فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

مقدمة التحقيق.................................................................. ٧

خطبة الكتاب.................................................................. ١١

فصل في فضل علم التفسير...................................................... ١١

فصل في مدة نزول القرآن........................................................ ١٢

فصل الاستعاذة................................................................ ١٤

فصل في «بسم الله الرحمن الرحيم»............................................... ١٤

١ ـ تفسير سورة الفاتحة.......................................................... ١٧

٢ ـ تفسير سورة البقرة........................................................... ٢٤

٣ ـ تفسير سورة آل عمران..................................................... ٢٥٧

٤ ـ تفسير سورة النساء........................................................ ٣٦٦

٥ ـ تفسير سورة المائدة......................................................... ٥٠٥



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ، أرسله على فترة من الرّسل ، وضلال من الناس ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ، وأيّده بالمعجزات الباهرة والآيات الساطعة الدالّة على صدقه وصدق دعوته. ومن أهم تلك المعجزات التي أعزّ الله بها نبيّه ، وهذه الأمّة ، كتاب الله وكلامه المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ترجمة ابن الجوزي (١)

هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيميّ البكري الحنبليّ ، الواعظ ، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصدّيق ، واشتهر بابن الجوزي نسبة إلى شرعة الجوز ، إحدى محالّ بغداد بالجانب الغربي ، وقيل : نسبة إلى جوزة كانت في دار جدّه السابع جعفر بن عبد الله بواسط.

ولد ابن الجوزي ببغداد سنة ٥٠٨ ه‍ وقيل سنة ٥١٠ ه‍ ، وقيل سنة ٥١٤ ه‍. ولما ترعرع حفظ القرآن وقرأه على جماعة بالروايات ، ثم طلب العلم على جمع كثير من العلماء.

وقد اشتغل بالوعظ وأوتي حظا عظيما وصيتا بعيدا فيه ، فكان يحضر مجالسه الملوك والوزراء والأئمة الكبار. وكان مجلسه لا ينقص عن ألوف كثيرة حتى قيل في بعض مجالسه : إنه حزر الجمع بمائة ألف.

__________________

(١) انظر عنه في : التكملة لوفيات النقلة ١ / ٣٩٤ ، ٣٩٥ رقم ٦٠٨ ، ومشيخة النعّال ١٤٠ ـ ١٤٢ ، ورحلة ابن جبير ١٩٦ ـ ٢٠٠ ، والتقييد لابن نقطة ٣٤٣ ، ٣٤٤ رقم ٤٢٢ ، ومرآة الزمان ج ٨ ق ٢ / ٤٨١ ـ ٥٠٢ ، ووفيات الأعيان ٣ / ١٤٠ ـ ١٤٢ رقم ٣٧٠ ، وتذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٤٢ ، ١٣٤٨ ، وذيل طبقات الحنابلة ١ / ٣٩٩ ـ ٤٣٣ ، والوافي بالوفيات ١٨ / ١٨٦ ـ ١٩٤ رقم ٢٣ ، وتاريخ الإسلام للذهبي (٥٩١ ـ ٦٠٠) ص ص ٢٨٧ ـ ٣٠٥ رقم ٣٧١ ، وسير أعلام النبلاء له ٢١ / ٣٦٥ ـ ٣٨٤ رقم ١٩٢ ، وشذرات الذهب ٤ / ٣٢٩ ـ ٣٣١ ، ومعجم المؤلفين ٥ / ١٥٧ ، ١٥٨ ، ومعجم طبقات الحفاظ والمفسرين ١٠٩ رقم ١٠٦٣.


قال الشيخ موفق الدين المقدسي : «كان ابن الجوزي إمام عصره في الوعظ ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة ، وكان صاحب فنون ، وكان يدرّس الفقه ويصنّف فيه ، وكان حافظا للحديث وصنّف فيه ..».

وقال ابن رجب : نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتدّ نكيرهم عليه في ذلك .. ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف ؛ وهو وإن كان مطلقا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحلّ شبه المتكلمين وبيان فسادها.

وكان ابن الجوزي معظّما لأبي الوفاء بن عقيل متابعا لأكثر ما يجده من كلامه ، وإن كان قد ردّ عليه في بعض المسائل. وكان ابن عقيل بارعا في الكلام ، ولم يكن تامّ الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب تأويله في هذا الباب وتتلوّن فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلوّن.

وتصانيف ابن الجوزي كثيرة جدة بلغت ، فيما قيل ، خمسين ومائتين كتاب ، وقد نقل ابن رجب عن ابن القطيعي أن ابن الجوزي ناوله كتابا بخطه سرد فيه تصانيفه.

قال ابن الجوزي : أول ما صنّفت وألّفت ولي من العمر ثلاث عشرة سنة.

ومن تصانيفه في التفسير : المغني ـ تذكرة الأريب في معرفة الغريب ـ نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر ـ عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ ـ زاد المسير في علم التفسير وهو الكتاب الذي نقدّم له.

وفي التوحيد وعلم الكلام : دفع شبه التشبه ـ منهاج الوصول إلى علم الأصول.

وفي علم الحديث : جامع المسانيد ـ غرر الأثر ـ الموضوعات ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.

كما صنف في الفقه وفي التاريخ والوعظ وعلم الرجال (١).

توفي ابن الجوزي ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من شهر رمضان سنة ٥٩٧ ه‍ / ١٢٠١ م ، وله من العمر سبع وثمانون سنة. وحملت جنازته على رؤوس الناس ، وكان الجمع كثيرا جدا ، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد بن حنبل. وكان يوما مشهودا حتى قيل : إنه أفطر جماعة من كثرة الزحام وشدة الحر. وكان قد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات :

يا كثير العفو يا من

كثرت ذنوبي لديه

جاءك المذنب يرجو

الصّفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء

الضيف إحسان إليه

__________________

(١) وضع عبد الحميد العلوجي كتابا بعنوان «مؤلفات ابن الجوزي» طبع في بغداد سنة ١٩٦٥. كما نشرت ناجية عبد الله إبراهيم رسالة بعنوان «ابن الجوزي ـ فهرست كتبه» في مجلة المجمع العلمي العراقي ، العدد ٣١ ، ١٩٨٠.


زاد المسير في علم التفسير

أقبل المسلمون على كتاب ربهم وكلام خالقهم دراسة وحفظا وعملا ، وألّفوا في علومه كتبا ومؤلفات عديدة في التفسير والقراءات واستنباط الأحكام والإعجاز والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والغريب والمبهمات والفضائل والقصص وغير ذلك.

ومن أهم كتب التفسير للقرآن الكريم كتاب «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي الذي عمد إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فأشبعها دراسة واستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم ، ووضع تفسيره هذا مخلّصا إياه من التطويل المملّ ومن الاختصار المخلّ. وقال في مقدمة كتابه :

(... أني نظرت في جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير»).

فجاء كتابه وسطا بين التفاسير الطويلة والمختصرة الشديدة الاختصار ، مع تميّزه بجملة من الخصائص ، إضافة إلى أسلوب ابن الجوزي السّلس المتين والسهل الممتنع. ومن هذه الخصائص أنه تحدّث عمن نزلت بعض الآيات فيهم ، وذكر القراءات المشهورة والشاذة أحيانا ، وتوقف عند الآيات المنسوخة والتي اختلف العلماء حولها أمنسوخة هي أم لا؟ وأورد أقوال العلماء بهذا الصدد ، بالإضافة إلى ردّه كل قول إلى مصدره معتمدا على علماء اللغة مثل : ابن قتيبة وأبي عبيدة والخليل بن أحمد الفراهيدي ؛ وعلى النحاة مثل : الفرّاء والزجّاج والأخفش والكسائي ومحمد بن القاسم النحوي ؛ وعلى القرّاء مثل : الجحدري وعاصم وغيرهم.

منهج التحقيق

عملنا في هذا الكتاب على :

ـ تخريج الأحاديث المرفوعة ، وما له حكم الرفع تخريجا وافيا.

ـ تصدير التخريج بقولنا «صحيح» ، «حسن» ، «ضعيف» ... وذلك تسهيلا على الطالب واختصارا لوقته.

ـ ترقيم الأحاديث المخرجة ترقيما تسلسليا.

ـ تصويب ما وقع فيه تصحيف أو تحريف.

ـ تخريج الآيات وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية.

ـ شرح بعض المفردات الغربية.

هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل متقبلا وأن ينفع به المؤمنين إنه خير سميع وخير بصير ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



(بسم الله الرحمن الرحيم)

ربّ يسّر وأعن

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي شرّفنا على الأمم بالقرآن المجيد ، ودعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر الرشيد ، وقوّم به نفوسنا بين الوعد والوعيد ، وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

أحمده على التوفيق للتحميد ، وأشكره على التحقيق في التوحيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة يبقى ذخرها على التأبيد ، وأن محمّدا عبده ورسوله أرسله إلى القريب والبعيد ، بشيرا للخلائق ونذيرا ، وسراجا في الأكوان منيرا ، ووهب له من فضله خيرا كثيرا ، وجعله مقدّما على الكلّ كبيرا ، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا ، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا ، وأنزل عليه كلاما قرّر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا ، فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١). فصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه ، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد ؛ لمّا كان القرآن العزيز أشرف العلوم ، كان الفهم لمعانيه أو في الفهوم ، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، وإني نظرت في جملة من كتب التفسير ، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسّط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل ، وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير».

وقد بالغت في اختصار لفظه ، فاجتهد ـ وفّقك الله ـ في حفظه ، والله المعين على تحقيقه ، فما زال جائدا بتوفيقه.

فصل في فضل علم التفسير

(١) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ ، عن ابن مسعود قال : كنا نتعلّم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر ، فلا

____________________________________

(١) صحيح. أخرجه الطبري ٨٢ من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ...

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.


نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل.

وروى قتادة عن الحسن أنّه قال : ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن أعلم فيم أنزلت ، وما ذا عنى بها. وقال إياس بن معاوية : مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم ، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة ؛ لا يدرون ما فيه ، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.

فصل : اختلف العلماء : هل التّفسير والتّأويل بمعنى ، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى ، وهذا قول جمهور المفسّرين المتقدّمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما ، فقالوا : التفسير : إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي. والتأويل : نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ، فهو مأخوذ من قولك : آل الشيء إلى كذا ، أي : صار إليه.

فصل في مدّة نزول القرآن

روى عكرمة عن ابن عبّاس قال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة (١). وقال الشعبي : فرّق الله تنزيل القرآن ، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن : ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة ، أنزل عليه بمكة ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين.

فصل : واختلفوا في أوّل ما نزل من القرآن :

(٢) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٢) ، رواه عروة عن عائشة وبه قال

____________________________________

فذكره. والسلمي أحد تلامذة ابن مسعود ، فهو المراد ، وكأنه أراد أنه سمع مثل ذلك عن غير ابن مسعود حيث لم يسمه. وأخرجه الطبري ٨١ من وجه آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(٢) صحيح. أخرجه البخاري ٣ ومسلم ١٦٠ وأحمد ٦ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣. والطيالسي ١٤٦٧ وابن حبان ٣٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ من حديث عائشة أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ. قال : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ! قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ! قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)». فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : «زملوني زملوني» ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصّر في الجاهلية ، وكان

__________________

(١) موقوف حسن ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله.

(٢) العلق : ١.


قتادة وأبو صالح. وروي عن جابر بن عبد الله : أن أوّل ما نزل (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

والصحيح أنه لما نزل عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) رجع فتدثّر فنزل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

(٣) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه : «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا ، فرجعت فقلت : زمّلوني ، زمّلوني ، فدثّروني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)» ، ومعنى جثثت : فرقت. يقال : رجل مجؤوث ومجثوث. وقد صحّفه بعض الرواة فقال : جبنت ، من الجبن ، والصحيح الأول.

وروي عن الحسن وعكرمة : أن أوّل ما نزل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فصل : واختلفوا في آخر ما نزل :

(٤) فروى البخاريّ في أفراده من حديث ابن عباس ، قال : آخر آية أنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آية الرّبا (١).

(٥) وفي أفراد مسلم عنه : آخر سورة نزلت جميعا : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (٢).

(٦) وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : آخر آية أنزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٣) ، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح.

(٧) وروى أبو إسحاق عن البراء قال : آخر آية نزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٤) ، وآخر سورة نزلت «براءة».

(٨) وروي عن أبيّ بن كعب : أن آخر آية نزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٥) ، إلى آخر السورة.

____________________________________

يكتب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مخرجي هم؟» قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي. واللفظ للبخاري.

(٣) أخرجه البخاري ٣٢٣٨ و ٤٩٢٥ ومسلم ١٦١ والترمذي ٣٣٢٥ وابن حبان ٣٤ ، وسيأتي في سورة المدثر.

(٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٤٤ عن ابن عباس ، ويأتي.

(٥) يأتي في سورة النصر.

(٦) يأتي ذكر الحديث عند الآية ٢٨١ من سورة البقرة.

(٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٥٤ عن البراء.

(٨) حسن. أخرجه أحمد ٥ / ١١٧ من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبي بن

__________________

(١) وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(٢) سورة النصر : ١.

(٣) البقرة : ٢٨١.

(٤) النساء : ١٧٦.

(٥) التوبة : ١٣٨.


فصل : لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب ، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ ، أو ببعضه ، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول ، أو أكثرها ، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية ، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية ، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة. وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه.

وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة ، ولم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره ، فهو لا يخلو من أمرين : إمّا أن يكون قد سبق ، وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير ، فأخذ منها الأصحّ والأحسن والأصون ، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له ، والله الموفّق.

فصل في الاستعاذة

قد أمر الله عزوجل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) (١) ، ومعناه : إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ : ألجأ وألوذ.

فصل في بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال ابن عمر : نزلت في كل سورة.

وقد اختلف العلماء : هل هي آية كاملة ، أم لا؟ وفيه عن أحمد روايتان ، واختلفوا : هل هي من الفاتحة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا. فأمّا من قال : إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأمّا من لم يرها من الفاتحة ، فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة ، ما

____________________________________

كعب به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد ، ويوسف هو ابن مهران لين الحديث ، وثقه أبو زرعة ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ويذاكر ، وقال أحمد : لا يعرف. نقله الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٤. وقال الحافظ في «التقريب» : يوسف بن مهران ، ليس هو يوسف بن ماهك ، ذاك ثقة ، وهذا لم يرو عنه إلّا ابن جدعان ، وهو لين الحديث. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٣٨ من وجه آخر عن شعبة عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران به. وقال : حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي!. وليس كما قالا ، فقد ظن الحاكم أن الذي في الإسناد هو يوسف بن ماهك ، فذاك روى له الشيخان ، وقد فرّق بينهما ابن حجر كما تقدم ، وكذا الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٤. فالإسناد لين ، لكن توبع ، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» ص ٣٨ من وجه آخر وفيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث ، لكن يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد.

ـ ويأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء الله ، والله أعلم.

__________________

(١) النحل : ٩٨.


عدا مالكا فإنه لا يستحبّ قراءتها في الصلاة (١).

واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به (٢) ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسنّ الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعمّار بن ياسر ، وابن مغفّل ، وابن الزّبير ، وابن عباس ، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم : الحسن ، والشّعبيّ ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشّافعي إلى أن الجهر بها مسنون ، وهو مرويّ عن معاوية بن أبي سفيان ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد.

فأمّا تفسيرها : فقوله : (بِسْمِ اللهِ) اختصار ، كأنه قال : أبدأ باسم الله ، أو : بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات : اسم بكسر الألف ، وأسم بضم الألف إذا ابتدأت بها ، وسم بكسر السين ، وسم

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١ / ١٣٢ : وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ، ولا في غيرها سرا ولا جهرا.

ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول : إنه لا بد فيها من (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) منهم ابن عمر وابن شهاب.

وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ، منهم : أبو حنيفة ، والثوري وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمّار وابن الزبير ، وهو قول الحكم وحمّاد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ، وروي عن الأوزاعي مثل ذلك. وانظر المغني ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٩.

(٢) قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في «المغني» ٢ / ١٤٩ ـ ١٥١ : ولا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن بعدهم التابعين منهم أبو بكر وعمر وعثمان ، وعليّ. وذكره ابن المنذر ، عن ابن مسعود ، وابن الزبير وعمار. وبه يقول الحكم وحمّاد ، والأوزاعي ، والثّوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء ، وطاوس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ، الجهر بها. وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة ، أنّه قرأها في الصّلاة. وقد صح عنه أنه قال : ما أسمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعناكم ، وما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. وعن أنس ، أنه صلّى وجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقال : أقتدي بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما تقدّم من حديث أم سلمة وغيره ، ولأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر ، كسائر آياتها. ولنا حديث أنس وعبد الله بن المغفّل ، وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. وروى أبو هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). قال الله : حمدني عبدي» وذكر الخبر. أخرجه مسلم. وهذا يدل على أنّه لم يذكر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، ولم يجهر بها. وحديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها ، ولا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار ، كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع إسراره بهما ، وقد روى أبو قتادة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها ، وسائر أخبار الجهر ضعيفة ، فإن رواتها هم رواة الإخفاء ، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه ، فدل على ضعف رواية الجهر ، وقد بلغنا أن الدارقطني قال : لم يصح في الجهر حديث.


بضمّها ، وسما. قال الشاعر (١) :

والله أسماك سمى مباركا

آثرك الله به إيثاركا

وأنشدوا (٢) :

باسم الذي في كلّ سورة سمه

قال الفرّاء : بعض قيس يقولون : سمه ، يريدون : اسمه ، وبعض قضاعة يقولون : سمه. أنشدني بعضهم :

وعامنا أعجبنا مقدّمه

يدعى أبا السّمح وقرضاب سمه (٣)

والقرضاب : القطّاع ، يقال : سيف قرضاب.

واختلف العلماء في اسم الله الذي هو «الله» ؛ فقال قوم : إنه مشتقّ ، وقال آخرون : إنه علم ليس بمشتقّ. وفيه عن الخليل روايتان : إحداهما : أنه ليس بمشتقّ ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن. والثانية : رواها عنه سيبويه : أنه مشتقّ. وذكر أبو سليمان الخطّابيّ عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من : أله الرجل يأله : إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه ، أي : أجاره وأمّنه ، فسمي إلها كما يسمّى الرجل إماما. وقال غيره : أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل : إله كما قالوا : وسادة وإسادة ، ووشاح وإشاح. واشتقّ من الوله ، لأن قلوب العباد توله نحوه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (٤). وكان القياس أن يقال : مألوه ، كما قيل : معبود ، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما ، كما قالوا للمكتوب : كتاب ، وللمحسوب : حساب. وقال بعضهم : أصله من : أله الرجل يأله إذا تحيّر ، لأن القلوب تتحيّر عند التفكّر في عظمته. وحكي عن بعض اللّغويين : أله الرجل يأله إلاهة ، بمعنى : عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال : «ويذرك وإلاهتك» أي : عبادتك. قال :

والتّألّه : التّعبّد. قال رؤبة :

لله درّ الغانيات المدّه

سبّحن واسترجعن من تألّهي

فمعنى الإله : المعبود.

فأما «الرحمن» : فذهب الجمهور إلى أنه مشتقّ من الرحمة ، مبنيّ على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشّبع : شبعان. قال الخطّابيّ : ف «الرحمن» : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمّت المؤمن والكافر. و «الرحيم» : خاصّ للمؤمنين. قال عزوجل : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٥). والرحيم : بمعنى الرّاحم.

__________________

(١) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» ١٤ / ٤٠١ ، ٤٠٢ مادة (سما)

(٢) هو لرؤبة بن العجّاج وتمامه : قد وردت على طريق تعلمه.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ١٣٧ : قرضب الرّجل : إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. وفي «القاموس» القرضاب : الذي لا يدع شيئا إلا أكله.

(٤) النحل : ٥٣.

(٥) الأحزاب : ٤٣.


سورة الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(٩) روى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ وقرأ عليه أبيّ بن كعب أمّ القرآن ـ فقال : «والذي نفسي بيده ، ما أنزل في التّوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزّبور ، ولا في الفرقان مثلها ، هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

فمن أسمائها : الفاتحة ، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها : أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، لأنها أمّت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها : السّبع المثاني ، وإنما سمّيت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله.

واختلف العلماء في نزولها على قولين : أحدهما : أنها مكيّة ، وهو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، وأبي العالية ، وقتادة ، وأبي ميسرة. والثاني : أنها مدنيّة ، وهو مرويّ عن أبي هريرة ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، وعطاء الخراسانيّ. وعن ابن عباس كالقولين (١).

____________________________________

(٩) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٢٥ والنسائي ٢ / ١٣٩ وأحمد ٥ / ١١٤ وابن خزيمة ٥٠٠ وابن حبان ٧٧٥ وصححه الحاكم ١ / ٥٥٧ ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي ٢٨٧٥ والطبري ١٥٨٨٩ والبغوي ١١٨٣ من حديث أبي هريرة مطوّلا ، وإسناده حسن. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، ووافقه البغوي وعجزه ، أخرجه البخاري ٤٧٠٤ من حديث أبي هريرة أيضا. وفي الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري ٤٤٧٤ و ٤٦٤٧ و ٤٧٠٣ و ٥٠٠٦ وأبو داود ١٤٥٨ وابن ماجة ٣٧٨٥ والطيالسي ٢ / ٩ وأحمد ٣ / ٢١١ و ٤٥٠ وابن حبّان ٧٧٧ والطبراني ٢٢ / ٣٠٣ والبيهقي ٢ / ٣٦٨ وانظر «فتح الباري» ٨ / ١٥٧.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ١ / ١٥٤ : اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي ـ واسمه رفيع ـ وغيرهم : هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية.

ويقال نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره.


فصل : فأمّا تفسيرها : ف (الْحَمْدُ) رفع بالابتداء ، و (لِلَّهِ) الخبر. والمعنى : الحمد ثابت لله ، ومستقرّ له ، والجمهور على كسر لام «لله» ، وضمّها ابن [أبي] (١) عبلة ، قال الفرّاء : هي لغة بعض بني ربيعة ، وقرأ ابن السّميفع (٢) : «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا.

واعلم أن الحمد : ثناء على المحمود ، ويشاركه الشكر ، إلا أن بينهما فرقا ، وهو : أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء ، والشكر لا يكون إلّا في مقابلة النعمة ، وقيل : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، فتقديره : قولوا : الحمد لله. وقال ابن قتيبة : (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة ، وأشباه ذلك. والشكر : الثناء عليه بمعروف أو لاكه ، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال : حمدته على معروفه عندي ، كما يقال : شكرت له على شجاعته.

فأما «الرّبّ» فهو المالك ، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة ، فيقال : هذا ربّ الدار ، وربّ العبد. وقيل : هو مأخوذ من التّربية. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : يقال : ربّ فلان صنيعته يربّها ربّا : إذا أتمّها وأصلحها ، فهو ربّ ورابّ. قال الشاعر :

يربّ الذي يأتي من الخير إنه

إذا سئل المعروف زاد وتمّما

قال : والرّبّ يقال على ثلاثة أوجه : أحدها : المالك. يقال : ربّ الدار. والثاني : المصلح ، يقال : ربّ الشيء. والثالث : السّيد المطاع. قال تعالى : (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) (٣).

والجمهور على خفض باء «ربّ». وقرأ أبو العالية ، وابن السّميفع ، وعيسى بن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيليّ ، والرّبيع بن خثيم (٤) وأبو عمران الجوني ، برفعها.

فأما (الْعالَمِينَ) فجمع عالم ، وهو عند أهل العربية : اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم ، وقد سمّوا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة:

أراح الله منك العالمينا (٥)

__________________

والأول أصح لقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير «الحمد لله رب العالمين» ؛ يدل على هذا قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا خبر عن الحكم ، لا عن الابتداء ، والله أعلم.

(١) سقط من نسخ المطبوع ، والاستدراك عن كتب التراجم ، و «تفسير القرطبي» ١ / ١٨١ طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. وابن أبي عبلة اسمه إبراهيم ، تابعي ثقة ، توفي سنة ١٥٢.

(٢) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر ، ووقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع». والمثبت هو الراجح ، فإن الذهبي ضبطه كذلك ، وهو إمام علم الحديث والرجال من المتأخرين.

قال الذهبي في «الميزان» ٣ / ٥٧٥ : محمد بن السّميفع اليماني ، أحد القرّاء ، له قراءة شاذة منقطعة السند ، قاله أبو عمرو الدّاني وغيره ، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي.

(٣) يوسف : ٤١.

(٤) وقع في المطبوع هنا وبعد قليل : (خيثم) والتصويب عن «التقريب» وكتب التراجم.

(٥) هو عجز بيت ، وصدره : تنحي فاجلسي مني بعيدا.


فأمّا أهل النظر ، فالعالم عندهم : اسم يقع على الكون الكلّي المحدث من فلك ، وسماء ، وأرض ، وما بين ذلك.

وفي اشتقاق «العالم» قولان : أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوّي قول أهل اللغة. والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوّي قول أهل النظر ، فكأنه إنما سمّي عندهم بذلك ، لأنه دالّ على خالقه.

وللمفسّرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول : أحدها : الخلق كلّه ، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهنّ. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني : كلّ ذي روح دبّ على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم الجنّ والإنس. روي أيضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، ومقاتل. والرابع : أنهم الجنّ والإنس والملائكة ، نقل عن ابن عباس أيضا ، واختاره ابن قتيبة. والخامس : أنّهم الملائكة ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣). قرأ أبو العالية ، وابن السّميفع ، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما ، وقرأ أبو رزين العقيليّ ، والرّبيع بن خثيم ، وأبو عمران الجونيّ بالرفع فيهما.

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤). قرأ عاصم والكسائيّ ، وخلق ويعقوب : «مالك» بألف. وقرأ ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة كذلك ، إلّا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة ، وعاصم الجحدريّ : «ملك» بإسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف ، وقرأ أبو عثمان النّهديّ ، والشّعبيّ «ملك» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وعائشة ، ومورّق العجليّ : «ملك» مثل ذلك إلّا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء العطارديّ «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك ، إلّا أنه ضمّ الكاف. وقرأ أبو حنيفة ، وأبو حياة «ملك» على الفعل الماضي ، «ويوم» بالنصب. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : إسكان اللام ، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «ملك» بفتح الميم مع كسر اللام ، وهو أظهر في المدح ، لأن كل ملك مالك ، وليس كلّ مالك ملكا.

وفي «الدّين» ها هنا قولان : أحدهما : أنه الحساب. قاله ابن مسعود. والثاني : الجزاء. قاله ابن عباس. ولما أخبر الله عزوجل في قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أنه مالك الدنيا. دلّ بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على أنه مالك الأخرى. وقيل : إنما خصّ يوم الدّين ، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.

قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وقرأ الحسن ، وأبو المتوكّل ، وأبو مجلز «يعبد» بضم الياء وفتح الباء. قال ابن الأنباريّ : المعنى : قل يا محمّد : إياك يعبد ، والعرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ؛ كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (١) ، وقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) (٢). وقال لبيد :

باتت تشكّى إليّ النفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

وفي المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى التّوحيد. روي عن عليّ ، وابن عباس في آخرين. والثاني : أنها بمعنى الطّاعة ، كقوله : (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) (٣). والثالث : أنها بمعنى

__________________

(١) يونس : ٢٢.

(٢) الدهر : ٢١ ، ٢٢.

(٣) يس : ٦٠.


الدّعاء ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (١).

قوله تعالى : (اهْدِنَا) فيه أربعة أقوال : أحدها : ثبّتنا. قاله عليّ ، وأبيّ. والثاني : أرشدنا. والثالث : وفّقنا. والرابع : ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.

و (الصِّراطَ) : الطريق. ويقال : إن أصله بالسّين ، لأنه من الاستراط وهو : الابتلاع ، فالسّراط كأنه يسترط المارّين عليه ، فمن قرأ بالسين ، كمجاهد ، وابن محيصن ، ويعقوب ، فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصاد ، كأبي عمرو ، والجمهور ، فلأنها أخفّ على اللّسان ، ومن قرأ بالزاي ، كرواية الأصمعيّ عن أبي عمرو ، واحتجّ بقول العرب : صقر وسقر وزقر. وروي عن حمزة : إشمام السين زايا ، وروي عنه أنه تلفّظ بالصّراط بين الصاد والزاي. قال الفرّاء : اللغة الجيدة بالصاد ، وهي لغة قريش الأولى ، وعامّة العرب يجعلونها سينا ، وبعض قيس يشمّون الصاد ، فيقول : الصراط بين الصاد والسين ، وكان حمزة يقرأ «الزّراط» بالزاي ، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في «أصدق» : أزدق.

وفي المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال :

(١٠) أحدها : أنه كتاب الله ، رواه عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

____________________________________

(١٠) المرفوع ضعيف ، والصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة ، أشهرها حديث الحارث الأعور ، قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ، فدخلت على علي رضي الله عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال : أوقد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن ـ أي لم يتوقفوا ـ في قبوله ، وأنه كلام الله تعالى إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، من قال به صدق ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي ٢٩٠٦ وابن أبي شيبة ١٠ / ٤٨٢ والدارمي ٢ / ٤٣٥ والبزار في مسنده ٣ / ٧١ ـ ٧٢ والفريابي في «فضائل القرآن» ٨١ وأبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» ١ / ٥ ـ ٦. ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص ١٥٧ ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» ١ / ٩١ والبيهقي في «الشعب» ٤ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧ من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد ، وإسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد الله. قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول ، وفي حديث الحارث مقال اه. وورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي ٢ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦ والفريابي في «فضائل القرآن» ٧٩ ، والبزار ٣ / ٧٠ ـ ٧١ وأبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» ٣٥. وأخرجه أحمد ١ / ٩١ وأبو يعلى ١ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ والبزار ٣ / ٧٠ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٨ / ٣٢١ من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... وهذا إسناد ضعيف ، فيه من لم يسم ، والظاهر أنه الحارث ، وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص ١٧ ـ ١٨ بعد أن ذكر هذه الروايات وتكلم عليها : وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه ، وهو كلام حسن صحيح اه.

__________________

(١) غافر : ٦٠.


والثاني : أنه دين الإسلام. قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية في آخرين. والثالث : أنه الطريق الهادي إلى دين الله ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والرابع : أنه طريق الجنّة ، نقل عن ابن عباس أيضا. فإن قيل : ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن المعنى : اهدنا لزوم الصّراط ، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباريّ. والثاني : أن المعنى : ثبّتنا على الهدى ، تقول العرب للقائم : قم حتى آتيك ، أي : اثبت على حالك. والثالث : أن المعنى : زدنا هداية.

قوله تعالى : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). قال ابن عباس : هم النبيّون ، والصّدّيقون ، والشّهداء ، والصّالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء ، وكذلك «لديهم» و «إليهم» وقرأهنّ حمزة بضمّها. وكان ابن كثير يصل (١) ضمّ الميم بواو. وقال ابن الأنباريّ : حكى اللّغويون في «عليهم» عشر لغات ، قرئ بعامّتها «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم «وعليهم» بكسر الهاء وإسكان الميم ، و «وعليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة ، و «عليهمو» بكسر الهاء وضمّ الميم وزيادة واو بعد الضمّة ، و «عليهمو» بضم الهاء والميم وإدخال واو بعد الميم ، و «عليهم» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو ، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القرّاء ، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهمي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم ، و «عليهم» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء ، و «عليهم» بكسر الهاء وضمّ الميم من غير إلحاق واو ، و «عليهم» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.

(١١) فأمّا «المغضوب عليهم» فهم اليهود ؛ و «الضّالون» : النّصارى. رواه عديّ بن حاتم عن

____________________________________

وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص ٢١ وابن الضريس ٥٨ والحاكم ١ / ٥٥٥ والآجري في «أخلاق حملة القرآن» ١١ وابن حبان في «المجروحين» ١ / ١٠٠ وأبو الشيخ في «طبقات أصبهان» ٤ / ٢٥٢ وأبو الفضل الرازي ٣٠ وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» ٢ / ٢٧٨ وابن الجوزي في «العلل» ١ / ١٠١ ـ ١٠٢ ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» ١ / ٨٨ والبيهقي في «الشعب» ٤ / ٥٥٠.

وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو لين الحديث. والحديث صححه الحاكم ، وقال الذهبي : إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. وقال ابن الجوزي : يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. وقال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص ١٧ ـ ١٨ : وهذا غريب من هذا الوجه ، وإبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين ، ولكن تكلموا فيه كثيرا ، وقال أبو حاتم الرازي : لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي : رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير : فيحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون وهم في رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له شاهد من وجه آخر والله أعلم اه.

ـ والموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي ٢ / ٤٣١ والطبراني في «الكبير» ٩ / ١٣٩ وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» ٢ / ٢٧٢ وأبو الفضل الرازي ٣١ و ٣٢ والبيهقي في «الشعب» ٤ / ٥٤٩.

ـ وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري ٧٥٧٠ وفيه عطية العوفي ، وهو ضعيف ، والأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وقد أنكر الذهبي رحمه‌الله هذا الحديث ، كونه مرفوعا ، وصوّب ابن كثير فيه الوقف ، وهو الراجح ، والله أعلم.

(١١) صحيح. أخرجه الترمذي ٢٩٥٤ وأحمد ٤ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩ وابن حبان ٧٢٠٦ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٣٣٩

__________________

(١) قال السيوطي في «الدر» ١ / ٤٢ : وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن ابن إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو.

وانظر «تفسير الشوكاني» ١ / ٢٩.


النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن قتيبة : والضّلال : الحيرة والعدول عن الحقّ.

فصل : ومن السّنّة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين». قال شيخنا أبو الحسن عليّ بن عبيد الله : وسواء كان خارج الصلاة أو فيها.

(١٢) لما روى أبو هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضّالين) فقال من خلفه : آمين ، فوافق ذلك قول أهل السماء ، غفر له ما تقدّم من ذنبه».

وفي معنى «آمين» ثلاثة أقوال : أحدها : أن معنى آمين : كذلك يكون. حكاه ابن الأنباريّ عن ابن عباس ، والحسن. والثاني : أنها بمعنى : اللهمّ استجب. قاله الحسن والزّجّاج. والثالث : أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد ، وهلال بن يساف ، وجعفر بن محمّد.

وقال ابن قتيبة : معناها : يا أمين أجب دعاءنا ، فسقطت يا ، كما سقطت في قوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (١) ، تأويله : يا يوسف. ومن طوّل الألف فقال : آمين ، أدخل ألف النداء على ألف أمين ، كما يقال : آ زيد أقبل : ومعناه : يا زيد. قال ابن الأنباريّ : وهذا القول خطأ عند جميع النّحويين ، لأنه إذا أدخل «يا» على «آمين» كان منادى مفردا ، فحكم آخره الرفع ، فلما أجمعت العرب على فتح نونه ، دلّ على أنه غير منادى ، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها ، كما تقول العرب : ليت ، ولعلّ. قال : وفي «آمين» لغتان : «أمين» بالقصر ، و «آمين» بالمدّ ، والنون فيهما مفتوحة. أنشدنا أبو العبّاس عن ابن الأعرابيّ :

سقى الله حيّا بين صارة والحمى

حمى فيد صوب المدجنات المواطر (٢)

أمين وأدّى الله ركبا إليهم

بخير ووقّاهم حمام المقادر

____________________________________

٣٤١ والطبراني ١٧ / ٢٣٧ من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضلال» ، وحسّن إسناده الترمذي. وقال الهيثمي في «المجمع» ٥ / ٣٣٥ : رجال أحمد رجال الصحيح غير عباد بن حبيش ، وهو ثقة اه. وتوبع عباد عند الطبري ٢٠٧ وقد تقدم ومن وجه آخر ٢٠٩ فهو صحيح.

ويشهد له ما أخرجه أحمد ٥ / ٣٢ ـ ٣٣ والطبري ٢١٢ وعبد الرزاق في «تفسيره» ١٣ عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بوادي القرى ، وهو على فرسه فسأله رجل من بلقين ، فقال : يا رسول الله : «من هؤلاء؟ قال : هؤلاء المغضوب عليهم ـ وأشار إلى اليهود ـ قال : فمن هؤلاء؟ قال : هؤلاء الضالين ـ يعني النصارى ـ قال : وجاء رجل فقال : استشهد مولاك ، أو قال : غلامك فلان ، قال : بل يجر إلى النار في عباءة غلها». وإسناده إليه صحيح وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر «المجمع» ١٠٨٠٩ و ١٠٨١٠. وانظر «تفسير الشوكاني» ١ / ٢٩ بتخريجنا.

(١٢) صحيح. أخرجه البخاري ٧٨٠ ـ ٧٨١ ـ ٧٨٢ ـ ٦٤٠٢ ومسلم ٤١٠ وأبو داود ٩٣٦ والترمذي ٢٥٠ والنسائي ٢ / ١٤٣ ـ ١٤٤ وابن ماجة ٨٥٢ ومالك ١ / ٨٧ والشافعي في «المسند» ١ / ٧٦ وعبد الرزاق في «المصنّف» ٢٦٤٤ وأحمد ٢ / ٢٣٣ ، والدارمي ١ / ٢٨٤ وابن حبان ١٨٠٤ والبيهقي في «السنن» ٢ / ٥٧ عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» قال ابن شهاب وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «آمين». لفظ البخاري.

__________________

(١) يوسف : ٢٩.

(٢) الدّاجنة : المطرة المطبقة كالدّيمة. والدّجن : إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء ، والمطر الكثير.


وأنشدنا أبو العبّاس أيضا :

تباعد منّي فطحل وابن أمّه

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وأنشدنا أبو العبّاس أيضا :

يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

وأنشدني أبي :

أمين ومن أعطاك منّي هوادة

رمى الله في أطرافه فاقفعلّت (١)

وأنشدني أبي :

فقلت له قد هجت لي بارح الهوى

أصاب حمام الموت أهوننا وجدا

أمين وأضناه الهوى فوق ما به

أمين ولاقى من تباريحه جهدا

فصل : نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحّة الصلاة ، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته وهو قول مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : لا تتعيّن ، وهي رواية عن أحمد (٢).

(١٣) ويدلّ على الرواية الأولى : ما روي في «الصّحيحين» من حديث عبادة بن الصّامت عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

____________________________________

(١٣) صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٦ ومسلم ٣٩٤ وأبو داود ٨٢٢ والنسائي ٢ / ١٣٧ والدارمي ١ / ٢٨٣ وابن ماجة ٨٣٧ وابن الجارود ١٨٥ والحميدي ٣٨٦ والشافعي ١ / ٧٥ وأحمد ٥ / ٣١٤ ـ ٣٢١ وابن حبّان ١٧٨٢ و ١٧٨٦ كلهم من حديث عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». ورواية لمسلم «لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن». وانظر «تفسير القرطبي» ١ / ١٥٤ ـ ١٥٧ بتخريجي.

__________________

(١) في «القاموس» اقفعلّت يداه اقفعلالا : تشنجت وتقبّضت.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ١٥٧ ـ ١٦٠. : واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه : هي متعيّنة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية ؛ فقال مرة : يعيد الصلاة ، وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو ، قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. وقال أبو الحسن البصري : إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه‌السلام : «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» وهذا قد قرأ بها. قلت : ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة وهو الصحيح على ما يأتي. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه ؛ على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك.

وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أقلّه ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدّين. والصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» وقوله : «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثلاثا.

وقال أبو هريرة : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أنادي أنه : «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها.


سورة البقرة

(فصل في فضيلتها)

(١٤) روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، فإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان».

(١٥) وروى أبو أمامة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «أقرأوا الزّهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان ، أو غيايتان ، أو فرقان من طير صوافّ ، اقرءوا البقرة ، فإنّ أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة». والمراد بالزّهراوين : المنيرتين. يقال لكل منير : زاهر. والغياية : كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه ، مثل السّحابة والغبرة. يقال : غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف ، كأنهم أظلّوه به. قال لبيد :

فتدلّيت عليه قافلا

وعلى الأرض غيايات الطّفل

ومعنى فرقان : قطعتان. والفرق : القطعة من الشيء. قال الله عزوجل : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (١). والصوّاف : المصطفّة المتضامّة لتظلّ قارئها. والبطلة : السّحرة.

(فصل في نزولها)

قال ابن عباس : هي أوّل ما نزل بالمدينة ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، ومقاتل. وذكر قوم أنها مدنية سوى آية ، وهي قوله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٢) ، فإنها نزلت يوم النّحر بمنى في حجّة الوداع.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١))

فصل : وأمّا التفسير فقوله : (الم). اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطّعة في أوائل

____________________________________

(١٤) صحيح. أخرجه مسلم ٧٨٠ والترمذي ٢٨٧٧ ، والنسائي في «الكبرى» ٦ / ١٠٨٠١.

(١٥) صحيح. أخرجه مسلم ٨٠٤ من حديث أبي أمامة.

__________________

(١) الشعراء : ٦٣.

(٢) البقرة : ٢٨١.


السور على ستة أقوال (١) : أحدها : أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلّا الله. قال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه : لله عزوجل في كل كتاب سرّ ، وسرّ الله في القرآن أوائل السّور ، وإلى هذا المعنى ذهب الشّعبيّ ، وأبو صالح ، وابن زيد. والثاني : أنها حروف من أسماء ، فإذا ألّفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عزوجل. قال عليّ بن أبي طالب : هي أسماء مقطّعة ، لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «الر» و «حم» و «نون» ، فقال : اسم الرحمن على الهجاء ، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية ، والرّبيع بن أنس. والثالث : أنها حروف أقسم الله بها ، قاله ابن عباس ، وعكرمة. قال ابن قتيبة : ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطّعة كلّها ، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل : تعلمت «أب ت ث» وهو يريد سائر الحروف ، وكما يقول : قرأت الحمد ، يريد فاتحة الكتاب ، فيسمّيها بأوّل حرف منها ، وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ، ولأنها مباني كتبه المنزّلة ، وبها يذكر ويوحّد. قال ابن الأنباريّ : وجواب القسم محذوف ، تقديره : وحروف المعجم لقد بيّن الله لكم السبيل ، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزّل ، وإنما حذف لعلم المخاطبين به ، ولأن في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) دليلا على الجواب. والرابع : أنه أشار بما ذكر من الحروف إلى سائرها ، والمعنى : أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلّف ، أخبر أن هذا القرآن إنما هو مؤلّف من هذه الحروف ، قاله الفرّاء ، وقطرب. فإن قيل : فقد علموا أنه حروف ، فما الفائدة في إعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبّه بذلك على إعجازه ، فكأنه قال : هو من هذه الحروف التي تؤلّفون منها كلامكم ، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فإذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد عليه‌السلام.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٣٥ ـ ٣٧ : قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السّور. فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها. ومنهم من فسّرها ، واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما هي أسماء السور. وقال الزمخشري في «تفسيره» : وعليه إطباق الأكثر ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم) السجدة ، و (هل أتى على الإنسان). وقال سفيان الثوري آلم ، حم ، والمص ، وص ، فواتح افتتح الله بها القرآن. وفي رواية عن ابن أبي نجيح أنه قال : آلم اسم من أسماء القرآن.

ولعل هذا يرجع إلى معنى القول اسم من أسماء السور فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم السامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى قال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال : آلم اسم الله الأعظم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر.

وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك. قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ... وقد سردها مفصلة ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ممن لا يحتج به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأطم وأعظم. والله أعلم.


والخامس : أنها أسماء للسّور. روي عن زيد بن أسلم ، وابنه ، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ. والسادس : أنها من الرّمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل : هل تا؟ فيقول له : بلى ، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا :

قلنا لها قفي لنا فقالت قاف (١)

أراد : قالت : أقف. ومثله :

نادوهم أن ألجموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم بلى فا

يريد : ألا تركبون؟ قالوا : بلى فاركبوا. ومثله :

بالخير خيرات وإن شرا فا

ولا أريد الشرّ إلّا أن تا

معناه : وإنّ شرا فشرّ ولا أريد الشرّ إلا أن تشاء. وإلى هذا القول ذهب الأخفش ، والزّجّاج ، وابن الأنباريّ. وقال أبو روق عطيّة بن الحارث الهمدانيّ (٢) :

(١٦) كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها ، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون ، فنزلت هذه الحروف المقطّعة ، فسمعوها فبقوا متحيّرين. وقال غيره : إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه ، لأن النفوس تتطلّع إلى ما غاب عنها. معناه : فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون ، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ ، إلا أنه لا بدّ له من معنى يعلمه غيرهم ، أو يكون معلوما عند المخاطب ، فهذا الكلام يعمّ جميع الحروف.

وقد خصّ المفسّرون قوله «الم» بخمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عزوجل ، وقد سبق بيانه. والثاني : أن معناه : أنا الله أعلم. رواه أبو الضّحى عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وسعيد بن جبير. والثالث : أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وخالد الحذّاء عن عكرمة. والرابع : أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان : أحدهما : أن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمّد» ، قاله ابن عبّاس. فإن قيل : إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به ، فلم أخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! فالجواب : أن مبتدأ القرآن من الله تعالى ، فدلّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه ، وجبريل انختم به التنزيل والإقراء ، فتنوول من اسمه نهاية حروفه ، و «محمد» مبتدأ في الإقراء ، فتنوول أول حروفه. والقول الثاني : أن الألف من «الله» تعالى ، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية. والخامس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، والشّعبيّ ، وقتادة ، وابن جريج.

____________________________________

(١٦) لم أقف على إسناده إلى أبي روق ، وأبو روق تابعي ، فالخبر مرسل ، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

__________________

(١) صدر بيت وعجزه «لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف».

(٢) نسبة إلى همدان ، وهي قبيلة يمنية ، وأما همذان ـ بفتحات وبالذال ، فهي مدينة في فارس.

(٣) الصحيح في ذلك أن يقال : الله أعلم بمراده ، فهذا نكل علمه إلى الله سبحانه ، وتقدم كلام الحافظ ابن كثير.


(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

قوله تعالى : (ذلِكَ) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى هذا ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والكسائيّ ، وأبي عبيدة ، والأخفش. واحتجّ بعضهم بقول خفاف بن ندبة :

أقول له والرّمح يأطر متنه

تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا (١)

أي : أنا هذا. وقال ابن الأنباريّ : إنما أراد : أنا ذلك الذي تعرفه.

والثاني : أنها إشارة إلى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن. والثاني : أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله : (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٢). والثالث : أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتاب السّالفة ، لأنهم وعدوا بنبيّ وكتاب.

و (الْكِتابُ) : القرآن. وسمّي كتابا ، لأنه جمع بعضه إلى بعض ، ومنه الكتيبة ، سمّيت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض. ومنه : كتبت البغلة (٣).

قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ). الرّيب : الشّك. والهدى : الإرشاد. والمتّقون : المحترزون مما اتّقوه. وفرّق شيخنا عليّ بن عبيد الله بين التقوى والورع ، فقال : التقوى : أخذ عدّة ، والورع : دفع شبهة ، فالتقوى : متحقّق السّبب ، والورع : مظنون المسبّب.

واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أن ظاهرها النفي ، ومعناها النهي ، وتقديرها : لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٤) ، أي : ما ينبغي لنا. ومثله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) (٥) ، وهذا مذهب الخليل ، وابن الأنباريّ. والثاني : أن معناها : لا ريب فيه أنه هدى للمتقين. قاله المبرّد. والثالث : أن معناها : لا ريب فيه أنه من عند الله ، قاله مقاتل في آخرين. فإن قيل : فقد ارتاب به قوم. فالجواب : أنه حقّ في نفسه ، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر (٦) :

ليس في الحقّ يا أمامة ريب

إنّما الرّيب ما يقول الكذوب

فإن قيل : فالمتّقي مهتد ، فما فائدة اختصاص الهداية به؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه أراد المتقين والكافرين ، فاكتفى بذكر أحد الفريقين ؛ كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٧) ، أراد : والبرد. والثاني : أنه خصّ المتّقين لانتفاعهم به ؛ كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٨) ، وكان منذرا لمن يخشى ولمن لا يخشى.

__________________

(١) في «القاموس» تأطّر الرمح : تثنّى وانعطف. المتن من السهم : ما بين الريش إلى وسطه.

(٢) المزمل : ٥.

(٣) في «القاموس» كتبت الناقة : ختم حياؤها ، أو خزم بحلقة من حديد ونحوه. وكتب الناقة : ظأرها فخزم منخريها بشيء لئلا تشمّ اه مع التصرف.

(٤) يوسف : ٣٨.

(٥) البقرة : ١٩٦.

(٦) هو عبد الله بن الزّبعرى. انظر «تفسير القرطبي» ١ / ٢٠٥.

(٧) النحل : ٨١.

(٨) النازعات : ٤٥.


(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، الإيمان في اللغة : التّصديق ، والشرع أقرّه على ذلك ، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب : المكان المطمئنّ الذي يستتر فيه لنزوله عمّا حوله ، فسمّي كلّ مستتر : غيبا. وفي المراد بالغيب ها هنا ستّة أقوال : أحدها : أنه الوحي ، قاله ابن عباس ، وابن جريج. والثاني : القرآن ، قاله أبو رزين العقيليّ ، وزرّ بن حبيش. والثالث : الله عزوجل ، قاله عطاء ، وسعيد بن جبير.

والرابع : ما غاب عن العباد من أمر الجنّة والنار ، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السّدّيّ عن أشياخه ، وإليه ذهب أبو العالية ، وقتادة. والخامس : أنه قدر الله عزوجل ، قاله الزّهريّ. والسادس : أنه الإيمان بالرسول في حقّ من لم يره. قال عمرو بن مرّة : قال أصحاب عبد الله (١) له : طوبى لك ، جاهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجالسته. فقال : إن شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبيّنا لمن رآه ، ولكن أعجب من ذلك : قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه ، ثم قرأ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ). الصلاة في اللغة : الدّعاء. وفي الشريعة : أفعال وأقوال على صفات مخصوصة. وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال : أحدها : أنّها سمّيت بذلك لرفع الصّلا ، وهو مغرز الذّنب من الفرس. والثاني : أنها من صليت العود ، إذا ليّنته ، فالمصلّي يلين ويخشع. والثالث : أنها مبنية على السؤال والدّعاء ، والصّلاة في اللغة : الدّعاء ، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل : أراد بها هاهنا : الصلوات الخمس.

وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : أنه إدامتها ، والعرب تقول في الشيء الرّاتب : قائم ، وفلان يقيم أرزاق الجند ، قاله ابن كيسان.

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) أي : يخرجون. وأصل الإنفاق الإخراج. يقال : نفقت الدّابة : إذا خرجت روحها. وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال : أحدها : أنها النفقة على الأهل والعيال ، قاله ابن مسعود ، وحذيفة. والثاني : أنها الزكاة المفروضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثالث : أنها الصدقات النّوافل ، قاله مجاهد والضّحّاك. والرابع : أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ، ذكره بعض المفسّرين ، وقالوا : إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته. ويفرّق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء ، الآية منسوخة بآية الزكاة ، وغير هذا القول أثبت. واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب ، وبين الصلاة وهي فعل البدن ، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال ، أنه ليس في التكليف قسم رابع ، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما ، كالحجّ والصّوم ونحوهما.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

__________________

(١) هو عبد الله بن مسعود ، أحد الصحابة السابقين ، توفي سنة ٣٣ رضي الله عنه.


قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، واختاره مقاتل (١). والثاني : أنها نزلت في العرب الذين آمنوا بالنبيّ وبما أنزل من قبله. رواه أبو صالح عن ابن عبّاس (٢). قال المفسّرون : الذي أنزل إليه ، القرآن. وقال شيخنا عليّ بن عبيد الله : القرآن وغيره مما أوحي إليه. قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعني الكتاب المتقدّمة والوحي ، فأما (الآخرة) فهي اسم لما بعد الدنيا ، وسمّيت آخرة ، لأن الدنيا قد تقدّمتها. وقيل : سمّيت آخرة لأنها نهاية الأمر. قوله تعالى : (يُوقِنُونَ) ، اليقين : ما حصلت به الثقة ، وثلج به الصدر ، وهو أبلغ علم مكتسب.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) أي على رشاد. وقال ابن عبّاس : على نور واستقامة. قال ابن قتيبة : (الْمُفْلِحُونَ) : الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح : البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد :

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا

ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

يريد : البقاء ، وقال الزّجّاج : المفلح : الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباريّ : ومنه : حيّ على الفلاح ، معناه : هلمّوا إلى سبيل الفوز ودخول الجنّة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) في نزولها أربعة أقوال : أحدها : أنها نزلت في قادة الأحزاب ، قاله أبو العالية. والثاني : أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، قاله الضّحّاك. والثالث : أنها نزلت في طائفة من اليهود ، ومنهم حييّ بن أخطب ، قاله ابن السّائب. والرابع : أنها نزلت في مشركي العرب ، كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم (٣) ، قاله مقاتل.

فأمّا تفسيرها ، فالكفر في اللغة : التغطية. تقول : كفرت الشيء إذا غطّيته ، فسمّي الكافر كافرا ، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ، أي : متعادل عندهم الإنذار وتركه ، والإنذار : إعلام مع تخويف ، وتناذر بنو فلان هذا الأمر : إذا خوّفه بعضهم بعضا.

__________________

(١) أثر ابن عباس لم أقف عليه ، ولا يصح ، فإنه من رواية الضّحّاك ، وهو لم يلق ابن عباس ، والراوي عن الضحاك هو جويبر بن سعيد ، ذاك المتروك ، وهو إن لم يذكره المصنف ، فهو المتعين ، لأنه يروي عن الضحّاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ، ولا يصح. وأما أثر مقاتل ، فهو واه أيضا ، فهو مرسل ، ومع إرساله مقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب ، وإن كان ابن حيان ، فقد روى مناكير ، والراجح عند الإطلاق ابن سليمان. والصحيح عموم الآية ، والله أعلم.

(٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٩٢ من طريق أبي صالح عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، لضعف أبي صالح ، واسمه باذان ، ويقال باذام.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٥ : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول وهو الأظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها والله أعلم.


قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : هذه الآية وردت بلفظ العموم ، والمراد بها الخصوص ، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن ، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم ، ولو كانت على ظاهرها في العموم ، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره ، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، الختم : الطّبع ، والقلب : قطعة من دم جامدة سوداء ، وهو مستكنّ في الفؤاد ، وهو بيت النّفس ، ومسكن العقل ، وسمّي قلبا لتقلّبه. وقيل : لأنه خالص البدن ، وإما خصّه بالختم لأنه محلّ الفهم.

قوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، يريد : على أسماعهم ، فذكره بلفظ التوحيد ، ومعناه : الجمع ، ونظيره قوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (١). وأنشدوا من ذلك :

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

فإنّ زمانكم زمن خميص

أي : في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة ، والزّجّاج. وفيه وجه آخر ، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر ، والمصدر يوحّد ، تقول : يعجبني حديثكم ، ويعجبني ضربكم. فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزّجّاج ، وابن القاسم.

وقد قرأ عمرو بن العاص ، وابن أبي عبلة : (وعلى أسماعهم).

قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، الغشاوة : الغطاء. قال الفرّاء : أما قريش وعامّة العرب ، فيكسرون الغين من «غشاوة» ، وعكل يضمّون الغين ، وبعض العرب يفتحها ، وأظنها لربيعة. وروى المفضّل عن عاصم (غِشاوَةٌ) بالنصب على تقدير : وجعل على أبصارهم غشاوة. فأما العذاب ، فهو الألم المستمر ، وماء عذب : إذا استمرّ في الحلق سائغا.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها في المنافقين ، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، وقتادة ، وابن زيد (٢). والثاني : أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين : كانوا يتخوّفون من هذه الآية. وقال قتادة : هذه الآية نعت المنافق ، يعرف بلسانه ، وينكر بقلبه ، ويصدّق بلسانه ، ويخالف بعمله ، ويصبح على حال ، ويمسي على غيرها ، ويتكفّأ تكفّؤ السّفينة ، كلما هبّت ريح هبّ معها.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ). قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبيّ ، ومعتّب بن قشير ، والجدّ بن

__________________

(١) الحج : ٥.

(٢) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري ، مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامة. قال البخاري : عبد الرحمن ضعفه عليّ جدّا ، وقال النسائي : ضعيف. وقال أحمد : عبد الله ثقة والآخران ضعيفان. كما في الميزان.


القيس ؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنّا ، ونشهد أن صاحبكم صادق ، فإذا خلوا لم يكونوا كذلك ، فنزلت هذه الآية (١). فأمّا التفسير ، فالخديعة : الحيلة والمكر ، وسمّيت خديعة ، لأنها تكون في خفاء. والمخدع : بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة ، ورجل خادع : إذا فعل الخديعة ، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل ، فإذا حصل مقصوده ، قيل : قد خدع. وانخدع الرجل : استجاب للخادع ، سواء تعمّد الاستجابة أو لم يقصدها ، والعرب تسمّي الدّهر خدّاعا ، لتلوّنه بما يخفيه من خير وشرّ. وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يخادعون المؤمنين ، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس ؛ واختاره ابن قتيبة. والثاني : أنهم كانوا يخادعون نبيّ الله ، فأقام الله نبيه مقامه ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٢) ، قاله الزّجّاج. والثالث : أن الخادع عند العرب : الفاسد. وأنشدوا (٣) :

[أبيض اللون لذيذ طعمه] (٤)

طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع

أي : فسد. رواه محمّد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ. قال ابن القاسم : فتأويل : يخادعون الله : يفسدون ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر.

والرابع : أنهم كانوا يفعلون في دين الله ما لو فعلوه بينهم كان خداعا.

والخامس : أنهم كانوا يخفون كفرهم ، ويظهرون الإيمان به.

قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وما يخادعون» وقرأ الكوفيون ، وابن عامر : (يخدعون) ، والمعنى : أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم.

ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان :

أحدهما : في دار الدنيا ، وذلك بطريقين : أحدهما : بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذابا.

والثاني : باطلاع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على أحوالهم التي أسرّوها.

والقول الثاني : أن عود الخداع عليهم في الآخرة. وفي ذلك قولان : أحدهما : أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين ، وذلك قوله : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) (٥) الآية ... والثاني : أنه يعود عليهم عند اطّلاع أهل الجنّة عليهم ، فإذا رأوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم ، فقالوا : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) (٦) ، فيجيبونهم : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٧).

قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) ، أي : وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان :

__________________

(١) باطل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٦ عن ابن عباس إسناده واه جدا فيه محمد بن مروان بن السائب عن الكلبي عن أبي صالح ، أطلق العلماء على هذا الإسناد : سلسلة الكذب والأثر ذكره السيوطي في «الدر» ١ / ٣١ وعزاه للواحدي والثعلبي بسند واه.

(٢) الفتح : ١٠.

(٣) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري.

(٤) ما بين المعقوفتين زيادة عن «اللسان».

(٥) الحديد : ١٣.

(٦) الأعراف : ٥٠.

(٧) الأعراف : ٥١.


أحدهما : أنه إطلاع الله نبيّه على كذبهم ، قاله ابن عبّاس.

والثاني : أنه إسرارهم بأنفسهم بكفرهم ، قاله ابن زيد.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، المرض هاهنا : الشّك ، قاله عكرمة ، وقتادة. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) هذا الإخبار من الله عزوجل أنه فعل بهم ذلك ، و «الأليم» بمعنى المؤلم ، والجمهور يقرءون «يكذّبون» بالتشديد ، وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

أحدهما : أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول الجمهور ، منهم ابن عباس ، ومجاهد.

والثاني : أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها ، قاله سلمان الفارسيّ. وكان الكسائيّ يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض» ، والجيم من «جيء» ، والسين من «سيئ» و «سيئت». وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة : «حيل» و «سيق» و «سيئ». وكان نافع يضم «سيئ» و «سيئت» ، ويكسر البواقي ، والآخرون يكسرون جميع ذلك. وقال الفرّاء : أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و «جيء» و «غيض» ، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد ، يشمّون إلى الضمة من «قيل» و «جيء».

وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال : أحدها : أنه الكفر ، قاله ابن عباس. والثاني : العمل بالمعاصي ، قاله أبو العالية ، ومقاتل. والثالث : أنه الكفر والمعاصي ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والرابع : أنه ترك امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، قاله مجاهد. والخامس : أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار ، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله.

قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، فيه خمسة أقوال : أحدها : أن معناه إنكار ما عرفوا به ، وتقديره : ما فعلنا شيئا يوجب الفساد. والثاني : أن معناه : إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين ، والقولان عن ابن عباس. والثالث : أنهم أرادوا : في مصافاة الكفار صلاح لا فساد ، قاله مجاهد وقتادة. والرابع : أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح ، وتصديق محمّد هو الفساد ، قاله السّدّيّ. والخامس : أنهم ظنّوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين ، لأنهم اعتقدوا أن الدّولة (١) إن كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أمنوه بمتابعته ، وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم ، ذكره شيخنا.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ، قال الزّجّاج : ألا : كلمة يبتدأ بها ، ينبّه بها المخاطب ،

__________________

(١) في «القاموس» الدّولة : انقلاب الزمان ، والغلبة.


تدلّ على صحة ما بعدها. و «هم» : تأكيد للكلام.

وفي قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما : لا يشعرون أن الله يطلع نبيّه على فسادهم. والثاني : لا يشعرون أن ما فعلوه فساد ، لا صلاح.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) ، في المقول لهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : المنافقون ، قاله مجاهد ، وابن زيد.

وفي القائلين لهم قولان : أحدهما : أنهم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عبّاس ، ولم يعيّن أحدا من أصحابه. والثاني : أنهم معيّنون ، وهم سعد بن معاذ ، وأبو لبابة وأسيد ، ذكره مقاتل.

وفي الإيمان الذي دعوا إليه قولان : أحدهما : أنه التصديق بالنّبيّ ، وهو قول من قال : هم اليهود. والثاني : أنه العمل بمقتضى ما أظهروه ، وهو قول من قال : هم المنافقون.

وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : جميع الصحابة ، قاله ابن عباس. والثاني :

عبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه من اليهود ، قاله مقاتل. والثالث : معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وجماعة من وجوه الأنصار ، عدّهم الكلبيّ.

وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال : أحدها : جميع الصحابة ، قاله ابن عبّاس. والثاني : النساء والصبيان ، قاله الحسن. والثالث : ابن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل.

وفيما عنوه بالغيب من إيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أرادوا دين الإسلام ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم أرادوا البعث والجزاء ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة ، وهذا الوجه والذي قبله يخرّج على أنهم المنافقون ، والأول يخرّج على أنهم اليهود. قال ابن قتيبة : السّفهاء : الجهلة ، يقال : سفه فلان رأيه ، إذا جهله ، ومنه قيل للبذاء : سفه ، لأنه جهل. قال الزّجّاج : وأصل السّفه في اللغة : خفّة الحلم ، ويقال :

ثوب سفيه : إذا كان رقيقا باليا ، وتسفّهت الريح الشجر : إذا مالت به. قال الشاعر (١) :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (٢)

قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). قال مقاتل : لا يعلمون أنهم هم السّفهاء.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا). اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، قاله ابن عبّاس (٣). والثاني : أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب

__________________

(١) هو ذو الرّمّة ـ غيلان بن عقبة.

(٢) النواسم : الرياح الضعيفة الهبوب ، قاله يصف النساء ، وهن يمشين.

(٣) تقدم أنه ورد بسند ساقط.


الذين كانوا يظهرون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه ، قاله الحسن.

فأمّا التفسير : ف «إلى» : بمعنى «مع» ، كقوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ*) (١) أي : مع الله.

والشّياطين : جمع شيطان ، قال الخليل : كل متمرّد عند العرب شيطان. وفي هذا الاسم قولان :

أحدهما : أنه من شطن ، أي : بعد عن الخير ، فعلى هذا تكون النون أصليّة. قال أميّة بن أبي الصّلت في صفة سليمان عليه‌السلام :

أيّما شاطن عصاه عكاه

ثمّ يلقى في السّجن والأغلال

عكاه : أوثقه. وقال النّابغة :

نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها رهين

والثاني : أنه من شاط يشيط : إذا التهب واحترق ، فتكون النون زائدة. وأنشدوا :

وقد يشيط على أرماحنا البطل (٢)

أي : يهلك. وفي المراد : بشياطينهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم رؤوسهم في الكفر ، قاله ابن مسعود ، وابن عبّاس ، والحسن ، والسّدّيّ. والثاني : إخوانهم من المشركين ، قاله أبو العالية ، ومجاهد.

والثالث : كهنتهم ، قاله الضّحّاك ، والكلبيّ.

قوله تعالى : (إِنَّا مَعَكُمْ). فيه قولان : أحدهما : أنّهم أرادوا : إنا معكم على دينكم.

والثاني : إنا معكم على النّصرة والمعاضدة. والهزء : السّخرية.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))

قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ). اختلف العلماء في المراد ، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال : أحدها : أنه يفتح لهم باب من الجنّة وهم في النار ، فيسرعون إليه فيغلق ، ثم يفتح لهم باب آخر ، فيسرعون فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس. والثاني : أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النّار لهم كما تجمد الإهالة (٣) في القدر ، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصريّ.

والثالث : أن الاستهزاء بهم : إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، فيبقون في الظلمة ، فيقال لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) (٤) ، قاله مقاتل. والرابع : أن المراد به : يجازيهم على استهزائهم ، فقوبل اللفظ بمثله لفظا وإن خالفه معنى ، فهو كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٥) ، وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٦). وقال عمرو بن كلثوم :

__________________

(١) الصف : ١٤.

(٢) هو عجز بيت للأعشى وصدره : قد نخضب العير في مكنون فائله.

ـ وانظر «المعجم المفصل». والفائل : عرق من الفخذ يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين ، ومكنون فائله : دمه الذي كنّ فيه. وأراد : إنا حذّاق بالطعن.

(٣) الإهالة : الشحم.

(٤) الحديد : ١٣.

(٥) الشورى : ٤٠.

(٦) البقرة : ١٩٤.


ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

أراد : فنعاقبه بأغلظ من عقوبته. والخامس : أن الاستهزاء من الله تعالى التّخطئة لهم ، والتّجهيل ، فمعناه : الله يخطّئ فعلهم ، ويجهّلهم في الإقامة على كفرهم. والسادس : أن استهزاءه : استدراجه إيّاهم. والسابع : أنه إيقاع استهزائهم بهم ، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباريّ. والثامن : أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذّل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) (١). ذكره شيخنا في كتابه. والتاسع : أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة ، كان كالاستهزاء بهم.

قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فيه أربعة أقوال : أحدها : يمكّن لهم ، قاله ابن مسعود. والثاني : يملي لهم ، قاله ابن عباس. والثالث : يزيدهم ، قاله مجاهد. والرابع : يمهلهم ، قاله الزّجّاج. والطّغيان : الزيادة على القدر ، والخروج عن حيّز الاعتدال في الكثرة ، يقال : طغى البحر : إذا هاجت أمواجه ، وطغى السّيل : إذا جاء بماء كثير. وفي المراد بطغيانهم قولان : أحدهما : أنه كفرهم ، قاله الجمهور. والثاني : أنه عتوّهم وتكبّرهم ، قاله ابن قتيبة.

و (يَعْمَهُونَ) بمعنى : يتحيّرون ، يقال : رجل عمه وعامه ، أي : متحيّر. قال الرّاجز (٢) :

ومخفق من لهله ولهله

من مهمه يجتنبه في مهمه

أعمى الهدى بالجاهلين العمّه (٣) وقال ابن قتيبة : (يعمهون) يركبون رؤوسهم ، فلا يبصرون.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى). في نزولها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت في جميع الكفار ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس. والثاني : أنها في أهل الكتاب ، قاله قتادة والسّدّيّ ومقاتل. والثالث : أنها في المنافقين ، قاله مجاهد.

و (اشْتَرَوُا) : بمعنى استبدلوا ، والعرب تجعل من آثر شيئا على شيء مشتريا له ، وبائعا للآخر. والضلالة والضلال بمعنى واحد. وفيهما للمفسّرين ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد بها ها هنا الكفر ، والمراد بالهدى : الإيمان ، روي عن الحسن وقتادة والسّدّيّ. والثاني : أنها الشك ، والهدى : اليقين. والثالث : أنها الجهل ، والهدى : العلم. وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم آمنوا ثم كفروا ، قاله مجاهد. والثاني : أن اليهود آمنوا بالنّبيّ قبل مبعثه ، فلما بعث كفروا به ، قاله مقاتل. والثالث : أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى فردّوه واختاروا الضلال ، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء ، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله.

__________________

(١) الدخان : ٤٩.

(٢) هو رؤبة بن العجّاج.

(٣) المخفق : الأرض الواسعة المستوية التي يضطرب فيها السراب. واللهله : الأرض الواسعة أيضا. والمهمه : المفازة المقفرة.


وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ). من مجاز الكلام ، لأن التجارة لا تربح ، وإنما يربح فيها ، ومثله قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) ، يريد : بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٢) ، أي : عزم عليه. وأنشدوا (٣) :

حارث قد فرّجت عنّي همّي

فنام ليلي وتجلّى غمّي

والليل لا ينام ، بل ينام فيه ، وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال ويعلم مقصود قائله ، فأمّا إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به ، وأريد به ما سواه ، لم يجز ، مثل أن يقول : ربح عبدك ، وتريد : ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفرّاء وابن قتيبة والزّجّاج.

قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). فيه خمسة أقوال : أحدها : وما كانوا في العلم بالله مهتدين.

والثاني : وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث : وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع : وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس : أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدى من تجارته غير مستحقّ للذّم فيما اعتمده ، فنفى الله عزوجل عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))

قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً). هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء : ما يضرب ويوضع لبيان النّظائر في الأحوال.

وفي قوله تعالى : (اسْتَوْقَدَ) قولان : أحدهما : أن السين زائدة ، وأنشدوا (٤) :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد : فلم يجبه ، وهذا قول الجمهور ، منهم الأخفش وابن قتيبة.

والثاني : أن السين داخلة للطلب ، أراد : كمن طلب من غيره نارا.

وفي (أَضاءَتْ) قولان : أحدهما : أنه من الفعل المتعدّى ، قال الشاعر :

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه (٥)

وقال آخر (٦) :

أضاءت لنا النار وجها أغر

ملتبسا بالفؤاد التباسا

والثاني : أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد : يقال : أضاءت النّار ، وأضاءها غيرها. وقال الزّجّاج : يقال : ضاء القمر ، وأضاء.

وفي «ما» قولان : أحدهما : أنها زائدة ، تقديره : أضاءت حوله. والثاني : أنها بمعنى الذي.

__________________

(١) سبأ : ٣٣.

(٢) محمد : ٢١.

(٣) هو لرؤبة بن العجّاج يمدح الحارث بن سليم.

(٤) هو لكعب بن سعد الغنوي ، يرثي أخاه أبا المغوار. انظر «تفسير القرطبي» ١ / ٢٥٧ بتخريجي.

(٥) في «القاموس» : الجزع : الخرز اليماني ، تشبّه به الأعين.

(٦) هو النابغة الجعدي.


وحول الشّيء : ما دار من جوانبه. والهاء : عائدة على المستوقد. فإن قيل : كيف وحّد ، فقال : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ، ثم جمع فقال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)؟ فالجواب : أن ثعلبا حكى عن الفرّاء أنه قال : إنما ضرب المثل للفعل ، لا لأعيان الرجال ، وهو مثل للنفاق ، وإنما قال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين ، فجمع لذلك. قال ثعلب : وقال غير الفرّاء : معنى الذي : الجمع ، وحّد أولا للفظه ، وجمع بعد لمعناه ، كما قال الشاعر (١) :

فإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٢)

فجعل «الذي» جمعا.

فصل : اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين : أحدهما : أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها ، ونورها صيانة النفس وحقن الدّماء ، فإذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزّ ، كما سلب صاحب النّار ضوءه. وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس. والثاني : أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول ، فذهاب نورهم : إقبالهم على الكافرين والضلال ، وهذا قول مجاهد.

وفي المراد ب «الظلمات» ها هنا أربعة أقوال : أحدها : العذاب ، قاله ابن عباس. والثاني : ظلمة الكفر ، قاله مجاهد. والثالث : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، قاله قتادة. والرابع : أنها نفاقهم ، قاله السّدّيّ.

فصل : وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم : إحداهنّ : أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه ، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم ؛ كان نور إيمانهم كالمستعار. والثانية : أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب ، وهو له كغذاء الحيوان ، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم. والثالثة : أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشدّ على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء ، فشبّه حالهم بذلك.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). الصّمم : انسداد منافذ السمع ، وهو أشد من الطّرش.

وفي البكم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الخرس ، قاله مقاتل ، وأبو عبيد ، وابن فارس. والثاني : أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق ، وقيل : إن الخرس يحدث عنه. والثالث : أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئا فيفهمه ، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق. ذكر هذين القولين شيخنا. وقوله تعالى : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يرجعون عن ضلالتهم ، قاله قتادة ومقاتل. والثاني : لا يرجعون إلى الإسلام ، قاله السّدّيّ. والثالث : لا يرجعون عن الصّمم والبكم والعمى ، وإنما أضاف الرجوع إليهم ، لأنهم انصرفوا باختيارهم ، لغلبة أهوائهم عن تصفّح الهدى بآلات

__________________

(١) هو الأشهب بن رميلة. انظر «المعجم المفصّل».

(٢) في «اللسان» فلج : اسم بلد وقيل : هو واد بطريق البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج.


التّصفّح ، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به ؛ كانوا كالصّم البكم. والعرب تسمّي المعرض عن الشيء : أعمى ، والملتفت عن سماعه : أصمّ ، قال مساكين الدّارميّ :

ما ضرّ لي جارا أجاوره

ألّا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الخدر

وتصمّ عما بينهم أذني

حتى يكون كأنّه وقر (١)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))

قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أو : حرف مردود على قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٢) ، واختلف العلماء فيه على ستة أقوال :

أحدها : أنه داخل ها هنا للتخيير ، تقول العرب : جالس الفقهاء أو النّحويين ، ومعناه : أنت مخيّر في مجالسة أي الفريقين شئت ، فكأنه خيّرنا بين أن نضرب لهم المثل الأوّل أو الثاني.

والثاني : أنه داخل للإبهام فيما قد علم الله تحصيله ، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله ، فكأنه قال : مثلهم كأحد هذين ، ومثله قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٣) ، والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد :

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر

أي : هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين ، وقد فنيا ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.

والثالث : أنه بمعنى : بل. وأنشد الفرّاء :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

والرابع : أنه للتفصيل ، ومعناه : بعضهم يشبّه بالذي استوقد نارا ، وبعضهم بأصحاب الصّيّب.

ومثله قوله تعالى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٤) ، معناه : قال بعضهم ، وهم اليهود : كونوا هودا ، وقال النصارى : كونوا نصارى. وكذلك قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٥) ، معناه : جاء بعضهم بأسنا بياتا ، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.

والخامس : أنه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) (٦).

قال جرير :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر (٧)

__________________

(١) الوقر : ثقل في الأذن ، أو ذهاب السمع كله ، وجاء في القرطبي ١ / ٢٥٩ حتى يواري جارتي الجدر.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) البقرة : ٧٤.

(٤) البقرة : ١٣٥.

(٥) الأعراف : ٤.

(٦) النور : ٦١.

(٧) قاله جرير في عمر بن عبد العزيز.


والسادس : أنه للشّك في حقّ المخاطبين ، إذ الشك مرتفع عن الحق عزوجل ، ومثله قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) ، يريد : الإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون.

فأمّا التفسير لمعنى الكلام : أو كأصحاب صيّب ، فأضمر الأصحاب ، لأن في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ، دليلا عليه. والصّيّب : المطر. قال ابن قتيبة : هو فيعل من صاب يصوب : إذا نزل من السماء ، وقال الزّجّاج : كل نازل من علوّ إلى استفال ، فقد صاب يصوب ، قال الشاعر (٢) :

كأنهم صابت عليهم سحابة

صواعقها لطيرهنّ دبيب

وفي «الرّعد» ثلاثة أقوال :

(١٧) أحدها : أنه صوت ملك يزجر السحاب ، وقد روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه

____________________________________

(١٧) الراجح وقفه. أخرجه الترمذي ٣١١٧ والنسائي في «الكبرى» ٩٠٧٢ وأحمد ١ / ٢٧٤ والطبراني في «الكبير» ١٢٤٢٩ وابن مندة في «التوحيد» ٤٨ وأبو نعيم ٤ / ٣٠٥ وأبو الشيخ في «العظمة» ٧٦٩ كلهم من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال ملك من الملائكة موكّل بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ، فقالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر ، قالوا صدقت. فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرّمها ، قالوا صدقت ، قال الترمذي : حسن غريب ؛ اه. ومداره على بكير ، وهو مقبول ، لا يحتج بما ينفرد به ، وثقه ابن حبان وحده ، وقال أبو حاتم : شيخ. ولم يرو إلّا هذا الحديث. وأخرجه الطبراني في «الكبير» : (١٢٤٢٩) مطوّلا ، وفيه أبو نعيم ضرار بن صرد ، وهو ضعيف ، وفيه أيضا ، بكير بن شهاب.

وقال ابن مندة : هذا إسناد متصل ، ورواته مشاهير ثقات!!. كذا قال رحمه‌الله ، والصواب أنه تفرد به راو شبه مجهول ، لم يوثقه سوى ابن حبان على قاعدته في توثيق المجاهيل ، ولم يرو إلّا هذا الحديث الواحد ، فمثله غير حجة ، وهو غير معروف بحمل العلم. وقال أبو نعيم : غريب من حديث سعيد ـ بن جبير ـ تفرد به بكير.

ـ وله شاهد بإسناد ساقط : أخرجه ابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٤ / ٩٥ من حديث جابر.

ـ وذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٥١٩ بعض إسناده حيث قال : وفي الطبراني الأوسط عن أبي عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر ، مختصرا فذكر فيه الرعد. سكت عليه الحافظ ، وإسناده ساقط ، أبو عمران الكوفي لم أجد له ترجمة ، وابن جريج مدلس ، وقد عنعن. والحديث لم أره في معاجم الطبراني بعد بحث ، ولا في «المجمع» مع أنه ذكر حديث ابن عباس ، والظاهر أنه تفرد به ابن مردويه كما في «الدر» وبكل حال الإسناد ساقط. لكن ورد في ذلك آثار عن ابن عباس وعلماء التفسير من التابعين. انظر «الدر المنثور» ٤ / ٩٤ ـ ٩٧ ، و «جامع البيان» ٤١٩ ـ ٤٤٢ ، وذكره الألباني في «الصحيحة» ١٨٧٢. قلت : المرفوع ، لا يثبت ، ولا يحتج بإسناده ، والأشبه كونه موقوفا ، والله أعلم كذا جاء في روايات كثيرة عن ابن عباس في أن الرعد ملك وورد عن مجاهد وعكرمة وغيرهما. ولو صح هذا مرفوعا لما تكلم هؤلاء من تلقاء أنفسهم في ذلك. ومما يدل على عدم ثبوت المرفوع ، هو أن البغوي ذكر في «تفسيره» ١ / ٥٣ أثر علي وابن عباس ومجاهد وغيرهم ولم يذكر المرفوع. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ١٣٦٥ عن معمر قال : سألت الزهري عن الرعد : ما هو؟ فقال : الله أعلم. الخلاصة : هذا كله دليل على عدم ثبوت المرفوع ، وأن الصواب في ذلك هو الموقوف والمقطوع ، والله أعلم.

__________________

(١) الروم : ٢٧.

(٢) هو علقمة بن عبده كما في «جامع البيان» ١ / ١٨٢ للطبري.


قال ابن عباس ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد : أنه صوت ملك يسبّح. وقال عكرمة : هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الإبل.

والثاني : أنه ريح تختنق بين السماء والأرض. وقد روي عن أبي الجلد أنه قال : الرعد : الريح.

واسم أبي الجلد : جيلان بن أبي فروة البصريّ ، وقد روى عنه قتادة.

والثالث : أنه اصطكاك أجرام السحاب (١) ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.

وفي البرق ثلاثة أقوال (٢) :

(١٨) أحدها : أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب ، روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول عليّ بن أبي طالب. وفي رواية عن عليّ قال : هو ضربه بمخراق من حديد. وعن ابن عباس : أنه ضربه بسوط من نور. قال ابن الأنباريّ : المخاريق : ثياب تلفّ ، ويضرب بها بعض الصبيان بعضا ، فشبّه السّوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق. قال عمرو بن كلثوم :

كأن سيوفنا فينا وفيهم

مخاريق بأيدي لاعبينا

وقال مجاهد : البرق : مصع ملك ، والمصع : الضّرب والتّحريك. والثاني : أن البرق : الماء ، قاله أبو الجلد. وحكى ابن فارس أن البرق : تلألؤ الماء. والثالث : أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيرة ، وضرب بعضه لبعض ، حكاه شيخنا.

والصواعق : جمع صاعقة ، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه. وروي عن شهر بن حوشب : أن الملك الذي يسوق السحاب ، إذا اشتدّ غضبه ، طار من فيه النار ، فهي الصواعق. وقال غيره : هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب. قال ابن قتيبة : وإنما سمّيت صاعقة ، لأنها إذا أصابت قتلت ، يقال : صعقتهم ، أي : قتلتهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا يفوته أحد منهم ، فهو جامعهم يوم القيامة. ومثله قوله تعالى : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٣) ، قاله مجاهد. والثاني : أن الإحاطة : الإهلاك ، مثل قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) (٤). والثالث : أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.

____________________________________

(١٨) لم أره مرفوعا ، وإنما ورد عن علي موقوفا ، أخرجه الطبري ٤٣٩ وأبو الشيخ ٧٧١ وإسناده ضعيف لجهالة ربيعة بن أبيض ، وكرره الطبري ٤٤١ وفيه من لم يسم ، وكرره أبو الشيخ ٧٧٢ من وجه آخر ، وفيه بشير بن أبي ميمونة وهو مجهول أيضا.

الخلاصة : المرفوع لم أجده بهذا اللفظ ، وإنما الوارد في ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس ، وأما الموقوف على علي ، فقد ورد بأسانيد واهية ، وهو غريب جدا ، والصواب أن البرق ، هو الضياء كما تقدم.

__________________

(١) يمكن الجمع بين الخبر المرفوع مع ضعفه والآثار ، وهذا القول ، بأن يكون الملك الموكل بالرعد اسمه الرعد ، ويكون الصوت الذي ينتج عن اصطكاك الأجرام هو الرعد كما هو معروف لدى الناس. والقول الثاني ليس بشيء.

(٢) أعدل الأقوال هو الأخير ، لكن لا يتعين كونه نارا ، وإنما هو ضياء ونور ولمعان ينتج عقب اصطكاك الأجرام.

(٣) الطلاق : ١٢.

(٤) الكهف : ٤٢.


(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

قوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ، يكاد بمعنى : يقارب ، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل ، وإذا نفيت ثبت الفعل. وسئل بعض المتأخرين فقيل له :

أنحويّ هذا العصر ما هي كلمة

جرت بلساني جرهم وثمود

إذا نفيت والله يشهد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

ويشهد للإثبات عند النفي قوله تعالى : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (١) ، وقوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) (٢) ، ومثله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٣) ، ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ) و (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) (٤) و (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) (٥). وقال ابن قتيبة : كاد : بمعنى همّ ولم يفعل. وقد جاءت بمعنى فعل. قال ذو الرّمّة :

ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت

لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق

أي : لو تعرّضت له لبرق ، أي : دهش وتحيّر. قلت : وقد قال ذو الرّمّة في المنفيّة ما يدل على أنها تستعمل على خلاف الأصل ، وهو قوله :

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٦)

أراد : لم يبرح.

قوله تعالى : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). قرأ الجمهور «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء ، وقرأ أبان بن تغلب ، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم ، بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء مخففا. ورواه الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم ، بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الطاء ، وهي قراءة الحسن كذلك ، إلّا أنه كسر الياء. وعنه : فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشدّدة.

ومعنى «يخطف» : يستلب ، وأصل الاختطاف : الاستلاب ، ويقال لما يخرج به الدّلو : خطّاف ، لأنه يختطف ما علق به. قال النّابغة :

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمدّ بها أيد إليك نوازع

والحجن : المتعقّفة ، وجمل خيطف : سريع المرّ ، وتلك السرعة الخطفى.

قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ). قال الزّجّاج : يقال : ضاء الشيء يضوء ، وأضاء يضيء ، وهذه اللغة الثانية هي المختارة.

فصل : واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه التخويف الذي في القرآن ، قاله ابن عبّاس. والثاني : أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب

__________________

(١) النساء : ٧٨.

(٢) النور : ٤٠.

(٣) الزخرف : ٥٢.

(٤) النور : ٤٣.

(٥) النور : ٣٥.

(٦) النأي : البعد والمفارقة. والرسيس : الشيء الثابت وابتداء الحب.


إذا علم النبيّ والمؤمنون بنفاقهم ، قاله مجاهد والسّدّيّ. والثالث : أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد ، وقتال من يبطنون مودّته ، ذكره شيخنا.

واختلفوا : ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما يتبيّن لهم من مواعظ القرآن وحكمه. والثاني : أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه. والثالث : أنه مثل لما ينالونه بإظهار الإسلام من حقن دمائهم ، فإنه بالإضافة إلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق. واختلفوا في معنى قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) ، على قولين : أحدهما : أنهم كانوا يفرّون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخافة الموت ، قاله الحسن والسّدّيّ. والثاني : أنه مثل لإعراضهم عن القرآن كراهية له ، قاله مقاتل. واختلفوا في معنى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) على أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه ، قاله ابن عبّاس والسّدّيّ. والثاني : أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم ، فيسرعون إلى متابعته ، قاله قتادة. والثالث : أن تكلّمهم بالإسلام ، ومشيهم فيه : اهتداؤهم به ، فإذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة ، قاله مقاتل. والرابع : أن إضاءته لهم : تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان ، ومشيهم فيه : إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا.

فأمّا قوله تعالى : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) ، فمن قال : إضاءته : إتيانه إياهم بما يحبون ، قال : إظلامه : إتيانه إياهم بما يكرهون. وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس. ومعنى (قامُوا) : وقفوا. قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، قال مقاتل : معناه : لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم.

قال مجاهد : من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في نعت المنافقين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ). اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال : أحدها : أنه عامّ في جميع الناس ، وهو قول ابن عباس. والثاني : أنه خطاب لليهود دون غيرهم ، قاله الحسن ومجاهد. والثالث : أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم ، قاله السّدّيّ.

والرابع : أنه خطاب للمنافقين واليهود ، قاله مقاتل.

و (النَّاسِ) اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك لتحرّكهم في مراداتهم. والنوس : الحركة. وقيل : سمّوا ناسا لما يعتريهم من النسيان. وفي المراد بالعبادة ها هنا قولان : أحدهما : التوحيد. والثاني : الطاعة ، رويا عن ابن عباس. والخلق : الإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم ، لأنه أبلغ في التذكير ، وأقطع للجحد ، وأحوط في الحجّة. وقيل : إنما ذكر من قبلهم ، لينبّههم على الاعتبار بأحوالهم في إثابة مطيع ، ومعاقبة عاص.

وفي (لعل) قولان : أحدهما : أنها بمعنى كي ، وأنشدوا في ذلك :

وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا

نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق

فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم

كلمع سراب في الملا متألّق


يريد : لكي نكفّ ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان.

