم القصاص ، وإنصاف المظلوم من الظالم ، وهو صفة
فعلية.
٨٨ ـ الغنىّ :
معناه : الّذي لا يفتقر إلى شيء ، وهو صفة سلبية.
٨٩ ـ المغنى :
معناه : المحسن لأحوال الخلق ؛ وهو صفة فعلية.
٩٠ ـ المانع :
معناه : المانع لمن يشاء من المنافع ؛ وهو صفة فعلية.
٩١ ـ ٩٢ ـ الضّارّ.
النّافع : (معناهما ) : خالق الضر ، والنفع ؛ وهو صفة فعلية.
٩٣ ـ النّور : سبق
تفسيره فى نفى التشبيه .
٩٤ ـ الهادى :
معناه : المختص بخلق الهدى ؛ وهو صفة فعلية.
٩٥ ـ البديع : قيل
معناه : إنه المبدع ، الخالق. وقيل هو أنه لا نظير له.
٩٦ ـ الباقى :
معناه (الّذي ) لا آخر له ، ولا يتصور عليه العدم ؛ وهو صفة سلبية.
٩٧ ـ الوارث :
معناه : الباقى بعد فناء الخلق ، والمالك بعد زوال كل مالك سواه.
__________________
٩٨ ـ الرّشيد :
قيل معناه : أنه موصوف بالعدل ، وقيل معناه : أنه المرشد إلى سبل الخيرات
٩٩ ـ الصّبور : /
معناه الحليم ؛ وقد سبق تفسيره.
فهذه جملة معانى
الأسماء الحسنى . لخصناها على غاية الإيجاز والاختصار ، مميزين لبعضها عن
بعض ، تقريبا لفهمها على القاصرين.
واعلم أن الأسماء
الحسنى قد تنقسم وجوها من التقسيم لا بد من الإشارة إليها مبالغة فى التفهيم لغير
المتدربين.
__________________
الأول : أن من الأسماء الحسنى ما هى نفس ذاته ، ومنها : ما هى غير ذاته.
ومنها : ما ليس هى نفس الذات ، ولا غيرها كما سبق تعريفه.
الثانى : أن الأسماء منها ما هى صفات نفسانية : كالعلم ، والقدرة
، ومنها : ما هى صفات فعلية : كالخالق ، والرازق ، ومنها : ما هى صفات سلبية :
كالغنى.
الثالث : الأسماء منها ما لا يتعدى الذات : كالإله ، ومنها : ما
يتعدى كالعالم ، والقادر ؛ فإنه يتعدى إلى المعلوم ، والمقدور.
الرابع : أن الأسماء منها ما لا يسمى بها غير الله ـ تعالى ـ كالله ، والرحمن ، ومنها ما يسمى بها
غيره : إما مطلقا : كالعالم ، والقادر. وإما بالإضافة : كالقابض ، والباسط ، فإنه
لا يقال لغيره قابض باسط مطلقا ؛ بل قابض المال ، وباسط الخير.
الخامس : أن من الأسماء ما دل عليها فعله : كالعلم يدل عليه
الإتقان. ومنها : ما يدل عليه صفة من صفاته : كالحياة يدل عليها العلم.
السادس : الأسماء منقسمة : إلى ما هى قديمة : كصفات الذات ، وإلى
ما هى حادثة : كصفات الأفعال.
السابع : الأسماء منها ما هى قائمة بذاته : كالأسماء النفسانية ،
ومنها : ما هى خارجة عن ذاته : كأسماء الأفعال.
الثامن : الأسماء منها ما معناه واحد : كالعالم ، والقادر. ومنها
: ما هو مركب من صفة فعلية ، وسلبية ، أو نفسية ، وسلبية ، أو صفة نفسانية ،
وفعلية ، أو من الصفات النفسانية ، والفعلية ، والسلبية.
التاسع : الأسماء منها ما هو متفق على معناه. ومنها ما هو مختلف
فيه واعتبر كل ذلك بما أسلفناه.
والى هاهنا تم
الكلام من القسم الأول فى واجب الوجود .