والثاني : أنها بمعنى التّرجّي ، ومعناها : اعبدوا الله راجين للتقوى ، ولأن تقوا أنفسكم ـ بالعبادة ـ عذاب ربكم. وهذا قول سيبويه. قال ابن عباس : لعلّكم تتقون الشرك ، وقال الضّحّاك : لعلّكم تتقون النار. وقال مجاهد : لعلّكم تطيعون.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً). إنّما سمّيت الأرض أرضا لسعتها ، من قولهم : أرضت القرحة : إذا اتسعت ، وقيل : لانحطاطها عن السّماء ، وكل ما سفل : أرض ، وقيل : لأن الناس يرضّونها بأقدامهم ، وسمّيت السماء سماء لعلوّها. قال الزّجّاج : وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء ، وقال ابن عباس : البناء ها هنا بمعنى السّقف.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) ، يعني : من السحاب ، (ماءً) يعني المطر. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، يعني : شركاء ، أمثالا. يقال : هذا ندّ هذا ، ونديده. وفيما أريد بالأنداد ها هنا قولان : أحدهما : الأصنام ، قاله ابن زيد. والثاني : رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). فيه ستة أقوال : أحدها : وأنتم تعلمون أنه خلق السماء ، وأنزل الماء ، وفعل ما شرحه في هذه الآيات ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس وقتادة ومقاتل. والثاني : وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والإنجيل ، روي عن ابن عباس أيضا ، وهو يخرج على قول من قال : الخطاب لأهل الكتاب. والثالث : وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له ، قاله مجاهد. والرابع : أن العلم ها هنا بمعنى العقل ، قاله ابن قتيبة. والخامس : وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه. ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله. والسادس : وأنتم تعلمون أنها حجارة ، سمعته من الشيخ أبي محمّد بن الخشّاب.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ). سبب نزولها أن اليهود قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي ، وإنا لفي شكّ منه ، فنزلت هذه الآية. وهذا مرويّ عن ابن عباس ومقاتل. و «إن» ها هنا لغير شكّ ، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون ، ولكن هذا عادة العرب ، يقول الرجل لابنه : إن كنت ابني فأطعني. وقيل : إنها ها هنا بمعنى إذ ، قال أبو زيد : ومنه قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١). قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، قال ابن قتيبة : السورة تهمز ولا تهمز ، فمن همزها جعلها من أسأرت ، يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن ، ومن لم يهمزها جعلها من سورة البناء ، أي منزلة بعد منزلة. قال النّابغة في النّعمان :

__________________

(١) البقرة : ٢٧٨.


ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

والسّورة في هذا البيت : سورة المجد ، وهي مستعارة من سورة البناء. وقال ابن الأنباريّ : قال أبو عبيدة : إنما سمّيت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة ، مثل سورة البناء. معنى : أعطاك سورة ، أي : منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك. قال ابن القاسم : ويجوز أن تكون سمّيت سورة لشرفها ، تقول العرب : له سورة في المجد ، أي : شرف وارتفاع ، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك : أسأرت سؤرا ، أي : أبقيت بقية. وفي هاء «مثله» قولان : أحدهما : أنها تعود على القرآن المنزّل (١) ، قاله قتادة والفرّاء ومقاتل. والثاني : أنها تعود على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون التقدير : فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمّي ، ذكره أبو عبيدة والزّجّاج وابن القاسم. فعلى هذا القول : تكون «من» لابتداء الغاية ، وعلى الأول : تكون زائدة.

قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). فيه قولان : أحدهما : أن معناه : استعينوا من المعونة ، قاله السّدّيّ والفرّاء. والثاني : استغيثوا ، من الاستغاثة ، وأنشدوا :

فلمّا التقت فرساننا ورجالهم

دعوا يال كعب واعتزينا لعامر (٢)

وهذا قول ابن قتيبة. وفي «شهدائهم» ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم آلهتهم ، قاله ابن عباس والسّدّيّ ومقاتل والفرّاء. قال ابن قتيبة : وسموا شهداء ، لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم. وقال غيره : لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله. والثاني : أنهم أعوانهم ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أن معناه :

فأتوا بناس يشهدون أن ما تأتون به مثل القرآن ، روي عن مجاهد.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في قولكم : إن القرآن ليس من عند الله ، قاله ابن عباس.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) في هذه الآية مضمر مقدّر ، يقتضي الكلام تقديمه ، وهو أنه لما تحدّاهم بما في الآية الماضية من التّحدّي ، فسكتوا عن الإجابة ؛ قال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ، وفي قوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أعظم دلالة على صحة نبوّة نبيّنا ، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون ، ولم يفعلوا. والوقود : بفتح الواو : الحطب ، وبضمها : التّوقّد ، كالوضوء بالفتح : الماء ، وبالضم : المصدر ، وهو اسم حركات المتوضّئ. وقرأ الحسن وقتادة : وقودها ، بضم الواو ، والاختيار الفتح. والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب. والحجارة ، لبيان قوّتها وشدّتها ، إذ هي محرقة للحجارة. وفي هذه الحجارة

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٩ / ٦٠ : فأتوا بسورة من مثله يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين ورجح ذلك بوجوه أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) وقوله (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وقال بعضهم من مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني من رجل أمي مثله والصحيح الأول.

ـ وقال القرطبي رحمه‌الله ١ / ٢٧٥ : والضمير في «مثله» عائد على القرآن عند الجمهور.

(٢) البيت للرّاعي النميري. واعتزى : انتسب ، صدقا كان أو كذبا ، وانتمى إليهم مثله.


قولان : أحدهما : أنها أصنامهم التي عبدوها ، قاله الرّبيع بن أنس. والثاني : أنها حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حرّا ، إذا أحميت يعذّبون بها.

ومعنى (أُعِدَّتْ) : هيئت. وإنما خوّفهم بالنار إذا لم يأتوا بمثل القرآن ، لأنهم إذا كذّبوه ، وعجزوا عن الإتيان بمثله ؛ ثبتت عليهم الحجّة ، وصار الخلاف عنادا ، وجزاء المعاندين النار.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا). البشارة : أول خبر يرد على الإنسان ، وسمّي بشارة ، لأنه يؤثر في بشرته ، فإن كان خيرا ، أثر المسرّة والانبساط ، وإن شرا ، أثر الانجماع والغمّ ، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير ، وقد تستعمل في الشر ، ومنه قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) (١).

قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). يشمل كل عمل صالح ، وقد روي عن عثمان بن عفّان أنّه قال : أخلصوا الأعمال. وعن عليّ عليه‌السلام أنه قال : أقاموا الصلوات المفروضات.

فأما الجنّات ، فجمع جنّة. وسميت الجنة جنة ، لاستتار أرضها بأشجارها ، وسمّي الجنّ جنّا ، لاستتارهم ، والجنين من ذلك ، والدّرع جنّة ، وجنّ الليل : إذا ستر ، وذكر عن المفضّل أن الجنّة : كل بستان فيه نخل. وقال الزّجّاج : كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا ، فهو جنة.

قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) ، أي : من تحت شجرها لا من تحت أرضها.

قوله تعالى : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : هذا الذي طعمنا من قبل ، فرزق الغداة كرزق العشيّ ، روي عن ابن عباس والضّحّاك ومقاتل. والثاني : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، قاله مجاهد وابن زيد. والثالث : أن ثمر الجنّة إذا جني خلفه مثله ، فإذا رأوا ما خلف الجنى ، اشتبه عليهم ، فقالوا : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة. قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه متشابه في المنظر واللّون ، مختلف في الطّعم ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والضّحّاك والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنه متشابه في جودته ، لا رديء فيه ، قاله الحسن وابن جريج. والثالث : أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم ، غير أنه أحسن في المنظر والطّعم ، قاله قتادة وابن زيد.

فإن قال قائل : ما وجه الامتنان بمتشابهه ، وكلّما تنوّعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟! فالجواب : أنا إن قلنا : إنه متشابه المنظر مختلف الطعم ، كان أغرب عند الخلق وأحسن ، فإنك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة ، كان نهاية في العجب. وإن قلنا : إنه متشابه في الجودة ؛ جاز اختلافه في

__________________

(١) النساء : ١٣٨.


الألوان والطعوم. وإن قلنا : إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني ؛ كان أطرف وأعجب ، وكل هذه مطالب مؤثرة.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ). أي : الخلق ، فإنهن لا يحضن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء ، وفي الخلق ، فإنهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. قال ابن عباس : نقية عن القذى والأذى. قال الزّجّاج : و (مُطَهَّرَةٌ) أبلغ من طاهرة ؛ لأنه للتكثير. والخلود : البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦))

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً). في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنه لما نزل قوله تعالى : (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (١) ، ونزل قوله : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) (٢). قالت اليهود : وما هذا من الأمثال؟! فنزلت هذه الآية (٣) ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفرّاء. والثاني : أنه لما ضرب الله المثلين ، وهما قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٤) ، وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (٥) ، قال المنافقون : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال ، فنزلت هذه الآية ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. وروي عن الحسن ومجاهد نحوه.

والحياء بالمد : الانقباض والاحتشام ، غير أن صفات الحق عزوجل لا يطّلع لها على ماهية وإنما تمرّ كما جاءت.

(١٩) وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم حييّ كريم» ، وقيل : معنى لا يستحيي : لا يترك ، لأن كل ما

____________________________________

(١٩) صحيح. أخرجه أبو داود ١٤٨٨ والترمذي ٣٥٥٦ وابن ماجة ٣٨٦٥ وأحمد ٥ / ٤٣٨ وابن حبان ٨٧٦ و ٨٨٠ والحاكم ١ / ٤٩٧ والطبراني ٦١٣٠ عن سلمان مرفوعا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حييّ كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يده أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا». وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وجوّده الحافظ في «فتح الباري» ١١ / ١٤٣. وورد من حديث أنس أخرجه الحاكم (١ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨) وإسناده ضعيف لضعف عامر بن يساف وتابعه أبان بن أبي عياش عند البغوي ١٣٨٦ «شرح السنة» لكن أبان متروك. وله شاهد من حديث جابر عزاه الحافظ في تخريج الكشاف ١ / ١١٣ لأبي يعلى وأعله بيوسف بن محمد وأنه متروك. ولم أره في «مسنده» ولعله في «الكبير». وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني (١٣٥٥٧) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم حييّ كريم يستحي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع

__________________

(١) الحج : ٧٣.

(٢) العنكبوت : ٤١.

(٣) أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٣٠ عن ابن عباس ورجاله ثقات ، لكن فيه عنعنة ابن جريج ، وأخرجه عبد الرزاق ٢٧ عن قتادة ، وورد من وجوه لكن وقع في بعض الروايات «المشركين» بدل «اليهود» وفي بعض الروايات «المنافقين».

(٤) البقرة : ١٧.

(٥) البقرة : ١٩.


يستحيى منه يترك. وحكى ابن جرير الطّبريّ عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيى : لا يخشى. ومثله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (١) ، أي : تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر. وقرأ مجاهد وابن محيصن : لا يستحي بياء واحدة ، وهي لغة.

وقوله تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً). قال ابن عباس : أن يذكر شبها ، واعلم أن فائدة المثل أن يبيّن للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله ، فينجلي غامضه. قوله تعالى : (ما بَعُوضَةً). «ما» زائدة ، وهذا اختيار أبي عبيدة والزّجّاج والبصريين. وأنشدوا للنّابغة :

قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

[إلى حمامتنا أو نصفه فقد] (٢)

وذكر أبو جعفر الطّبريّ أن المعنى : ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر «بين» و «إلى» إذ كان في نصب البعوضة ، ودخول الفاء في «ما» الثانية ؛ دلالة عليهما ، كما قالت العرب : مطرنا ما زبالة فالثّعلبيّة ، وله عشرون ما ناقة فجملا ، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما [يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها]. وقال غيره : نصب البعوضة على البدل من المثل. وروى الأصمعيّ عن نافع : «بعوضة» بالرفع ، على إضمار هو ، والبعوضة : صغيرة البقّ.

وفي قوله تعالى : (فَما فَوْقَها) ، فيه قولان : أحدهما : أن معناه فما فوقها في الكبر ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والفرّاء. والثاني : فما فوقها في الصّغر ، فيكون معناه : فما دونها ، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة : وقد يكون الفوق بمعنى : دون ، وهو من الأضداد ، ومثله : الجون ؛ يقال للأسود والأبيض. والصّريم : الصبح والليل. والسّدفة : الظلمة والضوء. والجلل : الصغير والكبير. والنّاهل : العطشان والرّيان. والماثل : القائم واللاطئ بالأرض. والصّارخ : المغيث والمستغيث. والهاجد : المصلّي بالليل والنائم. والرّهوة : الارتفاع والانحدار. والتّلعة : ما ارتفع من الأرض وما انهبط من الأرض. والظّنّ : يقين وشكّ. والأقراء : الحيض والأطهار. والمفرع في الجبل : المصعد ، وهو المنحدر. والوراء : يكون خلفا وقدّاما. وأسررت الشيء : أخفيته وأعلنته. وأخفيت الشيء : أظهرته وكتمته. ورتوت الشيء : شددته ، وأرخيته. وشعبت الشيء : جمعته وفرّقته. وبعت الشيء بمعنى : بعته واشتريته. وشريت الشيء : اشتريته وبعثته. والحيّ خلوف : غيّب ، ومتخلّفون.

واختلفوا في قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، هل هو من تمام قول الذين قالوا : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ، أو هو مبتدأ من كلام الله عزوجل؟ على قولين : أحدهما : أنه تمام الكلام الذي قبله ، قاله الفرّاء ، وابن قتيبة. قال الفرّاء : كأنهم قالوا : ما ذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضلّ به هذا ، ويهدي به هذا؟! ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله. فقال الله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). والثاني : أنه مبتدأ من قول الله تعالى ، قاله السّدّيّ ومقاتل.

____________________________________

أحدكم يديه فليقل : يا حي لا إله إلّا أنت يا أرحم الراحمين ، ثلاث مرات ، ثم إذا ردّ يديه فليفرغ ذلك الخير إلى وجهه». وإسناده ضعيف ، سكت عليه الحافظ في «تخريج الكشاف» (١ / ١١٣). وقال الهيثمي في المجمع (١٠ / ١٦٩ ح ١٧٣٤٠) : فيه الجارود بن يزيد ، وهو متروك اه.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) زيادة عن ديوان النابغة.


فأما الفسق ؛ فهو في اللغة : الخروج ، يقال : فسقت الرّطبة : إذا خرجت من قشرها ، فالفاسق : الخارج عن طاعة الله إلى معصيته. وفي المراد بالفاسقين ها هنا ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : المنافقون ، قاله أبو العالية والسّدّيّ. والثالث : جميع الكفار.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ). هذه صفة للفاسقين ، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة. والنقض : ضد الإبرام ، ومعناه : حلّ الشيء بعد عقده. وينصرف النقض إلى كل شيء بحسبه ، فنقض البناء : تفريق جمعه بعد إحكامه. ونقض العهد : الإعراض عن المقام على أحكامه. وفي هذا العهد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما عهد إلى أهل الكتاب من صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوصية باتّباعه ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : ما عهد إليهم في القرآن ، فأقرّوا به ثم كفروا فنقضوه ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرّية آدم من ظهره ، قاله الزّجّاج. ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد ، فقد ثبت بخبر الصادق فيجب الإيمان به.

وفي «من» قولان : أحدهما : أنها زائدة. والثاني : أنها لابتداء الغاية ، كأنه قال : ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه. وفي هاء «ميثاقه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله سبحانه. والثاني : أنها ترجع إلى العهد ، فتقديره : بعد إحكام التّوثّق فيه.

وفي الذي أمر الله به أن يوصل ، ثلاثة أقوال : أحدها : الرّحم والقرابة ، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّيّ. والثاني : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعوه بالتكذيب ، قاله الحسن. والثالث : الإيمان بالله ، وأن لا يفرق بين أحد من رسله ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قاله مقاتل.

وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال : أحدها : استدعاؤهم الناس إلى الكفر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه العمل بالمعاصي ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل. والثالث : أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليمنعوا الناس من الإسلام. والخسران في اللّغة : النّقصان.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) ، في «كيف» قولان : أحدهما : أنه استفهام في معنى التعجّب ، وهذا التعجّب للمؤمنين ، أي : اعجبوا من هؤلاء كيف يكافرون ، وقد ثبتت حجة الله عليهم ، قاله ابن قتيبة والزّجّاج. والثاني : أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ ، تقديره : ويحكم كيف تكفرون بالله! قال العجّاج :

أطربا وأنت قنّسريّ

[والدّهر بالإنسان دواريّ] (١)

أراد : أتطرب وأنت شيخ كبير؟! قاله ابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً). قال الفرّاء : أي : وقد كنتم أمواتا. ومثله : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ

__________________

(١) ما بين معقوفتين زيادة عن اللسان مادة (قنسر)


صُدُورُهُمْ) (١) ، أي : قد حصرت. ومثله : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) (٢) ، فقد كذبت ، ولو لا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام.

وفي الحياتين ، والموتتين أقوال : أصحها : أن الموتة الأولى ، كونهم نطفا وعلقا ومضغا ، فأحياهم في الأرحام ، ثم يميتهم بعد خروجهم إلى الدنيا ، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة ، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفرّاء وثعلب ، والزّجّاج ، وابن قتيبة ، وابن الأنباريّ.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي : لأجلكم ، فبعضه للانتفاع ، وبعضه للإتباع. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، أي : عمد إلى خلقها ، والسماء : لفظها لفظ الواحد ، ومعناها معنى الجمع ، بدليل قوله : (فَسَوَّاهُنَ). وأيّهما أسبق في الخلق : الأرض ، أم السماء؟ فيه قولان : أحدهما : الأرض ، قاله مجاهد. والثاني : السماء ، قاله مقاتل. واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها ، فقال ابن عبّاس : بدأ بخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماوات في يومين ، ثم دحا الأرض وبينها الجبال ، وقدّر فيها أقواتها في يومين. وقال الحسن ومجاهد : جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية ، ثم خلق السماء في يومين.

والعليم : جاء على بناء : فعيل ، للمبالغة في وصفه بكمال العلم.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ). كان أبو عبيدة يقول : «إذ» ملغاة ، وتقدير الكلام : وقال ربك ، وتابعه ابن قتيبة ، وعاب ذلك عليهما الزّجّاج وابن القاسم. وقال الزّجّاج : إذ : معناها : الوقت ، فكأنه قال : ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة.

والملائكة : من الألوك ، وهي الرسالة ، قال لبيد :

وغلام أرسلته أمّه

بألوك فبذلنا ما سأل

وواحد الملائكة : ملك ، والأصل فيه : ملأك. وأنشد سيبويه :

فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السماء يصوب

قال أبو إسحاق : ومعنى ملأك : صاحب رسالة ، يقال : مألكة ومألكة وملأكة. ومآلك : جمع مألكة. قال الشاعر (٣) :

أبلغ النّعمان عنّي مالكا

أنه قد طال حبسي وانتظاري

وفي هؤلاء الملائكة قولان : أحدهما : أنهم جميع الملائكة ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والثاني :

__________________

(١) النساء : ٩٠.

(٢) يوسف : ٢٦.

(٣) هو عدي بن زيد كما في «اللسان» مادة (ألك)


أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أهبط إلى الأرض ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. ونقل أنه كان في الأرض خلق قبل آدم ، فأفسدوا ، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم.

واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عزوجل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال : أحدها : أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا ، فأحبّ أن يطلع الملائكة عليه ، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، والسّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة ، قاله الحسن.

والثالث : أنه لما خلق النار خافت الملائكة ، فقالوا : ربنا لمن خلقت هذه؟ قال : لمن عصاني ، فخافوا وجود المعصية منهم ، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم ، فقال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، قاله ابن زيد. والرابع : أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه. فأخبرهم حتى قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)؟ فأجابهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). والخامس : أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ، ليكونوا معظّمين له إذ أوجده. والسادس : أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ، وإن كان ابتداء خلقه في السماء.

والخليفة : هو القائم مقام غيره ، يقال : هذا خلف فلان وخليفته. قال ابن الأنباريّ : والأصل في الخليفة خليف ، بغير هاء ، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف ، كما قالوا : علّامة ونسّابة. وفي معنى خلافة آدم قولان : أحدهما : أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ، ودلائل توحيده ، والحكم في خلقه ، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد (١). والثاني : أنه خلف من سلف في الأرض قبله ، وهذا قول ابن عباس والحسن.

قوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن ظاهر الألف للاستفهام ، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق ، ومعناها الإيجاب ، تقديره : ستجعل فيها من يفسد فيها ، قاله أبو عبيدة. قال جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

معناه : أنتم خير من ركب المطايا. والثاني : أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة ، لا على وجه الاعتراض ، ذكره الزّجّاج. والثالث : أنهم سألوا عن حال أنفسهم ، فتقديره : أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبّح بحمدك ، أم لا؟

وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى ، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان : أحدهما : أنه بتوقيف من الله تعالى ، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وابن زيد وابن قتيبة ، وروى السّدّيّ عن أشياخه : أنهم قالوا : ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال : يكون له ذريّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضا ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها). والثاني : أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم ، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل. قوله تعالى : (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). قرأ الجمهور بكسر الفاء ، وضمّها طلحة بن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة ، وهما لغتان ، وروي عن طلحة وابن مقسم «ويسفّك» : بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع

__________________

(١) ذكر الإمام القرطبي في «تفسيره» ١ / ٣٠٥ بحثا نفيسا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة ، فانظره فإنه هام.


كسرها ، وهي لتكثير الفعل وتكريره. وسفك الدم : صبّه وإراقته وسفحه ، وذلك مستعمل في كل مضيّع ، إلا أن السفك يختصّ الدم ، والصّب والسّفح والإراقة يقال في الدّم وفي غيره. وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال : أحدها : أنه الصلاة ، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني : أنه قول : سبحان الله ، قاله قتادة. والثالث : أنه التعظيم والحمد ، قاله أبو صالح. والرابع : أنه الخضوع والذل ، قاله محمد بن القاسم الأنباريّ.

وقوله تعالى : (وَنُقَدِّسُ لَكَ). القدس : الطهارة ، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : نتطهّر لك من أعمالهم ، قاله ابن عباس. والثاني : نعظّمك ، ونكبّرك ، قاله مجاهد. والثالث : نصلّي لك ؛ قاله قتادة.

قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). فيه أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : أعلم ما في نفس إبليس من البغي والمعصية ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون ، قاله قتادة. والثالث : أعلم أني أملأ جهنّم من الجنّة والنّاس ، قاله ابن زيد. والرابع : أعلم عواقب الأمور ، فأنا أبتلي من تظنّون أنه مطيع ، فيؤدّيه الابتلاء إلى المعصية كإبليس ، ومن تظنّون به المعصية فيطيع ، قاله الزّجّاج.

(الإشارة إلى خلق آدم عليه‌السلام)

(٢٠) روى أبو موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إنّ الله ، عزوجل ، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسّهل والحزن ، وبين ذلك ، والخبيث والطّيّب» ، قال التّرمذيّ : هذا حديث صحيح.

(٢١) وقد أخرج البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا».

(٢٢) وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «خلق الله آدم بعد

____________________________________

(٢٠) صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٩٣ والترمذي ٢٩٥٥ وأحمد ٤ / ٤٠٠ وابن حبان ٦١٦٠ وابن سعد في «الطبقات» ١ / ٢٦ وعبد بن حميد في «المنتخب» ٥٤٨ والطبري ٦٤٥ والحاكم ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢. والبيهقي في «الصفات» ص ٣٨٥ من طرق عن عوف العبدي عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري. وإسناده جيد ، رجاله كلهم ثقات ، وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال الترمذي : حسن صحيح. وله شواهد ستأتي.

(٢١) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٢٦ و ٦٢٢٧ ومسلم ٢٨٤١ وأحمد ١ / ٣١٥ وابن حبان ٦١٦٢. وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٤٠ ـ ٤١ واللالكائي في «أصول الاعتقاد» ٧١١ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٨١٢ والبغوي ٣٢٩٨.

(٢٢) الصحيح موقوف ، والمرفوع معلول ، وهو أحد الأحاديث الضعيفة في «صحيح مسلم». أخرجه مسلم ٢٧٨٩ وأحمد ٢ / ٣٢٧ والنسائي في «التفسير» ٣٠ والطبري في «التاريخ» ١ / ٢٣ والبيهقي في «الصفات» ٣٨٣ من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : «خلق الله ، عزوجل ، التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور


العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، ما بين العصر إلى الليل».

قال ابن عباس : لما نفخ فيه الروح ، أتته النّفخة من قبل رأسه ، فجعلت لا تجري منه في شيء إلّا صار لحما ودما.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١))

قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). في تسميته بآدم قولان : أحدهما : لأنه خلق من أديم

____________________________________

يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه‌السلام بعد العصر من يوم الجمعة. في آخر الخلق. في آخر ساعة من ساعات الجمعة. فيما بين العصر إلى الليل» لفظ مسلم. وأخرجه ابن معين في «تاريخه» ٣٠٥ وعنه الدولابي في «الكنى» ١ / ١٧٥ عن هشام بن يوسف عن ابن جريج ، به. وأخرجه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» ٣٣ ـ ٣٤ من طريق إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد ، وإبراهيم متروك. وعلقه البخاري في «تاريخه» ١ / ٤١٣ ـ ٤١٤ من طريق أيوب وقال : وقال بعضهم : عن أبي هريرة عن كعب ، وهو أصح.

ـ قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٩٩ : هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وذكره أيضا في «تفسيره» ٣ / ٤٢٢ وقال : فيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد قال : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ*). وقال الإمام ابن تيمية رحمه‌الله في «الفتاوى» ١٧ / ٢٣٦ : وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله : «خلق الله التربة ، يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره ، قال البخاري : الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار. وقال المناوي في «فيض القدير» ٣ / ٤٤٨ : قال بعضهم : هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك : أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام ، وهذا خلاف القرآن لأن الأربعة خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين. وقال البيهقي : وزعم بعض أهل العلم أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير ، وأهل التواريخ ، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد ، وإبراهيم غير محتج به. ثم أسند البيهقي ٨١٣ من طريق الحاكم عن أحمد بن محمد عن محمد بن نصر عن محمد بن يحيى الذهلي قال : سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة «خلق الله التربة ...». فقال علي : هذا حديث مدني ، رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، قال علي : وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى ، وقال لي : شبك بيدي عبد الله بن رافع ، وقال لي : شبك بيدي أبو هريرة ، وقال لي : شبك بيدي أبو القاسم ، وقال لي : خلق الله التربة ...» فذكر الحديث بنحوه. قال علي المديني : وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلّا من إبراهيم بن أبي يحيى.

ـ ويؤيد ما قاله علي المديني ، هو ما أخرجه الحاكم في «علوم الحديث» ص ٣٣ في «بحث المسلسل» : من طريق الحسن بن بكر بن الشرود قال : شبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى ، وقال إبراهيم ... الحديث.

ـ قلت : فالخبر معلول ، وهو غريب جدا ، وحسبه الوقف ، وأن مصدره كعب الأحبار وعبد الله بن سلام.

ـ ومما يدل على غرابته بل نكارته أنه ليس عند مسلم ذكر خلق السماوات أصلا ، وهذا عجيب معارض بقوله تعالى في سورة فصّلت [٩ ـ ١٢](قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ...). فمن تأمل الآيات ظهر له الأمر جليا ، والله أعلم.


الأرض ، قاله ابن عباس وابن جبير والزّجّاج. والثاني : أنه من الأدمة في اللّون ، قاله الضّحّاك والنّضر بن شميل وقطرب. وفي الأسماء التي علّمه قولان : أحدهما : أنه علّمه كل الأسماء ، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني : أنه علّمه أسماء معدودة لمسمّيات مخصوصة. ثم فيها أربعة أقوال : أحدها : أنه علّمه أسماء الملائكة ، قاله أبو العالية. والثاني : أنه علّمه أسماء الأجناس دون أنواعها ، كقولك : إنسان وملك وجنّيّ وطائر ، قاله عكرمة. والثالث : أنه علّمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير ، قاله الكلبيّ ومقاتل ابن قتيبة. والرابع : أنه علّمه أسماء ذرّيته ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ). يريد : أعيان الخلق على الملائكة ، قال ابن عباس : الملائكة هاهنا : هم الذين كانوا مع إبليس خاصة. قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي) : أخبروني. قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فيه قولان : أحدهما : إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم ، قاله الحسن. والثاني : أني أجعل فيها من يفسد فيها ، قاله السّدّيّ عن أشياخه.

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢))

قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ). قال الزّجّاج (١) : لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو : التنزيه لله تعالى عن كل سوء. والعليم بمعنى : العالم ؛ جاء على بناء «فعيل» للمبالغة.

وفي الحكيم قولان : أحدهما : أنه بمعنى الحاكم ، قاله ابن قتيبة (٢). والثاني : المحكم للأشياء ، قاله الخطّابيّ (٣).

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ، أي : أخبرهم ، وروي عن ابن عباس : «أنبئهم» بكسر الهاء ، قال أبو عليّ : قراءة الجمهور على الأصل ، لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه ، ألا ترى أنك تقول : ضربهم وأبناءهم ، وهذا لهم. ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء. والهاء والميم تعود على الملائكة. وفي الهاء والميم من «أسمائهم» قولان : أحدهما : أنها تعود على المخلوقات التي عرضها ، قاله الأكثرون. والثاني : أنها تعود على الملائكة ، قاله الرّبيع بن أنس. وفي الذي أبدوه قولان : أحدهما : أنه قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ، ذكره السّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حين مروا على جسد آدم ، فقال إبليس : إن فضّل عليكم هذا ما تصنعون؟ فقالوا : نطيع ربّنا ، فقال إبليس في نفسه : لئن فضّلت عليه لأهلكنّه ، ولئن فضّل عليّ

__________________

(١) هو إبراهيم بن السّري أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة من كتبه «معاني القرآن» توفي سنة ٣١١.

(٢) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري توفي سنة ٢٧٦.

(٣) هو الإمام العلّامة حمد ، ويقال : أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي من مؤلفاته «بيان إعجاز القرآن الكريم» توفي سنة ٣٨٨.


لأعصينّه ، قاله مقاتل. وفي الذي كتموه قولان : أحدهما : أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقا أكرم منهم ، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة. والثاني : أنه ما أسرّه إبليس من الكبر والعصيان. رواه السّدّيّ عن أشياخه ، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا). عامة القرّاء على كسر التاء من الملائكة ، وقرأ أبو جعفر والأعمش بضمّها في الوصل ، قال الكسائيّ : هي لغة ، أزد شنوءة. وفي هؤلاء الملائكة قولان : أحدهما : أنهم جميع الملائكة ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنهم طائفة من الملائكة ، روي عن ابن عباس ، والأول أصح. والسجود في اللغة : التواضع والخضوع ، وأنشدوا :

ساجد المنخر ما يرفعه

خاشع الطّرف أصمّ المستمع

وفي صفة سجودهم لآدم قولان : أحدهما : أنه على صفة سجود الصلاة ، وهو الأظهر. والثاني : أنه الانحناء والميل المساوي للركوع.

قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ). في هذا الاستثناء قولان (١) :

أحدهما : أنه استثناء من الجنس ، فهو على هذا القول من الملائكة ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس. وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة ، ثم مسخه الله تعالى شيطانا.

والثاني : أنه من غير الجنس ، فهو من الجنّ ، قاله الحسن والزّهريّ.

قال ابن عباس : كان إبليس من خزّان الجنّة ، وكان يدير أمر السماء الدنيا. فإن قيل : كيف استثني وليس من الجنس؟ فالجواب : أنه أمر بالسجود معهم ، فاستثني منهم لأنه لم يسجد ، وهذا كما تقول : أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي ، هذا قول الزّجّاج.

وفي إبليس قولان : أحدهما : اسم أعجميّ ليس بمشتقّ ، ولذلك لا يصرف ، هذا قول أبي عبيدة ، والزّجّاج وابن الأنباريّ. والثاني : أنه مشتقّ من الإبلاس ، وهو : اليأس ، روي عن أبي صالح ، وذكره ابن قتيبة وقال : إنه لم يصرف ، لأنه لا سميّ له ، فاستثقل. قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ (٢) : والأول أصحّ ، لأنه لو كان من الإبلاس لصرف ، ألا ترى أنك لو سميت رجلا : بإخريط وإجفيل ؛ لصرف في المعرفة.

قوله تعالى : (أَبى) معناه : امتنع ، (وَاسْتَكْبَرَ) استفعل من : الكبر.

وفي (وَكانَ) قولان : أحدهما : أنها بمعنى : صار ، قاله قتادة. والثاني : أنها بمعنى الماضي ، فمعناه : كان في علم الله كافرا ، قاله مقاتل وابن الأنباري.

__________________

(١) القول الثاني هو الصواب ، والحجة في ذلك قوله تعالى في سورة الكهف (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فهو من الجن إذن ، وقال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وقال أيضا (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ومعلوم أن الملائكة لم يخلقوا من نار. فإبليس أصل الجن ، وآدم أصل الإنس. والله أعلم.

(٢) هو الإمام موهوب بن أحمد الجواليقي ، عارف باللغة والأدب ، توفي سنة ٥٤٠ ببغداد.


(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، زوجه : حواء ، قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : زوج ، ويجمعونها : الأزواج ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : زوجة ، ويجمعونها : زوجات. قال الشاعر :

فإنّ الذي يسعى يحرّش زوجتي

كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها (١)

وأنشدني أبو الجرّاح :

يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب

وفي الجنّة التي أسكنها آدم قولان : أحدهما : جنّة عدن. والثاني : جنة الخلد.

والرّغد : الرزق الواسع الكثير ، يقال : أرغد فلان : إذا صار في خصب وسعة.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي : بالأكل لا بالدّنو منها. وفي الشجرة ستة أقوال : أحدها : أنها السّنبلة ، وهو قول ابن عباس ، وعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وقتادة ، وعطيّة العوفيّ ، ومحارب بن دثار ، ومقاتل. والثاني : أنها الكرم ، روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة. والثالث : أنها التّين ، روي عن الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن جريج. والرابع : أنها شجرة يقال لها : شجرة العلم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والخامس : أنها شجرة الكافور ، نقل عن عليّ بن أبي طالب. والسادس : أنها النّخلة ، روي عن أبي مالك. وقد ذكروا وجها سابعا عن وهب بن منبه أنّه قال : هي شجرة يقال لها شجرة الخلد ، وهذا لا يعدّ وجها لأن الله تعالى سمّاها شجرة الخلد وإنما الكلام في جنسها.

قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). قال ابن الأنباريّ : الظّلم : وضع الشيء في غير موضعه ، ويقال : ظلم الرجل سقاءه إذا سقاه قبل أن يخرج زبده. قال الشاعر :

وصاحب صدق لم تربني شكاته

ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر

أراد بالصاحب : وطب اللبن ، وظلمه إياه : أن يسقيه قبل أن يخرج زبده.

والعرب تقول : هو أظلم من حيّة ، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ، ويقال : قد ظلم الماء الوادي : إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى.

فإن قيل : ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟ فالجواب : أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد. وقال أبو العالية (٢) : كان لها ثفل (٣) من بين أشجار الجنّة ، فلما أكل منها ، قيل : أخرج إلى

__________________

(١) في «اللسان» يستبيلها : يأخذ بولها في يده. والبيت للفرزدق.

(٢) أبو العالية : هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والتحتانية ، قال ابن حجر في «التقريب» : ثقة كثير الإرسال ، من الطبقة الثانية ، توفي سنة ٩٠ ه‍ وقيل ٩٣ وقيل بعد ذلك. روى له الجماعة.

(٣) في «اللسان» : ثفل كل شيء : ما استقر تحته من كدرة.


الدار التي تصلح لما يكون منك.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها). أزلّهما بمعنى : استزلّهما ، وقرأ حمزة (١) : «فأزالهما» ، أراد : نحّاهما. قال أبو عليّ الفارسيّ : لما كان معنى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) : أثبتا فيها ، فثبتا فأزالهما ، وقابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه ، ويقوي قراءته : (فَأَخْرَجَهُما). والشيطان : إبليس ، وأضيف الفعل إليه ، لأنه السبب.

وفي هاء (عَنْها) ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تعود إلى الجنّة. والثاني : ترجع إلى الطاعة. والثالث : ترجع إلى الشجرة. فمعناه : أزلّهما بزلّة صدرت عن الشجرة.

وفي كيفيّة إزلاله لهما ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنه احتال حتى دخل إليهما الجنّة ، وكان الذي أدخله الحيّة (٢) ، قاله ابن عباس والسّدّيّ. والثاني : أنه وقف على باب الجنة ، وناداهما ، قاله الحسن. والثالث : أنه وسوس إليهما ، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة ، قاله ابن إسحاق (٣) ، وفيه بعد. قال الزّجّاج : الأجود : أن يكون خاطبهما ، لقوله : (وَقاسَمَهُما) (٤).

واختلف العلماء في معصية آدم بالأكل ، فقال قوم : إنه نهي عن شجرة بعينها ، فأكل من جنسها ، وقال آخرون : تأوّل الكراهة في النهي دون التحريم.

قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) ، الهبوط بضم الهاء : الانحدار من علو ، وبفتح الهاء : المكان الذي يهبط فيه. وإلى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة أقوال : أحدها : أنه انصرف إلى آدم وحوّاء والحيّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : إلى آدم وحواء وإبليس والحية ، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس. والثالث : إلى آدم وإبليس ، قاله مجاهد (٥). الرابع : إلى آدم وحواء وإبليس ، قاله مقاتل. والخامس : إلى آدم وحواء وذرّيتهما ، قاله الفرّاء. والسادس : إلى آدم وحواء فحسب ، ويكون لفظ الجمع واقعا على التثنية ، كقوله : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٦) ذكره ابن الأنباريّ ، وهو العلة في قول مجاهد أيضا.

واختلف العلماء : هل أهبطوا جملة أو متفرّقين؟ على قولين :

__________________

(١) هو الإمام الحبر حمزة بن حبيب الزيّات القارئ ، أبو عمارة ، الكوفي ، التيمي مولاهم ، صدوق زاهد ربما وهم ، من الطبقة السابعة ، توفي سنة ١٥٦ أو ١٥٨ ه‍. روى له مسلم والأربعة. «التقريب» لابن حجر.

(٢) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات ، لا حجة في شيء من ذلك.

(٣) ابن إسحاق : هو محمد بن إسحاق بن يسار ، أبو بكر المطّلبي مولاهم ، المدني نزيل العراق ، إمام المغازي ، صدوق يدلّس ورمي بالتشيع والقدر ، من صغار الخمسة ، روى له البخاري تعليقا ومسلم متابعة والأربعة.

توفي سنة ١٥٠ ، ويقال بعدها.

(٤) الأعراف : ٢١.

(٥) مجاهد : هو مجاهد بن جبر ، بفتح الجيم وسكون الموحدة ، أبو الحجاج المخزومي مولاهم ، المكي ، ثقة إمام في التفسير وفي العلم ، من الثالثة ، توفي سنة ١٠٤ ، روى عنه الجماعة.

(٦) الأنبياء : ٧٨.


أحدهما : أنهم أهبطوا جملة ، لكنهم نزلوا في بلاد متفرّقة ، قاله كعب (١) ، ووهب.

والثاني : أنهم أهبطوا متفرّقين ، فهبط إبليس قبل آدم ، وهبط آدم بالهند ، وحواء بجدّة ، وإبليس بالأبلّة (٢) ، قاله مقاتل. وروي عن ابن عباس أنه قال : أهبطت الحية بنصيبين ، قال : وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم ، فقبض على ناصيته وخلّصه من الشجرة التي قبضت عليه ، فقال : أيها الملك ارفق بي. قال جبريل : إني لا أرفق بمن عصى الله ، فارتعد آدم واضطرب ، وذهب كلامه ، وجبريل يعاتبه في معصيته ، ويعدّد نعم الله عليه ، قال : وأدخل الجنّة ضحوة ، وأخرج منها بين الصلاتين ، فمكث فيها نصف يوم ، خمسمائة عام مما يعدّ أهل الدنيا.

وفي العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أن ذرية بعضهم أعداء لبعض ، قاله مجاهد.

والثاني : أن إبليس عدوّ لآدم وحوّاء ، وهما له عدو ، قاله مقاتل. والثالث : أن إبليس عدوّ للمؤمنين ، وهم أعداؤه ، قاله الزّجّاج.

وفي المستقر قولان : أحدهما : أن المراد به القبور ، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس. والثاني : موضع الاستقرار ، قاله أبو العالية ، وابن زيد ، والزّجّاج ، وابن قتيبة ، وهو أصح. والمتاع : المنفعة. والحين : الزمان. قال ابن عباس : (إِلى حِينٍ) ، أي : إلى فناء الأجل بالموت.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). تلقّى : بمعنى أخذ ، وقبل. قاله ابن قتيبة : كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده ، ففعل ذلك آدم فتاب عليه. وقرأ ابن كثير : (فتلقى آدم) بالنصب ، (كلمات) بالرفع ؛ على أن الكلمات هي الفاعلة.

وفي الكلمات أقوال : أحدها : أنها قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء الخراسانيّ ، وعبيد بن عمير ، وأبيّ بن كعب ، وابن زيد (٤). والثاني : أنه قال : أي ربّ ؛ ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى. قال : ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك إليّ قبل غضبك؟ قال : بلى. قال : ألم تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك؟ قال : بلى. قال : أي ربّ ، إن تبت وأصلحت ، أراجعي أنت إلى الجنّة؟ قال : نعم. حكاه السّدّيّ عن ابن عباس. والثالث : أنه قال : اللهمّ لا إله إلّا أنت ، سبحانك وبحمدك ، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنك خير الغافرين ، اللهمّ لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، ربّ إني ظلمت نفسي فارحمني ، فأنت خير الراحمين ، اللهمّ لا إله إلا أنت ، سبحانك ،

__________________

(١) كعب : هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار ، كان من أهل اليمن فسكن الشام ، توفي في آخر خلافة عثمان ، وقد زاد على المائة.

وليس له في البخاري رواية إلّا حكاية معاوية فيه.

(٢) في «معجم البلدان» الأبلة : بلدة على شاطئ دجلة البصرة.

(٣) الأعراف : ٢٣.

(٤) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وانظر تراجم هؤلاء في المقدمة.


وبحمدك ، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ ، إنك أنت التواب الرحيم ، رواه ابن [أبي نجيح] (١) عن مجاهد ، وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ). أصل التوبة : الرجوع ، فالتوبة من آدم : رجوعه عن المعصية ، وهي من الله تعالى : رجوعه عليه بالرحمة ، والثواب الذي كلما تكرّرت توبة العبد تكرّر قبوله ، وإنما لم تذكر حوّاء في التوبة ، لأنه لم يجر لها ذكر ، لا أن توبتها لم تقبل. وقال قوم : إذا كان معنى فعل الاثنين واحدا ؛ جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما ؛ كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٢) ، وقوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (٣).

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً). في إعادة ذكر الهبوط ـ وقد تقدم ـ قولان :

أحدهما : أنه أعيد لأن آدم أهبط إهباطين ، أحدهما من الجنّة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض. وأيّهما الإهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان.

والثاني : أنه إنما كرّر الهبوط توكيدا.

قوله تعالى : (فَأَمَّا) ، قال الزّجّاج : هذه «إن» التي للجزاء ، ضمّت إليها «ما» ، والأصل في اللفظ «إن ما» مفصولة ، ولكنها مدغمة ، وكتبت على الإدغام ، فإذا ضمّت «ما» إلى «إن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة. وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكّدة ، ودخلت النون مؤكدة أيضا ، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك : والله لتفعلن ، وجواب الجزاء الفاء.

وفي المراد ب «الهدى» ها هنا قولان : أحدهما : أنه الرسول ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : الكتاب ، حكاه بعض المفسّرين.

قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ). وقرأ يعقوب «فلا خوف» بفتح الفاء من غير تنوين ، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين. والمعنى : فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ، ولا هم يحزنون عند الموت. والخوف لأمر مستقبل ، والحزن لأمر ماض.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ، في «الآية» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها العلامة ، فمعنى آية : علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها والذي بعدها ، قال الشاعر :

ألا أبلغ لديك بني تميم

بآية ما يحبّون الطّعاما

وقال النّابغة :

توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع

__________________

(١) في النسخ «ابن كثير» والمثبت عن الطبري ٧٨٨ فابن أبي نجيح هو راويه عن مجاهد ، بل لمجاهد تفسير مطبوع متداول هو من رواية ابن أبي نجيح.

(٢) التوبة : ٦٣.

(٣) طه : ١١٧.


وهذا اختيار أبي عبيد. والثاني : أنها سمّيت آية ، لأنها جماعة حروف من القرآن ، وطائفة منه.

قال أبو عمرو الشّيبانيّ : يقال : خرج القوم بآيتهم ، أي : بجماعتهم. وأنشدوا :

خرجنا من النّقبين لا حيّ مثلنا

بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا (١)

والثالث : أنها سمّيت آية ، لأنها عجب ، وذلك أن قارئها يستدلّ إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين ، وهذا كما تقول : فلان آية من الآيات ؛ أي : عجب من العجائب. ذكره ابن الأنباريّ.

وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال : أحدها : آيات الكتاب التي تتلى. والثاني : معجزات الأنبياء. والثالث : القرآن. والرابع : دلائل الله في مصنوعاته.

وأصحاب النار : سكّانها ، سمّوا أصحابا ، لصحبتهم إياها بالملازمة.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠))

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ). إسرائيل : هو يعقوب ، وهو اسم أعجميّ. قال ابن عباس : ومعناه : عبد الله. وقد لفظت به العرب على أوجه ، فقالت : إسرائل ، وإسرال ، وإسرائيل. وإسرائين.

قال أميّة (٢) :

إنّني زارد الحديد على النّا

س دروعا سوابغ الأذيال

لا أرى من يعينني في حياتي

غير نفسي إلا بني إسرال

وقال أعرابيّ صاد ضبّا ، فأتى به أهله :

يقول أهل السوق لمّا جينا :

هذا وربّ البيت إسرائينا

أراد : هذا مما مسخ من بني إسرائيل.

والنعمة : المنّة ، ومثلها : النّعماء. والنّعمة : بفتح النون : التّنعم ، وأراد بالنعمة : النّعم ، فوحدها ، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع ؛ كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٣) ، أي : ظهراء. وفي المراد بهذه النّعمة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إذ أنجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوّهم ، وأعطاهم التوراة ، ونحو ذلك ، قاله الحسن والزّجّاج ، وإنما منّ عليهم بما أعطى آباءهم ، لأن فخر الآباء فخر للأبناء ، وعار الآبار عار على الأبناء. والثالث : أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال.

والمراد من ذكرها : شكرها ، إذ من لم يشكر فما ذكر.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا). قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : أوفيت ، وأهل نجد يقولون : وفّيت ، بغير ألف. قال الزّجّاج : يقال : وفّى بالعهد ، وأوفى به ، وأنشد :

__________________

(١) في «اللسان» : تزجي السّحاب : تسوقه سوقا رفيقا. اللّقاح : مصدر قولك لقحت الناقة إذا حملت. نوق مطافل : معها أولادها ، وفي الحديث سارت قريش بالعوذ المطافيل ، أي الإبل مع أولادها.

(٢) هو ابن أبي الصلت.

(٣) التحريم : ٤.


أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفّى بقلاص النّجم حاديها (١)

وقال ابن قتيبة : يقال : وفيت بالعهد ، وأوفيت به ، وأوفيت الكيل ، لا غير.

وفي المراد بعهده : أربعة أقوال : أحدها : أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنه الإسلام ، قاله أبو العالية. والرابع : أنه العهد المذكور في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٢) ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) قال ابن عباس : أدخلكم الجنّة.

قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، أي : خافون.

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))

قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) ، يعني القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يعني التوراة أو الإنجيل ، فإن القرآن يصدّقهما أنهما من عند الله ، ويوافقهما في صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ). إنّما قال : أوّل كافر ، لأن التقدّم إلى الكفر أعظم من الكفر بعد ذلك ، إذ المبادر لم يتأمل الحجّة ، وإنما بادر بالعناد ، فحاله أشدّ. وقيل : ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن ، والخطاب لرؤساء اليهود. وفي هاء «به» قولان : أحدهما : أنها تعود إلى المنزّل ، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني : أنها تعود على ما معهم ، لأنهم إذا كتموا وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معهم ، فقد كفروا به ، ذكره الزّجّاج. قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). أي : لا تستبدلوا ثمنا قليلا. وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا. والثاني : بقاء رئاستهم عليهم. والثالث : أخذ الأجرة على تعليم الدين.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢))

قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ). تلبسوا : بمعنى تخلطوا. يقال : لبست الأمر عليهم ، ألبسه : إذا عمّيته عليهم ، وتخليطهم : أنهم قالوا : إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنّبيّ الأمّي ، ولم يذكر أنه من العرب. وفي المراد بالحق قولان : أحدهما : أنه أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وأبو العالية ، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنه الإسلام ، قاله الحسن.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). يريد : الصلوات الخمس ، وهي هاهنا اسم جنس ، والزكاة : مأخوذة من الزّكاء ، وهو النّماء والزّيادة. يقال : زكا الزرع يزكو زكاء. وقال ابن الأنباريّ :

__________________

(١) في «اللسان» قلاص النجم : هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا كما تزعم العرب. انظر مادة ـ قلص ـ. والبيت لطفيل الغنوي.

(٢) المائدة : ١٣.


معنى الزّكاة في كلام العرب : الزيادة والنماء ، فسمّيت زكاة ، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه ، وتوفّره ، وتقيه من الآفات ، ويقال : هذا أزكى من ذاك ، أي : أزيد فضلا منه. قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). أي : صلّوا مع المصلّين. قال ابن عباس : يريد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم. وقيل : إنما ذكر الركوع ، لأنه ليس في صلاتهم ركوع ، والخطاب لليهود. وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ). قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السّر : اثبت على ما أنت عليه فإنه حقّ (١). والألف في «أتأمرون» ألف الاستفهام ، ومعناه التوبيخ. وفي «البر» هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه التمسّك بكتابهم ، كانوا يأمرون باتّباعه ولا يقومون به. والثاني : اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روي القولان عن ابن عباس. والثالث : الصّدقة ، كانوا يأمرون بها ، ويبخلون. ذكره الزّجّاج. قوله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ) ، أي : تتركون. وفي «الكتاب» قولان : أحدهما : أنه التوراة ، قاله الجمهور. والثاني : أنه القرآن ، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). الأصل في الصبر : الحبس ، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع. وسمّي الصائم صابرا لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع ، والمصبورة : البهيمة تتّخذ غرضا. وقال مجاهد : الصبر هاهنا : الصوم.

وفيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أداء الفرائض ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : أنه ترك المعاصي ، قاله قتادة. والثالث : عدم الرئاسة ، وهو خطاب لأهل الكتابين ، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغّب في الآخرة ، ويزهّد في الدنيا.

قوله تعالى : (وَإِنَّها) ، في المكنّى عنها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الصلاة ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور. والثاني : أنها الكعبة والقبلة ، لأنها لما ذكر الصّلاة ، دلّت على القبلة ، ذكره الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثالث : أنها الاستعانة ، لأنها لما قال : (وَاسْتَعِينُوا) دلّ على الاستعانة ، ذكره محمّد بن القاسم النّحويّ. قوله تعالى : (لَكَبِيرَةٌ) ، قال الحسن والضّحّاك : الكبيرة : الثقيلة ، مثل قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (٢) ، أي : ثقل. والخشوع في اللغة : التّطامن والتّواضع ، وقيل : السّكون.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ). الظنّ هاهنا : بمعنى اليقين (٣) ، وله وجوه قد ذكرناها

__________________

(١) أخرجه الواحدي عن ابن عباس ٣١ ، وإسناده ساقط ، فيه الكلبي متروك متهم بالكذب.

(٢) الشورى : ١٣.

(٣) قال القرطبي ١ / ٤١٨ : الظنّ هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ


في كتاب «الوجوه والنظائر».

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧))

قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، يعني : على عالمي زمانهم ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ومجاهد وابن زيد. قال ابن قتيبة : وهو من العام الذي أريد به الخاص.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

قال الزّجّاج : كانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة ، فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك. وفي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً) إضمار ، تقديره : اتّقوا عذاب يوم ، أو : ما في يوم. والمراد باليوم : يوم القيامة. و «تجزي» بمعنى تقضي. قال ابن قتيبة : يقال : جزى الأمر عني يجزي ، بغير همز ، أي : قضى عني ، وأجزأني يجزئني ، مهموز ، أي : كفاني.

قوله تعالى : (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) ، قالوا : المراد بالنّفس هاهنا : النّفس الكافرة ، فعلى هذا يكون من العامّ الذي أريد به الخاصّ.

قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء ، إلا أن قتادة فتح الياء ، ونصب الشفاعة ، ليكون الفعل لله تعالى ، قال : أبو علي : من قرأ بالتاء ، فلأن الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث ، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث ، ومن قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي ، فحمل على المعنى ، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد ، وفي الآية إضمار ، تقديره : لا يقبل منها فيه شفاعة. والشفاعة مأخوذة من الشّفع الذي يخالف الوتر ، وذلك أن سؤال الشّفيع يشفع سؤال المشفوع له.

فأمّا «العدل» فهو الفداء ، وسمّي عدلا ، لأنه يعادل المفدى. واختلف اللغويون : هل «العدل» و «العدل» فتح العين وكسرها يختلفان ، أم لا؟ فقال الفرّاء : العدل بفتح العين : ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل بكسرها : ما عادل الشيء من جنسه ، فهو المثل ، تقول : عندي عدل غلامك ، بفتح العين : إذا أردت قيمته من غير جنسه ، وعندي عدل غلامك ، بكسر العين : إذا كان غلام يعدل غلاما. وحكى الزّجّاج عن البصريين أن العدل والعدل في معنى المثل ، وأن المعنى واحد ، سواء كان المثل من الجنس أو من غير الجنس.

قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يمنعون من عذاب الله.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))

__________________

حِسابِيَهْ) وقوله (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها). وقد قيل إن الظنّ في الآية أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم ؛ فكأنهم يتوقّعون لقاءه مذنبين ؛ ذكر المهدوي والماوردي. قال ابن عطية : وهذا تعسّف. وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه ، وقد يوقع موقع اليقين ، كما في هذه الآية وغيرها ولكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحسّ ، لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر : أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسّ بعد ، كهذه الآية. وقد يجيء اليقين بمعنى الظن.


قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) تقديره : واذكروا إذ نجّيناكم ، وهذه النّعم على آبائهم كانت. وفي (آلِ فِرْعَوْنَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أهل مصر ، قاله مقاتل. والثاني : أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيدة. والثالث : أتباعه على دينه ، قاله الزّجّاج. وهل الآل والأهل بمعنى ، أو يختلفان؟ فيه قولان. وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر». وفرعون : اسم أعجميّ ، وقيل : هو لقبه. وفي اسمه أربعة أقوال : أحدها : الوليد بن مصعب ، قاله الأكثرون. والثاني : فيطوس ، قاله مقاتل. والثالث : مصعب بن الريّان ، حكاه ابن جرير الطّبريّ. والرابع : مغيث ، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ) ، أي : يولونكم ، يقال : فلان يسومك خسفا ، أي : يوليك ذلا واستخفافا. و (سُوءَ الْعَذابِ) : شديدة. وكان الزّجّاج يرى أن قوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) تفسير لقوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) ، وأبى هذا بعض أهل العلم ، فقال : قد فرّق الله بينهما في موضع آخر ، فقال : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) (١) ، وإنما سوء العذاب : استخدامهم في أصعب الأعمال ، وقال الفرّاء : الموضع الذي فيه الواو ، يبيّن أنه قد مسّهم من العذاب غير الذبح ، فكأنه قال : يعذّبونكم بغير الذبح وبالذبح.

قوله تعالى : (وَيَسْتَحْيُونَ) ، أي : يستبقون (نِساءَكُمْ) ، أي : بناتكم. وإنما استبقوا نساءكم للاستذلال والخدمة. وفي البلاء هاهنا قولان : أحدهما : أنه بمعنى النّعمة ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو مالك ، وابن قتيبة والزّجّاج. والثاني : أنه النّقمة ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى : (ذلِكُمْ) : عائدا على سومهم سوء العذاب ، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وعلى القول الأوّل يعود على النجاة من آل فرعون. قال أبو العالية : وكان السبب في ذبح الأبناء ، أن الكهنة قالت لفرعون : سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه ، فقتل الأبناء. قال الزّجّاج : فالعجب من حمق فرعون ، إن كان الكاهن عنده صادقا ، فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟!

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ، الفرق : الفصل بين الشيئين ، و «بكم» بمعنى «لكم». وإنما ذكر آل فرعون دونه ، لأنه قد علم كونه فيهم. وفي قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ، قولان : أحدهما : أنه من نظر العين ، ومعناه : وأنتم ترونهم يغرقون. والثاني : أنه بمعنى : العلم ؛ كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (٢) ، قاله الفرّاء.

(الإشارة إلى قصتهم)

روى السّدّيّ عن أشياخه : أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، وألقى على القبط الموت ، فمات بكر كل رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونه ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، قال عمرو بن ميمون : فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ، فما صاح ديك ليلتئذ. قال أبو السّليل : لما انتهى موسى إلى البحر قال : هيه أبا خالد (٣) ، فأخذه أفكل ، يعني :

__________________

(١) إبراهيم : ٦.

(٢) الفرقان : ٤٥.

(٣) قوله «أبا خالد» كنية كنّى موسى بها البحر ، انظر الطبري ٩٠٥.


رعدة ، قال مقاتل : تفرق الماء يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين ، وفيهما كوى ينظر كل سبط إلى الآخر. قال السّديّ : فلما رآه فرعون متفرّقا قال : ألا ترون البحر فرق مني ، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة فتشامّت الحصن (١) ريح الماذيانة ، فاقتحمت في إثرها ، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ، ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١))

قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ). قرأ أبو جعفر وأبو عرو : «وعدنا» بغير ألف هاهنا ، وفي (الأعراف) و (طه) ، ووافقهما أبان عن عاصم في (البقرة) خاصة. وقرأ الباقون «واعدنا» بألف. ووجه القراءة الأولى : إفراد الوعد من الله تعالى ، ووجه الثانية : أنه لما قبل موسى وعد الله عزوجل ، صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى. ومثله : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (٢). ومعنى الآية : وعدنا موسى تتمة أربعين يوما أو انقضاء أربعين ليلة. وموسى : اسم أعجميّ ، أصله بالعبرانية : موشا ، فمو : هو الماء ، وشا : هو الشجر ، لأنه وجد عند الماء والشجر ، فعرّب بالسين. ولما ذا كان هذا الوعد؟ فيه قولان : أحدهما : لأخذ التوراة. والثاني : للتكليم. وفي هذه المدّة قولان : أحدهما : أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجّة! وهذا قول من قال : كان الوعد لإعطاء التوراة. والثاني : أنها ذو الحجّة وعشر من المحرّم ، وهو قول من قال : كان الوعد للتكليم. وإنما ذكرت الليالي دون الأيام ، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي ، لأن أول الشهر ليله ، واعتماد العرب على الأهلّة ، فصارت الأيام تبعا لليالي. وقال أبو بكر النّقّاش (٣) : إنما ذكر الليالي ، لأنه أمره أن يصوم هذه الأيام ويواصلها بالليالي ، فلذلك ذكر الليالي ، وليس بشيء.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ) ، من بعده ، أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل.

الإشارة إلى اتخاذهم العجل

روى السّدّيّ عن أشياخه أنه لما انطلق موسى ، واستخلف هارون ، قال هارون : يا بني إسرائيل! إن الغنيمة لا تحل لكم ، وإن حليّ القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة (٤) ، فادفنوه ، فإن أحلّه

__________________

(١) الماذيانة : الفرس. والحصن : جمع حصان.

(٢) البقرة : ٢٣٥.

(٣) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي ، ثم البغدادي ، أبو بكر النقاش المقرئ المفسّر.

روى عن أبي مسلم الكجي ، وطبقته ، وقرأ بالروايات ، ورحل إلى عدة مدائن ، وتعب واحتيج إليه ، وصار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه. قال طلحة بن محمد الشاهد : كان النقاش يكذب في الحديث ، والغالب عليه القصص. وقال البرقاني : كل حديث النقاش منكر. قال أبو القاسم اللالكائي : تفسير النقاش إشقاء الصدور ، وليس بشفاء. الصدور توفي النقاش ٣٥١. وانظر «الميزان» للذهبي ٧٤٠٤.

(٤) في «اللسان» الحفيرة والحفر والحفير : البئر الموسعة فوق قدرها.


موسى فخذوه ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه ، ففعلوا. قال السّدّيّ : وكان جبريل قد أتى إلى موسى ليذهب به إلى ربّه ، فرآه السّامريّ ، فأنكره وقال : إنّ لهذا شأنا ، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس ، فقذفها في الحفيرة ، فظهر العجل. وقيل : إن السّامريّ أمرهم بإلقاء ذلك الحليّ ، وقال : إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحليّ ، فاحفروا لها حفيرة وقرّبوه إلى الله ، يبعث لكم نبيّكم ، فإنه كان عارية ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي سبب اتّخاذ السّامريّ عجلا قولان : أحدهما : أن السّامريّ كان من قوم يعبدون البقر ، فكان ذلك في قلبه ، قاله ابن عباس. والثاني : أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، أعجبهم ذلك ، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها وأنكر عليهم ، أخرج السّامريّ لهم في غيبته عجلا لما رأى من استحسانهم ذلك ، قاله ابن زيد. وفي كيفية اتخاذ العجل قولان : أحدهما : أن السّامريّ كان صوّاغا فصاغه وألقى فيه القبضة ، قاله عليّ وابن عباس. والثاني : أنهم حفروا حفيرة ، وألقوا فيها حليّ قوم فرعون وعواريّهم تنزّها عنها ، فألقى السّامريّ القبضة من التراب فصار عجلا. روي عن ابن عباس أيضا. قال ابن عباس : صار لحما ودما وجسدا ، فقال لهم السّامريّ : هذا إلهكم وإله موسى قد جاء ، وأخطأ موسى الطريق ، فعبدوه وزفنوا حوله (١).

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) ، الكتاب : التوراة. وفي الفرقان خمسة أقوال : أحدها : أنه النّصر ، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني : أنه ما في التوراة من الفرق بين الحقّ والباطل ، فيكون الفرقان نعتا للتوراة ، قاله أبو العالية. والثالث : أنه الكتاب ، فكرّره بغير اللفظ. قال عديّ بن زيد :

فألفى قولها كذبا ومينا (٢)

وقال عنترة :

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٣)

هذا قول مجاهد ، واختيار الفرّاء والزّجّاج. والرابع : أنه فرق البحر لهم ، ذكره الفرّاء والزّجّاج وابن القاسم. والخامس : أنه القرآن. ومعنى الكلام : لقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمّدا الفرقان ، ذكره الفرّاء ، وهو قول قطرب.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ). القوم : اسم للرجال والنساء ،

__________________

(١) الزّفن : الرّقص ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها : «قدم وفد الحبشة فجعلوا يزفنون ويلعبون» أي يرقصون.

(٢) هو عجز بيت وصدره : فقددت الأديم لراهشيه. والقدّ : القطع. والراهشان : عرقان في باطن الذراع. والمين : الكذب. وانظر «اللسان» مادة ـ مين ـ.

(٣) هو عجز بيت وصدره : حيّيت من طلل تقادم عهده. انظر «تفسير القرطبي» ١ / ٤٤٠.


قال الله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) (١) ، وقال زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟!

وإنما سمّوا قوما ، لأنهم يقومون بالأمور.

قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) ، قال أبو عليّ : كان ابن كثير ونافع (٢) وعاصم (٣) وابن عامر (٤) وحمزة والكسائيّ (٥) يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف. وروى اليزيديّ وعبد الوارث (٦) عن أبي عمرو (٧) : «بارئكم» بجزم الهمزة. روى عنه العباس بن الفضل (٨) : «بارئكم» مهموزة غير مثقلة. وقال سيبويه (٩) : كان أبو عمرو يختلس الحركة في : «بارئكم» و «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات ، فيرى من يسمعه أنه قد أسكن ولم يسكن. والبارئ : الخالق. ومعنى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ليقتل بعضكم بعضا. قاله ابن عباس ومجاهد.

واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه خطاب للكل ، قاله السّديّ عن أشياخه. والثاني : أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد ، قاله مقاتل. والثالث : أنه خطاب للعابدين فحسب ، أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي الإشارة بقوله : «ذا» في :

«ذلكم» قولان : أحدها : أنه يعود إلى القتل. والثاني : أنه يعود إلى التوراة.

الإشارة إلى قصتهم في ذلك

قال ابن عباس : قالوا لموسى : كيف يقتل الآباء الأبناء ، والإخوة الإخوة؟ فأنزل الله عليهم ظلمة

__________________

(١) الحجرات : ١١.

(٢) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ ، المدني ، مولى بني ليث ، أصله من أصبهان ، وقد نسب لجده صدوق ثبت في القراءة ، من كبار السابعة ، توفي ١٦٩ ، وروى له ابن ماجة في «التفسير».

(٣) هو عاصم بن بهدلة ، وهو ابن أبي النّجود الأسدي مولاهم ، الكوفي ، أبو بكر المقرئ ، صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون ، من السادسة ، توفي ١٢٨. انظر «التقريب» ٣٠٥٤.

(٤) هو عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم اليحصبيّ ، الدمشقي ، المقرئ ، أبو عمران ، وقيل غير ذلك في كنيته ، ثقة ، من الثالثة ، توفي سنة ١١٨ وله سبع وتسعون سنة على الصحيح ، روى له مسلم والترمذي. انظر «التقريب» ٣٤٠٥.

(٥) هو إمام القرّاء ، أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي ، المعروف بالكسائي ، النحويّ ، مولى بني أسد ، أحد الأئمة القرّاء. وقيل له لم سميت الكسائي قال : لأني أحرمت في كساء. توفي سنة ١٨٩ في «برنبوية» قرية من قرى الرّيّ. انظر «الأنساب» للسمعاني ٥ / ٦٦.

(٦) هو الإمام القارئ الحافظ ، أبو عبيدة التنوري ، عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الغبري مولاهم ، البصري ، ثقة ثبت ، رمي بالقدر ولم يثبت عنه ، من الثامنة. توفي سنة ١٨٠ روى له الجماعة.

(٧) هو مقرئ البصرة ، الإمام أبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميمي المازني البصري أحد السبعة ، قال أبو عبيدة : كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية والشعر وأيام العرب وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك فأحرقها. وهو في النحو في الطبقة الرابعة. توفي في الكوفة سنة ١٥٤.

(٨) العباس بن الفضل ، أحد القراء ، توفي سنة ١٨٦.

(٩) هو عمرو بن عثمان ، إمام النحو واللغة ، توفي سنة ١٦١.


لا يرى بعضهم بعضا ، فقالوا : فما آية توبتنا؟ قال : أن يقوم السلام ولا يقتل ، وترفع الظّلمة. فقتلوا حتى خاضوا في الدماء ، وصاح الصبيان : يا موسى : العفو العفو. فبكى موسى ، فنزلت التوبة ، وقام السّلام ، وارتفعت الظّلمة. قال مجاهد : بلغ القتلى سبعين ألفا. قال قتادة : جعل القتل للقتيل شهادة ، وللحيّ توبة.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). في القائلين لموسى ذلك قولان : أحدهما : أنهم السبعون المختارون ، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني : جميع بني إسرائيل إلا من عصم الله منهم ، قاله ابن زيد ، قال : وذلك أنه أتاهم بكتاب الله ، فقالوا : والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة ؛ فيقول : هذا كتابي.

وفي (جَهْرَةً) قولان : أحدهما : أنه صفة لقولهم ، أي : جهروا بذلك القول ، قاله ابن عباس ، وأبو عبيدة. والثاني : أنها الرؤية البيّنة ، أي : أرناه غير مستتر بشيء ، يقال : فلان يتجاهر بالمعاصي ، أي : لا يستتر من الناس ، قاله الزّجّاج. ومعنى «الصاعقة» : ما يصعقون منه ، أي : يموتون. ومن الدليل على أنهم ماتوا ، قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) هذا قول الأكثرين. وزعم قوم أنهم لم يموتوا ، واحتجّوا بقوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) (١) وهذا قول ضعيف ، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين ، فقال هناك : (فَلَمَّا أَفاقَ) ، وقال هاهنا : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) والإفاقة للمغشيّ عليه ، والبعث للميت. قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتا. والثاني : ينظر بعضكم إلى إحياء بعض. والثالث : تنظرون العذاب كيف ينزل بكم ، وهو قول من قال : نزلت نار فأحرقتهم.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ). الغمام : السّحاب ، سمّي غماما ، لأنه يغمّ السماء ، أي : يسترها ، وكل شيء غطيته فقد غممته ، وهذا كان في التّيه.

وفي «المنّ» ثمانية أقوال : أحدها : أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس ، قاله ابن عباس والشّعبيّ والضّحّاك. والثاني : أنه التّرنجبين (٢) ، روي عن ابن عباس أيضا ، وهو قول مقاتل. والثالث : أنه صمغة ، قاله مجاهد. والرابع : أنه يشبه الرّبّ الغليظ (٣) ، قاله عكرمة. والخامس : أنه شراب ، قاله أبو العالية ، والرّبيع بن أنس. والسادس : أنه خبز الرّقاق مثل الذّرة ، أو مثل النّقي ، قاله وهب.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) الترنجبين : هو ندى شبيه بالعسل يقع من السماء.

(٣) الرّبّ : بالضمّ دبس الرّطب إذا طبخ. انظر «المصباح».


والسابع : أنه عسل ، قاله ابن زيد. والثامن : أنه الزّنجبيل ، قاله السّدي (١).

وفي «السّلوى» قولان : أحدهما : أنه طائر ، قال بعضهم : يشبه السّمانيّ ، وقال بعضهم : هو السّمانيّ. والثاني : أنه العسل ، ذكره ابن الأنباريّ ، وأنشد (٢) :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) ، قال ابن عباس : ما نقصونا وضرّونا ، بل ضرّوا أنفسهم.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). في القائل لهم قولان : أحدهما : أنه موسى بعد مضيّ الأربعين سنة. والثاني : أنه يوشع بن نون بعد موت موسى.

والقرية : مأخوذة من الجمع ، ومنه : قريت الماء في الحوض. والمقراة : الحوض يجمع فيه الماء. وفي المراد بهذه القرية قولان : أحدهما : أنها بيت المقدس ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسّدّيّ والرّبيع ، وروي عن ابن عباس أنها أريحا. قال السّدّيّ : وأريحا : هي أرض بيت المقدس.

والثاني : أنها قرية من أداني قرى الشام ، قاله وهب (٣).

قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ) ، قال ابن عباس : وهو أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى :

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٩٥ : والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمنّ المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركّب مع غيره صار نوعا آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده. والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري عن سعيد بن زيد رضي الله عنه ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين)

(٢) البيت للهذليّ هو خالد بن زهير. قال القرطبي رحمه‌الله ١ / ٤٤٧ : قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين. وقد غلط الهذليّ فقال :

وقاسمهما بالله جهدا لأنتم

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ظنّ أن السلوى العسل. قلت : ما ادّعاه من الإجماع لا يصح ؛ وقد قال المؤرّج (وهو مؤرج بن عمر الدّوسي من أصحاب الخليل بن أحمد) أحد علماء اللغة والتفسير : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذليّ ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة ، سمّي به لأنه يسلى به. وقال الجوهري : والسلوى العسل ، وذكر بيت الهذليّ ولم يذكر غلطا.

والسّلوانة (بالضم) : خرزة كانوا يقولون إذا صبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال :

شربت على سلوانة ماء مزنة

فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان. وقال بعضهم : السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمّونه المفرّح ، يقال سليت وسلوت ، لغتان. وهو في سلوة من العيش. أي في رغد ، عن أبي زيد.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٩٨ : يقول الله تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر بصحبة موسى عليه‌السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة ، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره الله تعالى في سورة المائدة ، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس.


باب حطّة ، وقوله : (سُجَّداً) ، أي : ركّعا. قال وهب : أمروا بالسجود شكرا لله عزوجل إذ ردّهم إليها. قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قرأ ابن السّميفع وابن أبي عبلة (حطة) بالنصب. وفي معنى «حطّة» ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : استغفروا ، قاله ابن عباس ووهب. قال ابن قتيبة : وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار ، من : حططت ، أي : حطّ عنا ذنوبنا. والثاني : أن معناها : قولوا : هذا الأمر حقّ كما قيل لكم ، ذكره الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أن معناها : لا إله إلّا الله ، قاله عكرمة. قال ابن جرير الطّبريّ : فيكون المعنى : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول «لا إله إلا الله».

ولما ذا أمروا بدخول القرية؟ فيه قولان : أحدهما : أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل : (ادخلوا القرية) (وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم) ، قاله وهب. والثاني : أنهم ملّوا المنّ والسّلوى ، فقيل : (اهْبِطُوا مِصْراً) ، فكان أول ما لقيهم أريحا ، فأمروا بدخولها.

قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : (نغفر لكم) بالنون مع كسر الفاء. وقرأ نافع وأبان عن عاصم «يغفر» بياء مضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). اعلم أن الله عزوجل ، أمرهم في دخولهم بفعل وقول ، فالفعل السجود ، والقول : حطّة ، فغيّر القوم الفعل والقول. فأمّا تغيير الفعل ؛ ففيه خمسة أقوال :

(٢٣) أحدها : أنهم دخلوا متزحّفين على أوراكهم. رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنهم دخلوا من قبل أستاههم ، قاله ابن عباس وعكرمة. والثالث : أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم ، قاله ابن مسعود. والرابع : أنهم دخلوا على حروف عيونهم ، قاله مجاهد. والخامس : أنهم دخلوا مستلقين ، قاله مقاتل.

وأما تغيير القول ؛ ففيه خمسة أقوال :

(٢٤) أحدها : أنهم قالوا مكان «حطّة» : حبّة في شعرة ، رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنهم قالوا : حنطة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، ووهب ، وابن يزيد.

والثالث : أنهم قالوا : حنطة حمراء فيها شعرة ، قاله ابن مسعود.

____________________________________

(٢٣) لم أره مرفوعا بهذا اللفظ ، وإنما أخرجه البخاري ٣٤٠٣ و ٤٦٤١ و ٤٤٧٩ ومسلم ٣٠١٥ والترمذي ٢٩٥٦ وابن حبّان ٦٢٥١. من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة يغفر لكم خطاياكم فبدّلوا فدخلوا الباب على أستاهم وقالوا حبّة في شعرة». والرواية التي ذكرها المصنف هي من قول الحسن كما في تفسير الطبري ١٠٢٧.

(٢٤) انظر الحديث المتقدم.


والرابع : أنهم قالوا : حبّة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء ، قاله السّدّيّ عن أشياخه.

والخامس : أنهم قالوا : سنبلاثا ، قاله أبو صالح.

فأما الرّجز ؛ فهو العذاب ، قاله الكسائيّ وأبو عبيدة والزّجّاج. وأنشدوا لرؤبة :

كم رأينا في ذي عديد مبزي

حتى وقمنا كيده بالرّجز (١)

وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ظلمة وموت ، فمات منهم في ساعة واحدة ، أربعة وعشرون ألفا ، وهلك سبعون ألفا عقوبة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه أصابهم الطاعون ، عذّبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا ، قاله وهب بن منبه. والثالث : أنه الثلج ، هلك به منهم سبعون ألفا ، قاله سعيد بن جبير.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ). استسقى بمعنى : استدعى ذلك ، كقولك : استنصر. وفي «الحجر» قولان : أحدهما : أنه حجر معروف عيّن لموسى ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطيّة ، وابن زيد ، ومقاتل ، واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان حجرا مربعا ، قاله ابن عباس. والثاني : كان مثل رأس الثور ، قاله عطيّة. والثالث : مثل رأس الشاة ، قاله ابن زيد. وقال سعيد بن جبير : هو الذي ذهب بثياب موسى. فجاءه جبريل فقال : إن الله تعالى يقول لك : ارفع هذا الحجر ، فلي فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فكان إذا احتاج إلى الماء ضربه. والقول الثاني : أنه أمر بضرب أي حجر كان ، والأول أثبت.

قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ). تقدير معناه : فضرب فانفجرت ، فلما عرف بقوله : «فانفجرت» أنه قد ضرب ، اكتفى بذلك عن ذكر الضرب ، ومثله : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (٢) ، قاله الفرّاء.

ولما كان القوم اثني عشر سبطا ، أخرج الله لهم اثني عشرة عينا ، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه. قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا). العثو : أشدّ الفساد ، يقال : عثي ، وعثا ، وعاث. قال ابن الرّقاع :

لو لا الحياء وأنّ رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ، هذا قولهم في التّيه ، وعنوا بالطعام

__________________

(١) في «اللسان» : وقمت الرجل عن حاجته : رددته أقبح الردّ.

(٢) الشعراء : ٦٣.


الواحد : المنّ والسّلوى. قال محمّد بن القاسم : كان المنّ يؤكل بالسّلوى ؛ والسّلوى بالمنّ ، فلذلك كانا طعاما واحدا. والبقل هاهنا : اسم جنس ، وعنوا به : البقول ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغويّ قال : تذهب العامة إلى أن البقل : ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ ، وليس كذلك ؛ إنما البقل : العشب ، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم ، يقال : بقلت الأرض ، وأبقلت ، لغتان فصيحتان : إذا أنبت البقل. وابتقلت الإبل وتبقّلت : إذا رعت. قال أبو النّجم يصف الإبل :

تبقّلت في أوّل التّبقّل

بين رماحي مالك ونهشل

وفي «القثاء» لغتان : كسر القاف ، وضمّها ، والكسر أجود ، وبه قرأ الجمهور. وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء (١) ، وقتادة وطلحة بن مصرّف ، والأعمش بضم القاف. قال الفرّاء : الكسر لغة أهل الحجاز ، والضم لغة تيم ، وبعض بني أسد. وفي «الفوم» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحنطة ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ عن أشياخه ، والحسن وأبو مالك. قال الفرّاء : هي لغة قديمة ، يقول أهلها : فوّموا لنا ، أي : اختبزوا لنا. والثاني : أنه الثوم ، وهو قراءة عبد الله وأبيّ : «وثومها» واختاره الفرّاء ، وعلّل بأنه ذكر مع ما يشاكله ، والفاء تبدل من الثاء ، كما تقول العرب : الجدث ، والجدف : للقبر ، والأثافي والأفافي :للحجارة التي توضع تحت القدر. والمغاثير والمغافير : لضرب من الصّمغ. وهذا قول مجاهد ، والرّبيع بن أنس ، ومقاتل ، والكسائيّ ، والنّضر بن شميل وابن قتيبة. والثالث : أنه الحبوب ، وذكره ابن قتيبة والزّجّاج.

قوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) ، أي : أردأ (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ، أي : أعلى ، يريد : أن المنّ والسّلوى أعلى ما طلبتم. قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً) فيه قولان :

أحدهما : أنه اسم لمصر من الأمصار غير معيّن ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وإنما أمروا بالمصر ، الذي طلبوه في الأمصار.

والثاني : أنه أراد البلد المسمّى بمصر. وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرّف والأعمش «مصر» بغير تنوين ، قال أبو صالح عن ابن عباس : أراد مصر فرعون ، وهذا قول أبي العالية والضّحّاك ، واختاره الفرّاء ، واحتجّ بقراءة عبد الله. قال : وسئل عنها الأعمش ، فقال : هي مصر التي عليها صالح بن عليّ (٢). وقال مفضّل الضّبّيّ (٣) : سمّيت مصرا ، لأنها آخر حدود المشرق ، وأوّل حدود المغرب ، فهي حدّ بينهما. والمصر : الحدّ. وأهل هجر يكتبون في عهدهم : اشترى فلان الدار بمصورها ، أي :

بحدودها. وقال عديّ :

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين اللّيل قد فصلا

وحكى ابن فارس أن قوما قالوا : سمّيت بذلك لقصد الناس إياها. كقولهم : مصرت الشاة ، إذا حلبتها ، فالناس يقصدونها ، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها.

__________________

(١) أبو رجاء هو عمران بن ملحان العطاردي ، مخضرم ثقة ، توفي سنة ١٠٥ وله ١٢٠ سنة ، روى له الجماعة.

(٢) هو أول من ولي مصر من قبل أبي العباس السفاح سنة ١٣٣ ه‍. وفي بعض النسخ «سليمان بن علي» خطأ.

(٣) هو المفضل بن محمد بن يعلى ، أبو العباس ، عارف بالأدب والشعر ، توفي سنة ١٦٨.


قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ، أي : ألزموها ، قال الفرّاء : الذّلة والذّل : بمعنى واحد ، وقال الحسن : هي الجزية. وفي المسكنة قولان : أحدهما : أنها الفقر والفاقة ، قاله أبو العالية ، والسّدّيّ ، وأبو عبيدة ، وروي عن السّدّيّ قال : هي فقر النفس. والثاني : أنها الخضوع ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (وَباؤُ) ، أي : رجعوا. وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى الغضب. وقيل : إلى جميع ما ألزموه من الذّلة والمسكنة وغيرهما. قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ). كان نافع يهمز «النبيّين» و «الأنبياء» و «النبوّة» وما جاء من ذلك ، إلا في موضعين في الأحزاب : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) (١) ، (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) (٢) ، وإنما ترك الهمزة في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وباقي القرّاء لا يهمزون جميع المواضع. قال الزّجّاج : الأجود ترك الهمز. واشتقاق النبيّ من : نبأ ، وأنبأ ، أي : أخبر. ويجوز أن يكون من : نبا ينبو : إذا ارتفع ، فيكون بغير همز : فعيلا ، من الرّفعة. قال عبد الله بن مسعود : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ ، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار.

قوله تعالى : (بِغَيْرِ الْحَقِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : بغير جرم ، قاله ابن الأنباريّ. والثاني : أنه توكيد ؛ كقوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣). والثالث : أنه خارج مخرج الصّفة لقتلهم أنه ظلم ، فهو كقوله : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (٤) ، فوصف حكمه بالحق ، ولم يدلّ على أنه يحكم بغير الحق. قوله تعالى : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ، العدوان : أشدّ الظلم. وقال الزّجّاج : الاعتداء : مجاوزة القدر في كل شيء.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فيهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الذين آمنوا بموسى ، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى ، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد. وهذا قول السّدّيّ عن أشياخه. والثالث : أنهم المنافقون ، قاله سفيان الثّوريّ (٥). والرابع : أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام ، كقس بن ساعدة ، وبحيرا ، وورقة بن نوفل ، وسلمان. والخامس : أنهم المؤمنون من هذه الأمّة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا) ، قال الزّجّاج : أصل هادوا في اللغة : تابوا. وروي عن ابن مسعود أن اليهود سمّوا بذلك لقول موسى : (هُدْنا إِلَيْكَ) (٦) ، والنصارى لقول عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ*). وقيل سمّوا النصارى لقرية نزلها المسيح ، اسمها : ناصرة ، وقيل : لتناصرهم.

فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جميع القرآن. وكان نافع لا يهمز كل المواضع. قال

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

(٢) الأحزاب : ٥٠.

(٣) الحج : ٤٦.

(٤) الأنبياء : ١١٢.

(٥) هو الإمام الفقيه ، أمير المؤمنين في الحديث ، توفي سنة ١٦١.

(٦) الأعراف : ١٥٦.


الزّجّاج : معنى الصابئين : الخارجون من دين إلى دين ، يقال : صبأ فلان : إذا خرج من دينه. وصبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأ نابه : إذا خرج. وفي الصابئين سبعة أقوال : أحدها : أنه صنف من النصارى ألين قولا منهم ، وهم السّائحون المحلّقة أوساط رؤوسهم ، روي عن ابن عباس. والثاني : أنهم قوم بين النصارى والمجوس ، ليس لهم دين ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم قوم بين اليهود والنصارى ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : قوم كالمجوس ، قاله الحسن والحكم. والخامس : فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزّبور ، قاله أبو العالية. والسادس : قوم يصلّون إلى القبلة ، ويعبدون الملائكة ، ويقرءون الزّبور ، قاله قتادة. والسابع : قوم يقولون : لا إله إلّا الله ، فقط ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) ، في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله : (مَنْ آمَنَ) إليهم. والثاني : أن المعنى من أقام على إيمانه. والثالث : أن الإيمان الأول نطق المنافقين بالإسلام. والثاني : اعتقاد القلوب.

قوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً). قال ابن عباس : أقام الفرائض.

فصل : وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فيه قولان : أحدهما : أنها محكمة ، قاله مجاهد والضّحّاك في آخرين ، وقدروا فيها : إن الذين آمنوا ، ومن آمن من الذين هادوا. والثاني : أنها منسوخة بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١) ، ذكره جماعة من المفسّرين.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ). الخطاب بهذه الآية لليهود. والميثاق : مفعال من التوثّق بيمين أو عهد أو نحو ذلك من الأمور التي تؤكّد القول. وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة ، فكرهوا الإقرار بما فيها ، فرفع عليهم الجبل ، قاله مقاتل. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : أعطوا الله عهدا ليعملنّ بما في التوراة ، فلما جاء بها موسى فرأوا ما فيها من التثقيل ، امتنعوا من أخذها ، فرفع الطور عليهم.

والثاني : أنه ما أخذه الله تعالى على الرّسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره الزّجّاج.

والثالث : ذكره الزّجّاج أيضا ، فقال : يجوز أن يكون الميثاق يوم أخذ الذّرّية من ظهر آدم.

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) ، قال أبو عبيدة : الطور في كلام العرب : الجبل. وقال ابن قتيبة : الطور : الجبل بالسريانية. وقال ابن عباس : ما أنبت من الجبال فهو طور ، وما لم ينبت فليس بطور. وأي الجبال هو؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : جبل من جبال فلسطين ، قاله ابن عباس. والثاني : جبل نزلوا بأصله ، قاله قتادة. والثالث : الجبل الذي تجلّى له ربّه ، قاله مجاهد.

وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة. وقال السّدّيّ : لإبائهم دخول الأرض المقدّسة.

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.


قوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ). وفي المراد «بقوّة» أربعة أقوال : أحدها : الجدّ والاجتهاد ، قاله ابن عبّاس وقتادة والسّدّيّ. والثاني : الطاعة ، قاله أبو العالية. والثالث : العمل بما فيه ، قاله مجاهد. والرابع : الصّدق ، قاله ابن زيد. قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ، قولان : أحدهما : اذكروا ما تضمّنه من الثواب والعقاب ، قاله ابن عباس. والثاني : معناه : ادرسوا ما فيه ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، قال ابن عباس : تتّقون العقوبة.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي : أعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق ليأخذنّه بجدّ ، فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ). السّبت : اليوم المعروف ، قاله ابن الأنباريّ : ومعنى السبت في كلام العرب : القطع ، يقال : قد سبت رأسه : إذا حلقه وقطع الشعر منه ، ويقال : نعل سبتيّة : إذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر ، فسمّي السبت سبتا ، لأن الله عزوجل ابتدأ الخلق فيه ، وقطع فيه بعض خلق الأرض ، أو : لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقطع الأعمال وتركها. وقال بعضهم : سمّي سبتا ، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال ، وهذا خطأ ، لأنه لا يعرف في كلام العرب : سبت بمعنى : استراح.

وفي صفة اعتدائهم في السّبت قولان : أحدهما : أنهم أخذوا الحيتان يوم السّبت ، قاله الحسن ومقاتل. والثاني : أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد ، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفرة ؛ ويجعل لها نهرا إلى البحر ، فإذا كان يوم السبت فتح النهر ، وقد حرّم الله عليه العمل يوم السبت ، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق ، فيأخذها يوم الأحد ، قاله السّدّيّ.

الإشارة إلى قصة مسخهم

روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال : نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات : نودوا : يا أهل القرية ، فانتبهت طائفة [ثم نودوا : يا أهل القرية فانتبهت طائفة] (١) أكثر من الأولى ، ثم نودوا : يا أهل القرية ، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ، فقال الله لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ، فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون : يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم : بلى. قال قتادة : فصار القوم قردة تعاوى ، لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء. وفي رواية عن قتادة : صار الشّبان قردة ، والشيوخ خنازير ، وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم. وقال غيره : كانوا نحوا من سبعين ألفا ، وعلى هذا القول العلماء ، غير ما روي عن مجاهد أنه قال : مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم ، وهو قول بعيد ، قال ابن

__________________

(١) زيادة عن بعض النسخ.


عباس : لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيّام ، ولم يحي مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام ، وماتوا في اليوم الثامن ، وهذا كان في زمان داود عليه‌السلام.

قوله تعالى : (خاسِئِينَ) : الخاسئ في اللغة : المبعد ، يقال للكلب : اخسأ ، أي : تباعد.

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

قوله تعالى : (فَجَعَلْناها). في المكنيّ عنها أربعة أقوال : أحدها : أنها الخطيئة ، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني : العقوبة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء : الهاء كناية عن المسخة التي مسخوها. والثالث : أنها القرية ، والمراد أهلها ، قاله قتادة وابن قتيبة. والرابع : أنها الأمّة التي مسخت ، قاله الكسائيّ ، والزّجّاج. وفي النّكال قولان : أحدهما : أنه العقوبة ، قاله مقاتل. والثاني : العبرة ، قاله ابن قتيبة والزّجّاج.