__________________
تم تحقيق الجزء
الثانى والحمد لله رب العالمين
ويليه إن شاء الله ـ تعالى ـ الجزء الثالث
وأوله : القسم الثانى فى الموجود الممكن الوجود
فهرس موضوعات الجزء الثانى
من كتاب
أبكار الأفكار فى أصول الدين للآمدى
«النوع الرابع»
«فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله ـ تعالى ـ»
ويشتمل على إحدى عشرة مسألة : ٥ ـ ٨٥
المسألة الأولى : فى
أنه ليس بجوهر............................................. ٧
ـ ١١
المسألة الثانية : فى
أن البارى ـ تعالى ليس بجسم............................... ١٢
ـ ١٨
المسألة الثالثة : فى
أنه ـ تعالى ـ ليس بعرض......................................... ١٩
المسألة الرابعة : فى
بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب تعالى................. ٢٠
ـ ٣٣
الحجة الأولى :................................................................ ٢
الحجة الثانية :.............................................................. ٢٣
الحجة الثالثة :.............................................................. ٢٥
الحجة الرابعة :.............................................................. ٢٦
والمعتمد فى المسألة
حجتان : تقريرية ، والزامية................................... ٢٧
أما التقريرية................................................................. ٢٧
الحجة الثانية : من
جهة المناقضة والإلزام وذلك من ثمانية أوجه..................... ٢٨
للكرامية ثلاث شبه.......................................................... ٣١
الجواب عنها................................................................ ٣٢
المسألة الخامسة : فى
أن الله ـ تعالى ـ ليس فى جهة ولا مكان..................... ٣٤
ـ ٤٨
الآراء حولها................................................................. ٣٤
المعتمد فى ذلك أن
يقال :.................................................... ٣٥
المسلك الأول للأصحاب..................................................... ٣٧
المسلك الثانى............................................................... ٣٨
المسلك الثالث.............................................................. ٤٠
المسلك الرابع............................................................... ٤١
شبه الخصوم................................................................ ٤٢
والجواب عنها............................................................... ٤٥
المسألة السادسة : فى أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس فى زمان...................... ٤٩ ـ ٥٠
المسألة السابعة : فى
استحالة حلول ذات البارى ـ تعالى ـ أو صفة من صفاته فى محل ٥١ ـ ٥٦
والدليل على مذهب أهل
الحق................................................ ٥٢
المسلك الأول............................................................... ٥٢
المسلك الثانى............................................................... ٥٣
المسلك الثالث.............................................................. ٥٤
المسألة الثامنة : فى
الرد على النصارى........................................ ٥٧
ـ ٧٤
مذهب الملكانية............................................................. ٥٧
مذهب النسطورية........................................................... ٥٨
مذهب اليعقوبية............................................................ ٥٩
الرد عليهم................................................................. ٦١
المسألة التاسعة : فى
امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بشيء من الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة وغيرها ٧٥ ـ ٧٩
وقد استدل الأصحاب فى
ذلك بمسالك :...................................... ٧٥
المسلك الأول............................................................... ٧٥
المسلك الثانى............................................................... ٧٦
المسلك الثالث.............................................................. ٧٧
المسلك الرابع ،
والخامس ، والسادس........................................... ٧٨
المسألة العاشرة : فى
امتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالعجز....................... ٨٠
ـ ٨٢
المسألة الحادية عشرة
: فى استحالة الكذب فى كلام الله ـ تعالى.................. ٨٣
ـ ٨٥
المسلك العقلى.............................................................. ٨٣
المسلك السمعى............................................................ ٨٤
«النوع الخامس»
«فى وحدانية الله ـ تعالى ـ»
ويشتمل على فصلين ٨٧ ـ ١١٢
الفصل الأول : فى
تحقيق معنى الواحد ، وأقسامه ، ولواحقه..............................
وما هو التوحيد........................................................ ٨٩
ـ ٩٢
أما حقيقة التوحيد :......................................................... ٨٩
وأما التوحيد :.............................................................. ٩٢
الفصل الثانى : فى امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الالهية ما للآخر ٩٣ ـ ١١٢
وقد احتج النافون
للشركة بمسالك ضعيفة....................................... ٩٣
المسلك الأول :............................................................. ٩٣
المسلك الثانى :............................................................. ٩٦
المسلك الثالث : وعليه
اعتماد أكثر أصحابنا................................... ٩٧
المسلك الرابع :............................................................ ١٠١
المسلك الخامس :.......................................................... ١٠٢
المسلك السادس :......................................................... ١٠٤
المسلك السابع :.......................................................... ١٠٥
مسلك المعتزلة :........................................................... ١٠٦
الدليل السمعى :.......................................................... ١٠٦
قد ترد على الدليل
السمعى أسئلة........................................... ١٠٧
الجواب عنها.............................................................. ١٠٩
«النوع السادس»
«فى أفعال الله ـ تعالى ـ»
ويشتمل على ثلاثة أصول : ١١٣ ـ ٤٩٢
«الأصل الأول»
«فى التعديل والتجوير ـ»
ويشتمل على ثلاث عشرة مسألة : ١١٥ ـ ٢٢٨
المسألة الأولى : فى
التحسين والتقبيح..................................... ١١٧
ـ ١٤٤
ذهب المعتزلة ،
والكرامية ، والخوارج ، والبراهمة ، والثنوية ، والتناسخية ، وغيرهم : إلى أن
الأفعال منقسمة فى أنفسها إلى حسنة وقبيحة......................................................................... ١١٧
مذهب أهل الحق : أن
الحسن والقبح ليس وصفا ذاتيا.......................... ١٢١
رأى الآمدي.............................................................. ١٢٤
احتج الأصحاب فى
المسألة بمسالك ضعيفة :................................. ١٢٦
المسلك الأول :........................................................... ١٢٦
المسلك الثانى :............................................................ ١٢٧
المسلك الثالث :.......................................................... ١٢٨
المسلك الرابع :............................................................ ١٢٩
المسلك الخامس :.......................................................... ١٢٩
المسلك السادس :......................................................... ١٣٠
المسلك السابع :.......................................................... ١٣٢
للخصوم شبه استدلالية.
وإلزامية :.......................................... ١٣٣
أما الشبه الاستدلالية
فشبهتان :............................................ ١٣٣
وأما الشبه الإلزامية
: فعشر شبه :........................................... ١٣٤
الجواب عن الشبه
الاستدلالية :............................................. ١٣٥
الجواب عن الشبه
الإلزامية :................................................ ١٤٠
المسألة الثانية : فى
أنه لا حكم قبل ورود السمع........................... ١٤٥
ـ ١٥٠
احتج أهل الحق بالنقل
، والعقل :........................................... ١٤٦
الدليل النقلى :............................................................ ١٤٦
قد ترد عليه أسئلة :....................................................... ١٤٦
الجواب عنها :............................................................ ١٤٨
وأما المسلك العقلى :...................................................... ١٤٩
وأما دليل إبطال
الإباحة :.................................................. ١٤٩
المسألة الثالثة : فى
أنه لا يجب رعاية الغرض ، والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأنه لا يجب عليه شيء
أصلا ١٥١ ـ ١٦٦
مذهب أهل الحق ـ مذهب
المعتزلة............................................ ١٥١
احتج أهل الحق بمسالك.................................................... ١٥٢
المسلك الأول............................................................. ١٥٢
المسلك الثانى............................................................. ١٥٣
اشكالات الخصوم......................................................... ١٥٥
الجواب عنها........................................................... ..