قوله تعالى : (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لما بين يديها من القرى وما خلفها ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : لما بين يديها من الذنوب ، وما خلفها : ما عملوا بعدها ، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث : لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي ، وما خلفها : ما كان بعدهم في بني إسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم ، قاله عطية.

وفي المتّقين قولان : أحدهما : أنه عامّ في كل متّق إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس. والثاني : أن المراد بهم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ عن أشياخه ، وذكره عطية وسفيان.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).

ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة

روى ابن سيرين عن عبيدة قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له ، وله مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله واحتمله ليلا ، فأتى به حيّا آخرين ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدّعيه حتى تسلّحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فأتوا موسى فذكروا له ذلك ، فأمرهم بذبح البقرة. وروى السّدّيّ عن أشياخه أن رجلا من بني إسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير ، فخطب إليه ابنته ، فأبى ، فغضب وقال : والله لأقتلنّ عمي ، ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ، ولآكلنّ ديته ، فأتاه فقال : قد قدم تجّار في بعض أسباط (١) بني إسرائيل ، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلّي أصيب فيها ربحا ، فخرج معه ، فلما بلغا ذلك السّبط ، قتله الفتى ، ثم رجع ، فلما أصبح ، جاء كأنه يطلب عمّه لا يدري أين هو ،

__________________

(١) في «اللسان» : السّبط من اليهود كالقبيلة من العرب.


فإذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه ، فأمسكهم وقال : قتلتم عمّي ، وجعل يبكي وينادي : وا عمّاه. قال أبو العالية : والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان : القاتل ، وقال غيره : بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى.

فلما أمرهم بذبح بقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)؟ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائيّ : «هزؤا» بضم الهاء والزاي والهمزة ، وقرأ حمزة ، وإسماعيل ، وخلف في اختياره ، والفرّاء عن عبد الوارث ، والمفضّل : «هزأ» بإسكان الزاي. ورواه حفص بالضمّ من غير همزة ، وحكى أبو عليّ الفارسيّ أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوّله مضموم ، فمن العرب من يثقّله ، ومنهم من يخفّفه ، نحو العسر واليسر. قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). وإنما انتفى من الهزء ، لأن الهازئ جاهل لاعب. فلما تبيّن لهم أن الأمر من عند الله ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). قال الزّجّاج : وإنما سألوا : ما هي ، لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميّت.

فأمّا الفارض فهي : المسنّة ، يقال : فرضت البقرة فهي فارض : إذا أسنّت. والبكر : الصغيرة التي لم تلد ، والعوان : دون المسنّة ، وفوق الصغيرة ، يقال : حرب عوان : إذا لم تكن أول حرب ، وكانت ثانية.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠))

في الصفراء قولان : أحدهما : أنه من الصّفرة ، وهو : اللون المعروف ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والثاني : أنها السّوداء ، قاله الحسن البصريّ ، وردّه جماعة ، فقال ابن قتيبة : هذا غلط في نعوت البقر ، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل ، يقال : بعير أصفر ، أي : أسود ، لأن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (فاقِعٌ لَوْنُها) ، والعرب لا تقول «أسود فاقع» إنما تقول : «أسود حالك» و «أصفر فاقع». قال الزّجّاج : وفاقع نعت للأصفر الشديد الصّفرة ، يقال : أصفر فاقع ، وأحمر قانئ وأخضر ناضر ، وأبيض يقق ، وأسود حالك ، وحلكوك ودجوجيّ ، فهذه صفات المبالغة في الألوان (١).

ومعنى (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) : تعجبهم ، قال ابن عباس : شدّد القوم فشدّد عليهم.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٨٧ : قوله (صفراء) جمهور المفسرين أنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة ، قال مكي عن بعضهم : حتى القرن والظّلف. وقال الحسن وابن جبير : كانت صفراء القرن والظّلف فقط. وعن الحسن أيضا : (صفراء) معناه سوداء ؛ قال الشاعر :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزبيب

قلت : والأول أصح لأنه الظاهر ، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلّا في الإبل ؛ ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع ، وذلك نعت مختص بالصفرة وليس يوصف السواد بذلك ، تقول العرب : أسود حالك وحلكوك وحلكوك ، ودجوجيّ وغربيب. وأحمر قانئ وأبيض ناصع وأخضر ناضر وأصفر فاقع. هكذا نص نقلة اللغة عن العرب.


(٢٥) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لو لا أنّ بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا» ، يعني بذلك قولهم : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

وفي المراد باهتدائهم قولان : أحدهما : أنهم أرادوا : المهتدون إلى البقرة ، وهو قول الأكثرين. والثاني : إلى القاتل ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) ، قال قتادة : لم يذلّها العمل فتثير الأرض. قال ابن قتيبة : يقال في الدواب : دابة ذلول : بيّنة الذّل. بكسر الذال ، وفي الناس : رجل ذليل بيّن الذّل ، بضم الذال. (تُثِيرُ الْأَرْضَ) : تقلبها للزراعة ، ويقال للبقرة : المثيرة. قال الفرّاء : لا تقفن على ذلول ، لأن المعنى : ليست بذلول فتثير الأرض. وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السّجستانيّ أجاز الوقف على ذلول ، ثم أنكره عليه جدا ، وعلّل بأن التي تثير الأرض لا يعدم منها سقي الحرث ، ومتى أثارت الأرض كانت ذلولا.

ومعنى : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) : لا يستقى عليها الماء لسقي الزرع.

قوله تعالى : (مُسَلَّمَةٌ) فيه أربعة أقوال : أحدها : مسلّمة من العيوب ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : مسلّمة من العمل ، قاله الحسن وابن قتيبة. والثالث : مسلّمة من الشّية ، قاله مجاهد وابن زيد. والرابع : مسلّمة القوائم والخلق ، قاله عطاء الخراسانيّ.

فأما الشّية ، فقال الزّجّاج : الوشي في اللغة : خلط لون بلون. ويقال : وشيت الثوب أشيه شية ووشيا ، كقولك : وديت فلانا أديه دية. ونصب : (لا شِيَةَ فِيها) ، على النفي. معنى الكلام : ليس فيها لون يفارق سائر لونها ، وقال عطاء الخراسانيّ : لونها لون واحد.

قوله تعالى : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) ، قال ابن قتيبة : الآن : هو الوقت الذي أنت فيه ، وهو حدّ الزمانين ، حدّ الماضي من آخره ، وحدّ المستقبل من أوّله ، ومعنى (جِئْتَ بِالْحَقِ) : بيّنت لنا. قوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، فيه قولان : أحدهما : لغلاء ثمنها ، قاله ابن كعب القرظيّ. والثاني : لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قاله وهب. قال ابن عباس : مكثوا يطلبون البقرة

____________________________________

(٢٥) ضعيف جدا. أخرجه البزار ٢١٨٨ «كشف» وابن أبي حاتم كما في «التفسير» لابن كثير ١ / ١١٥ وإسناده ضعيف لضعف عباد بن منصور ، وفيه سرور بن مغيرة ، قال عنه الأزدي : عنده مناكير. واكتفى الهيثمي في «المجمع» ١٠٨٣٤ بقوله : عبّاد بن منصور ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير : غريب ، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. وورد من مرسل ابن جريج ؛ أخرجه الطبري ١٢٤٦. وما يرسله ابن جريج ساقط ؛ قال الإمام أحمد : هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ١٥١ : هو معضل اه. وله شاهد من مرسل قتادة ؛ أخرجه الطبري ١٢٤٨ ومع إرساله هو بصفة التمريض فالخبر واه ، والراجح كونه من كلام قتادة ونحوه. أو من كلام أبي هريرة كما اختار ابن كثير ، والله أعلم.


أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل ، فأبى أن يبيعها إلا بملء مسكها ذهبا ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وعبيدة ، ووهب ، وابن زيد ، والكلبيّ ، ومقاتل في مقدار الثمن.

فأمّا السبب الذي لأجله غلا ثمنها ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم. والثاني : لإكرام الله عزوجل صاحبها ، فإنه كان برا بوالديه. فذكر بعض المفسّرين أنه كان شاب من بني إسرائيل برا بأبيه ، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده ، فانطلق ليبيعه إياها ، فإذا مفاتيح حانوته مع أبيه ، وأبوه نائم ، فلم يوقظه وردّ المشتري ، فأضعف له المشتري الثمن ، فرجع إلى أبيه فوجده نائما ، فعاد إلى المشتري فردّه ، فأضعف له الثمن ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري ، فأثابه الله على برّه بأبيه أن نتجت له بقرة من بقره تلك البقرة. وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل : أن فتى كان برا بوالديه ، وكان يحتطب على ظهره ، فإذا باعه تصدّق بثلثه ، وأعطى أمه ثلثه ، وأبقى لنفسه ثلثه ، فقالت له أمّه يوما : إني ورثت من أبيك بقرة ، فتركتها في البقر على اسم الله ، فإذا أتيت البقر ، فادعها باسم إله إبراهيم ، فذهب فصاح بها ، فأقبلت ، فأنطقها الله ، فقالت : اركبني يا فتى ، فقال : لم تأمرني أمي بهذا. فقالت : أيها البر بأمه ، لو ركبتني لم تقدر عليّ ، فانطلق ، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع ببرّك لأمك. فلما جاء بها قالت أمّه : بعها بثلاثة دنانير على رضى مني ، فبعث الله ملكا فقال : بكم هذه؟ قال : بثلاثة دنانير على رضى من أمي. قال : لك ستة ولا تستأمرها ، فأبى ، ورجع إلى أمه فأخبرها ، فقالت : بعها بستة على رضى مني ، فجاء الملك فقال : خذ اثني عشر ولا تستأمرها ، فأبى ، وعاد إلى أمه فأخبرها ، فقالت : يا بنيّ ، ذاك ملك ، فقل له : بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال له ذلك ، فقال : يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إسرائيل (١).

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) هذه الآية مؤخّرة في التلاوة ، مقدّمة في المعنى ، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النّفس ، فتقدير الكلام : وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها ، فسألتم موسى فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً). ونظيرها قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) (٢) ، أراد : أنزل الكتاب قيّما ، ولم يجعل له عوجا ، فأخّر المقدّم وقدّم المؤخّر ، لأنه من عادة العرب ، قال الفرزدق :

إنّ الفرزدق صخرة ملمومة

طالت فليس تنالها الأوعالا

أراد : طالت الأوعال. وقال جرير :

طاف الخيال وأين منك لماما

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

أراد : طاف الخيال لماما ، وأين هو منك؟ وقال الآخر :

خير من القوم العصاة أميرهم

 ـ يا قوم فاستحيوا ـ النساء الجلّس

أراد : خير من القوم العصاة النساء ، فاستحيوا من هذا.

ومعنى قوله تعالى : (فَادَّارَأْتُمْ) : اختلفتم ، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال الزّجّاج : ادّارأتم ،

__________________

(١) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين ، فقد روى وهب الكثير عن أهل الكتاب.

(٢) الكهف : ١ ـ ٢.


بمعنى : تدارأتم ، أي : تدافعتم ، وألقى بعضكم على بعض ، تقول : درأت فلانا : إذا دفعته ، وداريته : إذا لاينته ، ودريته إذا ختلته ، فأدغمت التاء في الدال ، لأنهما من مخرج واحد ، فأما الذي كتموه ؛ فهو أمر القتيل.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها). من قال : أقاموا في طلبها أربعين سنة ، قال : ضربوا قبره ، ومن لم يقل ذلك ، قال : ضربوا جسمه قبل دفنه ، وفي الذي ضرب به ستة أقوال : أحدها : أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف ، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وذلك العظم هو أصل الأذن ، وزعم قوم أنه لا يكسر ذلك العظم من أحد فيعيش. قال الزّجّاج : الغضروف في الأذن ، وهو : ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشّحمة ، وجميع أعلى صدفة الأذن ، وهو معلق الشّنوف ، فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخّر الأذن ، فيقال لهما : الخشّاوان ، والخششاوان ، واحدهما : خشّاء ، وخششاء. والثاني : أنه ضرب بالفخذ ، روي عن ابن عباس أيضا ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وذكر عكرمة ومجاهد أنه الفخذ الأيمن. والثالث : أنه البضعة التي بين الكتفين ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. والرابع : أنه الذّنب ، رواه ليث عن مجاهد. والخامس : أنه عجب الذّنب ، وهو عظم عليه بني البدن ، روي عن سعيد بن جبير. والسادس : أنه اللّسان ، قاله الضّحّاك. وفي الكلام اختصار تقديره : فقلنا : اضربوه ببعضها ليحيا ، فضربوه فحيي ، فقام فأخبر بقاتله. وفي قاتله أربعة أقوال : أحدها : بنو أخيه ، رواه عطية عن ابن عبّاس. والثاني : ابنا عمّه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهذان القولان يدلّان على أن قاتله أكثر من واحد. والثالث : ابن أخيه ، قاله السّدّيّ عن أشياخه وعبيدة. والرابع : أخوه ، قاله عبد الرحمن بن زيد. قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب لقوم موسى. والثاني : لمشركي قريش ، احتجّ عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب. قال أبو عبيدة : وآياته : عجائبه.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ، قال إبراهيم بن السّريّ : قست في اللغة : غلظت ويبست وعست. فقسوة القلب : ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. والقاسي : والعاسي : الشديد الصلابة. وقال ابن قتيبة : قست وعست وعتت واحد ، أي : يبست.

وفي المشار إليهم بها قولان : أحدهما : جميع بني إسرائيل. والثاني : القاتل.

قال ابن عباس : قال الذين قتلوه بعد أن سمّى قاتله : والله ما قتلناه. وفي كاف «ذلك» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إشارة إلى إحياء الموتى ، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل. والثاني : إلى كلام القتيل ، فيكون الخطاب للقاتل ، ذكرهما المفسّرون. والثالث : إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير ، ورفع الجبل وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، ذكره الزّجّاج.


وفي «أو» أقوال ، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) (١) ، وقد تقدّمت.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) ، قال مجاهد : كل حجر ينفجر منه الماء ، وينشقّ عن ماء ، أو يتردّى من رأس جبل ، فمن خشية الله.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ). في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل.

والثاني : أنهم المؤمنون ، تقديره : أفتطمعون أن تصدّقوا نبيّكم ، قاله أبو العالية وقتادة.

والثالث : أنهم الأنصار ، فإنهم لما أسلموا أحبّوا إسلام اليهود للرّضاعة التي كانت بينهم ، ذكره النّقّاش. قال الزّجّاج : وألف «أفتطمعون» ألف استخبار ، كأنه آيسهم من الطّمع في إيمانهم.

وفي سماعهم لكلام الله قولان : أحدهما : أنهم قرءوا التوراة فحرّفوها ، هذا قول مجاهد والسّدّيّ في آخرين ، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيّهم ، وتحريفهم : تغيير ما فيها. والثاني : أنهم التّسعون رجلا الذين اختارهم موسى ، فسمعوا كلام الله كفاحا عند الجبل ، فلمّا جاءوا إلى قومهم قالوا : قال لنا : كذا وكذا ، وقال في آخر قوله : إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه ؛ فافعلوا ما تستطيعون. هذا قول مقاتل ، والأول أصحّ. وقد أنكر بعض أهل العلم ، منهم التّرمذيّ صاحب «النوادر» هذا القول إنكارا شديدا ، وقال : إنما خصّ بالكلام موسى وحده ، وإلا فأي ميزة؟ وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبيّ وكان كذّابا.

ومعنى (عَقَلُوهُ) : سمعوه ووعوه. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : وهم يعلمون أنهم حرّفوه. والثاني : وهم يعلمون عقاب تحريفه.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا). هذه الآية نزلت في نفر من اليهود ، كانوا إذا لقوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين قالوا : آمنّا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، قالوا : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ، هذا قول ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وقتادة وعطاء الخراسانيّ وابن زيد ومقاتل (٢).

وفي معنى : (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قولان : أحدهما : بما قضى الله عليكم ، والفتح : القضاء ،

__________________

(١) البقرة : ١٩.

(٢) أخرجه الطبري ١٣٣٨ عن ابن عباس بإسناد ضعيف ، وكرره ١٣٣٩ وإسناده ضعيف أيضا ، الضحاك لم يلق ابن عباس ، وأخرجه ١٣٤١ عن السّدّي وهذا مرسل ، وكرره ١٣٤٤ عن أبي العالية مرسلا ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.


ومنه قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (١) ، قال السّدّيّ عن أشياخه : كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، فكانوا يحدّثون المؤمنين بما عذّبوا به ، فقال بعضهم لبعض : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ، ليقولوا : نحن أحبّ إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم. والثاني : أن معناه : بما علّمكم الله. قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة : الذي فتحه عليهم ، ما أنزله من التوراة في صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مقاتل : كان المسلم يلقى حليفه ، أو أخاه من الرّضاعة من اليهود ، فيسأله : أتجدون محمّدا في كتابكم؟ فيقولون : نعم ، إنه لحقّ. فسمع كعب بن الأشرف وغيره ، فقال لليهود في السّر : أتحدّثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم؟ أي : بما بيّن لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبيّ ، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم (٢)؟!

قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى : في حكم ربكم ، كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٣). والثاني : أنه أراد به يوم القيامة.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ، يعني : اليهود. والأمّيّ : الذي لا يكتب ولا يقرأ ، قاله مجاهد. وفي تسميته بالأمّيّ قولان : أحدهما : لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلّم الكتاب ، فهو على جبلّته ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنه ينسب إلى أمّه ، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء. وقيل : لأنه على ما ولدته أمّه. قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) ، قال قتادة : لا يدرون ما فيه. قوله تعالى : (إِلَّا أَمانِيَ) جمهور القرّاء على تشديد الياء ، وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، بتخفيف الياء ، وكذلك : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) (٤) و (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) (٥) (فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٦) ، و (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) (٧) ، كلّه بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم» ولا خلاف في فتح ياء «الأماني». وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الأكاذيب. قال ابن عباس : إلا أمانيّ : يريد إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا. وهذا قول مجاهد واختيار الفرّاء. وذكر الفرّاء أن بعض العرب قال لابن دأب (٨) وهو يحدّث : أهذا شيء رويته ، أم شيء تمنّيته؟ يريد : افتعلته. والثاني : أن الأماني : التلاوة ، فمعناه : لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم ، قال الشاعر :

تمنّى كتاب الله أول ليلة

تمنّي داود الزّبور على رسل

__________________

(١) الأعراف : ٨٩.

(٢) عزاه المصنف لمقاتل ، وهذا مرسل ، وورد نحوه عن ابن عباس ، أخرجه الطبري ١٣٤٣ وفيه راو مجهول ، وكرره ١٣٤٤ من مرسل أبي العالية وبرقم ١٣٤٥ من مرسل قتادة. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.

(٣) النور : ١٣.

(٤) البقرة : ١١١.

(٥) النساء : ١٢٣.

(٦) الحج : ٥٢.

(٧) الحديد : ١٤.

(٨) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الليثي ، المدني ، كان أخباريا علّامة نسابة ، لكن حديثه واه ، كان يضع الحديث ، وقال البخاري وغيره : منكر الحديث كما في «الميزان».


وهذا قول الكسائيّ والزّجّاج. والثالث : أنها أمانيهم على الله ، قاله قتادة. قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، قال مقاتل : ليسوا على يقين ، فإن كذب الرؤساء أو صدقوا تابعوهم.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ). هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين بدّلوا التوراة وغيّروا صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها. وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان.

فأما الويل : فروى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٢٦) «ويل : واد في جهنّم ، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره».

وقال الزّجّاج : الويل : كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة ، ويستعملها هو أيضا. وأصلها في اللغة : العذاب والهلاك. قال ابن الأنباريّ : ويقال : معنى الويل : المشقّة من العذاب ، ويقال : أصله : وي لفلان ، أي : حزن لفلان ، وكثر الاستعمال للحرفين ، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفا واحدا ثم خبّر عن «ويل» بلام أخرى ، وهذا اختيار الفرّاء. والكتاب هاهنا : التوراة. وذكر الأيدي توكيد ، والثمن القليل : ما يفنى من الدنيا.

وفيما يكسبون قولان : أحدهما : أنه عوض ما كتبوا. والثاني : إثم ما فعلوا.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، وهم : اليهود. وفيما عنوا بهذه الأيام قولان : أحدهما : أنهم أرادوا أربعين يوما ، قاله ابن عباس وعكرمة ، وأبو العالية ، وقتادة ، والسّدّيّ. ولما ذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم قالوا : بين طرفي جهنم مسيرة أربعين

____________________________________

(٢٦) ضعيف منكر. أخرجه الترمذي ٣١٦٤ وأبو يعلى ١٣٨٣ من طريق الحسن بن موسى والبيهقي من طريق كامل كلاهما عن ابن لهيعة عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به. وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث ابن لهيعة. وتعقبه ابن كثير في «تفسيره» ١ / ١٢١ بقوله : لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا منكر.

قلت : مداره على درّاج أبي السّمح ، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم خاصة.

ـ وأخرجه الطبري ١٣٨٧ وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» ١ / ١٢١ من طريق يونس والحاكم ٤ / ٥٩٦ ، والبيهقي في «البعث» ٤٦٦ من طريق بحر بن نصر والحاكم ٢ / ٥٠٧ ، والبيهقي ٤٦٥ من طريق أبي عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. ثلاثتهم عن ابن وهب بهذا الإسناد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، لكن قال الذهبي في مواضع أخرى : درّاج ذو مناكير. وأخرجه ابن حبّان ٧٤٦٧ عن ابن أسلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا.

ـ الخلاصة : مداره على درّاج ، وهو ضعيف. قال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٢٤ : قال أحمد : درّاج أحاديثه مناكير ، وقال أبو حاتم : ضعيف ، وقال النسائي : منكر الحديث.


سنة ، ونحن نقطع مسيرة كلّ سنة في يوم ، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم قالوا : عتب علينا ربّنا في أمر ، فأقسم ليعذّبنا أربعين ليلة ، ثم يدخلنا الجنّة ، فلن تمسّنا النار إلا أربعين يوما تحلّة القسم ، وهذا قول الحسن وأبي العالية. والثالث : أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، قاله مقاتل. والقول الثاني : أن الأيام المعدودة سبعة أيام ، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة ، والناس يعذّبون لكل ألف سنة يوما من أيام الدنيا ، ثم ينقطع العذاب ، قاله ابن عباس.

(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) ، أي : عهد إليكم أنه لا يعذّبكم إلا هذا المقدار؟!

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) بلى : بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النهي ، و «نعم» جواب الإيجاب ، قال الفرّاء : إذا قال الرجل لصاحبه : ما لك عليّ شيء ، فقال الآخر : نعم ، كان تصديقا أن لا شيء له عليه. ولو قال : بلى ؛ كان ردّا لقوله : قال ابن الأنباريّ : وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد ، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق ، فهي بمنزلة «بل». و «بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد ، كقولهم : ما قام أخوك ، بل أبوك. وإذا قال الرجل للرجل : ألا تقوم؟ فقال له : بلى ؛ أراد : بل أقوم ، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها ، لأنه لو قال : بل ، كان يتوقع كلاما بعد بل ، فزاد الألف ليزول هذا التوهّم عن المخاطب ، ومعنى (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) : بل من كسب. قال الزّجّاج : بلى : ردّ لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). والسّيئة هاهنا : الشّرك في قول ابن عباس وعكرمة ، وأبي وائل ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل. (وَأَحاطَتْ بِهِ) ، أي : أحدقت به (خَطِيئَتُهُ) ، وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع. قال عكرمة : مات ولم يتب منها ، وقال أبو وائل : الخطيئة : صفة للشرك ، قال أبو عليّ : إما أن يكون المعنى : أحاطت بحسنته خطيئته ، أي : أحبطتها ، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به ، فيكون كقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ*) (١) ، وقوله : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٢) ، أو يكون معنى أحاطت به : أهلكته ، كقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٣).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة. وقوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ) قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر : بالتاء على الخطاب لهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ : بالياء على الإخبار عنهم. قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أي : ووصّيناهم بآبائهم

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

(٢) الكهف : ٢٩.

(٣) يوسف : ٦٦.


وأمّهاتهم خيرا. قال الفرّاء : والعرب تقول : أوصيك به خيرا ، وآمرك به خيرا ، والمعنى : آمرك أن تفعل به ، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر. قال الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنّنا جافونا وأما الإحسان إلى الوالدين ؛ فهو برّهما. قال ابن عبّاس : لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. وقالت عائشة : ما برّ والده من شدّ النظر إليه ، وقال عروة : لا تمتنع عن شيء أحبّاه.

قوله تعالى : (وَذِي الْقُرْبى) ، أي : ووصّيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم. وأما اليتامى ؛ فجمع : يتيم. قال الأصمعيّ : اليتم في الناس ، من قبل الأب ، وفي غير النّاس : من قبل الأمّ. وقال ابن الأنباريّ : قال ثعلب : اليتم معناه في كلام العرب : الانفراد : فمعنى صبيّ يتيم : منفرد عن أبيه.

وأنشدنا :

أفاطم إنّي هالك فتبيّني

ولا تجزعي كلّ النّساء يتيم

وقال : يروى : يتيم ويئيم ، فمن روى يتيم بالتاء ؛ أراد : كلّ النساء ضعيف منفرد. ومن روى بالياء أراد : كلّ النساء يموت عنهن أزواجهن. وقال : أنشدنا ابن الأعرابيّ :

ثلاثة أحباب : فحبّ علاقة

وحبّ تملّاق وحبّ هو القتل (١)

قال : فقلنا له : زدنا ، فقال : البيت يتيم ، أي : هو منفرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ ، قال : إذا بلغ الصبي ، زال عنه اسم اليتم. يقال منه : يتم ييتم يتما ويتما ، وجمع اليتيم : يتامى ، وأيتام. وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال : وقيل : أصل اليتم : الغفلة ، وبه سمّي اليتيم ، لأنه يتغافل عن برّه. والمرأة تدعى : يتيمة ما لم تزوج ، فإذا تزوّجت زال عنها اسم اليتم ، وقيل : لا يزول عنها اسم اليتم أبدا. وقال أبو عمرو ، اليتم : الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ، لأن البرّ يبطئ عنه. «والمساكين» : جمع مساكين ، وهو اسم مأخوذ من السكون ، كأن المساكين قد أسكنه الفقر. وقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : (حُسْناً) بضم الحاء والتخفيف ، وقرأ حمزة والكسائيّ : (حسنا) بفتح الحاء والتثقيل. قال أبو عليّ : من قرأ «حسنا» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن ، كالبخل ، والبخل ، والرّشد والرّشد. وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم ، ألا تراهم قالوا : العرب والعرب ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشكر والشغل ، وحذف المضاف معه ، كأنه قال : قولوا قولا ذا حسن. ومن قرأ (حسنا) جعله صفة ، والتقدير عنده : قولوا للناس قولا حسنا ، فحذف الموصوف. واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وابن جريج. ومعناه : اصدقوا وبيّنوا صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : أنهم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو العالية : قولوا للناس معروفا ، وقال محمّد بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم. وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إلى الإسلام. فعلى هذا ، تكون منسوخة بآية السيف.

__________________

(١) في «اللسان» : الملق : الودّ واللطف الشديد. ملق ملقا وتملّق تملّاقا أي تودد إليه وتلطف له.


قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي : أعرضتم إلا قليلا منكم ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا. والثاني : أنهم الذين آمنوا بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمانه.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ، أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره. قال ابن عباس : ثم أقررتم يومئذ بالعهد ، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك ، فالإقرار على هذا متوجّه إلى سلفهم ، والشهادة متوجّهة إلى خلفهم. (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، أي : يقتل بعضكم بعضا. روى السّدّيّ عن أشياخه قال : كانت قريظة حلفاء الأوس ، والنّضير حلفاء الخزرج ؛ فكانوا يقاتلون في حرب سمير (١) ، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النّضير ، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ، فيغلبونهم فيقتلون ويخربون الديار ويخرجون منها ، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتعيّرهم العرب بذلك ؛ فتقول : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرّم علينا قتلهم. فتقول العرب : فلم تقاتلونهم؟ فيقولون : نستحيي أن يستذلّ حلفاؤنا ، فعيّرهم الله عزوجل ، فقال : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) إلى قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) ، فكان إيمانهم ببعضه فداءهم الأسارى ، وكفرهم قتل بعضهم بعضا.

قوله تعالى : (تُظْهِرُونَ) ، قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ (تظاهرون) ، وفي التحريم : «تظهرا» (٢) ، بتخفيف الظاء ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتشديد الظاء مع إثبات الألف. قال أبو علي : من قرأ (تظّاهرون) بتشديد الظاء ، أدغم التاء في الظّاء ، لمقاربتها لها ، فخفف بالإدغام. ومن قرأ (تظاهرون) خفيفة ، حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ ، فخفّف بالحذف. والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم. وروي عن الحسن وأبي جعفر «تظّهرون» بتشديد الظاء من غير ألف ، فالتّظاهر : التعاون. قال ابن قتيبة : وأصله من الظّهر ، فكأن التّظاهر : أن يجعل كل واحد من الرجلين الآخر ظهرا له يتقوّى به ، ويستند إليه. قال مقاتل : والإثم : المعصية ، والعدوان : الظلم.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) ، أصل الأسر : الشّدّ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسارى) ، وقرأ الأعمش وحمزة «أسرى» ، قال الفرّاء : أهل الحجاز يجمعون الأسير : «أسارى» وأهل نجد أكثر كلامهم «أسرى» وهو أجود الوجهين في العربية ، لأنه بمنزلة قولهم : جريح وجرحى ، وصريع وصرعى ، وروى الأصمعيّ عن أبي عمرو قال : الأسارى : ما شدّوا ، والأسرى : في أيديهم ،

__________________

(١) اسم رجل سميت بذلك لأنه السبب.

(٢) التحريم : ٤.


إلا أنهم لم يشدّوا. قال الزّجّاج : «فعلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم. يقال هالك وهلكى ، ومريض ومرضى ، وأحمق وحمقى ، وسكران وسكرى ، فمن قرأ : (أُسارى) ، فهي جمع الجمع. يقال : أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى.

قوله تعالى : (تُفادُوهُمْ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تفدوهم» ، وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ : (تُفادُوهُمْ) بألف. والمفادة : إعطاء شيء ، وأخذ شيء مكانه. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) ، وهو : فكاك الأسرى. (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو : الإخراج والقتل. وقال مجاهد : تفديه في يد غيرك ، وتقتله أنت بيدك؟! وفي المراد بالخزي قولان : أحدهما : أنه الجزية ، قاله ابن عبّاس. والثاني : قتل قريظة ونفي النّضير ، قاله مقاتل.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ). قال ابن عباس : هم اليهود. وقال مقاتل : باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يريد التوراة : وقفّينا : أتبعنا. قال ابن قتيبة : وهو مأخوذ من القفا ، يقال : قفوت الرجل : إذا سرت في أثره. والبيّنات : الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى. وأيّدناه : قوّيناه. والأيد : القوة. وفي روح القدس ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جبريل. والقدس : الطهارة ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ في آخرين. وكان ابن كثير يقرأ : (بروح القدس) ساكنة الدال. قال أبو عليّ : التخفيف والتثقيل فيه حسنان ، نحو : العنق والعنق ، والطّنب والطنب.

وفي تأييده به ثلاثة أقوال ؛ ذكرها الزّجّاج : أحدها : أنه أيّد به لإظهار حجّته وأمر دينه. والثاني : لدفع بني إسرائيل عنه إذا أرادوا قتله. والثالث : أنه أيّد به في جميع أحواله.

والقول الثاني : أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

والثالث : أنه الإنجيل ، قاله ابن زيد.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) قرأ الجمهور بإسكان اللام ، وقرأ قوم ؛ منهم الحسن وابن محيصن بضمّها. قال الزّجّاج : من قرأ : (غُلْفٌ) بتسكين اللام ، فمعناه : ذوات غلف ، فكأنّهم قالوا : قلوبنا في أوعية ، ومن قرأ «غلف» بضمّ اللام ، فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا : قلوبنا أوعية للعلم ، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم؟! فعلى الأول ؛ يقصدون إعراضه عنهم ، وكأنهم يقولون : ما نفهم شيئا. وعلى الثاني يقولون : لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا.

وقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : فقليل من يؤمن منهم ، قاله ابن


عباس وقتادة. والثاني : أن المعنى : قليل ما يؤمنون به. قال معمر : يؤمنون بقليل مما في أيديهم ، ويكافرون بأكثره. والثالث : أن المعنى : فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا. ذكره ابن الأنباريّ ، وقال : هذا على لغة قوم من العرب ، يقولون : قلّما رأيت مثل هذا الرجل ، وهم يريدون : ما رأيت مثله. والرابع : فيؤمنون قليلا من الزمان ؛ كقوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) (١) ، ذكره ابن الأنباريّ أيضا. والخامس : أن المعنى : فإيمانهم قليل ، ذكره ابن جرير الطّبريّ. وحكى في «ما» قولين : أحدهما : أنها زائدة. والثاني : أن «ما» تجمع جميع الأشياء ثم تخصّ بعض ما عمّته بما يذكر بعدها.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠))

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، يعني : القرآن. و (يَسْتَفْتِحُونَ) : يستنصرون. وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبيّ الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ، بئس : كلمة مستوفية لجميع الذم ، ونقيضها : «نعم». واشتروا ، بمعنى : باعوا ، والذي باعوها به قليل من الدنيا. قوله تعالى : (بَغْياً) قال قتادة : حسدا. ومعنى الكلام : كفروا بغيا ، لأن نزّل الله الفضل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي قوله تعالى : (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) خمسة أقوال : أحدها : أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل ، والثاني : لكفرهم بمحمّد ، حكاه السّدّيّ عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني : أن الأول

__________________

(١) آل عمران : ٧٢.

(٢) ورد في معناه روايات كثيرة منها ـ وهو ضعيف جدا ـ ما أخرجه الحاكم ٢ / ٢٦٣ عن ابن عباس قال : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر ، فعاذت اليهود بهذا الدّعاء ، وقالت : اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم.

قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء ، فهزموا غطفان. فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به ، فأنزل الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بك يا محمد ، إلى قوله (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

ـ وقال الحاكم : أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير ، وهو غريب من حديثه.

ـ وقال الذهبي : لا ضرورة لإخراجه في ذلك فعبد الملك متروك هالك.

وأخرجه الطبري ١٥٢٥ عن ابن عباس قال : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يستنصرون بخروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مشركي العرب ـ يعني بذلك أهل الكتاب ـ فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأوه من غيرهم ، كفروا به وحسدوه.

ـ وله شواهد بمعناه ، أخرجه الطبري برقم ١٥٢٣ و ١٥٢٤ عن ابن عباس وبرقم ١٥٢٢ و ١٥٢٨ عن قتادة و ١٥٢٦ عن علي الأزدي و ١٥٢٩ عن أبي العالية و ١٥٣٠ عن السدي و ١٥٣١ عن ابن جريج.

ـ الخلاصة : هو خبر صحيح بلفظ الطبري ، وذلك بمجموع طرقه وشواهده ، وأما ما أخرجه الحاكم ، فهو ضعيف الإسناد جدا ، والمتن منكر.


لتكذيبهم رسول الله. والثاني : لعداوتهم لجبريل. رواه شهر عن ابن عباس. والثالث : أن الأول حين قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (١) ، والثاني : حين كذّبوا نبيّ الله. رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء. والرابع : أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل. والثاني : لتكذيبهم بمحمد والقرآن ، قاله الحسن ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل. والخامس : أن الأوّل لتبديلهم التّوراة. والثاني : لتكذيبهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد. والمهين : المذلّ.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، يعني : القرآن ، (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ، يعنون : التّوراة. وفي قوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) قولان : أحدهما : أنه أراد بما سواه. ومثله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٢) ، قاله الفرّاء ومقاتل. والثاني : بما بعد الذي أنزل عليهم ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُ) يعود على ما وراءه. قوله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) هذا جواب قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ، فإن الأنبياء جاءوا بتأييد التوراة. وإنما نسب القتل إلى المتأخّرين لأنهم في ذلك على رأي المتقدّمين. وتقتلون بمعنى : قتلتم ، فوضع المستقبل في موضع الماضي ، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره. وأنشدوا في ذلك :

شهد الحطيئة حين يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر

أراد : يشهد.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ، فيها قولان : أحدهما : ما في الألواح من الحلال والحرام ، قاله ابن عباس. والثاني : الآيات التسع ، قاله مقاتل.

وفي هاء «بعده» قولان : أحدهما : أنها تعود إلى موسى ، فمعناه : من بعد انطلاقه إلى الجبل ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : أنها تعود إلى المجيء ، لأن «جاءكم» يدل على المجيء ، وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا).

قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، قال ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : سمعنا وعصينا.

قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، أي : سقوا حبّ العجل ، فحذف المضاف ، وهو الحبّ ، وأقام المضاف إليه مقامه ، ومثله قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (٣) أي : وقت الحج. وقوله :

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) النساء : ٢٤.

(٣) البقرة : ١٩٧.


(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) (١) أي : أجعلتم صاحب سقاية الحاج. وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ، أي : أهلها. وقوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) (٣) ، أي : ضعف عذاب الحياة. وقوله : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ) (٤) ، أي : بيوت صلوات. وقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٥) ، أي : مكركم فيهما. وقوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (٦) ، أي : أهله. ومن هذا قول الشاعر :

أنبئت أنّ النّار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك يا كليب المجلس

أي : أهل المجلس ، وقال الآخر :

وشرّ المنايا ميّت بين أهله

أي : وشرّ المنايا منيّة ميّت بين أهله.

قوله تعالى : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) ، أي : أن تكذّبوا المرسلين ، وتقتلوا النبيّين بغير حقّ ، وتكتموا الهدى. قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، في «إن» قولان :

أحدهما : أنها بمعنى : الجحد ، فالمعنى : ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله ، وعبدتم العجل.

والثاني : أن تكون «إن» شرطا معلّقا بما قبله ، فالمعنى : إن كنتم مؤمنين ؛ فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل وقتل الأنبياء ، ذكرهما ابن الأنباريّ.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ، كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنّة إلا لإسرائيل وولده ، فنزلت هذه الآية. ومن الدليل على علمهم بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق ، أنهم ما تمنّوا الموت ، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنّونه بقوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) فما تمنّاه أحد منهم. والذي قدمته أيديهم : قتل الأنبياء وتكذيبهم ، وتبديل التوراة.

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) ، اللام : لام القسم ، والنون توكيد له ، والمعنى : ولتجدنّ اليهود في حال دعائهم إلى تمنّي الموت أحرص الناس على حياة ، وأحرص من الذين أشركوا.

وفي (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قولان : أحدهما : أنهم : المجوس ، قاله ابن عبّاس ، وابن قتيبة والزّجّاج. والثاني : مشركو العرب ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ، في الهاء والميم من «أحدهم» قولان : أحدهما : أنها تعود على الذين أشركوا ، قاله الفرّاء. والثاني : ترجع إلى اليهود ، قاله مقاتل.

__________________

(١) التوبة : ١٩.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) الإسراء : ٧٥.

(٤) الحج : ٤٠.

(٥) سبأ : ٣٠.

(٦) العلق : ١٧.


قال الزّجّاج : وإنما ذكر (أَلْفَ سَنَةٍ) لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها ، كان الملك يحيّا بأن يقال له : عش ألف نيروز ، وألف مهرجان.

قوله تعالى : (وَما هُوَ) فيه قولان ؛ ذكرهما الزّجّاج : أحدهما : أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره ، تقديره : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. والثاني : أن يكون «هو» كناية عما جرى من التّعمير ، فيكون المعنى : وما تعميره بمزحزحه من العذاب ، ثم جعل «أن يعمّر» مبينا عنه ، كأنه قال : ذلك الشيء الدّنيء ليس بمزحزحه من العذاب.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩))

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ). قال ابن عباس :

(٢٧) أقبلت اليهود إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبريل. فقالوا : ذاك ينزل بالحرب والقتال ، ذاك عدوّنا ، فنزلت هذه الآية والتي تليها.

وفي جبريل إحدى عشرة لغة : إحداها : جبريل ، بكسر الجيم والراء من غير همز ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو. قال ورقة بن نوفل :

وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصّدر منزل

وقال عمران بن حطّان :

والرّوح جبريل فيهم لا كفاء له

وكان جبريل عند الله مأمونا

____________________________________

(٢٧) حسن. أخرجه أحمد ١ / ٢٧٤ والترمذي ٣١١٧ والنسائي في «عشرة النساء» ١٩٠ والطبري ١٦٠٨ والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٢٦٦ وإسناده حسن فيه شهر بن حوشب ، صدوق يخطئ.

ـ وورد مرسلا أخرجه الطبري ١٦٠٩ عن شهر بن حوشب و ١٦١٠ من مرسل القاسم بن أبي بزّة. فالحديث حسن إن شاء الله. وأصله أخرجه البخاري ٣٣٢٩ و ٣٩٣٨ و ٤٤٨٠ والنسائي في «التفسير» ١٢ وأحمد ٣ / ١٠٨ ـ ٢٧١ والبغوي ٣٧٦٩ وابن مندة في «التوحيد» ١ / ٢٢٩ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٥٢٨ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ ، ما أول أشراط السّاعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبرني بهن آنفا جبريل» قال : فقال عبد الله : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا أول أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له ، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها». قال : أشهد أنك رسول الله. ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت اليهود ، ودخل عبد الله البيت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا : أعلمنا وابن أعلمنا وأخبرنا وابن أخبرنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا : شرّنا وابن شرّنا ووقعوا فيه». لفظ البخاري. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٩٨ و ١٩٩ بتخريجنا ، طبع دار الكتاب العربي.


وقال حسان :

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء

واللغة الثانية : «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء ، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن : فعليل ، وبها قرأ الحسن البصريّ ، وابن كثير ، وابن محيصن. وقال الفرّاء : لا أشتهيها ، لأنه ليس في الكلام فعليل ، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب ، لأنه اسم أعجميّ.

والثالثة : «جبرئيل» : بفتح الجيم والراء ، وبعدها همزة مكسورة على وزن : جبرعيل ، وبها قرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائيّ. قال الفرّاء : وهي لغة تميم وقيس ، وكثير من أهل نجد. وقال الزّجّاج :

هي أجود اللغات ، وقال جرير :

عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا

والرابعة : جبرئل ، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام ، مكسورة من غير مدّ على وزن جبرعل ، رواها أبو بكر عن عاصم. والخامسة : «جبرئلّ» بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام ، وهي قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر. والسادسة : جبرائيل ، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف. والسابعة : جبراييل بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة. والثامنة : جبرين ، بفتح الجيم ونون مكان اللام. والتاسعة : جبرين ، بكسر الجيم وبنون ، قال الفرّاء : هي لغة بني أسد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ عن ابن الأنباريّ قال : في جبريل تسع لغات ، فذكرهنّ. وذكر ابن الأنباريّ في كتاب «الردّ على من خالف مصحف عثمان» : «جبرائل» ، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء. وجبرئين ، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون.

فأمّا ميكائيل ، ففيه خمس لغات : إحداهن : «ميكال» ، مثل : مفعال بغير همز ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم. والثانية : «ميكائيل» بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة ، مثل : ميكاعيل ، وهي لغة تميم وقيس ، وكثير من أهل نجد ، وبها قرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم. والثالثة : «ميكائل» بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء ، مثل ميكاعل ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ ، وابن الصّباح ، جميعا عن قنبل. والرابعة : «ميكئل» ، على وزن ميكعل ، وبها قرأ ابن محيصن. والخامسة : «ميكائين» بهمزة معها ياء ونون بعد الألف ، ذكرها ابن الأنباريّ.

قال الكسائيّ : جبريل وميكائيل ، اسمان لم تكن العرب تعرفهما ، فلما جاءا عرّبتهما. قال ابن عباس : جبريل وميكائيل ، كقوله : عبد الله ، وعبد الرحمن ، ذهب إلى أن «إيل» اسم الله ، واسم الملك «جبر» و «ميكا». وقال عكرمة : معنى جبريل : عبد الله ، ومعنى ميكائيل : عبيد الله. وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة ، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما ، كقوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨) (١). وإنما قال : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ، ولم يقل : لهم ، ليدلّ على أنهم كافرون بهذه العداوة.

__________________

(١) الرحمن : ٦٨.


(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) ، الواو واو العطف ، أدخلت عليها ألف الاستفهام. قال ابن عباس ومجاهد : والمشار إليهم : اليهود ، وقيل : العهد الذي عاهدوه ، أنهم قالوا : والله لئن خرج محمّد لنؤمننّ به. وروي عن عطاء أنها العهود التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم ، فنقضوها ، كفعل قريظة والنّضير. ومعنى نبذه : رفضه. قوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، يعني اليهود. والكتاب : التوراة. وفي قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ) قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : أنه التوراة ، لأن الكافرين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نبذوا التوراة.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢))

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أن اليهود كانوا لا يسألون النبيّ عن شيء من التوراة إلا أجابهم ، فسألوه عن السّحر وخاصموه به ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية. والثانية : أنه لما ذكر سليمان في القرآن قال يهود المدينة : ألا تعجبون لمحمّد يزعم أن ابن داود كان نبيّا؟! والله ما كان إلا ساحرا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن إسحاق.

و «تتلو» بمعنى : تلت ، و «على» بمعنى : «في» قاله المبرّد. قال الزّجّاج وقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ، أي : على عهد ملك سليمان. وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال : أحدها : أنه لما خرج سليمان عن ملكه ؛ كتبت الشياطين السّحر ، ودفنته في مصلّاه ، فلما توفي استخرجوه ، وقالوا : بهذا كان يملك الملك ، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عبّاس ، وهو قول مقاتل. والثاني : أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان ، ويدفنه تحت كرسيّه ، فلما مات سليمان ، استخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كلّ سطرين سحرا وكذبا ، وأضافوه إلى سليمان ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. والثالث : أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان ، ثم أضافته إليه ، قاله عكرمة. والرابع : أن الشياطين ابتدعت السحر ، فأخذه سليمان ، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلّمه الناس ، فلما قبض استخرجته ، فعلّمته الناس وقالوا : هذا علم سليمان ، قاله قتادة. والخامس : أن سليمان أخذ عهود الدّوابّ ، فكانت الدّابة إذا أصابت إنسانا طلب إليها بذلك العهد ، فتخلّى عنه ، فزاد السّحرة السّجع والسحر ، قاله أبو مجلز. والسادس : أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع ، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدّث الكهنة


الناس ، فيجدونه كما قالوا ، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم ، وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتاب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجنّ تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتاب في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيّه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان ؛ جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل ، فدلّهم على تلك الكتاب وقال : إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ؛ ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، واتخذ بنو إسرائيل تلك الكتاب ، فلما جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاصموه بها ، هذا قول السّدّيّ.

و «سليمان» : اسم عبرانيّ ، وقد تكلّمت به العرب في الجاهلية ، وقد جعله النّابغة سليما ضرورة ، فقال :

ونسج سليم كلّ قضاء ذائل (١) واضطر الحطيئة فجعله : سلّاما ، فقال :

فيه الرّماح وفيه كلّ سابغة

جدلاء محكمة من نسج سلّام

وأرادا جميعا : داود أبا سليمان ، فلم يستقم لهما الشعر ، فجعلاه : سليمان وغيّراه. كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللّغويّ.

وفي قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) دليل على كفر الساحر ، لأنهم نسبوا سليمان إلى السحر ، لا إلى الكفر. قوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم بتشديد نون (ولكنّ) ونصب نون (الشياطين). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ بتخفيف النون من «لكن» ورفع نون «الشياطين». قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والزّهريّ «الملكين» بكسر اللام ، وقراءة الجمهور أصحّ. وفي «ما» قولان (٢) : أحدهما : أنها

__________________

(١) في «اللسان» : صدر البيت : وكل صموت نثلة تبّعيّة. والصموت : الدروع التي إذا صبت لم يسمع لها صوت.

والقضاء من الدروع : التي فرغ من عملها وأحكمت. والذّائل : الدرع الطويلة الذّيل.

(٢) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٩٧. القول في تأويل قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) فقال بعضهم : معناه الجحد ، وهي بمعنى «لم». ذكر من قال ذلك : عن ابن عباس قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) ، فإنه يقول : لم ينزل الله السحر.

وعن الربيع بن أنس : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : ما أنزل الله عليهما السحر.

فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع ، من توجيههما معنى قوله (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) إلى : ولم ينزل على الملكين ـ : واتّبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السّحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ، (بِبابِلَ ، هارُوتَ وَمارُوتَ) فيكون حينئذ قوله : (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) من المؤخّر الذي معناه التقديم.

فإن قال قائل : وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر وما أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت. فيكون معنيا ب «الملكين» : جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهما الله بذلك ، وأخبر نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السّحر ، وأخبرهم أن السحر


معطوفة على «ما» الأولى ، فتقديره : واتّبعوا ما تتلو الشياطين وما أنزل على الملكين. والثاني : أنها معطوفة على السّحر ، فتقديره : يعلّمون الناس السّحر ، ويعلّمونهم ما أنزل على الملكين. فإن قيل : إذا كان السحر نزل على الملكين ، فلما ذا ذكره؟ فالجواب من وجهين : ذكرهما ابن السّرّي : أحدهما : أنهما كانا يعلّمان الناس : ما السحر ، ويأمران باجتنابه ، وفي ذلك حكمة ؛ لأن سائلا لو قال : ما الزّنى؟ لوجب أن يوقف عليه ، ويعلّم أنه حرام. والثاني : أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين ، فمن قبل التعلّم كان كافرا ، ومن لم يقبله فهو مؤمن ، كما امتحن بنهر طالوت.

وفي الذي أنزل على الملكين قولان : أحدهما : أنه السحر ، روي عن ابن مسعود والحسن ، وابن زيد. والثاني : أنه التّفرقة بين المرء وزوجه ، لا السحر ، روي عن مجاهد وقتادة ، وعن ابن عباس كالقولين. قال الزّجّاج : وهذا من باب السحر أيضا.

الإشارة إلى قصة الملكين

ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب ، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم ؛ دعت عليهم الملائكة ، فقال الله تعالى : لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم ، لفعلتم مثل ما فعلوا ، فحدّثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا ، اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين ،

__________________

من عمل الشياطين ، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمانهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت. فيكون «هاروت وماروت» ، على هذا التأويل ، ترجمة على «الناس» وردّا عليهم. وقال آخرون : بل تأويل «ما» التي في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ـ «الذي».

ـ وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٥٠ ـ ٥١ : قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) «ما» نفي ، والواو للعطف على قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهنّ ، قال الله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) وقال الشاعر :

أعوذ بربي من النّافثات .....

إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حدّ المبدل منه ، فالجواب من وجوه ثلاثة ، الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا ؛ والثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما ؛ كما قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). الثالث : إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) وقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وإما لطيبه (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وإما لأكثريته ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا» وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله أعلم. وقد قيل : إن «ما» عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون «ما» بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء.


فاختاروا هاروت وماروت. وهذا مرويّ عن ابن مسعود ، وابن عباس. واختلف العلماء : ما ذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنهما زنيا ، وقتلا ، وشربا الخمرة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهما جارا في الحكم ، قاله عبيد الله بن عتبة. والثالث : أنهما همّا بالمعصية فقط. ونقل عن عليّ عليه‌السلام أن الزّهرة كانت امرأة جميلة وأنها خاصمت إلى الملكين هارون وماروت ، فراودها كل واحد منهما على نفسها ، ولم يعلم صاحبه ، وكانا يصعدان السماء آخر النهار ، فقالت لهما : بم تهبطان وتصعدان؟ قالا : باسم الله الأعظم ، فقالت : ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلّمانيه ، فعلّماها إياه ، فطارت إلى السماء ، فمسخها الله كوكبا (١).

(٢٨) وفي الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الزّهرة ، وقال : إنها فتنت ملكين» ، إلا أن هذه الأشياء

____________________________________

(٢٨) لا أصل له في المرفوع ، وإنما هو من الإسرائيليات. ورد مرفوعا وموقوفا ومقطوعا.

ـ والمرفوع ورد من حديث ابن عمر : أخرجه الطبري ١٦٩١ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ٨٦ والذهبي في «الميزان» ٣٥٦٧ من طريق سنيد بن داود عن فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ، وهذا إسناد ساقط قال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح ، والفرج بن فضالة قد ضعفه يحيى ، وقال ابن حبان : يقلب الأسانيد ، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة ، وأما سنيد ، فقد ضعفه أبو داود ، وقال النسائي : ليس بثقة اه. وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» ١ / ١٤٣ جدا.

ـ وورد من وجه آخر أخرجه أحمد ٢ / ١٣٤ والبزار ٢٩٣٨ «كشف» وابن حبان ٦١٨٦ والبيهقي ١ / ٤ ـ ٥ كلهم من طريق يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بنحوه وأتم ، وهذا إسناد ساقط ، زهير بن محمد مختلف فيه ، وقد ضعفه غير واحد ، واتفقوا على أنه روى مناكير ، والظاهر أن هذا منها ، فقد خالفه موسى بن عقبة ، وهو أوثق منه وأحفظ ، فجعله عن ابن عمر عن كعب الأحبار. كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٩٧ وعنه الطبري ١٦٨٧ كلاهما عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار ، وهذا إسناد كالشمس ، لا غبار عليه البتة ..

وكرره الطبري ١٦٨٨ عن عبد العزيز بن مختار عن موسى به ، وقد قدح في رفع الحديث البزار والبيهقي وغيرهما. قال البزار عقب الحديث : رواه بعضهم عن نافع عن ابن عمر موقوفا ، وإنما أتى رفع هذا عندي من زهير لأنه لم يكن بالحافظ. وكذا ذكر البيهقي ، وهو الذي اختاره ابن كثير في «تفسيره» ١ / ١٤٣ والعجب أن البيهقي أخرجه في «الشعب» ١٦٣ ، عن موسى بن جبير عن موسى بن عقبة به مرفوعا ، لكن فيه محمد بن يونس الكديمي ، وهو متروك كذاب ، والحمل عليه في هذا الحديث. ثم كرره البيهقي ١٦٤ عن ابن عمر عن كعب الأحبار ، وصوّبه.

ـ وورد حديث ابن عمر من وجه آخر أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ١٤٣ وإسناده ساقط فيه موسى بن سرجس ، وهو مجهول ، وفيه هشام بن علي بن هشام ، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل ، وسعيد بن سلمة ، وإن روى له مسلم فقد ضعفه النسائي ، وجهله ابن معين.

ـ ولحديث ابن عمر شاهد من حديث علي أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ١٨٥ ـ ١٨٦ وقال : موضوع والمتهم به مغيث قال الأزدي : خبيث كذاب. وبهذا الإسناد أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ١٤٣. وكرره ابن مردويه من وجه آخر ، وفيه جابر الجعفي ، وهو متروك ، وقد كذبه أبو حنيفة رحمه‌الله. قال الحافظ ابن كثير : لا يصح ، وهو منكر جدا.

ـ وقد جاء موقوفا ومقطوعا ، فقد أخرجه الطبري ١٦٨٤ عن ابن عباس ، وفيه أبو شعبة العدوي ، وهو

__________________

(١) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات ، لا حجة في شيء منها.


بعيدة عن الصحة. وتأوّل بعضهم هذا فقال : إنه لما رأى الكوكب ، ذكر تلك المرأة ، لا أن المرأة مسخت نجما. واختلف العلماء في كيفية عذابهما ؛ فروي عن ابن مسعود أنهما معلّقان بشعورهما إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد : إن جبّا ملئ نارا فجعلا فيه.

فأمّا بابل ؛ فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها. واختلفوا في حدّها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها : الكوفة وسوادها ، قاله ابن مسعود. والثاني : أنها من نصيبين إلى رأس العين ، قاله قتادة. والثالث : أنها جبل في وهدة من الأرض ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي اختبار وابتلاء. قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، يريد : بقضائه. (وَلَقَدْ عَلِمُوا) : إشارة إلى اليهود (لَمَنِ اشْتَراهُ) ، يعني : اختاره ، يريد : السحر. واللام لام اليمين. فأما الخلاق ؛ فقال الزّجّاج : هو النّصيب الوافر من الخير. قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ، أي : باعوها به ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) العقاب فيه.

فصل : اختلف الفقهاء في حكم الساحر (١) ؛ فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه أنه يكفر بسحره ، قتل به ، أو لم يقتل ، وهل تقبل توبته؟ على روايتين. وقال الشّافعيّ : لا يكفر بسحره ، فإن قتل بسحره وقال : سحري يقتل مثله ، وتعمّدت ذلك ، قتل قودا. وإن قال : قد يقتل ، وقد يخطئ ، لم يقتل ، وفيه الدّية. فأما ساحر أهل الكتاب ، فإنه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضرّ بالمسلمين ، فيقتل لنقض العهد ، وسواء في ذلك الرجل والمرأة. وقال أبو حنيفة : حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في

____________________________________

مجهول ، وكرره الطبري ١٦٨٥ عن ابن مسعود وابن عباس ، وفيه علي بن زيد ضعيف روى مناكير.

ـ وكرره برقم ١٦٨٦ عن علي ، وقد استغربه ابن كثير ١ / ١٤٣ جدا ، وأعله ابن حزم في «الملل» بعمير بن سعيد واتهمه بهذا الحديث ، وأنه كذب.

ـ وكرره ١٦٨٩ عن السدي قوله و ١٦٩٠ عن الربيع قوله و ١٦٩٢ عن مجاهد قوله ، وهو الراجح.

فهو باطل مرفوعا ، وإنما هو عن كعب الأحبار ، وعنه أخذه مجاهد وغيره ، ولا أصل له في المرفوع ، ولهذا لم يروه البغوي مرفوعا ، وقد قدح بصحته ابن العربي في «أحكام القرآن» حيث قال : إنما سقنا هذا الخبر لأن العلماء رووه ودونوه ، وتحقيق القول أنه لم يصح سنده. ورده القرطبي أيضا في «تفسيره» ٢ / ٥٢ حيث قال : هذا كله ضعيف ، وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء اه باختصار. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي بتخريجي رقم ٢٣١ و «تفسير الشوكاني» ٢٠٠ بتخريجي ، والله الموفق.

الخلاصة : هو حديث باطل لا أصل له. والظاهر أنه من أساطير الإسرائيليين وافتراءاتهم ، ومصدره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما ممن يروي الإسرائيليات.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٢٩٩ : السحر : وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور ، أو قلبه ، أو عقله ، من غير مباشرة له. وله حقيقة ، فمنه ما يقتل وما يمرض ، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ، ومنه ما يفرّق بين المرء وزوجه وما يبغّض أحدهما إلى الآخر ، أو يحبب بين الاثنين وهذا قول الشافعي. وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له ، إنما هو تخييل ، لأن الله تعالى قال : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). وقال أصحاب أبي حنيفة : إن كان شيئا يصل إلى بدن المسحور كدخان ونحوه ، جاز أن يحصل منه ذلك ، فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل إلى بدنه شيء فلا يجوز ذلك.


إيجاب القتل ، فأمّا المرأة الساحرة ، فقال : تحبس ، ولا تقتل (١).

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) يعني : اليهود ، والمثوبة : الثواب. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) قال الزّجّاج : أي : يعلمون بعلمهم. قوله تعالى : (لا تَقُولُوا راعِنا) قرأ الجمهور بلا تنوين ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن محيصن (٢) بالتنوين ، و «راعنا» بلا تنوين من راعيت ، وبالتنوين من الرّعونة ، قال ابن قتيبة : راعنا بالتنوين : هو اسم مأخوذ من الرعن والرّعونة ، أراد : لا تقولوا جهلا ولا حمقا. وقال غيره : كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه ، قال : راعني سمعك ، فكان المنافقون يقولون : راعنا ، يريدون : أنت أرعن. وقوله : (انْظُرْنا) بمعنى : انتظرنا ، وقال مجاهد : انظرنا : اسمع منّا ،

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٤٧ : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذميّ فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا ، يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ، ولأن الله تعالى سمّى السحر كفرا بقوله (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ). وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق ، والشافعي وأبي حنيفة.

وقال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٣٠٠ : قال أصحابنا : ويكفر الساحر بتعلّمه وفعله ، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روي عنه ، قال : قال عمّي في العرّاف والكاهن والسّاحر : أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلّها فإنه عندي في معنى المرتد ، فإن تاب وراجع ـ يعني ـ خلّي سبيله. قلت له : يقتل؟ قال : لا ، يحبس ، لعلّه يرجع. قلت له : لم لا تقتله؟ قال : إذا كان يصلّي ، لعلّه يتوب ويرجع. وهذا يدلّ على أنه لم يكفّره ، لأنه لو كفّره لقتله. وقوله : في معنى المرتد. يعني في الاستتابة. وقال أصحاب أبي حنيفة : إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء ، كفر ، وإن اعتقد أنّه تخييل لم يكفر. وقال الشافعي : إن اعتقد ما يوجب الكفر ، مثل التقرب إلى الكواكب السّبعة ، وأنها تفعل ما يلتمس ، أو اعتقد حلّ السحر ، كفر ، لأن القرآن نطق بتحريمه ، وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه ، وإلّا فسّق ولم يكفّر ؛ لأن عائشة باعت مدبّرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة.

ـ وحدّ الساحر القتل ، روي ذلك عن عمر ، وعثمان بن عفان ، وابن عمر ، وحفصة وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز. وهو قول أبي حنيفة ، ومالك. ولم ير الشافعيّ عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر. ورواية عن أحمد ذكرناها فيما تقدّم. ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعث مدبّرة سحرتها ، ولو وجب قتلها لما حلّ بيعها ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حقّ». ولم يصدر منه أحد الثلاثة ، فوجب أن لا يحلّ دمه ، ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حد الساحر ، ضربة بالسّيف».

قال ابن المنذر : رواه إسماعيل بن مسلم ، وهو ضعيف وأخرجه سعيد في «السنن» ٢ / ٩٠ ، ٩١ عن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية ، عمّ الأحنف بن قيس ، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة : اقتلوا كلّ ساحر ، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم وهذا اشتهر فلم ينكر ، فكان إجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة. ولأنه كافر فيقتل ، للخبر الذي رووه. وهل يستتاب الساحر؟ فيه روايتان ؛ أحدهما ، لا يستتاب ، وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا.

(٢) هو الإمام المقرئ محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي ، المتوفى سنة ١٢٣.


وقال ابن زيد : لا تعجل علينا. قوله : (وَاسْمَعُوا) أي : ما تؤمرون به.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ). قال ابن عباس : هم يهود المدينة ، ونصارى نجران ، فالمشركون مشركو أهل مكّة. (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) ، أي : على رسولكم. (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، أراد : النبوّة والإسلام. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : أراد بالخير : العلم والفقه والحكمة. (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). في هذه الرحمة قولان : أحدهما : أنها النبوّة ، قاله عليّ بن أبي طالب ، ومحمّد بن عليّ بن الحسين ، ومجاهد والزّجّاج. والثاني : أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ومقاتل.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ). سبب نزولها : أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمّدا يحلّ لأصحابه إذا شاء ، ويحرّم عليهم إذا شاء ؛ فنزلت هذه الآية. قال الزّجّاج : النّسخ في اللغة : إبطال شيء وإقامة آخر مقامه ، تقول العرب : نسخت الشمس الظلّ : إذا أذهبته وحلّت محلّه. وفي المراد بهذا النّسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والحكم. والثاني : تبديل الآية بغيرها. رويا عن ابن عباس ، والأول قول السّدّيّ ، والثاني قول مقاتل. والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود ، وبه قال أبو العالية. وقرأ ابن عامر : «ما ننسخ» بضم النون ، وكسر السين. قال أبو عليّ : أي : ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا ، أي : وجدته محمودا ، وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه.

قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ننسأها» بفتح النون مع الهمزة ، والمعنى : نؤخّرها. قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض ، فأنا أنسأها : إذا أخّرتها ، ومنه : النّسيئة في البيع. وفي معنى نؤخّرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخّرها عن النّسخ فلا ننسخها ، قاله الفرّاء. والثاني : نؤخّر إنزالها ، فلا ننزلها البتّة. والثالث : نؤخّرها عن العمل بها بنسخنا إياها ، حكاهما أبو عليّ الفارسيّ. وقرأ سعد بن أبي وقاص «تنسها» بتاء مفتوحة ونون. وقرأ سعيد بن المسيّب والضّحّاك «تنسها» بضم التاء. وقرأ نافع : «أو ننسها» بنونين : الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة. أراد : أو ننسكها ، من النسيان.

قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ، قال ابن عباس : بألين منها ، وأيسر على الناس.

قوله تعالى : (أَوْ مِثْلِها) ، أي : في الثواب والمنفعة ، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار. (أَلَمْ تَعْلَمْ) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التّوقيف والتقرير. والملك في اللغة : تمام القدرة واستحكامها ، فالله عزوجل يحكم بما يشاء على عباده ويغيّر ما يشاء من أحكام.


(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ). في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٢٩) أحدها : أن رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد ، قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا ، وفجّر لنا أنهارا حتى نتبعك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٣٠) والثاني : أن قريشا سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، فقال : «هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل» فأبوا. قاله مجاهد.

(٣١) والثالث : أن رجلا قال : يا رسول الله ، لو كانت كفّاراتنا ككفارات بني إسرائيل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ لا نبغيها ، ما أعطاكم الله خير ممّا أعطى بني إسرائيل ، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة ؛ وجدها مكتوبة على بابه وكفّارتها ، فإن كفّرها كانت له خزيا في الدّنيا ، وإن لم يكفّرها كانت له خزيا في الآخرة ، فقد أعطاكم الله خيرا ممّا أعطى بني إسرائيل ، فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠) (١) الآية. وقال : «الصّلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهنّ» فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية.

(٣٢) والرابع : أن عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من قريش ، فقال : يا محمّد ، والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت هذه الآية. ذكره ابن السّائب.

(٣٣) والخامس : أن جماعة من المشركين جاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال بعضهم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. وقال آخر : لن أؤمن حتى تسيّر لنا جبال مكّة ، وقال عبد الله بن أبي أميّة : لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء ، فيه : من الله ربّ العالمين إلى ابن أميّة : اعلم أني قد أرسلت محمّدا إلى النّاس. وقال آخر : هلّا جئت بكتابك مجتمعا ، كما جاء موسى بالتّوراة. فنزلت هذه الآية. ذكره محمّد بن إسحاق الأنباريّ.

وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم قريش ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني :

____________________________________

(٢٩) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٨٠ عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

(٣٠) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٧٨٣ و ١٧٨٤ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث. ثم إن السورة مدنية ، وسياق الخبر يدل على أنه مكي؟!.

(٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٨٦ عن أبي العالية مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف. لكن قوله : «والصلوات .... بينهن» ورد في أحاديث أخر. وانظر «تفسير الشوكاني» ١ / ١٥٠ بتخريجنا.

(٣٢) لا أصل له ، ذكره الواحدي نقلا عن المفسرين بلا سند في «أسباب النزول» ٥٠.

ـ وعزاه المصنف لابن السائب ، وهو الكلبي ، وقد كذبه غير واحد ، ورواياته ساقطة ليست بشيء.

ـ ثم إن السورة مدنية ، وسياق الخبر أنه مكي؟!.

(٣٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠ بلا سند نقلا عن المفسرين. فهو كسابقه.

__________________

(١) النساء : ١١٠.


اليهود ، قاله مقاتل. والثالث : جميع العرب ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

وفي (أَمْ) قولان : أحدهما : أنها بمعنى : بل ، تقول العرب : هل لك عليّ حقّ ، أم أنت معروف بالظّلم. يريدون : بل أنت. وأنشدوا :

بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

ذكره الفرّاء والزّجّاج. والثاني : أنها بمعنى الاستفهام. فإن اعترض معترض ، فقال : إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها ، فأين الاستفهام الذي تقدّمها؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنه قد تقدّمها استفهام ، وهو قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ذكره الفرّاء ، وكذلك قال ابن الأنباريّ : هي مردودة على الألف في : (أَلَمْ تَعْلَمْ) ، فإن اعترض على هذا الجواب ، فقيل : كيف يصح العطف ولفظ : (أَلَمْ تَعْلَمْ) ينبئ عن الواحد ، و (تُرِيدُونَ) عن جماعة؟ فالجواب : أنه إنما رجع الجواب من التوحيد إلى الجمع ، لأن ما خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد خوطبت به أمّته ، فاكتفى به من أمّته في المخاطبة الأولى ، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية. ومثل هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (١). ذكر هذا الجواب ابن الأنباريّ.

فأما الجواب الثاني عن (أَمْ) ؛ فهو أنها للاستفهام ، وليست مردودة على شيء. قال الفرّاء : إذا توسّط الاستفهام الكلام ؛ ابتدئ بالألف وبأم ، وإذا لم يسبقه كلام ؛ لم يكن إلا بالألف أو ب «هل». وقال ابن الأنباريّ : «أم» جارية مجرى «هل» ، غير أن الفرق بينهما : أن «هل» استفهام مبتدأ ، لا يتوسّط ولا يتأخّر ، و «أم» : استفهام متوسّط ، لا يكون إلا بعد كلام.

فأما الرسول ها هنا : فهو : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي سئل موسى من قبل قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٢) ، وهل سألوا ذلك نبيا أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنهم سألوا ذلك ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ...) (تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٣) ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم بالغوا في المسائل ، فقيل لهم بهذه الآية : لعلّكم تريدون أن تسألوا محمّدا أن يريكم الله جهرة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

والكفر : الجحود. والإيمان : التّصديق. وقال أبو العالية : المعنى : ومن يتبدّل الشدة بالرّخاء. وسواء السبيل : وسطه.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ؛ في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٤) أحدها : أن حييّ بن أخطب ، وأبا ياسر كانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عبّاس.

____________________________________

(٣٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩١ عن ابن عباس ، وفيه محمد بن أبي محمد ، شيخ ابن إسحاق ، وهو مجهول.

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) النساء : ١٥٣.

(٣) الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢.


(٣٥) والثاني : أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحرّض عليه كفار قريش في شعره ، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدمها ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّفح عنهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله عبد الله بن كعب بن مالك.

(٣٦) والثالث : أن نفرا من اليهود دعوا حذيفة وعمّارا إلى دينهم ، فأبيا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

ومعنى (وَدَّ) : أحبّ وتمنّى. و (أَهْلِ الْكِتابِ) : اليهود. قال الزّجّاج : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) موصول : ب (وَدَّ كَثِيرٌ) ، لا بقوله : (حَسَداً) ، لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه.

والمعنى : مودّتهم لكفركم من عند أنفسهم ، لا أنه عندهم الحق. فأما الحسد : فهو تمنّي زوال النّعمة عن المحسود ، وإن لم يصر للحاسد مثلها ، وتفارقه الغبطة ، فإنها تمنّي مثلها من غير حبّ زوالها عن المغبوط. وحدّ بعضهم الحسد ، فقال : هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار ، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسودا ، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل. وقال بعض الحكماء : كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد ، فإنه لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وقال الأصمعيّ : سمعت أعرابيا يقول : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد ، حزن لازم ، ونفس دائم ، وعقل هائم ، وحسرة لا تنقضي. قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، قال ابن عباس : فجاء الله بأمره في النّضير بالجلاء والنّفي ، وفي قريظة بالقتل والسّبي.

فصل : وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود ، وأبي العالية ، وقتادة رضي الله عنهم : أن العفو والصّفح منسوخ بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) (١) ، وأبى هذا القول جماعة من المفسّرين والفقهاء ، واحتجّوا بأن الله لم يأمر بالصّفح والعفو مطلقا ، وإنما أمر به إلى غاية ، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها ، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ ، بل يكون الأول قد انقضت مدّته بغايته ، والآخر يحتاج إلى حكم آخر.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

قوله تعالى : (تَجِدُوهُ) ، أي : تجدوا ثوابه.

____________________________________

(٣٥) مرسل. أخرجه أبو داود ٣٠٠٠ والواحدي في «أسباب النزول» ٥٢ من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه ، ورجاله رجال الشيخين إلّا أنه مرسل.

(٣٦) لا أصل له. ذكره الزمخشري في «الكشاف» ١ / ١٧٩ ، وقال الحافظ في تخريجه : لم أجده مسندا ، وهو في تفسير الثعلبي كذلك بلا سند ولا راو.

ـ قلت : عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو كذاب. وخبره هذا لا أصل له.

__________________

(١) التوبة : ٢٩.


(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). قال ابن عباس :

(٣٧) اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت اليهود : ليست النّصارى على شيء ، ولا يدخل الجنّة إلّا من كان يهوديا ، وكفروا بالإنجيل وعيسى ، وقالت النّصارى : ليست اليهود على شيء ، وكفروا بالتوراة وموسى ، فقال الله تعالى (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ).

واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل ومعناه : قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى : لن يدخل الجنّة إلّا من كان نصرانيّا. والهود ، جمع : هائد. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) ، أي : ذاك شيء يتمنّونه ، وظنّ يظنّونه ، هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، أي : حجّتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. ثم بين الله تعالى أن ليس كما زعموا ، فقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) ، وأسلم ، بمعنى : أخلص. وفي الوجه قولان : أحدهما : أنه الدّين. والثاني : العمل.

قوله تعالى : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، أي : في عمله ، (فَلَهُ أَجْرُهُ) ، قال الزّجّاج : يريد : فهو يدخل الجنّة. قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) ، أي : كلّ منهم يتلو كتابه بتصديق ما كفر به ، قاله السّدّيّ ، وقتادة. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم مشركو العرب قالوا لمحمّد وأصحابه : لستم على شيء ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنهم أمم كانوا قبل اليهود والنّصارى ، كقوم نوح وهود وصالح ، قاله عطاء. قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، قال الزّجّاج : يريد حكم الفصل بينهم ، فيريهم من يدخل الجنّة عيانا ، ومن يدخل النار عيانا ، فأمّا الحكم بينهم في العقد فقد بيّنه لهم في الدّنيا بما أقام على الصواب من الحجج.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في الرّوم ، كانوا ظاهروا بختنصّر على خراب بيت المقدس من أجل أنّ بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريّا ، فخرّب وطرحت الجيف فيه ، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني : أنها في المشركين

____________________________________

(٣٧) ضعيف. أخرجه الطبري في «تفسيره» ١٨١٣ وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

وانظر «تفسير القرطبي» ٦٢٧ بتخريجنا.


الذين حالوا بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مكّة يوم الحديبية ، قاله ابن زيد.

وفي المراد بخرابها قولان : أحدهما : أنه نقضها. والثاني : منع ذكر الله فيها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ، فيه قولان : أحدهما : أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك. قال السّدّيّ : لا يدخل روميّ بيت المقدس إلّا وهو خائف أن يضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية. والثاني : أنه خبر في معنى الأمر ، تقديره : عليكم بالجدّ في جهادهم كي لا يدخلها أحد إلا وهو خائف. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ خزيهم الجزية ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه فتح القسطنطينة ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنه طردهم عن المسجد الحرام ، فلا يدخله مشرك أبدا ظاهرا ، قاله ابن زيد.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). في نزولها أربعة أقوال :

(٣٨) أحدها : أنّ الصحابة كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة في ليلة مظلمة ، فلم يعرفوا القبلة ، فجعل كلّ واحد منهم مسجدا بين يديه وصلّى ، فلمّا أصبحوا إذا هم على غير القبلة ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. رواه عامر بن ربيعة.

(٣٩) والثاني : أنها نزلت في التّطوّع بالنّافلة. قاله ابن عمر.

(٤٠) والثالث : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، قالوا : إلى أين؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.

(٤١) والرابع : أنه لمّا مات النّجاشيّ ، وأمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّلاة عليه ؛ قالوا : إنه كان لا يصلّي إلى القبلة ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

____________________________________

(٣٨) حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٣٤٥ ـ ٢٩٥٧ وابن ماجة ١٠٢٠ والدارقطني ١ / ٢٧٢ والبيهقي في السنن ٢ / ١١ والعقيلي في الضعفاء ١ / ٣١ وأبو نعيم ١ / ١٧٩ والطبري ١٨٤٣ و ١٨٤٥ وفيه أشعث بن سعيد ، وبه أعله الترمذي وتوبع عند الطيالسي وإنما علته عاصم بن عبيد الله ، وهو واه.

وورد من حديث جابر أخرجه الدارقطني ١ / ٧٢ والحاكم ١ / ٢٠٦ والبيهقي ٢ / ١٠ ـ ١٢ وإسناده ضعيف لضعف أبي سهل. وورد من طرق واهية تبلغ درجة الحسن أو تقرب من الحسن كما قال ابن كثير ١ / ١٦٣.

(٣٩) صحيح. أخرجه البخاري ١٠٩٦ ومسلم ٧٠٠ ومالك ١ / ١٥١ وأحمد ٢ / ٦٦ وأبو داود ١٢٢٤ والنسائي ١ / ٢٤٣ وابن الجارود ٢٧٠ وابن حبان ٢٥١٧ والبيهقي ٢ / ٤. عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، وهو مقبل من مكة إلى المدينة ، على راحلته حيث كان وجهه قال : وفيه نزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ؛ واللفظ لمسلم. وانظر «تفسير القرطبي» ٢ / ٧٨.

(٤٠) ضعيف أخرجه الطبري ١٨٤٩ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف وهو بهذا اللفظ منكر.

(٤١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٨٤٦ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف بهذا اللفظ. وكونه عليه‌السلام صلّى على النجاشي دون نزول الآية. أخرجه البخاري ١٣١٧ و ١٣٢٠ ومسلم ٩٥٢ من حديث جابر.

__________________

(١) غافر : ٦٠.


قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، فيه قولان : أحدهما : فثمّ الله ، يريد : علمه معكم أين كنتم. وهذا قول ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : فثمّ قبلة الله ، قاله عكرمة ، ومجاهد. والواسع : الذي وسع غناه مفاقر عباده ، ورزقه جميع خلقه. والسّعة في كلام العرب : الغنى.

فصل : وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلّى إلى غير القبلة ، وفي صلاة المتطوّع على الرّاحلة ، والخائف. وقد ذهب قوم إلى نسخها ، فقالوا : إنها لمّا نزلت ؛ توجّه رسول الله إلى بيت المقدس ، ثم نسخ ذلك بقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ، وهذا مرويّ عن ابن عباس.

قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وليس في القرآن أمر خاصّ بالصّلاة إلى بيت المقدس ، وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ليس صريحا بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ، بل فيه ما يدلّ على أنّ الجهات كلّها سواء في جواز التّوجّه إليها ، فإذا ثبت هذا ، دلّ على أنه وجب التّوجّه إلى بيت المقدس بالسّنّة ، ثم نسخ بالقرآن.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦))

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال : أحدها : أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيرا ابن الله ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا : عيسى ابن الله ، قاله مقاتل. والثالث : أنها في النّصارى ومشركي العرب ، لأنّ النّصارى قالت : عيسى ابن الله ، والمشركين قالوا : الملائكة بنات الله ، ذكره إبراهيم بن السّريّ. والرابع : أنها في اليهود والنّصارى ومشركي العرب ، ذكره الثّعلبيّ.

فأمّا القنوت ؛ فقال الزّجّاج : هو في اللغة بمعنيين : أحدهما : القيام. والثاني : الطّاعة. والمشهور في اللغة والاستعمال أنّ القنوت : الدّعاء في القيام ، فالقانت : القائم بأمر الله. ويجوز أن يقع في جميع الطّاعات ، لأنه إنّ لم يكن قيام على الرّجلين ، فهو قيام بالنّيّة. وقال ابن قتيبة : لا أرى أصل القنوت إلّا الطّاعة ، لأنّ جميع الخلال من الصّلاة ، والقيام فيها والدّعاء وغير ذلك يكون عنها. وللمفسّرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّاعة ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه الإقرار بالعبادة ، قاله عكرمة ، والسّدّيّ. والثالث : القيام ، قاله الحسن ، والرّبيع. وفي معنى القيام قولان : أحدهما : أنه القيام له بالشّهادة بالعبودية. والثاني : أنه القيام بين يديه يوم القيامة. فإن قيل : كيف عمّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن يكون ظاهرها ظاهر العموم ، ومعناها معنى الخصوص. والمعنى : كلّ أهل الطّاعة له قانتون. والثاني : أن الكفّار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيّات ، فنسب القنوت إليهم بذلك. والثالث : أن كلّ مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه ، وجري أحكامه عليه ، فذلك دليل على ذلّه لربّه. ذكرهنّ ابن الأنباريّ.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ). البديع : المبدع ، وكلّ من أنشأ شيئا لم يسبق إليه قيل له :

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.


أبدعت. قال الخطّابيّ : البديع ، فعيل بمعنى : مفعل ، ومعناه : أنه فطر الخلق مخترعا له لا على مثال سبق. قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً) ، قال ابن عباس : معنى القضاء : الإرادة. وقال مقاتل : إذا قضى أمرا في علمه ، فإنما يقول له : كن فيكون. والجمهور على ضمّ نون (فَيَكُونُ) ، بالرّفع على القطع. والمعنى : فهو يكون. وقرأ ابن عامر بنصب النون. قال مكيّ بن أبي طالب : النصب على الجواب ل «كن» ، وفيه بعد.

فصل : وقد استدلّ أصحابنا على قدم القرآن بقوله : (كُنْ) فقالوا : لو كانت «كن» مخلوقة ؛ لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك ، والتّسلسل محال (١). فإن قيل : هذا خطاب لمعدوم ؛ فالجواب أنه خطاب تكوين يظهر أثر القدرة ، ويستحيل أن يكون المخاطب به موجودا ، لأنه بالخطاب كان ، فامتنع وجوده قبله أو معه. ويحقّق هذا أنّ ما سيكون متصوّر العلم فضاهى بذلك الموجود ، فجاز خطابه لذلك.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ، فيهم ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : النّصارى ، قاله مجاهد. والثالث : مشركو العرب ، قاله قتادة ، والسّدّيّ عن أشياخه. و (لَوْ لا) بمعنى : هلّا.

وفي (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والثالث : اليهود والنّصارى وغيرهم من الكفّار ، قاله قتادة (٣). (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، أي : في الكفر.

__________________

(١) لأنه يؤدي إلى حوادث لا أول لها.

(٢) قال ابن جرير الطبري رحمه‌الله في تفسيره ١ / ٥٦٠ : وأولى هذه الأقوال بالصّحة والصواب قول القائل : إن الله عنى بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه ، وادّعائهم له ولد. وقال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ١٦١ : وفي ذلك نظر وحكى القرطبي (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد (قلت) وهو ظاهر السياق والله أعلم.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ١٦١ : وقال قتادة في تفسير هذه الآية : هذا قول كفار العرب (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) قال هم اليهود والنصارى ويؤيد القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ). وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). وقوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ).


(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ). في سبب نزولها قولان :

(٤٢) أحدهما : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما : «ليت شعري ما فعل أبواي!» ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٤٣) والثاني : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

وفي المراد (بِالْحَقِ) هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عباس. والثاني : الإسلام ، قاله ابن كيسان. والثالث : الصّدق. قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ) ، قرأه الأكثرون بضمّ التاء ، على الخبر ، والمعنى : لست بمسؤول عن أعمالهم. وقرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام ، على السّؤال عنهم. وجوّز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة : لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم ، فيكون ذلك على وجه التّعظيم لما هم فيه ، فأمّا الجحيم ؛ فقال الفرّاء : النّار على النّار والجمر على الجمر. وقال أبو عبيدة : الجحيم : النار المستحكمة المسلّطة. وقال الزّجّاج : الجحيم : النّار الشديدة الوقود ، وقد جحم فلان النار : إذا شدّد وقودها ، ويقال لعين الأسد : حجمة لشدّة توقّدها. ويقال لوقود الحرب ، وهو شدّة القتال فيها : جاحم. وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشّديد الحرّ. قال الأعشى :

يعدّون للهيجاء قبل لقائها

غداة احتضار البأس والموت جاحم

ولذلك سمّيت الجحيم. وقال ابن الأنباريّ : قال أحمد بن عبيد : إنما سمّيت النّار جحيما ، لأنها أكثر وقودها ، من قول العرب : جحمت النار أجحمها : إذا أكثرت لها الوقود. قال عمران بن حطّان :

يرى طاعة الله الهدى وخلافه

الضّلالة يصلي أهلها جاحم الجمر

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))

قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى). في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٤٤) أحدها : أنّ يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قبلتهم ، فلمّا

____________________________________

(٤٢) ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٢٦ والطبري ١٨٧٧ و ١٨٧٨ كلاهما من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» ١ / ٢٠٩ وزاد نسبته إلى وكيع وسفيان وعبد بن حميد وابن المنذر وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جدا كما في «التقريب». وذكره العقيلي في «الضعفاء» وابن حبان في «المجروحين» وضعفه ابن كثير ١ / ١٦٢ والسيوطي في «الدر» وقال : هذا مرسل ضعيف الإسناد. وله شاهد آخر أخرجه الطبري ١٨٧٩ مرسلا عن داود بن أبي عاصم. وذكره السيوطي في «الدر» وقال : والآخر معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة. وعزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤ لابن عباس بدون إسناد فالمتن ضعيف.

(٤٣) ضعيف جدا ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥ بلا سند عن مقاتل ، فهو واه ، وتقدم الكلام على مقاتل.

(٤٤) واه بمرة ، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» ٥٩ للسيوطي. عن ابن عباس ، ولم أقف على إسناده ،


صرف إلى الكعبة يئسوا منه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

والثاني : أنهم دعوه إلى دينهم ، فنزلت ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم كانوا يسألونه الهدنة ، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه ؛ فنزلت ، ذكر معناه الزّجّاج.

قال الزّجّاج : والملّة في اللغة : السّنّة والطّريقة (١). قال ابن عباس : و (هُدَى اللهِ) هاهنا : الإسلام. وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال : أحدها : أنه التّحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه البيان بأنّ دين الله الإسلام. والثالث : أنه القرآن. والرابع : العلم بضلالة القوم. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ينفعك (وَلا نَصِيرٍ) يمنعك من عقوبته.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : في المؤمنين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عكرمة ، وقتادة. وفي الكتاب قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة. والثاني : أنه التّوراة ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، أي : يعملون به حقّ عمله ، قاله مجاهد. قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) في هاء (بِهِ) قولان : أحدهما : أنها تعود على الكتاب. والثاني : على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ، والابتلاء : الاختبار. وفي إبراهيم ست لغات : أحدها : إبراهيم ، وهي اللغة الفاشية. والثانية : إبراهم. والثالثة : إبراهم. والرابعة : إبراهم ، ذكرهنّ الفرّاء. والخامسة : إبراهام. والسادسة : إبرهم. قال عبد المطّلب :

عذت بما عاذ به إبرهم

مستقبل الكعبة وهو قائم

وقال أيضا :

نحن آل الله في كعبته

لم يزل ذاك على عهد ابرهم

____________________________________

وتفرد الثعلبي به دليل وهنه ، فإنه يروي عن المتروكين والكذابين من غير تعمد ، وإنما هو كحاطب ليل كما وصفه بذلك الإمام ابن تيمية في كتابه «مقدمة في أصول التفسير».

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٩١ : والملّة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله : فكانت الملّة والشريعة سواء. فأما الدين فقد فرّق بينه وبين الملّة والشريعة ، فإن الملّة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله ، والدّين ما فعله العباد عن أمره. تمسّك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى (مِلَّتَهُمْ) فوحّد الملّة وبقوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وبقوله عليه‌السلام : «لا يتوارث أهل ملتين» على أن المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه‌السلام : «لا يرث المسلم الكافر». وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل فلا يرث اليهودي النصراني ، ولا يرثان المجوسي ، أخذا بظاهر قوله عليه‌السلام : «لا يتوارث أهل ملتين».


وفي الكلمات خمسة أقوال : أحدها : أنها خمس في الرّأس ، وخمس في الجسد. أمّا التي في الرّأس ، فالفرق ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وقصّ الشّارب ، والسّواك. وفي الجسد : تقليم الأظافر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستطابة بالماء ، والختان ، رواه طاوس عن ابن عباس. والثاني : أنها عشر ستّ في الإنسان ، وأربع في المشاعر ، فالتي في الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ، وقصّ الشّارب ، والسّواك ، والغسل من الجنابة ، والغسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر : الطّواف بالبيت ، والسّعي بين الصّفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة. رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس. والثالث : أنها المناسك ، رواه قتادة عن ابن عباس. والرابع : أنه ابتلاه بالكوكب ، والشّمس ، والقمر ، والهجرة ، والنّار ، وذبح ولده ، والختان ، قاله الحسن. والخامس : أنها كلّ مسألة في القرآن ، مثل قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (١) ، ونحو ذلك ، قاله مقاتل. فمن قال : هي أفعال فعلها ؛ قال : معنى (فَأَتَمَّهُنَ) : عمل بهنّ. ومن قال : هي دعوات ومسائل ؛ قال : معنى (فَأَتَمَّهُنَ) : أجابه الله إليهنّ. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ (٢) «إبراهيم» برفع الميم «ربّه» بنصب الباء ، على معنى : اختبر ربّه هل يستجيب دعاءه ، ويتّخذه خليلا أم لا؟

قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، في الذّرّيّة قولان : أحدهما : أنها فعليّة من الذّرّ ، لأنّ الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذّرّ. والثاني : أنّ أصلها ذرّورة ، على وزن : فعلولة ، ولكن لمّا كثر التضعيف أبدل من الرّاء الأخيرة ياء ، فصارت : ذرويّة ، ثم أدغمت الواو في الياء ، فصارت : ذرّيّة ، ذكرهما الزّجّاج ، وصوّب الأوّل. وفي العهد هاهنا سبعة أقوال : أحدها : أنه الإمامة (٣) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير. والثاني : أنه الطّاعة ، رواه الضّحّاك عن ابن عبّاس. والثالث : الرّحمة ، قاله عطاء وعكرمة. والرابع : الدّين ، قاله أبو العالية. والخامس : النّبوّة ، قاله السّدّيّ عن أشياخه. والسادس : الأمان ، قاله أبو عبيدة. والسابع : الميثاق ، قاله ابن قتيبة ، والأوّل أصحّ. وفي المراد بالظّالمين هاهنا قولان : أحدهما : أنهم الكفّار ، قاله ابن جبير ، والسّدّيّ. والثاني : العصاة ، قاله عطاء.

__________________

(١) إبراهيم : ٣٥.

(٢) قال أبو العلاء الواسطي : إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة ، فأخذت خط الدارقطني وجماعة ؛ أن الكتاب موضوع لا أصل له. قال ابن الجزري : وقد رأيت الكتاب المذكور ، ومنه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) برفع الهاء ونصب الهمزة ، وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ، ونسبها إليه ، وتكلف توجيهها ، وإن أبا حنيفة لبريء منها. انظر «النشر في القراآت العشر» لابن الجزري ١ / ١٦.

(٣) فائدة : قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ١ / ٢١١ : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وقرئ «الظالمون» ، أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم وقالوا : في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته. ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه‌الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال : ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم.


(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥))

قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) ، البيت هاهنا : الكعبة ، والألف واللام تدخل للمعهود ، أو للجنس ، فلمّا علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس ؛ انصرف إلى المعهود ، قال الزّجّاج : والمثاب والمثابة واحد ، كالمقام والمقامة ، قال ابن قتيبة : والمثابة : المعاد ، من قولك : ثبت إلى كذا ، أي : عدت إليه ، وثاب إليه جسمه إذا رجع بعد العلّة ، فأراد : أنّ الناس يعودون إليه مرّة بعد مرّة. قوله تعالى : (وَأَمْناً) ، قال ابن عباس : يريد أنّ من أحدث حدثا في غيره ، ثمّ لجأ إليه ؛ فهو آمن ، ولكن ينبغي لأهل مكّة أن لا يبايعوه ، ولا يطعموه ، ولا يسقوه ، ولا يؤووه ، ولا يكلّم حتى يخرج ، فإذا خرج أقيم عليه الحدّ (١). قال القاضي أبو يعلى : وصف البيت بالأمن ، والمراد جميع الحرم ؛ كما قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، والمراد : الحرم كلّه لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وهذا على طريق الحكم ، لا على وجه الخبر فقط.

وفي (مَقامِ إِبْراهِيمَ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحرم كلّه ، قاله ابن عباس. والثاني : عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء. وعن مجاهد كالقولين. وقد روي عن ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، قالوا : الحجّ كلّه مقام إبراهيم. والثالث : الحجر ، قاله سعيد بن جبير ، وهو الأصحّ.

(٤٥) قال عمر بن الخطّاب : قلت : يا رسول الله! لو اتّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت.

وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان : أحدهما : أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل ، فلم يجده ، فقالت له زوجته : انزل ، فأبى ، فقالت : فدعني أغسل رأسك ، فأتته بحجر فوضع رجله عليه ، وهو راكب ، فغسلت شقّه ، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه ، فوضعته تحت الشّقّ الآخر وغسلته ، فغابت رجله فيه ، فجعله الله من شعاره ، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني : أنه قام على الحجر لبناء البيت ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، قاله سعيد بن جبير.

____________________________________

(٤٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٢ و ٤٤٨٣ و ٤٧٩٠ و ٤٩١٦ ومسلم ٢٣٩٩ والترمذي ٢٩٥٩ و ٢٩٦٠ والنسائي في «التفسير» ١٨ وابن ماجة ١٠٠٩ رووه عن أنس عن عمر قال : «وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وآية الحجاب ، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهن البرّ والفاجر ، فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فنزلت هذه الآية».

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ١١١ : قوله تعالى (وَأَمْناً) استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحدّ في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كأنه قال : أمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم ، وأن ذلك من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟. والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به. وقال أبو حنيفة : لا يقتل فيه ولا يتابع ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج.


قرأ الجمهور ، منهم : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : (وَاتَّخِذُوا) بكسر الخاء ؛ على الأمر. وقرأ نافع ، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر.

(٤٦) قال ابن زيد : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين ترون أن أصلّي بكم»؟ فقال عمر : إلى المقام ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). قال : رضي الله ذلك من أعمالهم. وقال أبو عليّ : وجه فتح الخاء أنه معطوف على ما أضيف إليه ، كأنّه قال : وإذ اتّخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أنّ الذي بعده خبر ، وهو قوله : (وَعَهِدْنا).

قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) ، أي : أمرناهما وأوصيناهما. وإسماعيل : اسم أعجميّ ، وفيه لغتان : إسماعيل ، و : إسماعين. وأنشدوا :

قال جواري الحيّ لمّا جينا

هذا وربّ البيت إسماعينا

قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) ، قال قتادة : يريد من عبادة الأوثان والشّرك ، وقول الزّور. فإن قيل : لم يكن هناك بيت ، فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه كانت هناك أصنام ، فأمر بإخراجها ، قاله عكرمة. والثاني : أن معناه : ابنياه مطهّرا ، قاله السّدّيّ. والعاكفون : المقيمون ، يقال : عكف يعكف ويعكف عكوفا : إذا أقام ، ومنه : الاعتكاف.

(٤٧) وقد روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «إنّ الله تعالى ينزل في كلّ ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة تنزل على البيت : ستّون للطّائفين ، وأربعون للمصلّين ، وعشرون للنّاظرين».

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ، البلد : صدر القرى ، والبالد : المقيم بالبلد ، والبلدة : الصّدر ، ووضعت النّاقة بلدتها : إذا بركات. والمراد بالبلد هاهنا : مكّة. ومعنى (آمِناً) : ذا أمن. وأمن البلدة مجاز ، والمراد : أمن من فيه. وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال : أحدها : أنه سأله

____________________________________

(٤٦) منكر بهذا اللفظ. عزاه المصنف لابن زيد ، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو حديث معضل ، وهو متروك الحديث إذا وصله فكيف إذا أرسله؟!. وهو بهذا اللفظ منكر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يسأل أصحابه أين يتوجه ، بل الصحيح أن عمر كان يطلب منه التحول ، ولم يوافقه حتى نزل القرآن.

(٤٧) ضعيف ، أخرجه الطبراني في «الكبير» ١١٤٧٥ من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ساقط ، يوسف بن السفر ، متروك متهم بالكذب. وقال الهيثمي في «المجمع» ٣ / ٢٩٢ : يوسف متروك. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٣١٠ من طريق عبد الرحمن بن السفر قال حدثنا الأوزاعي به. وعبد الرحمن هذا لم أجد له ترجمة ، وأخشى أن يكون قلب اسمه وأن الصواب يوسف بن السفر ، وبكل حال ، هو في حكم المجهول. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ١١٢٤٨ من وجه آخر عن خالد بن يزيد العمري عن محمد بن عبد الله الليثي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به. وإسناده ساقط ، خالد كذاب ، وشيخه متروك. وأخرجه ابن عدي ٦ / ٢٧٨ والخطيب ٦ / ٢٧. من وجه آخر عن محمد بن صفوان عن ابن جريج عن عطاء به. وإسناده واه ، ابن جريج مدلس ، وقد عنعن ، وابن صفوان مجهول ، وعنه محمد بن معاوية ، وهو متروك.


الأمن من القتل. والثاني : من الخسف والقذف. والثالث : من القحط والجدب. قال مجاهد : قال إبراهيم : لمن آمن ، فقال الله عزوجل : ومن كفر فسأرزقه.

قوله تعالى : (فَأُمَتِّعُهُ) ، وقرأ ابن عامر : «فأمتعه» بالتخفيف ، من أمتعت. وقرأ الباقون بالتّشديد من : متّعت. والإمتاع : إعطاء ما تحصل به المتعة. والمتعة : أخذ الحظّ من لذّة ما يشتهى. وبما ذا يمتّعه؟ فيه قولان : أحدهما : بالأمن. والثاني : بالرّزق. والاضطرار : الإلجاء إلى الشّيء ، والمصير : ما ينتهي إليه الأمر.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ). القواعد : أساس البيت ، واحدها : قاعدة. فأمّا قواعد النّساء ؛ فواحدتها : قاعد ، وهي العجوز. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، أي : يقولان : ربّنا ، فحذف ذلك ؛ كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (١) ، أراد : يقولون. و (السَّمِيعُ) بمعنى : السّامع ، لكنه : أبلغ ، لأن بناء فعيل للمبالغة. قال الخطّابيّ : ويكون السّماع بمعنى القبول والإجابة. كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٤٨) «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ، أي : لا يستجاب. وقول المصلّي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله حمد من حمده. وأنشدوا :

دعوت الله حتّى خفت أن لا

يكون الله يسمع ما أقول

إشارة إلى بناء البيت

(٤٩) روى أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «كانت الملائكة تحجّ إلى البيت قبل آدم».

____________________________________

(٤٨) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٢٢ عن زيد بن أرقم ، قال : لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول كان يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل ، والهرم وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها». وله شاهد أخرجه أبو داود ١٥٤٩ وابن أبي شيبة ١٠ / ١٨٧ ، ١٨٨ وأحمد ٣ / ٢٥٥ ـ ٣ / ١٩٢ والطيالسي ١ / ٢٥٨ وابن حبان ١٠٥١ وأبو يعلى ٢٨٤٥ عن أنس. وورد من وجه آخر عند أحمد ٣ / ٢٨٣ والنسائي ٨ / ٢٨٣ و ٢٨٤ عن أنس. وله شاهد أخرجه ابن ماجة ٢٥٠ وصححه الحاكم ١ / ١٠٤ ووافقه الذهبي وأبو يعلى ٦٥٣٧ عن أبي هريرة.

(٤٩) باطل. أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» ٣٩٨٦ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان موضع البيت في زمن آدم عليه‌السلام شبرا أو أكثر علما فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ثم حجّ آدم فاستقبلته الملائكة

__________________

(١) الرعد : ٢٣ ـ ٢٤.


وقال ابن عباس : لمّا أهبط آدم ؛ قال الله تعالى له : يا آدم! اذهب فابن لي بيتا فطف به ، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام ، وبناه من خمسة أجبل : من لبنان ، وطور سيناء ، وطور زيتا ، والجودي ، وحراء ، فكان آدم أوّل من أسّس البيت ، وطاف به ، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطّوفان ، فدرس موضع البيت ، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل. وقال عليّ بن أبي طالب ، عليه‌السلام : لمّا أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت ؛ ضاق به ذرعا ، ولم يدر كيف يصنع ، فأنزل الله عليه كهيئة السّحابة ، فيها رأس يتكلّم ، فقال : يا إبراهيم! علّم على ظلّي ، فلمّا علّم ارتفعت. وفي رواية عنه أنه كان يبني عليها كلّ يوم ، قال : وحفر إبراهيم من تحت السكينة ، فأبدى عن قواعد ، ما تحرّك القاعدة منها دون ثلاثين رجلا. فلمّا بلغ موضع الحجر ، قال لإسماعيل : التمس لي حجرا فذهب يطلب حجرا ، فجاء جبريل بالحجر الأسود ، فوضعه ، قال : من جاءك بهذا الحجر؟ قال : جاء به من لم يتّكل على بنائي وبنائك. وقال ابن عباس ، وابن المسيّب ، وأبو العالية : رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك. وقال السّدّيّ : لمّا أمره ببناء البيت ؛ لم يدر أين يبني ، فبعث الله ريحا ، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأوّل الذي كان البيت عليه قبل الطّوفان.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، قال الزّجّاج : المسلم في اللغة : الذي قد استسلم لأمر الله ، وخضع. والمناسك : المتعبّدات. فكلّ متعبّد منسك ومنسك. ومنه قيل للعابد : ناسك. وتسمّى الذّبيحة المتقرّب بها إلى الله تعالى : النّسيكة. وكأنّ الأصل في النّسك إنّما هو من الذّبيحة لله تعالى.

قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) ، أي : مذابحنا ، قاله مجاهد. وقال غيره : هي جميع أفعال الحجّ. وقرأ ابن كثير : «وأرنا» بجزم الراء. و «رب أرني» و «أرنا اللذين أضلانا». وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ (وَأَرِنا) بكسر الراء في جميع ذلك. وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك ، إلّا أنّهما أسكنا الراء من «أرنا اللذين» وحدها. قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : «أرنا أذين أضلانا» وكثير من العرب يجزم الراء ، فيقول : «أرنا مناسكنا» ، وقرأ بها بعض الثّقات. وأنشد بعضهم :

قالت سليمى اشتر لنا دقيقا

واشتر فعجّل خادما لبيقا

وأنشدني الكسائيّ :

ومن يتّق فإنّ الله معه

ورزق الله مؤتاب وغادي (١)

قال قتادة : أراهما الله مناسكهما : الموقف بعرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، والطّواف ، والسّعي. وقال أبو مجلز : لمّا فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل ، فأراه الطّواف ، ثم أتى به جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبعا ، وقال له : ارم

____________________________________

قالوا : يا آدم من أين جئت؟ قال : حججت البيت ، فقالوا : قد حجته الملائكة قبلك» وإسناده ساقط وعلته سعيد بن ميسرة ، وهو متروك متهم ، وكذبه القطان ، وقال الحاكم : روى عن أنس موضوعات وقال ابن حبان : يروي الموضوعات ، انظر «الميزان» ٢ / ١٦٠.

__________________

(١) في «اللسان» المآب : المرجع ، وأتاب مثل آب ، فعل وافتعل بمعنى.


وكبر ، فرميا وكبّرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فقال له : ارم وكبّر ، فرميا وكبّرا مع كلّ رمية حتى غاب الشّيطان. ثمّ أتى به الجمرة القصوى ، فعرض لهما الشّيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له : ارم وكبر ، فرميا وكبّرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان ، ثم أتى به منى ، فقال : هاهنا يحلق الناس رؤوسهم ، ثمّ أتى به جمعا ، فقال : هاهنا يجمع الناس ، ثمّ أتى به عرفة ، فقال : أعرفت؟ قال : نعم. قال : فمن ثمّ سمّيت عرفات.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) ، في الهاء والميم من (فِيهِمْ) قولان :

أحدهما : أنها تعود على الذّرّيّة ، قاله مقاتل والفرّاء.

والثاني : على أهل مكّة في قوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) ، والمراد بالرّسول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥٠) وقد روى أبو أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قيل : يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال : «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمّي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشّام».

والكتاب : القرآن. والحكمة : السّنّة ، قاله ابن عبّاس. وروي عنه : الحكمة : الفقه والحلال والحرام ، ومواعظ القرآن. وسمّيت الحكمة حكمة ، لأنها تمنع من الجهل.

وفي قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : يأخذ الزّكاة منهم فيطهّرهم بها ، قاله ابن عباس والفرّاء. والثاني : يطهّرهم من الشّرك والكفر ، قاله مقاتل. والثالث : يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء. قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) ، قال الخطّابيّ : العزّ في كلام العرب على ثلاث أوجه : أحدها : بمعنى الغلبة ، يقولون : من عزّ بزّ ، أي : من غلب سلب ، يقال منه : عزّ يعزّ ، بضم العين من يعزّ ، ومنه قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (١). والثاني : بمعنى الشّدة والقوة ، يقال منه : عزّ يعزّ ، بفتح العين من يعزّ. والثالث : أن يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عزّ يعزّ ، بكسر العين من يعزّ ، ويتأول معنى العزيز على أنّه الذي لا يعادله شيء ، ولا مثل له.

____________________________________

(٥٠) حسن صحيح. أخرجه الطيالسي ١١٤٠ وأحمد ٥ / ٢٦٢ ، وابن سعد ١ / ١٠٢ والطبراني ٧٧٢٩ والبيهقي في «الدلائل» ١ / ٨٤ وإسناده ضعيف لضعف فرج بن فضالة ، والسياق لأحمد ، وقال الهيثمي في «المجمع» ٨ / ٢٢٢ : إسناد أحمد حسن. وله شاهد أخرجه أحمد ٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨ والبخاري في «التاريخ الكبير» ٦ / ٦٨ وابن حبان ٦٤٠٤ وابن أبي عاصم في «السنة» ٤٠٩ والبيهقي في «الدلائل» ١ / ٨٠ و ٢ / ٣٠ عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا ، وإسناده حسن في الشواهد لأجل سعيد بن سويد. وصححه الحاكم ٢ / ٦٠٠ ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبّان.

وورد عن خالد بن معدان عن نفر من الصحابة مرفوعا أخرجه الحاكم ٢ / ٦٠٠ والطبري ٢٠٧٥ والبيهقي في «الدلائل» ١ / ٨٣ وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن كثير في «البداية» ٢ / ٢٧٥ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وهو حديث حسن في أقل تقدير بل هو صحيح والله أعلم ، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٧١٠ بتخريجنا.

__________________

(١) ص : ٢٣.


(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ). سبب نزولها : أن عبد الله بن سلّام دعا ابني أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام ، فأسلم سلمة ، ورغب عن الإسلام مهاجر ، فنزلت هذه الآية (١) ، قاله مقاتل. قال الزّجّاج : و «من» لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها التّقرير والتّوبيخ. والمعنى : ما يرغب عن ملّة إبراهيم إلّا من سفه نفسه. ويقال : رغبت في الشيء : إذا أردته. ورغبت عنه : إذا تركته. وملّة إبراهيم : دينه.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناها : إلّا من سفّه نفسه ، قاله الأخفش ويونس. قال يونس : ولذلك تعدّى إلى النّفي فنصبها ، وقال الأخفش : نصبت النّفس لإسقاط حرف الجرّ ، لأنّ المعنى : إلّا من سفه في نفسه. قال الشاعر :

نغالي اللحم للأضياف نيئا

ونرخصه إذا نضج القدور

والثاني : إلّا من أهلك نفسه ، قاله أبو عبيدة. والثالث : إلّا من سفهت نفسه ، كما يقال : غبن فلان رأيه ، وهذا مذهب الفرّاء وابن قتيبة. قال الفرّاء : نقل الفعل عن النّفس إلى ضمير «من» ، ونصبت النّفس على التّشبيه بالتّفسير ، كما يقال : ضقت بالأمر ذرعا ، يريدون : ضاق ذرعي به ، ومثله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٢). والرابع : إلّا من جهل نفسه ، فلم يفكّر فيها ، وهو اختيار الزجّاج.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، قال ابن الأنباريّ : لمن الصّالحي الحال عند الله تعالى. وقال الزّجّاج : الصّالح في الآخرة : الفائز.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) ، وذلك حين وقوع الاصطفاء ، قال ابن عباس : لمّا رأى الكوكب والقمر والشمس ، قال له ربّه : أسلم ، أي : أخلص. قوله تعالى : (وَوَصَّى) ، قرأ ابن عامر وأهل المدينة : «وأوصى» بألف ، مع تخفيف الصاد ، والباقون بغير ألف مشددة الصاد ، وهذا لاختلاف المصاحف. أخبرنا ابن ناصر ، قال : أخبرنا ثابت ، قال : أخبرنا ابن قشيش ، قال : أخبرنا ابن حيّويه ، قال : حدثنا ابن الأنباريّ ، قال : أخبرنا ثعلب ، قال : أملى عليّ خلف بن هشام البزّاز ، قال : اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفا :

كتب أهل المدينة : «وأوصى» ، وأهل العراق : «ووصّى».

وكتب أهل المدينة : «سارعوا إلى مغفرة» بغير واو ، وأهل العراق : «وسارعوا» (٣).

وكتب أهل المدينة : «يقول الذين آمنوا» ، وأهل العراق : «ويقول» (٤).

__________________

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهذا معضل ، ومقاتل متهم. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٦٣ بقوله قال ابن عيينة : وروى بمثله ، ولم أره مسندا. الخلاصة : هو أثر واه بمرة ، والمتن منكر ، والصواب عموم الآية.

(٢) مريم : ٤.

(٣) آل عمران : ١٣٣.

(٤) المائدة : ٥٣.


وكتب أهل المدينة : «من يرتدد» ، وأهل العراق : «من يرتدّ» (١).

وكتب أهل المدينة : «الذين اتّخذوا مسجدا» ، وأهل العراق : «والذين» (٢).

وكتب أهل المدينة : «خيرا منهما منقلبا» ، وأهل العراق : «منها» (٣).

وكتب أهل المدينة : «فتوكّل على العزيز» ، وأهل العراق : «وتوكّل» (٤).

وكتب أهل المدينة : «وأن يظهر في الأرض الفساد» ، وأهل العراق : «أو أن يظهر» (٥).

وكتب أهل المدينة في «حم عسق» : «بما كسبت أيديكم» بغير فاء ، وأهل العراق : «فبما» (٦).

وكتب أهل المدينة : «ما تشتهيه الأنفس» (٧) بالهاء ، وأهل العراق : «ما تشتهي».

وكتب أهل المدينة : «فإن الله الغني الحميد» في سورة الحديد ، وأهل العراق : «فإن الله هو الغني» (٨). وكتب أهل المدينة : «فلا يخاف عقباها» بالفاء ، وأهل العراق : «ولا يخاف» (٩).

ووصّى أبلغ من أوصى ، لأنّها تكون لمرّات كثيرة ، وهاء «بها» تعود على الملّة ، قاله عكرمة والزجّاج. قال مقاتل : وبنوه أربعة : إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومدائن. وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية. قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، يريد : الزموا الإسلام ، فإذا أدرككم الموت صادفكم عليه.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ).

(٥١) سبب نزولها : أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهوديّة؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ، أي : مضت ، يشير إلى إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦))

____________________________________

(٥١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم ، صنف تفسيرا وضع فيه أحاديث كثيرة ، وقد نقل عنه المفسرون فيما بعد. وذكره البغوي في «تفسيره» ١ / ١١٨ بقوله : قيل. فالخبر لا شيء.

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) التوبة : ١٠٧.

(٣) الكهف : ٣٦.

(٤) الشعراء : ٢١٧.

(٥) المؤمن : ٢٦.

(٦) الشورى : ٣٠.

(٧) الزخرف : ٧١.

(٨) الحديد : ٢٤.

(٩) الشمس : ١٥.


قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى). معناه : قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النّصارى : كونوا نصارى ، تهتدوا. (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ، المعنى : بل نتّبع ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته ، وفي الحنيف قولان : أحدهما : أنه المائل إلى العبادة ، قال الزجّاج : الحنيف في اللغة : المائل إلى الشّيء ، أخذ من قولهم : رجل أحنف ، وهو الذي تميل قدماه كلّ واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أمّ الأحنف ترقّصه (١) :

والله لو لا حنف برجله

ودقّة في ساقه من هزله

ما كان في فتيانكم من مثله والثاني : أنه المستقيم ، ومنه قيل للأعرج : حنيف ، نظرا له إلى السلامة ، هذا قول ابن قتيبة. وقد وصف المفسّرون الحنيف بأوصاف ، فقال عطاء : هو المخلص ، وقال ابن السّائب : هو الذي يحجّ. وقال غيرهما : هو الذي يوحّد ويحجّ ، ويضحّي ويختتن ، ويستقبل الكعبة.

فأمّا الأسباط : فهم بنو يعقوب ، وكانوا اثني عشر رجلا ، قال الزجّاج : السّبط في اللغة : الجماعة الذين يرجعون إلى ربّ واحد. والسّبط في اللغة : الشّجرة ، فالسّبط : الذين هم من شجرة واحدة.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧))

قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا) ، يعني : أهل الكتاب. وفي قوله تعالى : (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : مثل إيمانكم ، فزيدت الباء للتّوكيد ، كما زيدت في قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (٢) ، قاله ابن الأنباريّ. والثاني : أنّ المراد بالمثل هاهنا : الكتاب ، وتقديره : فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم ، قاله أبو معاذ النّحويّ. والثالث : أنّ المثل هاهنا : صلة ، والمعنى : فإن آمنوا بما آمنتم به. ومثله قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) ، أي : ليس كهو شيء. وأنشدوا :

يا عاذلي دعني من عذلكا

مثلي لا يقبل من مثلكا

أي : أنا لا أقبل منك. فأمّا الشّقاق ؛ فهو المشاقّة والعداوة ، ومنه قولهم : فلان قد شقّ عصا المسلمين ، يريدون : فارق ما اجتمعوا عليه من اتّباع إمامهم ، فكأنّه صار في شقّ غير شقّهم.

قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) ، هذا ضمان لنصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))

قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ). سبب نزولها : أنّ النّصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد ، فأتى عليه سبعة أيام ، صبغوه في ماء لهم ، يقال له : المعموديّة ، ليطهّروه بذلك ، ويقولون : هذا طهور مكان

__________________

(١) في اللسان : أرقصت الأم صبيها ورقّصته : نزّته. والمنزّ : المهد ، مهد الصبي.

(٢) مريم : ٢٤.

(٣) الشورى : ١١.


الختان ، فإذا فعلوا ذلك ؛ قالوا : صار نصرانيا حقّا ، فنزلت هذه الآية (١) ، قاله ابن عباس.

قال ابن مسعود وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، وابن زيد : (صِبْغَةَ اللهِ) : دينه. قال الفرّاء : (صِبْغَةَ اللهِ) مردودة على الملّة (٢). وقرأ ابن عبلة : «صبغة الله» بالرفع على معنى : هذه صبغة الله. وكذلك قرأ : «ملة إبراهيم» بالرفع أيضا على معنى : هذه ملّة إبراهيم.

قال ابن قتيبة : المراد بصبغة الله : الختان ، فسمّاه صبغة ، لأنّ النّصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون : هذا طهرة لهم ، كالختان للحنفاء ، فقال الله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) ، أي : الزموا صبغة الله ، لا صبغة النّصارى أولادهم ، وأراد بها ملّة إبراهيم ، وقال غيره : إنّما سمّي الدّين صبغة لبيان أثره على الإنسان ، كظهور الصّبغ على الثّوب.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩))

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) ، قال ابن عباس : يريد : يهود المدينة ، ونصارى نجران. والمحاجّة : المخاصمة في الدّين ، فإنّ اليهود قالت : نحن أهل الكتاب الأوّل. وقيل : ظاهرت اليهود عبدة الأوثان ، فقيل لهم : تزعمون أنّكم موحّدون ، ونحن نوحّد ، فلم ظاهرتم من لا يوحّد؟! قوله تعالى : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، قال أكثر المفسّرين : هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة ، ثمّ نسخ بآية السّيف.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) .. الآية. سبب نزولها : أنّ يهود المدينة ، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين : إنّ أنبياء الله كانوا منّا من بني إسرائيل ، وكانوا على ديننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل (٣). ومعنى الآية : إنّ الله قد أعلمنا بدين الأنبياء ، ولا أحد أعلم به منه. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو عمرو «أم يقولون» بالياء على وجه الخبر عن اليهود. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم : (تَقُولُونَ) بالتاء لأنّ ما قبلها مخاطبة ، وهي (أَتُحَاجُّونَنا) ، وبعدها (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ).

وفي الشهادة التي كتموها قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين ، فكتموها ، قاله الحسن ، وزيد بن أسلم. والثاني : أنهم كتموا الإسلام وأمر محمّد وهم يعلمون أنه نبيّ ودينه الإسلام ، قاله أبو العالية ، وقتادة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس بدون إسناد ، فهو لا شيء. وأخرجه الطبري ٢١١٨ عن قتادة.

(٢) أي بدل منها.

(٣) عزاه لمقاتل وهو متروك متهم كما تقدم ، فهذا السبب ليس بشيء.


(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢))

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ). فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير. والثاني : أنهم أهل مكّة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم المنافقون ، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود ، وابن عباس. وقد يمكن أن يكون الكلّ قالوا ذلك ، والآية نزلت بعد تحويل القبلة. والسّفهاء : الجهلة. ما ولّاهم ، أي : صرفهم عن قبلتهم ، يريد : قبلة المقدس.

واختلف العلماء في مدّة صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ، بعد قدومه المدينة على ستة أقوال :

(٥٢) أحدها : أنه ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر ، قاله البراء بن عازب.

والثاني : سبعة عشر شهرا ، قاله ابن عباس. والثالث : ثلاثة عشر شهرا ، قاله معاذ بن جبل. والرابع : تسعة أشهر ، قاله أنس بن مالك. والخامس : ستة عشر شهرا. والسادس : ثمانية عشر شهرا ، روي القولان عن قتادة.

وهل كان استقباله بيت المقدس برأيه ، أو عن وحي؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه ، قاله ابن عباس (١) ، وابن جريج.

____________________________________

(٥٢) صحيح. أخرجه البخاري ٤٤٨٦ و ٧٢٥٢ ومسلم ٥٢٥ والترمذي ٣٤٠ وأحمد ٤ / ٢٨٣ وابن ماجة ١٠١٠ وابن حبان ١٧١٦ عن البراء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ـ أو سبعة عشر شهرا ـ وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلّى صلاة العصر وصلّى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلّى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون قال : أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مكّة ، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). واللفظ للبخاري.

ـ وقال الحافظ في «الفتح» ١ / ٩٦ ـ ٩٧ تعليقا على قوله في الحديث «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا» :

رواه أبو عوانة في صحيحه عن عمّار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال «ستة عشر» من غير شك وكذا لمسلم وللنسائي ولأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد ، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا ، ومن شك تردد في ذلك ، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح ، وبه جزم الجمهور ، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» وهو مبني على القدوم الذي كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. ومن الشذوذ رواية «ثمانية عشر شهرا» وثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين ، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة. والاعتماد على القول الأول.

__________________

(١) هذا الراجح ، فقد أخرج أحمد ٢٢٥٢ والبزار كما في «المجمع» ١٩٦٧ كلاهما عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي وهو بمكة نحو البيت المقدس والكعبة بين يديه ، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ، ثم صرف إلى الكعبة» سكت عليه الحافظ في «تخريجه» ١ / ٢٠٠ وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح اه. وله شواهد كثيرة.


والثاني : أنه كان باجتهاده ورأيه ، قاله الحسن وأبو العالية ، وعكرمة ، والرّبيع.

وقال قتادة : كان الناس يتوجّهون إلى أيّ جهة شاؤوا ، بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس. وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان : أحدهما : ليتألّف أهل الكتاب ، ذكره بعض المفسّرين. والثاني : لامتحان العرب بغير ما ألفوه ، قاله الزّجّاج.

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). سبب نزولها : أنّ اليهود قالوا : قبلتنا قبلة الأنبياء ، ونحن عدل بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. والأمّة : الجماعة. والوسط : العدل ، قاله ابن عباس ، وأبو سعيد ، ومجاهد ، وقتادة ، وقال ابن قتيبة : الوسط : العدل الخيار ، ومنه قوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) (١) ، أي : أعدلهم وخيرهم. قال الشّاعر :

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وأصل ذلك أنّ خير الأشياء أوساطها ، والغلوّ والتّقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطّبريّ أنه من التّوسّط في الفعل ، فإنّ المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود ، فإنهم قتلوا الأنبياء ، وبدّلوا كتاب الله ، ولم يغلوا كالنّصارى ، فإنهم زعموا أنّ عيسى ابن الله. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : في هذا الكلام محذوف ، ومعناه : جعلت قبلتكم وسطا بين القبلتين ، فإنّ اليهود يصلّون نحو المغرب ، والنّصارى نحو المشرق ، وأنتم بينهما.

قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : لتشهدوا للأنبياء على أممهم.

(٥٣) روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجيء النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل. ويجيء النبيّ ومعه الرّجلان ، ويجيء النبيّ ومعه أكثر من ذلك ، فيقال لهم : أبلّغكم هذا؟ فيقولون : لا ، فيقال للنبيّ : أبلّغتهم؟ فيقول : نعم ، فيقال : من يشهد لك؟ قال : محمّد وأمّته فيشهدون أنّ الرّسل قد بلّغوا فيقال : ما علمكم؟ فيقولون : أخبرنا نبيّنا أنّ الرّسل قد بلّغوا ، فصدّقناه ، فذلك قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)» ، وهذا مذهب عكرمة ، وقتادة. والثاني : أن معناه : لتكونوا شهداء لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمم : اليهود والنّصارى والمجوس ، قاله مجاهد.

____________________________________

(٥٣) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٣٩ و ٤٤٨٧ و ٧٣٤٩ والترمذي ٢٩٦١ وبإثر حديث ٢٩٦٥ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٠٦ و ١١٠٠٧ وابن ماجة ٥٢٨٤ والطبري ٢١٦٥ و ٢١٦٦ وابن حبان ٧٢١٦ و ٦٤٧٧ وأحمد ٣ / ٩ و ٥٨ مختصرا ومطوّلا ، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصدره عند البخاري وغيره «يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك ...».

__________________

(١) القلم : ٢٨.


قوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما ذا يشهد عليهم؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بأعمالهم ، قاله ابن عباس ، وأبو سعيد الخدريّ ، وابن زيد. والثاني : بتبليغهم الرّسالة ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : بإيمانهم ، قاله أبو العالية. فيكون على هذا «عليكم» بمعنى : لكم. قال عكرمة : لا يسأل عن هذه الأمّة إلا نبيّها.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ، يريد : قبلة بيت المقدس. (إِلَّا لِنَعْلَمَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : لنرى. والثاني : لنميز. رويا عن ابن عباس. والثالث : لنعلمه واقعا ، إذ علمه قديم ، قاله جماعة من أهل التّفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس : «لنرى». والرابع : أنّ العلم راجع إلى المخاطبين ، والمعنى : لتعلموا أنتم ، قاله الفرّاء.

قوله تعالى : (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ، أي : يرجع إلى الكفر ، قاله ابن زيد ، ومقاتل.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) ، في المشار إليها قولان :

أحدهما : أنه التّولية إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل.

والثاني : أنها قبلة بيت المقدس قبل التّحوّل عنها ، قاله أبو العالية ، والزجّاج.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، نزل على سبب :

(٥٤) وهو أنّ المسلمين قالوا : يا رسول الله ، أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

والإيمان المذكور هاهنا أريد به : الصّلاة في قول الجماعة. وقيل : إنّما سمى الصّلاة إيمانا ، لاشتمالها على قول ونيّة وعمل. قال الفرّاء : وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين ، والمعنى : فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة لأنهم داخلون معهم في الملّة. قوله تعالى : (لَرَؤُفٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «لرؤوف» على وزن : لرعوف ، في جميع القرآن ، ووجهها : أن فعولا أكثر في كلامهم من فعل ، فباب ضروب وشكور ، أوسع من باب حذر ويقظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر ، عن عاصم : «لرؤف» على وزن : رعف ، ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز. قال جرير :

ترى للمسلمين عليك حقا

كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم

والرؤوف بمعنى : الرّحيم ، هذا قول الزّجّاج ، وذكر الخطّابيّ عن بعض أهل العلم أن الرّأفة أبلغ الرّحمة وأرقّها. قال : ويقال : الرّأفة أخصّ ، والرّحمة أعمّ.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤))

____________________________________

(٥٤) صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٨٠ والترمذي ٢٩٦٤. وأحمد ١ / ٩٥ ـ ٣٠٤ والطيالسي ٢٦٧٣ وابن حبان ١٧١٨ والحاكم ٢ / ٢٦٩ من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وفي سماك بن حرب كلام ، لكن توبع عليه ، حيث ورد معناه من حديث البراء المتقدم برقم ٥٢.


قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ). سبب نزولها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أن يوجّه إلى الكعبة ، قاله البراء (١) ، وابن عباس ، وابن المسيّب ، وأبو العالية ، وقتادة.

وذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ). واختلفوا في سبب اختيار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة على بيت المقدس على قولين : أحدهما : لأنّها كانت قبلة إبراهيم ، روي عن ابن عباس. والثاني : لمخالفة اليهود ، قاله مجاهد.

ومعنى تقلّب وجهه : نظره إليها يمينا وشمالا. و (في) بمعنى إلى ، و (تَرْضاها) بمعنى : تحبّها. و (الشّطر) : النّحو من غير خلاف.

(٥٥) قال ابن عمر : أتى الناس آت وهم في صلاة الصّبح بقباء ، فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وأمر أن يستقبل الكعبة ، ألا فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا وهم في صلاتهم.

فصل : اختلف العلماء أيّ وقت حوّلت القبلة؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها حوّلت في صلاة الظّهر يوم الاثنين للنّصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، قاله البراء بن عازب (٢) ، ومعقل بن يسار. والثاني : أنها حوّلت يوم الثّلاثاء للنّصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة ، قاله قتادة. والثالث : جمادى الآخرة ، حكاه ابن سلامة المفسّر عن إبراهيم الحربيّ.

وفي (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قولان : أحدهما : اليهود ، قاله مقاتل. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى : (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) يشير إلى ما أمر به من التّوجّه إلى الكعبة ، ثم توعّدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا. ومن أين علموا أنه الحقّ؟ فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ في كتابهم الأمر بالتّوجّه إليها ، قاله أبو العالية. والثاني : يعلمون أنّ المسجد الحرام قبلة إبراهيم. والثالث : أنّ في كتابهم أنّ محمّدا رسول صادق ، فلا يأمر إلا بحقّ. والرابع : أنهم يعلمون جواز النّسخ.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ). سبب نزولها أنّ يهود المدينة ونصارى

____________________________________

(٥٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٣ و ٤٤٩١ و ٩٤٩٤ و ٧٢٥١ ومسلم ٥٢٦ والنسائي ٤٩٣ وأحمد ٢ / ١٦ ـ ٢٦ ـ ١٠٥ ـ ١١٣ والدارمي ١ / ٢٨١ ومالك ١ / ١٩٥ والشافعي في «مسنده» ١٩١ وابن أبي شيبة ١ / ٣٣٥ والترمذي ٣٤١ مختصرا وأبو عوانة ١ / ٣٩٤ وابن حبان ١٧١٥ والبيهقي ٢ / ٢ ـ ١١ والبغوي في «شرح السنة» ٤٤٥ وفي «تفسيره» ١٠٠ من طرق من حديث ابن عمر.

__________________

(١) تقدّم برقم ٥٢.

(٢) تقدّم برقم ٥٢.


نجران قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل (١).

قوله تعالى : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) ، يريد : الكعبة (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لأنّ اليهود يصلّون قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنّصارى قبل المشرق (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) فصلّيت إلى قبلتهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، قال مقاتل : يريد بالعلم : البيان.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ). في هاء «يعرفونه» قولان : أحدهما : أنّها تعود على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : تعود على صرفه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضا. وفي الحقّ الذي كتموه قولان : أحدهما : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد. والثاني : أنه التّوجّه إلى الكعبة ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل في آخرين. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : وهم يعلمون أنه حقّ. والثاني : وهم يعلمون ما على مخالفته من العقاب.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). قال الزّجّاج : أي : هذا الحقّ من ربّك. والممترون : الشّاكّون ، والخطاب عامّ.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨))

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، أي : لكلّ أهل دين وجهة. المراد بالوجهة : القبلة ، قاله ابن عباس في آخرين. قال الزّجّاج : يقال : جهة ، ووجهة. وفي «هو» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى ، فالمعنى : الله مولّيها إيّاهم ، أي : أمرهم بالتّوجّه إليها.

والثاني : ترجع إلى المتولّي ، فالمعنى : هو مولّيها نفسه ، فيكون «هو» ضمير كلّ.

والثالث : يرجع إلى البيت ، قاله مجاهد : أمر كلّ قوم أن يصلّوا إلى الكعبة. والجمهور يقرءون : «موليها» ، وقرأ ابن عامر ، والوليد عن يعقوب : «هو مولّاها» بألف بعد اللام ، فضمير «هو» لكلّ ، ومعنى القراءتين متقارب.

قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ، أي : بادروها. وقال قتادة : لا تغلبوا على قبلتكم ، (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) ، قال ابن عباس وغيره : هذا في يوم القيامة. فأمّا إعادة قوله :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

__________________

(١) تكرر عن مقاتل سبب النزول هذا ، ومقاتل متروك ، فخبره لا شيء.


لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠))

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، فإنه تكرير تأكيد ، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبدا إلى قبلتهم.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) ، في «الناس» قولان : أحدهما : أنهم أهل الكتاب ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : مشركو العرب ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. فمن قال بالأوّل ؛ قال : احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك تركت قبلة بيت المقدس؟! إن كانت ضلالة ؛ فقد دنت الله بها ، وإن كانت هدى ، فقد نقلت عنها. وقال قتادة : قالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قال بالثاني ؛ قال : احتجاج المشركين أنهم قالوا : قد رجع إلى قبلتكم ، ويوشك أن يعود إلى دينكم.

وتسمية باطلهم حجّة على وجه الحكاية عن المحتجّ به ، كقوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (١) ، وقوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (٢). قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، قال الزّجّاج : معناه : إلّا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك عليّ حجّة إلّا الظّلم ، أي : إلّا أن تظلمني ، أي : ما لك عليّ البتة ولكنك تظلمين. قال ابن عباس : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) في انصرافكم إلى الكعبة (وَاخْشَوْنِي) في تركها.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١))

قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) ، قال الزّجّاج : «كما» لا تصلح أن تكون جوابا لما قبلها ، والأجود أن تكون معلّقة بقوله : (فَاذْكُرُونِي) ، وقد روي معناه عن عليّ ، وابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل. والآية خطاب لمشركي العرب. وفي قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ) ، ثلاثة أقوال ، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم. والكتاب : القرآن. والحكمة : السّنّة.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي). قال ابن عباس ، وابن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي. وقال إبراهيم بن السّرّي : كما أنعمت عليكم بالرّسالة ، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. قال : فإن قيل : كيف يكون جواب : (كَما أَرْسَلْنا)(فَاذْكُرُونِي) ، فإنّ قوله : (فَاذْكُرُونِي) أمر ، وقوله : (أَذْكُرْكُمْ) جزاؤه ؛ فالجواب : أنّ المعنى : إن تذكروني أذكركم.

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) ، الشّكر : الاعتراف بحقّ المنعم ، مع الثّناء عليه.

__________________

(١) الشورى : ١٦.

(٢) غافر : ٨٣.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). سبب نزولها : أنّ المشركين قالوا : سيرجع محمّد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة. وقال ابن عباس : استعينوا على طلب الآخرة بالصّبر على أداء الفرائض ، وبالصّلاة ، وقد سبق الكلام في الصّبر ، وبيان الاستعانة به وبالصّلاة.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ). سبب نزولها : أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأحد : مات فلان ببدر ، مات فلان بأحد ، فنزلت هذه الآية (١) ، قاله ابن عباس.

ورفع الأموات بإضمار مكنيّ من أسمائهم ، أي : لا تقولوا : هم أموات ، ذكر نحوه الفرّاء. فإن قيل : فنحن نراهم موتى ، فما وجه النّهي؟ فالجواب أنّ المعنى : لا تقولوا : هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنّات ، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء ، بل هم أحياء ، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة ، فهم أحياء من هذه الجهة ، وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الأرواح ؛ ذكره ابن الأنباريّ ، فإن قيل : أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ فالجواب : أنّ الشهداء فضّلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنّة ومآكلها ، وغيرهم منعم بما دون ذلك ، ذكره ابن جرير الطّبريّ.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ). قال الفرّاء : «من» تدلّ على أنّ لكلّ صنف منها شيئا مضمرا ، فتقديره : بشيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص الأموال.

وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال : أحدها : أنهم أصحاب النبيّ خاصّة ، قاله عطاء. والثاني : أنهم أهل مكّة. والثالث : أنّ هذا يكون في آخر الزّمان. قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النّخلة إلّا تمرة. والرابع : أنّ الآية على عمومها.

فأمّا الخوف ؛ فقال ابن عباس : وهو الفزع في القتال. والجوع : المجاعة التي أصابت أهل مكّة سبع سنين. ونقص من الأموال : ذهاب أموالهم ، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم ، والثّمرات لم تخرج كما كانت تخرج. وحكى أبو سليمان الدّمشقيّ عن بعض أهل العلم : أنّ الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصّوم ، ونقص الأموال : ما فرض فيها من الزّكاة والحجّ ونحو ذلك. والأنفس : ما يستشهد منها في القتال ، والثّمرات : ما فرض فيها من الصّدقات. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على هذه البلاوي

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر» ١ / ٢٧١ ونسبه للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس ، وما قبل ابن عباس سلسلة الكذب.


بالجنّة. واعلم أنه إنّما أخبرهم بما سيصيبهم ، ليوطّنوا أنفسهم على الصّبر ، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع.

(قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) ، يريدون : نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، يريدون : نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا ، والثّواب على صبرنا. قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ، إذ يقول : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) (١). قال الفرّاء : وللعرب في المصيبة ثلاث لغات : مصيبة ، ومصابة ، ومصوبة ، زعم الكسائيّ أنه سمع أعرابيا يقول : جبر الله مصوبتك.

(أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ). قال سعيد بن جبير : الصّلوات من الله : المغفرة ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) بالاسترجاع. وقال عمر بن الخطّاب : نعم العدلان ، ونعمت العلاوة : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧).

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ). في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٥٦) أحدها : أنّ رجالا من الأنصار ممّن كان يهلّ لمناة في الجاهلية ـ ومناة : صنم كان بين مكّة والمدينة ـ قالوا : يا رسول الله! إنّا كنّا لا نطوّف بين الصّفا والمروة تعظيما لمناة ، فهل علينا من حرج أن نطوّف بهما؟ فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن عائشة.

(٥٧) والثاني : أنّ المسلمين كانوا لا يطّوفون بين الصّفا والمروة ، لأنه كان على الصّفا تماثيل وأصنام ؛ فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة عن ابن عباس.

____________________________________

(٥٦) صحيح. أخرجه البخاري ١٧٩٠ ومسلم ١٢٧٧ وأبو داود ١٩٠١ وابن ماجة ٢٩٨٦ وابن خزيمة ٢٧٦٩ والطبري ٢٣٥٧ وابن حبان ٣٨٣٩ من طريق هشام بن عروة عن عروة عن عائشة.

ـ وأخرجه البخاري ١٦٤٣ ومسلم ١٢٧٧ والترمذي ٢٩٦٥ والنسائي ٥ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ والحميدي ٢١٩ وأحمد ٦ / ١٤٤ وابن حبان ٣٨٤٠ عن الزهري عن عروة عن عائشة.

(٥٧) صحيح. أخرجه الحاكم ٢ / ٢٧٢ من طريق أبي مالك عن ابن عباس ، وإسناده حسن في الشواهد ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي. وأخرجه ٢ / ٢٧١ من وجه آخر ، وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري ٢٣٤٦ من وجه آخر ، وفيه جابر الجعفي متروك ، والحجة فيما تقدم.

__________________

(١) يوسف : ٨٤.


(٥٨) وقال الشّعبيّ : كان وثن على الصّفا يدعى : إساف ، ووثن على المروة يدعى : نائلة ، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما ، فلما جاء الإسلام كفّوا عن السّعي بينهما ، فنزلت هذه الآية.

(٥٩) والثالث : أنّ الصحابة قالت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا كنّا نطّوف في الجاهليّة بين الصّفا والمروة ، وإنّ الله تعالى ذكر الطّواف بالبيت ، ولم يذكره بين الصّفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطّوّف بهما ، فنزلت هذه الآية. رواه الزّهريّ ، عن أبي بكر بن عبد الرّحمن عن جماعة من أهل العلم.

قال إبراهيم بن السّري : الصّفا في اللغة : الحجارة الصّلبة الصّلدة التي لا تنبت شيئا ، وهو جمع ، واحده صفاة وصفا ، مثل : حصاة وحصى. والمروة : الحجارة الليّنة ، وهذان الموضعان من شعائر الله ، أي : من أعلام متعبّداته. وواحد الشّعائر : شعيرة. والشّعائر : كلّ ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح. والشّعائر : من شعرت بالشّيء : إذا علمت به ، فسمّيت الأعلام التي هي متعبّدات الله : شعائر. والحجّ في اللغة : القصد ، وكذلك كلّ قاصد شيئا فقد اعتمره. والجناح : الإثم ، أخذ من جنح : إذا مال وعدل ، وأصله من جناح الطّائر ، وإنما اجتنب المسلمون الطّواف بينهما ، لمكان الأوثان ، فقيل لهم : إنّ نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما ، فأعلم الله عزوجل أنه لا جناح في التّطوّف بهما ، وأنّ من تطوّع بذلك فإنّ الله شاكر عليم. والشّكر من الله ، المجازاة والثّناء الجميل ، والجمهور قرءوا (وَمَنْ تَطَوَّعَ) بالتاء ونصب العين ، منهم : ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ «يطوع» بالياء وجزم العين. وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات.

فصل : اختلفت الرّواية عن إمامنا أحمد في السّعي بين الصّفا والمروة ، فنقل الأثرم أنّ من ترك السّعي لم يجزه حجه. ونقل أبو طالب : لا شيء في تركه عمدا أو سهوا ، ولا ينبغي أن يتركه. ونقل الميمونيّ أنه تطوّع (١).

____________________________________

(٥٨) مرسل ، أخرجه الطبري ٢٣٤١ و ٢٣٤٢ و ٢٣٤٣ بسند صحيح عن الشعبي ، وهذا مرسل.

(٥٩) هو عجز الحديث المتقدم برقم ٥٦.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ١٧٨ : واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، فقال الشافعي وابن حنبل : هو ركن ، وهو المشهور من مذهب مالك لقوله عليه‌السلام : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» ، فمن تركه عامدا أو ناسيا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة ، فيطوف ويسعى ؛ لأن السعي لا يكون إلّا متصلا بالطّواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا ، فإن أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي : عليه هدي ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي : ليس بواجب فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم ، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه‌الله تعالى. وقال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ١٩٩ : إن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة. وقيل : بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي ومن وافقهم واحتجوا بقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً). والقول الأول أرجح لأنه عليه‌السلام طاف بينهما وقال «لتؤخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلّا ما خرج بدليل والله أعلم.


قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) ، قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود ، كتموا ما أنزل الله في التّوراة من البيّنات والهدى (١). فالبيّنات : الحلال والحرام والحدود والفرائض. والهدى : نعت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) ، قال مقاتل : لبني إسرائيل ، وفي الكتاب قولان : أحدهما : أنه التّوراة ، وهو قول ابن عباس. والثاني : التّوراة والإنجيل ، قاله قتادة. (أُولئِكَ) إشارة إلى الكاتمين (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) قال ابن قتيبة : أصل اللعن في اللغة : الطّرد ، ولعن الله إبليس ، أي : طرده ، ثم انتقل ذلك فصار قولا. قال الشّمّاخ وذكر ماء :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

أي : الطّريد. وفي اللاعنين أربعة أقوال :

(٦٠) أحدها : أنّ المراد بهم : «دوابّ الأرض» ، رواه البراء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة. قال مجاهد : يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم.

والثاني : أنهم المؤمنون ، قاله عبد الله بن مسعود. والثالث : أنهم الملائكة والمؤمنون ، قاله أبو العالية ، وقتادة. والرابع : أنهم الجنّ والإنس وكلّ دابّة ، قاله عطاء.

فصل : وهذه الآية توجب إظهار علوم الدّين ، منصوصة كانت أو مستنبطة ، وتدلّ على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله.

(٦١) وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال : إنّكم تقولون : أكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله الموعد ، وايم الله : لو لا آية في كتاب الله ما حدّثت أحدا بشيء أبدا ، ثمّ تلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) ... إلى آخرها.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا). قال ابن مسعود : إلّا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم ، وبيّنوا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم.

فصل : وقد ذهب قوم إلى أنّ الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه ، وهذا ليس بنسخ ، لأنّ الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ ، وذلك يقتضي التّخصيص دون النّسخ ، ومما يحقّق هذا أنّ

____________________________________

(٦٠) ضعيف ، أخرجه ابن ماجة ٤٠٢١ وفيه ليث ، وهو ضعيف أعله البوصيري في الزوائد بضعف ليث بن أبي سليم. وانظر «تفسير القرطبي» ٧٧٣ بتخريجنا.

(٦١) صحيح. أخرجه البخاري ١١٨ من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.

__________________

(١) إسناده ساقط ، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٧٨ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي متهم بالكذب كما تقدم ، وأبو صالح متروك ، لكن كون المراد بالآيات اليهود هو ظاهر القرآن ، وورد عن ابن عباس أخرجه الطبري ٢٣٧٦ بسند فيه مجهول. وورد من مرسل قتادة ، أخرجه برقم ٢٣٨٠ ومن مرسل مجاهد برقم ٢٣٧٧ ومن مرسل السدي برقم ٢٣٨١.

ـ الخلاصة : أصل الخبر محفوظ بشواهده.


النّاسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر ، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ). إنّما شرط الموت على الكفر ، لأنّ حكمه يستقرّ بالموت عليه ، فإن قيل : كيف قال : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، وأهل دينه لا يلعنونه ، فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّهم يلعنونه في الآخرة ، قال الله عزوجل : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، وقال : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها). والثاني : أنّ المراد بالنّاس هاهنا المؤمنون ، قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل. فيكون على هذا من العامّ الذي أريد به الخاصّ. والثالث : أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها : لعنة جميع النّاس تغليبا لحكم الأكثر على الأقلّ.

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها تعود إلى اللعنة ، قاله ابن مسعود ، ومقاتل. والثاني : أنها ترجع إلى النّار ، وإن لم يجر لها ذكر فقد علمت.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). قال ابن عباس : إنّ كفار قريش قالوا : يا محمّد صف لنا ربّك وانسبه ، فنزلت هذه الآية ، وسورة الإخلاص. والإله بمعنى : المعبود.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). في سبب نزولها ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل لنا الصّفا ذهبا إن كنت صادقا ؛ فنزلت هذه الآية ، حكاه السّدّيّ عن ابن مسعود ، وابن عباس (١). والثاني : أنهم لمّا قالوا : انسب لنا ربّك وصفه ، فنزلت : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، قالوا : فأرنا آية ذلك ؛ فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (يَعْقِلُونَ) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس (٢). والثالث : أنه لمّا نزلت (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، قال كفّار قريش : كيف يسع النّاس إله واحد؟

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٢٠٢ ، وإسناده لين ، وفيه جعفر بن أبي المغيرة ، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير. وهذا منها. ثم إن الآية مدنية في قول عطاء وغيره. راجع أسباب النزول للواحدي ٨٤. والمتن غريب ، فإن السورة مدنية باتفاق. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٢. وأخرجه الطبري ٢٤١٢ عن السدي مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، ولم أره عن ابن مسعود ولا ابن عباس ، ولا يصح.

(٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا ، انظر ترجمته في المقدمة.


فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء (١).

فأمّا (السَّماواتِ) ، فتدلّ على صانعها ، إذ هي قائمة بغير عمد ، وفيها من الآيات الظّاهرة ، ما يدلّ يسيره على مبدعه ، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها ، وتمهيد سهولها ؛ وإرساء جبالها ، إلى غير ذلك. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كلّ واحد منهما حادث بعد أن لم يكن ، وزائل بعد أن كان ، (وَالْفُلْكِ) : السّفن. قال ابن قتيبة : الواحد والجمع بلفظ واحد. وقال اليزيديّ : واحده فلكة ، ويذكّر ويؤنّث. وقال الزجّاج : الفلك السّفن ، ويكون واحدا ، ويكون جمعا ، لأنّ فعل ، وفعل جمعهما واحد ، ويأتيان كثيرا بمعنى واحد. يقال : العجم والعجم ، والعرب والعرب ، والفلك والفلك. والفلك : يقال لكلّ مستدير ، أو فيه استدارة. و «البحر» : الماء الغزير (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) من المعايش. (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) ، يعني : المطر ، والمطر ينزل على معنى واحد ، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد ، والأنواع تختلف في النّبات والطّعوم والألوان والأشكال المختلفات ، وفي ذلك ردّ على من قال : إنه من فعل الطّبيعة ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتّفق موجبها ، إذ المتّفق لا يوجب المختلف ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٢).

قوله تعالى : (وَبَثَ) ، أي : فرّق. قرأ ابن كثير (الرِّياحِ) على الجمع في خمسة مواضع : هاهنا. وفي (الحجر) : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٣) ، وفي (الكهف) : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٤) ، وفي (الرّوم) : الحرف الأول (الرّياح). وفي (الجاثية) : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) (٥) ، وقرأ باقي القرآن «الريح». وقرأ أبو جعفر «الريح» في خمسة عشر موضعا في (البقرة) ، وفي (الأعراف) : (يُرْسِلُ الرِّياحَ*) (٦) ، وفي (إبراهيم) : «اشتدت به الرياح» ، وفي (الحجر) : (الرِّياحَ لَواقِحَ) ، وفي (سبحان) (٧) ، وفي (الكهف) : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ، وفي (الأنبياء) ؛ وفي (الفرقان) : (أَرْسَلَ الرِّياحَ*) (٨) ، وفي (النّمل). والثاني من (الرّوم) : وفي (سبأ) ، وفي (فاطر) : (أَرْسَلَ الرِّياحَ*) (٩) ، وفي (عسق) : «يسكن الرياح» ، وفي (الجاثية) : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) ، تابعه نافع إلا في (سبحان) ، و «رياح» سليمان. وتابع نافعا أبو عمرو إلا في حرفين : «الريح» في (إبراهيم) و (عسق). ووافق أبا عمر ، وعاصم ، وابن عامر. وقرأ حمزة «الريح» جمعا في موضعين : في (الفرقان) ، والحرف الأول من (الرّوم) ، وباقيهنّ على التّوحيد. وقرأ الكسائيّ مثل حمزة ، إلا أنّه زاد عليه في (الحجر) : (الرِّياحَ لَواقِحَ) ، ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام ، فمن جمع ؛ فكلّ ريح تساوي أختها في الدّلالة على التّوحيد والنّفع ، ومن وحّد ؛ أراد الجنس.

ومعنى تصريف الرّياح : تقلّبها شمالا مرّة ، وجنوبا مرّة ، ودبورا أخرى ، وعذابا ورحمة ، (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) : المذلّل. والآية فيه من أربعة أوجه : ابتداء كونه ، وانتهاء تلاشيه ، وقيامه بلا

__________________

(١) ضعيف ، أخرجه الطبري ٢٤٠٦ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٤ عن عطاء مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، والسورة مدنية ، فهذا خبر واه ، لا شيء.

(٢) الرعد : ٤.

(٣) الحجر : ٢٢.

(٤) الكهف : ٤٥.

(٥) الجاثية : ٥.

(٦) الأعراف : ٥٧.

(٧) أي سورة الإسراء.

(٨) الفرقان : ٤٨.

(٩) فاطر : ٩.


دعامة ولا علاقة ، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى. (لآيات). الآية : العلامة.

أخبرنا عبد الوهّاب الحافظ ، قال : أخبرنا عاصم قال : أخبرنا ابن بشران قال : أخبرنا ابن صفوان قال : حدثنا ابن أبي الدّنيا قال : حدّثني هارون قال : حدّثني عفّان عن مبارك بن فضالة قال : سمعت الحسن يقول : كانوا يقولون ـ يعني أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحمد لله الرّفيق ، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف ، لقال الشّاكّ في الله : لو كان لهذا الخلق ربّ لحادثه ، وإنّ الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات ، إنه جاء بضوء طبّق ما بين الخافقين ؛ وجعل فيها معاشا ، وسراجا وهّاجا ، ثمّ إذا شاء ذهب بذلك الخلق ، وجاء بظلمة طبّقت ما بين الخافقين ، وجعل فيه شهبا ونجوما ، وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنى بناء ، جعل فيه المطر ، والبرق ، والرّعد ، والصّواعق ، ما شاء ، وإذا شاء صرف ذلك ، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف (١) الناس ، وإذا شاء ذهب بذلك ، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس ، ليعلم الناس أنّ لهذا الخلق ربّا يحادثه بما ترون من الآيات ، كذلك إذا شاء ذهب بالدّنيا وجاء بالآخرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً). في الأنداد قولان ؛ قد تقدّما في أوّل السّورة. وفي قوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) قولان : أحدهما : أنّ معناه : يحبّونهم كحبّ الذين آمنوا لله ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفرّاء. والثاني : يحبّونهم كمحبّتهم لله ، أي : يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبّة. هذا اختيار الزّجّاج ، قال : والقول الأوّل ليس بشيء ، والدّليل على نقضه قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، قال المفسّرون : أشدّ حبّا لله من أهل الأوثان لأوثانهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «يرى» بالياء ، ومعناه : لو يرون عذاب الآخرة ؛ لعلموا أنّ القوة لله جميعا. وقرأ نافع وابن عامر ، ويعقوب : «ولو ترى» بالتاء ، على الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به جميع الناس ، وجوابه محذوف ، تقديره : لرأيتم أمرا عظيما ، كما تقول : لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فإنّما حذف الجواب ، لأنّ المعنى معلوم. قال أبو عليّ : وإنّما قال : «إذ» ولم يقل : «إذا» وإن كانت «إذ» لما مضى ، لإرادة تقريب الأمر ، فأتى بمثال الماضي ، وإنّما حذف جواب «لو» لأنّه أفخم ، لذهاب المتوعّد إلى كلّ ضرب من الوعيد. وقرأ أبو جعفر : «إن القوة» و «إن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، كأنّه يقول : ولا يحزنك ما ترى من محبّتهم أصنامهم «إن القوة لله جميعا» ، قال ابن عباس : القوّة : القدرة ، والمنعة.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

__________________

(١) القرقفة : الرعدة ، وقرقف : أرعد.


قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، فيهم قولان : أحدهما : أنهم القادة والرّؤساء ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل ، والزّجّاج. والثاني : أنهم الشّياطين ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) ، يشمل الكلّ. (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ، أي : عنهم ، مثل قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (١). وفي (الْأَسْبابُ) أربعة أقوال : أحدها : أنها المودّات ، وإلى نحوه يذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنّها الأعمال ، رواه السّدّيّ عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وهو قول أبي صالح وابن زيد. والثالث : أنّها الأرحام ، رواه ابن جريج عن ابن عباس. والرابع : أنّها تشمل جميع ذلك. قال ابن قتيبة : هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدّنيا ، فأمّا تسميتها بالأسباب ، فالسّبب في اللغة : الحبل ، ثم قيل لكلّ ما يتوصّل به إلى مقصود : سبب. والكرّة : الرّجعة إلى الدّنيا ، قاله ابن عباس ، وقتادة في آخرين (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) ، يريدون : من القادة (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) في الآخرة. (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) ، قال الزجّاج : أي : كتبرّؤ بعضهم من بعض ، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، لأنّ أعمال الكافر لا تنفعه. وقال ابن الأنباريّ : يريهم الله أعمالهم القبيحة حسرات عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم ، قال : ويجوز أن يكون : كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم وجزاءها ، فحذف الجزاء وأقام الأعمال مقامه. قال ابن فارس : والحسرة : التّلهّف على الشّيء الفائت. وقال غيره : الحسرة : أشدّ النّدامة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) نزلت في ثقيف ، وخزاعة ، وبني عامر بن صعصعة ، حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرّموا البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ، قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم «خطوات» مثقّلة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة «خطوات» ساكنة الطّاء خفيفة. وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء «خطوات» بفتح الخاء وسكون الطّاء من غير همز. وقرأ أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز. قال ابن قتيبة : خطواته : سبيله ومسلكه ، وهي جمع خطوة ، والخطوة بضم الخاء : ما بين القدمين ، وبفتحها : الفعلة الواحدة. واتّباعهم خطواته : أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلّها الله ، ويحلّون أشياء قد حرّمها الله.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، أي : بيّن. وقيل : أبان عداوته بما جرى له مع آدم.

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩))

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) ، السّوء : كلّ إثم وقبح. قال ابن عباس : وإنّما سمّي سوءا ، لأنه تسوء عواقبه ، وقيل : لأنه يسوء إظهاره (وَالْفَحْشاءِ) من : فحش الشيء : إذا جاز قدره. وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنها كلّ معصية لها حدّ في الدنيا. والثاني : أنها ما لا يعرف في

__________________

(١) الفرقان : ٥٩.


شريعة ولا سنّة. والثالث : أنها البخل ، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس. والرابع : أنها الزّنا ، قاله السّدّيّ. والخامس : المعاصي ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). أي : أنه حرّم عليكم ما لم يحرّم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ). اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها في الذين قيل لهم : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) ، فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم ، وهذا قول مقاتل. والثاني : أنها نزلت في اليهود ، وهي قصّة مستأنفة ، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور ، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس. والثالث : أنها في مشركي العرب وكفّار قريش ، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) ، فعلى القول الأوّل ؛ يكون المراد بالذي أنزل الله : تحليل الحلال ، وتحريم الحرام. وعلى الثاني يكون : الإسلام. وعلى الثالث : التّوحيد والإسلام. و (أَلْفَيْنا) بمعنى : وجدنا. قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من الدّين ، ولا يهتدون له ، أيتبعونهم في خطئهم وافترائهم!

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢))

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ). في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ معناها : ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الرّاعي ، وهذا قول الفرّاء ، وثعلب ، قالا جميعا : أضاف المثل إلى الذين كفروا ، ثم شبّههم بالرّاعي ، ولم يقل : كالغنم ، والمعنى : ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الرّاعي أكثر من الصّوت ، فلو قال لها الرّاعي : ارعي ، أو اشربي ، لم تدر ما يقول ، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن ، وإنذار الرّسول ، فأضيف التّشبيه إلى الرّاعي ، والمعنى في المرعيّ ، وهو ظاهر في كلام العرب ، يقولون : فلان يخافك كخوف الأسد ، والمعنى : كخوفه الأسد ، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. قال الشاعر :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزّناء فريضة الرّجم

المعنى : كما كان الرّجم فريضة الزّنى.

والثاني : أنّ معناها : ومثل الذين كفروا ، ومثلنا في وعظهم ، كمثل النّاعق والمنعوق به ، فحذف «ومثلنا» اختصارا ، إذ كان في الكلام ما يدلّ عليه. وهذا قول ابن قتيبة ، والزجّاج.

والثالث : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون ، كمثل الذي ينعق ، هذا قول ابن زيد ، والذي ينعق هو الرّاعي ، يقال : نعق بالغنم ، ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا. قال ابن الأنباريّ : والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال : نعق ، إلّا في الصّياح بالغنم وحدها ، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى. (صُمٌّ بُكْمٌ) إنّما وصفهم بالصّمّ والبكم ، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا


يسمع ، وكذلك في النّطق والنّظر ، وقد سبق شرح هذا المعنى.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ). قرأ أبو جعفر «الميتة» هاهنا ، وفي (المائدة) و (النّحل) ، و «بلدة ميّتا» بالتشديد ، حيث وقع. والميتة في عرف الشّرع : اسم لكلّ حيوان خرجت روحه بغير ذكاة. وقيل : إنّ الحكمة في تحريم الميتة أنّ جمود الدّم فيها بالموت يحدث أذى للآكل ، وقد يسمّى المذبوح في بعض الأحوال : ميتة حكما ، لأنّ حكمه حكم الميتة ، كذبيحة المرتدّ ؛ فأما الدم فالمحرّم منه : المسفوح ، لقوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١). قال القاضي أبو يعلى : فأمّا الدّم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذّبح ، وما يبقى في العروق ؛ فهو مباح.

فأمّا لحم الخنزير ؛ فالمراد : جملته ، وإنما خصّ اللحم ، لأنّه معظم المقصود. قال الزّجّاج : الخنزير يشتمل على الذّكر والأنثى. ومعنى (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) : ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله ، ومثله الإهلال بالحجّ ، إنّما هو رفع الصّوت بالتّلبية.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، أي : ألجئ بضرورة. وقرأ أبو جعفر : (فمن اضطر) بكسر الطاء حيث كان. وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء.

قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ) ، قال الزجّاج : البغي : قصد الفساد ، يقول : بغى الجرح : إذا ترامى إلى الفساد. وفي قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناه غير باغ على الولاة ، ولا عاد يقطع السّبيل ، هذا قول سعيد بن جبير ، ومجاهد. والثاني : غير باع في أكله فوق حاجته ، ولا متعدّ بأكلها وهو يجد غيرها. هذا قول الحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والرّبيع. والثالث : غير باغ ، أي : مستحلّ ، ولا عاد : غير مضطرّ ، روي عن سعيد بن جبير ، ومقاتل. والرابع : غير باغ شهوته بذلك ، ولا عاد بالشّبع منه ، قاله السّدّيّ.

فصل : معنى الضّرورة في إباحة الميتة : أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه. سئل أحمد ، رضي الله عنه ، عن المضطرّ إذا لم يأكل الميتة ، فذكر عن مسروق أنه قال : من اضطرّ فلم يأكل فمات دخل النّار. وأمّا مقدار ما يأكل ؛ فنقل حنبل : يأكل بمقدار ما يقيمه عن الموت ، ونقل ابن منصور :

يأكل بقدر ما يستغني. فظاهر الأولى : أنّه لا يجوز له الشّبع ، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ ، وظاهر الثانية : جواز الشّبع ؛ وهو قول مالك (٢).

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٣٣٠ : أجمع العلماء على تحريم الميتة حالة الاختيار ، وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار. وكذلك سائر المحرمات. والأصل في هذا قول الله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ويباح له أكل ما يسدّ الرمق ، ويأمن معه الموت ، بالإجماع. ويحرم ما زاد على الشّبع ، بالإجماع أيضا. وفي الشّبع روايتان ؛ أظهرهما ، لا يباح. وهو قول أبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي. قال الحسن :


(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ). قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، كتموا اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغيّروه في كتابهم (١). والثّمن القليل : ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، قال الزّجّاج : معناه : إنّ الّذين يأكلونه يعذّبون به ، فكأنّهم يأكلون النّار ، (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) هذا دليل على أنّ الله لا يكلّم الكفّار ولا يحاسبهم. وفي قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : لا يزكي أعمالهم ، قاله مقاتل. والثاني : لا يثني عليهم ، قاله الزجّاج. والثالث : لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم ، قاله ابن جرير.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥))

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) ، أي : اختاروها على الهدى. وفي قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ، أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناه : فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النّار! قاله عكرمة ، والرّبيع. والثاني : ما أجرأهم على النّار ؛ قاله الحسن ، ومجاهد. وذكر الكسائيّ أنّ أعرابيا حلف له رجل كاذبا ، فقال الأعرابيّ : ما أصبرك على الله ، يريد : ما أجرأك. والثالث : ما أبقاهم في النّار ، كما تقول : ما أصبر فلانا على الحبس ، أي : ما أبقاه فيه ، ذكره الزجّاج. والرابع : أنّ المعنى : فأيّ شيء صبّرهم على النّار؟! قاله ابن الأنباريّ. وفي «ما» قولان : أحدهما : أنها للاستفهام ، تقديرها : ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، وأبو بكر بن عيّاش. والثاني : أنها للتعجّب ،

__________________

يأكل قدر ما يقيمه ، لأن الآية دلّت على تحريم الميتة ، واستثنى ما اضطر إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل ، كحالة الابتداء ، ولأنه بعد سدّ الرمق غير مضطرّ ، فلم يحل له الأكل ، للآية ، يحققه أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر ، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا. والثانية : يباح له الشبع. اختارها أبو بكر ، لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة ، فنفقت عنده ناقة ، فقالت له امرأته : اسلخها ، حتى نقدّد شحمها ولحمها ، ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسأله فقال : «هل عندك غنى يغنيك؟». قال : لا. قال : «فكلوها» ولم يفرّق. رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه ، جاز الشبع منه ، كالمباح. ويحتمل أن يفرّق بين إذا ما كانت الضرورة مستمرة ، وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة ، كحال الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاز له الشّبع ، لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق ، عادت الضرورة إليه عن قرب ، ولا يتمكن من البعد عن الميتة ، مخافة الضرورة المستقبلية ، ويفضي إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى تلفه. بخلاف التي ليست مستمرة ، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحلّ له. والله أعلم. إذا ثبت هذا ، فإن الضرورة المبيحة ، هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد : إذا كان يخشى على نفسه ، سواء كان من جوع ، أو يخاف إن ترك الأكل عجز المشي ، وانقطع عن الرفقة فيهلك ، أو يعجز عن الركوب فيهلك ، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور. وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان : أحدهما يجب وهو قول مسروق ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ، ولم يأكل؟. فذكر قول مسروق : فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب ، فمات ، دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد. والثاني : لا يلزمه.

(١) تقدم عند الآية ١٥٩.


كقولك : ما أحسن زيدا ، وما أعلم عمرا. وقال ابن الأنباريّ : معنى الآية التّعجّب ، والله يعجّب المخلوقين ، ولا يعجب هو كعجبهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من الوعيد بالعذاب ، فتقديره : ذلك العذاب بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ ، فكفروا به واختلفوا فيه.

وفي «الكتاب» قولان : أحدهما : أنه التّوراة. والثاني : القرآن. وفي «الحقّ» قولان : أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه ضدّ الباطل ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) فيه قولان :

أحدهما : أنه التّوراة ، ثمّ في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ اليهود والنّصارى اختلفوا فيها ، فادّعى النّصارى فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود ذلك. والثاني : أنهم خالفوا ما في التّوراة من صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثالث : أنهم خالفوا سلفهم في التّمسّك بها.

والثاني : أنه القرآن ، فمنهم من قال : شعر ، ومنهم من قال : إنّما يعلّمه بشر.

والشقاق : معاداة بعضهم لبعض. وفي معنى «بعيد» قولان : أحدهما : أنّ بعضهم متباعد في مشاقّة بعض ، قاله الزجّاج. والثاني : أنه بعيد من الهدى.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ). قال قتادة :

(٦٢) ذكر لنا أنّ رجلا سأل عن «البرّ» ، فأنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله ، فتلاها عليه.

وفيمن خوطب بها قولان : أحدهما : أنهم المسلمون. والثاني : أهل الكتابين. فعلى القول الأوّل ؛ معناها : ليس البرّ كلّه في الصّلاة ، ولكنّ البرّ ما في هذه الآية. وهذا مرويّ عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، والضّحّاك وسفيان. وعلى القول الثاني ؛ معناها : ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب ، وصلاة النّصارى إلى المشرق ، ولكنّ البرّ ما في هذه الآية ، وهذا قول قتادة ، والرّبيع ، وعوف الأعرابيّ ، ومقاتل.

وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : (لَيْسَ الْبِرَّ) بنصب الراء ، وقرأ الباقون برفعها ، قال أبو عليّ :

____________________________________

(٦٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٥٢٧ عن قتادة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٨ عن قتادة بدون إسناد.


كلاهما حسن ، لأنّ كلّ واحد من الاسمين ؛ اسم «ليس» وخبرها ، معرفة ، فإذا اجتمعا في التّعريف تكافا في كون أحدهما اسما ، والآخر خبرا ، كما تتكافأ النّكرتان.

وفي المراد بالبرّ ثلاثة أقوال : أحدها : الإيمان. والثاني : التّقوى. والثالث : العمل الذي يقرّب إلى الله. قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله. والثاني : ولكنّ ذا البرّ من آمن بالله ، حكاهما الزجّاج.

وقرأ نافع ، وابن عامر : «ولكن البرّ» بتخفيف نون «لكن» ورفع «البرّ». وإنما ذكر اليوم الآخر ، لأنّ عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث. وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : أنه بمعنى الكتاب ، فيدخل في هذا اليهود ، لتكذيبهم بعض النّبيين وردّهم القرآن.

قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ، في هاء «حبّه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى المال. والثاني : إلى الإيتاء. وكان الحسن إذا قرأها قال : سوى الزّكاة المفروضة.

قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) ، يريد : قرابة المعطي. وقد شرحنا معنى : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السّورة.

فأمّا «ابن السبيل» ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الضّيف ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : أنه الذي يمرّ بك مسافرا ، قاله الرّبيع بن أنس ، وعن مجاهد ، وقتادة كالقولين. وقد روي عن الإمام أحمد أنّه قال : هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهو الطّريق ، وابنه : صاحبه الضّارب فيه ، فله حقّ على من يمر به إذا كان محتاجا. ولعلّ أصحاب القول الأوّل أشاروا إلى هذا ، لأنّه إن كان مسافرا ، فإنه ضيف لم ينزل. والقول الثالث : أنه الذي يريد سفرا ، ولا يجد نفقة ، ذكره الماورديّ وغيره عن الشّافعيّ.

قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) أي في فكّ الرّقاب. ثم فيه قولان : أحدهما : أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، وابن زيد ، والشّافعيّ. والثاني : أنهم عبيد يشترون بهذا السّهم ويعتقون ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مالك بن أنس ، وأبو عبيد ، وأبو ثور. وعن أحمد كالقولين.

وأمّا البأساء ؛ فهي : الفقر. والضّرّاء : المرض. وحين البأس : القتال ؛ قاله الضّحّاك. (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) ، قال أبو العالية : تكلّموا بالإيمان وحقّقوه بالعمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ). روى شيبان عن قتادة أنّ أهل الجاهلية كان فيهم بغي ، وكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عدد وعدّة ، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين ؛ قالوا : لن نقتل به إلا حرّا ، تعزّزا لفضلهم على غيرهم. وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين ؛ قالوا : لن نقتل بها إلّا


رجلا ؛ فنزلت هذه الآية (١). ومعنى «كتب» : فرض ، قاله ابن عباس وغيره. والقصاص : مقابلة الفعل بمثله ، مأخوذ من : قصّ الأثر ، فإن قيل : كيف يكون القصاص فرضا والوليّ مخيّر بينه وبين العفو؟ فالجواب : أنه فرض على القاتل للوليّ ، لا على الوليّ.

قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ، أي : من دم أخيه ؛ أي : ترك له القتل ، ورضي منه بالدّية. ودلّ قوله : (مِنْ أَخِيهِ) على أنّ القاتل لم يخرج عن الإسلام ، (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي : مطالبته بالمعروف ، يأمر آخذ الدّية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها. (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، قال سعيد بن جبير : كان حكم الله على أهل التّوراة أن يقتل قاتل العمد ، ولا يعفى عنه ، ولا يؤخذ منه دية ، فرخّص الله لأمّة محمّد ، فإن شاء وليّ المقتول عمدا قتل ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدّية.

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى) ، أي : ظلم ، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدّية ؛ (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، قال قتادة : يقتل ولا تقبل منه الدّية.

فصل : ذهب جماعة من المفسّرين إلى أنّ دليل خطاب هذه الآية منسوخ ، لأنّه لمّا قال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) ؛ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحرّ ، وكذلك لمّا قال : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) اقتضى أن لا يقتل الذّكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب ، وذلك منسوخ بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٢) ، وقال شيخنا عليّ بن عبد الله : وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ ، لأنّ الفقهاء يقولون : دليل الخطاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري ٢٥٦٧ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا ، وأخرجه عبد الرزاق ١٦٣ والطبري ٢٥٦٨ عن معمر عن قتادة. ولم أره عن شيبان عن قتادة ، وشيبان هو ابن عبد الرحمن ، وهو ممن يروي عن قتادة.

وله شاهد من مرسل الشعبي ، أخرجه الطبري ٢٥٦٦ ، فهذا الشاهد يقوي ما قبله ، والله أعلم.

(٢) المائدة : ٤٥.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» : ويقتل الذكر بالأنثى ، والأنثى بالذكر ، هذا قول عامة أهل العلم ، منهم النخعي ، والشعبي ، والزّهري ، وعمر بن عبد العزيز ومالك ، وأهل المدينة ، والشافعي وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وغيرهم. وروي عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : يقتل الرجل بالمرأة ، ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد. وحكي ذلك عن الحسن ، وعطاء. وحكي عنهما مثل قول الجماعة. ولعلّ من ذهب إلى القول الثاني يحتجّ بقول عليّ ، رضي الله عنه ، ولأن عقلها نصف عقله ، فإذا قتل بها بقي له بقية ، فاستوفيت ممن قتله. ولنا قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) مع عموم سائر النصوص ، وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل قتل يهوديا رضّ رأس جارية من الأنصار. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان ، وأن الرجل يقتل بالمرأة. وهو كتاب مشهور عند أهل العلم ، متلقى بالقبول عندهم ، ولأنهما شخصان يحدّ كل واحد منهم بقذف صاحبه ، فقتل كل واحد منهما بالآخر ، كالرجلين ، ولا يجب مع القصاص شيء ، لأنه قصاص واجب ، فلم يجب معه شيء على المقتص ، كسائر القصاص ، واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد ، والنصراني يؤخذ بالمجوسي ، مع اختلاف دينيهما ، ويؤخذ العبد بالعبد ، مع اختلاف قيمتهما. ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ، ويقتل بهما ، لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ : ذهب أبو حنيفة إلى


(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). قال الزّجّاج : إذا علم الرجل أنه إن قتل قتل ؛ أمسك عن القتل ، وكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه ، لأنّه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :

أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة

وفي العتاب حياة بين أقوام (١)

يريد : أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. والألباب : العقول ، وإنّما خصّهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عامّا ، لأنهم المنتفعون بالخطاب ، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، قال ابن عباس : لعلكم تتّقون الدّماء. وقال ابن زيد : لعلّك تتّقي أن يقتله فتقتل به.

فصل : نقل ابن منصور عن أحمد : إذا قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر ؛ يقتل بمثل الذي قتل به. فظاهر هذا أنّ القصاص يكون بغير السّيف ، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها ، وهو قول مالك والشّافعيّ. ونقل عنه حرب : إذا قتله بخشبة قتل بالسّيف. ونقل أبو طالب : إذا خنقه قتل بالسّيف. فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلّا بالسّيف ، وهو قول أبي حنيفة (٢).

__________________

أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم. قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه». فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية ، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا.

وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة. قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه‌السلام : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.

(١) في «اللسان» : المغلغلة : الرّسالة. ورسالة مغلغلة : محمولة من بلد إلى بلد.

(٢) قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في «المغني» ١١ / ٥٠٨ : اختلفت الرّواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء ، فروي عنه ، لا يستوفى إلا بالسيف في العنق. وبه قال عطاء ، والثوري ، وأبو يوسف ، ومحمد ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجة. ولأن القصاص أحد بدلي النفس ، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية ، لم تجب إلا دية النفس ، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل ، وإتلاف الجملة ، وقد أمكن هذا بضرب العنق ، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه ، كما لو قتله بسيف كال ، فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن أحمد قال : إنه لأهل أن يفعل به كما فعل. يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ، ثم يقتله. وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي ثور. لقول الله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) وقوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية من الأنصار بين حجرين. ولأن الله تعالى قال : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). وهذا قد قلع عينه ، فيجب أن تقلع عينه ، للآية. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من حرّق حرّقناه ، ومن أغرق غرّقناه». ولأن القصاص موضوع على المماثلة ، ولفظه مشعر


(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠))

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). قال الزجّاج : المعنى : وكتب عليكم ، إلّا أنّ الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو. وعلم أنّ معناه معنى الواو ، وليس المراد : كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت ، لأنّه في شغل حينئذ ، وإنّما المعنى : كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصيّة ، فيقول الرجل : إذا أنا متّ ، فلفلان كذا ، فأمّا الخير هاهنا ؛ فهو المال في قول الجماعة. وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصيّة فيه ستة أقوال : أحدها : أنه ألف درهم فصاعدا ، روي عن عليّ ، وقتادة. والثاني : أنه سبعمائة درهم فما فوقها ، رواه طاوس عن ابن عباس. والثالث : ستون دينارا فما فوقها ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع : أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال. قالت عائشة لرجل سألها : إني أريد الوصيّة ، فقالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة. قالت : هذا شيء يسير ، فدعه لعيالك. والخامس : أنه من ألف درهم إلى خمسمائة ، قاله إبراهيم النّخعيّ. والسادس : أنه القليل والكثير ، رواه معمر عن الزّهريّ. فأمّا المعروف ؛ فهو الذي لا حيف فيه.

فصل : وهل كانت الوصيّة ندبا أو واجبة؟ فيه قولان : أحدهما : أنها كانت ندبا. والثاني : أنها كانت فرضا ، وهو أصحّ ، لقوله تعالى : (كُتِبَ) ، ومعناه : فرض. قال ابن عمر : نسخت هذه الآية بآية الميراث. وقال ابن عباس : نسخها : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). والعلماء متّفقون على نسخ الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون ، وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون : هل تجب الوصيّة لهم؟ على قولين ، أصحّهما أنها لا تجب لأحد (١).

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١))

قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) ، قال الزجّاج : من بدّل أمر الوصيّة بعد سماعه إيّاها ، فإنّما إثمه على مبدّله ، لا على الموصي ، ولا على الموصى له (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما قد قاله الموصي (عَلِيمٌ) بما يفعله الموصى إليه.

__________________

به ، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل ، كما لو ضرب العنق آخر غيره. فأما حديث : «لا قود إلا بالسيف».

فقال أحمد : ليس إسناده بجيد.

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٢٥٥ : اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالا ، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك وهو قول مالك والشافعي والثوري موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقال الزهري وأبو مجلز : الوصية واجبة على ظاهر القرآن قليلا كان المال أو كثيرا وقال أبو ثور : ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. أما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر : وهذا حسن. واحتج الأولون بما رواه ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».


(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم (موص) ساكنة الواو ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «موصّ» مفتوحة الواو مشدّدة الصّاد. وفي المراد بالخوف هاهنا قولان : أحدهما : أنه العلم. والثاني : نفس الخوف ، فعلى الأوّل ؛ يكون الجور قد وجد. وعلى الثاني : يخشى وجوده. و «الجنف» : الميل عن الحقّ. قال الزجّاج : جنفا ، أي : ميلا ، أو إثما ؛ أي قصد الإثم. وقال ابن عباس : الجنف : الخطأ ، والإثم : التّعمّد ، إلّا أنّ المفسّرين علّقوا الجنف على المخطئ ، والإثم على العامد. وفي توجيه هذه الآية قولان : أحدهما : أنّ معناها : من حضر رجلا يموت ، فأسرف في وصيّته ؛ أو قصّر عن حقّ ، فليأمره بالعدل ، وهذا قول مجاهد. والثاني : أنّ معناها : من أوصى بجور ، فردّ وليّه وصيّته ، أو ردّها من أئمّة المسلمين إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فلا إثم عليه ، وهذا قول قتادة.

قوله تعالى : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) ، أي : بين الذين أوصى لهم ، ولم يجر لهم ذكر ، غير أنّه لمّا ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أنّ هناك موصى له ، وأنشد الفرّاء :

وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيّهما يليني؟!

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشّرّ الذي هو يبتغيني

فكنّى في البيت الأوّل عن الشّر بعد ذكره الخير وحده ، لما في مفهوم اللفظ من الدّلالة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). الصّيام في اللغة : الإمساك في الجملة ، يقال : صامت الخيل : إذا أمسكت عن السّير ، وصامت الرّيح : إذا أمسكت عن الهبوب. والصّوم في الشّرع : عبارة عن الإمساك عن الطّعام والشّراب والجماع مع انضمام النّيّة إليه.

وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أهل الكتاب ، رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد. والثاني : أنهم النّصارى ، قاله الشّعبيّ ، والرّبيع. والثالث : أنهم جميع أهل الملل ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.