١٥٧
وأما ما يخص إبطال
القول بوجوب رعاية الأصلح فمسلكان..................... ١٦٢
للخصوم أسئلة............................................................ ١٦٥
الجواب عنها.............................................................. ١٦٦
المسألة الرابعة : فى
الآلام ، وأحكامها.................................... ١٦٧
ـ ١٧٤
الآراء فيها................................................................ ١٦٧
تحقيق مذهب أهل الحق.................................................... ١٧٠
الرد على المعتزلة ،
وغيرهم.................................................. ١٧١
المسألة الخامسة
فى تكليف ما لا يطاق.................................... ١٧٥
ـ ١٨٤
الآراء فيها................................................................ ١٧٥
حجة الأشاعرة على جواز
التكليف بما لا يطاق................................ ١٧٦
إشكالات الخصوم......................................................... ١٧٦
الجواب عنها.............................................................. ١٧٨
حجة أخرى لبعض الأصحاب.............................................. ١٨١
قد يرد عليها أسئلة........................................................ ١٨١
الجواب عنها.............................................................. ١٨٢
المسألة السادسة : فى
أنه هل لله ـ تعالى ـ على من علم إصراره على الكفر نعمة ، أم لا؟ وفى معنى الحمد ،
والشكر ، والتعظيم ١٨٥ ـ ١٩٢
المسألة السابعة : فى
معنى الهداية والإضلال................................ ١٩٣
ـ ١٩٩
احتج الأصحاب بالنصوص
، والإطلاق العرفى................................ ١٩٣
إشكالات الخصوم......................................................... ١٩٤
الجواب عنها.............................................................. ١٩٥
المسألة الثامنة : فى
معنى الطبع ، والختم ، والأكنة.......................... ٢٠٠
ـ ٢٠٤
مذهب أهل الحق ـ مذهب
المعتزلة............................................ ٢٠٠
أورد الخصوم احتمالات
خمسة............................................... ٢٠٠
الجواب عنها.............................................................. ٢٠٢
المسألة التاسعة : فى
معنى اللطف وحكمه................................. ٢٠٥
ـ ٢٠٦
المسألة العاشرة : فى
التوفيق ، والعصمة ، والخذلان......................... ٢٠٧
ـ ٢١٠
أما التوفيق :.............................................................. ٢٠٧
وأما العصمة :............................................................ ٢٠٨
وأما الخذلان :............................................................ ٢١٠
المسألة الحادية عشرة
: فى تحقيق معنى الأجل ، ووجه الاختلاف فيه.......... ٢١١
ـ ٢١٩
فى حقيقة الأجل........................................................... ٢١١
هل يجوز قطع الأجل....................................................... ٢١٢
ذهب الأشاعرة وغيرهم
إلى امتناع ذلك...................................... ٢١٢
الرد على الخصوم.......................................................... ٢١٣
حجج الخصوم............................................................ ٣١٤
الجواب عنها.............................................................. ٢١٦
المسألة الثانية
عشرة : فى معنى الرزق ،
واختلاف الناس فيه.................. ٢٢٠
ـ ٢٢٦
الرزق ـ الآراء فيه........................................................... ٢٢٠
الرازق ـ رأى المعتزلة......................................................... ٢٢٣
رأى أهل الحق............................................................. ٢٢٤
المسألة الثالثة عشرة
: فى السعر والغلاء والرخص وأنه من الله تعالى........... ٢٢٧
ـ ٢٢٨
«الأصل الثانى»
«فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث
سواه» ويشتمل على : مقدمة ، ومقصد ، وفروع ... ٢٢٩ ـ ٤٥٦
المقدمة : فى بيان
معنى الخلق ، والمخلوق......................................... ٢٣١
وأما المقصد : فهو أن
جميع الممكنات مقدورة للرب ـ تعالى ـ من غير واسطة ، وأن حدوثها ليس إلا عنه ٢٣٥ ـ ٢٤٨
احتج الأصحاب بمسالك :......................................................