وفي موضع التّشبيه في كاف (كَما كُتِبَ) قولان : أحدهما : أن التّشبيه في حكم الصّوم وصفته ، لا في عدده. قال سعيد بن جبير : كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحلّ له أن يطعم إلى القابلة ، والنّساء عليهم حرام ليلة الصّيام ، وهو عليهم ثابت. وقد أرخص لكم. فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) ، فإنها بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين. والثاني : أن التّشبيه في عدد الأيّام. ثمّ في ذلك قولان : أحدهما : أنه فرض على هذه الأمّة صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر ، وقد كان ذلك فرضا على من قبلهم. قال عطيّة عن ابن عباس في قوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال : كان ثلاثة أيام من كلّ شهر ، ثم نسخ برمضان. وقال معمر عن قتادة : كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر ، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). والثاني : أنه فرض على من


قبلنا صوم رمضان بعينه. قال ابن عبّاس : فقدّم النّصارى يوما ثم يوما ، وأخّروا يوما ، ثمّ قالوا : نقدّم عشرا ونؤخّر عشرا. وقال السّدّيّ عن أشياخه : اشتدّ على النّصارى صوم رمضان ، فجعل يتقلّب عليهم في الشتاء والصّيف ، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصّيف ، وقالوا : نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا ، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، لأنّ الصّيام وصلة إلى التّقى ، إذ هو يكفّ النّفس عن كثير ممّا تتطلّع إليه من المعاصي ، وقيل : لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، قال الزجّاج : نصب «أياما» على الظّرف ، كأنّه قال : كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصّيام» ، كأنّ المعنى : كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات. وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ثلاثة أيام من كلّ شهر. والثاني : أنها ثلاثة أيام من كلّ شهر ويوم عاشوراء. والثالث : أنها شهر رمضان ، وهو الأصحّ ، وتكون الآية محكمة في هذا القول ، وفي القولين قبله تكون منسوخة. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ) ، فيه إضمار : فأفطر.

فصل : وليس المرض والسّفر على الإطلاق ، فإنّ المريض إذا لم يضرّ به الصّوم ؛ لم يجز له الإفطار ، وإنّما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصّوم. واتّفق العلماء أنّ السفر مقدّر ، واختلفوا في تقديره ، فقال أحمد ، ومالك ، والشّافعيّ : أقلّه مسيرة ستة عشر فرسخا : يومان ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقلّه مسيرة ثلاثة أيام ، مسيرة أربعة وعشرين فرسخا. وقال الأوزاعيّ : أقلّه مرحلة يوم ، مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل : إنّ السّفر مشتقّ من السّفر الذي هو الكشف ، يقال : سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصّبح : إذا أضاء ، فسمّي الخروج إلى المكان البعيد : سفرا ، لأنّه يكشف عن أخلاق المسافر (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٢٧٣ : اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر ، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد. ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع ، والقول بالمنع أرجح ، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك ؛ فقال مالك : يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلا ؛ وقال ابن خويز منداد : وهو ظاهر مذهبه ؛ وقال مرّة : اثنان وأربعون ميلا ؛ وقال مرة : ستة وثلاثون ميلا ؛ وقال مرّة : مسيرة يوم وليلة ، وروي عنه يومان ؛ وهو قول الشافعي. وفصّل مرة بين البر والبحر ؛ فقال في البحر مسيرة يوم وليلة ، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا. وفي المذهب ثلاثون ميلا. وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام.

ـ واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ؛ فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجلّ مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه :


قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ، نقل عن ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسلمة بن الأكوع ، وعلقمة ، والزّهريّ في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا : كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يوم مسكينا ، حتى نزلت : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية ، ثم نسخت. وروي عن عكرمة أنّه قال : نزلت في الحامل والمرضع. وقرأ أبو بكر الصّديق ، وابن عباس : «وعلى الذين يطوّقونه» بضمّ الياء وفتح الطاء وتشديد الواو. قال ابن عباس : هو الشّيخ والشّيخة. قوله تعالى : (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة والكسائيّ (فدية) منون (طَعامُ مَساكِينَ) موحّد. وقرأ نافع ، وابن عامر : «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع ، وقال أبو عليّ : معنى القراءة الأولى : على كلّ واحد طعام مساكين. ومثله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ) (١) ، أي : اجلدوا كلّ واحد ثمانين. قال أبو زيد : أتينا الأمير فكسانا كلّنا حلّة ، وأعطانا كلّنا مائة ، أي : فعل ذلك بكلّ واحد منّا. قال : فأمّا من أضاف الفدية إلى الطعام ، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له ، وذلك أنه سمّى الطعام الذي يفدي به فدية ، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعمّ الفدية وغيرها ، فهو على هذا من باب : خاتم حديد. وفي قوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ، ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : من أطعم مسكينين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أن التّطوّع إطعام مساكين ، قاله طاوس. والثالث : أنه زيادة المساكين على قوته ، وهو مرويّ عن مجاهد ، وفعله أنس بن مالك لمّا كبر. (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) عائد إلى من تقدّم ذكره من الأصحّاء المقيمين المخيّرين بين الصّوم والإطعام على ما حكينا في أوّل الآية عن السّلف ، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين ، والحامل والمرضع ، إذ الفطر في حقّ هؤلاء أفضل من الصّوم ، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتّلف ، وهذا يقوّي قول القائلين بنسخ الآية.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ). قال الأخفش : شهر رمضان بالرّفع على تفسير الأيام ، كأنّه لمّا قال : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فسّرها فقال : هي شهر رمضان ، قال أبو عبيد : وقرأ مجاهد : «شهر رمضان» بالنّصب ، وأراه نصبه على معنى الإغراء : عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) (٢) ،

__________________

هو مخيّر ، ولم يفصّل وكذلك ابن عليّه ؛ لحديث أنس قال : سافرنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ، خرّجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس : الرخصة أفضل ، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل ؛ لقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

(١) النور : ٤.

(٢) الحج : ٧٨.


وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) (١) ، قلت : وممن قرأ بالنّصب معاوية والحسن وزيد بن عليّ وعكرمة ويحيى بن يعمر. قال ابن فارس : الرّمض : حرّ الحجارة من شدّة حرّ الشمس ، ويقال : شهر رمضان ، من شدّة الحرّ ، لأنهم لما نقلوا أسماء الشّهور عن اللغة القديمة ، سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشّهر أيام رمض الحرّ ، ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة. قوله تعالى : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة ، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزّة من السماء الدنيا ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ معناه : أنزل القرآن بفرض صيامه ، وروي عن مجاهد ، والضّحاك. والثالث : أن معناه : إنّ القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن إسحاق ، وأبو سليمان الدّمشقيّ. قال مقاتل : والفرقان المخرج في الدّين من الشّبهة والضّلالة. قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) ، أي : من كان حاضرا غير مسافر. فإن قيل : ما الفائدة في إعادة

__________________

(١) البقرة : ١٣٨.

(٢) فائدة : قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في «المغني» ٤ / ٣٢٥ ما ملخصه : (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما ، طلبوا الهلال ، فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم). وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ، وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ، ويسلموا من الاختلاف. وقد روى الترمذي ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أحصوا هلال شعبان لرمضان» فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا ، وإن لم يروه وكانت السماء مصحية ، لم يكن لهم صيام ذلك اليوم ، إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه ، مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم ، أو صوم يوم الخميس ، أو صوم آخر يوم من الشهر ، وشبه ذلك إذا وافق صومه ، أو من صام قبل ذلك بأيام ، فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين ، إلا أن يكون رجل يصوم صياما فليصمه» متفق عليه. وقال عمار : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذا رأى الهلال أهل بلد ، لزم جميع البلاد الصوم. وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي ، وقال بعضهم : إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة ، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما ، وإن كان بينهم بعد ، كالعراق والحجاز والشام ، فلكلّ أهل بلد رؤيتهم ، وروي عن عكرمة ، أنه قال : لكل أهل بلد رؤيتهم. وهو مذهب القاسم وسالم ، وإسحاق.

ـ قال : وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه‌الله في هذه المسألة ، فروي عنه مثل ما نقل الخرقي ، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا ، وهو مذهب عمر ، وابنه ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأنس ، ومعاوية ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر. وبه قال بكر بن عبد الله ، وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرّف وميمون بن مهران ، وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام ، فإن صام صاموا ، وإن أفطر أفطروا. وهذا قول الحسن ، وابن سيرين ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون». قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة. وعن أحمد ، رواية ثالثة : لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ومن تبعهم ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غبّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. وعن ابن عمر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فاقدروا له ثلاثين». رواه مسلم. وقد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن صوم يوم الشك. متفق عليه. وهذا يوم شك. ولأن الأصل بقاء شعبان ، فلا ينتقل عنه الشك. ولنا ما روى نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غمّ عليكم فاقدروا له». قال نافع : كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما ، بعث من ينظر له الهلال ، فإن رأى فذاك ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب


المرض والسّفر في هذه الآية ، وقد تقدّم ذلك؟ قيل : لأنّ في الآية المتقدّمة منسوخا ، فأعاده لئلّا يكون مقرونا بالمنسوخ. قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، قال ابن عباس ، ومجاهد وقتادة والضّحّاك : اليسر : الإفطار في السّفر ، والعسر : الصّوم فيه. وقال عمر بن عبد العزيز : أي ذلك كان أيسر عليك فافعل : الصّوم في السّفر ، أو الفطر. قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «ولتكملوا» بإسكان الكاف خفيفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم ، وذلك مثل : «وصّى» و «أوصى» وقال ابن عباس : ولتكملوا عدة ما أفطرتم. وقال بعضهم : المراد به : لا تزيدوا على ما افترض ، كما فعلت النّصارى ، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، قال ابن عباس : حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوّال ، أن يكبّروا لله حتى يفرغوا من عيدهم. فإن قيل : ما وجه دخول الواو في قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) ، وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب : أنّ هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة ، والمعنى : ولا يريد بكم العسر ، ليسعدكم ، ولتكملوا العدّة ، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها ، ذكره ابن الأنباريّ.

فصل : ومن السّنّة إظهار التّكبير ليلة الفطر ، وليلة النّحر ، وإذا غدوا إلى المصلّى. واختلفت الرّواية عن أحمد ، رضي الله عنه ، متى يقطع في عيد الفطر ، فنقل عنه حنبل : يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. ونقل الأثرم : إذا جاء المصلّى ، قطع. قال القاضي أبو يعلى : يعني : إذا جاء المصلّى وخرج الإمام (١).

__________________

ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما. رواه أبو داود. ومعنى اقدروا له : أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضيّق عليه. وقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ*). والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوما. وقد فسره ابن عمر بفعله ، وهو راويه ، وأعلم بمعناه. قال علي وأبو هريرة وعائشة : لأن أصوم يوما من شعبان ، أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان.

ولأن الصوم يحتاط له ، ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين. فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به ، فإنه يرويه محمد بن زياد ، وقد خالفه سعيد بن المسيب ، فرواه عن أبي هريرة : «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين». وروايته أولى بالتقديم ، لإمامته ، واشتهار عدالته وثقته ، وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ، ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر : «فاقدروا له ثلاثين» مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه. والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرنا.

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٩٢ ما ملخصه : لا خلاف بين العلماء ، رحمهم‌الله ، في أن التكبير مشروع في عيد النحر واختلفوا في مدته ، فذهب إمامنا ، رضي الله عنه ، إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر في آخر أيام التشريق ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وإليه ذهب الثوري ، وابن عينية وأبو يوسف ومحمد والشافعي في بعض أقواله. وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من يوم النحر. وإليه ذهب علقمة ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، لقوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهي العشر ، وأجمعنا على أنه لا يكبّر قبل يوم عرفة ، فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر.

وعن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ، أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق.

وبه قال مالك ، والشافعي في المشهور عنه ؛ لأن الناس تبع للحاج ، والحاجّ يقطعون التلبية مع أول حصاة.

ويكبرون مع الرمي ، وإنما يرمون يوم النحر ، فأول صلاة بعد الظهر وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق. ولنا ما روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا ، فقال : «الله أكبر ،


(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي). في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٦٣) أحدها : أنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أقريب ربّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية ، رواه الصّلت بن حكيم عن أبيه عن جدّه.

(٦٤) والثاني : أنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد! كيف يسمع ربّنا دعاءنا ، وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٦٥) والثالث : أنّهم قالوا : يا رسول الله! لو نعلم أيّة ساعة أحبّ إلى الله أن ندعو فيها دعونا ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء.

(٦٦) والرابع : أنّ أصحاب النبيّ قالوا له : أين الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن.

(٦٧) والخامس : أنه لمّا حرّم في الصّوم الأول على المسلمين بعد النّوم الأكل والجماع ؛ أكل

____________________________________

(٦٣) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٩١٢ عن الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده ، وإسناده ضعيف لجهالة الصلت.

(٦٤) باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهو من رواية الكلبي كما صرّح بذلك البغوي. قال في «معالم التنزيل» ١ / ١٥٥ : رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي كذاب ، وأبو صالح ليس بثقة ، وقد رويا تفسيرا موضوعا عن ابن عباس ، انظر المقدمة. ثم لفظ «عبادي» يدل على أن السائل من المؤمنين إن كان ثمّ سائل ، والصواب عدم صحة سبب نزول في هذه الآية ، وإذا هنا بمعنى لو. أي لو سألك عبادي. والله أعلم.

(٦٥) ضعيف ، أخرجه الطبري ٢٩١٥ و ٢٩١٦ عن عطاء مرسلا ، فهو ضعيف.

(٦٦) ضعيف ، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٩٦ والطبري ٢٩١٣ عن الحسن مرسلا ، ومراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد ، كما هو مقرر في كتب المصطلح.

(٦٧) باطل ، عزاه المصنف لمقاتل ، وإذا أطلق فهو ابن سليمان المفسر المشهور ، وهو متهم بالكذب.

ـ الخلاصة : لم يصح في هذه الآية سبب نزول ، والذي يستفاد من الآية هو أن الله عزوجل قريب من عباده ،

__________________

الله أكبر». ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق ، وفي بعضها : «الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد» ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود. رواه سعيد عن عمر وعلي وابن عباس وروى بإسناده عن عمير بن سعيد ، أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر ، فأتانا علي بعده فكبّر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد. قيل لأحمد ، رحمه‌الله : بأي حديث تذهب ، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال : بالإجماع ، عمر ، وعلي ، وابن عباس وابن مسعود ، رضي الله عنهم ، ولأن الله تعالى قال : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي أيام التشريق ، فيتعين الذكر في جميعها.

ـ وصفة التكبير : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد. وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن مسعود. وبه قال الثوري وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وابن المبارك ، إلا أنه زاد : على ما هدانا. لقوله : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).


رجل منهم بعد أن نام ، ووطيء رجل بعد أن نام ، فسألوا : كيف التّوبة ممّا عملوا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. ومعنى الكلام : إذا سألوك عنّي ؛ فأعلمهم أنّي قريب.

وفي معنى «أجيب» قولان : أحدهما : أسمع ، قاله الفرّاء ، وابن القاسم. والثاني : أنه من الإجابة : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ، أي : فليجيبوني. قال الشّاعر :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد : فلم يجبه. وهذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجّاج. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ، قال أبو العالية : يعني : يهتدون.

فصل : إن قال قائل : هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجيب أدعية الدّاعين ، وترى كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم!

(٦٨) فالجواب : أن أبا سعيد روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم ؛ إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يدفع عنه من السّوء مثلها».

وجواب آخر : وهو أنّ الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطّاعة لله ، ومنها أكل الحلال ، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدّعاء ، ومنها حضور القلب.

(٦٩) ففي بعض الحديث : «لا يقبل الله دعاء من قلب غافل لاه».

____________________________________

فلا يجوز أن يجعل الإنسان بينه وبين الله واسطة وإنما يدعوه ويسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.

ـ قال الإمام عبد الله بن محمود في كتاب «الاختيار» في فروع الحنفية ٤ / ١٦٤ نقلا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : ويكره أن يدعو الله إلّا به. قال في شرحه : فلا يقول أسألك بفلان ، أو بملائكتك ، أو بأنبيائك ، ونحو ذلك ، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

(٦٨) صحيح. أخرجه أحمد ٣ / ١٨ والبخاري في «الأدب المفرد» ٧١٠ والحاكم ١ / ٤٩٣ من حديث أبي سعيد وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وكذا صححه القاضي عبد الحق كما نقل القرطبي ٩١٩ بتخريجنا.

وله شاهد أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٧١١ من حديث أبي هريرة وإسناده حسن.

(٦٩) حديث ضعيف ، لا يتقوى بشواهده بسبب شدة ضعفها. أخرجه أحمد ٢ / ١٧٧ من طريق حسن عن ابن لهيعة عن بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله عزوجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل». إسناده ضعيف مداره على ابن لهيعة ، وقد اختلط ، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. ومع ذلك قال المنذري في «الترغيب» ٢٤٥٩ : رواه أحمد بإسناد حسن!!. وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» ١ / ١٤٧ / ١٣٢٠٣ فقال : رواه أحمد بإسناد حسن!! ، وصححه أحمد شاكر في «المسند» ٦٦٥٥؟!.

ـ وله شاهد من حديث ابن عمر : أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١٠ / ١٤٧ / ١٧٢٠٥ وقال الهيثمي : فيه بشير بن ميمون الواسطي ، وهو مجمع على ضعفه. قلت : بل هو متروك ، قال البخاري : يذكر بوضع الحديث ، وقال النسائي متروك ، فهذا شاهد لا يفرح به ، ولا فائدة منه. وله شاهد من حديث أبي هريرة : أخرجه الترمذي ٣٤٧٩ والحاكم ١ / ٤٩٣ وابن حبان في «المجروحين» ١ / ٣٧٢ والخطيب ٤ / ٣٥٦ وابن عدي ٤ / ٦٢ وابن عساكر ٤ / ٣٦٠ من طرق عن صالح بن بشير المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي


وجواب آخر : وهو أنّ الدّاعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل ، وقد لا تكون المصلحة في ذلك ، فيجاب إلى مقصوده الأصلي ، وهو : طلب المصلحة ، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ). سبب نزول هذه الآية :

(٧٠) أنّ الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع ، حرّما عليه إلى أن يفطر ، فجاء شيخ

____________________________________

هريرة به مرفوعا. وإسناده واه لأجل صالح بن بشير. قال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٢٨٩ : ضعفه ابن معين والدارقطني ، وقال أحمد : هو صاحب قصص ، ليس هو صاحب حديث ، ولا يعرف الحديث ، وقال الفلاس : منكر الحديث جدا ، وقال النسائي : متروك ، وقال البخاري منكر الحديث. قال الذهبي : وروى عباس عن يحيى : ليس به بأس ، لكن روى خمسة عن يحيى جرحه. وقال ابن حبان : كان يروي الشيء الذي سمعه من ثابت والحسن وهؤلاء على التوهم ، فيجعله عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهر في روايته الموضوعات التي يرويها عن الأثبات ، واستحق الترك ، وكان ابن معين شديد الحمل عليه ، وهو الذي يروي عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ادعوا الله ..» الحديث. قلت : فالرجل ضعيف جدا متروك الحديث ، وقد جاء بهذا المتن عن هشام عن ابن سيرين وحده ، ولم يتابع عليه ، ولو كان هذا الحديث عند هشام أو ابن سيرين لرواه الثقات لأن كلا منهما إمام يجمع حديثه ، فكيف ولم يتابعه عليه ضعيف مثله أو دونه ، ، لذا أورده ابن حبان وابن عدي وغيرهما في كتب الضعفاء. وضعفه الترمذي بقوله : غريب. وأما الحاكم ، فقال : حديث مستقيم الإسناد ، تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة. وتعقبه الذهبي بقوله : قلت : صالح متروك.

وقال المنذري ٢٤٦٠ بعد كلام الحاكم : صالح لا شك في زهده ،. لكن تركه أبو داود والنسائي. وذكر ذلك الألباني في «الصحيحة» ٥٩٤ وقال : لكن روي له شاهد بسند ضعيف أخرجه أحمد ٢ / ١٧٧ فذكر حديث ابن عمرو المتقدم. قلت : ولم يصب الألباني بإدراجه في «الصحيحة» بل وليس هو من قبيل الحسن لشدة ضعف حديث أبي هريرة ، ويكفي في ذلك قول البخاري عن صالح المري : منكر الحديث. وقد قال البخاري : كل من قلت عنه منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه.

ـ الخلاصة : حديث أبي هريرة ضعيف جدا وكذا حديث ابن عمر ، وأما حديث ابن عمرو فهو ضعيف فحسب ، ولا يتقوى بشاهديه لشدة ضعف إسناديهما ، والله أعلم.

(٧٠) أصله قوي. أخرجه وكيع وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» ١ / ٣٥٨ والطبري ٢٩٤٣ و ٢٩٤٤ من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه ، والسياق لوكيع وعبد بن حميد.

وإسناده صحيح إلى ابن أبي ليلى ، وعلته الإرسال فقط ، فالمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

ـ وورد بنحوه من مرسل السدي : أخرجه الطبري ٢٩٥٧. وورد عن ابن عباس : أخرجه الطبري ٢٩٥١ وإسناده واه ، فيه عطية العوفي واه ، وعنه من لا يعرف. ورد من مرسل عكرمة : أخرجه الطبري ٢٩٥٩.

ـ وقد ورد روايات أخرى في قصة عمر بمفرده وكذا في قصة أبي قيس بن صرمة. وأصح شيء ورد في هذا هو


من الأنصار وهو صائم إلى أهله ، فقال : عشّوني ، فقالوا : حتى نسخن لك طعاما ، فوضع رأسه فنام ، فجاؤوا بالطعام ، فقال : قد كنت نمت ، فبات يتقلّب ظهرا لبطن ، فلمّا أصبح أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقام عمر بن الخطّاب فقال : يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة ، فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعتلّ ، فواقعتها ، فأخبرتني أنّها قد نامت ، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطّاب : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، وأنزل الله في الأنصاري : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، هذا قول جماعة من المفسّرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاريّ على أربعة أقوال (١) : أحدها : قيس بن صرمة ، قاله البراء. والثاني : صرمة بن أنس ، قاله القاسم بن محمّد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : صرمة بن مالك. والثالث : ضمرة بن أنس. والرابع : أبو قيس بن عمر. وذكر القولين أبو بكر الخطيب. فأمّا «الرّفث» فقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين : هو الجماع.

قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) ، فيه قولان : أحدهما : أنّ اللباس السّكن. ومثله (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) ، أي سكنا. وهذا قول ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني : أنهنّ بمنزلة اللباس لإفضاء كلّ واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه ، فكنّى عن اجتماعهما متجرّدين باللّباس. قال الزجّاج : والعرب تسمّي المرأة : لباسا وإزارا ، قال النّابغة الجعديّ :

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تثنّت فكانت عليه لباسا

وقال غيره :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخي ثقة إزاري

يريد بالإزار : امرأته.

قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، قال ابن قتيبة : يريد : تخونونها بارتكاب ما حرّم عليكم. قال ابن عباس : وعنى بذلك فعل عمر ، فإنه أتى أهله ، فلمّا اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) ، أصل المباشرة : إلصاق البشرة بالبشرة. وقال ابن عباس : المراد بالمباشرة هاهنا الجماع. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فيه أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنه الولد ، قاله ابن

____________________________________

ما أخرجه البخاري ١٩١٥ وأبو داود ٢٣١٤ والترمذي ٢٩٦٨ وأحمد ٤ / ٢٩٥ والدارمي ٢ / ٥ والنسائي في «التفسير» ٤٣ والواحدي في «الأسباب» ٩٢ كلهم عن البراء بن عازب : «كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار ، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت : خيبة لك! فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (أُحِلَّ لَكُمْ ...) الآية ففرحوا فرحا شديدا» لفظ البخاري.

__________________

(١) قال الحافظ في «الفتح» ٤ / ١٣٠ بعد أن ذكر روايات متعددة مختلفة في تعيين الأنصاري : والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر ...

(٢) القول الأول هو الذي ذهب إليه الأكثر كما في تفسير الطبري ٢٩٧٣ فما بعد ، وهو الذي اختاره الطبري ، مع أن القول الثاني هو الأقرب يدل عليه سياق الآيات وسباقها. وأما القول الثالث فهو غريب بعيد. وأما القول الرابع فهو مما يدخل في القول الثاني ، والله أعلم.


عباس ، والحسن ، ومجاهد في آخرين. قال بعض أهل العلم : لمّا كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع ، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد ، فقال : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، يريد : الولد. والثاني : أنّ الذي كتب لهم الرّخصة ، وهو قول قتادة ، وابن زيد. والثالث : أنه ليلة القدر ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع : أنه القرآن ، فمعنى الكلام : اتّبعوا القرآن ، فما أبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى ، وهذا اختيار الزجّاج.

قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ). قال عديّ بن حاتم :

(٧١) لمّا نزلت هذه الآية ، عمدت إلى عقالين ، أبيض وأسود ، فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض ، فلمّا أصبحت ؛ غدوت على رسول الله فأخبرته ، فضحك وقال : «إن كان وسادك إذا لعريض ، إنّما ذاك بياض النّهار من سواد اللّيل».

(٧٢) وقال سهل بن سعد : نزلت هذه الآية : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، ولم ينزل : (مِنَ الْفَجْرِ) ، وكان رجال إذا أرادوا الصّوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ) ، فعلموا أنّما يعني بذلك الليل والنهار.

فصل : إذا شكّ في الفجر ، فهل يدع السّحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدلّ على أنّه لا يدع السّحور ، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر. وقال مالك : أكره له أن يأكل إذا شكّ في طلوع الفجر ، فإن أكل فعليه القضاء. وقال الشّافعيّ : لا شيء عليه (١).

قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ، في هذه المباشرة قولان : أحدهما : أنها المجامعة ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنها ما دون الجماع من اللّمس والقبلة ، قاله ابن زيد. وقال قتادة : كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد ، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك ، فوعظهم الله في ذلك.

فصل : الاعتكاف في اللغة : اللّبث ، يقال : فلان معتكف على كذا ، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه ، إلّا أن ينذره الإنسان ، فيجب. ولا يجوز إلّا في مسجد تقام فيه الجماعات ، ولا يشترط في حقّ

____________________________________

(٧١) صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٦ و ٤٥٠٩ و ٤٥١٠ ومسلم ١٠٩٠ وأبو داود ٢٣٤٩ والترمذي ٢٩٧٠ و ٢٩٧١ وأحمد ٤ / ٣٧٧ والدارمي ٢ / ٥ والطحاوي ٢ / ٥٣ وابن خزيمة ١٩٢٥ وابن حبان ٣٤٦٢ و ٣٤٦٣ والحميدي ٩١٦ وابن أبي شيبة ٣ / ٢٨ والطبراني ١٧٢ و ١٧٩ والبيهقي ٤ / ٢١٥ والبغوي ١ / ١٥٨ من طرق عن عدي بن حاتم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٩٠ بتخريجنا.

(٧٢) صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٧ ومسلم ١٠٩١ والنسائي في «التفسير» ٤٢ والطبري ٢ / ١٠٠ والبيهقي ٤ / ٢١٥ من حديث سهل بن سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٩ بتخريجنا.

__________________

أن القول الثاني هو الاقرب يدل عليه سياق الآيات وسباقها وأما القول الثالث فهو ضريب بعيد. وأما القول الرابع فهو مما يدخل في القول الثاني ، والله أعلم.

(١) فائدة : قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٢٥ : من شك في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء ، كالناس. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر.


المرأة مسجد تقام فيه الجماعة ، إذ الجماعة لا تجب عليها. وهل يصحّ بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان (١).

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، قال ابن عباس : يعني : المباشرة (فَلا تَقْرَبُوها) ، قال الزجّاج :

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٤ / ٤٥٦ : والاعتكاف سنة ، إلا أن يكون نذرا ، فيلزم الوفاء به ولا خلاف. قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا ، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا ، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة ، فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومداومته عليه ، تقربا إلى الله تعالى ، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إلا من أراده. وقال عليه‌السلام : «من أراد أن يعتكف ، فليعتكف العشر الأواخر». ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك ، لأن الجماعة واجبة ، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين : إما ترك الجماعة الواجبة ، وإما خروجه إليها ، فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف. إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا. ولا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا. وقال مالك : يصح الاعتكاف في كل مسجد ، لعموم قوله تعالى (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة.

وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد. ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها. وبهذا قال الشافعي.

وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبو حنيفة والثوري : لها الاعتكاف في مسجد بيتها ، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه. واعتكافها فيه أفضل. وحكي عن أبي حنيفة ، أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة.

ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك الاعتكاف في المسجد ، لما رأى أبنية أزواجه فيه ، وقال : «آلبر تردن». ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها. ولنا قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) المراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد ، لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا». ولأن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد ، فأذن لهن ، ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه ، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه .. وقال : ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم ، والمشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم. روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى ، أن الصوم شرط في الاعتكاف. قال : إذا اعتكف يجب عليه الصوم وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة والليث ، والثوري ، لما روي عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا اعتكاف إلا بصوم» رواه الدارقطني. وعن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «اعتكف وصم» ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة ، كالوقوف. ولنا ما روى ابن عمر عن عمر أنه قال : يا رسول الله ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوف بنذرك» رواه البخاري. ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل ، لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل ، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع. قال سعيد : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن أبي سهل ، قال : كان على امرأة من أهلي اعتكاف ، فسألت عمر بن عبد العزيز. فقال : ليس عليها صيام ، إلا أن تجعله على نفسها. فقال الزهري : لا اعتكاف إلا بصوم. فقال عمر : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : لا. قال فعن أبي بكر؟

قال : لا. قال : فعن عمر؟ قال : لا. قال : وأظنه قال : فعن عثمان؟ قال : لا. فخرجت من عنده ، فلقيت عطاء وطاوسا ، فسألتهما ، فقال طاوس : كان فلان لا يرى عليها صياما ، إلا أن تجعله على نفسها ، وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر ، فتفرّد به ابن بديل ، وهو ضعيف. والصحيح ما رويناه ، أخرجه البخاري والنسائي ، وغيرهما. وحديث عائشة موقوف عليها ، ومن رفعه فقد وهم. فإن الصوم فيه أفضل. ويخرج به من الخلاف.


الحدود ما منع الله من مخالفتها ، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحدّ في اللغة : المنع ، ومنه : حدّ الدّار ، وهو ما يمنع غيرها من الدّخول فيها. والحدّاد في اللغة : الحاجب والبوّاب ، وكلّ ما منع شيئا فهو حدّاد ، قال الأعشى :

فقمنا ولمّا يصح ديكنا

إلى جونة عند حدّادها

أي : عند ربّها الذي يمنعها إلا بما يريده. وأحدّث المرأة على زوجها ، وحدّت فهي حادّ ، ومحدّ : إذا قطعت الزّينة ، وامتنعت منها ، وأحددت النّظر إلى فلان : إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا ، لأنه يمتنع به من الأعداء.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) ، أي : مثل هذا البيان الذي ذكر.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

(٧٣) سبب نزولها : أنّ امرأ القيس بن عابس وعبدان الحضرميّ ، اختصما في أرض ، وكان عبدان هو الطّالب ولا بيّنة له ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فقرأ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) ، فكره أن يحلف ، ولم يخاصم في الأرض ، فنزلت هذه الآية. هذا قول جماعة ، منهم : سعيد بن جبير.

ومعنى الآية : لا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). قال القاضي أبو يعلى : والباطل على وجهين : أحدهما : أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه ، كالسّرقة ، والغصب ، والخيانة.

والثاني : أن يأخذه بطيب نفسه ، كالقمار ، والغناء ، وثمن الخمر ، وقال الزجّاج : الباطل : الظّلم. «وتدلوا» أصله في اللغة من : أدليت الدّلو : إذا أرسلتها لتملأها ، ودلوتها ؛ إذا أخرجتها. ومعنى أدلى فلان بحجّته : أرسلها ، وأتى بها على صحّة. فمعنى الكلام : تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجّة ، وتخونون في الأمانة ، وأنتم تعلمون أنّ الحجّة عليكم في الباطن (١). وفي هاء «بها» قولان : أحدهما :

____________________________________

(٧٣) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» ٩٤ للسيوطي عن سعيد بن جبير مرسلا ، ولم أقف على إسناده إلى سعيد ، وهو ضعيف بكل حال ، لإرساله ، فالمرسل ضعيف عند أهل الحديث.

ـ وذكره الواحدي ٩٥ وعزاه لمقاتل بن حيان ، وهذا مرسل ، وهو بدون إسناد ، ومقاتل ذو مناكير.

ـ وأصله صحيح ، انظر صحيح البخاري ٢٤١٦ ومسلم ١٣٩ فهو بهذا اللفظ مع ذكر سبب النزول ضعيف.

__________________

(١) فائدة : قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٣٦ : من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل. ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل ، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال ، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا ، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار ـ في رواية ـ فليحملها أو يذرها)


أنّها ترجع إلى الأموال ، كأنّه قال : لا تصانعوا ببعضها جورة الحكّام. والثاني : أنّها ترجع إلى الخصومة.

إن قيل : كيف أعاد ذكر الأكل فقال : (وَلا تَأْكُلُوا لِتَأْكُلُوا)؟ فالجواب : أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل ، والثانية بالإثم ، فأعادها للزّيادة في المعنى ، ذكره ابن الأنباريّ.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ). هذه الآية من أوّلها إلى قوله : (وَالْحَجِ) ، نزلت على سبب :

(٧٤) وهو أنّ رجلين من الصّحابة قالا : يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقا ، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي ، ثمّ لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) ، هذا قول ابن عباس (١).

ومن قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) إلى آخرها يدلّ على سبب آخر :

(٧٥) وهو أنّهم كانوا إذا حجّوا ، ثمّ قدموا المدينة ، لم يدخلوا من باب ، ويأتون البيوت من ظهورها ، فنسي رجل ، فدخل من باب ، فنزلت : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) هذا قول البراء بن عازب.

وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، والنّخعيّ ، وقتادة ، وقيس النّهشليّ. والثاني : لأجل دخول الشّهر الحرام ، قاله البراء بن عازب. والثالث : أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا همّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه ؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان همّ به ، قاله الحسن. والرابع : أنّ أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.

____________________________________

(٧٤) باطل. أخرجه أبو نعيم وابن عساكر كما في «أسباب النزول» ٩٧ للسيوطي من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط ، بل هذه السلسلة هي سلسلة الكذب ، فالسدي هو الصغير متهم ، والكلبي كذبه غير واحد ، وتقدم في المقدمة بيانه. وعزاه الواحدي في «الأسباب» ٩٨ للكلبي.

(٧٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥١٢ ومسلم ٣٠٢٦ والواحدي في «أسباب النزول» ٩٩ عن البراء بن عازب.

__________________

وعلى هذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن. واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قلّ أو كثر أنه يفسق بذلك ، وأنه محرّم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا : إن المكلّف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وكله مردود بالقرآن والسنة واتفاق العلماء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» الحديث متفق عليه.

(١) كذا وقع للمصنف رحمه‌الله! وهو غريب ، إذ ورد عن ابن عباس مرفوعا ، ثم مع ذلك ينسب ذلك لابن عباس ، مع أن ابن الجوزي رحمه‌الله من أهل الحديث ، ولكل جواد كبوة ، والله الموفق للصواب.


فأمّا التّفسير ؛ فإنّما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلّة ونقصانها ، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجّهم وغير ذلك. والأهلّة : جمع هلال. وكم يبقى الهلال على هذه التّسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال : أحدها : أنّه يسمّى هلالا لليلتين من الشّهر. والثاني : لثلاث ليال ، ثم يسمّى قمرا. والثالث : إلى أن يحجر ، وتحجيره : أن يستدير بخطّة دقيقة ، وهو قول الأصمعيّ. والرابع : إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل. حكى هذه الأقوال ابن السّريّ واختار الأوّل ، قال : واشتقاق الهلال من قولهم : استهلّ الصبيّ : إذا بكى حين يولد. وأهلّ القوم بالحجّ : إذا رفعوا أصواتهم بالتّلبية ، فسمّي هلالا لأنّه حين يرى يهلّ النّاس بذكره.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ، مثل قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، وقد سبق بيانه ، واختلف القرّاء في البيوت وما أشبهها ، قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائيّ بكسر باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» ، وروي عن نافع أنه ضمّ باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ» ، وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو جعفر بضمّ الأحرف الخمسة ، وكسرهنّ جميعا حمزة ، واختلف عن عاصم. قال الزجّاج : من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع : بيت وبيوت ، مثل : قلب وقلوب ، وفلس وفلوس. ومن كسر ، الياء بعد الباء ، وذلك عند البصريين رديء جدا ، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء. وسمعت شيخنا أبا منصور اللّغويّ يقول : إذا كان الجمع على فعول ، وثانيه ياء ، جاز فيه الضّمّ والكسر ، تقول : بيوت وبيوت ، وشيوخ وشيوخ ، وقيود وقيود.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) (٧٦) سبب نزولها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صدّ عن البيت ، ونحر هديه بالحديبية ، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل ؛ رجع ، فلمّا تجهّز في العام المقبل ؛ خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك ، وأن يصدّوهم ويقاتلوهم ، وكره أصحابه القتال في الشّهر الحرام ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) ، أي : ولا تظلموا. وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال : أحدها : أنه قتل النساء والولدان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنّ معناه : لا تقاتلوا من لم يقاتلكم ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وابن زيد. والثالث : أنه إتيان ما نهوا عنه ، قاله الحسن. والرابع : أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشّهر الحرام ، قاله مقاتل.

فصل : اختلف العلماء : هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين :

أحدهما : أنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين : أحدهما : أنه

____________________________________

(٧٦) ضعيف جدا ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٠٢ تعليقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به ، وهذا إسناد ساقط ، وتقدم بيانه في المقدمة. وسيأتي بنحو هذا السياق عند الآية ١٩٤.


أوّلها ، وهو قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، قالوا : وهذا يقتضي أنّ القتال يباح في حقّ من قاتل من الكفّار ، ولا يباح في حقّ من لم يقاتل ، وهذا منسوخ بقوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). والثاني : أنّ المنسوخ منها : (وَلا تَعْتَدُوا) ، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان : أحدهما : أنه قتل من لم يقاتل. والثاني : أنه ابتداء المشركين بالقتال ، وهذا منسوخ بآية السّيف.

والقول الثاني : أنها محكمة ، ومعناها عند أرباب هذا القول : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وهم الذين أعدّوا أنفسهم للقتال ، فأمّا من ليس بمعدّ نفسه للقتال ، كالرّهبان والشّيوخ الفناة ، والزّمنى ، والمكافيف ، والمجانين ، فإنّ هؤلاء لا يقاتلون ؛ وهذا حكم باق غير منسوخ (١).

فصل : واختلف العلماء في أوّل آية نزلت في إباحة القتال على قولين : أحدهما : أنّها قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، قاله أبو بكر الصّدّيق ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والزّهريّ. والثاني : أنها هذه الآية : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، قاله أبو العالية ، وابن زيد.

__________________

(١) فائدة : قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٤٦ : وللعلماء فيهم صور ست : الأولى : النساء إن قاتلن قتلن ، قال سحنون : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيّرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.

الثانية : الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية ، ولأنه لا تكليف عليهم فإن قاتل الصبي قتل.

الثالثة : الرهبان لا يقتلون ولا يسترقّون ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر ليزيد : «وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له». فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة لا تهاج. رواه أشهب وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها.

الرابعة : الزّمنى. قال سحنون : يقتلون. وقال ابن حبيب : لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.

الخامسة : الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل ، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان : أحدهما : مثل قول الجماعة. والثاني : يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد ، ولا مخالف له فثبت به إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيّرا بين خمسة أشياء : القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذّمّة على أداء الجزية.

السادسة : العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون. وقال الشافعي : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية والأول أصح ، لقوله عليه‌السلام في حديث رباح بن ربيع : «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرية والفلاحين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقوله تعالى (لا تَعْتَدُوا) قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة. وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل : (لا تَعْتَدُوا) أي لا تقاتلوا من لم يقاتل فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار والله أعلم.


(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١))

قوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). أي : وجدتموهم. يقال : ثقفته أثقفه : إذا وجدته. قال القاضي أبو يعلى : قوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ، عامّ في جميع المشركين ، إلّا من كان بمكّة ، فإنهم أمروا بإخراجهم منها ، إلّا من قاتلهم فإنّهم أمروا بقتالهم ، يدلّ على ذلك قوله في نسق الآية : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) ، وكانوا قد آذوا المسلمين بمكّة حتى اضطرّوهم إلى الخروج ، فكأنّهم أخرجوهم. فأمّا الفتنة ، ففيها قولان : أحدهما : أنها الشّرك ، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين. والثاني : أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان ، قاله مجاهد. فيكون معنى الكلام على القول الأوّل : شرك القوم أعظم من قتلكم إيّاهم في الحرم. وعلى الثاني : ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشدّ عليه من أن يقتل محقّا. قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، وقرأ حمزة والكسائيّ وخلف : (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) ، بحذف الألف فيهنّ. وقد اتّفق الكلّ على قوله : (فَاقْتُلُوهُمْ) ، فاحتجّ من قرأ بالألف بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، واحتجّ من حذف الألف بقوله : (فَاقْتُلُوهُمْ).

فصل : واختلف العلماء في قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) ، هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وأنه لا يقاتل فيه إلّا من قاتل.

(٧٧) ويدلّ على ذلك الحديث الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه خطب يوم فتح مكّة ، فقال : «يا أيّها النّاس! إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي. وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار ، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة».

فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خصّ في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التّخصيص ، لا على وجه النّسخ ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم ، إلّا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا ، وهذا أمر مستمر الحكم غير منسوخ ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، فأمر بقتالهم في الحلّ والحرم وعلى كلّ حال. وذهب الرّبيع بن أنس ، وابن زيد ، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، وزعم مقاتل إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). والقول الأوّل أصحّ. قوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، قال مقاتل : أي : فقاتلوهم.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢))

قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.

____________________________________

(٧٧) صحيح. أخرجه البخاري ١١٢٠ و ٢٤٣٤ و ٦٨٨٠ ومسلم ١٣٥٥ و ٤٤٨ وأبو داود ٢٠١٧ و ٤٥٠٥ والترمذي ١٤٠٥ و ٢٦٦٧ والبيهقي ٨ / ٥٣ وقال الترمذي : حسن صحيح وابن ماجة مختصرا ٢٦٢٤ وابن حبان ٣٧١٥ وأحمد مطولا ومفرقا ٢ / ٢٣٨ والبيهقي في «السنن» ٨ / ٥٢ من طرق عن أبي هريرة.


والثاني : عن كفرهم. والثالث : عن قتالكم دون كفرهم ، فعلى القولين الأوّلين تكون الآية محكمة ، ويكون معنى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور لشركهم وجرمهم ، وعلى القول الأخير ؛ يكون في معنى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) قولان : أحدهما : غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم. والثاني : أنّ معناه : يأمركم بالغفران والرّحمة لهم. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السّيف.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين : الفتنة هاهنا : الشّرك. قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، قال ابن عباس : أي يخلص له التّوحيد. والعدوان : الظّلم ، وأريد به هاهنا الجزاء ، فسمّي الجزاء عدوانا مقابلة للشيء بمثله ، كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) ، والظّالمون هاهنا المشركون ، قاله عكرمة وقتادة في آخرين.

فصل : وقد روي عن جماعة من المفسّرين ، منهم قتادة ، أنّ قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ، منسوخ بآية السّيف ، وإنّما يستقيم هذا إذا قلنا : إنّ معنى الكلام : فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم ، فأمّا إذا قلنا : إنّ معناه : فإن انتهوا عن دينهم ؛ فالآية محكمة.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))

قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين :

(٧٨) أحدهما : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي ، فصدّهم المشركون ، فصالحهم نبيّ الله على أن يرجع عنهم ثمّ يعود في العام المقبل ، فيكون بمكّة ثلاث ليال ، ولا يدخلها بسلاح ، ولا يخرج بأحد من أهل مكّة ، فلمّا كان العام المقبل ؛ أقبل هو وأصحابه فدخولها ، فافتخر المشركون عليه إذ ردّوه يوم الحديبية ، فأقصّه الله منهم وأدخله مكّة في الشهر الذي ردّوه فيه ، فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وقتادة في آخرين.

(٧٩) والثاني : أنّ مشركي العرب قالوا للنبيّ عليه‌السلام : أنهيت عن قتالنا في الشّهر الحرام؟ قال : «نعم» ، وأرادوا أن يفتّروه في الشهر الحرام ، فيقاتلوه فيه ، فنزلت هذه الآية ، يقول : إن استحلّوا منكم شيئا في الشّهر الحرام ، فاستحلّوا منهم مثله ، هذا قول الحسن ، واختاره إبراهيم بن السّريّ الزجّاج.

____________________________________

(٧٨) حسن صحيح بشواهده. أخرجه الطبري ٣١٣٩ عن قتادة مرسلا. وكرره ٣١٤٠ من مرسل قتادة ومقسم ، وبرقم ٣١٣٧ من مرسل مجاهد و ٣١٤١ من مرسل السدي ، وبرقم ٣١٤٣ من مرسل الربيع بن أنس وبرقم ٣١٤٤ عن ابن عباس ، لكن إسناده واه ، فيه مجاهيل.

الخلاصة : رووه بألفاظ متقاربة والمعنى واحد ، فالخبر حسن بشواهده.

(٧٩) عزاه المصنف للحسن ، ولم أقف على إسناده ، وهو مرسل ، بكل حال ، ومراسيل الحسن واهية ، والخبر المتقدم هو المحفوظ في هذا.


وأما أرباب القول الأول ؛ فيقولون : معنى الآية : الشّهر الحرام الذي دخلتم فيه الحرم بالشّهر الحرام الذي صدّوكم فيه عام أوّل. (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) : اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدّوكم في ذي القعدة. وقال الزجّاج : الشهر الحرام ، أي : قتال الشّهر الحرام بالشّهر الحرام ، فأعلم الله عزوجل أنّ أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصا ، ثم نسخ ذلك بآية السّيف ، وقيل : إنّما جمع الحرمات ، لأنه أراد الشّهر الحرام بالبلد الحرام ، وحرمة الإحرام.

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) ، قال ابن عباس : من قاتلكم في الحرم فقاتلوه. وإنما سمّى المقابلة على الاعتداء اعتداء ، لأنّ صورة الفعلين واحدة ، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. قال الزجّاج : والعرب تقول : ظلمني فلان فظلمته ، أي : جازيته بظلمه. وجهل فلان عليّ ، فجهلت عليه. وقد سبق بيان هذا المعنى في أوّل السّورة.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، قال سعيد بن جبير : واتّقوا الله ولا تبدأوهم بقتال في الحرم.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))

قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). هذه الآية نزلت على سبب ، وفيه قولان :

(٨٠) أحدهما : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أمر بالتّجهّز إلى مكّة ، قال ناس من الأعراب : يا رسول الله! بما ذا نتجهّز؟ فو الله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت ، قاله ابن عباس.

(٨١) والثاني : أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدّقون ، فأصابهم سنة ، فأمسكوا ؛ فنزلت ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.

والسّبيل في اللّغة : الطّريق. وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد ، لأنه السّبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدّين. والتّهلكة : بمعنى الهلاك ، يقال : هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة. قال المبرّد : وأراد بالأيدي : الأنفس ؛ فعبّر بالبعض عن الكلّ. وفي المراد بالتّهلكة هاهنا أربعة أقوال :

____________________________________

(٨٠) لم أقف عليه بعد البحث ، ولم يذكره سوى المصنف والقرطبي ٢ / ٣٦٠ ، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.

ـ وانظر ما بعده.

(٨١) صحيح. أخرجه أبو يعلى كما في «إتحاف المهرة» ٦٣٤٥ وابن حبان ٥٧٠٩ والطبراني ٢٢ / ٣٩٠ والواحدي في «الأسباب» ١٠٥ من طريق هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبيرة به. كذا وقع عندهم سوى الطبراني قال : أبو جبيرة بن الضحاك. وهذا هو الصواب.

ورجال إسناده رجال البخاري ومسلم سوى حمّاد فقد تفرد عنه مسلم. وصحابية مختلف في صحبته. قال البوصيري في «الإتحاف» : رجال أبي يعلى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» ٦ / ٣١٧ : رجاله رجال الصحيح.


أحدها : أنها ترك النّفقة في سبيل الله ، قاله حذيفة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال ، قاله أبو أيّوب الأنصاريّ. والثالث : أنها القنوط من رحمة الله ، قاله البراء ، والنّعمان بن بشير ، وعبيدة. والرابع : أنها عذاب الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (١).

قوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : أحسنوا الإنفاق ، وهو قول أصحاب القول الأوّل. والثاني : أحسنوا الظّنّ بالله ، قاله عكرمة ، وسفيان ، وهو يخرّج على قول من قال : التّهلكة : القنوط. والثالث : أن معناه : أدّوا الفرائض ، رواه سفيان عن أبي إسحاق.

قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، قال ابن فارس : الحجّ في اللغة : القصد ، والاعتمار في الحجّ أصله : الزّيارة. قال ثعلب : الحجّ بفتح الحاء : المصدر ، وبكسرها : الاسم. قال : وربّما قال الفرّاء : هما لغتان. وذكر ابن الأنباريّ في العمرة قولين : أحدهما : الزّيارة. والثاني : القصد. وفي إتمامها أربعة أقوال : أحدها : أن معنى إتمامها : أن يفصل بينهما ، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحجّ ، قاله عمر بن الخطّاب ، والحسن وعطاء. والثاني : أن يحرم الرجل من دويرة أهله ، قاله عليّ بن أبي طالب ، وطاوس ، وابن جبير. والثالث : أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتمّ ، قاله ابن عباس.

والرابع : أنه فعل ما أمر الله فيهما ، قاله مجاهد.

وجمهور القرّاء على نصب «العمرة» بإيقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعيّ عن نافع والقزّاز عن أبي عمرو والكسائيّ عن أبي جعفر برفعها ، وهي قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن والشّعبيّ.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٦٠ بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة : وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق ، أو يكون عالة على الناس.

فهذه خمسة أقوال. و «سبيل الله» هنا : الجهاد ، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. وقيل : لا تأخذوا فيما يهلككم قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم وهلكتم وقيل إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ويقال لا تنفقوا من حرام فيردّ عليكم فتهلكوا ونحوه عن عكرمة وقال الطبري : قوله «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه إذ اللفظ يحتمله. واختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده فقال القاسم بن مخيمرة : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة ، وكان لله بنيّة خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل : إن خلصت الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم. وقال ابن خويز منداد :

فأما أن يحمل الرجل على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان : إن غلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن ، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة ، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي يقدمها فقيل له : إنه قاتلك. فقال : لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين.

وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ، قال رجل ـ هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك كما في تاريخ الطبري ـ من المسلمين : ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم ، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال : «فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل.


وممّن ذهب إلى أنّ العمرة واجبة ، عليّ ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأحمد ، والشّافعيّ. وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، والشّعبيّ ، وإبراهيم ، وأبي حنيفة ، ومالك ، أنها سنّة وتطوّع (١).

قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ، قال ابن قتيبة : أحصره المرض والعدو : إذا منعه من السّفر ، ومنه هذه الآية. وحصره العدوّ : إذا ضيّق عليه. قال الزجّاج : يقال للرجل إذا منعه الخوف والمرض من التّصرّف قد أحصر فهو محصر. يقال للرجل إذا حبس : قد حصر ، فهو محصور. وللعلماء في هذا الإحصار قولان : أحدهما : أنه لا يكون إلّا بالعدو ، ولا يكون المريض محصرا. وهذا مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، ومالك ، والليث ، والشّافعيّ ، وأحمد. ويدلّ عليه قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ). والثاني : أنه يكون بكلّ حابس من مرض أو عدوّ أو عذر ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي حنيفة. وفي الكلام اختصار وحذف ، والمعنى : فإن أحصرتم دون تمام الحجّ والعمرة فحللتم ؛ فعليكم ما استيسر من الهدي. ومثله : (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) ، تقديره : فحلق ، ففدية. والهدي : ما أهدي إلى البيت. وأصله : هديّ مشدد ، فخفّف ، قاله ابن قتيبة. وبالتشديد يقرأ الحسن ومجاهد. وفي المراد (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه شاة ، قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة والضحّاك ومغيرة. والثاني : أنه ما تيسّر من الإبل والبقر لا غير ، قاله ابن عمر وعائشة ، والقاسم. والثالث : أنه على قدر الميسرة ، رواه طاوس عن ابن عباس ، وروي عن الحسن وقتادة قالا : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسّه شاة. وقال أحمد : الهدي من الأصناف الثلاثة ، الإبل والبقر ، والغنم ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ رحمهم‌الله.

قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، قال ابن قتيبة : المحلّ : الموضع الذي يحلّ به نحره وهو من : حلّ يحلّ. وفي المحلّ قولان : أحدهما : أنه الحرم ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس ،

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٦٦ : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري سمعنا أنها واجبة. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» أخرجه الدارقطني وكان مالك يقول : «العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها». وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج وبأنها سنة ثابتة قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. فعن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة والزكاة والحج. أواجب هو؟ قال : «نعم» فسأله عن العمرة : أواجبة هي؟ قال : «لا ، وأن تعتمر خير لك» رواه يحيى بن أيوب عن حجاج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر. أخرجه الدارقطني فهذه حجة من لم يوجبها من السنة.

قالوا : وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب ، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وابتدأ بإيجاب الحج فقال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها بابتدائها ، فلو حج عشر حجج ، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها ، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال : عماد الحج الوقوف بعرفة وليس في العمرة وقوف ، فلو كانت كسنّة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله ، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.


ومجاهد ، وابن سيرين ، والثّوريّ ، وأبو حنيفة. والثاني : أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحلّ ، قاله مالك ، والشّافعيّ ، وأحمد (١).

قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) ، هذا نزل على سبب :

(٨٢) وهو أنّ كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه ، فنزلت هذه الآية فيه ، فكان يقول : فيّ أنزلت خاصّة.

____________________________________

(٨٢) صحيح. أخرجه البخاري ١٨١٥ مع اختلاف يسير فيه ، وانظر ما بعده.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٥ / ١٩٤ ـ ١٩٧ و ٢٠٢ ـ ٢٠٣ : أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدوّ من المشركين ، فمنعوه الوصول إلى البيت ، ولم يجد طريقا آمنا ، فله التحلل وقد نصّ الله تعالى عليه بقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلّوا. وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا ، وأبي حنيفة والشافعي.

وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل ، لأنه لا يخاف الفوات. وليس بصحيح ، لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه محرمين بعمرة فحلّوا جميعا. وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة ، بعث الهدي ، إن كان معه ليذبحه بمكة ، وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت. والمشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت لغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه ، أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان. وبه قال مالك والشافعي وإسحاق.

وعن أحمد رواية أخرى : له التحلل بذلك. روي نحوه عن ابن مسعود وهو قول عطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كسر ، أو عرج فقد حل ، وعليه حجة أخرى» رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به. ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت : إني أريد الحج ، وأنا شاكية. فقال : «حجّي ، واشترطي أن محلّي حيث حبستني». فلو كان المرض يبيح الحل ، ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر ، فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل ، حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك ، على أن حديثهم كلاما ، فإنه يرويه ابن عباس ومذهبه خلافه. فإن قلنا : يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعد وإن قلنا لا يتحلل. فإنه يقيم على إحرامه ، ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل.

فإن فاته الحج تحلل بعمرة ، كغير المريض وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه. فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه ، وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي ، وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وله نحره في موضع حصره ، من حل أو حرم. نص عليه أحمد. وهو قول مالك والشافعي. إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم ، ففيه وجهان : أحدهما ، يلزمه نحره فيه ، لأن الحرم كله منحر ، وقد قدر عليه. والثاني ، ينحره في موضعه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر هديه في موضعه. وعن أحمد : ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه ، ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه. وهذا يروى عن ابن مسعود ، في من لدغ في الطريق. وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي والله أعلم ، في من كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية ، وهي من الحل. قال البخاري : قال مالك وغيره : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حلقوا وحلّوا من كل شيء ، قبل الطواف. وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أحدا أن يقضي شيئا ، ولا يعودوا له.


فصل : قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : اقتضى قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، تحريم حلاق الشّعر ، سواء وجد به الأذى ، أو لم يجد ، حتى نزل (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) ، فاقتضى هذا إباحة حلق الشّعر عند الأذى مع الفدية ، فصار ناسخا لتحريمه المتقدّم. ومعنى الآية : فمن كان منكم ـ أي : من المحرمين ، محصرا كان أو غير محصر ـ مريضا ، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظّره الإحرام ، ففعله ، أو به أذى من رأسه فحلق ؛ ففدية من صيام. وفي الصّيام قولان :

(٨٣) أحدهما : أنه ثلاثة أيام ، روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه صيام عشرة أيام ، روي عن الحسن وعكرمة ونافع.

وفي الصّدقة قولان : أحدهما : إطعام ستة مساكين ، روي في حديث كعب ، وهو قول من قال : الصّوم ثلاثة أيام. والثاني : أنها إطعام عشرة مساكين ، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام. والنّسك : ذبح شاة ، يقال : نسكت لله ، أي : ذبحت له. وفي النّسك لغتان : ضمّ النون والسين ، وبها قرأ الجمهور ، وضمّ النون مع تسكين السين ، وهي قراءة الحسن.

قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ، أي : من العدوّ ، إذ المرض لا تؤمن معاودته ، وقال علقمة في آخرين : فإذا أمنتم من الخوف أو المرض. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) ، معناه : من بدأ بالعمرة في أشهر الحجّ ، وأقام الحجّ من عامه ذلك ؛ فعليه ما استيسر من الهدي. وهذا قول ابن عمر وابن عباس ، وابن المسيّب ، وعطاء ، والضّحّاك. وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) ، قال الحسن : هي قبل التّروية بيوم والتّروية ، وعرفة ، وهذا قول عطاء ، والشّعبيّ ، وأبي العالية ، وابن جبير ، وطاوس ، وإبراهيم. وقد نقل عن عليّ عليه‌السلام. وقد روي عن الحسن ، وعطاء قالا : في أيّ العشر شاء صامهنّ. ونقل عن طاوس ، ومجاهد ، وعطاء ، أنهم قالوا : في أيّ أشهر الحجّ شاء فليصمهنّ. ونقل عن ابن عمر أنّه قال : من حين يحرم إلى يوم عرفة.

فصل : فإن لم يجد الهدي ، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النّحر ، فما ذا يصنع؟ قال عمر بن الخطّاب ، وابن عباس ، وابن جبير ، وطاوس ، وإبراهيم : لا يجزيه إلّا الهدي ولا يصوم. وقال ابن عمر وعائشة : يصوم أيام منى. ورواه صالح عن أحمد ، وهو قول مالك. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التّشريق ، بل يصوم بعدهنّ. روي عن عليّ. ورواه المرّوذي عن أحمد ، وهو قول الشّافعيّ (١).

____________________________________

(٨٣) صحيح. أخرجه البخاري ١٨١٤ ومسلم ١٢٠١ وأبو داود ١٨٥٦ و ١٨٥٧ والترمذي ٢٩٧٣ والنسائي ٥ / ١٩٥ والطيالسي ١٠٦٢ وأحمد ٤ / ٢٤١ و ٢٤٢ كلهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال له : «لعلك آذاك هو أمك؟» قال : نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة». رووه بألفاظ متقاربة ، واللفظ للبخاري.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٥ / ٢٠٠ : فإن لم يكن معه هدي ، ولا يقدر عليه ، صام عشرة أيام ، ثم حلّ وجملة ذلك أن المحصر ، إذا عجز عن الهدي ، انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حلّ. وبهذا قال الشافعي ، في أحد قوليه. وقال مالك ، وأبو حنيفة : ليس له بدل ، لأنه لم يذكر في القرآن ، ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ، كدم التمتاع والطيب واللباس. ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام ، كبدل هدي التمتاع ،


فصل : فإن وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة الأيام ، لم يلزمه الخروج منه ، وهو قول مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يلزمه الخروج ، وعليه الهدي. وقال عطاء : إن صام يومين ثم أيسر ؛ فعليه الهدي. وإن صام ثلاثة ثم أيسر ، فليصم السّبعة ، ولا هدي عليه (١).

وفي معنى قوله : (فِي الْحَجِ) ، قولان : أحدهما : أنّ معناه : في أشهر الحجّ. والثاني : في زمن الإحرام بالحجّ. وفي قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) ، قولان : أحدهما : إذا رجعتم إلى أمصاركم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية ، والشّعبيّ ، وقتادة. والثاني : إذا رجعتم من حجّكم ، وهو قول عطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي حنيفة ، ومالك. قال الأثرم : قلت لأبي عبيد الله ، يعني : أحمد بن حنبل : فصيام السّبعة الأيام إذا رجع متى يصومهنّ؟ أفي الطّريق ، أم في أهله؟ قال : كلّ ذلك قد تأوّله الناس. قيل لأبي عبد الله : ففرّق بينهنّ ، فرخّص في ذلك (٢).

قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، فيه خمسة أقوال : أحدها : أنّ معناه : كاملة في قيامها مقام الهدي ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، والحسن. قال القاضي أبو يعلى : وقد كان يجوز أن يظنّ ظانّ أنّ الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثّواب ، فأعلمنا الله تعالى أنّ العشرة بكمالها هي

__________________

وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام ، كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره. ولا يتحلل إلا بالنية ، فيحصل الحل بشيئين ، النحر أو الصوم والنية. إن قلنا الحلاق ليس بنسك ، وإن قلنا : هو نسك حصل بثلاثة أشياء ، الحلاق مع ما ذكرنا.

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٩٦ : وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكماله صومه فذكر ابن وهب عن مالك قال : إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحبّ إليّ أن يهدي ، فإن لم يفعل أجزأه الصيام. وقال الشافعي : يمضي في صومه وهو فرضه ، وكذلك قال أبو ثور وهو قول الحسن وقتادة ، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة : إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل صومه ووجب عليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي ، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٣٩٨ : قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) يعني إلى بلادكم ، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء ، وقاله مالك في كتاب محمد ، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلّا إذا وصل وطنه ، إلّا أن يتشدّد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان وقال أحمد وإسحاق : يجزيه الصوم في الطريق ، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد : إن شاء صامها في الطريق ، إنما هي رخصة ، وكذلك قال عكرمة والحسن وقال مالك في الكتاب : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم قال ابن العربي : «إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرّخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص ، ولا ظاهر أنه أراد البلاد ، وأنها المراد في الأغلب». قلت : بل فيه ظاهر يقرب إلى النص يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال : تمتاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع بعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتاع الناس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قال للناس : (من كان منكم أهدى فإنه لا يحلّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) ، الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلّا في أهله وبلده والله أعلم.


القائمة مقامه. والثاني : أنّ الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع ، منها قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، فأزال الله عزوجل احتمال التّخيير في هذه الآية بقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، وإلى هذا المعنى ذهب الزجّاج. والثالث : أنّ ذلك للتّوكيد. وأنشدوا للفرزدق :

ثلاث واثنتان فهنّ خمس

وسادسة تميل إلى شمام (١)

وقال آخر :

هلّا سألت جوع كندة يوم ولّوا أين أينا وقال آخر :

كم نعمة كانت له كم كم وكم

والقرآن نزل بلغة العرب ، وهي تكرّر الشيء لتوكيده. والرابع : أنّ معناه : تلك عشرة كاملة في الفصل ، وإن كانت الثلاثة في الحجّ ، والسبعة بعده ، لئلّا يسبق إلى وهم أحد أنّ السبعة دون الثلاثة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والخامس : أنها لفظة خبر ومعناها : الأمر ، فتقديره : تلك عشرة فأكملوها.

قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، في المشار إليه بذلك قولان :

أحدهما : أنه التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ. والثاني : أنه الجزاء بالنّسك والصّيام. واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى : «على». فأمّا حاضرو المسجد الحرام ؛ فقال ابن عباس ، وطاوس ، ومجاهد : هم أهل الحرم. وقال عطاء : من كان منزله دون المواقيت. قال ابن الأنباريّ : ومعنى الآية : إنّ هذا الفرض لمن كان من الغرباء ، وإنما ذكر أهله ، وهو المراد بالحضور ، لأنّ الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ). في الحجّ لغتان : فتح الحاء ، وهي لأهل الحجاز ، وبها قرأ الجمهور. وكسرها ، وهي لتميم ، وقيل : لأهل نجد ، وبها قرأ الحسن. قال سيبويه : يقال : حجّ حجّا ، كقولهم : ذكر ذكرا. وقالوا : حجّة ، يريدون : عمل سنة. قال الفرّاء : المعنى : وقت الحجّ هذه الأشهر. وقال الزجّاج : معناه : أشهر الحجّ أشهر معلومات.

وفي أشهر الحجّ قولان : أحدهما : أنها شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر وابن عباس ، وابن الزّبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وطاوس ، والنّخعيّ ، وقتادة ، ومكحول ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وأبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، والشّافعيّ ، رضي الله عنهم. والثاني : أنها شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ، وهو مرويّ عن ابن عمر أيضا ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والزّهريّ ، والرّبيع ، ومالك بن أنس. قال ابن جرير الطّبريّ : إنّما أراد هؤلاء أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحجّ ، وإن كان عمل الحجّ قد انقضى بانقضاء أيام منى ، وقد

__________________

(١) في «اللسان» : الشّمم : القرب ، والدّنو.


كانوا يستحبّون أن يفعلوا العمرة في غيرها. قال ابن سيرين : ما أحد من أهل العلم شكّ في أنّ عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحجّ ، وإنما قال : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) ، وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب. قال الفرّاء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو يوم ، وبعض آخر. وتقول : زرتك العام ، وأتيتك اليوم ، وإنّما وقع الفعل في ساعة. وذكر ابن الأنباريّ في هذا قولين : أحدهما : أنّ العرب توقع الجمع على التّثنية ، إذا كانت التّثنية أقلّ الجمع. كقوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) (١) ، وإنما يريد عائشة وصفوان ، وكذلك قوله : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٢) ، يريد : داود وسليمان. والثاني : أنّ العرب توقع الوقت الطّويل على الوقت القصير ، فيقولون : قتل ابن الزّبير أيام الحجّ ، وإنما كان القتل في أقصر وقت.

فصل : اختلف العلماء فيمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، فقال عطاء ، وطاوس ومجاهد ، والشّافعيّ : لا يجزئه ذلك ، وجعلوا فائدة قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أنه لا ينعقد الحجّ إلّا فيهنّ. وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والثّوريّ ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل : يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر (٣) ، فعلى هذا يكون قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، أي : معظم الحجّ يقع في هذه الأشهر.

(٨٤) كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجّ عرفة».

قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) ، قال ابن مسعود : هو الإهلال بالحجّ والإحرام به. وقال طاوس وعطاء : هو أن يلبّي. وروي عن عليّ وابن عمر ومجاهد والشّعبيّ في آخرين : أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم ، وهذا محمول على أنه قلّدها ناويا الحجّ. ونصّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية الأثرم : أنّ الإحرام بالنّيّة. قيل له : يكون محرما بغير تلبية؟ قال : نعم إذا عزم على الإحرام ، وهذا قول مالك والشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز الدّخول في الإحرام إلّا بالتّلبية أو تقليد الهدي وسوقه. قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر : «فلا رفث ولا فسوق» بالضّمّ والتنوين. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ بغير تنوين ، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر. قال أبو عليّ : حجّة من فتح أنه أشدّ مطابقة للمعنى المقصود ، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرّفث والفسوق ، كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) ، فإذا رفع ونوّن ، كان النفي لواحد منه ، وإنما فتحوا لام (الجدال) ، ليتناول النفي جميع جنسه ، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله. وحجّة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرّفث ، وقد يكون اللفظ واحدا والمراد بالمعنى الجميع ، قال الشاعر :

____________________________________

(٨٤) جيد. أخرجه أبو داود ١٩٤٩ والترمذي ٩٨٩ والنسائي ٥ / ٢٥٦ وابن ماجة ٣٠١٥ والدارمي ١٨٢٧ والطيالسي ١٣٠٩ وأحمد ٤ / ٣٠٩ ـ ٣٣٥ والحاكم ١ / ٤٦٤ والبيهقي ٥ / ١١٦ وإسناده جيد وصححه الحاكم ، وأقره الذهبي. وقال الترمذي قال ابن عيينة : هذا أجود حديث رواه الثوري.

__________________

(١) النور : ٢٦.

(٢) الأنبياء : ٧٨.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله ٢ / ٤٠١ : قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بيّن اختلافهما في الوقت ، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة ، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة ، فلا يكون في غير هذه الأشهر.


فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم

وفي الرّفث ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الجماع ، قاله ابن عمر ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين. والثاني : أنه الجماع ، وما دونه من التّعريض به ، وهو مرويّ عن ابن عمر أيضا ، وابن عباس ، وعمرو بن دينار في آخرين. والثالث : أنه اللّغو من الكلام ، قاله أبو عبد الرّحمن اليزيديّ. وفي الفسوق ثلاثة أقوال : أحدها : أنه السّباب ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وإبراهيم في آخرين. والثاني : أنه التّنابز بالألقاب ، مثل أن تقول لأخيك : يا فاسق ، يا ظالم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنه المعاصي ، قاله الحسن ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين ، وهو الذي نختاره ، لأنّ المعاصي تشمل الكلّ ، ولأنّ الفاسق : الخارج من الطّاعة إلى المعصية. قوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، الجدال : المراء. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أنّ معناه : لا يمارينّ أحد أحدا ، فيخرجه المراء إلى الغضب ، وفعل ما لا يليق بالحجّ ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، وعكرمة ، والنّخعيّ ، وقتادة ، والزّهريّ ، والضّحّاك في آخرين. والثاني : أنّ معناه : لا شكّ في الحجّ ولا مراء ، فإنه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النّسيء عنه.

(٨٥) قال مجاهد : كانوا يحجّون في ذي الحجّة عامين ، وفي المحرّم عامين ، ثم حجّوا في صفر عامين ، وكانوا يحجّون في كلّ سنة في كلّ شهر عامين حتى وافقت حجّة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنة ، ثم حجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قابل في ذي الحجّة ، فذلك حين قال : «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض» ، وإلى هذا المعنى ذهب السّدّيّ عن أشياخه ، والقاسم بن محمّد.

قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

(٨٦) قال ابن عباس : كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن المتوكّلون ، فيسألون الناس ، فأنزل الله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ، قال الزجّاج : أمروا أن يتزوّدوا ، وأعلموا أن خير ما تزوّد تقوى الله عزوجل.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ). قال ابن عباس :

(٨٧) كانوا يتّقون البيوع والتّجارة في الموسم ، ويقولون : أيّام ذكر ؛ فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(٨٥) أخرجه الطبري ٣٧١٨ عن مجاهد مرسلا ، فهو ضعيف ، والمرفوع منه صحيح ، أخرجه البخاري ٣١٩٧ ومسلم ١٦٧٩ وأبو داود ١٩٤٧ وابن حبان ٥٩٧٥ و ٣٨٤٨ من حديث أبي بكرة. وسيأتي.

(٨٦) صحيح. أخرجه البخاري ١٥٢٣ وأبو داود ١٧٣٠ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٣٣ و «التفسير» ٥٣ والواحدي في «الأسباب» ١١٣ من حديث ابن عباس.

(٨٧) حسن. أخرجه الطبري ٣٧٨٧ من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس به ، وإسناده غير قوي


والابتغاء : الالتماس. والفضل هاهنا : النّفع بالتّجارة والكسب ؛ قال ابن قتيبة : أفضتم ، بمعنى : دفعتم ، وقال الزجّاج : معناه : دفعتم بكثرة ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إذا اندفعوا فيه ، وأكثروا التّصرّف. وفي تسمية «عرفات» قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحجّ به ، فلمّا أتى عرفات قال : قد عرفت ، فسمّيت «عرفة» ، قاله عليّ عليه‌السلام (١). والثاني : أنها سمّيت بذلك لاجتماع آدم وحوّاء ، وتعارفهما بها ، قاله الضّحّاك (٢). قال الزجّاج ؛ والمشعر : المعلم ، سمّي بذلك لأنّ الصلاة عنده. والمقام والمبيت والدّعاء من معالم الحجّ ، وهو مزدلفة وهي جمع يسمّى بالاسمين. قال ابن عمر ومجاهد : المشعر الحرام المزدلفة كلّها.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ، أي : جزاء هدايته لكم ، فإن قيل : ما فائدة تكرير الذّكر؟ قيل : فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنه كرّره للمبالغة في الأمر به. والثاني : أنه وصل بالذّكر الثاني ما لم يصل بالذّكر الأوّل ، فحسن تكريره. فالمعنى : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. والثالث : أنه كرّره ليدلّ على مواصلته ، والمعنى : اذكروه ذكرا بعد ذكر ، ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم النّحويّ. والرابع : أنّ الذّكر في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، هو : صلاة المغرب والعشاء اللّتان يجمع بينهما بالمزدلفة. والذّكر في قوله : (كَما هَداكُمْ) هو : الذّكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، حكاه القاضي أبو يعلى.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) ، في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الإسلام ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها ترجع إلى الهدى ، قاله مقاتل ، والزجّاج. والثالث : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله سفيان الثّوريّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ). قالت عائشة :

(٨٨) كانت قريش ومن يدين بدينها ، وهم الحمس ، يقفون عشيّة عرفة بالمزدلفة ، يقولون : نحن قطين البيت ، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات ، فنزلت هذه الآية. قال الزجّاج : سمّوا الحمس لأنهم تحمّسوا في دينهم ، أي : تشدّدوا. والحماسة : الشّدّة في كلّ شيء.

وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنهم جميع العرب غير الحمس ، ويدلّ عليه حديث عائشة ، وهو قول عروة ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنّ المراد بالناس هاهنا : إبراهيم الخليل ،

____________________________________

لأجل يزيد. وأخرجه أبو داود ١٧٣١ بهذا الإسناد مع اختلاف يسير فيه. وأخرجه الطبري ٣٧٨٦ بإسناد ضعيف عن ابن عباس نحوه. وأصله عند البخاري ٤٥١٩ والطبري ٣٧٩٤.

(٨٨) صحيح بهذا السياق. أخرجه الترمذي ٨٨٤ من حديث عائشة وقال : حسن صحيح ، وهو كما قال.

ـ وأصله صحيح ، أخرجه البخاري ٤٥٢٠ ومسلم ١٢١٩ وابن حبان ٣٨٥٦ وأبو داود ١٩١٠ والنسائي ٥ / ٢٥٤ من حديث عائشة. وله شواهد كثيرة أوردها الطبري ٣٨٣٥ ـ ٣٨٤٣.

__________________

(١) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٧٩٧ عن ابن جريج عن ابن المسيب عن علي ، وفيه إرسال بين ابن جريج وابن المسيب ، وما يرسله ابن جريج واه بمرة.

(٢) لم أقف عليه ، والضحاك يروي عن كتب الأقدمين ، فخبره هذا لا شيء.

(٣) القول الأول هو الصواب ، وباقي الأقوال منكرة ليست بشيء.


عليه‌السلام ، قاله الضّحّاك بن مزاحم. والثالث : أنّ المراد بالناس آدم ، قاله الزّهريّ. وقد قرأ أبو المتوكّل ، وأبو نهيك ، ومورّق العجليّ : «النّاسي» بإثبات الياء. والرابع : أنهم أهل اليمن وربيعة ، فإنهم كانوا يفيضون من عرفات ، قاله مقاتل.

وفي المخاطبين بذلك قولان : أحدهما : أنه خطاب لقريش ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه خطاب لجميع المسلمين ، وهو يخرّج على قول من قال : النّاس آدم ، أو إبراهيم.

والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ : هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النّحر ، إلّا أنّ جمهور المفسّرين على أنها الإفاضة من عرفات ، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك ، كيف يقال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) ، ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أنّي أقول : وجه الكلام على ما قال أهل التّفسير : إنّ فيه تقديما وتأخيرا ، تقديره : ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله.

و «الغفور» : من أسماء الله ، عزوجل ، وهو من قولك : غفرت الشيء : إذا غطّيته ، فكأنّ الغفور السّاتر لعبده برحمته ، أو السّاتر لذنوب عباده. والغفور : هو الذي يكثر المغفرة ، لأنّ بناء المفعول للمبالغة من الكثرة ، كقولك : صبور ، وضروب ، وأكول.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ). في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم ، ذكروا أفعال آبائهم وأيّامهم وأنسابهم في الجاهلية ، فتفاخروا بذلك ؛ فنزلت هذه الآية (١). وهذا المعنى مرويّ عن الحسن ، وعطاء ، ومجاهد. والثاني : أنّ العرب كانوا إذا حدّثوا أو تكلّموا يقولون : وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا ؛ فنزلت هذه الآية. وهذا مرويّ عن الحسن أيضا (٢). والثالث : أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم ، قام الرّجل بمنى ، فقال : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ذلك ، فلا يذكر الله ، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه ؛ فنزلت هذه الآية ، وهذا قول السّدّي (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري ٣٨٥٤ و ٣٨٥٥ و ٣٨٥٦ و ٣٨٥٧ عن مجاهد مرسلا ، وكرره ٣٨٥٨ و ٣٨٥٩ عن قتادة مرسلا ، وكرره ٣٨٦٠ عن سعيد بن جبير وعكرمة ، وأخرجه برقم ٣٨٩٢ عن أبي وائل.

ـ الخلاصة : هذه المراسيل تتأيد بمجموعها ، فهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية.

(٢) عزاه المصنف للحسن ، ولم أقف عليه مسندا ، وإنما ذكره الواحدي عنه في «الأسباب» ١٢٠ بدون إسناد ، ومراسيل الحسن واهية ، وهذا قول منكر.

(٣) أخرجه الطبري ٣٨٦٩ عن السدي مرسلا ، ويشهد لبعضه القول الأول ، وبعضه غريب.


والمناسك : المتعبّدات ، وفي المراد بها هاهنا قولان : أحدهما : أنها أفعال الحجّ ، قاله الحسن. والثاني : أنها إراقة الدّماء ، قاله مجاهد. وفي ذكرهم آباءهم أربعة أقوال : أحدها : أنه إقرارهم بهم. والثاني : أنه حلفهم بهم. والثالث : أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم ، فإنّهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم. والرابع : أنه ذكر الأطفال الآباء ، لأنهم أوّل نطقهم بذكر آبائهم ، روي هذا المعنى عن عطاء ، والضّحّاك. وفي «أو» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «بل». والثاني : بمعنى الواو. و «الخلّاق» قد تقدّم ذكره.

وفي حسنة الدّنيا سبعة أقوال : أحدها : أنها المرأة الصّالحة ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : أنها العبادة ، رواه سفيان بن حسين عن الحسن. والثالث : أنها العلم والعبادة ، رواه هشام عن الحسن. والرابع : المال ، قاله أبو وائل ، والسّدّي ، وابن زيد. والخامس : العافية ، قاله قتادة. والسادس : الرّزق الواسع ، قاله مقاتل. والسابع : النّعمة ، قاله ابن قتيبة.

وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحور العين ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : الجنّة ، قاله الحسن ، والسّدّي ، ومقاتل. والثالث : العفو والمعافاة ، روي عن الحسن ، والثّوريّ.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) ، قال الزجّاج : معناه : دعاؤهم مستجاب ، لأن كسبهم هاهنا هو الدّعاء ، وهذه الآية متعلّقة بما قبلها ، إلّا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها.

(٨٩) فروى الضّحّاك عن ابن عباس أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، مات أبي ولم يحجّ ، أفأحجّ عنه؟ فقال : «لو كان على أبيك دين قضيته ، أفكان ذلك يجزئ عنه؟» قال : نعم ، قال : «فدين الله أحقّ أن يقضى»! قال : فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.

وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال : أحدها : أنه قلّته ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه قرب مجيئه ، قاله مقاتل. والثالث : أنه لمّا علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، كان سريع الحساب لذلك. والرابع : أنّ المعنى : والله سريع المجازاة ، ذكر هذا القول والذي قبله الزجّاج. والخامس : أنه لا يحتاج إلى فكر ورويّة كالعاجزين ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) في هذا الذّكر قولان :

أحدهما : أنه التّكبير عند الجمرات ، وأدبار الصّلوات ، وغير ذلك من أوقات الحجّ.

____________________________________

(٨٩) متن صحيح دون ذكر نزول الآية ، فإنه باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، ولم أره في شيء من كتب الحديث والأثر والتفسير ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ليس له أصل.

ـ والحديث دون ذكر نزول الآية : أخرجه النسائي ٥ / ١١٨ وفي «الكبرى» ٣٦١٨ والبيهقي ٤ / ٣٢٩ وابن حبان ٣٩٩٠ والدارقطني ٢ / ٢٦٠ بألفاظ متقاربة وليس فيه «فنزلت هذه الآية». وأخرجه البخاري ١٥١٣ و ١٨٥٥ ومسلم ١٣٣٤ وأبو داود ١٨٠٩ والترمذي ٩٢٨ والنسائي ٥ / ١١٨ و ١١٩ و ٨ / ٢٢٨ وابن ماجة ٢٩٠٩ وابن حبان ٢٩٩٠ والشافعي ١ / ٩٩٣ ومالك ١ / ٣٥٩ وأحمد ١ / ٣٤٦ و ٣٥٩ من حديث ابن عباس لكن السائل هو امرأة. الخلاصة : الحديث صحيح دون ذكر نزول الآية ، فإنه باطل.


والثاني : أنه التّكبير عقيب الصّلوات المفروضات. واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتّكبير ويقطع على ستة أقوال : أحدها : أنه يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة ، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق ، قاله عليّ عليه‌السلام ، وأبو يوسف ، ومحمّد. والثاني : أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النّحر ، قاله ابن مسعود ، وأبو حنيفة. والثالث : من بعد صلاة الظّهر يوم النّحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التّشريق ، قاله ابن عمر ، وزيد بن ثابت وابن عباس ، وعطاء. والرابع : أنه يكبّر من صلاة الظّهر يوم النّحر إلى ما بعد صلاة الظّهر من يوم النّفر ، وهو الثاني من أيام التّشريق ، قاله الحسن. والخامس : أنه يكبّر من الظّهر يوم النّحر إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق ، قاله مالك بن أنس ، وهو أحد قولي الشّافعيّ. والسادس : أنه يكبّر من صلاة المغرب ليلة النّحر إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق ، هذا قول للشّافعيّ ، ومذهب إمامنا أحمد أنّه إن كان محلّا ، كبّر عقيب ثلاث وعشرين صلاة ؛ أوّلها الفجر يوم عرفة ، وآخرها العصر من آخر أيام التّشريق ، وإن كان محرما كبّر عقيب سبعة عشر ؛ أوّلها الظّهر من يوم النّحر ، وآخرها العصر من آخر أيام التّشريق.

وهل يختصّ هذا التّكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان :

إحداهما : يختصّ بمن صلّاها في جماعة ، وهو قول أبي حنيفة رحمه‌الله. والثانية : يختص بالفريضة ، وإن صلاها وحده ، وهو قول الشّافعيّ (١).

وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال : أحدها : أنها أيام التّشريق ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين. والثاني : أنها يوم النّحر ويومان بعده ، روي عن عليّ ، وابن عمر. والثالث : أنها أيام العشر ، قاله سعيد بن جبير ، والنّخعيّ.

قال الزجّاج : و «معدودات» يستعمل كثيرا للشّيء القليل ، كما يقال : دريهمات وحمّامات.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) ، أي : فمن تعجّل النّفر الأوّل في اليوم الثاني من أيّام منى ، فلا إثم عليه ، ومن تأخّر إلى النّفر الثاني ، وهو اليوم الثالث من أيام منى ، فلا إثم عليه.

فإن قيل : إنّما يخاف الإثم المتعجّل ، فما بال المتأخّر ألحق به ، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنّ المعنى : لا إثم على المتعجّل ، والمتأخّر مأجور ، فقال : لا إثم عليه ، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). والثاني : أنّ المعنى : فلا إثم على المتأخّر في ترك استعمال الرّخصة. والثالث : أنّ المعنى : قد زالت آثام المتعجّل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجّهما. والرابع : أنّ المعنى : طرح المأثم عن المتعجّل والمتأخّر إنما يكون بشرط التّقوى.

وفي معنى «لمن اتقى» ثلاثة أقوال : أحدها : لمن اتّقى قتل الصّيد ، قاله ابن عباس. والثاني : لمن اتّقى المعاصي في حجّه ، قاله قتادة. وقال ابن مسعود : إنّما مغفرة الله لمن اتّقى الله في حجّه. والثالث : لمن اتّقى فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وإبراهيم.

__________________

(١) تقدّم التعليق على هذا البحث عند الآية ١٨٥.


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّها نزلت في الأخنس بن شريق ، كان ليّن الكلام ، كافر القلب ، يظهر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسن ، ويحلف له أنه يحبّه ويتّبعه على دينه ، وهو يضمر غير ذلك (١) ، هذا قول ابن عباس ، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنّها فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد.

(٩٠) والثالث : أنها نزلت في سريّة الرّجيع ، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة : إنّا قد أسلمنا ، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلّمونا ديننا ، فبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبيب بن عديّ ، ومرثدا الغنويّ ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق ، وزيد بن الدّثنّة ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت ، فساروا نحو مكّة ، فنزلوا بين مكّة والمدينة ومعهم تمر ، فأكلوا منه ، فمرّت عجوز فأبصرت النّوى ، فرجعت إلى قومها وقالت : قد سلك هذا الطّريق أهل يثرب ، فركب سبعون منهم حتّى أحاطوا بهم ، فحاربوهم فقتلوا مرثدا ، وخالدا ، وابن طارق ، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكلّ سهم رجلا من عظمائهم ، ثمّ قال : اللهمّ إني حميت دينك صدر النهار ، فاحم لحمي آخر النّهار ، ثم أحاطوا به فقتلوه ، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكان قتل بعض أهلها ، فنذرت : لئن قدرت على رأسه لتشربنّ في قحفه الخمر ، فأرسل الله تعالى رجلا من الدبر ـ وهي الزّنابير ـ فحمته ، فلم يقدروا عليه ، فقالوا : دعوه حتى يمسي فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي (٢) ، فبعث الله الوادي ، فاحتمله فذهب به ، وأسروا خبيبا وزيدا ، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه ، لأنّه قتل آباءهم ، فلمّا خرجوا به ليقتلوه ، قال : دعوني أصلّي ركعتين ، ثمّ قال : لو لا أن تقولوا : جزع خبيب ، لزدت ، وأنشأ يقول :

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أيّ شقّ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزّع

____________________________________

(٩٠) عزاه المصنف لابن عباس ، ولم أقف عليه بهذا التمام. وإنما هو منتزع من أحاديث.

ـ أما كون الآية نزلت في سرية الرجيع فهو ضعيف. عزاه البغوي في «تفسيره» ٢١٢ لابن عباس والضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٣٩٦٥ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس ، فذكر عجزه ، وهو «قال بعض المنافقين ...» وفيه نزول الآية. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق. وأما قوله «أيكم يحمل خبيبا ...» وذكر الزبير والمقداد. فهذا باطل ، لم أره في شيء من كتب الحديث والأثر. وأما باقي الحديث دون ما استثنيت من ألفاظ ، فهو صحيح لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه البخاري ٣٠٤٥ و ٣٩٨٩ و ٤٠٨٦ و ٧٤٠٢ وأبو داود ٢٦٦٠ و ٢٦٦١ والطيالسي ٢٥٩٧ وأحمد ٢ / ٢٩٤ و ٢٩٥ و ٣١٠ ـ ٣١١ وعبد الرزاق ٩٧٣٠ وابن حبان ٧٠٣٩ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥ من طرق بألفاظ متقاربة. وانظر هذا الخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام ٣ / ١٣٤ ـ ١٤٦ و «السيرة النبوية» لابن كثير ٣ / ١٢٣ ـ ١٣٠ و «دلائل النبوة» ٣ / ٣٢٤.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٣٩٦٤ عن السدي مرسلا ، ولم أره عن ابن عباس ومقاتل ، وورد عن الكلبي كما في «الدر» ١ / ٢٣٢. والكلبي متروك ، فالخبر ضعيف ، وانظر الأسباب للواحدي ١٢١ والسيوطي ١٢١ و ١٢٢.

(٢) العزالي : فم المزادة الأسفل ، شبه اتساع المطر واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة.


فصلبوه حيّا ، فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس حولي من يبلّغ رسولك سلامي ، فجاءه رجل منهم يقال له : أبو سروعة ، ومعه رمح ، فوضعه بين يدي خبيب ، فقال له خبيب : اتّق الله ، فما زاده ذلك إلا عتوّا. وأمّا زيد فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأبيه ، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله ، فقال : يا زيد! أنشدك الله ، أتحبّ أنّ محمّدا مكانك ، وأنّك في أهلك؟ فقال : والله ما أحبّ أنّ محمّدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، ثم قتل. وبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فقال : أيّكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنّة؟ فقال الزّبير : أنا وصاحبي المقداد ، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنّهار ، حتى وافيا المكان ، وإذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى ، وإذا هو رطب يتثنّى لم يتغيّر فيه شيء بعد أربعين يوما ، فحمله الزّبير على فرسه وسار ، فلحقه سبعون منهم ، فقذف الزّبير خبيبا فابتلعته الأرض ، وقال الزّبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش؟! ثمّ رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزّبير بن العوّام ، وأمّي صفيّة بنت عبد المطّلب ، وصاحبي المقداد ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا ، وقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبريل عنده ، فقال : «يا محمّد إنّ الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك».

وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب : ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا ، ولا رسالة صاحبهم أدّوا ، فأنزل الله تعالى في الزّبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية ، وثلاث آيات بعدها. وهذا الحديث بطوله مرويّ عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) ، فيه قولان : أحدهما : أنه يقول : إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي. الثاني : أنه يقول : اللهمّ اشهد عليّ بهذا القول.

وقرأ ابن مسعود : «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء. وقرأ الحسن ، وطلحة بن مصرّف ، وابن محيصن وابن أبي عبلة : «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع.

قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) ، الخصام : جمع خصم ، يقال : خصم وخصام وخصوم. قال الزجّاج : والألدّ : الشديد الخصومة ، واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما صفحتا العنق ، ومعناه : أنّ خصمه في أيّ وجه أخذ من أبواب الخصومة ، غلبه في ذلك.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥))

قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى) ، فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه بمعنى : غضب ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج. والثاني : أنه الانصراف عن القول الذي قاله ، قاله الحسن. والثالث : أنه من الولاية ، فتقديره : إذا صار واليا ، قاله مجاهد والضّحّاك. والرابع : أنه الانصراف بالبدن ، قاله مقاتل وابن قتيبة. وفي معنى «سعى» قولان : أحدهما : أنه بمعنى : عمل ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني : أنه من السّعي بالقدم ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي الفساد قولان : أحدهما : أنه الكفر. والثاني : الظّلم. والحرث : الزّرع. والنّسل : نسل كلّ شيء من الحيوان ، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين. وحكى الزجّاج عن قوم : أنّ الحرث : النّساء ، والنّسل : الأولاد. قال : وليس هذا بمنكر ، لأنّ المرأة تسمّى حرثا. وفي معنى إهلاكه للحرث والنّسل ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد ، قاله


الأكثرون. والثاني : أنه إذا ظلم كان الظّلم سببا لقطع القطر ، فيهلك الحرث والنّسل ، قاله مجاهد. وهو يخرّج على قول من قال : إنه من التّولّي. والثالث : أنه إهلاك ذلك بالضّلال الذي يؤول إلى الهلاك ، حكاه بعض المفسّرين.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، قال ابن عباس : لا يرضى بالمعاصي.

وقد احتجّت المعتزلة بهذه الآية ، فأجاب أصحابنا بأجوبة. منها : الأول : أنه لا يحبّه دينا ، ولا يريده شرعا ، فأمّا أنه لم يرده وجودا ؛ فلا. والثاني : أنه لا يحبّه للمؤمنين دون الكافرين. والثالث : أنّ الإرادة معنى غير المحبّة ، فإنّ الإنسان قد يتناول المرّ ، ويريد ربط الجرح ، ولا يحبّ شيئا من ذلك.

وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبّة ، بطل ادّعاؤهم التّساوي بينهما ، وهذا جواب معتمد. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١).

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦))

قوله تعالى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) ، قال ابن عباس : هي الحميّة. وأنشدوا :

أخذته عزّة من جهله

فتولّى مغضبا فعل الضّجر

ومعنى الكلام : حملته الحميّة على الفعل بالإثم. وفي «جهنّم» قولان ، ذكرهما ابن الأنباريّ :

أحدهما : أنها أعجميّة لا تجرّ للتعريف والعجمة. والثاني : أنها اسم عربيّ ، ولم يجر للتّأنيث والتّعريف. قال رؤبة : ركيّة جهنّام : بعيدة القعر. وقال الأعشى :

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له

جهنّام جدعا للهجين المذمّم

فترك صرفه يدلّ على أنه اسم أعجميّ معرّب.

وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : فحسبه جهنّم جزاء عن إثمه. والثاني : فحسبه جهنّم ذلّا من عزّه. والمهاد : الفراش ، ومهّدت لفلان : إذا وطّأت له ، ومنه : مهد الصّبي.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) ، اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال : أحدها : أنها نزلت في الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ، وهو معنى قول عمر وعليّ عليهما‌السلام. والثاني : أنها نزلت في الزّبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته ، وقد شرحنا القصة. وهذا قول ابن عباس والضحّاك. والثالث : أنها نزلت في صهيب الرّوميّ ، واختلفوا في قصّته.

(٩١) فروي أنه أقبل مهاجرا نحو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتّبعه نفر من قريش ، فنزل ، فانتثل كنانته ، وقال :

____________________________________

(٩١) حسن. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٣ / ١٧١ من طرق عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلا. وإسناده ضعيف لضعف ابن زيد. وأخرجه الحاكم ٣ / ٤٠٠ من وجه آخر عن سعيد عن صهيب ، وإسناده ضعيف لجهالة حصين بن حذيفة ، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي!. وأخرجه الطبراني ٧٣٠٨ من وجه آخر

__________________

(١) الزمر : ٧.


قد علمتم أنّي من أرماكم بسهم ، وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرميكم بكلّ سهم معي ، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يديّ منه شيء ، فإن شئتم دللتكم على مالي. قالوا : فدلّنا على مالك نخلّ عنك ، فعاهدهم على ذلك ، فنزلت فيه هذه الآية ، فلمّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ربح البيع يا أبا يحيى»؟ وقرأ عليه القرآن. هذا قول سعيد بن المسيّب ، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس ، وقال : إنّ الذي تلقّاه فبشّره بما نزل فيه أبو بكر الصّدّيق (١).

وذكر مقاتل أنه قال للمشركين : أنا شيخ كبير لا يضرّكم إن كنت معكم أو عليكم ، ولي عليكم حقّ لجواري فخذوا مالي غير راحلة ، واتركوني وديني ، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة ، فأقام ما شاء الله ، ثم ركب راحلته ، فأتى المدينة مهاجرا ، فلقيه أبو بكر فبشّره وقال : نزلت فيك هذه الآية (٢). وقال عكرمة : إنها نزلت في صهيب ، وأبي ذرّ الغفاريّ ، فأما صهيب ، فأخذه أهله فافتدى بماله ، وأمّا أبو ذرّ ، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجرا (٣).

والرابع : أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله ، قاله الحسن وابن زيد في آخرين.

والخامس : أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا ، هذا قول قتادة. و «يشري» كلمة من الأضداد ، يقال : شرى ، بمعنى : باع ، وبمعنى : اشترى ، فمعناها على قول من قال : نزلت في صهيب ؛ معنى : يشتري. وعلى بقية الأقوال بمعنى : يبيع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كانوا بعد إسلامهم يتّقون السّبت ولحم الجمل ، وأشياء يتّقيها أهل الكتاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس (٤). والثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب الذين

____________________________________

عن صهيب ، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة ، وهو واه. وأخرجه الحاكم ٣ / ٣٩٨ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه ، وإسناده على شرط مسلم ، وكذا صححه الحاكم على شرطه ، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن سعد ٣ / ١٧٢ عن عمر بن الحكم مرسلا ، وفيه الواقدي ، وهو متروك. وورد من مرسل أبي عثمان ، أخرجه ابن سعد ١ / ١٧١ وإسناده قوي ، وليس فيه نزول الآية. وورد من مرسل الربيع بن أنس : أخرجه الطبري ٤٠٠٥. وانظر ما بعده.

ـ الخلاصة : هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، فالحديث حسن في أقل تقدير إن شاء الله.

__________________

(١) عزاه لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح ، هو الكلبي وهو كذاب ، وأبو صالح متروك عن ابن عباس. فلا فائدة من هذه الطريق ، والعبرة بما تقدم.

(٢) عزاه لمقاتل ، وهو متهم أيضا ، وانظر ما بعده.

(٣) أخرجه الطبري ٤٠٠٤ عن عكرمة مرسلا. وأخرجه الحاكم ٣١٣ / ٤٠٠ عن ابن جريج ، وهذا معضل.

(٤) تقدم أنه من رواية الكلبي ، وهو متهم عن أبي صالح ، وهو واه.


لم يؤمنوا بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمروا بالدّخول في الإسلام. روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضّحّاك (١). والثالث : أنها نزلت في المسلمين ، يأمرهم بالدّخول في شرائع الإسلام كلّها ، قاله مجاهد وقتادة (٢).

وفي «السّلم» ثلاث لغات : كسر السّين وتسكين اللام. وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمّد». وفتح السين مع تسكين اللام. وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائيّ في المواضع الثلاثة ، وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة. وفي معنى «السّلم» قولان : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة ، والزجّاج في آخرين. والثاني : أنها الطّاعة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وهو قول أبي العالية ، والرّبيع.

وقال الزجّاج : و «كافّة» بمعنى الجميع ، وهو في اشتقاق اللغة : ما يكفّ الشيء في آخره ، من ذلك : كفّة القميص ، وكلّ مستطيل فحرفه كفّة : بضمّ الكاف. ويقال في كلّ مستدير : كفّة بكسر الكاف نحو : كفّة الميزان. ويقال : إنّما سمّيت كفّة الثّوب ، لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكفّ : المنع ، وقيل لطرف اليد : كفّ ، لأنها تكفّ بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف : قد كفّ بصره أن ينظر. واختلفوا : هل قوله : «كافة» يرجع إلى السّلم ، أو إلى الدّاخلين فيه؟ على قولين : أحدهما : أنه راجع إلى السّلم ، فتقديره : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام. وهذا يخرّج على القول الأوّل الذي ذكرناه في نزول الآية. والثاني : أنه يرجع إلى الدّاخلين فيه ، فتقديره : ادخلوا كلّكم في الإسلام ، وبهذا يخرّج على القول الثاني. وعلى القول الثالث يحتمل قوله : «كافة» ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم. والثاني : أن يكون أمرا للمؤمنين بالدّخول في جميع شرائعه. والثالث : أن يكون أمرا لهم بالثّبات عليه ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٣).

و «خطوات الشيطان» : المعاصي. وقد سبق شرحها. و «البيّنات» : الدّلالات الواضحات. وقال ابن جريج : هي الإسلام والقرآن. و «ينظرون» بمعنى : ينتظرون.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنّه قال : المراد به : قدرته وأمره. قال : وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ) ، أي : بظلل. والظّلل : جمع ظلّة. و «الغمام» : السّحاب الذي لا ماء فيه. قال الضّحّاك : في قطع من السّحاب. ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان :

__________________

(١) من رواية الضحاك عن ابن عباس ، وعن الضحاك جويبر ، وهو متروك.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٢ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها. وقد يدخل في (الَّذِينَ آمَنُوا) المصدّقون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرّسل وما جاءوا به. وقد دعا الله عزوجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده ، والمحافظة على فرائضه التي فرضها ، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك ، فالآية عامة لكل من شمله اسم «الإيمان» ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.

(٣) النساء : ١٣٦.


أحدهما : أنه يوم القيامة أيضا ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه عند الموت ، قاله قتادة. وقرأ الحسن بخفض «الملائكة». و (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) : فرغ منه. و (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، أي : تصير. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ، «ترجع» بضمّ التاء. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ بفتحها. فإن قيل : فكأنّ الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنّ المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثّواب والعقاب ، قاله الزجّاج. والثاني : أنه لمّا عبد قوم غيره ، ونسبوا أفعاله إلى سواه ، ثمّ انكشف الغطاء يوم القيامة ؛ ردّوا إليه ما أضافوا إلى غيره. والثالث : أنّ العرب تقول : قد رجع عليّ من فلان مكروه : إذا صار إليه منه مكروه ، وإن لم يكن سبق. قال الشاعر :

فإن تكن الأيّام أحسنّ مرّة

إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

ذكرهما ابن الأنباريّ. ومما يشبه هذا قول لبيد :

وما المرء إلا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

أراد : يصير رمادا لا أنّه كان رمادا ، ومثله قول أميّة بن أبي الصّلت :

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (١)

أي : صارا. والرابع : أنه لمّا كانت الأمور إليه قبل الخلق ، ثم أوجدهم فملّكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم. فإن قيل : قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ، فما الحكمة في أنه لم يقل : وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب : أنّ إعادة اسمه أفخم وأعظم ، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه ، وأنشدوا :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ، ذكره الزجّاج.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))

قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : له وللمؤمنين. قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : «سل» بغير همز ، وبعض تميم يقولون : «اسأل» بالهمز ، وبعضهم يقول : «اسل» (٢) بالألف وطرح الهمز ، والأولى أغربهنّ ، وبها جاء الكتاب. وفي المراد بالسؤال قولان : أحدهما : أنه

__________________

(١) في اللسان : القعب : القدح الضخم.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٢٩ و ٣٠ : قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) «سل» من السؤال بتخفيف الهمز ، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل : إن للعرب في سقوط ألف الوصل في «سل» وثبوتها في «واسأل» وجهين : أحدهما ـ حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى ، وجاء القرآن بهما. فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها. والوجه الثاني ـ أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ ، مثل قوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وقوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) [ن : ٤٠] وتثبت في العطف ، مثل قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢](وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٢] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه «اسأل» على الأصل. وقرأ قوم «اسل» على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل ، على لغة من قال : الأحمر.


التّقرير والإذكار بالنّعم. والثاني : التّوبيخ على ترك الشّكر.

والآية البيّنة : العلامة الواضحة ، كالعصا ، والغمام ، والمنّ ، والسّلوى ، والبحر. وفي المراد بنعمة الله قولان : أحدهما : أنّها الآيات التي ذكرناها ، قاله قتادة. والثاني : أنها حجج الله الدّالة على أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الزجّاج. وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الكفر بها ، قاله أبو العالية ومجاهد. والثاني : تغيير صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التّوراة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والثالث : تعطيل حجج الله بالتّأويلات الفاسدة.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ، في نزولها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه ، قاله ابن عباس. والثاني : نزلت في علماء اليهود ، قاله عطاء. والثالث : في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين ، قاله مقاتل. قال الزجّاج : وإنّما جاز في «زيّن» لفظ التّذكير ، لأنّ تأنيث الحياة ليس بحقيقيّ ، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد. وإلى من يضاف هذا التّزيين (١) فيه قولان : أحدهما : أنه يضاف إلى الله. وقرأ أبيّ بن كعب والحسن ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : «زيّن» بفتح الزاي والياء ، على معنى : زيّنها الله لهم. والثاني : أنه يضاف إلى الشّيطان ، روي عن الحسن. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : والتّزيين من الله تعالى : هو التّركيب الطّبيعيّ فإنه وضع في الطّبائع محبة المحبوب لصورة فيه تزيّنت للنّفس ، وذلك من صنعه ، وتزيين الشّيطان بإذكار ما وقع من إغاله ممّا مثله يدعو إلى نفسه لزينته ، فالله تعالى يزيّن بالوضع ، والشّيطان يزيّن بالإذكار.

وما السبب في سخرية الكفّار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم سخروا منهم للفقر. والثاني : لتصديقهم بالآخرة. والثالث : لاتّباعهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إنّهم كانوا يوهمونهم أنّكم على الحقّ ، سخرية منهم بهم. وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ ذلك على أصله ، لأنّ المؤمنين في علّيين ، والكفّار في سجّين. والثاني : أنّ حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين ، فهم المنصورون. والثالث : في أنّ نعيم المؤمنين في الجنّة فوق نعيم الكافرين في الدّنيا. قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، فيه قولان : أحدهما : أنه يرزق من يشاء رزقا واسعا غير ضيّق. والثاني : يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٣٠ : وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) على ما لم يسم فاعله.

والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس : هي قراءة شاذة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة (زيّنت) بإظهار العلامة ، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي والمزيّن هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخصّ الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة ، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا فالمؤمنون الذي هم على سنن الشرع لم تفتنهم ، الزينة والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زينت لنا.


(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ، في المراد ب «النّاس» هاهنا ثلاثة أقوال (١) : أحدها : جميع بني آدم ، وهو قول الجمهور. والثاني : آدم وحده ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباريّ : وهذا الوجه جائز ، لأنّ العرب توقع الجمع على الواحد. ومعنى الآية : كان آدم ذا دين واحد ، فاختلف ولده بعده. والثالث : آدم وأولاده كانوا على الحقّ ، فاختلفوا حين قتل قابيل هابيل. ذكره ابن الأنباريّ. والأمّة هاهنا : الصّنف الواحد على مقصد واحد. وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله أبيّ بن كعب ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه الكفر ، رواه عطيّة عن ابن عباس. ومتى كان ذلك ، فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه حين عرضوا على آدم وأقرّوا بالعبوديّة ، قاله أبيّ بن كعب. والثاني : في عهد إبراهيم كانوا كفّارا ، قاله ابن عباس. والثالث : بين آدم ونوح ، وهو قول قتادة. والرابع : حين ركبوا السفينة ، كانوا على الحق ، قاله مقاتل. والخامس : في عهد آدم. ذكره ابن الأنباريّ.

(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) بالجنّة (وَمُنْذِرِينَ) بالنّار. هذا قول الأكثرين. وقال بعض السّلف : مبشّرين لمن آمن بك يا محمّد ، ومنذرين لمن كذّبك. والكتاب : اسم جنس ، كما تقول : كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة. وفي المراد بالحق هاهنا قولان : أحدهما : أنه بمعنى الصدق والعدل. والثاني : أنه القضاء فيما اختلفوا فيه. (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ، في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الله تعالى. والثاني : النبيّ الذي أنزل عليه الكتاب. والثالث : الكتاب ؛ كقوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) ، وقرأ أبو جعفر : «ليحكم» بضم الياء وفتح الكاف. وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، يعني : الدّين. قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في هذه الهاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تعود إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن مسعود. والثاني : إلى الدين ، قاله مقاتل. والثالث : إلى الكتاب ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف. قال الزجّاج : ونصب «بغيا» على معنى المفعول له ، فالمعنى : لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي ، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم. وقال الفرّاء : في اختلافهم وجهان : أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض. والثاني : تبديل ما بدّلوا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٢٥٠ : أخرج ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال. صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال العوفي عن ابن عباس (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يقول كانوا كفارا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) والقول الأول عن ابن عباس أصح إسنادا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه‌السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.


قوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، أي : لمعرفة ما اختلفوا فيه ، أو تصحيح ما اختلفوا فيه. وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال :

أحدها : أنه الجمعة ، جعلها اليهود السّبت ، والنصارى الأحد.

(٩٢) فروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له. اليوم لنا ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنّصارى».

والثاني : أنه الصّلاة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب.

والثالث : أنه إبراهيم. قالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النّصارى : كان نصرانيا.

والرابع : أنه عيسى ، جعلته اليهود لفرية ، وجعلته النّصارى إلها.

والخامس : أنه الكتاب ، آمنوا ببعضها ، وكفروا ببعضها.

والسادس : أنه الدّين ، وهو الأصح ، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك.

قوله تعالى : (بِإِذْنِهِ) ، قال الزجّاج : إذنه : علمه. وقال غيره : أمره. قال بعضهم : توفيقه.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال : أحدها : أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر ، فنزلت هذه الآية ، ذكره السّدّيّ عن أشياخه وهو قول قتادة (١).

(٩٣) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتدّ بهم الضّرّ ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء. والثالث : أن المنافقين قالوا للمؤمنين : لو كان محمد نبيا لم يسلّط عليكم القتل ، فأجابوهم : من قتل منا دخل الجنّة ، فقالوا : لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. وزعم أنها نزلت يوم أحد (٢).

قال الفرّاء : (أَمْ حَسِبْتُمْ) بمعنى : أظننتم ، وقال الزجّاج : «أم» بمعنى : بل. وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحا كافيا. والمثل بمعنى : الصّفة. و «زلزلوا» خوّفوا وحرّكوا بما يؤذي ، وأصل الزّلزلة في اللغة من : زلّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته ، فتأويله : كررت زلزلته من مكانه ، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل ، تقول : أقلّ فلان الشيء : إذا رفعه من مكانه ، فإذا كرّر رفعه وردّه ، قيل :

____________________________________

(٩٢) صحيح. أخرجه البخاري ٢٣٨ و ٨٧٦ و ٢٩٥٦ و ٦٦٢٤ و ٧٠٣٦ و ٧٤٩٥ ومسلم ٨٥٥ وأحمد ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٩ والنسائي ٣ / ٨٧ وابن ماجة ١٠٨٣ وابن حبان ٢٧٨٤ عن أبي هريرة مرفوعا.

(٩٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٢٨ عن عطاء بدون إسناد ، فهو لا شيء.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٤٠٦٧ عن السدي مرسلا. وأخرجه ٤٠٦٨ عن قتادة مرسلا ، فلعل هذه المراسيل تتأيد بمجموعها.

(٢) عزاه لمقاتل ، وتقدم أنه متهم بالكذب.


قلقله. فالمعنى : أنه تكرّر عليهم التحريك بالخوف ، قاله ابن عباس. البأساء : الشدّة والبؤس ، والضّرّاء : البلاء والمرض. وكل رسول بعث إلى أمّته يقول : (مَتى نَصْرُ اللهِ) ، والنّصر : الفتح ، والجمهور على فتح لام «حتى يقول» ، وضمّها نافع.

فصل : ومعنى الآية : أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطئوا النصر لشدة البلاء. وقد دلّت على أن طريق الجنّة إنما هو الصبر على البلاء.

(٩٤) قالت عائشة : ما شبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مضى لسبيله.

(٩٥) وقال حذيفة : أقرّ أيامي لعيني ، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليّ الحاجة. قيل : ولم ذلك؟ قال : لأنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير ، وإنّ الله ليحمي المؤمن من الدّنيا ، كما يحمي المريض أهله الطّعام».

أخبرنا أبو بكر الصّوفيّ ، قال : أخبرنا أبو سعيد بن أبي صادق ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الشّيرازيّ ، قال : سمعت أبا الطيّب بن الفرخان يقول : سمعت الجنيد يقول : دخلت على سريّ السّقطيّ وهو يقول :

وما رمت الدّخول عليه حتّى

حللت محلّة العبد الذّليل

وأغضيت الجفون على قذاها

وصنت النّفس عن قال وقيل (١)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) ، في سبب نزولها قولان :

(٩٦) أحدهما : أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاريّ ، وكان له مال كثير ، فقال : يا

____________________________________

(٩٤) صحيح. أخرجه البخاري ٥٤١٦ و ٦٤٥٤ ومسلم ٢٩٧٠ وابن سعد ١ / ٤٠٢ و ٤٠٣ وأحمد ٦ / ١٥٦ و ٢٥٥ ووكيع ١ / ١٠ و ١٠٩ وهنّاد بن السّري ٧٢٥ و ٧٢٨ في «الزهد» من طرق عن عائشة.

ـ ويشهد له ما أخرجه البخاري ٢٠٦٩ و ٢٥٠٨ والترمذي ١٢١٥ وأحمد ٣ / ٢٣٨ وابن ماجة ٤١٤٧ وابن حبان ٦٣٤٩ من طرق عن أنس بن مالك. أنه مشى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبز وإهالة سنخة ، ولقد رهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درعا له بالمدينة عند يهودي ، وأخذ منه الشعير لأهله ، ولقد سمعته يقول : «ما أمسى عند آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاع برّ ولا صاع حبّ». ويشهد له ما أخرجه مسلم ٢٩٧٦ والترمذي ٢٣٥٨ وابن ماجة ٣٣٤٣ عن أبي هريرة قال : ما أشبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز البرّ حتى فارق الدنيا.

(٩٥) صدره ضعيف ، وعجزه صحيح بشاهده. أخرجه الطبراني في «الكبرى» ٣٠٠٤ وأبو نعيم في «الحلية» ١ / ٢٧٧ من حديث حذيفة ، وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٨٥ : وفيه من لم أعرفه.

ـ ويشهد لعجزه ما أخرجه الترمذي ٢٠٣٦. وأحمد في «الزهد» ١٧ والحاكم ٤ / ٢٠٧ و ٤ / ٣٠٩ وابن حبان ٦٦٩ عن قتادة بن النعمان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء». وإسناده على شرط مسلم ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

(٩٦) لا أصل له. عزاه لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح

__________________

(١) الرّوم : رام الشيء ، طلبه. القذى : ما يقع في العين وترمى به والقذى : إذا سكت على الذل والضيم.


رسول الله بما ذا نتصدّق ، وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٩٧) والثاني : أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لي دينارا ، فقال : «أنفقه على نفسك» ، فقال : إن لي دينارين ، فقال : «أنفقهما على أهلك» ، فقال : إن لي ثلاثة ، فقال : «أنفقها على خادمك» ، فقال : إن لي أربعة ، فقال : «أنفقها على والديك» ، فقال : إن لي خمسة ، فقال : «أنفقها على قرابتك» ، فقال : إن لي ستة ، فقال : «أنفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها» ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس.

قال الزجّاج : «ما ذا» في اللغة على ضربين : أحدهما : أن تكون «ذا» بمعنى الذي ، و «ينفقون» صلته ، فيكون المعنى : يسألونك : أيّ شيء الذي ينفقون؟ والثاني : أن تكون «ما» مع «ذا» اسما واحدا ، فيكون المعنى : يسألونك : أيّ شيء الذي ينفقون ، قال : وكأنهم سألوا : على من ينبغي أن يفضلوا ، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق ، فأعلمهم الله أن أولى من أفضل عليه الوالدان والأقربون. والخير : المال ، قاله ابن عباس في آخرين. وقال : ومعنى «فللوالدين» : فعلى الوالدين.

فصل : وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن مسعود : نسختها آية الزكاة. وذهب الحسن إلى إحكامها ، وقال ابن زيد ؛ هي في النوافل ، وهذا الظاهر من الآية ، لأن ظاهرها يقتضي النّدب ، ولا يصح أن يقال : إنها منسوخة ، إلا أن يقال : إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ، قال ابن عباس : لما فرض الله على المسلمين الجهاد شقّ عليهم وكرهوه ، فنزلت هذه الآية. و «كتب» بمعنى : فرض في قول الجماعة.

قال الزجّاج : كرهت الشيء أكرهه كرها وكرها ، وكراهة وكراهية. وكلّ ما في كتاب الله من الكره ، فالفتح فيه جائز ، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضمّ هذا الحرف الذي في هذه الآية. وإنما كرهوه لمشقّته على النفوس ، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال الفرّاء : الكره والكره : لغتان. وكأن النّحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك ممّا لم تكره عليه ، فإذا أكرهت على الشيء استحبّوا «كرها» بالفتح. وقال ابن قتيبة : الكره بالفتح ، معناه الإكراه والقهر ، وبالضّم معناه : المشقّة. ومن نظائر هذا : الجهد : الطّاقة ، والجهد : المشقّة. ومنهم من يجعلهما واحدا. وعظم الشيء : أكبره وعظمه : نفسه. وعرض الشيء : إحدى نواحيه. وعرضه : خلاف طوله. والأكل : مصدر أكلت ، والأكل : المأكول ، وقال أبو عليّ : هما لغتان ، كالفقر والفقر ، والضّعف والضّعف ، والدّف والدّف ، والشّهد والشّهد. قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) ، قال ابن عباس : يعني الجهاد. (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فتح وغنيمة أو شهادة. (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) وهو القعود عنه. (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ، لا تصيبون

____________________________________

هو الكلبي ، وهو كذاب.

(٩٧) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٢٩ عن عطاء عن ابن عباس ولم أقف له على إسناد ، فهو لا شيء.


فتحا ولا غنيمة ولا شهادة. (وَاللهُ يَعْلَمُ) أن الجهاد خير لكم. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) حين أحببتم القعود عنه.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها من المحكم النّاسخ للعفو عن المشركين. والثاني : أنها منسوخة ، لأنها أوجبت الجهاد على الكلّ ، فنسخ ذلك بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (١). والثالث : أنها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه. وقالوا : إن الحال في القتال كانت على ثلاثة مراتب : الأولى : المنع من القتال ، ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (٢). والثانية : أمر الكلّ بالقتال ، ومنه قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (٣) ، ومثلها هذه الآية. والثالثة : كون القتال فرضا على الكفاية ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، فيكون النّاسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه ، والمنسوخ وجوب القتال على الكلّ.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).

(٩٨) روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رهطا واستعمل عليهم أبا عبيدة بن الحارث فلما انطلق ليتوجّه بكى صبابة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا ، وقال : «لا تكرهنّ أحدا من أصحابك على المسير معك» ، فلما صار إلى المكان ، قرأ الكتاب واسترجع ، وقال : سمعا وطاعة لأمر الله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان من أصحابه ، ومضى بقيّتهم ، فأتوا ابن الحضرميّ فقتلوه ، فلم يدروا ذلك اليوم ، أمن رجب ، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأتوا

____________________________________

(٩٨) صحيح دون تأمير أبي عبيدة وبكائه ، فإنه ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٥٣٤ والطبري ٤٠٨٧ والطبراني ١٦٧٠ والبيهقي ٩ / ١١ ـ ١٢ من حديث جندب بن عبد الله ، وإسناده ضعيف ، فيه راو مجهول.

ـ وأصله محفوظ بشواهده ، أخرجه الطبري ٤٠٨٥ من مرسل عروة. وورد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ٤٠٨٦. وورد من مرسل أبي مالك : أخرجه الطبري ٤٠٩٢. وورد عن ابن عباس : أخرجه الطبري ٤٠٨٩ وإسناده حسن. وكرره ٤٩٠ وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من مرسل الضحاك : أخرجه الطبري ٤٠٩٦ وله شواهد أخرى عامتها مرسل.

ـ الخلاصة : هو حديث صحيح بطرقه وشواهده دون قوله «استعمل عليهم أبا عبيدة ... فبعث مكانه».

والصواب أن الأمير من أول الأمر هو عبد الله بن جحش.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) النساء : ٧٧.

(٣) التوبة : ٤١.


النبي فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية ، فقال بعض المسلمين : لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلى قوله : (رَحِيمٌ).

قال الزّهريّ : اسم ابن الحضرميّ : عمرو ، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد اللّيثيّ. قال ابن عباس : كان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يظنّون تلك الليلة من جمادى ، وكانت أوّل رجب.

وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين : أحدهما : هذا. والثاني : دخول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة في شهر حرام يوم الفتح ، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام (١).

وفي السائلين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك قولان : أحدهما : أنهم المسلمون ، سألوه : هل أخطئوا أم أصابوا؟ قاله ابن عباس وعكرمة ومقاتل. والثاني : أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين ، قاله الحسن ، وعروة ، ومجاهد. والشّهر الحرام : شهر رجب ، وكان يدعى الأصمّ ، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيما له ، (قِتالٍ فِيهِ) أي : يسألونك عن قتال فيه. (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) قال ابن مسعود وابن عباس : لا يحلّ. قال القاضي أبو يعلى : كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر ، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التّحريم.

فصل : اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم : هل هو باق أم نسخ؟ على قولين (٢) : أحدهما : أنه باق. روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله : ما يحلّ للناس الآن أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا ، وما نسخت. والثاني : أنه منسوخ ، قال سعيد بن المسيّب ، وسليمان بن يسار : القتال جائز في الشهر الحرام ، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٣) ، وبقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٤) ، وهذا قول فقهاء الأمصار.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٤٠٩٠ عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل ، وكرره ٤٠٨٨ عن مجاهد مرسلا.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٤٣ : واختلف العلماء في نسخ هذه الآية ، فالجمهور على نسخها ، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح واختلفوا في ناسخها ، فقال الزهري : نسخها (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً).

وقيل نسخها غزو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.

وقيل نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة ، وهذا ضعيف ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم.

وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي : فأنزل الله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) الآية ، قال : فحدّثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفرهم بالله وصدّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصّلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين ، فبلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقل ابن الحضرمي وحرّم الشهر الحرام كما كان يحرّمه حتى أنزل الله عزوجل (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ). وكان عطاء يقول : الآية محكمة ، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم ويحلف على ذلك ، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة ، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.

وروى أبو الزبير عن جابر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يغزى.

(٣) التوبة : ٥.

(٤) التوبة : ١٩.


قوله تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، هو مرفوع بالابتداء ، وخبر هذه الأشياء : (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ). وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان : أحدهما : أنه الحج ، لأنهم صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن مكة. قاله ابن عباس والسّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنه الإسلام ، قاله مقاتل. وفي هاء الكناية في قوله «وكفر به» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله السّدّيّ عن أشياخه ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : أنها تعود إلى السبيل ، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة : وخفض «المسجد الحرام» نسقا على : (سَبِيلِ اللهِ) ، كأنه قال : وصدّ عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام. قوله تعالى : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) لمّا آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ؛ اضطرّوهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم ، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر. «والفتنة» هاهنا بمعنى الشّرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والجماعة. والفتنة في القرآن على وجوه كثير ، قد ذكرتها في كتاب «النّظائر». (وَلا يَزالُونَ) ، يعني الكفّار ، (يُقاتِلُونَكُمْ) يعني : المسلمين. و (حَبِطَتْ) بمعنى : بطلت.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) ، في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنه لما نزل القرآن بالرّخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرميّ ، قال بعض المسلمين : ما لهم أجر ، فنزلت هذه الآية (١) ، وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) ، عن جندب بن عبد الله. والثاني : أنه لما نزلت لهم الرّخصة قاموا ، فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ، فنزلت هذه الآية (٢) ، قاله ابن عباس. وقال : (هاجَرُوا) من مكة إلى المدينة ، (وَجاهَدُوا) في طاعة الله ابن الحضرميّ وأصحابه. و (رَحْمَتَ اللهِ) : مغفرته وجنّته. قال الشّعبيّ : أوّل لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش ، وأول مغنم قسم في الإسلام : مغنمه.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، في سبب نزولها قولان :

(٩٩) أحدهما : أن عمر بن الخطّاب قال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية.

(١٠٠) والثاني : أن جماعة من الأنصار جاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيهم عمر ، ومعاذ ، فقالوا : أفتنا

____________________________________

(٩٩) حسن. أخرجه أبو داود ٣٦٧٠ والترمذي ٣٠٤٩ والنسائي ٨ / ٢٨٦ والحاكم ٢ / ٢٧٨ وأحمد ١ / ٥٣ والطبري ١٢٥٦١ والبيهقي ١ / ٥٣ من حديث عمرو بن شرحبيل عن عمر. وإسناده حسن ، رجاله ثقات ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي. ويأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

(١٠٠) لم أره مسندا ، ذكره المصنف هكذا بدون إسناد ومن غير عزو لقائل. وكذا ذكره الواحدي في «الأسباب» ١٣٢

__________________

(١) أخرجه الطبري ٤١٠٥ من حديث جندب بسند فيه مجهول ، فهو ضعيف وتقدم.

(٢) أخرجه الطبري ٤١٠٦ بسند عن عروة مرسلا ، ومراسيل عروة جياد. ولم أره عن ابن عباس.


في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية.

وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال : أحدها : أنها سمّيت خمرا ، لأنها تخامر العقل ، أي : تخالطه. والثاني : لأنها تخمر العقل ، أي : تستره. والثالث : أنها تخمّر ، أي : تغطّى. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم. وقال الزجّاج : الخمر في اللغة : ما ستر على العقل ، يقال : دخل فلان في خمار الناس ، أي : في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة قناعها ، سمّي خمارا لأنه يغطّي. قال : والخمر هاهنا في المجمع عليها ، وقياس كلّ ما عمل عملها أن يقال له : خمر ، وأن يكون في التحريم بمنزلتها ، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كلّه حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه ، وجعل كلّه قياسا على الميسر ، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر (١) خاصة. فأما الميسر ، فقال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة في الآخرين : هو القمار. قال ابن قتيبة : يقال : يسرت : إذا ضربت بالقداح ، ويقال للضّارب بالقداح : ياسر ويأسرون ، ويسر وأيسار. وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ويجزّئونها أجزاء ثم يضربون عليها بالقداح فإذا قمر القامر ، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة ، وهو النفع الذي ذكره الله تعالى ، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ، ويتسابّون بتركها ويعيبون من لا ييسر.

قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، قرأ الأكثرون «كبير» بالباء ، وقرأ حمزة والكسائيّ بالثاء. وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال : أحدها : أن شربها ينقص الدّين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه إذا شرب سكر فآذى الناس ، رواه السّدّيّ عن أشياخه. والثالث : أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز ، قاله الزجّاج. وفي إثم الميسر قولان : أحدهما : أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق. رواه السّدّيّ عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك. وأمّا منافع الخمر ؛ فمن وجهين : أحدهما : الرّبح في بيعها. والثاني : انتفاع الأبدان (٢) مع التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر : فإصابة الرجل المال من غير تعب. وفي قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، قولان : أحدهما : أن معناه : وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، قاله سعيد بن جبير والضحّاك ومقاتل. والثاني : وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضا. لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما. وهذا منقول عن ابن جبير أيضا ، واختلفوا بما ذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين : أحدهما : بقوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) (٣) ، قاله ابن جبير. والثاني : بالشريعة الأولى ، وأقرّ المسلمون على ذلك حتى حرّمت.

فصل : اختلف العلماء : هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها

____________________________________

بقوله : نزلت ... من غير عزو لقائل ولا إسناد ، فهذا خبر لا أصل له لخلوه عن الإسناد.

_________________

(١) الجزر : جمع جزور وهي النوق.

(٢) بل الخمر مضرة للجسم ، مضرة للعقل ، والقول المتقدم هو الصواب.

(٣) النحل : ٦٧.


تقتضي ذمّها دون تحريمها ، رواه السّدّيّ عن أشياخه ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة ، ومقاتل. وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة. والقول الثاني : أن لها تأثيرا في التحريم ، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كلّه محرّم بقوله : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) (١) ، هذا قول جماعة من العلماء ، وحكاه الزجّاج ، واختاره القاضي أبو يعلى للعلّة التي بيّناها ، واحتجّ لصحته بعض أهل المعاني ، فقال : لما قال تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، وقع التساوي بين الأمرين ، فلما قال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) صار الغالب الإثم ، وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم ، فعاد الحكم للغالب المستغرق ، فغلب جانب الخطر.

فصل : فأما الميسر ؛ فالقول فيه مثل القول في الخمر ، إن قلنا : إن هذه الآية دلّت على التحريم ، فالميسر حكمها حرام أيضا ، وإن قلنا : إنها دلّت على الكراهة ؛ فأقوم الأقوال أن نقول : إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) ، قال ابن عباس : الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح. قال ابن قتيبة : والمراد بالنفقة هاهنا : الصّدقة والعطاء. قوله تعالى : (قُلِ الْعَفْوَ) ، قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو» ، وقرأ الباقون بنصبها ، قال أبو عليّ : «ما ذا» في موضع نصب ، فجوابه العفو بالنصب ، كما تقول في جواب : ما ذا أنفقت؟ درهما ، أي : أنفقت درهما ، هذا وجه نصب العفو. ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي ، ولم يجعل «ما ذا» اسما واحدا ، فإذا قال قائل : ما ذا أنزل ربّكم؟ فكأنه قال : ما الذي أنزل ربّكم؟ فجوابه : قرآن. قال الزجّاج : «العفو» في اللغة : الكثرة والفضل ، يقال : قد عفا القوم : إذا كثروا. و «العفو» : يأتي بغير كلفة. وقال ابن قتيبة : العفو : الميسور. يقال : خذ ما عفاك ، أي : ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقّة.

وللمفسّرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله ، رواه مقسم عن ابن عباس. والثاني : ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثالث : أنه القصد من الإسراف والإقتار ، قاله الحسن ، وعطاء ، وسعيد بن جبير. والرابع : أنه الصّدقة المفروضة ، قاله مجاهد. والخامس : أنه ما لا يتبيّن عليهم مقداره ، من قولهم : عفا الأثر إذا خفي ودرس ، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسّرين (٢).

فصل : وقد تكلّم علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فروى السّدّيّ عن أشياخه أنها نسخت بالزّكاة ، وأبى نسخها آخرون. وفصل الخطاب في ذلك : أنّا متى قلنا : إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدّق بفاضل المال ، أو قلنا : أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزّكاة ، فالآية منسوخة بآية الزّكاة ،

__________________

(١) الأعراف : ٣٣.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٥٩ : لما كان السؤال في الآية المتقدمة (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن قدر الإنفاق وهو في شأن عمرو بن الجموح فلما نزلت الآية (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ٢١٥] قال : كم أنفق؟ فنزل (قُلِ الْعَفْوَ) والعفو ما سهل وتيسر وفضل ، ولم يشق على القلب إخراجه ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسّدي والقرظي وغيرهم قالوا : العفو ما فضل عن العيال ونحوه عن ابن عباس.


ومتى قلنا : إنها محمولة على الزّكاة المفروضة كما قال مجاهد ، أو على الصّدقة المندوب إليها ، فهي محكمة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) ، قال الزجّاج : إنما قال كذلك ، وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها : القبيل ، كأنه قال : كذلك يا أيها القبيل. وجائز أن تكون الكاف للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قال : كذلك يا أيّها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمّته. وقال ابن الأنباريّ : الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق ، فكأنه قال : مثل ذلك الذي بيّنه لكم في الإنفاق يبين الآيات. ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله ، فيكون معناه : هكذا ، قاله ابن عباس. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بنهما ، فتعملون للباقي منهما.

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ، في سبب نزولها قولان :

(١٠١) أحدهما : أنه لما أنزل الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*) (١) ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (٢) ، انطلق من كان عنده مال يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، وجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتدّ ذلك عليهم ، فذكروه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل.

(١٠٢) والثاني : أن العرب كانوا يشدّدون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته ، ولا يستخدمون له خادما ، فسألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مخالطتهم ، فنزلت هذه الآية ، ذكره السّدّيّ عن أشياخه ، وهو قول الضحّاك.

وفي السائلين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك قولان : أحدهما : أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاريّ ، قاله مقاتل. والثاني : عبد الله بن رواحة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ، قال ابن قتيبة : معناه : تثمير أموالهم ، والتّنزّه عن أكلها لمن وليها خير. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) ، أي : فهم إخوانكم ، حكمهم في ذلك حكم إخوانكم. قال ابن عباس : والمخالطة : أن يشرب من لبنك ، وتشرب من لبنه ، ويأكل في قصعتك ، وتأكل في قصعته.

____________________________________

(١٠١) حسن. أخرجه أبو داود ٢٨٧١ والنسائي ٦ / ٢٥٦ والحاكم ٢ / ٢٧٨ والطبري ٤١٨٦ والواحدي ١٣٤ عن ابن عباس. وإسناده حسن بشواهده لأجل عطاء بن السائب ، فقد اختلط. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى : أخرجه الطبري ٤١٨٨. وله شاهد من مرسل قتادة : أخرجه الطبري ٤١٨٩. وله شاهد من مرسل الربيع بن أنس : أخرجه برقم ٤١٩١.

(١٠٢) حسن. أخرجه الطبري ٤١٩٨ عن السّدي مرسلا وأخرجه الطبري ٤٢٠٠ عن الضحاك مرسلا أيضا. وأخرجه ٤١٩٣ عن الشعبي مرسلا. وأخرجه ٤١٩٥ عن عطاء مرسلا ، فهذا خبر حسن بشواهده ، وهو يشهد لما قبله.

__________________

(١) الإسراء : ٣٤.

(٢) النساء : ٩.


(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، يريد : المتعمّد أكل مال اليتيم ، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ، قال ابن عباس : أي لأحرجكم ، ولضيّق عليكم. وقال ابن الأنباريّ : أصل العنت : التّشديد. تقول العرب : فلان يتعنّت فلانا ويعنته ، أي : يشدّد عليه ، ويلزمه المشاقّ ، قال : ثم نقلت إلى معنى الهلاك ، واشتقاق الحرف (١) من قول العرب : أكمة عنوت : إذا كانت شديدة شاقة المصعد ، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدّة.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) في سبب نزولها قولان :

(١٠٣) أحدهما : أن رجلا يقال له : مرثد بن أبي مرثد بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى ، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها : عناق ، وكانت خليلة له في الجاهلية ، فلما أسلم أعرض عنها ، فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ، ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام قد حال بيني وبينك ، ولكن إن شئت تزوّجتك ، إذا رجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استأذنته في ذلك ، فقالت : أبي يتبرّم؟! واستغاثت عليه ، فضربوه ضربا شديدا ، ثم خلّوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله : أتحلّ لي أن أتزوّجها؟ فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنويّ.

(١٠٤) والثاني : أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره خبرها ؛ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما هي يا عبد الله»؟ فقال : يا رسول الله ، هي تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء ، وتشهد أنّ لا إله إلّا الله ، وأنك رسول الله ، فقال : «يا عبد الله ، هذه مؤمنة». فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوّجنّها ففعل ، فعابه ناس من المسلمين ، وقالوا : أنكح أمة ، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن ، فنزلت هذه الآية. رواه السّدّيّ عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسّرين أن قصة عناق وأبي مرثد كانت سببا لنزول قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا

____________________________________

(١٠٣) ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» ١٣٧ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تعليقا ، والكلبي كذاب ، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. وورد عن مقاتل بن حيان مرسلا مختصرا ، أخرجه الواحدي ١٣٥ ومقاتل ذو مناكير ، فهو ضعيف جدا. وهذه القصة محفوظة لكن نزل في ذلك أوائل سورة النور. وسيأتي هناك باستيفاء إن شاء الله.

(١٠٤) أخرجه الطبري ٤٢٢٨ عن السدي مرسلا. ووصله الواحدي في «الأسباب» ١٣٦ عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به. وإسناده لين ، السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن ، فيه لين ، وعنه أسباط بن نصر ، وهو صدوق كثير الخطأ.

__________________

(١) أي الكلمة وهي «عنت».


الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) ، وقصة ابن رواحة كانت سببا لنزول قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ).

فأمّا التفسير ، فقال المفضّل : أصل النّكاح : الجماع ، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد : نكاح. وقد حرّم الله عزوجل نكاح المشركات عقدا ووطأ. وفي «المشركات» هاهنا قولان : أحدهما : أنه يعم الكتابيات وغيرهن ، وهو قول الأكثرين (١). والثاني : أنه خاصّ في الوثنيات ، وهو قول سعيد بن جبير ، والنّخعيّ ، وقتادة. وفي المراد بالأمة قولان : أحدهما : أنها المملوكة ، وهو قول الأكثرين ، فيكون المعنى : ولنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرّة مشركة. والثاني : أنها المرأة ، وإن لم تكن مملوكة ، كما يقال : هذه أمة الله ، هذا قول الضحّاك ، والأول أصحّ. وفي قوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) قولان :

أحدهما : بجمالها وحسنها. والثاني : بحسبها ونسبها.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات : هي محكمة ، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله ، وإن جحدوا بنبوّة نبيّنا. قال شيخنا : وهو قول فاسد من وجهين : أحدهما : أن حقيقة الشرك ثابتة في حقّهم حيث قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله. والثاني : أن كفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوجب أن يقولوا : إن ما جاء به ليس من عند الله ، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك.

فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات ، فلهم في ذلك قولان : أحدهما : أن بعض حكمها

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٦٥ : قال إسحاق بن إبراهيم الحربي : ذهب قوم فجعلوا الآية التي في «البقرة» هي الناسخة ، والتي في المائدة هي المنسوخة ، فحرّموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية.

قال النحاس : ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدّثناه محمد بن ريان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال : حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى ، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة ، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة ، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك ، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا يمتنع أن تكون هذه الآية من سورة «البقرة» ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن «البقرة» أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول. وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه ، لأن ابن عمر رحمه‌الله كان رجلا متوقفا ، فلما سمع الآيتين ، في واحدة التحليل ، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه ، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية : وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه : إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا تكون هي ناسخة للآية التي في «المائدة». وينظر إلى هذا قول ابن عمر.

وروي عن عمر : أنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأه ـ قمأ : ذلّ وصغر ـ. قال ابن عطية : وهذا لا يستند جيدا ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا أزعم أنها حرام. ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب ، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه : ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.


منسوخ بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكما. والثاني : أنها ليست بمنسوخة ، ولا ناسخة ، بل هي عامة في جميع المشركات ، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة ؛ فدليل خاصّ ، وهو قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فهذه خصّصت عموم تلك من غير نسخ ، وعلى هذا عامّة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة ، منهم : عثمان ، وطلحة ، وحذيفة ، وجابر ، وابن عباس (١).

قوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) ، أي : لا تزوّجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا ؛ والكلام في قوله تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) ، وفي قوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ، مثل الكلام في أول الآية.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) ، قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن ، والقزّاز ، عن أبي عمرو ، برفعها.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢))

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ). روى ثابت عن أنس ، قال :

(١٠٥) كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهنّ لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهن ويكونوا معهنّ في البيوت ، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النّكاح.

(١٠٦) وقال ابن عباس : جاء رجل يقال له : ابن الدّحداحة من الأنصار ، إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(١٠٥) صحيح. أخرجه مسلم ٣٠٢ وأبو داود ٢٥٨ و ٢١٦٥ والترمذي ٢٩٧٧ والنسائي ١ / ١٥٢ و ١٨٧ وابن ماجة ٦٤٤ والطيالسي ٢٠٥٢ والدارمي ١ / ٢٤٥ وأبو عوانة ١ / ٣١١ وابن حبان ١٣٦٢ من حديث أنس.

ـ وانظر «تفسير القرطبي» ١١٦٨ بتخريجنا.

(١٠٦) أخرجه الماوردي في كتابه «الصحابة» كما في «أسباب النزول» ١٤١ للسيوطي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق ، فإنه لا يعرف ، ولم

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٦٥ ـ ٦٧. وقال بعض العلماء : وأما الآيتان فلا تعارض بينهما ؛ فإن ظاهر لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ففرق بينهم في اللفظ وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحلّ وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا يحلّ ، وتلا قول الله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله (صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩]. وكره مالك تزوج الحربيات ، لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير. واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب فقال مالك : لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز نكاح إماء أهل الكتاب.

واختلفوا في نكاح نساء المجوس ، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك ، وقال ابن حنبل : لا يعجبني ، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية ، وأن عمر قال له : طلّقها. وقال ابن القصار : قال بعض أصحابنا : يجب على أحد القولين : أن من لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم. وانظر التعليق السابق.


وفي المحيض قولان : أحدهما : أنه اسم للحيض ، قال الزجّاج : يقال : قد حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا. وقال ابن قتيبة : المحيض : الحيض. والثاني : أنه اسم لموضع الحيض ، كالمقيل ، فإنه موضع القيلولة ، والمبيت موضع البيتوتة. وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد. فأما أرباب القول الأوّل ؛ فأكّدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم ، وهو أنه وصفه بالأذى ، وذلك صفة لتفسير الحيض ، لا لمكانه. وأما أرباب القول الثاني ، فقالوا : لا يمتنع أن يكون المحيض صفة لموضع ، ثم وصفه بما قاربه وجاوره ، كالعقيقة ، فإنها اسم لشعر الصبيّ ، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازا. والرّاوية : اسم للجمل ، وسميت المزادة راوية مجازا. والأذى يحصل للواطئ بالنّجاسة ، ونتن الرّيح. وقيل : يورث جماع الحائض علّة بالغة في الألم. (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، المراد به اعتزال الوطء في الفرج ، لأن المحيض نفس الدّم أو نفس الفرج ، (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) ، أي : لا تقربوا جماعهنّ ، وهو تأكيد لقوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ). قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص ، عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وأبو بكر ، عن عاصم (يطّهّرن) بتشديد الطّاء والهاء وفتحهما. قال ابن قتيبة : يطهرن : ينقطع عنهن الدم ، يقال : طهرت المرأة وطهرت : إذا رأت الطّهر ، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ : «يطّهّرن» بالتشديد أراد : يغتسلن بالماء. والأصل يتطهّرن ، فأدغمت التاء في الطاء. قال ابن عباس ومجاهد : حتى يطهرن من الدم ، فإذا تطهّرن اغتسلن بالماء.

قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَ) إباحة من حظر ، لا على الوجوب. قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : من قبل الطّهر ، لا من قبل الحيض ، قاله ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أن معناه : فأتوهنّ من حيث أمركم الله أن لا تقربوهنّ فيه ، وهو محلّ الحيض ، قاله مجاهد. وقال من نصر هذا القول : إنما قال : (أَمَرَكُمُ اللهُ) ، والمعنى : نهاكم ، لأن النهي أمر بترك المنهيّ عنه ، و «من» بمعنى «في» ، كقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) (١). والثالث : فأتوهنّ من قبل التزويج والحلال ، لا من قبل الفجور ، قاله ابن الحنفيّة. والرابع : أن معناه : فأتوهنّ من الجهات التي يحلّ أن تقرب فيها المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كنّ صائمات أو معتكفات أو محرمات. وهذا قول الزجّاج وابن كيسان. وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ، قولان : أحدهما : التوّابين من الذنوب ، قاله عطاء ، ومجاهد في آخرين. والثاني : التوّابين من إتيان الحيض ، ذكره بعض المفسّرين. وفي قوله : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : المتطهّرين من الذنوب ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية. والثاني : المتطهّرين بالماء ، قاله عطاء. والثالث : المتطهّرين من إتيان أدبار النساء ، روي عن مجاهد.

____________________________________

يرو عنه سوى ابن إسحاق. وأخرج الطبري ٤٢٣٧ عن السدي أن السائل هو ثابت. وورد من مرسل مقاتل بن حيان ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ١ / ٢٢٢. وذكره الواحدي ١٤٠ بقوله : قال المفسرون. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها.

__________________

(١) الجمعة : ٩.


فصل : أقلّ الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : يوم (١). وقال أبو حنيفة : أقلّه ثلاثة أيام. وقال مالك وداود : ليس لأقلّه حدّ. وفي أكثره روايتان عن أحمد : إحداهما : خمسة عشر يوما ، وهو قول مالك والشّافعيّ. والثانية : سبعة عشر يوما ، وقال أبو حنيفة : أكثره عشرة أيام.

والحيض مانع من عشرة أشياء : فعل الصّلاة ، ووجوبها ، وفعل الصّيام دون وجوبه ، والجلوس في المسجد ، والاعتكاف ، والطّواف ، وقراءة القرآن ، وحمل المصحف ، والاستمتاع في الفرج ، وحصول نيّة الطّلاق.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٠٧) أحدها : أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها ، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة ، فنزلت هذه الآية. روي عن جابر ، والحسن ، وقتادة.

(١٠٨) والثاني : أن حيّا من قريش كانوا يتزوّجون النساء بمكّة ، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات ، فلما قدموا المدينة ، تزوّجوا من الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا ذلك ، فأنكرنه ، وانتهى الحديث إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن ابن عباس.

(١٠٩) والثالث : أن عمر بن الخطّاب جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : هلكت ، حوّلت رحلي الليلة ،

____________________________________

(١٠٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٢٨ ومسلم ١٤٣٥ والترمذي ٢٩٧٨ والنسائي في عشرة النساء ٩٣ وابن ماجة ١٩٢٥ والواحدي ١٤١ والحميدي ١٢٦٣ وأبو يعلى ٢٠٢٤ والطحاوي في «المعاني» ٣ / ٤٠ من حديث جابر بألفاظ متقاربة. وانظر «تفسير القرطبي» ١١٨١ بتخريجنا.

(١٠٨) حسن. أخرجه أبو داود ٢١٦٤ والحاكم ٢ / ٢٧٩ من حديث ابن عباس وقال الذهبي : على شرط مسلم.

(١٠٩) جيد. أخرجه أحمد ١ / ٢٩٧ والترمذي ٢٩٨٠ والنسائي في «التفسير» ٦٠ وأبو يعلى ٢٧٣٦ وابن حبان ٤٢٠٢

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٨٠ ـ ٨٣ : واختلف العلماء في مقدار الحيض فقال فقهاء المدينة : إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما ، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون ، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة ، وهذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيرة إلّا ما يوجد في النساء ، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء. قال محمد بن مسلمة : أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري ، وهو الصحيح في الباب. وقال الشافعي : أقلّ الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل قول مالك : إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. قال ابن عبد البر : ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة ، لا يمنع من الصّلاة إلّا عند أول ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات. وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة ، وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة. وممن قال : أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل.


فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والحرث : المزدرع ، وكنّى به هاهنا عن الجماع ، فسمّاهنّ حرثا ، لأنهن مزدرع الأولاد ، كالأرض للزرع ، فإن قيل : النساء جمع ، فلم لم يقل : حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرها ابن القاسم الأنباريّ النّحويّ : أحدها : أن يكون الحرث مصدرا في موضع الجمع ، فلزمه التوحيد ، كما تقول العرب : إخوتك صوم ، وأولادك فطر ، يريدون : صائمين ومفطرين ، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع. والثاني : أن يكون أراد : حروث لكم ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، كما قال الشاعر :

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

أي : في أنصاف بطونكم. والثالث : أنه إنما وحّد الحرث ، لأن النساء شبّهن به ، ولسن من جنسه ، والمعنى : نساؤكم مثل حروث لكم.

قوله تعالى : (أَنَّى شِئْتُمْ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى : كيف شئتم ، ثم فيه قولان : أحدهما : أن المعنى : كيف شئتم ، مقبلة أو مدبرة ، وعلى كل حال ، إذا كان الإتيان في الفرج. وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطيّة ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة في آخرين. والثاني : أنها نزلت في العزل ، قاله سعيد بن المسيّب ، فيكون المعنى : إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا. والقول الثاني : أنه بمعنى : إذا شئتم ، ومتى شئتم ، وهو قول ابن الحنفيّة والضحّاك ، وروي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنه بمعنى : حيث شئتم ، وهذا محكيّ عن ابن عمر ومالك بن أنس ، وهو فاسد من وجوه : أحدها : أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعا تحدّث بذلك عن ابن عمر ، قال : كذب العبد ، إنما قال عبد الله : يؤتون في فروجهنّ من أدبارهنّ. وأمّا أصحاب مالك ، فإنهم ينكرون صحته عن مالك (١).

____________________________________

والبغوي في «تفسيره» ١ / ١٩٨ والطبراني ١٢٣١٧ والطبري ٢ / ٢٣٥ وإسناده جيد رجاله ثقات كلهم. وقال الترمذي : حسن غريب وصححه الحافظ في «الفتح» ٨ / ١٩١.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ : روى أبو داود عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أو هم وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلّا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ... فذكر القصة بتمام سياقها ، وقول ابن عباس إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم كأنه يشير إلى ما رواه البخاري عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال. أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال : أنزلت في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبد الصمد قال حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري. وقد تفرّد به من هذا الوجه. وقال ابن جرير عن ابن عون عن نافع : قال قرأت ذات يوم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح. وروى النسائي أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله [الآية] ، وهذا الحديث محمول على أنه يأتيها في قبلها من دبرها. لما رواه النسائي عن أبي النضر قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر. إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال يا نافع


(١١٠) والثاني : أن أبا هريرة روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «ملعون من أتى النّساء في أدبارهنّ» ، فدلّ على أن الآية لا يراد بها هذا. والثالث : أن الآية نبّهت على أنه محلّ الولد بقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ، وموضع الزّرع : هو مكان الولد. قال ابن الأنباريّ : لما نصّ الله على ذكر الحرث ، والحرث به يكون النّبات ، والولد مشبّه بالنّبات ، لم يجز أن يقع الوطء في محلّ لا يكون منه ولد. والرابع : أن تحريم إتيان الحائض كان لعلّة الأذى ، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه.

قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : وقدّموا لأنفسكم من العمل الصالح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وقدّموا التسمية عند الجماع ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : وقدّموا لأنفسكم في طلب الولد ، قاله مقاتل. والرابع : وقدّموا طاعة الله واتّباع أمره ، قاله الزجّاج.

____________________________________

(١١٠) حسن. أخرجه أبو داود ٢١٦٢ وأحمد ٢ / ٤٤٤ والنسائي في «الكبرى» ٩٠١٤ وفيه الحارث بن مخلد وهو مجهول كما في «التقريب» لكن للحديث شواهد يحسن بها.

ـ وفي الباب «إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن». أخرجه الشافعي ٢ / ٢٩ والنسائي في «الكبرى» ٨٩٨٢ و ٨٩٨٤ و ٨٩٨٥ و ٨٩٨٩ والدارمي ١ / ٢٦١ و ٢ / ١٤٥ وأحمد ٥ / ٢١٣ ـ ٢١٥ وصححه ابن حبان ٤١٩٨ و ٤٢٠٠ والطحاوي ٣ / ٤٣ وابن ماجة ١٩٢٤ وابن الجارود ٧٢٨ والطبراني ٣٧٤١ و ٣٧٤٢ و ٣٧٤٣ والبيهقي ٧ / ١٩٧ والخطابي في «غريب الحديث» ١ / ٣٧٦ والبغوي في «التفسير» ١ / ١٩٩ من طرق كلهم من حديث خزيمة بن ثابت ، وهو حديث قوي الإسناد لمجيئه من عدة طرق وله شواهد. وفي الباب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في دبرها». إسناده حسن ، رجاله رجال الصحيح ، لكن في أبي خالد الأحمر ـ وهو سليمان بن حيان ـ كلام ينزله عن رتبة الصحيح. وأخرجه النسائي في «الكبرى» كما في التحفة ٥ / ٢١٠ والترمذي ١١٦٥ وقال الترمذي حسن غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة ٤ / ٢٥١ ـ ٢٥٢ وأبو يعلى ٢٣٧٨ وابن حبان ٤٢٠٤ و ٤٤١٨. وفي الباب أحاديث كثيرة تبلغ حد الشهرة.

__________________

هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت : لا قال : إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود.

إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). وهذا إسناد صحيح وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن كعب بن علقمة فذكره. وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا يباح ولا يحل وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه‌الله وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه فعل جابر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» وفي رواية أحمد (أعجازهن) والنسائي وابن ماجة من طرق عن خزيمة بن ثابت. فائدة : قال الطحاوي في «مجمع الآثار» ٣ / ٤٦ فلما تواترت هذه الآثار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنهي عن وطأ المرأة في الدبر ثم جاء عن أصحابه وتابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به ، وترك ما يخالفه اه. وفائدة أخرى : الآن ظهر الأمر جليا وذلك بمرض الإيدز ـ أي فقد المناعة ـ فقد أجمع الأطباء على أن الإتيان في الدبر سواء للرجل أو المرأة هو أكثر العوامل التي تسبب مرض الإيدز وهذا مما يؤيد ما نصّ عليه شرعنا الحنيف ، فهو حرام قطعا ويقينا لا مجال للخوض فيه ولا للمناقشة وقد تقدم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وهي تبلغ حد الشهرة ، ومشى إلى ذلك الصحابة والتابعون والفقهاء وأهل العلم سوى من شذ والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٢ عند هذه الآية بتعليقي. وانظر «تفسير الشوكاني» ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ بتعليقي ، والله الموفق للصواب.


(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤))

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ، في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١١١) أحدها : أنها نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان بينه وبين ختنه (١) شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلّمه ، وجعل يقول : قد حلفت بالله ، ولا يحلّ لي ، إلا أن تبرّ يميني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. والثاني : إن الرّجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله الرّبيع بن أنس. والثالث : أنها نزلت في أبي بكر حين حلف : لا ينفق على مسطح ، قاله ابن جريج (٢). والرابع : نزلت في أبي بكر ، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرّحمن حتى يسلم ، قاله المقاتلان : ابن حيّان ، وابن سليمان (٣).

قال الفرّاء : والمعنى : ولا تجعلوا الله معترضا لأيمانكم. وقال أبو عبيد : نصبا لأيمانكم ، كأنه يعني : أنكم تعترضونه في كل شيء فتحلفون به.

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناها : لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جبير ، والضحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج في آخرين. والثاني : أن معناها : لا تحلفوا بالله كاذبين لتتّقوا المخلوقين وتبرّوهم ، وتصلحوا بينهم بالكذب ، روى هذا المعنى عطيّة عن ابن عباس. والثالث : أن معناها : لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين ، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه ، هذا قول ابن زيد.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ، قال الزجّاج : اللّغو في كلام العرب : ما اطّرح ولم يعقد عليه أمر ، ويسمّى ما لا يعتدّ به ، لغوا. وقال ابن فارس : اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعدّ من أولاد الإبل في الدّية أو غيرها لغو ، يقال منه : لغا يلغو ، وتقول : لغي بالأمر يلغى : إذا لهج به. وقيل : إن اشتقاق اللغة منه : أي يلهج صاحبها بها. وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أن يحلف على الشيء ويظنّ أنه كما حلف ، ثم يتبين له أنه بخلافه ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ عن أشياخه ، ومالك ، ومقاتل. والثاني : أنه : لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وهو قول عائشة ، وطاوس ، وعروة ، والنّخعيّ ، والشّافعيّ. واستدلّ أرباب هذا القول بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، وكسب القلب : عقده وقصده ، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد ، روى عنه ابنه

____________________________________

(١١١) لا أصل له. ذكره الواحدي ١٤٨ عن الكلبي ، وهو معضل والكلبي متهم.

__________________

(١) ورد في الأثر المتقدم أنه النعمان بن بشير ، لكن الأثر باطل كما تقدم.

(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٤٣٧١ وهذا معضل ، وما يرسله ابن جريج واه بمرة.

(٣) هذا واه ليس بشيء ، مقاتل بن سليمان كذاب ، وابن حيان ذو مناكير.


عبد الله أنّه قال : اللّغو عندي أن يحلف على اليمين ، يرى أنه كذلك ، ولا كفارة. والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء ، فلا كفارة. والثالث : أنه يمين الرجل وهو غضبان ، رواه طاوس عن ابن عباس. والرابع : أنه حلف الرجل على معصية ، فليحنث ، وليكفّر ، ولا إثم عليه ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أن يحلف الرجل على شيء ، ثم ينساه ، قاله النّخعيّ. وقول عائشة أصح الجميع. قال حنبل : سئل أحمد عن اللّغو فقال : الرجل يحلف فيقول : لا والله ، وبلى والله ، لا يريد عقد اليمين ، فإذا عقد على اليمين لزمته الكفّارة. قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، قال مجاهد : أي : ما عقدت عليه قلوبكم. «والحليم» : ذو الصّفح الذي لا يستفزّه غضب ، فيعجل ، ولا يستخفّه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال أبو سليمان الخطّابيّ : ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة ، إنما الحليم الصّفوح مع القدرة ، المتأنّي الذي لا يعجل بالعقوبة. وقد أنعم بعض الشعراء أبياتا في هذا المعنى ، فقال :

لا يدرك المجد أقوام وإن كرموا

حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مسفرة

لا صفح ذلّ ولكن صفح أحلام

قال : ويقال : حلم الرجل يحلم حلما بضم اللام في الماضي والمستقبل. وحلم في النّوم ، بفتح اللام ، يحلم حلما ، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان.

فصل : الأيمان على ضربين ، ماض ومستقبل ، فالماضي على ضربين : يمين محرّمة ، وهي : اليمين الكاذبة ، وهي أن يقول : والله ما فعلت ، وقد فعل. أو : قد فعلت ، وما فعل. ويمين مباحة ، وهي أن يكون صادقا في قوله : ما فعلت ، أو : لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام : أحدها : يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة ، وحلّها معصية ، مثل أن يحلف : لأصلينّ الخمس ، ولأصومنّ رمضان ، أو : لا شربت الخمر. والثاني : عقدها معصية ، والمقام عليها معصية ، وحلّها طاعة ، وهي عكس الأولى. والثالث : يمين عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلّها مكرهة ، مثل أن يحلف : ليفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع : يمين عقدها مكروه ، والمقام عليها مكروه ، وحلّها طاعة ، وهي عكس التي قبلها. والخامس : يمين عقدها مباح ، والمقام عليها مباح ، وحلّها مباح مثل أن يحلف : لا دخلت بلدا فيه من يظلم الناس ، ولا سلكت طريقا مخوفا ، ونحو ذلك (١).

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦))

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ).

(١١٢) قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا ، فأبت أن تعطيه ؛

____________________________________

(١١٢) حسن. أخرجه سعيد بن منصور ١٨٨٤ والطبراني في «الكبير» ١١ / ١٥٨ والبيهقي في ٧ / ٣٨١ والواحدي في «أسباب النزول» ١٤٩ عن ابن عباس وإسناده حسن ، ورجاله ثقات.

__________________

(١) قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) مثل قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩] وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى ، إن شاء الله تعالى.


حلف أن لا يقربها السنة ، والثلاث ، فيدعها لا أيّما ولا ذات بعل ، فلما كان الإسلام ؛ جعل الله تعالى ذلك للمسلمين أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية. وقال سعيد بن المسيّب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، وكان الرجل لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يتزوّجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبدا ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة : يؤلون ، أي : يحلفون ، يقال : آليت من امرأتي ، أولي إيلاء : إذا حلف لا يجامعها. والاسم : الأليّة. وقال الزجّاج : يقال من الإيلاء : آليت أولي إيلاء وأليّة وألوة وألوة وإلوة ، وهي بالكسر أقلّ اللغات ، قال كثير :

قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن بدرت منه الأليّة برّت

وحكى ابن الأنباريّ عن بعض اللغويّين أنه قال : «من» بمعنى : «في» أو : «على» ، والتقدير : على وطء نسائهم ، فحذف الوطء ، وأقام النساء مقامه ، كقوله تعالى : (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (١) ، أي : على ألسنة رسلك. وقيل : في الكلام حذف ، تقديره : يؤلون ، يعتزلون من نسائهم. والتّربّص : الانتظار. ولا يكون مؤليا إلا إذا حلف بالله لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون ، لم يكن مؤليا. وهذا قول مالك ، وأحمد ، والشّافعيّ (٢). وفاؤوا : رجعوا ، ومعناه رجعوا إلى

__________________

(١) آل عمران : ١٩٤.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ١٠٠ : واختلف العلماء فيما يقع فيه الإيلاء من اليمين ، فقال قوم : لا يقع الإيلاء إلّا باليمين بالله تعالى وحده. لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وبه قال الشافعي في الجديد.

وقال ابن عباس : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء وبه قال النخعي ومالك والشعبي وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي في القول الآخر. قال ابن عبد البر : وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلّا بأن يحنث بها فهو بها مول ، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر. فإن قال : أقسم أو عزم ولم يذكر الله فقيل : لا يدخل عليه الإيلاء ، إلّا أن يكون أراد ب «الله» ونواه. واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن ، فقال ابن عباس : لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقالت طائفة : إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء قال ابن المنذر : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور : الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا وكانت عندهم يمينا محضا. لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان ، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال مالك والشافعي : جعل الله للمولي أربعة أشهر ، فهي بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها ، كما أن الدين المؤجّل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلّا بعد تمام الأجل.

واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة أشهر فلم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه ، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول : يلزمه بانقضاء الأربعة أشهر طلقة رجعية. ومن غيرهم من يقول : طلقة بائنة والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه ، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء ويكفر عن يمينه أو يطلق ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وأجل المولي من يوم الحلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم. وأوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته وقال الحسن : لا كفارة عليه ، وبه قال النخعي. قلت : وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإنّ تركها كفارتها».


الجماع ، قاله عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومسروق ، والشّعبيّ ، وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع ، فإنه يقول : متى قدرت جامعتها ، فيكون ذلك من قوله فيئة ؛ فمتى قدر فلم يفعل ، أمر بالطلاق ، فإن لم يطلّق ، طلّق الحاكم عليه.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال عليّ ، وابن عباس : غفور لإثم اليمين.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، أي : حقّقوه (١). وفي عزم الطّلاق قولان :

أحدهما : أنه إذا مضت الأربعة أشهر استحقّ عليه أن يفيء ، أو يطلّق ، وهو مرويّ عن عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وسهل بن سعد ، وعائشة ، وطاوس ، ومجاهد ، والحكم ، وأبي صالح. وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلا من الصحابة ، وهو قول مالك ، وأحمد ، والشّافعيّ. والثاني : أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر ، فتطلق بذلك من غير أن يتكلّم بطلاق.

واختلف أرباب هذا القول فيما سيلحقها من الطّلاق على قولين : أحدهما : طلقة بائنة. روي عن عثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وقبيصة بن ذؤيب. والثاني : طلقة رجعيّة ، روي عن سعيد بن المسيّب ، وأبي بكر بن عبد الرّحمن ، وابن شبرمة. قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه قولان : أحدهما : سميع لطلاقه ، عليم بنيّته. والثاني : سميع ليمينه ، عليم بها.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، سبب نزولها : أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها ، قالت : أنا حبلى ، وليست حبلى ، لكي يراجعها ، وإن كانت حبلى وهي كارهة ، قالت : لست بحبلى ، لكي لا يقدر على مراجعتها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا ، فنزل قوله تعالى :

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ١٠٧ : في قوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما قال مالك ، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة. وأيضا فإنه قال : «سميع» وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة : «سميع» لإيلائه «عليم» بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر قال القاضي ابن العربي : وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ) بعد انقضائها (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). وتقديرها عندهم (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ) فيها (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) بترك الفيئة فيها ، يريد مدة التربص فيها (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). قال ابن عربي : وهذا احتمال متساو ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.

قلت : وإذا تساوى الاحتمالين كان القول قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء إذ كل أجل ضربه الله تعالى فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلّا بإذنها ، فكذلك الإيلاء ، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق والله أعلم.


(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (١) ، ثم نزلت : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

فأما التفسير ؛ فالطّلاق : التّخلية. قال ابن الأنباريّ : هي من قول العرب : أطلقت الناقة ، فطلقت : إذا كانت مشدودة ، فأزلت الشدّ عنها ، وخلّيتها ، فشبّه ما يقع للمرأة بذلك ، لأنها كانت متّصلة الأسباب بالرجل ، وكانت الأسباب كالشّدّ لها فلما طلّقها قطع الأسباب. ويقال : طلقت المرأة وطلّقت. وقال غيره : الطّلاق : من أطلقت الشيء من يدي ، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرّقوا بينهما ، ليكون التّطليق مقصورا في الزوجات. وأمّا القروء : فيراد بها : الأطهار ، ويراد بها الحيض. يقال : أقرأت المرأة إذا حاضت ، وأقرأت : إذا طهرت.

(١١٣) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المستحاضة : «تقعد أيام أقرائها» ، يريد : أيام حيضها.

وقال الأعشى :

وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا (٢)

مورّثة مالا ، وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أراد بالقروء : الأطهار ، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهنّ. واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين : أحدهما : أن أصله الوقت ، يقال : رجع فلان لقرئه ، أي : لوقته الذي كان يرجع

____________________________________

(١١٣) ضعيف. أخرجه الدارقطني ١ / ٢١٢ عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصّلاة؟ فقال : «دعي الصّلاة أيام أقرائك ، ثم اغتسلي وصلّي وإن قطر الدم على الحصير». وقال غيره عن وكيع «وتوضئي لكل صلاة». وهو معلول. قال الدارقطني : قال يحيى بن سعيد : الثوري أعلم الناس بهذا ، زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا ، ونقل الآبادي في «التعليق المغني» عن البيهقي في «المعرفة» قوله : حديث حبيب بن أبي ثابت ضعفه يحيى القطان وعلي المديني وابن معين ، وكذا الثوري ا. ه ملخصا. ولو صح هذا اللفظ لكان فيصلا في هذه المسألة إلّا أن عدم ثبوته جعل الناس مختلفين في شأن «القرء» هل المراد الطهر أو الحيض والله تعالى أعلم ، وقد صح هذا الخبر موقوفا كما رجح غير واحد ؛ وهو الصواب ، والمرفوع بهذا اللفظ ضعيف.

ـ وأصل الخبر في «الصحيح» دون لفظ «أقرائك». أخرجه البخاري ٢٢٨ و ٣٠٦ و ٣٢٠ و ٣٣١ ومسلم ٣٣٣ وأبو داود ٢٨٢ والترمذي ١٢٥ والنسائي ١ / ٨١ و ٨٥ و ١٨٦ ومالك ١ / ٦١ والشافعي ١ / ٣٩ ـ ٤٠ وعبد الرزاق ١١٦٥ وابن أبي شيبة ١ / ١٢٥ والدارمي ١ / ١٩٩ وابن حبان ١٣٥٠ والطحاوي في «المعاني» ١ / ١٠٢ والبيهقي ١ / ٢٠٦ و ٢٠٧ وأبو عوانة ١ / ٣١٩ وابن الجارود ١١٢ والبيهقي ١ / ٣٢٣ و ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٢٧ و ٣٢٩ من طرق عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصّلاة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصّلاة ، وإذا أدبرت ، فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال : وقال أبي : ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. وانظر «تلخيص الحبير» ١ / ٧١.

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) في اللسان : جشم الأمر تكلّفه على مشقة. والعزم : الجدّ. والعزاء : الصبر.


فيه ، ورجع لقارئه أيضا. قال الهذلي :

كرهت العقر عقر بني شليل

إذا هبت لقارئها الرياح

فالحيض يأتي لوقت ، والطّهر يأتي لوقت ، هذا قول ابن قتيبة. والثاني : أن أصله الجمع. وقولهم : قرأت القرآن ، أي : لفظت به مجموعا. والقرء : اجتماع الدّم في البدن ، وذلك إنما يكون في الظّهر ، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرّحم ، وكلاهما حسن ، هذا قول الزجّاج.

واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين (١) : أحدهما : أنها الحيض ، روي عن عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبادة بن الصّامت ، وأبي الدّرداء ، وعكرمة ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، وسفيان الثّوريّ ، والأوزاعيّ ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ، فإنه قال : قد كنت أقول : إن القروء : الأطهار ، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. والثاني : أنها الأطهار ، روي عن زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والزّهريّ ، وأبان بن عثمان ، ومالك بن أنس ، والشّافعيّ ، وأومأ إليه أحمد.

ولفظ قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢) ، وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (٣) ، والمراد بالمطلّقات في هذه الآية ، البالغات المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه الحمل ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : أنه الحيض ، قاله عكرمة ، وعطيّة ، والنّخعيّ ، والزّهريّ. والثالث : الحمل والحيض ، قاله ابن عمر ، وابن زيد. وقوله تعالى : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، خرّج مخرج الوعيد لهنّ والتوكيد ، قال الزجّاج : وهو كما تقول للرجل : إن كنت مؤمنا فلا تظلم. وفي سبب وعيدهم بذلك قولان : أحدهما : أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرّجعة ، قاله ابن عباس. والثاني : لأجل إلحاق الولد بغير أبيه ، قاله قتادة. وقيل : كانت المرأة إذا

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ١٠٨ : اختلف العلماء في الأقراء. فقال أهل الكوفة : هي الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وذلك لاجتماع الدم في الرحم.

وقال أهل الحجاز : هي الأطهار ، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي وجعله اسما للطهر لاجتماعه في البدن. وقال قوم : هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض ، وهو جمعه ، ومنه القرآن لاجتماع المعاني ويقال لاجتماع حروفه قال ابن عبد البر : قول من قال : إن القرء مأخوذ من قولهم : قريت الماء في الحوض ليس بشيء ، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز. وقيل : القرء ، الخروج وعلى هذا قال الشافعي القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرء. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرء ، ويكون معنى قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات والمطلقة متصفة بحالتين فقط ، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام ودلالته على الطهر والحيض جميعا ، فيصير الاسم مشتركا. ويقال : إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا ، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض سنّيا مأمورا به ، وهو الطلاق للعدة فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر ، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال ، والطلاق في الطهر سنيا.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) مريم : ٧٥.


رغبت عن زوجها ، قالت : إني حائض ، وقد طهرت. وإذا زهدت فيه ، كتمت حيضها حتى تغتسل ، فتفوته.

والبعولة : الأزواج. و «ذلك» : إشارة إلى العدّة ، قاله مجاهد ، والنّخعيّ ، وقتادة في آخرين.

وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوّله ، ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، عامّ في المبتوتات والرّجعيّات ، وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) خاصّ في الرّجعيّات.

قوله تعالى : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) ، قيل : إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته ، طلّقها واحدة وتركها ، فإذا قارب انقضاء عدّتها راجعها ، ثم تركها مدة ، ثم طلّقها ، فنهوا عن ذلك. وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرّجعة على غير وجه المضارّة بتطويل العدّة عليها ، غير أنه قد دلّ قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، على صحة الرّجعة وإن قصد الضّرار ، لأن الرّجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضّرار ؛ لما كان ظالما بفعلها.

قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وهو : المعاشرة الحسنة ، والصحبة الجميلة.

(١١٤) روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج ؛ فقال : «أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبح ، ولا يهجر إلّا في البيت».

وقال ابن عباس : إني أحبّ أن أتزيّن للمرأة ، كما أحبّ أن تتزيّن لي لهذه الآية.

قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ، قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر ، وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد : بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك : يطلّقها ، وليس لها من الأمر شيء. وقال الزجّاج : تنال منه من اللذّة كما ينال منها ، وله الفضل بنفقته.

(١١٥) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

__________________

(١١٤) صحيح. أخرجه النسائي في «الكبرى» ٩١٧١ و ١١١٠٤ وابن ماجة ١٨٥٠ وأحمد ٤ / ٤٤٧ وابن حبان ٤١٧٥ والطبراني ١٩ / ١٠٣٤ و ١٠٣٧ و ١٠٣٨ والحاكم ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٤٨٨ والبيهقي ٧ / ٢٩٥ و ٣٠٥ من طرق عن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو داود ٢١٤٣ وأحمد ٥ / ٥ والطبراني ١٩ / ١٠٠٠ وابن أبي الدنيا ٤٨٩ من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد ٥ / ٣ عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي قزعة وعطاء.

(١١٥) صحيح بشواهده. أخرجه الترمذي ١١٥٩ وابن حبان ٤١٦٢ والبيهقي ٧ / ٢٩١ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ومحمد بن عمرو حسن الحديث. وأخرجه الحاكم ٤ / ١٧١ ـ ١٧٢ والبزار ١٤٦٦ من طريق سليمان بن داود من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم وقال الذهبي : بل سليمان هو اليمامي ضعفوه. وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٠٧. وله شواهد ـ منها حديث أنس عند النسائي في «الكبرى» ٩١٤٧ وأحمد ٣ / ٥٨ والبزار ٢٤٥٤ وابن أبي الدنيا ٥٢٩. وفي إسناده ، خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر كما في «التقريب». وحديث عائشة عند ابن ماجة ١٨٥٢ وأحمد ٦ / ٨٦. وابن أبي الدنيا ٥٤١ وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وحديث ابن عباس عند الطبراني ١٢٠٠٣ والبزار ١٤٦٧ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٤٢ وفيه الحكم بن طهمان ، وهو ضعيف. وحديث معاذ بن جبل من طريق أبي ظبيان.


وقالت ابنة سعيد بن المسيّب : ما كنا نكلّم أزواجنا إلا كما تكلّمون أمراءكم.

فصل : اختلف العلماء في هذه الآية : هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها ، فقال قوم : المنسوخ منها قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، وقالوا : فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء ، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (١) ، وحكم المطلّقة قبل الدخول بقوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) (٢) ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، والضحّاك في آخرين. وقال قوم : أوّلها محكم ، والمنسوخ قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) ، قالوا : كان الرجل إذا طلّق امرأته كان أحقّ برجعتها ، سواء كان الطلاق ثلاثا ، أو دون ذلك ، فنسخ بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٣). والقول الثاني : أن الآية كلها محكمة ، فأوّلها عامّ. والآيات الواردة في العدد خصّت ذلك من العموم ، وليس بنسخ. وأما ما قيل في الارتجاع ، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، أي : في العدّة قبل انقضاء القروء الثلاثة ، وهذا القول هو الصحيح.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

____________________________________

أخرجه أحمد ٥ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ (٢١٤٨٠) وإسناده منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا برقم ٢١٤٨١ من طريق ابن نمير عن الأعمش قال سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار عن معاذ بن جبل ... فذكره. وورد من طريق أخرى عن معاذ بن جبل مرفوعا عند الحاكم ٤ / ١٧٢ والبزار ١٤٦١ والطبراني في «الكبير» ٢٠ / ٥٢ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٨ وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أنه من رواية القاسم بن عوف الشيباني ، وقد تفرد عنه مسلم ، ولم يدرك معاذا. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٠٩ (٧٦٤٩) ؛ ورجال البزار رجال الصحيح ، وكذلك طريق من طرق أحمد ، وروى الطبراني بعضه أيضا اه. وأخرجه ابن ماجة ١٨٥٣ وأحمد ٤ / ٣٨١ وابن حبان ٤١٧١ والبيهقي ٧ / ٢٩٢ عن أيوب عن القاسم بن عوف الشيباني عن ابن أبي أوفى قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...... فذكره. وفي إسناده القاسم وثقه ابن حبان ، وقال ابن عدي : هو ممن يكتب حديثه. وقال أبو حاتم : مضطرب الحديث ، ومحله عندي الصدق. وروى له مسلم حديثا واحدا. وأخرجه البزار ١٤٧٠ والطبراني ٧٢٩٤ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٩ عن القاسم بن عوف عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن صهيب أن معاذا ..... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣١٠ : وفيه النهاس بن قهم ، وهو ضعيف اه. وأخرجه البزار ١٤٦٨ و ١٤٦٩ والطبراني في «الكبير» ٥١١٧ وابن أبي الدنيا ٥٤٣. وقال الهيثمي : وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح ، خلا صدفة بن عبد الله السمين ، وثقه أبو حاتم وجماعة ، وضعفه البخاري وجماعة اه. الخلاصة : المرفوع منه صحيح بمجموع طرق شواهده.

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) الطلاق : ١.

(٣) البقرة : ٢٣٠.


(١١٦) سبب نزولها : أن الرجل كان يطلّق امرأته ، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه ، فقال رجل من الأنصار لامرأته : والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلّين مني. فقالت : كيف ذلك؟ قال : أطلّقك ، فإذا دنا أجلك ، راجعتك ، فذهبت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تشكو إليه ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ، فاستقبلها الناس جديدا من كان طلّق ، ومن لم يكن يطلّق. رواه هشام بن عروة عن أبيه.

فأمّا التفسير ، ففي قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) قولان : أحدهما : أنه بيان لسنّة الطلاق ، وأن يوقع في كل قرء طلقة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنه بيان للطلاق الذي تملك معه الرّجعة ، قاله عروة ، وقتادة ، وابن قتيبة ، والزجّاج في آخرين.

قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ، معناه : فالواجب عليكم إمساك بمعروف ، وهو ما يعرف من إقامة الحقّ في إمساك المرأة. وقال عطاء ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ : المراد بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) : الرّجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، قولان :

أحدهما : أن المراد به : الطّلقة الثالثة ، قاله عطاء ، ومجاهد ، ومقاتل.

والثاني : أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدّتها ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ. قال القاضي أبو يعلى محمّد بن الحسين بن الفرّاء وهذا هو الصحيح ، لأنه قال عقيب الآية : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شكّ ، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على تركها حتى تنقضي عدّتها ، لأنه إن حمل على الثالثة ، وجب أن يحمل قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) على رابعة ، وهذا لا يجوز.

فصل : الطلاق على أربعة أضرب : واجب ، ومندوب إليه ، ومحظور ، ومكروه. فالواجب : طلاق المؤلي بعد التّربّص ، إذا لم يفئ ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين ، إذا رأيا الفرقة. والمندوب : إذا لم يتّفقا ، واشتدّ الشّقاق بينهما ، ليتخلّصا من الإثم. والمحظور : في الحيض ، إذا كانت مدخولا بها ، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه : إذا كانت حالهما مستقيمة ، وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه.

قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً).

(١١٧) نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، أتت زوجته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

____________________________________

(١١٦) أخرجه مالك ٢ / ٥٨٨ والطبري عن عروة مرسلا. ووصله الترمذي ١١٩٢ والحاكم ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ والواحدي ١٥٢ والبيهقي ٧ / ٣٣٣ من حديث عائشة ، وصححه الحاكم ، وضعفه الذهبي بقوله : يعقوب بن حميد غير واحد. قلت : وفيه يعلى بن شبيب وثقه ابن حبان وهو مجهول ، فالراجح إرساله لكن مراسيل عروة جياد.

ولبعضه شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري ٤٧٨٥ ، ومن مرسل ابن زيد أخرجه برقم ٤٧٨٧.

(١١٧) جيد. أخرجه ابن ماجة ٢٠٥٦ بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وإسناده جيد كما قال ابن كثير.