المسلك الأول :........................................................... ٢٣٥
المسلك الثانى :............................................................ ٢٣٦
المسلك الثالث :.......................................................... ٢٣٧
المسلك الرابع :............................................................ ٢٣٨
المسلك الخامس :.......................................................... ٢٣٩
المسلك المعتمد :.......................................................... ٢٤٠
إشكالات الخصوم......................................................... ٢٤١
الجواب عنها.............................................................. ٢٤٣
وأما الفروع : فثمانية................................................... ٢٤٩
ـ ٤٥٦
الفرع الأول : فى
امتناع مخلوق بين خالقين................................ ٢٥١
ـ ٢٥٣
المسلك الأول :........................................................... ٢٥١
المسلك الثانى :............................................................ ٢٥٢
الفرع الثانى : فى
الرد على الفلاسفة الالهيين............................... ٢٥٤
ـ ٢٦٠
ادعاءهم أن الواحد لا
يصدر عنه إلا واحد................................... ٢٥٤
العقول العشرة............................................................. ٢٥٦
الرد عليهم................................................................ ٢٥٨
الفرع الثالث : فى
الرد على الطبيعيين..................................... ٢٦١
ـ ٢٦٣
الفرع الرابع : فى
الرد على الصابئة فى قولهم
بوجود موجد غير الله ـ تعالى ـ...... ٢٦٤
ـ ٢٦٩
الفرقة الأولى : أصحاب
الروحانيات.......................................... ٢٦٤
الفرقة الثانية :
أصحاب الهياكل............................................. ٢٦٥
الفرقة الثالثة :
أصحاب الأشخاص.......................................... ٢٦٧
الفرقة الرابعة :
الحلولية..................................................... ٢٦٧
الرد عليهم................................................................ ٢٦٨
الفرع الخامس : فى
الرد على المنجمين ، وأرباب الأحكام.................... ٢٧٠
ـ ٢٧٥
أولا : من جهة الجملة...................................................... ٢٧٠
ثانيا : من جهة
التفصيل.................................................... ٢٧٢
قولهم : فى خسوف القمر................................................... ٢٧٤
قولهم : فى كسوف الشمس................................................. ٢٧٥
الفرع السادس : فى
الرد على الثنوية والمجوس............................... ٢٧٦
ـ ٢٨٦
أما الثنوية : فهم فرق
خمس................................................. ٢٧٦
الفرقة الأولى :
المانوية...................................................... ٢٧٦
الفرقة الثانية :
المزدكية...................................................... ٢٧٧
الفرقة الثالثة :
الديصانية................................................... ٢٧٧
الفرقة الرابعة :
المرقيونية..................................................... ٢٧٧
الفرقة الخامسة :
الكينونية.................................................. ٢٧٨
وأما المجوس : فقد
اختلفوا وتفرقوا أربع فرق.................................... ٢٧٩
الفرقة الأولى :
الكيومرثية................................................... ٢٧٩
الفرقة الثانية :
الزروانية.................................................. ..
٢٧٩
الفرقة الثالثة :
المسخية..................................................... ٢٨٠
الفرقة الرابعة :
الزرادشتية................................................... ٢٨٤
الرد على الثنوية................................................................
الرد على المجوس................................................................
الفرع السابع : فى
الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال :
وهذا الفرع لا يتم
تحقيقه إلا بتقديم فصول ، لا بد من الإشارة إليها ، والتنبيه على ما ٢٨٧ ـ ٣٨٢
فيها : وهى إحدى
وعشرون فصلا...............................................
الفصل الأول : فى
إثبات القدرة الحادثة................................ ٢٨٩
ـ ٢٩٢
الفصل الثانى : فى
امتناع بقاء القدرة الحادثة............................ ٢٩٣
ـ ٢٩٥
مذهب أهل الحق.......................................................... ٢٩٣
شبه الخصوم.............................................................. ٢٩٣
الجواب عنها.............................................................. ٢٩٤
الفصل الثالث : فى
تعلق الاستطاعة بالفعل............................... ٢٩٦
ـ ٣٠٧
الآراء فيه................................................................. ٢٩٦
معتمد أهل الحق........................................................... ٢٩٨
للخصوم إشكالات........................................................ ٢٩٩
الجواب عنها.............................................................. ٣٠١
وقد استدل الأصحاب فى
المسألة بمسلكين ضعيفين............................ ٣٠٥
المسلك الأول :........................................................... ٣٠٥
المسلك الثانى :............................................................ ٣٠٦
الفصل الرابع : فى
امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين. الآراء فيه ـ............ ٣٠٨ ـ ٣١٨
المعتمد لأهل الحق............................................................ ٣٠٩
للخصوم إشكالات على
الاستدلال ، والإلزام................................. ٣٠٩
الجواب عنها.............................................................. ٣١٢
الفصل الخامس : فى أن
القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها................... ٣١٩
ـ ٣٢٠
الفصل السادس : فى
تماثل القدرة الحادثة ، واختلافها وتضادها ، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور
إلى آلة ، وبنية مخصوصة ، أم لا؟..................................................................... ٣٢١
ـ ٣٢٢
الفصل السابع : فى أن
فعل النائم هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة ، أم لا؟ ٣٢٣ ـ ٣٢٥
الفصل الثامن : فى
وجود مقدور بين قادرين ، وأن الله تعالى قادر على مثل فعل العبد ، أم لا؟ ٣٢٦ ـ ٣٣٣
الآراء فيه ـ حجج
الأشاعرة.................................................. ..