ـ وأصله. أخرجه البخاري ٥٢٧٣ و ٥٢٧٤ و ٥٢٧٥ و ٥٢٧٦ والنسائي ٦ / ١٦٩ والبيهقي ٧ / ٣١٣ من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال : «أتردين عليه حديقته؟» قالت نعم. وفي الباب روايات وألفاظ أخرى.


«أتردّين عليه حديقته»؟ قالت : نعم ، فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يأخذها ، ولا يزداد. رواه عكرمة عن ابن عباس. واختلفوا في اسم زوجته ، فقال ابن عباس : جميلة. ونسبها يحيى بن أبي كثير ، فقال : جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكنّاها مقاتل ، فقال : أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ. وقال آخرون : إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ، وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين : إحداهما : أنها حبيبة بنت سهل. والثانية : سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى : العلم. والحدود قد سبق بيان معناها.

ومعنى الآية : أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه ، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته ؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية ، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» (يَخافا) ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر ، وحمزة والأعمش : (يخافا) بضم الياء. قوله تعالى ؛ (فَإِنْ خِفْتُمْ) ، قال قتادة : هو خطاب للولاة ، (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) على المرأة (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، وعلى الزوج فيما أخذ ، لأنه ثمن حقّه. وقال الفرّاء : يجوز أن يراد الزوج وحده ، وإن كانا قد ذكرا جميعا ؛ كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) ، وإنما يخرج من أحدهما. وقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) (٢) : وإنما نسي أحدهما.

فصل : وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان (٣) : أحدهما : يجوز ، وبه قال عمر بن الخطّاب وعثمان وعليّ وابن عباس والحسن ومجاهد والنّخعيّ والضحّاك ومالك والشّافعيّ. والثاني : لا يجوز ، وبه قال سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ وطاوس وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن

__________________

(١) الرحمن : ٢٢.

(٢) الكهف : ٦١.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ : ولا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، هذا القول يدلّ على صحة الخلع بأكثر من الصداق ، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشيء صح. وهذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عثمان وابن عمر ، وابن عباس ، وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب ، والنخعي ، ومالك ، والشافعي وأصحاب الرأي ، ويروى عن ابن عباس وابن عمر ، أنهما قالا : لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها ، وعقاص رأسها ، كان ذلك جائزا. قال عطاء ، وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب : لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن عليّ بإسناد منقطع. واختاره أبو بكر ، قال : فإن فعل رد الزيادة. وعن سعيد بن المسيب قال : ما أرى أن يأخذ كل مالها ، ولكن ليدع لها شيئا. واحتجّوا بما روي أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكن أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتردين عليه حديقته؟» قالت : نعم فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجة ، ولأنه بذل في مقابلة فسخ ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد ، كالعوض في الإقالة.

ولنا قول الله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). ولأنه قول من سمينا من الصحابة قالت الربيع بنت معوّذ : اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ومثل هذا يشتهر ، فلم ينكر ، فيكون إجماعا ، ولم يصح عن عليّ على خلافه. فإذا ثبت هذا ، فإنه لا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وبذلك قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، والشعبيّ ، والحكم ومالك والشافعي. قال مالك : لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق. ولنا ، حديث جميلة. وروي عن عطاء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريح في الحكم ، فنجمع بين الآية والخبر ، فنقول الآية دالة على الجواز ، والنهي عن الزيادة للكراهية. والله أعلم.


حنبل ، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضا. وهل يجوز الخلع دون السّلطان؟ قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاوس وشريح والزّهريّ : يجوز ، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن وابن سيرين وقتادة : لا يجوز إلا عند السّلطان.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظيّ.

(١١٨) وقال غير مقاتل : إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمّها ، فطلّقها ثلاثا ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير ، ثم طلّقها ، فأتت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلّقني ، فأبتّ طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير ، وإنه طلّقني قبل أن يمسّني ، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».

قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، يعني : الزوج المطلّق مرتين. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هي الطّلقة الثالثة. واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، يعني : الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يعني : المرأة ، والزوج الأول (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، قال طاوس : ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصّحبة. قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها) قراءة الجمهور (يبينها) بالياء. وقرأ الحسن ؛ ومجاهد ، والمفضّل عن عاصم بالنون (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، قال الزجّاج : يعلمون أن أمر الله حقّ.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، قال ابن عباس : كان الرجل يطلّق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها ، ثم يطلّقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك ، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا : زمان العدّة. ومعنى البلوغ هاهنا : مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه ، يقال : بلغت المدينة : إذا قاربتها ، وبلغتها : إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة ، لأنه ليس بعد انقضاء العدّة رجعة. قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : المراد به الرّجعة قبل انقضاء العدّة. قوله تعالى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، وهو تركها حتى تنقضي عدّتها.

____________________________________

(١١٨) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٣٩ و ٢٧٩٢ و ٦٠٨٤ ومسلم ١٤٣٣ ح ١١١ و ١١٢ والترمذي ١١١٨ والنسائي ٦ / ٩٣ والدارمي ٢ / ١٦١ وابن ماجة ١٩٣٢ من حديث عائشة مع اختلاف يسير فيه.

وأخرجه أبو داود ٢٣٠٩ وأحمد ٦ / ٤٢ والنسائي ٦ / ١٤٦ وابن حبان ٤١٢٢ من وجه آخر عن عائشة.


والمعروف في الإمساك : القيام بما يجب لها من حقّ ، والمعروف في التّسريح : أن لا يقصد إضرارها ، بأن يطيل عدّتها بالمراجعة ، وهو معنى قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، قاله الحسن ومجاهد ، وقتادة في آخرين. وقال الضحّاك : إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الاعتداء ، (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بارتكاب الإثم. قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فيه قولان : أحدهما : أنه الرجل يطلّق أو يراجع ، أو يعتق ، ويقول : كنت لاعبا. روي عن عمر ، وأبي الدّرداء ، والحسن. والثاني : أنه المضارّ بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق ، قاله مسروق ، ومقاتل. (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، قال ابن عباس : احفظوا منّته عليكم بالإسلام. قال : والكتاب : القرآن. والحكمة : الفقه. (وَاتَّقُوا اللهَ) ، في الضّرار (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) به وبغيره (عَلِيمٌ).

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) في سبب نزولها قولان :

(١١٩) أحدهما : ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوّج أخته من رجل من المسلمين ، فكانت عنده ما كانت ، فطلّقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة ، وكانت أحقّ بنفسها ، فخطبها مع الخطّاب ، فرضيت أن ترجع إليه ، فخطبها إلى معقل ، فغضب معقل ، وقال : أكرمتك بها ، فطلّقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن : فعلم الله ، عزوجل ، حاجة الرجل إلى امرأته ، وحاجة المرأة إلى بعلها ، فنزلت هذه الآية ، فسمعها معقل ، فقال : سمعا لربّي ، وطاعة ، فدعا زوجها ، فقال : أزوّجك ، وأكرمك. ذكر عبد الغنيّ الحافظ عن الكلبيّ أنه سمّى هذه المرأة ، فقال : جميلة بنت يسار.

(١٢٠) والثاني : أن جابر بن عبد الله الأنصاريّ كانت له ابنة عمّ ، فطلّقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدّتها ، ثم رجع يريد رجعتها ، فأبى جابر ، وقال : طلقت ابنة عمّنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها ، قد راضته ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

فأمّا بلوغ الأجل في هذه الآية ، فهو انقضاء العدّة ، بخلاف التي قبلها. قال الشّافعيّ رضي الله عنه : دلّ اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ، خطاب للأولياء ، قال ابن عباس ، وابن جبير ، وابن قتيبة في آخرين : معناه لا تحبسوهنّ ، والعرب تقول للشدائد : معضلات. وداء عضال : قد أعيا. قال أوس بن حجر :

وليس أخوك الدّائم العهد بالذي

يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا

وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

____________________________________

(١١٩) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٢٩ و ٥١٣٠ و ٥١٣١ وأبو داود ٢٠٨٧ والترمذي ٢٩٨١ واستدركه الحاكم ٢ / ٢٨٠ والواحدي ١٥٣ من حديث الحسن عن معقل بن يسار.

(١٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٤٩٤٢ والواحدي في «أسباب النزول» ١٥٦ وذكر هذا القول ابن كثير في تفسيره وقال : الصحيح الأول أي حديث معقل.


وقالت ليلى الأخيليّة :

إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة

تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الدّاء العضال الذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها

قال الزجّاج : وأصل العضل ، من قولهم : عضلت الدّجاجة ، فهي معضل : إذا احتبس بيضها ونشب (١) فلم يخرج ، وعضلت الناقة أيضا : إذا احتبس ولدها في بطنها.

قوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، قال السّدّيّ ، وابن قتيبة : معناه إذا تراضى الزوجان بالنّكاح الصحيح. قال الشّافعيّ : وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوّج إلا بوليّ.

قوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) ، قال مقاتل : الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجّاج : إنما قال : «ذلك» ولم يقل : «ذلكم» وهو يخاطب جماعة ، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد ، فالمعنى : ذلك أيها القبيل. قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) ، يعني ردّ النساء إلى أزواجهنّ ، أفضل من التّفرقة بينهم ، (وَأَطْهَرُ) ، أي : أنقى لقلوبكم من الرّيبة لئلا يكون هناك نوع محبّة ، فيجتمعان على غير وجه صلاح. قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه ، قاله ابن عباس ، والضحّاك. والثاني : يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا ، قاله الزجّاج في آخرين.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) ، وقال القاضي أبو يعلى : وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ، لأن عليهم الاسترضاع ، لا إلى الوالدات ، بدليل قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) ، وقوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ*) (٣) ، فلو كان متحتّما على الوالدة ، لم تستحقّ الأجرة ، وهل هو عامّ في جميع الوالدات؟ فيه قولان : أحدهما : أنه خاصّ في المطلّقات ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه عامّ في الزوجات والمطلّقات ، ولهذا يقال : لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها ، سواء كانت مع الزوج ، أو مطلقة ، قاله القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين. والحول : السّنة ، وفي قوله : (كامِلَيْنِ) قولان : أحدهما : أنه دخل للتوكيد ؛ كقوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٤). والثاني : أنه لما جاز أن يقول : «حولين» ، ويريد أقلّ منهما ، كما قال : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) ، ومعلوم أنه يتعجّل في يوم ، وبعض آخر. وتقول العرب : لم أر فلانا منذ يومين ، وإنما

__________________

(١) في «القاموس» نشب وانتشب : اعتلق ، وتناشبوا : تضاموا وتعلق بعضهم ببعض.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) النساء : ٢٤.

(٤) البقرة : ١٩٦.

(٥) البقرة : ٢٠٣.


يريدون : يوما وبعض آخر ـ قال : كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما ، وهذا قول الزجّاج ، والفرّاء.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فقال بعضهم : هو محكم ، والمقصود منه بيان مدّة الرّضاع ، ويتعلّق به أحكام ، منها أنه كمال الرّضاع ، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرّضاع مدّة الحولين ، ويجبره الحاكم على ذلك ، ومنها أنه يثبت تحريم الرّضاع في مدّة الحولين ، ولا يثبت فيما زاد ، ونقل عن قتادة ، والرّبيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) ، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا قول بعيد ، لأنّ الله تعالى قال في أوّلها : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فلمّا قال في الثاني : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) خيّر بين الإرادتين ، وذلك لا يعارض المدّة المقدّرة في التّمام.

قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، أي : هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرّضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «تتم الرضاعة» وبالرفع ، وهي رواية الحلبيّ عن عبد الوارث. وقد ذكر التمام على نفي حكم الرّضاع بعد الحولين ، وأكثر القرّاء على فتح راء «الرضاعة» ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، وابن أبي عبلة ، وأبو رجاء بكسرها ، قال الزّجّاج ، يقال : الرّضاعة بفتح الراء وكسرها ، والفتح أكثر ، ويقال : ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرّضاعة بالفتح هاهنا لا غير.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ، يعني : الأب. (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) يعني : المرضعات. وفي قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره ، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه ، ولا الموسر النّزر الطّفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، إذ لا يتوصّل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلّا من جهة غالب الظنّ ، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ، أي : إلا ما تطيقه. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان عن عاصم (لا تضارّ) برفع الراء ، وقرأ نافع وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بنصبها ، قال أبو عليّ : من رفع ، فلأجل المرفوع قبله ، وهو «لا تكلف» ، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ ، ومن نصب جعله أمرا ، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف ، قال ابن قتيبة : معناه : لا تضارر ، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير : لا يحملنّ المطلقة مضارّة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد : لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمّه أن ترضعه ، ليحزنها بذلك. وقال عطاء ، وقتادة ، والزّهريّ ، وسفيان ، والسّدّيّ في آخرين : إذا رضيت بما يرضى به غيرها ، فهي أحقّ به. وقرأ أبو جعفر : «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه وارث المولود ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، والسّدّيّ ، والحسن بن صالح ، ومقاتل في آخرين ؛ واختلف أرباب هذا القول ، فقال بعضهم : هو وارث المولود من عصبته ، كائنا من كان ، وهذا مرويّ عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وسفيان. وقال بعضهم : هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء ، روي عن ابن أبي ليلى ، وقتادة ، والحسن بن صالح ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، روي عن أبي حنيفة ،


وأبي يوسف ، ومحمّد. والقول الثاني : أن المراد بالوارث هاهنا ، وارث الوالد ، روي عن الحسن والسّدّيّ. والثالث : أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر ، روي عن سفيان. والرابع : أنه أريد بالوارث الصبيّ نفسه ، فالنفقة عليه ، فإن لم يملك شيئا ، فعلى عصبته ، قاله الضحّاك ، وقبيصة بن ذؤيب. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا القول لا ينافي قول من قال : المراد بالوارث وارث الصبي ، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى : (مِثْلُ ذلِكَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الإشارة إلى أجرة الرّضاع والنفقة ، روي عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، وقبيصة بن ذؤيب ، والسّدّيّ. واختاره ابن قتيبة. والثاني : أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضّرار ، روي عن ابن عباس والشّعبيّ والزّهريّ. واختاره الزجّاج. والثالث : أنه إشارة إلى جميع ذلك ، روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدّمشقيّ واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة ، وأن لا يضارّ ، فيجب أن يكون قوله : (مِثْلُ ذلِكَ) مشيرا إلى جميع ما على المولود له.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) ، الفصال : الفطام. قال ابن قتيبة : يقال : فصلت الصبيّ من أمّه : إذا فطمته. ومنه قيل للحوار (١) إذا قطع عن الرّضاع : فصيل ، لأنه فصل عن أمّه ، وأصل الفصل : التّفريق. قال مجاهد : التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى ، فليس لها ، وإن أراد هو ، ولم ترد ، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور ، يقول : غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما. قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) ، قال الزجّاج : أي : لأولادكم. قال مقاتل : إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها ، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قولان : أحدهما : إذا سلّمتم أيّها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : إذا سلّمتم إلى الظّئر أجرها بالمعروف ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر ، قال أبو عليّ : وجهه أن يقدّر فيه : ما أوتيتم نقده أو أوتيتم سوقه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما تقول : أتيت جميلا ، أي : فعلته.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ، أي : يقبضون بالموت. وقرأ المفضّل عن عاصم «يتوفون» بفتح الياء في الموضعين. قال ابن قتيبة : هو من استيفاء العدد ، واستيفاء الشيء : أن نستقصيه كلّه ، يقال : توفّيته واستوفيته ، كما يقال : تيقّنت الخير واستيقنته ، هذا الأصل ، ثم قيل للموت : وفاة وتوفّ (يَتَرَبَّصْنَ) ينتظرن ، قال الفرّاء : وإنما قال : (وَعَشْراً) ولم يقل : عشرة ، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام ، غلّبوا عليه الليالي على الأيام ، حتى إنهم ليقولون : صمنا عشرا من شهر رمضان ،

__________________

(١) في «اللسان» الحوار : ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.


لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام ، فإذا أظهروا مع العدد تفسيره ، كانت الإناث بغير هاء ، والذّكور بالهاء (١) ؛ كقوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (٢). فإن قيل : ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب : أنه يبيّن صحة الحمل بنفخ الرّوح فيه ، قاله سعيد بن المسيّب ، وأبو العالية.

(١٢١) ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الرّوح».

فصل : وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها ، وهي تأتي بعد آيات ، وهي قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ؛ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدّة سنة ،

____________________________________

(١٢١) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٨ و ٣٣٣٢ و ٦٥٩٤ و ٧٤٥٤ ومسلم ٢٦٤٣ وأبو داود ٤٧٠٨ والترمذي ٢١٣٧ والنسائي ٦ / ٢٩ وابن ماجة ٧٦ وابن حبان ٦١٧٤ والبيهقي ٣٨٧ و ١٣٧ ـ ١٣٨ من حديث ابن مسعود : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح ، فإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخل النار وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها» لفظ البخاري.

__________________

(١) قال أبو حيان في «البحر المحيط» ٢ / ٢٣٤ : ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بمدد كما ذهب إليه «المبرد» بل الذي نقل أصحابنا إنه إذا كان المعدود مذكرا وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود فتقول صمت خمسة تريد خمسة أيام قالوا وهو الفصيح قالوا ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث ، وحكى «الكسائي» عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسا ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر. وقوله ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه كما ذكر بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه كما ذكرنا وقوله ومن البين فيه إن لبثتم إلا عشرا قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة وقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٤].

فائدة : ذكر «الزمخشري» هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام داخلة معها فأتى بقوله إلا يوما للدلالة على ذلك وهذا عندنا يدل على أن قوله عشرا إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في مدة اللبث فقال قوم عشر ، وقال أمثلهم طريقة يوم ، فقوله : إلا يوما مقابل لقولهم إلا عشرا ويبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم عشر ليال ، ويقول بعض يوما ، وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة ، كان الشهر تاما أو ناقصا وإن وجبت في بعض شهر فقيل تستوفي مائة وثلاثين يوما وقيل تعتد بما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول ، وكلا القولين عن أبي حنيفة ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك فتعتد إثر الوفاة جاء الفعل مسندا إليهن وأكد بقوله (بِأَنْفُسِهِنَ) فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة وقامت على ذلك البينة ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة.

(٢) الحاقة : ٧.


وسنذكر ما يتعلق بها هنالك ، إن شاء الله. فأما التي نحن في تفسيرها : فقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسختها (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (١). والصحيح : أنها عامة دخلها التّخصيص ، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدّة على المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، سواء كانت حاملا ، أو غير حامل ، غير أن قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) خصّ أولات الحمل ، وهي خاصة أيضا في الحرائر ، فإن الأمة عدّتها شهران وخمسة أيام ، فبان أنها من العامّ الذي دخله التّخصيص.

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، يعني : انقضاء العدّة. قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه قولان : أحدهما أن معناه : فلا جناح على الرجال في تزويجهنّ بعد ذلك. والثاني : فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهنّ إذا تزيّن وتزوجن. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وهو خطاب لأوليائهنّ.

قوله تعالى : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فيه قولان : أحدهما : أنه التّزيّن والتّشوّف للنّكاح ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : أنه النّكاح ، قاله الزّهريّ ، والسّدّيّ.

و «الخبير» من أسماء الله تعالى ، ومعناه : العالم بكنه الشيء المطّلع على حقيقته. و «الخبير» في صفة المخلوقين ، إنما يستعمل في نوع من العلم ، وهو الذي يتوصّل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببداءة العقول. وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلّى وظهر.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدّة. والتّعريض : الإيماء والتّلويح من غير كشف ، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر. والخطبة بكسر الخاء : طلب النّكاح ، والخطبة بضم الخاء : مثل الرّسالة التي لها أول وآخر. وقال ابن عباس : التّعريض أن يقول : إني أريد أن أتزوّج. وقال مجاهد : أن يقول : إنك لجميلة ، وإنّك لحسنة ، وإنّك لإلى خير. قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) ، قال الفرّاء : فيه لغتان : كننت الشيء ، وأكننته. وقال ثعلب : أكننت الشيء : إذا أخفيته في نفسك ، وكننته : إذا سترته بشيء. وقال ابن قتيبة : أكننت الشيء : إذا سترته ، ومنه هذه الآية ، وكننته : إذا صنته ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٢) ، قال بعضهم : يجعل كننته ، وأكننته ، بمعنى. قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) ، قال مجاهد : ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن المراد بالسّرّ هاهنا : النّكاح ، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس :

ألا زعمت بسباسة (٣) اليوم أنّني

كبرت وأن لا يشهد السّرّ أمثالي

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) الصافات : ٤٩.

(٣) في «القاموس» بسباسة : امرأة من بني أسد.


وفي رواية : يشهد اللهو. قال الفرّاء : ويرى أنه مما كنّى الله عنه كقوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ*) (١). وذكر الزجّاج عن أبي عبيدة أن السّرّ : الإفضاء بالنّكاح المحرم ، وأنشد (٢) :

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع (٣)

قال ابن قتيبة : استعير السّرّ للنّكاح ، لأن النّكاح يكون سرّا ، فالمعنى : لا تواعدوهنّ بالتزويج ، وهن في العدة تصريحا ، (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا. والثاني : أن المواعدة سرّا : أن يقول لها : إنّي لك محبّ ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أن المراد بالسّرّ الزّنى ، قاله الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحّاك. والرابع : أن المعنى : لا تنكحوهنّ في عدّتهنّ سرّا ، فإذا حلّت أظهرتم ذلك ، قاله ابن زيد. وفي القول المعروف قولان : أحدهما : أنه التّعريض لها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والقاسم بن محمّد ، والشّعبيّ ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنه إعلام وليّها برغبته فيها ، وهو قول عبيدة.

قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ، قال الزجّاج : لا تعزموا على عقدة النّكاح ، وحذفت «على» استخفافا ، كما قالوا : ضرب زيد الظّهر والبطن ، معناه : على الظّهر والبطن. (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، أي : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، قال : ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» ؛ كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٤) ، فيكون المعنى : حتى يبلغ الفرض أجله. قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشّعبيّ ، وقتادة ، والسّدّيّ : بلوغ الكتاب أجله : انقضاء العدّة.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ، قال ابن عباس : من الوفاء ، فاحذروه أن تخالفوه في أمره. والحليم قد سبق بيانه.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦))

قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير ألف حيث كان ، وبفتح التاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف «تماسّوهن» بألف وضمّ التاء في الموضعين هنا ، وفي الأحزاب ثالث. قال أبو عليّ : وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و «فعل» ما يراد بالآخر ، تقول : طارقت النعال وعاقبت اللص.

(١٢٢) قال مقاتل بن سليمان : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ،

____________________________________

(١٢٢) لا أصل له. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان ، وهذا معضل ، ومع ذلك مقاتل كذاب يضع الحديث ، وقد تفرد بهذا الخبر. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ١ / ٢٨٥ لم أجده. وذكره القرطبي في تفسير ٣٥ /

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) البيت للحطيئة.

(٣) في «اللسان» : القصعة الضخمة تشبع العشرة والجمع قصاع. وأنف كل شيء : طرفه وأوله.

(٤) البقرة : ١٨٣.


ولم يسمّ لها مهرا ، فطلّقها قبل أن يمسّها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل متّعتها بشيء؟» قال : لا ، قال : «متّعها ولو بقلنسوتك» ، ومعنى الآية : ما لم تمسوهنّ ، ولم تفرضوا لهنّ فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو. كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (١).

والمس : النكاح ، والفريضة : الصداق ، وقد دلّت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر (وَمَتِّعُوهُنَ) أي : أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع : اسم لما ينتفع به ، فذلك معنى قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ، وقرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو «قدره» بإسكان الدال في الحرفين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتحريك الحرفين ، وعن عاصم : كالقراءتين وهما لغتان.

فصل : وهل هذه المتعة واجبة ، أم مستحبة؟ فيه قولان : أحدهما : واجبة ، واختلف أرباب هذا القول ، لأيّ المطلّقات تجب ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها واجبة لكل مطلّقة ، روي عن عليّ والحسن وأبي العالية والزّهريّ. والثاني : أنها تجب لكل مطلّقة إلا المطلّقة التي فرض لها صداقا ولم يمسّها ، فإنه يجب لها نصف ما فرض ، روي عن ابن عمر والقاسم بن محمّد وشريح وإبراهيم. والثالث : أنها تجب للمطلّقة قبل الدّخول إذا لم يسمّ لها مهرا ، فإن دخل بها ، فلا متعة ، ولها مهر المثل ، روي عن الأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.

والثاني : أن المتعة مستحبّة ، ولا تجب على أحد ، سواء سمّى للمرأة ، أو لم يسمّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وهو قول مالك ، واللّيث بن سعد ، والحكم ، وابن أبي ليلى.

واختلف العلماء في مقدار المتعة ، فنقل عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب : أعلاها خادم ، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلّي فيها ، وروي عن حمّاد وأبي حنيفة : أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشّافعيّ وأحمد : أنه قدر يساره وإعساره ، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم. ونقل عن أحمد : أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصّلاة من الكسوة ، وهو درع وخمار.

قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : بقدر الإمكان ، والحق : الواجب. وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، أي : قبل الجماع (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَ) أي :

____________________________________

١٩٠ ونسبه للثعلبي ، وتفرد الثعلبي به يدل على أنه غير حجة لأنه كحاطب ليل حتى الواحدي لم يذكره في «أسباب النزول». وكذا السيوطي وهذا الخبر أمارة الوضع لائحة عليه.

__________________

(١) الدهر : ٢٤.


أوجبتم لهنّ شيئا التزمتم به ، وهو المهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ، يعني : النساء ، وعفو المرأة : ترك حقّها من الصّداق. وفي (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه الزّوج ، وهو قول عليّ ، وجبير بن مطعم ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، ومجاهد ، وشريح ، وجابر بن زيد ، والضحّاك ، ومحمّد بن كعب القرظيّ ، والرّبيع بن أنس ، وابن شبرمة ، والشّافعيّ ، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني : أنه الوليّ ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاوس ، والشّعبيّ ، وإبراهيم في آخرين. والثالث : أنه أبو البكر ، روي عن ابن عباس ، والزّهريّ ، والسّدّيّ في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج : أن يكمل لها الصّداق ، وعلى الثاني : عفو الوليّ : ترك حقّها إذا أبت ، روي عن ابن عباس ، وأبي الشّعثاء. وعلى الثالث يكون قوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يختصّ بالثّيّبات. وقوله : (أَوْ

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ١٦٠ : اختلف أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح ، فظاهر مذهب أحمد رحمه‌الله. أنه الزوج. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس ، وجبير بن مطعم رضي الله عنهم ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، ونافع بن جبير ، ونافع مولى ابن عمر ، ومجاهد وإياس بن معاوية ، وجابر بن زيد ، وابن سيرين ، والشّعبي والثوري ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي. والشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الوليّ إذا كان أبا الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن ابن عباس وعلقمة والحسن وطاوس والزهري وربيعة ومالك ، أنه الوليّ لأن الوليّ بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح ، لكونها قد خرجت عن يد الزّوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهنّ ، فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه ، ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا ، ولأن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ثم قال : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهذا خطاب غير حاضر. ولنا ، ما روى أنه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وليّ العقدة الزوج» ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه يتمكّن من قطعه وفسخه وإمساكه ، وليس إلى الوليّ منه شيء ، ولأنّ الله تعالى قال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) والعفو الذي هو أقرب إلى التّقوى ولأن المهر مال للزوجة ، فلا يملك الوليّ هبته وإسقاطه ، كغيره من أموالها وحقوقها ، كسائر الأولياء ، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ). فعلى هذا متى طلق الزّوج قبل الدخول تنصّف المهر بينما إن عفا الزّوج لها عن النّصف الذي له ، كمل لها الصّداق جميعه ، وإن عفت المرأة عن النّصف الذي لها منه ، وتركت له جميع الصداق ، جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرّفه في ماله ، وإن كان صغيرا أو سفيها ، لم يصحّ عفوه لأنّه ليس له التّصرّف في ماله بهبة ولا إسقاط. ولا يصحّ عفو الوليّ عن صداق الزّوجة ، أبا كان أو غيره ، صغيرة كانت أو كبيرة. نصّ عليه أحمد ، في رواية الجماعة ، وروى عنه ابن منصور : إذا طلّق امرأته وهي بكر قبل أن يدخل بها ، فعفا أبوها أو زوجها ، ما أرى عفو الأب إلّا جائزا. قال أبو حفص : ما أرى ما نقله ابن منصور إلّا قولا لأبي عبد الله قديما. وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية واحدة ، وأن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو الصحيح ، لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون ولده الصغير ولا إعتاق عبيده ، ولا تصرّفه له إلّا بما فيه مصلحته ولا حظّ لها في هذا الإسقاط فلا يصح ـ وإن قلنا برواية ابن منصور ، لم يصحّ إلّا بخمس شرائط : الأول أن يكون أبا لأنّه الذي يلي مالها ، ولا يتّهم عليه. والثاني أن تكون صغيرة ليكون وليا على مالها ، فإنّ الكبيرة تلي مال نفسها. الثالث أن تكون بكرا لتكون غير مبتذلة ، ولأنّه لا يملك تزويج الثيّب وإن كانت صغيرة ، فلا تكون ولايته عليها تامة. الرابع ، أن تكون مطلقة ، لأنها قبل الطلاق معرّضة لإتلاف البضع. الخامس أن تكون قبل الدّخول ، لأنّ ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف. ومذهب الشافعيّ على نحو هذا إلّا أنّه يجعل الجدّ كالأب.


يَعْفُوَا) ، يختصّ أبا البكر ، قاله الزّهريّ ، والأول أصحّ ، لأن عقدة النّكاح خرجت من يد الوليّ ، فصارت بيد الزّوج ، والعفو إنما يطلق على ملك الإنسان ، وعفو الوليّ عفو عما لا يملك ، ولأنه قال : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، والفضل في هبة الإنسان مال نفسه ، لا مال غيره. قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للزوجين جميعا ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنه خطاب للزوج وحده ، قاله الشّعبيّ ، وكان يقرأ : «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، خطاب للزوجين ، قال مجاهد : هو إتمام الرجل الصّداق ، وترك المرأة شطرها.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨))

قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) ، المحافظة : المواظبة والمداومة ، والصّلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود ، والمراد : الصّلوات الخمس.

قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قال الزّجّاج : هذه الواو تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصّصة ، فهي دالّة على فضل الذي تخصّصه ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) قال سعيد بن المسيّب : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبّك بين أصابعه (٢). ثم فيها خمسة أقوال : أحدها : أنها العصر.

(١٢٣) روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ قبورهم وبيوتهم نارا».

(١٢٤) وروى ابن مسعود ، وسمرة ، وعائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها صلاة العصر.

____________________________________

(١٢٣) أخرجه البخاري ٢٩٣١ و ٤١١١ و ٤٥٣٣ و ٦٣٩٦ ومسلم ٦٢٧ وأبو داود ٤٠٩ وأحمد ١ / ١٢٢ والدارمي ١ / ٢٨٠ من طريق هشام بن حسّان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٣ والترمذي ٢٩٨٤ والنسائي ١ / ٣٦ وأحمد ١ / ١٣٥ و ٣٧ و ١٥٣ و ١٥٤ والطبري ٥٤٢٥ و ٥٤٣٢ من طرق عن أبي حسّان عن عبيدة. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٥ وعبد الرزاق ٣١٩٤ وأحمد ١ / ٨١ و ٨٢ و ٨٣ و ١٢٦ و ١٤٦ والطبري ٥٤٢٧ و ٥٤٢٩ والبيهقي ١ / ٤٦٠ و ٢ / ٢٢٠ من طريق الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي.

(١٢٤) حديث ابن مسعود ، أخرجه مسلم ٦٢٨ والترمذي ١٨١ و ٢٩٨٥ والطيالسي ٣٦٦ وأحمد ١ / ٣٩٢ و ٤٠٣ و ٤٠٤ و ٤٥٦ والطبري ٥٤٣٣ والطحاوي ١ / ١٧٤ والبيهقي ١ / ٤٦١ من طريق محمد بن طلحة عن زبيد بن الحارث عن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود. قال حبس المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلاة العصر حتّى احمرّت الشّمس أو اصفرّت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» أو قال : «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا».

ـ وحديث سمرة أخرجه الترمذي ٢٩٨٣ وأحمد ٥ / ١٣ و ٢٢ ولفظه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : صلاة الوسطى صلاة العصر». قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

__________________

(١) البقرة : ٩٧.

(٢) أخرجه الطبري ٥٤٩٥ عن قتادة عن ابن المسيب ، وفيه إرسال بينهما فإن قتادة لم يسمعه من سعيد فهو ضعيف. وقوله «وشبك بين أصابعه» أي مختلفين كما في رواية الطبري.


(١٢٥) وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ، فقرأناها ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وهذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وأبي أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية عطيّة ، وأبي سعيد الخدريّ ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاوس ، والضحّاك ، والنّخعيّ ، وعبيد بن عمير ، وزرّ بن حبيش ، وقتادة ، وأبي حنيفة ، ومقاتل في آخرين ، وهو مذهب أصحابنا.

والثاني : أنها الفجر ، روي عن عمر ، وعليّ في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أمامة ، وابن عمر في رواية مجاهد ، وزيد بن أسلم ، في رواية أبي رجاء العطارديّ ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وطاوس في رواية ابنه ، وعبد الله بن شدّاد ، ومجاهد ، ومالك ، والشّافعيّ. وروى أبو العالية قال صلّيت مع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغداة فقلت لهم : أيّما الصلاة الوسطى؟ فقالوا : التي صلّيت قبل. والثالث : أنها الظّهر ، روي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، وأبي سعيد الخدريّ ، وعائشة في رواية ، وروى [عاصم بن ضمرة] (١) عن عليّ عليه‌السلام قال : هي صلاة الجمعة ، وهي سائر الأيام الظّهر. والرابع : أنها المغرب ، روي عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب. والخامس : أنها العشاء الأخيرة ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ في «تفسيره».

وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال : أحدها : أنها أوسط الصلوات محلا. والثاني : أوسطها مقدارا. والثالث : أفضلها ، ووسط الشيء : خيره وأعدله. ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٢) ، فإن قلنا : إن الوسطى بمعنى : الفضلى ، جاز أن يدّعي هذا كلّ ذي مذهب فيها. وإن قلنا : إنها أوسطها مقدارا ، فهي المغرب ، لأن أقل المفروضات ركعتان ، وأكثرها أربعا. وإن قلنا : أوسطها محلّا ، فللقائلين : إنها العصر أن يقولوا : قبلها صلاتان في النهار ، وبعدها صلاتان في الليل ، فهي الوسطى.

____________________________________

وحديث عائشة أخرجه مسلم ٦٢٩ وأبو داود ٤١٠ والترمذي ٢٩٨٢ والنسائي ٦٦ وأخرجه مالك ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ وأحمد ٦ / ٧٣ و ١٧٨ والطحاوي في المعاني ١ / ١٧٢ وابن أبي داود في المصاحف ص ٨٤ والبيهقي ١ / ٤٦٢ من طريق زيد بن أسلم به. وأخرجه الطبري ٥٤٧٠ من طريق زيد بن أسلم أنه بلغه عن أبي يونس : عن عائشة. وأخرجه مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ قال قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس مولى عائشة ، أنه قال : «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذنّي : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة ، الآية : ٢٣٨] فلمّا بلغتها آذنتها. فأملت عليّ : حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٢٥) صحيح. أخرجه مسلم ٦٣٠ والطبري ٥٤٣٧ والحاكم ٢ / ٢٨١ والطحاوي في «المشكل» ٢٠٧١ والبيهقي ١ / ٤٥٩ من حديث البراء بن عازب.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين في نسخة «الفكر» «أبو ضمرة» وفي نسخة «المكتب» ضمرة وكلاهما خطأ ، ليس في الرواة عن علي ضمرة أو أبو ضمرة ، وإنما يروي عنه عاصم بن ضمرة.

(٢) البقرة : ١٤٢


ومن قال : هي الفجر ، فقال عكرمة : هي وسط بين الليل والنهار ، وكذلك قال ابن الأنباريّ : هي وسط بين الليل والنهار ، وقال : وسمعت أبا العبّاس يعني ، ثعلبا يقول : النهار عند العرب أوّله : طلوع الشمس. قال ابن الأنباريّ : فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل ، قال : وقال آخرون : بل هي من صلاة النهار ، لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال : والصواب عندنا أن نقول : الليل المحض خاتمته طلوع الفجر ، والنّهار المحض أوّله : طلوع الشمس ، والذي بين طلوع الفجر ، وطلوع الشّمس يجوز أن يسمى نهارا ، ويجوز أن يسمّى ليلا ، لما يوجد فيه من الظّلمة والضّوء ، فهذا قول يصحّ به المذهبان. قال ابن الأنباريّ : ومن قال : هي الظّهر ، قال : هي وسط النهار ، فأمّا من قال : هي المغرب ، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت ، الظّهر ، فصارت المغرب وسطى ، ومن قال : هي العشاء ، فإنه يقول : هي بين صلاتين لا تقصران. قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، المراد بالقيام هاهنا : القيام في الصلاة ، فأمّا القنوت ، فقد شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّاعة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والشّعبيّ ، وطاوس ، والضّحّاك ، وقتادة في آخرين. والثاني : أنه طول القيام في الصلاة ، روي عن ابن عمر ، والرّبيع بن أنس ، وعن عطاء كالقولين. والثالث : أنه الإمساك عن الكلام في الصّلاة.

(١٢٦) قال زيد بن أرقم : كنّا نتكلّم في الصلاة حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) ، أي : خفتم عدوا ، فصلّوا رجالا ، وهو جمع راجل ، والرّكبان جمع راكب ، وهذا يدلّ على تأكيد أمر الصلاة ، لأنه أمر بفعلها على كلّ حال. وقيل : إنّ هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النّساء ، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) (١) ، ثم أنزل هذه الآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ) ، أي : خوفا أشدّ من ذلك ، فصلّوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين :

(١٢٧) ما روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلّى يوم الخندق الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟ فالجواب :

____________________________________

(١٢٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٣٤ ومسلم ٥٣٩ وأبو داود ٩٤٩ والترمذي ٢٩٨٦ و ٥٥٢٤ والنسائي ٣ / ١٨ وابن خزيمة ٨٥٦ وابن حبان ٢٢٤٥ و ٢٢٤٦ و ٢٢٥٠ والطبري ٥٥٢٧ والطبراني ٥٠٦٣ و ٥٠٦٤ والبيهقي ٢ / ٢٤٨ من حديث زيد بن الأرقم.

(١٢٧) لم أره من حديث ابن عباس ، ولعله سبق قلم ، وإنما هو من حديث ابن مسعود. كذا أخرجه الترمذي ١٧٩ والنسائي ١ / ٢٩٧ و ٢ / ١٧ والطيالسي ٣٣٣ وأحمد ١ / ٤٢٣ والبيهقي ١ / ٤٠٣ كلهم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : «كنا في غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا ، فأقام لصلاة الظهر ...» الحديث.

__________________

(١) النساء : ١٠٢.


(١٢٨) أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، قال أبو بكر الأثرم : فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ.

قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) ، في هذا الذّكر قولان : أحدهما : أنه الصّلاة ، فتقديره : فصلّوا كما كنتم تصلّون آمنين. والثاني : أنه الثّناء على الله ، والحمد له.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً).

(١٢٩) روى ابن حيّان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطّائف ، يقال له : حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ، ومعه أبواه وامرأته ، وله أولاد ، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه وأولاده من ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا.

قوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وابن عامر «وصية» بالنصب ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ «وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ : من نصب حمله على الفعل ، أي : ليوصوا وصية ، ومن رفع ، فمن وجهين : أحدهما : أن يجعل الوصيّة مبتدأ ، والخبر لأزواجهم. والثاني : أن يضمر له خبرا ، تقديره : فعليهم وصية. والمراد منه من قارب الوفاة ، فليوص ، لأن المتوفّى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ، أي : متّعوهنّ إلى الحول ، ولا تخرجوهنّ. والمراد بذلك نفقة السّنة وكسوتها وسكناها (فَإِنْ خَرَجْنَ) أي : من قبل أنفسهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يعني : أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) يعني التّشوّف للنّكاح. وفي ما ذا رفع الجناح عن الرّجال؟ فيه قولان : أحدهما : أنه في قطع النّفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

____________________________________

إسناده ضعيف ، لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه. قال الترمذي : إسناده ليس به بأس ، إلّا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت : وليس فيه لفظ بعد ما غربت ، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث جابر ، لكن في هذا الأخير أن صلاة العصر فقط هي التي فاتته. كذا أخرجه البخاري ٥٩٦ و ٥٩٨ ومسلم ٦٤١ وغيرهما. وكذا ورد لفظ «حتى غربت» في حديث أبي سعيد ، وهو الآتي.

ـ الخلاصة : حديث ابن مسعود ضعيف الإسناد ، إلّا أن أصله محفوظ بشاهده الآتي عن أبي سعيد ، فهو يشهد له في كونه عليه الصّلاة والسّلام فاتته أربع صلوات ، ويعارضه ، بأن فيه «قبل نزول الآية».

(١٢٨) صحيح. أخرجه الشافعي في «السنن» ١ و «الأم» ١ / ٧٥ وأحمد ٣ / ٦٧ ـ ٦٨ والدارمي ١ / ٣٥٨ والنسائي ٢ / ١٧ وابن حبان ٢٨٩٠ والبيهقي ١ / ٤٠٣ كلهم من حديث أبي سعيد قال : «شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عزوجل (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا ، فأقام لصلاة الظهر ...» الحديث. إسناده صحيح على شرط مسلم. وكذا صححه ابن السكن ، ووافقه الحافظ في «تلخيص الحبير» ١ / ١٩٥. وقال السيوطي في «شرح سنن النسائي» ٢ / ١٨ : قال ابن سيد الناس : هذا إسناد صحيح جليل.

(١٢٩) ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ١٥٧ وإسحاق بن راهويه في «تفسيره» كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٧٠ عن مقاتل بن حيان ، وهذا معضل ، فالخبر واه.


والثاني : في ترك منعهنّ من الخروج ، لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا عليها ، بل كانت مخيّرة في ذلك.

(١٣٠) فصل : ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات أحدهم ، مكثت زوجته في بيته حولا ، ينفق عليها من ميراثه ، فإذا تمّ الحول ، خرجت إلى باب بيتها ، ومعها بعرة ، فرمت بها كلبا ، وخرجت بذلك من عدّتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول : مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام ، فأقرّهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدّمة في نظم القرآن على هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه (١).

____________________________________

(١٣٠) ورد هذا المعنى في حديث مرفوع : «قالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها فنكحّلها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا» مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : «لا إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول». أخرجه البخاري ٥٣٣٤ ومسلم ١٤٨٦ وأبو داود ٢٢٩٩ والترمذي ١١٩٥ و ١١٩٦ و ١١٩٧ والنسائي ٦ / ٢٠١ والشافعي ٢ / ٦١ والبيهقي ٧ / ٤٣٧ وعبد الرزاق ١٢١٣٠.

__________________

(١) قال الطبري في تفسيره ٢ / ٥٩٣ وقرأ آخرون : «وصيّة لأزواجهم» برفع «الوصية» ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع «الوصية» فقال بعضهم : رفعت بمعنى : كتبت عليهم الوصية واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتبت عليهم وصية لأزواجهم ـ ثم ترك ذكر «كتبت» ورفعت «الوصية» بذلك المعنى ، وإن كان متروكا ذكره. وقال آخرون منهم :

بل «الوصية» مرفوعة بقوله (لِأَزْواجِهِمْ) فتأوّل : لأزواجهم وصية. والقول الأول أولى بالصواب في ذلك وهو أن تكون «الوصية» إذا رفعت مرفوعة بمعنى : كتب عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت ، فإذا أظهرت بدأت به قبلها ، فتقول : جاءني رجل اليوم» ، وإذا قالوا : «رجل جاءني اليوم» لم يكادوا يقولونه إلّا والرجل حاضر يشيرون إليه ب «هذا» أو غائب قد علم المخبر عنه خبره ، أو كحذف «هذا» وإضماره وإن حذفوه لمعرفة السامع بمعنى المتكلم ، كما قال الله تعالى ذكره (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] فكذلك ذلك في قوله : «وصية لأزواجهم». قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا ، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفّى حولا كاملا ، كان حقّا لها قبل نزول قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] وقبل نزول آية الميراث ، ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك ، أوصى لهنّ أزواجهنّ بذلك قبل وفاتهن ، أو لم يوصوا لهن به. فإن قال قائل : وما الدلالة على ذلك؟ قيل : لمّا قال الله تعالى ذكره (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) وكان الموصي لا شك ، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته ، وكان محالا أن يوصي بعد وفاته وكان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته ، علمنا أنه حقّ لها وجب في ماله بغير وصية منه لها ، إذ كان الميت مستحيلا أن تكون منه وصية بعد وفاته. ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال : «فليوص وصية» ، لكان التنزيل : والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ، كما قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠]. وبعد ، فلو كان ذلك واجبا لهن بوصية من أزواجهن المتوفين ، لم يكن ذلك حقا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن به قبل وفاتهم


(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١))

قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) ، أي : كما بين الذي تقدم من الأحكام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بيّن لكم ، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) (١) ، وإنما سموا جهّالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ، معناه : ألم تعلم. قال ابن قتيبة : وهذا على جهة التعجّب ، كما تقول : ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى : (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : وهم مؤتلفون ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه من العدد ، وعليه العلماء. واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني : أربعين ألفا ، والقولان عن ابن عباس. والثالث : تسعين ألفا ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع : سبعة آلاف ، قاله أبو صالح. والخامس : ثلاثين ألفا ، قاله أبو مالك. والسادس : بضعة وثلاثين ألفا ، قاله السّدّيّ. والسابع : ثمانية آلاف ، قاله مقاتل. وفي معنى : حذرهم من الموت ، قولان : أحدهما : أنهم فرّوا من الطّاعون ، وكان قد نزل بهم ، قاله الحسن ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم أمروا بالجهاد ، ففرّوا منه ، قاله عكرمة ، والضحّاك ، وعن ابن عباس ، كالقولين.

الإشارة إلى قصّتهم

روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال : كانت أمّة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع ، خرج أغنياؤهم ، وأقام فقراؤهم ، فمات الذين أقاموا ، ونجا الذين خرجوا ، فقال الأشراف : لو

__________________

ولكان قد كان لورثتهم إخراجهنّ قبل الحول ، وقد قال الله تعالى ذكره : (غَيْرَ إِخْراجٍ) ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئه : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) بمعنى : أنّ الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ.

وإنما تأويل ذلك : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون ـ أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في «سورة النساء» (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١٢] ثم ترك ذكر «كتب الله» اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، ورفعت «الوصية» بالمعنى الذي قلنا قبل. فإن قال قائل : فهل يجوز نصب (الْوَصِيَّةُ) على الحال ، بمعنى : موصّين لهنّ وصية؟ قيل : لا ، لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم «الوصية» من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منها فغير جائز نصبها بذلك المعنى.

(١) النساء : ١٧.


أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا ؛ وقال الفقراء : لو ظعنّا كما ظعن هؤلاء سلمنا ، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعا ، فظعنوا فماتوا ، وصاروا عظاما تبرق ، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم ، فمرّ بهم نبيّ من الأنبياء ، فقال : يا ربّ لو شئت أحييتهم ، فعبدوك ، وولدوا أولادا يعبدونك ويعمرون بلادك. قال : أو أحب إليك أن أفعل؟ قال : نعم. فقيل له : تكلّم بكذا وكذا ، فتكلّم به ، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له : تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحما وعصبا ، ثم قيل له : تكلّم بكذا وكذا ، فنظر فإذا هم قعود يسبّحون الله ويقدسونه. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدلّ على بعد المدّة التي مكثوا فيها أمواتا. وفي بعض الأحاديث : أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام ، وقيل : ثمانية أيام. وفي النبيّ الذي دعا لهم قولان : أحدهما : أنه حزقيل. والثاني : أنه شمعون. فإن قيل كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا ، وقد قال الله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ، فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم ، فكان كقوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٢) ، وقيل : كان إحياؤهم آية من آيات نبيّهم ، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها ، فيكون تقدير قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) التي ليست من آيات الأنبياء ، ولا لأمر نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر لم يشاهدوه ، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث ، فدلّهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا ، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ، نبّه عزوجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة شكرهم.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في المخاطبين بهذا قولان : أحدهما : أنهم الذين أماتهم الله ، ثم أحياهم ، قاله الضحّاك. والثاني : أنه خطاب لأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعناه : لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء ، فما ينفعكم الهرب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما تنطوي عليه ضمائركم.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ، قال الزجّاج : أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه ، وأصله في اللغة القطع ، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته : قطعت له قطعة يجازيني عليها. فإن قيل : فما وجه تسمية الصّدقة قرضا؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن القرض يبدل بالجزاء. والثاني : لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة. والثالث : لتأكيد استحقاق الثواب به ، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحقّ به. فأمّا اليهود فإنهم جهلوا هذا ، فقالوا : أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله ، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود :

__________________

(١) الدخان : ٥٦.

(٢) الزمر : ٤٢.


(١٣١) لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدّحداح : وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم». قال : أرني يدك. قال : إني أقرضت ربّي حائطي ، قال : وحائطه فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء إلى الحائط ، فقال : يا أمّ الدّحداح اخرجي من الحائط ، فقد أقرضته ربّي.

(١٣٢) وفي بعض الألفاظ : فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم ، وتنفض ما في أكمامهم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من عذق (١) رداح في الجنّة لأبي الدّحداح».

وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال : أحدها : أنه الخالص لله ، قاله الضحّاك. والثاني : أن يخرج عن طيب نفس ، قاله مقاتل. والثالث : أن يكون حلالا ، قاله ابن المبارك. والرابع : أن يحتسب عند الله ثوابه. والخامس : أن لا يتبعه منّا ولا أذى. والسادس : أن يكون من خيار المال. قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء ، وكذلك في جميع القرآن ، إلا في الأحزاب «يضعف لها العذاب ضعفين» ، وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء ، وقرأ ابن كثير (فيضعفه) برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن ، وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بغير ألف مشددة في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن. قال أبو عليّ : للرفع وجهان : أحدهما : أن يعطفه على ما في الصّلة ، وهو يقرض. والثاني : أن يستأنفه. ومن نصب حمل الكلام على المعنى ، لأن المعنى : أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه» ، وقال : معنى ضاعف وضعّف واحد ، والمضاعفة : الزّيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. وفي الأضعاف الكثيرة قولان :

أحدهما : أنها لا يحصى عددها ، قاله ابن عباس والسّدّيّ.

____________________________________

(١٣١) حسن. أخرجه أبو يعلى ٤٩٨٦ والبزار ٩٤٤ «كشف» والطبري ٥٦٢٣ والطبراني ٢٢ / ٣٠١ والبيهقي في «الشعب» ٣٤٥٢ كلهم من طريق حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف لضعف حميد بن عطاء. وقال الهيثمي في «المجمع» ٣ / ١١٤ : فيه حميد بن عطاء ؛ وهو ضعيف.

ـ وله شاهد من مرسل زيد بن أسلم : أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٣٠٧ والطبري ٥٦٢١ من طريقه عن معمر به ، وهذا مرسل صحيح ، ليس له علة إلّا الإرسال ، لكن يصلح شاهدا لما قبله. ووصله ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٢٩٩ من وجه آخر عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. وإسناده واه لأجل عبد الرحمن. وهو عند الطبراني في «الأوسط» ١٨٨٧ من طريق عبد الرحمن ، وعنه إسماعيل بن قيس الأنصاري ، وهو متروك.

ـ وله شاهد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٥٦٢٢ مختصرا ، ولم يسم الصحابي.

ـ وله شاهد صحيح من حديث أنس : أخرجه أحمد ٣ / ٤٦ وابن حبان ٧١٥٩. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وليس فيه ذكر الآية. وأصله عند مسلم ٩٦٥ من حديث جابر بن سمرة ، وليس فيه ذكر القصة.

ـ الخلاصة : حديث الباب حسن بشاهده المرسل. وأما أصله وهو بشارة أبي الدحداح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا قصته مع امرأته فصحيح.

(١٣٢) لم أقف على هذا اللفظ ، وهو منكر ، والأشبه أنه موضوع إذ لا يستدعي الأمر إخراج ما في فم الأولاد الصغار ، وبكل حال لم أقف له على إسناد ، وهذا ما يعبر عنه أهل الحديث بقولهم : ليس له أصل.

ـ والمحفوظ ما قبله.

__________________

(١) في «القاموس» العذق : النخلة بحملها ، وبالكسر «العذق» القنو منها. ورداح : ثقيل.


(١٣٣) وروى أبو عثمان النّهديّ عن أبي هريرة أنّه قال : إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة. وقرأ هذه الآية ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».

والثاني : أنها معلومة المقدار ، فالدّرهم بسبعمائة ، كما ذكر في الآية بعدها ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ «يبسط» و «بسطة» بالسين ، وقرأهما نافع بالصاد.

وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أن معناه : يقتر على من يشاء في الرزق ، ويبسطه على من يشاء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ومقاتل. والثاني : يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله ، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، قال الفرّاء : الملأ : الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة ، وكذلك القوم والنّفر والرّهط ، وقال الزجّاج : الملأ : هم الوجوه ، وذوو الرأي ، وإنما سمّوا ملأ ، لأنهم مليئون بما يحتاج إليه منهم.

وفي نبيّهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه شمويل ، قاله ابن عباس ، ووهب. والثاني : أنه يوشع بن نون ، قاله قتادة. والثالث : أنه نبيّ ، يقال له : سمعون بالسين المهملة ، سمّته أمّه بذلك ، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاما ، فسمع دعاؤها فيه ، هذا قول السّدّيّ. وسبب سؤالهم ملكا أن عدوّهم غلب عليهم. قوله تعالى : (نُقاتِلْ) قراءة الجمهور بالنون والجزم ، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع ، كناية عن الملك. قوله تعالى : (هَلْ عَسَيْتُمْ) ، قراءة الجمهور بفتح السين ، وقرأ نافع بكسرها هاهنا ، وفي سورة «محمّد» وهي لغتان. قوله تعالى : (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ، أي فرض (أَلَّا تُقاتِلُوا) أي : لعلّكم تجبنون. قوله تعالى : (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) ، يعنون : أخرج بعضنا ، وهم الذين سبوا منهم وقهروا. فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص. قوله تعالى : (تُوَلُّوا) ، أي : أعرضوا عن الجهاد. (إِلَّا قَلِيلاً) وهم الذين عبروا النّهر ، وسيأتي ذكرهم.

____________________________________

(١٣٣) ذكره المصنف موقوفا ، وورد مرفوعا ، وهو ضعيف. أخرجه أحمد ٢ / ٢٩٦ ـ ٥٢١ ـ ٥٢٢ من طريق علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وضعفه الحافظ ابن كثير ١ / ٢٩٩ بقوله : غريب ، وعلي بن زيد عنده مناكير. قلت : جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. ومع ذلك قال الهيثمي ١٠ / ١٤٤ : رواه أحمد بإسنادين ، واحد إسناديه جيد؟!!!. مع أن فيه ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٢٩٩ من وجه آخر عن زياد الجصاص عن أبي عثمان به. وإسناده واه ، زياد هو ابن أبي زياد ، متروك الحديث. والراجح فيه الوقف. وانظر «فتح القدير» ٣٩١ بتخريجنا.


(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧))

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ، ذكر أهل التفسير أن نبيّ بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكا ، فأتي بعصا وقرن فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا ، ومتى دخل عليك رجل فنشق الدّهن ، فهو الملك ، فادهن به رأسه ، وملكه على بني إسرائيل ؛ فقاس القوم أنفسهم بالعصا ، فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة ، والسّديّ : كان طالوت سقّاء يسقي على حمار له ، فضلّ حماره ، فخرج يطلبه. وقال وهب : بل كان دبّاغا يعمل الأدم ، فضلّت حمر لأبيه فأرسله مع غلام له في طلبها ، فمرّا ببيت شمويل النبيّ فدخلا ليسألاه عن ضالّتهما ، فنشق الدّهن ، فقام شمويل ، فقاس طالوت بالعصا ، وكان على مقدارها ، فدهنه ، ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل ، فقال طالوت : أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال : بلى ، قال : فبأيّة آية؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، فكان كما قال. قال الزجّاج : طالوت ، وجالوت ، وداود تنصرف ، لأنها أسماء أعجمية ، وهي معارف ، فاجتمع فيها التعريف والعجمة.

ومعنى قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ) من أي جهة يكون له الملك علينا. قال ابن عباس : إنما قالوا ذلك ؛ لأنه كان في بني إسرائيل سبطان ، في أحدهما النبوّة ، وفي الآخر الملك ، فلم يكن هو من أحد السّبطين. قال قتادة : كانت النبوّة في سبط لاوي ، والملك في سبط يهوذا.

قوله تعالى : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ، أي : لم يؤت ما يتملّك به الملوك. (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) ، أي : اختاره ، وهو «افتعل» من الصّفوة. والبسطة : السّعة ، قال ابن قتيبة : هو من قولك : بسطت الشيء : إذا كان مجموعا ، ففتحته ، ووسّعته. قال ابن عباس : كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب ، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك ، أم أحدثت له بعد؟ فيه قولان : أحدهما : قبل الملك ، قاله وهب ، والسّدّيّ. والثاني : بعد الملك ، قاله ابن زيد. والمراد بتعظيم الجسم ، فضل القوة ، إذ العادة أن من كان أعظم جسما ، كان أكثر قوة. والواسع : الغنيّ.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) ، الآية : العلامة ، فمعناه : علامة تمليك الله إياه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) وهذا من مجاز الكلام ، لأن التّابوت يؤتى به ، ولا يأتي ، ومثله : (فَإِذا عَزَمَ


الْأَمْرُ) (١) ، وإنما جاز مثل هذا ، لزوال اللّبس فيه ، كما بيّنا في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (٢). وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس : أنهم قالوا لنبيّهم : إن كنت صادقا ؛ فأتنا بآية تدل على أنه ملك ، فقال لهم ذلك. وقال وهب : خيّرهم ، أيّ آية يريدون؟ فقالوا : أن يردّ علينا التابوت. قال ابن عباس : كان التّابوت من عود الشّمشار عليه صفائح الذهب ، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا ، قدّموه بين أيديهم يستنصرون به ، وفيه السّكينة. وقال وهب بن منبه : كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين. قال مقاتل : فلما تفرّقت بنو إسرائيل ، وعصوا الأنبياء ، سلّط الله عليهم عدوّهم ، فغلبوهم عليه.

وفي السّكينة سبعة أقوال (٣) : أحدها : أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ، رواه أبو الأحوص عن عليّ رضي الله عنه. والثاني : أنها دابة بمقدار الهرّ ، لها عينان لهما شعاع ، وكانوا إذا التقى الجمعان ، أخرجت يدها ، ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب. رواه الضحّاك عن ابن عباس. وقال مجاهد : السّكينة لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة ، وجناحان. والثالث : أنها طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء ، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والرابع : أنها روح من الله تعالى تتكلّم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء ، كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون ، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه. والخامس : أن السّكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ، وذهب إلى نحوه الزجّاج ، فقال : السّكينة : من السّكون ، فمعناه : فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم. والسادس : أن السّكينة معناها هاهنا : الوقار ، رواه معمر عن قتادة. والسابع : أن السّكينة : الرّحمة ، قاله الرّبيع بن أنس.

وفي البقيّة تسعة أقوال : أحدها : أنها رضاض (٤) الألواح التي تكسّرت حين ألقاها موسى وعصاه ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنها رضاض الألواح ، قاله عكرمة ، ولم يذكر العصا. وقيل : إنما اتّخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه. والثالث : أنها عصا موسى ، والسّكينة ، قاله وهب. والرابع : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثيابهما ، ولوحان من التوراة ، والمنّ ، قاله أبو

__________________

(١) محمد : ٢١.

(٢) البقرة : ١٦.

(٣) قال الإمام الشوكاني رحمه‌الله في «فتح القدير» ١ / ٣٠٦ بعد أن ذكر هذه الأقوال : هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله ، فجاؤوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم ، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل ، كقول مجاهد :

كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب ، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأيا رآه قائله ، فهم أجلّ قدرا في التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة ، فقد جعل الله عنها سعة ، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجب علينا المصير إليه والقول به ، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوة القرآن كما في صحيح مسلم عن البراء ، قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها : فلما أصبح أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له فقال : «تلك السكينة نزلت للقرآن».

(٤) في «اللسان» رضاض الشيء : فتاته وكل شيء كسّرته فقد رضرضته.


صالح. والخامس : أن البقيّة ، العلم والتوراة ، قاله مجاهد ، وعطاء بن رباح. والسادس : أنها رضاض الألواح ، وقفيز (١) من منّ في طست من ذهب ، وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل. والسابع : أنها قفيز من منّ ورضاض الألواح ، حكاه سفيان الثّوريّ عن بعض العلماء. والثامن : أنها عصا موسى والنّعلان : ذكره الثّوريّ أيضا عن بعض أهل العلم. والتاسع : أن المراد بالبقيّة : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحّاك.

والمراد بآل موسى وآل هارون : موسى وهارون. وأنشد أبو عبيدة :

ولا تبك ميتا بعد ميت أحبّة

عليّ وعبّاس وآل أبي بكر

يريد : أبا بكر نفسه.

قوله تعالى : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قرأ الجمهور «تحمله» بالتاء ، وقرأ الحسن ومجاهد والأعمش بالياء. وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان : أحدهما : أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض ، منذ خرج عن بني إسرائيل ، قاله الحسن. والثاني : أنه كان في الأرض. وفي أيّ مكان كان؟ فيه قولان : أحدهما : أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه ، قال ابن عباس : أخذ التّابوت قوم جالوت ، فذفنوه في متبرّز لهم ، فأخذهم الباسور فهلكوا ، ثم أخذه أهل مدينة أخرى ، فأخذهم بلاء ، فهلكوا ، ثم أخذه غيرهم كذلك ، حتى هلكت خمس مدائن ، فأخرجوه على بقرتين ، ووجّهوهما إلى بني إسرائيل ، فساقتهما الملائكة. والثاني : أنه كان في برّية التّيه ، خلّفه فيها يوشع ، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة ، قاله قتادة.

وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان : أحدهما : أنها جاءت به بأنفسها ، قال وهب : قالوا لنبيّهم : اجعل لنا وقتا يأتينا فيه ، فقال : الصّبح ، فلم يناموا ليلتهم ، ووافت به الملائكة مع الفجر ، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض. والثاني : أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين ، ذكر عن وهب أيضا. فعلى القول الأول : يكون معنى تحمله : تقلّه ، وعلى الثاني : يكون معنى حملها إياه : تسبّبها في حمله.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) ، أي : علامة تدل على تمليك طالوت. قال المفسّرون : فلما جاءهم التابوت وأقرّوا له بالملك ، تأهّب للخروج ، فأسرعوا في طاعته ، وخرجوا معه ، فذلك قوله تعالى :

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩))

قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ) ، أي : خرج وشخص. وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال :

__________________

(١) في «اللسان» القفيز : من المكاييل ، معروف ، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق.


أحدها : سبعون ألفا ، قاله ابن عباس. والثاني : ثمانون ألفا ، قاله عكرمة والسّدّيّ. والثالث : مائة ألف ، قاله مقاتل. قال : وساروا في حرّ شديد ، فابتلاهم الله بالنّهر. والابتلاء : الاختبار. وفي النّهر لغتان : إحداهما : تحريك الهاء ، وهي قراءة الجمهور. والثانية : تسكينها ، وبها قرأ الحسن ومجاهد. وفي هذا النّهر قولان : أحدهما : أنه نهر فلسطين ، قاله ابن عباس والسّدّيّ. والثاني : نهر بين الأردن وفلسطين ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس.

ووجه الحكمة في ابتلائهم أن يعلم طالوت من له نيّة في القتال منهم ، ومن ليس له نيّة.

وقوله تعالى : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس من أصحابي. قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «غرفة» بفتح الغين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ بضمّها ، قال الزجّاج : من فتح الغين أراد المرّة الواحدة باليد ، ومن ضمّها أراد ملء اليد. وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابّته وخدمه ويملأ قربته. وقال بعض المفسّرين : لم يرد به غرفة الكفّ ، وإنما أراد المرّة الواحدة بقربة أو جرّة أو ما أشبه ذلك. وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان : أحدهما : أنهم أربعة آلاف ، قاله عكرمة والسّدّيّ. والثاني : ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وهو الصحيح ، لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر :

(١٣٤) «أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت» ، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.

قوله تعالى : (لا طاقَةَ لَنَا) ، أي : لا قوّة لنا ، قال الزجّاج : أطقت الشيء ، إطاقة وطاقة ، وطوقا ، مثل قولك : أطعته إطاعة وطاعة وطوعا. واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة ، فإنهم انصرفوا ولم يشهدوا ، وكانوا أهل شكّ ونفاق ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم الذين قلّت بصائرهم من المؤمنين ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد. والثالث : أنه قول الذين جاوزوا معه ، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض ، لما رأوا من قلّتهم ، وهذا اختيار الزجّاج. قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) في هذا الظّنّ قولان : أحدهما : أنه بمعنى اليقين ، قاله السّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه الظنّ الذي هو التّردّد ، فإن القوم توهّموا لقلّة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله ، قاله الزجّاج في آخرين. وفي الظّانين هذا الظّن قولان : أحدهما : أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر ، قالوا للراجعين : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنهم أولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر. والفئة : الفرقة ، قال الزجّاج : وإنما قيل لهم : فئة من قولهم : فأوت رأسه بالعصا ، وفأيته : إذا شققته. قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) ، قال الحسن : بنصر الله. قوله تعالى : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) : أي بالنصر والإعانة.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠))

____________________________________

(١٣٤) أخرجه الطبري ٥٧٣٢ عن قتادة مرسلا. وورد عن البراء بن عازب قال «كنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلّا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة». أخرجه البخاري ٣٩٥٨ وهذا هو الصواب ، كونه موقوفا.


قوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا) ، أي : صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى. و (أَفْرِغْ) بمعنى : اصبب (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي : قوّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا ، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب. قال مقاتل : كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١))

قوله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ) أي : كسروهم وردّوهم ، قال الزجّاج : أصل الهزم في اللغة : كسر الشيء ، وثني بعضه على بعض ، يقال : سقاء منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف ، وقصب منهزم : قد كسر وشقق ، والعرب تقول : هزمت على زيد ، أي : عطفت عليه. قال الشاعر :

هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك

فجودي علينا بالنّوال وأنعمي

ويقال : سمعت هزمة الرّعد ، قال الأصمعيّ : كأنه صوت فيه تشقّق.

وداود : هو نبيّ الله أبو سليمان ، وهو اسم أعجميّ ، وقيل : إن إخوة داود كانوا مع طالوت ، فمضى داود لينظر إليهم ، فنادته أحجار : خذني ، فأخذها ، وجاء إلى طالوت ، فقال : ما لي إن قتلت جالوت؟ قال : ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي ، فقتل جالوت.

قوله تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) ، يعني : آتى داود ملك طالوت. وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان : أحدهما : أنها النبوّة ، قاله ابن عباس. والثاني : الزّبور ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ، فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها صنعة الدّروع. والثاني : الزّبور. والثالث : منطق الطّير. قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قرأ الجمهور (دَفْعُ) بغير ألف هاهنا ، وفي «الحج» «إن الله يدفع» ، وقرأ نافع ، ويعقوب ، وأبان (ولو لا دفاع الله).

قال أبو عليّ : المعنيان متقاربان ، قال الشاعر (١) :

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم

فإذا المنيّة أقبلت لا تدفع

وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أن معناه : لو لا أن الله يدفع بمن أطاعه عن من عصاه ، كما دفع عن المتخلّفين عن طالوت بمن أطاعه ، لهلك العصاة بسرعة العقوبة ، قاله مجاهد.

والثاني : أن معناه ، لو لا دفع الله المشركين بالمسلمين ، لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المسلمين ، وخرّبوا المساجد ، قاله مقاتل. ومعنى : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) : لهلك أهلها.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) ، أي : نقصّ عليك من أخبار المتقدّمين. (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حكمك حكمهم ، فمن صدّقك ، فسبيله سبيل من صدّقهم ، ومن عصاك ، فسبيله سبيل من عصاهم.

__________________

(١) هو أبو ذؤيب الهذلي.


(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ) ، يعني : موسى عليه‌السلام. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو نهيك (١) ، وابن السّميفع : «منهم من كالم الله» بألف خفيفة اللام ، ونصب اسم «الله».

وفي المراد بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قولان : أحدهما : عنى بالمرفوع درجات ، محمّدا عليه‌السلام ، فإنه بعث إلى الناس كافة ، وغيره بعث إلى أمّته خاصة ، هذا قول مجاهد. والثاني : أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله ، هذا قول مقاتل. قال ابن جرير الطّبريّ : والدّرجات :

جمع درجة ، وهي المرتبة ، وأصل ذلك : مراقي السّلّم ودرجه ، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. وقد تقدم تفسير «البينات» و «روح القدس».

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي : من بعد الأنبياء. وقال قتادة : من بعد موسى وعيسى. قال مقاتل : وكان بينهما ألف نبيّ.

قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) يعني : الأمم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ، هذه الآية تحثّ على الصّدقات ، والإنفاق في وجوه الطاعات. وقال الحسن : أراد الزكاة المفروضة.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ، يعني : يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) بالنصب من غير تنوين ، ومثله في «إبراهيم» : «لا بيع فيه» ، وفي الطّور : «لا لغو فيها ولا تأثيم» ، وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، جميع ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس : لا فدية فيه ، وقيل : إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة ، وأخذ البدل. والخلّة : الصّداقة. وقيل : إنما نفى هذه الأشياء ، لأنه عنى عن الكافرين ، وهذه الأشياء لا تنفعهم ، ولهذا قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

__________________

(١) هو عثمان بن نهيك ، تابعي ثقة.


قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

(١٣٥) روى مسلم في «صحيحه» عن أبيّ بن كعب ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟» قال : قلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، قال : فضرب في صدري! قال : «ليهنك العلم يا أبا المنذر».

قال أبو عبيدة : القيّوم : الذي لا يزول ، لاستقامة وصفه بالوجود ، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجّاج : القيّوم : القائم بتدبير أمر الخلق. وقال الخطّابيّ : القيّوم : هو القائم الدائم بلا زوال ، وزنه : «فيعول» من القيام ، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء ، ويقال : هو القائم على كل شيء بالرّعاية ، يقال : قمت بالشيء : إذا وليته بالرعاية والمصلحة. وفي «القيّوم» ثلاث لغات : القيّوم ، وبه قرأ الجمهور ، والقيّام ، وبه قرأ عمر بن الخطّاب ، وابن مسعود ، وابن أبي عبلة ، والأعمش. و «القيّم» ، وبه قرأ أبو رزين ، وعلقمة. وذكر ابن الأنباريّ أنه كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال : وأصل القيّوم : القيووم. فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن ، جعلتا ياء مشددة. وأصل القيّام : القوّام ، قال الفرّاء : وأهل الحجاز يصرفون الفعّال إلى الفيعال ، فيقولون للصّوّاغ : صيّاغ.

فأما «السّنة» فهي : النّعاس من غير نوم ، ومنه : الوسنان. قال ابن الرّقاع :

وكأنّها بين النّساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم (١)

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، قال بعض العلماء : إنما لم يقل : والأرضين ، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السماوات ، فاستغنى بذلك عن إعادته ، ومثله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ولم يقل : والأنوار. قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فيه ردّ على من قال : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق ، وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة. وفي المراد ب (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة ، والذي خلفهم أمر الدّنيا ، روي عن ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أن الذي بين أيديهم الدنيا ، والذي خلفهم الآخرة ، قاله السّدّيّ عن أشياخه ، ومجاهد ، وابن جريج ، والحكم بن عتيبة. والثالث : ما بين أيديهم : ما قبل خلقهم ، وما خلفهم : ما بعد خلقهم ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ) ، قال اللّيث : يقال لكل من أحرز شيئا ، أو بلغ علمه أقصاه : قد أحاط به. والمراد بالعلم هاهنا المعلوم. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، أي : احتمل وأطاق. وفي المراد بالكرسيّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كرسيّ فوق السماء السابعة دون العرش.

____________________________________

(١٣٥) صحيح. أخرجه مسلم ٨١٠ وأبو داود ١٤٦٠ وأحمد ٥ / ٥٨. وانظر «تفسير الشوكاني» ٤٠٣ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» الحور شدة سواد المقلة في شدة بياضها ، في شدة بياض الجسد. والجآذر : جمع الجؤذر وهو ولد البقر ، وفي «الصحاح» : البقرة الوحشية. رنّق النوم في عينه : خالطها.


(١٣٦) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما السّماوات السّبع في الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة». وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني : أن المراد بالكرسيّ علم الله تعالى ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثالث : أن الكرسيّ هو العرش ، قاله الحسن.

قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ) ، أي : لا يثقله ، يقال : آده الشيء يؤوده أودا وإيادا. والأود : الثّقل ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والجماعة. والعليّ : العالي القاهر ، «فعيل» بمعنى «فاعل» قال الخطّابيّ : وقد يكون من العلوّ الذي هو مصدر : علا يعلو ، فهو عال ؛ كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) ، ويكون ذلك من علاء المجد والشّرف ، يقال منه : علي يعلى علاء. ومعنى العظيم : ذو العظمة والجلال ، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن ، وجلالة القدر ، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦))

قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١٣٧) أحدها : أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد ، تحلف : لئن

____________________________________

(١٣٦) حسن بشواهده ، ورد مرفوعا من وجوه ، فقد أخرجه الطبري ٥٧٩٥ وأبو الشيخ في «العظمة» ٢٢٢ كلاهما عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا ، ومع إرساله ، فإن ابن زيد واه. قاله الذهبي في «العلو» ص ٩١ اه. وقد أخرجه ابن حبان ٣٦١ وأبو نعيم في «الحلية» ١ / ١٦٦ وأبو الشيخ في «العظمة» ٢٦١ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٨٦٢ من طريق إبراهيم بن هشام الغساني بسنده عن أبي ذر ، والغساني هذا ضعيف جدا ، وقال الذهبي : متروك وكذبه أبو حاتم وأبو زرعة. لكن تابعه يحيى بن سعيد القرشي السعدي عند ابن عدي ٧ / ٢٦٩٩ وأبي الشيخ في «العظمة» ٢٠٨ وأبي نعيم ١ / ١٦٨ والطبراني ٥٧٩٥ والبيهقي ٩ / ٤ وفي الأسماء والصفات ٨٦١ من حديث أبي ذر. ويحيى القرشي هذا ضعيف ، جرحه ابن حبان وقال ابن عدي : هذا حديث منكر من هذا الطريق. وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ٢٥٤ عن إسماعيل من عياش بسنده عن أبي ذر ، به ، وإسماعيل ضعيف في روايته عن غير الشاميين ، وشيخه هاهنا حجازي ، وفي الإسناد انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» ٥٨ من وجه آخر من حديث أبي ذر ، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو المكي ، وهو ضعيف. وتابعه عليه القاسم بن محمد المصري عند ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٣١٧ والقاسم ضعيف. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» بتخريجي. وصححه الألباني في «الصحيحة» ١٠٩ لطرقه والصواب أنه لا يرقى عن درجة الحسن ، فعامة طرقه شديدة الضعف.

تنبيه : وقع عند الألباني في «الصحيحة» ١ / ١٧٥ أن ابن زيد في رواية الطبري هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فوهم بذلك فإن ابن جرير يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو المراد عند الإطلاق في تفسيره.

(١٣٧) حسن. أخرجه الطبري ٥٨١٩ والبيهقي ٩ / ١٨٦ من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا.

ووصله أبو داود ٢٦٨٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٤٨. وابن حبان ١٤٠ والطبري ٥٨١٣ والنحاس في

__________________

(١) طه : ٥.


عاش لها ولد لتهوّدنّه. فلما أجليت يهود بني النّضير ، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار. فقال الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا؟ فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس.

وقال الشّعبيّ : قالت الأنصار : والله لنكرهنّ أولادنا على الإسلام ، فإنّا إنّما جعلنا في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه ، فنزلت هذه الآية.

(١٣٨) والثاني : أن رجلا من الأنصار تنصّر له ولدان قبل أن يبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما ، وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مسروق.

والثالث : أن ناسا كانوا مسترضعين في اليهود ، فلما أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النّضير ، قالوا : والله لنذهبنّ معهم ، ولنديننّ بدينهم ، فمنعهم أهلوهم ، وأرادوا إكراههم على الإسلام ، فنزلت الآية (١). والرابع : أن رجلا من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح ، كان يكرهه على الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، والقولان عن مجاهد.

فصل : واختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فذهب قوم إلى أنه محكم ، وأنه من العامّ المخصوص ، فإنه خصّ منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام ، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباريّ : معنى الآية : ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ، ولم يشهد به القلب ، وتنطوي عليه الضمائر ، إنما الدّين هو المنعقد بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ، فعلى قولهم ، يكون منسوخا بآية السيف ، وهذا مذهب الضحّاك ، والسّدّيّ ، وابن زيد.

والدّين هاهنا : أريد به الإسلام. والرّشد : الحق ، والغيّ : الباطل. وقيل : هو الإيمان والكفر. وأما الطّاغوت ؛ فهو اسم مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحدّ ، قال ابن قتيبة : الطّاغوت : واحد ، وجمع ، ومذكّر ، ومؤنث. قال تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ، وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) (٢) ، والمراد بالطّاغوت هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه الشيطان (٣) ، قاله عمر وابن عباس

____________________________________

«الناسخ والمنسوخ» ص ٨٢ والواحدي في «أسباب النزول» ١٥٨ و ١٥٩. والبيهقي ٩ / ١٨٦ من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح. لكن أرسله أبو عوانة فيما تقدم فالحديث حسن إن شاء الله.

(١٣٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٦٢ عن مسروق بدون سند فلا حجة فيه ، وله شاهد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ٥٨٢٠ ومع إرساله ، السدي يروي مناكير.

ـ وفي الباب من حديث ابن عباس عن الطبري ٥٨١٨ لكن إسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول ، والراجح في هذا هو المتقدم أولا عن ابن عباس وغيره ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٥٨٢١ و ٥٨٢٢ من طريقين عن مجاهد ، وهذا مرسل.

(٢) الزمر : ١٧.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣١١ : معنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان ، قوي جدا فإنه يشمل كل شرّ كان عليه أهل الجاهلية. من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.


ومجاهد والشّعبيّ والسّدّيّ ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه الكاهن ، قاله سعيد بن جبير وأبو العالية. والثالث : أنه السّاحر ، قاله محمّد بن سيرين. والرابع : أنه الأصنام ، قاله اليزيديّ والزجّاج. والخامس : أنه مردة أهل الكتاب ، ذكره الزجّاج أيضا. قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هذا مثل للإيمان شبّه التمسّك به بالمتمسّك بالعروة الوثيقة. وقال الزجّاج : معنى الكلام : فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا. والانفصام : كسر الشّيء من غير إبانة.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : متولّي أمورهم ، يهديهم ، وينصرهم ، ويعينهم. والظّلمات : الضّلالة ، والنّور ، الهدى ، والطّاغوت : الشياطين ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل : الذين كفروا : هم اليهود ، والطّاغوت : كعب بن الأشرف. قال الزجّاج : الطّاغوت هاهنا : واحد في معنى جماعة ، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة. قال الشاعر (١) :

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب

يريد جلودها ، فإن قيل : متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضّلال ، إخراج لهم من ظلام الكفر ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى ، إخراج لهم من نور الهدى ، و «الإخراج» مستعار هاهنا. وقد يقال للممتنع من الشيء : خرج منه ، وإن لم يكن دخل فيه. قال تعالى : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٢) ، وقال : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ*) (٣) ، وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤). والثاني : أن إيمان أهل الكتاب بالنبيّ قبل أن يظهر نور لهم ، وكفرهم به بعد أن ظهر ، خروج إلى الظّلمات. والثالث : أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان المخالف له خارجا من نور قد علمه ، والموافق له خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ، قد سبق معنى «ألم تر». وحاجّ : بمعنى خاصم ، وهو نمروذ في قول الجماعة. قال ابن عباس : ملك الأرض شرقها وغربها ؛ مؤمنان ، وكافران ؛ فالمؤمنان سليمان بن داود ، وذو القرنين. والكافران : نمروذ ، وبختنصّر (٥). قال ابن قتيبة :

__________________

(١) هو علقمة بن عبدة بن النعمان. والحسرى : الإبل المعيبة المريضة. الصليب هنا : الجلد اليابس.

(٢) يوسف : ٣٧.

(٣) النحل : ٧٠.

(٤) البقرة : ٢١٠.

(٥) هذا قول بلا برهان ، مصدره كتب الأقدمين ، وهو قول بعيد جدا.


معنى الآية : حاجّ إبراهيم ، لأن الله آتاه الملك ، فأعجب بنفسه وملكه.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، قال بعضهم : هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، تقديره : أنه قال له : من ربّك؟ فقال : ربّي الذين يحيي ويميت. قال نمروذ : أنا أحيي وأميت. قال ابن عباس : يقول : أترك من شئت ، وأقتل من شئت. فإن قيل : لم انتقل إبراهيم إلى حجّة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى؟ فالجواب : أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا يدل على ضعف فهمه ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ونسي اختلاف الفعلين ، فانتقل إلى حجّة أخرى ، قصدا لقطع المحاجّ لا عجزا عن نصرة الأولى.

وقرأ أبن رزين العقيليّ ، وابن السّميفع : فبهت ، بفتح الباء والهاء ، وقرأ أبو الجوزاء ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حياة : فبهت ؛ بفتح الباء ، وضم الهاء. قال الكسائيّ : ومن العرب من يقول : بهت ، وبهت ، بكسر الهاء وضمّها (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، يعني : الكافرين. قال مقاتل : لا يهديهم إلى الحجّة ، وعنى بذلك نمروذ.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ، قال الزجّاج : هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله ، أرأيت كالذي حاجّ إبراهيم ، أو كالذي مرّ على قرية؟ وفي المراد بالقرية قولان : أحدهما : أنها بيت المقدس لما خرّبه بختنصّر ، قاله وهب ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس. والثاني : أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد. وفي الذي مرّ عليها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عزير ، قاله عليّ بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وناجية بن كعب ، وقتادة ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير. والثالث : أنه رجل كافر شكّ في البعث ، نقل عن مجاهد أيضا.

والخاوية : الخالية ، قاله الزجّاج. وقال ابن قتيبة : الخاوية : الخراب ، والعروش : السّقوف ، وأصل ذلك أن تسقط السّقوف ، ثم تسقط الحيطان عليها (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) ، أي : كيف يحييها. فإن قلنا : إن هذا الرجل نبيّ ، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفيّة الإعادة ، أو يستهولها ، فيعظّم قدرة الله ، وإن قلنا : إنه كان رجلا كافرا ، فهو كلام شاكّ ، والأول أصح.

قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

الإشارة إلى قصته

روى ناجية بن كعب عن عليّ عليه‌السلام ، قال : خرج عزير نبيّ الله من مدينته ، وهو رجل شابّ ، فمرّ على قرية ، وهي خاوية على عروشها ، فقال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة


عام ، ثم بعثه ، وأوّل ما خلق الله منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظمه تنضمّ بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحما ، ونفخ فيها الرّوح. قال الحسن : قبضه الله أول النهار ، وبعثه الله آخر النهار بعد مائة سنة. قال مقاتل : ونودي من السماء : كم لبثت؟ قال قتادة : فقال : لبثت يوما ، ثم نظر فرأى بقيّة من الشمس ، فقال : أو بعض يوم. فهذا يدل على أنه عزير.

وقال وهب بن منبه : أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء ، فركب حماره ، وأخذ معه سلّة من عنب وتين ، ومعه سقاء جديد ، فيه ماء ، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد نظر إلى خراب لا يوصف فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم قال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلا ، وربط حماره ، وعلق سقاءه ، وألقى الله عليه النوم ، ونزع روحه مائة عام ، فلما مرّ منها سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس ، عظيم ، فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك ، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت ، فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمائة ألف عامل. فلما وقعوا في العمل ، ردّ الله روح الحياة في عيني أرميا ، وآخر جسده ميت ، فنظر إليها تعمر ، فلما تمّت بعد ثلاثين سنة ؛ ردّ الله إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه فلم يتسنّه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرّمّة في عنق الحمار لم تتغير ولم تنتقص شيئا وقد نحل جسم أرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال : اعلم أن الله على كل شيء قدير). وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه‌السلام.

قوله تعالى : (كَمْ لَبِثْتَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم «لبثت» و «لبثتم» في كل القرآن بإظهار التاء ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ بالإدغام ، قال أبو عليّ الفارسيّ : من بيّن «لبثت» فلتباين المخرجين ، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيّز ، والطاء والتاء والدال من حيّز ، فلما تباين المخرجان ، واختلف الحيّزان ، لم يدغم. ومن أدغمهما أجراها مجرى المثلين ، لاتّفاق الحرفين في أنهما من طرف اللّسان وأصول الثّنايا ، واتّفاقهما في الهمس ، ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيرا ، فأجراهما مجرى المثلين. فأما طعامه وشرابه ، فقال وهب : كان معه مكتل فيه عنب وتين ، وقلّة فيها ماء. وقال السّدّيّ : كان معه تين وعنب ، وشرابه من العصير ، ولم يحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير.

قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : (يَتَسَنَّهْ) و (اقْتَدِهْ) (١) و (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢) و (سُلْطانِيَهْ) (٣) و (ما هِيَهْ) (٤) بإثبات الهاء في الوصل. وقرأ الكسائيّ في حذف موضعين (يَتَسَنَّهْ) و (اقْتَدِهْ) وكلهم يقف على الهاء. ولم يختلفوا في (كِتابِيَهْ*) و (حِسابِيَهْ*) بالهاء وصلا ووقفا. فأما معنى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ، فقال ابن عباس ، والحسن ،

__________________

(١) الأنعام : ٩٠.

(٢) الحاقة : ٢٨.

(٣) الحاقة : ٢٩.

(٤) القارعة : ١٠.


وقتادة في آخرين : لم يتغيّر. وقال ابن قتيبة : لم يتغيّر بمرّ السنين عليه ، واللفظ مأخوذ من السّنة ، يقال : سانهت النّخلة : إذا حملت عاما ، وحالت عاما.

قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) ، قال مقاتل : انظر إليه ، وقد ابيضّت عظامه ، وتفرّقت أوصاله ، فأعاده الله. قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ) اللام صلة مضمر تقديره : فعلنا بك ذلك لنراك قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس ، أي : علما على قدرتنا ، فأضمر الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس : مات وهو ابن أربعين سنة ، وابنه ابن عشرين سنة ، ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين ومائة ، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس ، فقال لهم : أنا عزير ، فقالوا : حدّثنا آباؤنا أن عزيرا مات بأرض بابل ، فقال لهم : أنا هو أرسلني الله إليكم أجدّد لكم توراتكم ، وكانت قد ذهبت ، وليس منهم أحد يقرؤها فأملاها عليهم.

قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) ، قيل : أراد عظام نفسه ، وقيل : عظام حماره ، وقيل : هما جميعا. قوله تعالى : (كَيْفَ نُنْشِزُها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «ننشرها» بضم النون الأولى ، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه : نحييها. يقال : أنشر الله الميت ، فنشر. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : (ننشزها) بضم النون مع الزاي ، وهو من النّشز الذي هو الارتفاع. والمعنى : نرفع بعضها إلى بعض للإحياء. وقرأ الأعمش : (ننشزها) بفتح النون ورفع الشين مع الزاي. وقرأ الحسن ، وأبان ، عن عاصم : ننشرها ، بفتح النون مع الراء ، كأنه من النّشر عن الطّي ، فكأن الموت طواها ، والإحياء نشرها. قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ، أي : بان له إحياء الموتى ، (قالَ أَعْلَمُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «أعلم» مقطوعة الألف ، مضمومة الميم. والمعنى : قد علمت ما كنت أعلمه غيبا مشاهدة. وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الألف ، وسكون الميم على معنى الأمر ، والابتداء ، على قراءتهما بكسر الهمزة ، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له. وقال أبو علي : نزل نفسه منزلة غيره فأمرها وخاطبها. وقرأ الجعفيّ (١) عن أبي بكر : «أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال :

أحدها : أنه رأى ميتة تمزّقها الهوام والسّباع فسأل هذا السؤال ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحّاك ، وعطاء الخراسانيّ ، وابن جريج ، ومقاتل. وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : كان رجلا ميتا ، قاله ابن عباس. والثاني : كان جيفة حمار ، قاله ابن جريج ، ومقاتل. والثالث : كان حوتا ميتا ، قاله ابن زيد.