٣٢٦
الفصل التاسع : فى
امتناع مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة ٣٣٤ ـ ٣٣٥
الفصل العاشر : فى
امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين. وأن القادر على الحركة هل يقدر على
تحريك جزء فرد من أجزائه دون الباقى أم لا؟.......................................................... ٣٣٦
ـ ٣٣٩
الفصل الحادى عشر : فى
العجز ، وتحقيق معناه........................... ٣٤٠
ـ ٣٤٢
رأى الأشاعرة ـ لأبى
هاشم ومتبعيه ثلاث شبه................................. ٣٤٠
الجواب عنها.............................................................. ٣٤١
الفصل الثانى عشر : فى
متعلق العجز..................................... ٣٤٣
ـ ٣٤٥
الفصل الثالث عشر : فى
تعلق العجز بالمعجوز عنه......................... ٣٤٦
ـ ٣٤٧
الفصل الرابع عشر : فى
اختلاف المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها من حمل مائة أخرى
ومناقضتهم فى ذلك. .. ٣٤٨ ـ ٣٤٩
الفصل الخامس عشر : فى أن القادر هل يكون ممنوعا عن مقدوره مع وجود قدرته
عليه ، أم لا؟ ٣٥٠ ـ ٣٥٣
الفصل السادس عشر : فى
اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة والإشارة إلى مناقضتهم فيها ٣٥٤ ـ ٣٦٤
الاختلاف الأول.......................................................... ٣٥٤
الاختلاف الثانى........................................................... ٣٥٦
الاختلاف الثالث......................................................... ٣٥٩
الاختلاف الرابع........................................................... ٣٦٢
الفصل السابع عشر : فى
تعارض الموانع والرد على المعتزلة................... ٣٦٥
ـ ٣٦٦
الفصل الثامن عشر : فى
تحقيق معنى المضطر.............................. ٣٦٧
ـ ٣٦٩
الفصل التاسع عشر : فى
الملجأ وتحقيق معناه.............................. ٣٧٠
ـ ٣٧١
الفصل العشرون : فى أن
الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم ، ولا يتجدد له بسببه اسم ٣٧٢ ـ ٣٨٠
الفصل الحادى والعشرون
: فى الترك ، وتحقيق معناه......................... ٣٨١
ـ ٣٨٢
«القول فى خلق الأفعال»
مذهب الشيخ الأشعرى
أنه لا تأثير للقدرة الحادثة فى حدوث مقدورها ولا فى صفة من صفاته. ووافقه على ذلك
جماعة من أصحابه..................................................................... ٣٨٣
ـ ٤٢٥
آراء المخالفين............................................................. ٣٨٣
استدل الأصحاب بمسالك
ضعيفة........................................... ٣٨٤
المسلك الأول :........................................................... ٣٨٤
المسلك الثانى :............................................................ ٣٨٥
المسلك الثالث............................................................ ٣٨٧
المسلك الرابع............................................................. ٣٨٨
المسلك الخامس........................................................... ٣٩٢
المسلك السادس........................................................... ٣٩٦
المسلك السابع............................................................ ٣٩٩
المعتمد فى المسألة
مسلكان.................................................. ٤٠٠
إشكالات الخصوم......................................................... ٤٠١
الجواب عنها.............................................................. ٤٠٨
مذهب الأشعرى هو
الطريق العدل........................................... ٤٢٤
الفرع الثامن : فى
الرد على القائلين بالتولد............................................
ويشتمل على ثلاثة فصول :............................................ ٤٢٧
ـ ٤٥٦
الفصل الأول : فى تحقيق معنى التولد ، والمتولد على أصول المعتزلة ،
وتفصيل مذاهبهم فيه ٤٢٩ ـ ٤٣١
الفصل الثانى : فى
الدلالة على إبطال القول بالتولد وإبطال شبه مثبتيه........ ٤٣٢ ـ ٤٤١
وقد اعتمد الأصحاب فى
ذلك على مسالك ضعيفة............................ ٤٣٢
المسلك الأول :........................................................... ٤٣٢
المسلك الثانى :............................................................ ٤٣٥
المسلك الثالث :.......................................................... ٤٣٧
شبه الخصوم.............................................................. ٤٣٨
الجواب عنها.............................................................. ٤٤٠
الفصل الثالث : فى
مأخذ تفريعات المعتزلة على التولد ، ومناقضتهم فيها...... ٤٤٢ ـ ٤٥٦
التفريع الأول :............................................................ ٤٤٢
التفريع الثانى :............................................................ ٤٤٤
التفريع الثالث :........................................................... ٤٤٦
التفريع الرابع :............................................................ ٤٤٧
التفريع الخامس :.......................................................... ٤٤٨
التفريع السادس :.......................................................... ٤٥٠
التفريع السابع :........................................................... ٤٥٠
التفريع الثامن :............................................................ ٤٥١
التفريع التاسع :........................................................... ٤٥٢
التفريع العاشر :........................................................... ٤٥٤
التفريع الحادى عشر :..................................................... ٤٥٤
التفريع الثانى عشر :....................................................... ٤٥٥
«الأصل الثالث»
«فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله ـ تعالى ـ
وأنه مريد لكل كائن ، وغير مريد لما لم يكن» ٤٥٧ ـ ٤٩٢
ويقدم عليه فصول ستة لا يتم تحقيقه دونها
الفصل الأول : فى
إثبات الإرادة الحادثة ، وأحكامها........................ ٤٥٩
ـ ٤٦٠
الفصل الثانى : فى
أضداد الإرادة الحادثة.................................. ٤٦١
ـ ٤٦٤
وهى تنقسم : إلى أضداد
خاصة ، وإلى أضداد
عامة................................
أما الخاصة :
فالكراهية..................................................... ٤٦١
وأما العامة : فالموت
، والنوم بالاتفاق........................................ ٤٦١
احتجاج الأصحاب........................................................ ٤٦٢
حجة الخصم من وجهين ................................................. .
٤٦٢
الجواب عنها.............................................................. ٤٦٢
الفصل الثالث : فى أن
الإرادة للشىء كراهية لضده........................ ٤٦٥
ـ ٤٦٧
الفصل الرابع : فى أن
الإرادة الحادثة لا توجب المراد......................... ٤٦٨
ـ ٤٧٠
الفصل الخامس : فيما
يجوز تعلق الإرادة به ، وما لا يجوز.................... ٤٧١
ـ ٤٧٤
الفصل السادس : فى
تحقيق متعلق الإرادة................................. ٤٧٥
ـ ٤٧٦
«القول فى أن كل كائن فمراد لله ـ تعالى ـ
وما ليس بكائن غير مراد الكون» ٤٧٧ ـ ٤٩٢
مذهب أهل الحق.......................................................... ٤٧٧
مذهب المعتزلة............................................................ ٤٧٨
تفصيل حجة الأصحاب.................................................... ٤٧٨
إشكالات الخصوم......................................................... ٤٧٩
الجواب عنها.............................................................. ٤٨٦
«النوع السابع»
فى أسماء الله الحسنى
ويشتمل على ثلاثة فصول ٤٩٣ ـ ٥١٨
الفصل الأول : فى الاسم
والتسمية والمسمى............................ ٤٩٥
ـ ٥٠٠
الفصل الثانى : فى
مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى.................. ٥٠١
ـ ٥٠٢
الفصل الثالث : فى
معانى أسماء الله ـ تعالى.............................. ٥٠٣
ـ ٥١٨
فهرس موضوعات الجزء
الثانى......................................... ٥٢١ ـ ٥٣١
|