__________________

(١) هو الإمام أبو علي الحسين بن علي الجعفي الكوفي ، توفي سنة ٢٠٣.


والثاني : أنه لما بشّر باتخاذ الله له خليلا ، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة ، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود ، وابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشّر بذلك ، قال : ما علامة ذلك؟ قال : أن يجيب الله دعاءك ، ويحيي الموتى بسؤالك ، فسأل هذا السؤال.

والثالث : أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس ، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.

والرابع : أنه لما نازعه نمروذ في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله تعالى ، وهذا قول محمّد بن إسحاق.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ، أي : أولست قد آمنت أنّي أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير : ألم توقن بالخلّة؟ قوله تعالى : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، «اللام» متعلقة بفعل مضمر ، تقديره : ولكن سألتك ليطمئنّ ، أو أرني ليطمئنّ قلبي ، ثم في المعنى أربعة أقوال : أحدها : لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، قاله ابن عباس. والثاني : ليزداد قلبي يقينا ، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن : كان إبراهيم موقنا ، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. والثالث : ليطمئنّ قلبي بالخلّة ، روي عن ابن جبير أيضا. والرابع : أنه كان قلبه متعلّقا برؤية إحياء الموتى ، فأراد : ليطمئنّ قلبه بالنّظر ، قاله ابن قتيبة. وقال غيره : كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته ، ويدلّ على أنه لم يسأل لشكّ ، أنه قال : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ، وما قال : هل تحيي الموتى؟

قوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) في الذي أخذ سبعة أقوال : أحدها : أنها الحمامة ، والدّيك ، والكركيّ ، والطّاوس ، رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس. والثاني : أنها الطّاوس ، والدّيك ، والدّجاجة السّنديّة ، والإوزّة ، رواه الضحّاك عن ابن عباس. وفي لفظ آخر ، رواه الضحّاك مكان الدّجاجة السّنديّة الرّأل ، وهو فرخ النّعام. والثالث : أنها الشّعانين ، وكان قرباهم يومئذ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أنها الطّاوس ، والنّسر ، والغراب ، والدّيك ، نقل عن ابن عباس أيضا. والخامس : أنها الدّيك ، والطّاوس والغراب ، والحمام ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد. والسادس : أنها ديك ، وغراب ، وبطّ ، وطاوس ، رواه ليث عن مجاهد. والسابع : أنّها الدّيك ، والبطّة ، والغراب ، والحمامة ، قاله مقاتل. وقال عطاء الخراسانيّ : أوحى الله إليه أن خذ بطّة خضراء وغرابا أسود ، وحمامة بيضاء ، وديكا أحمر.

قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ، قرأ الجمهور بضم الصاد ، والمعنى : أملهنّ إليك ، يقال : صرت الشيء فانصار ، أي : أملته فمال ، وأنشدوا (١) :

الله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم الفراق إلى جيراننا صور (٢)

فمعنى الكلام : اجمعهنّ إليك. (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فيه إضمار قطعهنّ. قال ابن قتيبة : أضمر «قطعهنّ» ، واكتفى بقوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ، عن قوله : «قطّعهن» لأنه يدلّ عليه ، وهذا كما تقول : خذ هذا الثوب ، واجعل على كل رمح عندك منه علما. يريد : قطّعه ،

__________________

(١) البيت ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «صور» ولم ينسبه لقائل.

(٢) في «اللسان» : الصّور : الميل ورجل أصور بين الصّور : مائل مشتاق.


وافعل ذلك ، وقرأ أبو جعفر ، وحمزة ، وخلف ، والمفضّل ، عن عاصم «فصرهنّ» بكسر الصاد. قال اليزيديّ : هما واحد ، وقال ابن قتيبة : الكسر والضم لغتان. قال الفرّاء : أكثر العرب على ضم الصاد ، وحدّثني الكسائيّ أنه سمع بعض بني سليم يقول : صرته ، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس ووهب ، وأبي مالك ، وأبي الأسود الدّؤليّ ، والسّدّيّ ، أن معنى المكسورة الصاد : قطّعهن.

قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ، قال الزجّاج : معناه : اجعل على كل جبل من كل واحد منهنّ جزءا. وروى عوف عن الحسن قال : اذبحهنّ ونتّفهنّ ، ثم قطّعهنّ أعضاء ، ثم خلّط بينهنّ جميعا ، ثم جزّأهما أربعة أجزاء ، وضع على كل جبل جزءا. ثم تنحّى عنهنّ ، فدعاهنّ ، فجعل يعدو كل جزء إلى صاحبه حتى استوين كما كنّ ، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة : أمسك رؤوسها بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والرّيشة إلى الرّيشة ، والبضعة إلى البضعة ، وهو يرى ذلك ، ثم دعاهنّ ، فأقبلن على أرجلهنّ يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان :

أحدهما : أنه قسمهنّ على أربعة جبال ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة. وروي عن ابن عباس قال : جعلهنّ أربعة أجزاء في أرباع الأرض ، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع. والثاني : أنه قسمهنّ سبعة أجزاء على سبعة أجبال ، قاله ابن جريج ، والسّدّيّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) ، قال ابن قتيبة : يقال : عدوا ، ويقال : مشيا على أرجلهنّ ، ولا يقال للطائر إذا طار : سعى (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي : منيع لا يغلب (حَكِيمٌ) فيما يدبّر. ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشّام قبل أن يكون له ولد ، وقبل نزول الصّحف عليه ، وهو ابن خمس وسبعين سنة (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٣ / ٢٨٣ : اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟. فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم عليه‌السلام شاكّا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الخبر كالمعاينة». وقال الأخفش : لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. قال ابن عطية : وترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربه ، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال ما في القرآن آية أرجى عندي منها وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ثم رجّح الطبري هذا القول. قلت : حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) «ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي». قال ابن عطية : وما ترجم به الطبري عندي مردود. وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول ابن عباس : «هي أرجى آية». فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست فطنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقيح وبحث. وأما قول عطاء : «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم. وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي ورد فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ذلك محض الإيمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه‌السلام. وإحياء الموتى. إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم أعلم به يدلك على ذلك (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي


(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، حدّثنا عن ثعلب أنه قال : إنما المثل ـ والله أعلم ـ للنّفقة ، لا للرجال ، ولكن العرب إذا دلّ المعنى على ما يريدون ، حذفوا ، مثل قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، فأضمر «الحبّ» لأن المعنى معلوم ، فكذلك هاهنا. أراد : مثل نفقة الذين ينفقون ونحو هذا قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) (١). يريد : بخل الباخلين فحذف البخل. وفي المراد ب «سبيل الله» قولان : أحدهما : أنه الجهاد. والثاني : أنه جميع أبواب البرّ. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : والآية مردودة على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ، وقد أعلم الله عزوجل بضرب هذا المثل ، أن الحسنة في النّفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف. وقال الشعبي : نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف بسبعمائة ضعف. قال ابن زيد : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، أي : يزيد على السّبعمائة.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال ابن السّائب ومقاتل : نزلت في عثمان بن عفّان في نفقته في غزوة تبوك ، وشرائه بئر رومة ، ركية بالمدينة ، تصدّق بها على المسلمين ، وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدّق بأربعة آلاف درهم ، وكانت نصف ماله (٢).

وأما المنّ ففيه قولان : أحدهما : أنه المنّ على الفقير ، ومثل أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه المنّ على الله بالصّدقة ، روي عن ابن عباس. فإن قيل : كيف مدحهم بترك المنّ. ووصف نفسه بالمنّان؟ فالجواب : يقال : منّ فلان على فلان : إذا أنعم عليه ، فهذا الممدوح ، قال الشاعر :

__________________

وَيُمِيتُ) فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه‌السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متفرد الوجود عند السائل والمسؤول. ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، فلما كانت عبارة الخليل إبراهيم عليه‌السلام بهذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) فكمل الأمر وتخلّص من كل شك ثم علل عليه‌السلام سؤاله بالطمأنينة.

(١) آل عمران : ١٨٥.

(٢) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ومقاتل. أما ابن السائب ، فهو محمد بن السائب الكلبي ، وهو متروك كذاب. وأما مقاتل فهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو كذاب أيضا ، فهذا أثر باطل لا أصل له ، ولم أجده عن غيرهما.


فمنّي علينا بالسّلام فإنّما

كلامك ياقوت ودرّ منظّم

أراد بالمنّ الإنعام. وأما الوجه المذموم ، فهو أن يقال : منّ فلان على فلان ، إذا استعظم ما أعطاه ، وافتخر بذلك قال الشاعر في ذلك :

أنلت قليلا ثمّ أسرعت منّة

فنيلك ممنون كذاك قليل

ذكر ذلك أبو بكر الأنباريّ.

وفي الأذى قولان : أحدهما : أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه ، مثل أن يقول له : أنت أبدا فقير ، وقد بليت بك ، وأراحني الله منك. والثاني : أنه يخبر بإحسانه إلى الفقير ، من يكره الفقير اطّلاعه على ذلك ، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصّدقة. ولقد حدّثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله ، ثم يعتقهم جميعا ، ولا يتعرّف إليهم ، ولا يخبرهم من هو.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))

قوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، أي : قول جميل للفقير ، مثل أن يقول له : يوسع الله عليك (وَمَغْفِرَةٌ) أي : يستر على المسلم خلّته وفاقته ، وقيل : أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت ردّه (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) وقد سبق بيانه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) ، أي : لا تبطلوا ثوابها ، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله ، وهو المنافق (فَمَثَلُهُ) ، أي : مثل نفقته ، (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) ، قال ابن قتيبة : الصّفوان : الحجر ، والوابل : أشدّ المطر ، والصّلد : الأملس. وقال الزجّاج : الصّفوان : الحجر الأملس ، وكذلك الصّفا. وقال ثعلب : الصّلد : النّقيّ. وروي عن ابن عباس ، وقتادة ، (فَتَرَكَهُ صَلْداً) ، قالا : ليس عليه شيء. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته ، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، أي : طلبا لرضاه. وفي معنى التّثبيت قولان : أحدهما : أنه الإنفاق عن يقين وتصديق ، وهذا قول الشّعبيّ ، والسّدّيّ ، في آخرين. والثاني : أنه التّثبيت لارتياد محلّ الإنفاق ، فهم ينظرون أين يضعونها ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وأبي صالح. قوله تعالى : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) الجنّة : البستان ، وقرأ مجاهد ، وعاصم الجحدريّ «حبة» بالحاء. والرّبوة : ما ارتفع. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ «بربوة» بضم الراء.


وقرأ عاصم ، وابن عامر ، بفتح الراء وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء ، وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، برباوة ، بزيادة ألف ، وفتح الراء ، وقرأ أبيّ بن كعب ، والجحدريّ كذلك ، إلا أنهما ضمّا الراء ، وكذلك خلافهم في «المؤمنين» ، قال الزجّاج : يقال ربوة وربوة وربوة ورباوة. والموضع المرتفع من الأرض ، إذا كان له ما يرويه من الماء ، فهو أكثر ريعا من السّفل. وقال ابن قتيبة : الرّبوة الارتفاع ، وكل شيء ارتفع وزاد ، فقد ربا ، ومنه الرّبا في البيع. قوله تعالى : (فَآتَتْ أُكُلَها) ، قرأ ابن كثير ، ونافع : أكلها. والأكل بسكون الكاف حيث وقع ، ووافقهما أبو عمرو ، فيما أضيف إلى مؤنث ، مثل : «أكلها» ، فأمّا ما أضيف إلى مذكر مثل : أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنيّ : مثل (أُكُلٍ خَمْطٍ) فثقّله أبو عمرو. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ جميع ذلك مثقّلا. وأكلها : ثمرها. (ضِعْفَيْنِ) أي : مثلين. فأما «الطّلّ» فقال ابن قتيبة : هو أضعف المطر ، وقال الزجّاج : هو المطر الدائم ، الصّغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب. قال ثعلب : وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض ، فمعناه : فإن لم يكن أصابها وابل فطل ، ومعنى هذا المثل : أن صاحب هذه الجنّة لا يخيب ، فإنها إن أصابها الطّل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. والبصير : من أسماء الله تعالى ، معناه : المبصر. قال الخطّابيّ : وهو فعيل بمعنى مفعل ، كقولهم : أليم بمعنى مؤلم.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ، هذه الآية متصلة بقوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) ، ومعنى : «أيودّ» أيحبّ ، وإنما ذكر النّخيل والأعناب ، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين ، وخصّ ذلك بالكبير ، لأنه قد يئس من سعي الشباب في إكسابهم.

قوله تعالى : (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) ، أي : ضعاف ، وإذا ضعفت الذّريّة كان أحنى عليهم ، وأكثر إشفاقا (فَأَصابَها) يعني : الجنّة (إِعْصارٌ) وهي ريح شديدة ، تهبّ بشدة ، فترفع إلى السّماء ترابا ، كأنه عمود. قال الشاعر :

إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا

أي : لاقيت أشدّ منك. فإن قيل : كيف جاز في الكلام أن يكون له جنّة فأصابها ، ولم يقل : فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال : أيودّ أن يصيب مالا ، فضاع ، والمراد : فيضيع؟ فالجواب : أن ذلك جائز في «وددت» لأن العرب تلقاها مرّة ب «أن» ، ومرّة ب «لو» ، فيقولون : وددت لو ذهبت عنّا ، ووددت أن تذهب عنا ، قاله الفرّاء ، وثعلب.

فصل : وهذه الآية مثل ضربه الله تعالى في الحسرة بسلب النّعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قصد به ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت ، قاله مجاهد. والثالث : أنه مثل للمرائي في النفقة ، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه ، قاله السّدّيّ.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ، في سبب نزولها قولان :

(١٣٩) أحدهما : أن الأنصار كانوا إذا جذوا النّخل ، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلّقه في المسجد ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو (١) فيه الحشف والشّيص ، فيعلّقه ، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب.

(١٤٠) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بزكاة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد الله.

وفي المراد بهذه النفقة قولان : أحدهما : أنها الصّدقة المفروضة ، قاله عبيدة السّلمانيّ في آخرين. والثاني : أنها التّطوع. وفي المراد بالطّيّب هاهنا قولان : أحدهما : أنه الجيّد الأنفس ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الحلال ، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا) ، أي : لا تقصدوا. والتّيمّم في اللغة : القصد. قال ميمون بن قيس :

تيمّمت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن (٢)

وفي الخبيث قولان : أحدهما : أنه الرّديء ، قاله الأكثرون ، وسبب الآية يدلّ عليه. والثاني : أنه الحرام ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) ، قال ابن عباس : لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ، ثم قضاه ذلك ، ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقّه. وقال ابن قتيبة : أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ، ويغمضه ، فسمّي التّرخّص إغماضا. ومنه قول الناس للبائع : أغمض ، أي : لا تشخص ، وكن كأنك لا تبصر. وقال غيره : لما كان الرجل إذا رأى ما يكره

____________________________________

(١٣٩) جيد. أخرجه ابن ماجة ١٨٢٢ والحاكم ٢ / ٢٨٥ والطبري ٦١٣٨ و ٦١٣٩ والواحدي ١٧٢ من طريق أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت به. وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا : لكن في أسباط بن نضر ضعف ينحط حديثه عن درجة الصحيح ومثله السدي. وأخرجه الترمذي ٢٩٨٧ والبيهقي ٤ / ١٣٦ من طريق السدي عن أبي مالك عن البراء به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب. وله شاهد من حديث سهل بن حنيف ، أخرجه الحاكم ٢ / ٢٨٤ وإسناده حسن.

(١٤٠) أخرجه الحاكم ٢ / ٢٨٣ والواحدي في «الأسباب» ١٧٢ من حديث جابر ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وفيه قيس بن أنيف لم أجد له ترجمة. ويشهد لأصله ما تقدم دون تعيين ذلك بكونه في زكاة الفطر. وفي حديث سهل بن حنيف المتقدم «أمر بصدقة» ولعل المراد صدقة الفطر وبكل حال أصل الخبر محفوظ بشواهده.

__________________

(١) القنو : العذق بما فيه من الرطب. والحشف من التمر : اليابس الفاسد. والشيص : رديء التمر ويقال للتمر الذي لا يشتد نواه ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلا ، هو الشيص.

(٢) المهمه : المفازة. الشّزن : شدة الإعياء من الحفا ، والشدة والغلظة ، والغلظ من الأرض اه قاموس.


أغمض عينيه ، لئلا يرى جميع ما يكره ؛ جعل التّجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا. قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) ، قال الزجّاج : لم يأمركم بالتصدّق عن عوز ، لكنه بلا أخباركم ، فهو حميد على ذلك. يقال : قد غني زيد ، يغنى غنى ، مقصور : إذا استغنى ، وقد غني القوم : إذا نزلوا في مكان يغنيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني : النساء ، قيل : إنما سمّين بذلك ، لأنهنّ غنين بجمالهنّ ، وقيل : بأزواجهنّ. فأما «الحميد» فقال الخطّابيّ : هو بمعنى المحمود ، فعيل بمعنى مفعول.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ، قال الزجّاج : يقال : وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا ، ويقال : الفقر ، والفقر. ومعنى الكلام : يحملكم على أن تؤدّوا من الرّديء ، يخوّفكم الفقر بإعطاء الجيّد. ومعنى : يعدكم الفقر ، أي : بالفقر ، وحذفت الباء. قال الشاعر (١) :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وفي الفحشاء قولان : أحدهما : البخل. والثاني : المعاصي. قال ابن عباس : والله يعدكم مغفرة لفحشائكم ، وفضلا في الرّزق.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ، في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولا (٢) : أحدها : أنها القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحّاك ، ومقاتل في آخرين. والثاني : معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدّمه ، ومؤخّره ، ونحو ذلك ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : النّبوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : الفهم في القرآن ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، وإبراهيم. والخامس : العلم والفقه ، رواه ليث عن مجاهد. والسادس : الإصابة في القول ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع : الورع في دين الله ، قاله الحسن. والثامن : الخشية لله ، قاله الرّبيع بن أنس. والتاسع : العقل في الدّين ، قاله ابن زيد. والعاشر : الفهم ، قاله شريك. والحادي عشر : العلم والعمل ، لا يسمّى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) ، قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ، ووقف عليها بهاء والمعنى : ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ) ، قال الزجّاج : أي : وما يفكّر فكرا يذكر به ما قصّ من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة : «أولو» بمعنى : ذوو ، وواحد «أولو» «ذو» ، و «أولات» «ذات».

__________________

(١) هو عمرو بن معدي كرب.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٢٢ : والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه».


(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠))

قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، النّذر : ما أوجبه الإنسان على نفسه ، وقد يكون مطلقا ، ويكون معلّقا بشرط. (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) ، قال مجاهد : يحصيه ، وقال الزجّاج : يجازي عليه. وفي المراد بالظّالمين هاهنا ، قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله مقاتل. والثاني : المنفقون بالمنّ والأذى والرّياء ، والمنذرون في المعصية ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والأنصار : المانعون. فمعناه : ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).

(١٤١) قال ابن السّائب : لمّا نزل قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، قالوا : يا رسول الله ، صدقة السّرّ أفضل ، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية. قال الزجّاج ، يقال : بدا الشيء يبدو : إذا ظهر ، وأبديته إبداء : إذا أظهرته ، وبدا لي بداء : إذا تغيّر رأيي عمّا كان عليه.

وقوله تعالى : (فَنِعِمَّا هِيَ) ، في «نعم» أربع لغات : «نعم» بفتح النون ، والعين ، مثل : علم. و «نعم» بكسرها ، و «نعم» بفتح النون ، وتسكين العين ، و «نعم» بكسر النون ، وتسكين العين. وأمّا قوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) قرأ نافع في غير رواية «ورش» ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضّل : «فنعما» ، بكسر النون ، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص ، ونافع في رواية «ورش» ، ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة والكسائيّ ، وخلف : «فنعمّا» بفتح النون ، وكسر العين ، وكلّهم شدّدوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النّساء. قال الزجّاج : «ما» في تأويل الشيء ، أي : فنعمّ الشيء هو. قال أبو عليّ : نعم الشيء إبداؤها. قوله تعالى ؛ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، فهو الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النّافلة أفضل من إظهارها ، وفي الفريضة قولان : أحدهما : أن إظهارها أفضل ، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجّاج : كان إخفاء الزّكاة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أحسن ، فأمّا اليوم ، فالناس مسيئون الظنّ ، فإظهارها أحسن. والثاني : إخفاؤها أفضل ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة ، وحملوا (وَإِنْ تُخْفُوها) على النّافلة ، وهذا قول عجيب. وإنما فضّلت صدقة السّرّ لمعنيين : أحدهما : يرجع إلى المعطي ، وهو بعده عن الرّياء ، وقربه من الإخلاص ، والإعراض عمّا تؤثر النّفس من العلانية. والثاني : يرجع إلى المعطى ، وهو دفع الذّلّ عنه بإخفاء الحال ، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم (ونكفّر) بالنون والرفع ، والمعنى : ونحن نكفّر ، ويجوز أن يكون مستأنفا.

____________________________________

(١٤١) لا أصل له ، ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا بدون إسناد ، ومع ذلك هو معضل ، والكلبي واسمه محمد بن السائب متروك كذاب ، فهذا خبر لا أصل له.


وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ : «ونكفّر» بالنون وجزم الراء. قال أبو عليّ : وهذا على حمل الكلام على موضع قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في موضع جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ، ومثله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) (١) ، حمل قوله و «أكن» على موضع «فأصدّق». وقرأ ابن عامر : «ويكفّر» بالياء والرفع ، وكذلك حفص عن عاصم على الكناية عن الله عزوجل ، وقرأ أبان عن عاصم ، «وتكفّر» بالتاء المرفوعة ، وفتح الفاء مع إسكان الراء. قوله تعالى : (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) ، في «من» قولان : أحدهما : أنها زائدة. والثاني : أنها داخلة للتّبعيض. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) في سبب نزولها قولان :

(١٤٢) أحدهما : أن المسلمين كرهوا أن يتصدّقوا على أقربائهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الجمهور.

(١٤٣) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم» ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير.

والخير في الآية ، أريد به المال ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. ومعنى : (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، أي : فلكم ثوابه. قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) ، قال الزجّاج : هذا خاصّ للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.

قوله تعالى : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ، أي : توفّون أجره. ومعنى الآية : ليس عليك أن يهتدوا ، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام ، فإن تصدّقتم عليهم أثبتم. والآية محمولة على صدقة التّطوّع ، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصّدقة المفروضة شيئا.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

____________________________________

(١٤٢) أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٤ عن ابن الحنفية به ، وفي الإسناد سلمان المكي ، لم أجد له ترجمة.

ـ ولمعناه شواهد منها عن ابن عباس : أخرجه الطبري ٦٢٠٠ وكرره ٦٢٠٣ من وجه آخر ، وإسناده حسن.

وفي الباب مراسيل كثيرة ، فالخبر قوي بشواهده.

(١٤٣) ضعيف. أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٣ وابن أبي شيبة كما في «الدر» ١ / ٦٣١ عن سعيد بن جبير مرسلا ، فهو ضعيف لإرساله.

__________________

(١) المنافقون : ١٠.


قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) ، لمّا حثّهم على الصّدقات والنّفقات ، دلّهم على خير من تصدّق عليه. وقد تقدّم تفسير الإحصار عند قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) (١).

وفي المراد ب (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أربعة أقوال : أحدها : أنّهم أهل الصّفّة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة. والرابع : أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائيّ ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال : حصروا ، وإنّما الإحصار من الخوف ، أو المرض. والحصر : الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان : أحدهما : أنه الجهاد. والثاني : الطّاعة. وفي الضّرب في الأرض قولان : أحدهما : أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس. والثاني : الكسب ، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال : أحدها : الفقر ، قاله ابن عباس. والثاني : أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد. والثالث : التزامهم بالجهاد ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : «يحسبهم» و «يحسبنّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين في الكلّ. قال أبو عليّ : فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على «فعل» ، نحو : حسب ، كان المضارع على «يفعل» ، مثل : فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السّمع. قال ابن قتيبة : لم يرد الجهل الذي هو ضدّ العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الخبر ، فكأنه قال : يحسبهم من لا يخبر أمرهم. والتّعفّف : ترك السؤال ، يقال : عفّ عن الشيء وتعفّف. والسّيما : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السّمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال : أحدها : تجمّلهم ، قاله ابن عباس. والثاني : خشوعهم ، قاله مجاهد. والثالث : أثر الفقر عليهم ، قاله السّدّيّ والرّبيع بن أنس. وهذا يدلّ على أن للسّيما حكما يتعلّق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب ، ولا يعرف أمره : ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سيما الكفّار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصلّ عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم (٢). فأما الإلحاف ، فهو : الإلحاح ، قال ابن قتيبة : يقال : ألحف في المسألة : إذا ألحّ ، وقال الزجّاج : معنى ألحف : شمل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللّحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتّغطية ، فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في (المغني) ٣ / ٤٧٧ : فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ، فلم يميزوا ، صلّى على جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد : ويجعلهم بينه وبين القبلة ، ثم يصلي عليهم وإلا فلا ، لأن الاعتبار بالأكثر ، بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام ، لكثرة المسلمين بها ، وعكسها دار الحرب ، لكثرة من بها من الكفار. ولنا ، أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر ، فوجب ، كما لو كانوا أكثر ، ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر ، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت ، فلم يعلم أمسلم هو أم كافر ، نظر إلى العلامات من الختان ، والثياب والخضاب ، فإن لم يكن عليه علامة ، وكان في دار الإسلام ، غسّل وصلّي عليه ، وإن كان في دار الكفر ، لم يغسّل ، ولم يصلّ عليه. نصّ عليه أحمد ، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها ، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.


ملحفين؟ فالجواب : أن لا ، وإنما معنى الكلام : أنه لم يكن منهم سؤال ، فيكون إلحاف. قال الأعشى :

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (١)

معناه : ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها لذلك. قال الفرّاء : ومثله أن تقول : قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه ، فهم لا يسألون الناس إلحافا ، ولا غير إلحاف. وإلى نحو هذا ذهب الزجّاج ، وابن الأنباريّ في آخرين.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

(١٤٤) أحدها : أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عزوجل ، رواه حنش الصّنعانيّ عن ابن عباس ، وهو قول أبي الدّرداء وأبي أمامة ، ومكحول ، والأوزاعيّ في آخرين.

(١٤٥) والثاني : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنه كانت معه أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما ، وفي السّرّ درهما ، وفي العلانية درهما ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن السّائب ، ومقاتل.

(١٤٦) والثالث : أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف ، فإن عليّا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصّفّة ليلا وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا ، رواه الضحّاك عن ابن عباس.

____________________________________

(١٤٤) أخرجه الواحدي في «أسبابه» ١٧٦ عن حنش الصنعاني عن ابن عباس ، وفي إسناده ، عبد الله بن صالح ، وهو ضعيف. وله شاهد عن أبي الدرداء ، أخرجه الطبري ٦٢٣٠ وفيه راو لم يسم ممن يراد بهذه الآية ، لأن الآية خاصة في ذلك ، والله أعلم.

(١٤٥) باطل. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٣٤٤ والواحدي ١٨٠ والطبراني ١١١٦٤ عن عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس. إسناده ضعيف جدا ، ابن مجاهد متروك ولم يسمع من أبيه كما في «الميزان» وهذا أثر باطل لا أصل له ، ولا يصح عن مجاهد لأنه من رواية ابنه ، ونسبه المصنف لابن السائب. الكلبي ، وهو متروك كذاب. وعزاه المصنف لمقاتل ، وهو كذاب أيضا ، والصواب عموم الآية.

(١٤٦) باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، ولم أر من أسنده إلى الضحاك ، وبكل حال هو أثر ساقط ، الضحاك لم يلق ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، حيث روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ، وجويبر متروك متهم. فهذا خبر ساقط ، لا أصل له.

ـ والصواب عموم الآية ، وأن الآية في كل من يتصف بذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) في «اللسان» : الغميزة : العيب وليس في فلان غميزة أي ما فيه ما يغمز فيعاب به ولا مطعن. والأين : الإعياء والتعب ، والشرسوف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. والصّفر : دابة تعض الضلوع والشراسيف ، وقيل الصّفر هاهنا الجوع.


(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ، الرّبا : أصله في اللغة : الزّيادة ، ومنه الرّبوة والرّابية ، وأربى فلان على فلان : زاد. وهذا الوعيد يشمل الأكل ، والعامل به ، وإنما خصّ الآكل بالذّكر ، لأنه معظم المقصود.

(١٤٧) وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه : «لعن آكل الرّبا وموكله وشاهديه وكاتبه».

قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ) ، قال ابن قتيبة أي : يوم البعث من القبور. والمسّ : الجنون ، يقال : رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا ؛ كما قال تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) (١). إلا أكلة الرّبا ، فإنهم يقومون ويسقطون ، لأن الله أربى الرّبا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الرّبا إذا استحلّه يوم القيامة. قوله تعالى : (ذلِكَ) ، أي : هذا الذي ذكر من عقابهم (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، وقيل : إن ثقيف كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه ؛ قالوا : إنّما هو مثل البيع.

قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، قال الزجّاج : كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ ، فتذكيره جائز ، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ قوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) ، أي : ما أكل من الرّبا. وفي قوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) ، قولان : أحدهما : أن «الهاء» ترجع إلى المربي ، فتقديره : إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والثاني : أنها ترجع إلى الرّبا ، فمعناه : يعفو الله عمّا شاء منه ، ويعاقب على ما شاء منه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) ، قال ابن جبير : من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

____________________________________

(١٤٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٥٩٨ وأحمد ٣ / ٣٠٤ والبيهقي ٥ / ٢٧٥ وأبو يعلى ١٨٤٩ من طرق عن جابر قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه» وقال : «هم سواء».

ـ ويشهد له ما أخرجه أحمد ١ / ٤٠٩ و ٤٣٠ و ٤٦٤ و ٤٦٥ ، والنسائي ٨ / ١٤٧ وابن حبان ٣٢٥٢ وأبو يعلى ٥٢٤١ وعبد الرزاق ١٥٣٥٠ وابن خزيمة ٢٢٥٠ والحاكم ١ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨ وعنه البيهقي ٩ / ١٩ من طرق عن عبد الله بن مسعود قال : «آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن ، ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة».

__________________

(١) المعارج : ٤٣.


قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) فيه قولان : أحدهما : أن معنى محقه : تنقيصه واضمحلاله ، ومنه : محاق الشهر ، لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها ، رواه الضحّاك عن ابن عباس. قوله تعالى :

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ، قال ابن جبير : يضاعفها. والكفّار : الذي يكثر فعل ما يكفر به ، والأثيم : المتمادي في ارتكاب الإثم المصرّ عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) في نزولها ثلاثة أقوال :

(١٤٨) أحدها : أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يأخذون الرّبا من ثقيف ، فلمّا وضع الله الرّبا ، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول ابن عباس.

(١٤٩) والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفّان ، والعبّاس ، كانا قد أسلفا في التّمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال صاحب التّمر : إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي ، فهل لكما أن تأخذوا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا ، فلما حلّ الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهما عليه‌السلام ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عطاء وعكرمة.

(١٥٠) والثالث : أنها نزلت في العبّاس وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الرّبا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الرّبا ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العبّاس» هذا قول السّدّيّ.

قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحّاك ، إنما قال : (ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) لأن كلّ ربا كان قد ترك ، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم : الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كفره ، ثم أسلم ، فيجب عليه أن يترك ما بقي ، ويعفى له عمّا مضى. فأمّا المراباة بعد الإسلام ، فمردودة فيما قبض ، ويسقط ما بقي.

____________________________________

(١٤٨) أخرجه أبو يعلى ٦٦٨ ومن طريقه الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٣ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا ، الكلبي متروك ، وأبو صالح متروك في حديثه عن ابن عباس ، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ وقال : رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب الكلبي ، وهو كذاب اه.

وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» ٣٥٣٧ ونقل الشيخ الأعظمي عن البوصيري تضعيفه للكلبي! مع أنه متروك متهم. وأخرجه الطبري ٦٢٥٧ عن ابن جريج بنحوه ، وأتم. وورد عن عكرمة مع أثر ابن جريج عند الطبري ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله تعالى أعلم. وانظر «فتح الباري» ٤ / ٣١٣.

(١٤٩) ذكره الواحدي ١٨٤ عن عطاء وعكرمة بدون إسناد ، ولم أره عند غيره ، فهو لا شيء ، وذكر عثمان في هذا الخبر باطل لا أصل له ، وأما ذكر العباس ، فله ما يؤيده ، وانظر ما بعده.

(١٥٠) هو في «أسباب النزول» ١٨٥ للواحدي عن السدي بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٦٢٥٦ عن السدي ، وليس فيه اللفظ المرفوع ، وهذا مرسل. واللفظ المرفوع منه صحيح ، ورد في أحاديث أخر.


(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا) ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (فَأْذَنُوا) مقصورة مفتوحة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «فآذنوا» بمدّ الألف وكسر الذال. قال الزجّاج : من قرأ : فأذنوا ، بقصر الألف وفتح الذال ، فالمعنى : أيقنوا. ومن قرأ بمدّ الألف وكسر الذال ، فمعناه : أعلموا كلّ من لم يترك الرّبا أنه حرب. قال ابن عباس : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب. قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) أي التي أقرضتموها ، لا تظلمون فتأخذون أكثر منها ، ولا تظلمون فتنقصون منها ، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى ، وضم «تاء» تظلمون الثانية. وروى المفضّل عن عاصم : ضمّ الأولى ، وفتح الثانية.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ). ذكر ابن السّائب ، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ، قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ، وندع لكم الرّبا ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، فنزلت هذه الآية (١). فأمّا العسرة ، فهي الفقر ، والضّيق. والجمهور على تسكين السين ، وضمّها أبو جعفر هاهنا ، وفي (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) (٢). وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة» ، وضمّها نافع ، وتابعه زيد عن يعقوب على ضمّ السين ، إلا أنه زاد ، فكسر الراء ، وقلب الياء هاء ، ووصلها بباء. قال الزجّاج : ومعنى وإن كان : وإن وقع. والنّظرة ؛ التّأخير ، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الرّبا إذا كان المطالب معسرا ، وأعلمهم أن الصّدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) والأكثرون على تشديد الصاد ، وخفّفها عاصم مع تشديد الدال. وسكّنها ابن أبي عبلة مع ضمّ الدال فجعله من الصّدق.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ، قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمّها الباقون. قال ابن عباس ، وأبو سعيد الخدريّ ، وسعيد بن جبير ، وعطيّة ، ومقاتل في آخرين : هذه آخر آية نزلت من القرآن (٣). قال ابن عباس : وتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها بأحد وثمانين

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٦ عن الكلبي ، وهو محمد بن السائب بدون إسناد ، والكلبي متهم.

ـ وأما أثر مقاتل ، فهو لا شيء أيضا ، لكن ورد هذا الخبر من وجوه أخر ، انظر الحديث ١٤٨.

(٢) سورة التوبة : ١١٧.

(٣) أثر ابن عباس صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٧٧ و ٧٨ عن ابن عباس موقوفا وإسناده جيد. وبوب به البخاري فقال باب (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ثم أخرج ٤٥٤٤ عن ابن عباس : آخر آية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية الربا. وأثر عطية العوفي ، أخرجه الواحدي في «الأسباب» ٩ ، وهذا مرسل. وأثر ابن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ ، ولم أر من أسنده إلى أبي سعيد ، وبكل حال الخبر صحيح ، في أنها آخر آية نزلت.


يوما (١) ، وقال ابن جريج : توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل : بسبع ليال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، قال الزجّاج : يقال : داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته. قال الشاعر (٢) :

داينت أروى والدّيون تقضى

فماطلت بعضا وأدّت بعضا

والمعنى : إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمّى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتب الدّين والإشهاد حفظا منه للأموال وللناس من الظّلم ، لأن من كانت عليه البيّنة قلّ تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في السّلم خاصة. فإن قيل : ما الفائدة في قوله : «بدين» ، و «تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب : إن تداينتم يقع على معنيين : أحدهما : المشاراة والمبايعة والإقراض. والثاني : المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه : الدّين بفتح الدال ، والثاني : يقال منه : الدّين بكسر الدال. قال تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ، أي : يوم الجزاء. وأنشدوا (٣) :

دنّاهم كما دانوا

فدلّ بقوله : «بدين» على المراد بقوله : «تداينتم» ، ذكره ابن الأنباريّ. فأمّا العدل فهو الحق. قال قتادة : لا تدعنّ حقا ، ولا تزيدنّ باطلا.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ، أي : لا يمتنع أن يكتب كما علّمه الله ، وفيه قولان :

__________________

(١) أخرجه الفريابي وابن المنذر كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة ، وقول ابن جريج الآتي أقرب للصواب ، وهو يوافق قول سعيد بن جبير كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ وكذا قول مقاتل ، والله أعلم. وأثر ابن جريج ، أخرجه الطبري ٦٣١٢. وانظر «فتح الباري» ٨ / ٢٠٥.

(٢) هو رؤبة بن العجاج.

(٣) البيت من الهزج ، وهو للفند الزماني ـ شهل بن شيبان ـ كما في المعجم المفصّل ، وتمامه :

ولم يبق سوى

العدوان دناهم كما دانوا.


أحدهما : كما علّمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير. وقال الشّعبيّ : الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد. والثاني : كما أمره الله به من الحق ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى ؛ (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) ، قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول : ليمل ما عليه من حقّ الطّالب على الكاتب ، (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) ، أي : لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ : يقال : أمللت أملّ ، وأمليت أملي لغتان : فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن المملّ يطيل قوله على الكاتب ويكرّره.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) ، في المراد بالسّفيه هاهنا أربعة أقوال : أحدها : أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء ، قاله مجاهد ، وابن جبير. والثاني : أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن. والثالث : أنه الصغير ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ. والرابع : أنه المبذّر ، قاله القاضي أبو يعلى. وفي المراد بالضّعيف ثلاثة أقوال : أحدها : أنه العاجز والأخرس ومن به حمق ، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني : أنه الأحمق ، قاله مجاهد والسّدّيّ. والثالث : أنه الصغير ، قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى : (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) ، قال ابن عباس : لا يستطيع لعيّه. وقال ابن جبير : لا يحسن أن يملّ ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى : هو المجنون.

قوله تعالى ؛ (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها تعود إلى الحق ، فتقديره : فليملل وليّ الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والرّبيع بن أنس ، ومقاتل ، واختاره ابن قتيبة. والثاني : أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحّاك ، وابن زيد ، واختاره الزجّاج ، وعاب قول الأوّلين ، فقال : كيف يقبل المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا. والعدل : الإنصاف. وفي قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) ، قولان : أحدهما : أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد. والثاني : أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجّاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدلّ عليه أنه خاطب المؤمنين في أوّل الآية.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ، أراد : فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، ولم يرد به : إن لم يوجد رجلان.

قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، قال ابن عباس : من أهل الفضل والدّين.

قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، ذكر الزجّاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويّين الموثوق بعلمهم ، قالوا : معناه : استشهدوا امرأتين ، لأن تذكّر إحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضّلال هاهنا : النّسيان ، قاله ابن عباس ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. فأمّا قوله : «فتذكر» فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف ، فمن شدّد أراد الإذكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفّف قولان : أحدهما : أنها بمعنى المشدّدة أيضا ، وهذا قول الجمهور. قال الضحّاك ، والرّبيع بن أنس ، والسّديّ : ومعنى القراءتين واحد. والثاني : أنها بمعنى : تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعيّ عن أبي عمرو نحوه. واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد ردّه جماعة ، منهم ابن قتيبة. قال أبو


عليّ : ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهنّ لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهنّ رجل ، ولأن الضلال هاهنا : النّسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التّذكير.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، قال قتادة : كان الرجل يطوف في الحواء (١) العظيم ، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية. وإلى ما ذا يكون هذا الدّعاء؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : إلى تحمّل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطيّة ، وقتادة ، والرّبيع. والثاني : إلى إقامتها وأدائها عند الحكّام بعد أن تقدّمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وأبو مجلز ، والضحّاك ، وابن زيد ، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث : إلى تحمّلها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجّاج ، قال القاضي أبو يعلى : إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحمّلها جماعة ، لم تتعيّن عليه ، وكذلك في حال تحمّلها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه.

قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا) ، أي : لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي : إلى محلّ أجله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : أعدل ، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) لأن الكتاب يذكّر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وَأَدْنى) أي : أقرب (أَلَّا تَرْتابُوا) أي : لا تشكّوا (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) الأموال (تِجارَةً) أي : إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى : إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل. فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب. قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.

فصل : وهذه الآية تتضمّن الأمر بإثبات الدّين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدّين. واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب (٢) ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب ، فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحّاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ).

قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) ، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : لا يضارّ بأن يدعى وهو مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ ، والرّبيع بن أنس ، والفرّاء ، ومقاتل. وقال الرّبيع : كان أحدهم

__________________

(١) في «اللسان» : الحواء : جماعة بيوت الناس إذا تدانت ، والجمع الأحوية.

(٢) قال الحافظ ابن كثير ١ / ٣٣٦ عند هذه الآية ؛ وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.


يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ، فيقول : إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول : إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضارّه ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). والثاني : أن معناه : النّهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب غير ما يملّ عليه ، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاوس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجّاج. واحتجّ الزجّاج على صحته بقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، قال : ولا يسمّى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهدا ؛ فاسقا ، إنما يسمّى من حرّف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا. والثالث : أن معنى المضارّة : امتناع الكاتب أن يكتب ، والشاهد أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ، يعني : المضارّة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ، إنما خصّ السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه ، ومقصود الكلام : إذا عدمتم التّوثّق بالكتاب والإشهاد ، فخذوا الرّهن.

قوله تعالى : (فَرِهانٌ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف ، وأسكن الهاء عبد الوارث وجماعة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ (فَرِهانٌ) بكسر الراء ، وفتح الهاء ، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة ؛ من قرأ (فَرِهانٌ) أراد : جمع رهن ، ومن قرأ «رهن» أراد : جمع رهان ، فكأنه جمع الجمع. وقوله تعالى : (مَقْبُوضَةٌ) ، يدلّ على أن من شرط لزوم الرّهن القبض ، وقبض الرّهن أخذه من راهنه منقولا ، فإن كان مما لا ينقل ، كالدّور والأرضين ، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنة.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، أي : فإن وثق ربّ الدّين بأمانة الغريم ، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود ، ولا رهن ، (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المدين (أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أن يخون من ائتمنه. وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ، قال السّدّيّ عن أشياخه : فإنه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى : إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلّق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة لترك أدائها.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أما إبداء ما في النّفس ، فإنه العمل بما أضمره العبد ، أو النّطق ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، وأمّا ما يخفيه في نفسه ، فاختلف العلماء في المراد بالمخفيّ في هذه الآية على قولين :


أحدهما : أنه عامّ في جميع المخفيّات ، وهو قول الأكثرين. واختلفوا : هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين : أحدهما : أنه منسوخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، هذا قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية ، والحسن ، والشّعبيّ ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء الخراسانيّ ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، ومقاتل. والثاني : أنه ثابت في المؤاخذة على العموم ، فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفره لمن يشاء ، وهذا مرويّ عن ابن عمر ، والحسن ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ ، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عزوجل إذا جمع الخلائق ، يقول لهم : إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي ، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ، ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، يقول : يخبركم به الله ، وأمّا أهل الشّرك والرّيب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ، والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذّب» منهم ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ. إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله ، وهو «يحاسبكم» وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ويعقوب : برفع الراء ، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأوّل ، قال ابن الأنباريّ : وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدّث به نفسه في الدنيا ، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال : والذي نختاره أن تكون الآية محكمة ، لأنّ النّسخ إنما يدخل على الأمر والنّهي. وقد روي عن عائشة أنها قالت : أمّا ما أعلنت ، فالله يحاسبك به ، وأمّا ما أخفيت ، فما عجّلت لك به العقوبة في الدّنيا.

والقول الثاني : أنه أمر خاصّ في نوع من المخفيّات ، ولأرباب هذا القول فيه قولان : أحدهما : أنه كتمان الشهادة ، قاله ابن عباس في رواية ، وعكرمة والشّعبيّ. والثاني : أنه الشّكّ واليقين ، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))

قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ).

(١٥١) روى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» ، قال أبو بكر النّقّاش : معناه : كفتاه عن قيام الليل. وقيل : إنهما نزلتا على سبب.

(١٥٢) وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : لما أنزل الله تعالى ؛ (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي

____________________________________

(١٥١) صحيح. أخرجه البخاري ٥٠٠٨ و ٥٠٠٩ و ٥٠٤٠ و ٥٠٥١ ومسلم ٨٠٧ والطيالسي ٢ / ١٠ وأحمد ٤ / ١٢١ وأبو داود ١٣٩٧ والترمذي ٢٨٨١ والنسائي في «اليوم والليلة» ٧١٩ وابن ماجة ١٣٦٩ والدارمي ١ / ٣٤٩ وابن حبان ٧٨١ والبغوي ١١٩٩ من حديث أبي مسعود البدري.

(١٥٢) صحيح. أخرجه مسلم ١٢٥ وأحمد ٢ / ٤١٢ والطبري ٦٤٥٣ وأبو عوانة ١ / ٧٦ و ٧٧ وابن حبان ١٣٩ والواحدي في «أسباب النزول» ١٨٧ من طرق عن أبي هريرة.


أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، اشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب. فقالوا : قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير». فلما قالوها وذلّت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها (آمَنَ الرَّسُولُ).

قال الزجّاج : لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيّه ، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس «وكتابه» ، فقيل له في ذلك ، فقال : كتاب أكثر من كتب ، ذهب به إلى اسم الجنس ، كما تقول : كثر الدّرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف ، وكذلك في «التحريم» وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع ، وفي «التحريم» بالتّوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى ؛ (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين ، مثل «رسلنا» و «رسلكم» بإسكان السين ، وثقّل ما عدا ذلك. وفي قوله تعالى : (عَلى رُسُلِكَ) ، روايتان ، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل ، ومعنى قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، أي : لا نفعل كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء وفتح الراء.

قوله تعالى : (غُفْرانَكَ) ، أي : نسألك غفرانك. والمصير : المرجع.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، الوسع : الطّاقة ، قاله ابن عباس ، وقتادة. ومعناه : لا يكلّفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزّمن السّعي ، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلّف ، لا لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأوّل. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا ، كان السؤال عبثا ، وقد أمر الله تعالى نبيّه بدعاء قوم قال فيهم : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (١) ، وقال ابن الأنباريّ : المعنى : لا تحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشّم ، وتحمّل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النّظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (٢). قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) ، قال ابن عباس : لها ما كسبت من طاعة (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من معصية. قال أبو بكر النّقّاش : فقوله : «لها» دليل على الخير ، و «عليها» دليل على الشّرّ. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات

__________________

(١) الكهف : ٥٧.

(٢) هود : ٢٠.


و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ؛ كقوله عزوجل : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١).

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ، هذا تعليم من الله تعالى للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن الأنباريّ : والمراد بالنّسيان هاهنا : التّرك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السّهو ، يقال : أخطأ الرجل : إذا تعمّد ، كما يقال : أخطأ إذا أغفل. وفي «الإصر» قولان : أحدهما ؛ أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : الثّقل ، أي : لا تثقل علينا من الفروض ما ثقّلته على بني إسرائيل ، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، فيه خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه ما يصعب ويشقّ من الأعمال ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والجمهور. والثاني : أنه المحبّة ، رواه الثّوريّ عن منصور عن إبراهيم. والثالث : الغلمة (٣) ، قاله مكحول. والرابع : حديث النّفس ووساوسها. والخامس : عذاب النّار.

قوله تعالى : (أَنْتَ مَوْلانا) ، أي أنت وليّنا (فَانْصُرْنا) أي : أعنّا.

وكان معاذ إذا فرغ من هذه السّورة ، قال : آمين.

__________________

(١) الطارق : ١٧.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٤٣ : وقوله (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به اه. قلت : فالقول الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى.

(٣) في «اللسان» : الغلمة : هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل.


سورة آل عمران

(١٥٣) ذكر أهل التفسير أنها مدنيّة ، وأن صدرا من أوّلها نزل في وفد نجران ، قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ستّين راكبا ، فيهم العاقب ، والسّيّد ، فخاصموه في عيسى ، فقالوا : إن لم يكن ولد الله ، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣))

قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني : القرآن (بِالْحَقِ) يعني : العدل. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتاب. وقيل : إنما قال في القرآن : «نزّل» بالتشديد ، وفي التوراة والإنجيل : أنزل ، لأنّ كل واحد منهما أنزل في مرّة واحدة ، وأنزل القرآن في مرّات كثيرة. فأمّا التّوراة. فذكر ابن قتيبة عن الفرّاء أنه يجعلها من : وري الزّند يري : إذا خرجت ناره ، وأوريته ، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة : وفيه لغة أخرى : ورى يري ، ويقال : وريت بك زنادي. والإنجيل ، من نجلت الشيء : إذا أخرجته ، وولد الرجل : نجله ، كأنه هو استخرجه ، يقال : قبّح الله ناجليه ، أي : والديه ، وقيل للماء يظهر من البئر : نجل ، يقال : قد استنجل الوادي : إذا ظهر نزوزه. وإنجيل : افعيل من ذلك ، كأنّ الله أظهر به عافيا من الحق دارسا. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : والإنجيل : أعجميّ معرّب ، قال : وقال بعضهم : إن كان عربيا ، فاشتقاقه من النّجل ، وهو ظهور الماء على وجه الأرض ، واتّساعه ، ونجلت الشيء : إذا استخرجته وأظهرته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم ، وقيل : هو افعيل من النّجل وهو الأصل : فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. وفي الفرقان هاهنا قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة ، والجمهور. قال أبو عبيدة : سمّي القرآن فرقانا ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر. والثاني : أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقال السّدّيّ : في الآية

____________________________________

(١٥٣) أخرجه الطبري ٦٥٤٠ وابن هشام في «السيرة» ٢ / ١٦٤ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير. وكذا ابن كثير في «التفسير» ١ / ٣٧٦ من طريق ابن إسحاق وعزاه البغوي في «تفسيره» ٣٥٨ للكلبي والربيع بن أنس وغيرهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩٠ نقلا عن المفسرين. وانظر دلائل النبوة للبيهقي ٥ / ٣٨٢ ـ ٣٨٤ وهذه المراسيل تتأيد بمجموعها.


تقديم وتأخير ، تقديره : وأنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، فيه هدى للناس.

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) قال ابن عباس : يريد وفد نجران النّصارى ، كفروا بالقرآن ، وبمحمّد. والانتقام : المبالغة في العقوبة.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، قال أبو سليمان الدّمشقيّ : هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبيّ عليه‌السلام. وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) المحكم : المتقن المبيّن. وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال (١) : أحدها : أنه النّاسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، السّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه الحلال والحرام ، روي عن ابن عباس ومجاهد. والثالث : أنه ما علم العلماء تأويله ، روي عن جابر بن عبد الله. والرابع : أنه الذي لم ينسخ ، قاله الضّحّاك. والخامس : أنه ما لم تتكرر ألفاظه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه ما استقلّ بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشّافعيّ ، وابن الأنباريّ : هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا. والسابع : أنه جميع القرآن غير الحروف المقطّعة. والثامن : أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى بن الفرّاء.

وأمّ الكتاب أصله. قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فكأنه قال : هنّ أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهنّ في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٤٥ : وأحسن ما قيل فيه الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله حيث قال : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال : والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.

ـ وقال الشوكاني رحمه‌الله في «فتح القدير» ١ / ٣٦٠ بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة : والأولى أن يقال : إن المحكم هو الواضح المعنى ، الظاهر الدلالة ؛ إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره.

ـ والمتشابه : ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته ، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره.

ـ وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٤ / ١٣ ـ ١٤ بتخريجنا ـ طبع «دار الكتاب العربي».


وفي المتشابه سبعة أقوال : أحدها : أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام السّاعة ، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث : أنه الحروف المقطّعة كقوله : «الم» ونحو ذلك ، قاله ابن عباس. والرابع : أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد. والخامس : أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه ما احتاج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ : ما احتمل من التّأويل وجوها. وقال ابن الأنباريّ : المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميّز ، والمتشابه : الذي تعتوره تأويلات. والسابع : أنه القصص والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى.

فإن قيل : فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة :

أحدها : أنه لما كان كلام العرب على ضربين : أحدهما : الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني : المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتّلويحات ، وهذا الضّرب الثاني هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضّربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال : عارضوه بأيّ الضّربين شئتم ، ولو نزل كلّه محكما واضحا ، لقالوا : هلّا نزل بالضّرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس :

ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

فجعل النظر بمنزلة السّهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته ، وقال امرؤ القيس أيضا :

رمتني بسهم أصاب الفؤاد

غداة الرّحيل فلم أنتصر

وقال أيضا :

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل (١)

فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، فحسن بذلك شعره. وقال غيره :

من كميت أجادها طابخاها

لم تمت كلّ موتها في القدور

أراد بالطّابخين : الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر :

تبكي هاشما في كلّ فجر

كما تبكي على الفنن الحمام

وقال الآخر :

عجبت لها أنّى يكون غناؤها

فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما

فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة.

والجواب الثاني : أنّ الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويردّه إلى عالمه ، فيعظم بذلك صوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزّيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر

__________________

(١) في «اللسان» : الكلكل من الفرس : ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.


طالوت. والثالث : أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم ، كما أثيبوا على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم ، وقد قال الحكماء : عيب الغنى : أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر : أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع : أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون ، ويمرّونهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النّحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) في الزيغ قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الميل ، قاله أبو مالك ، وعن ابن عباس كالقولين ، وقيل : هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الخوارج ، قاله الحسن. والثاني : المنافقون ، قاله ابن جريج. والثالث : وفد نجران من النصارى ، قاله الرّبيع. والرابع : اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمّة من حساب الجمّل ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال ابن عباس : يحيلون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون. وقال السّدّيّ يقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الكفر ، قاله السّدّيّ ، والرّبيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : الشّبهات ، قاله مجاهد. والثالث : إفساد ذات البين ، قاله الزجّاج. وفي التأويل وجهان : أحدهما : أنه التّفسير. والثاني : العاقبة المنتظرة. والرّاسخ : الثّابت ، رسخ يرسخ رسوخا.

وهل يعلم الرّاسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان (١) : أحدهما : أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ،

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٣٤٦ : وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء ، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله ... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا ...

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به). وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : (إن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا


وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ «ويقول الرّاسخون في العلم آمنّا به» وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والفرّاء ، وأبو عبيدة ، وثعلب ، وابن الأنباريّ ، والجمهور. قال ابن الأنباريّ : في قراءة عبد الله «إن تأويله ، إلّا عند الله» وفي قراءة أبيّ ، وابن عباس «ويقول الرّاسخون» وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء ، استأثر بعلمها ، وقوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (١) فأنزل تعالى المجمل ، ليؤمن به المؤمن ، فيسعد ، ويكفر به الكافر ، فيشقى. والثاني : أنهم يعلمون ، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا ممّن يعلم تأويله ، وهذا قول مجاهد ، والرّبيع ، واختاره ابن قتيبة ، وأبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن الأنباريّ : الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي يقولون : ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا. قال أبو عبد الرحمن السّلميّ ، وابن يعمر ، والجحدريّ «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك : بمعنى عندك. والوهّاب : الذي يجود بالعطاء من غير استثابة ، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ، ولا ولدا لعقيم ، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠))

قوله تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي : لن تدفع ، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا ، وكذلك الأولاد ، فأما في الآخرة ، فلا ينفع الكافر ماله ، ولا ولده. وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) أي : من عذابه

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ، في الدّأب قولان : أحدهما : أنه العادة ، فمعناه : كعادة آل

__________________

تأويل لاحد فيها إلاّ تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وصدقه بعضه بعضاً فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر ، وفي الحديث أن رسول صلى الله عليه واله وسلم دعا لابن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». ومن العلماء من فصل في هذا المفام وقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنياً أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمرء إليه ومنه قوله تعالى : (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قبل) وقوله : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي حقيقة ماأخبروا ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكهها لا يعلمه على الجلية إلاّ الله عزّوجّل ويكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبره ، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله : (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أي بتفسيره فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الاشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالاً منهم.

(١) الفرقان : ٣٨.


فرعون ، يريد : كفر اليهود. ككفر من قبلهم ، قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأنباريّ : و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر ، كأنه قال : كفرت اليهود ككفر آل فرعون. والثاني : أنه الاجتهاد ، فمعناه : أن دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم ، وتظاهرهم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه‌السلام ، قاله الزّجّاج.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) بالتاء و (يَرَوْنَهُمْ) بالياء ، وقرأ نافع ثلاثتهنّ بالتاء! وقرأهنّ حمزة ، والكسائيّ بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٥٤) أحدها : أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر ، همّوا بالإسلام ، وقالوا : هذا هو النبيّ الذي نجده في كتابنا ، لا تردّ له راية ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى ، فلما كانت أحد ، شكّوا ، وقالوا : ما هو به ، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة ، فقالوا : تكون كلمتنا واحدة ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

(١٥٥) والثاني : أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر ، فحقّق الله وعده يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، والضّحّاك.

(١٥٦) والثالث : أن أبا سفيان في جماعة ن قريش ، جمعوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وقعة بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال (١) : أحدها :

____________________________________

(١٥٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩١ قال الكلبي قال أبو صالح قال ابن عباس. وهذا الإسناد ساقط ، الكلبي متروك متهم ، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. وورد من وجه آخر ، أخرجه الطبري ٦٦٦٣ وفيه محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول. وورد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٦٦٦٤ ، وورد من مرسل عكرمة ، أخرجه الطبري ٦٦٦٧. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

(١٥٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» عن ابن عباس والضحاك بدون إسناد. فهذا الخبر لا شيء لخلوه عن الإسناد.

ـ والقول المتقدم هو الصواب ، فإن الآية الآتية تدل على أن ذلك كان بعد بدر.

(١٥٦) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ، وهو الكلبي واسمه محمد ، وهو متروك متهم بالكذب ، فهذا الأثر لا شيء. والقول الأول هو الصواب ، والله أعلم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٥٠ : يقول الله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية أي دلالة على أن الله معزّ دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعدل أمره.


أنهم المؤمنون ، روي عن ابن مسعود ، والحسن. والثاني : الكفار ، فيكون معطوفا على الذي قبله ، وهو يخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا. والثالث : أنهم اليهود ، ذكره الفرّاء ، وابن الأنباريّ ، وابن جرير. فإن قيل : لم قال (قَدْ كانَ لَكُمْ) ولم يقل قد كانت لكم : فالجواب من وجهين : أحدهما : أنّ ما ليس بمؤنث حقيقي ، يجوز تذكيره. والثاني : أنه ردّ المعنى إلى البيان ، فمعناه : قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ ، وأنشدوا :

إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدّنيا لمغرور

وقد سبق معنى «الآية» ، و «الفئة» وكل مشكل تركت شرحه ، فإنك تجده فيما سبق ، والمراد بالفئتين : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة.

وفي قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) قولان : أحدهما : يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفرّاء ، واحتجّ بأنك إذا قلت : عندي ألف دينار ، وأحتاج إلى مثليه ، فإنك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني : أن معناه يرونهم ومثلهم ، قال الزّجّاج : وهو الصحيح.

قوله تعالى : (رَأْيَ الْعَيْنِ) أي : في رأي العين. قال ابن جرير : جاء هذا على مصدر رأيته ، يقال : رأيته رأيا ، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرّائية على ثلاثة أقوال : هي التي ذكرناها في قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) فإن قلنا : إن الفئة الرّائية المسلمون ، فوجهه أنّ المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين ، فرأوهم على ما هم عليه ، ثم نصرهم الله ، وكذلك إن قلنا : إنهم اليهود. وإن قلنا : إنهم المشركون ، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع : «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباريّ : ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفرّاء : ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود ، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) لأنّ العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فإن قيل : كيف يقال : إن المشركين استكثروا المسلمين ، وإنّ المسلمين استكثروا المشركين ، وقد بيّن قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) (١) أنّ الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب : أنهم استكثروهم في حال ، واستقلّوهم في حال ، فإن قلنا : إن الفئة الرّائية المسلمون ، فإنّهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه ، ثم قلّل الله المشركين في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فنصرهم الله بذلك السبب. قال ابن مسعود : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وقال في رواية أخرى : لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا منهم رجلا فقلت : كم كنتم؟ قال : ألفا. وإن قلنا : إنّ الفئة الرّائية المشركون فإنهم استقلّوا المسلمين في حال ، فاجترؤوا عليهم ، واستكثروهم في حال ، فكان ذلك سبب خذلانهم ، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ ، قالوا للمسلمين : كم كنتم؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا : ما كنّا نراكم إلا تضعفون علينا.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) ، أي : يقوّي ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) في الإشارة قولان : أحدهما : أنها

__________________

(١) الأنفال : ٤٤.


ترجع إلى النّصر. والثاني : إلى رؤية الجيش مثليهم. والعبرة : الدلالة الموصلة إلى اليقين ، المؤدّية إلى العلم ، وهي من العبور ، كأنه طريق يعبر به ويتوصّل به المراد. وقيل : العبرة : الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى العلم. والأبصار : العقول والبصائر.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) قرأ أبو رزين العقيليّ وأبو رجاء العطارديّ ، ومجاهد ، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حبّ» بنصب الباء ، وقد سبق في «البقرة» بيان التّزيين. والقناطير : جمع قنطار ، قال ابن دريد : ليست النون فيه أصلية ، وأحسب أنه معرّب. واختلف العلماء : هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه محدود ، ثم فيه أحد عشر قولا :

(١٥٧) أحدها : أنه ألف ومائتا أوقيّة ، رواه أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النّجود ، والحسن في رواية.

(١٥٨) والثاني : أنه اثنا عشر ألف أوقية ، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن أبي هريرة كالقولين ، وفي رواية عن أبي هريرة أيضا : اثنا عشر أوقيّة.

(١٥٩) والثالث : أنه ألف ومائتا دينار ، ذكره الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه العوفيّ عن ابن عباس.

والرابع : أنه اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، والضّحّاك ، كهذا القول ، والّذي قبله. والخامس : أنه سبعون ألف دينار ، روي عن ابن عمر ، ومجاهد. والسادس : ثمانون ألف درهم ، أو مائة رطل من الذّهب ، روي عن سعيد بن المسيّب ، وقتادة. والسابع : أنه سبعة آلاف دينار ، قاله عطاء. والثامن : ثمانية آلاف مثقال ، قاله السّدّيّ. والتاسع : أنه ألف مثقال ذهب أو فضّة ، قاله الكلبيّ. والعاشر : أنه ملء مسك ثور ذهبا ، قاله أبو نضرة ، وأبو عبيدة. والحادي عشر : أن القنطار : رطل من الذّهب ، أو الفضّة ، حكاه ابن الأنباريّ.

____________________________________

(١٥٧) أخرجه الطبري ٦٦٩٨ وإسناده ضعيف جدا. له علتان : علي بن زيد وعنه مخلد بن عبد الواحد ، وهذا الأخير منكر الحديث جدا ، والأول ضعيف. وقد رجح ابن كثير رحمه‌الله فيه الوقف ١ / ٣٥٩ فقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا. وشدة الاختلاف في ذلك يدل على عدم صحة المرفوع أصلا ، وانظر مزيد الكلام عليه في تفسير ابن كثير بتخريجي عند هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» ٤٧٦.

(١٥٨) أخرجه الترمذي ٣٠٢٣ والحاكم ٢ / ٣٠٠ والطبري ٨٣٦٨ وعبد الرزاق في «تفسيره» ٤٩٨ والواحدي ٢٨٥ من حديث أم سلمة ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. قال عبد الرزاق في روايته ، وكذا الترمذي والطبري : عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة. وأما الواحدي فقال : عن سلمة بن عمر رجل من ولد أم سلمة. وصححه الألباني وأورده في صحيح الترمذي ، والله أعلم.

(١٥٩) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٦٦٩٩ عن الحسن مرسلا ، ومع إرساله مراسيل الحسن واهية ، وكرره الطبري ٦٧٠٠ عن الحسن قوله ، وهو الصحيح.


والقول الثاني : أن القنطار ليس بمحدود. وقال الرّبيع بن أنس (١) : القنطار : المال الكثير ، بعضه على بعض ، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحدّ ، وهذا اختيار ابن جرير الطّبريّ. قال ابن الأنباريّ قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمة من المال.

وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها المضعّفة ، قال ابن عباس : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة ، وهذا قول الفرّاء. والثاني : أنها المكمّلة ، كما تقول : بدرة مبدّرة ، وألف مؤلّفة ، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث : أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم ، قاله السّدّيّ.

في المسوّمة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الرّاعية ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد في رواية ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، والرّبيع ، ومقاتل. قال ابن قتيبة : يقال : سامت الخيل ، وهي سائمة : إذا رعت ، وأسمتها وهي مسامة ، وسوّمتها ، فهي مسوّمة : إذا رعيتها ، والمسوّمة في غير هذا : المعلّمة في الحرب بالسّومة وبالسّيماء أي : بالعلامة. والثاني : أنها المعلّمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزّجّاج ، وعن الحسن كالقولين وفي معنى المعلّمة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها معلّمة بالشّية ، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها ، روي عن قتادة. والثاني : بالكيّ ، روي عن المؤرج. والثالث : أنها البلق ، قاله ابن كيسان. والثالث : أنها الحسان ، قاله عكرمة ، ومجاهد.

فأمّا الأنعام ، فقال ابن قتيبة : هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، واحدها نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب : المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نيّة العبد بالتّلبس بها ، فيثاب عليها ، وإنما يتوجّه الذّم إلى سوء القصد فيها.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))

قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) ، روى عطاء بن السّائب عن أبي بكر بن حفص قال : لما نزلت (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) قال عمر : يا ربّ الآن حين زيّنتها؟! فنزلت : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) ووجه الآية أنه خبّر أنّ ما عنده خير ممّا في الدنيا ، وإن كان محبوبا ، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرّضوان فقرأ عاصم ، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه ، برفع الراء في جميع القرآن ، واستثنى يحيى والعليميّ كسر الراء في المائدة في قوله تعالى : (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) (٢) ، وقراء الباقون بكسر الراء ، والكسر لغة قريش. قال الزّجّاج : يقال : رضيت الشيء أرضاه رضى ومرضاة ورضوانا ورضوانا ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا ، فهو يجازيهم على أعمالهم.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٤ / ٣٣ : وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وهذا المعروف عند العرب ومنه قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) أي مالا كثيرا. ومنه الحديث ـ الأثر ـ «إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه») أي صار له قنطار من المال.

(٢) المائدة : ١٦.


(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ) أي : على طاعة الله عزوجل ، وعن محارمه (وَالصَّادِقِينَ) في عقائدهم وأقوالهم (وَالْقانِتِينَ) بمعنى المطيعين لله (وَالْمُنْفِقِينَ) في طاعته. وقال ابن قتيبة يعني : بالنّفقة الصّدقة. وفي معنى استغفارهم قولان : أحدهما : أنه الاستغفار المعروف باللسان ، قاله ابن مسعود ، والحسن في آخرين. والثاني : أنه الصّلاة. قاله مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ومقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سمّيت الصلاة استغفارا ، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السّحر ، فقال إبراهيم بن السّريّ : السّحر : الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر ، فوصفهم الله بهذه الطاعات ، ثم وصفهم بأنهم لشدّة خوفهم يستغفرون.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

(١٦٠) سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشّام قدما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عرفاه بالصّفة ، فقالا : أنت محمّد؟ قال : «نعم». قالا : وأحمد؟ قال : «نعم». قالا : نسألك عن شهادة ، فإن أخبرتنا بها ، آمنّا بك ، فقال : «سلاني». فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله ، فنزلت هذه الآية ، فأسلما ، قاله ابن السّائب.

وقال غيره : هذه الآية ردّ على نصارى نجران فيما ادّعوا في عيسى عليه‌السلام ، وقد سبق ذكر خبرهم في أوّل السّورة. وقال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، وكان لكل حيّ من العرب صنم أو صنمان ، فلما نزلت هذه الآية ، خرّت الأصنام سجّدا. وفي معنى (شَهِدَ اللهُ) قولان : أحدهما : أنه بمعنى قضى وحكم ، قاله مجاهد والفرّاء وأبو عبيدة. والثاني : بمعنى بيّن ، قاله ثعلب والزّجّاج. قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب ، وأموره المحكمة عند خلقه ، أنه لا إله إلا هو. وسئل بعض الأعراب : ما الدليل على وجود الصّانع؟ فقال : إن البعرة تدلّ على البعير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علويّ بهذه اللطافة ، ومركز سفليّ بهذه الكثافة ، أما يدلّان على الصّانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعاصم الجحدريّ (شهداء الله) بضمّ «الشين» وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المدّ ، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى. (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي بالعدل. قال جعفر الصّادق : وإنما كرّر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لأن الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم ، أي قولوا : لا إله إلا هو.

____________________________________

(١٦٠) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسبابه» ١٩٣ عن الكلبي وهو محمد بن السائب ، وتقدم أنه يضع الحديث.


(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الجمهور على كسر «إن» إلا الكسائيّ ، فإنه فتح «الألف» ، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي رزين ، وأبي العالية ، وقتادة. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : لما ادّعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهوديّة ، وادّعت النّصارى أنه لا دين أفضل من النّصرانية ، نزلت هذه الآية. قال الزّجّاج : الدّين : اسم لجميع ما تعبّد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وأن يكون عادتهم ، وبه يجزيهم. وقال شيخنا عليّ بن عبيد الله : الدّين : ما التزمه العبد لله عزوجل. قال ابن قتيبة : والإسلام الدّخول في السّلم ، أي : في الانقياد والمتابعة ، ومثله الاستسلام ، يقال : سلّم فلان لأمرك ، واستسلم ، وأسلم ، كما تقول : أشتى الرجل ، أي : دخل في الشّتاء ، وأربع : دخل في الرّبيع. وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله الرّبيع. والثاني : أنهم النّصارى ، قاله محمّد بن جعفر بن الزّبير. والثالث : أنهم اليهود ، والنّصارى ، قاله ابن السّائب. وقيل : الكتاب هاهنا : اسم جنس بمعنى الكتاب. وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال : أحدها : دينهم. والثاني : أمر عيسى. والثالث : دين الإسلام ، وقد عرفوا صحّته. والرابع : نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد عرفوا صفته. قوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : الإيضاح لما اختلفوا فيه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) قال الزّجّاج : معناه : اختلفوا للبغي ، لا لقصد البرهان ، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى : سريع الحساب.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي : جادلوك ، وخاصموك. قال مقاتل : يعني اليهود ، قال ابن جرير : يعني نصارى نجران في أمر عيسى ، وقال غيرهما : اليهود والنّصارى. (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) قال الفرّاء : معناه : أخلصت عملي ، وقال الزّجّاج : قصدت بعبادتي إلى الله.

قوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة ، وابن شنبوذ عن قنبل ، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزّجّاج : والأحبّ إليّ اتّباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) و (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) و (رَبِّي أَكْرَمَنِ) و (رَبِّي أَهانَنِ). فهو على ضربين : أحدهما : ما كان مع النون ، فإن كان رأس آية ، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ، ويسمّون أواخر الآي الفواصل ، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى :

ومن شانئ كاسف باله

إذا ما انتسبت له أنكرن (١)

وهل يمنعني ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن يأتين

فأمّا إذا لم يكن آخر آية أو قافية ، فالأكثر إثبات الياء ، وحذفها جيد أيضا ، خاصة مع النّونات ، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء ،

__________________

(١) الشانئ : المبغض. كاسف الوجه : عابسه من سوء الحال. والكسوف في الوجه : الصفرة والتغير.


فأما إذا لم تكن النون ، نحو غلامي وصاحبي ، فالأجود إثباتها ، وحذفها عند عدم النون جائز على قلّته ، تقول : هذا غلام ، قد جاء غلامي ، وغلامي. بفتح الياء وإسكانها ، فجاز الحذف ، لأنّ الكسرة تدلّ عليها. قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يريد اليهود والنّصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) بمعنى مشركي العرب ، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى : (أَأَسْلَمْتُمْ) قال الفرّاء : هو استفهام ومعناه الأمر ، كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١).

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأن المراد بها تسكين نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند امتناع من لم يجبه ، لأنه كان يحرص على إيمانهم ، ويتألّم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التّبليغ ، وهذا منسوخ بآية السيف.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : عنى بذلك اليهود والنّصارى. قال ابن عباس : والمراد بآيات الله محمّد والقرآن. وقد تقدّم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء ، والقسط ، والعدل. وقرأ الجمهور (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف. وروى أبو عبيدة بن الجرّاح عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(١٦١) «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا في آخر النهار» فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم ، وإنما وبخ بهذا الذين كانوا في زمن النّبيّ عليه‌السلام لأنهم تولّوا أولئك ، ورضوا بفعلهم. (فَبَشِّرْهُمْ) بمعنى : أخبرهم ، وقد تقدّم شرحه في «البقرة». ومعنى (حَبِطَتْ) : بطلت.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

____________________________________

(١٦١) أخرجه الطبري ٦٧٧٧ وإسناده ضعيف. لضعف محمد بن حفص الحمصي ، ضعفه ابن مندة كما في «الميزان». وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٣٦٣ والبزار ٣٣١٤ «كشف» ومداره على أبي الحسن مولى بني أسد ، وهو مجهول كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٣٤٨ وفيه أيضا محمد بن حمير لين الحديث. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٢١٦٦ : فيه من لم أعرفه اثنان اه. وفي الباب من حديث ابن عباس وفيه «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي .....» أخرجه البيهقي في «الشعب» ٧٨٨٨. وإسناده واه ، فيه محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف متروك.

__________________

(١) المائدة : ٩١.


قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١٦٢) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم : على أيّ دين أنت؟ فقال : على ملة إبراهيم. قالا : فإنّه كان يهوديا. قال : فهلمّوا إلى التّوراة ، فأبيا عليه ، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.

(١٦٣) والثاني : أنّ رجلا وامرأة من اليهود زنيا ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرفعوا أمرهما إلى النّبيّ عليه‌السلام رجاء أن يكون عنده رخصة ، فحكم عليهما بالرّجم ، فقالوا : جرت علينا يا محمّد ، ليس علينا الرّجم. فقال : بيني وبينكم التّوراة ، فجاء ابن صوريا ، فقرأ من التّوراة ، فلمّا أتى على آية الرّجم ، وضع كفّه عليها ، وقرأ ما بعدها ، فقال ابن سلام : قد جاوزها ، ثم قام ، فقرأها ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهوديّين ، فرجما ، فغضب اليهود. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٦٤) والثالث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقال نعمان بن أبي أوفى : هلمّ نحاكمك إلى الأحبار. فقال : بل إلى كتاب الله ، فقال : بل إلى الأحبار ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

(١٦٥) والرابع : أنّها نزلت في جماعة من اليهود ، دعاهم النبيّ إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحقّ بالهدى منك ، وما أرسل الله نبيّا إلّا من بني إسرائيل. قال : فأخرجوا التّوراة ، فإنّي مكتوب فيها أنّي نبيّ ، فأبوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان.

فأما التفسير ، فالنّصيب الذي أوتوه : العلم الذي علموه من التّوراة. وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان : أحدهما : أنه التّوراة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنه القرآن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول الحسن وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال : أحدها : ملّة إبراهيم. والثاني : حدّ الزّنى. رويا عن ابن عباس. والثالث : صحّة دين الإسلام ، قاله السّدّيّ. والرابع : صحّة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مقاتل. فإن قيل : التّولّي هو الإعراض ، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه : أحدها : التأكيد. والثاني : أن يكون المعنى : يتولّون عن الدّاعي ، ويعرضون عمّا دعا إليه. والثالث : يتولّون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحق بقلوبهم. والرابع : أن يكون الذين تولّوا علماءهم ، والذين أعرضوا أتباعهم ، قاله ابن الأنباريّ.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) يعني : الذي حملهم على التّولي والإعراض أنهم قالوا : (لَنْ

____________________________________

(١٦٢) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر كما في «الدر» ١ / ٢٤ والطبري ٦٧٧٨٠ عن ابن عباس. وفيه محمد بن أبي محمد. قال الذهبي : في «الميزان» لا يعرف. وانظر «تفسير القرطبي» ١٦٣٩ بتخريجنا.

(١٦٣) عزاه المصنف ، وكذا البغوي في «تفسيره» ٣٧٣ للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط ، ومر في المقدمة. وأصل هذا الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية ، وسيأتي في بحث التراجم.

(١٦٤) عزاه المصنف للسدي ، وهذا مرسل ، ولم أقف على إسناده فهذا خبر لا حجة فيه.

ـ وكذا الواحدي في «الأسباب» ١٩٤ للسدي بدون إسناد.

(١٦٥) عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان ، وهو متروك كذاب.

ـ ولم يصح في سبب نزول هذه الآية شيء ، إلّا أنه لا ريب أن المراد بالآية اليهود.


تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وقد ذكرناها في «البقرة». و (يَفْتَرُونَ) : يختلقون. وفي الذي اختلقوه قولان : أحدهما : أنه قولهم : لن تمسّنا النار إلا أياما معدودات ، قاله مجاهد ، والزّجّاج. والثاني : قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، قاله قتادة ، ومقاتل.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) معناه : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم (لِيَوْمٍ) أي : لجزاء يوم ، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى : «في».

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٦٦) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما فتح مكة ، ووعد أمّته ملك فارس والرّوم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، وأنس بن مالك.

(١٦٧) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربّه أن يجعل ملك فارس والرّوم في أمّته ، فنزلت هذه الآية ، حكاه قتادة.

والثالث : أن اليهود قالوا : والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

فأما التفسير ، فقال الزّجّاج : قال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم : «اللهمّ» بمعنى «يا الله» ، و «الميم» المشددة زيدت عوضا من «يا» لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة ، ووجدوا اسم الله عزوجل مستعملا ب «يا» إذا لم تذكر الميم ، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «ياء» في أولها والضّمة التي في «الهاء» هي ضمّة الاسم المنادى المفرد. قال أبو سليمان الخطّابيّ : ومعنى «مالك الملك» : أنه بيده ، يؤتيه من يشاء ، قال : وقد يكون معناه : مالك الملوك ، ويحتمل أن يكون معناه : وارث المالك يوم لا يدّعيه مدّع ، كقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ). قوله تعالى :(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) في هذا الملك قولان : أحدهما : أنه النّبوة ، قاله ابن جبير ، ومجاهد. والثاني : أنه المال ، والعبيد ، والحفدة ، ذكره الزّجّاج. وقال مقاتل : تؤتي الملك من تشاء ، يعني محمّدا وأمّته ، وتنزع الملك ممن تشاء ، يعني فارس الرّوم. (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) محمّدا وأمّته (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) فارس والرّوم. وبما ذا يكون هذا العزّ والذّلّ؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : العزّ بالنّصر ، والذلّ بالقهر. والثاني : العزّ بالغنى ، والذلّ بالفقر. والثالث : العزّ بالطّاعة ، والذلّ بالمعصية. قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) قال ابن عباس : يعني النصر والغنيمة ، وقيل : معناه بيدك الخير والشر ، فاكتفى بأحدهما ، لأنه المرغوب فيه.

____________________________________

(١٦٦) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩٧ عن ابن عباس وأنس بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٣٥٠ : ولم أجد له إسنادا. اه. فالخبر ليس بحجة ، بل هو لا شيء لخلوه عن الإسناد.

(١٦٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٦٧٨٧ والواحدي ١٩٨ عن قتادة مرسلا. فهو ضعيف لإرساله.


(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي : تدخل ما نقّصت من هذا في هذا. قال ابن عباس ، ومجاهد : ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر. قال الزّجّاج : يقال : ولج الشيء يلج ولوجا وولجا وولجة. قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ» ، و «لبلد ميت» (١) ، و (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) (٢) ، و (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) (٣) ، و (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) (٤) : كله بالتخفيف. وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) و (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) و (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) (٥) ، وخفّف حمزة ، والكسائيّ غير هذه الحروف. وقرأ نافع : «أو من كان ميّتا» ، و «الأرض الميّتة» ، و «لحم أخيه ميّتا» (٦) ، وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو على : الأصل التثقيل ، والمخفف محذوف منه ، وما مات ، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال. وأنشدوا :

ومنهل فيه الغراب ميت

سقيت منه القوم واستقيت

فهذا قد مات. وقال آخر : (٧)

ليس من مات ، فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

فخفف ما مات ، وشدد ما لم يمت. وكذلك قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٨). ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إخراج الإنسان حيّا من النّطفة ، وهي ميتة. وإخراج النّطفة من الإنسان ، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر ، هذا قول ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والجمهور. والثاني : أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر ، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان ، روى نحو هذا الضّحّاك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء. والثالث : أنه إخراج السّنبلة الحيّة من الحبّة الميّتة ، والنّخلة الحيّة من النّواة الميّتة ، والنواة الميّتة من النّخلة الحيّة ، قاله السّدّيّ. وقال الزّجّاج : يخرج النبات الغضّ من الحبّ اليابس ، والحبّ اليابس من النبات الحيّ النّامي.

قوله تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير تقتير. قال الزّجّاج : يقال للذي ينفق موسعا : فلان ينفق بغير حساب ، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) ، في سبب نزولها أربعة أقوال :

__________________

(١) الأعراف : ٥٧.

(٢) الأنعام : ١٢٢.

(٣) الأنعام : ١٣٩.

(٤) يس : ٣٣.

(٥) فاطر : ٩.

(٦) الحجرات : ١٢.

(٧) هو عدي بن الرّعلاء. كما في «اللسان».

(٨) الزمر : ٣٠.


(١٦٨) أحدها : أن عبادة بن الصّامت كان له حلفاء من اليهود ، فقال يوم الأحزاب : يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

(١٦٩) والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين كانوا يتولّون اليهود ، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظّفر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٧٠) والثالث : أن قوما من اليهود ، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك ، وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الآية. روي عن ابن عباس أيضا.

(١٧١) والرابع : أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودّة لكفار مكة ، فنهاهم الله عزوجل عن ذلك ، هذا قول المقاتلين ، ابن سليمان ، وابن حيّان.

فأما التفسير ، فقال الزّجّاج : معنى قوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن ، أي : لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل في المكان ، كما تقول : زيد دونك ، ولست تريد المكان ، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان ، والخسّة كالاستفال في المكان. ومعنى (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي : فالله بريء منه. قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قرأ يعقوب والمفضّل عن عاصم «تقيّة» بفتح التاء من غير ألف ، قال مجاهد : إلا مصانعة في الدّنيا. قال أبو العالية : التّقاة باللسان لا بالعمل.

فصل : والتّقيّة رخصة ، وليست بعزيمة. قال الإمام أحمد : وقد قيل : إن عرضت على السيف تجيب؟ قال : لا. وقال : إذا أجاب العالم تقيّة ، والجاهل بجهل ، فمتى يتبيّن الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) (١) ، إن شاء الله.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

____________________________________

(١٦٨) ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٢ عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله ، وجويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن عباس. وانظر «تفسير القرطبي» ٤ / ٦٠.

(١٦٩) واه بمرة. ذكره الواحدي ٢٠١ عن الكلبي به ، والكلبي متهم بالكذب وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي فالخبر ساقط.

(١٧٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٦٨٢١ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده ضعيف لجهالة محمد شيخ ابن إسحاق.

(١٧١) عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان. وهو كذاب. وعزاه لمقاتل بن حيان ، وهو ذو مناكير. وذكره البغوي ٢٩١ بدون إسناد.

__________________

(١) النحل : ١٠٦.


قوله تعالى : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) قال ابن عباس : يعني من اتّخاذ الكافرين أولياء.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) قال الزّجّاج : نصب «اليوم» بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) في ذلك اليوم. قال ابن الأنباريّ : يجوز أن يكون متعلّقا بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلّقا بفعل مضمر ، والتقدير : اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان : أحدهما : وجوده مكتوبا في الكتاب. والثاني : وجود الجزاء عليه. والأمد : الغاية. قال الطّرمّاح :

كلّ حي مستكمل عدة العم

ر ومود إذا انقضى أمده

يريد : غاية أجله.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) ، في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١٧٢) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقف على قريش ، وقد نصبوا أصنامهم. فقالوا : يا محمّد إنما نعبد هذه حبّا لله ، ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحّاك عن ابن عباس.

(١٧٣) والثاني : أن اليهود قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، فنزلت هذه الآية ، فعرضها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، فلم يقبلوها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٧٤) والثالث : أن ناسا قالوا : إنّا لنحبّ ربّنا حبّا شديدا ، فأحبّ الله أن يجعل لحبّه علما ، فأنزل هذه الآية ، قاله الحسن ، وابن جريج.

(١٧٥) والرابع : أن نصارى نجران ، قالوا : إنما نقول هذا في عيسى حبّا لله وتعظيما له ، فنزلت هذه الآية ، ذكره ابن إسحاق عن محمّد بن جعفر بن الزّبير ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

____________________________________

(١٧٢) باطل. لا أصل له عن ابن عباس ، فالضحاك لم يلق ابن عباس وهو بدون إسناد كما ذكره الواحدي في «الوسيط» ١ / ٤٢٩ من رواية الضحاك عن ابن عباس فلا حجة فيه وهو منكر ، وعزاه في «الأسباب» ٢٠٣ لابن عباس من طريق جويبر عن الضحاك وجويبر ابن سعيد ، وهو متروك. ليس بشيء. ثم إن هذه السورة مدنية ، والحديث يدل على أن ذلك كان في مكة؟!.

(١٧٣) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٤ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط. الكلبي متهم بالكذب ، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس.

(١٧٤) أخرجه الطبري ٦٨٤٠ عن الحسن ، ومراسيل الحسن واهية. وورد من مرسل ابن جريج ، أخرجه برقم ٦٨٤٢ ومراسيل ابن جريج ساقطة.

(١٧٥) ضعيف. أخرجه الطبري ٦٨٤٤ هكذا مرسلا عن محمد بن جعفر ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٠٥ عن محمد بن جعفر بن الزبير.


قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٧٦) أحدها : أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس.

(١٧٧) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، ونحن أشدّ حبّا لله ممّا تدعونا إليه ، فنزلت (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) ونزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل. والثالث : أنها نزلت في نصارى نجران (١) ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) ، قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونحن على دينهم ، فنزلت هذه الآية. قال الزجّاج : ومعنى اصطفاهم في اللغة : اختارهم ، فجعلهم صفوة خلقه ، وهذا تمثيل بما يرى ، لأن العرب تمثّل المعلوم بالشيء المرئي ، فإذا سمع السّامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا ، فنحن نعاين الشيء الصّافي أنه النقي من الكدر ، فكذلك صفوة الله من خلقه. وفيه ثلاث لغات : صفوة ، وصفوة ، وصفوة. وأمّا آدم فعربيّ وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة». وأما نوح ، فأعجميّ معرّب ، قال أبو سليمان الدّمشقيّ : اسم نوح : السّكن ، وإنما سمي نوحا ، لكثرة نوحه. وفي سبب نوحه خمسة أقوال : أحدها : أنه كان ينوح على نفسه ، قاله يزيد الرّقاشيّ. والثاني : أنه كان ينوح لمعاصي أهله ، وقومه. والثالث : لمراجعته ربّه في ولده. والرابع : لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس : أنه مرّ بكلب مجذوم ، فقال : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه : أعبتني يا نوح أم عبت الكلب؟

وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم من كان على دينه ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : أنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، قاله مقاتل. والثالث : أن المراد ب «آل إبراهيم» هو نفسه ، كقوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) (٢) ، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان : أحدهما : أنه والد مريم ، قاله الحسن ووهب. والثاني : أنه والد موسى وهارون ، قاله مقاتل.

وفي «آله» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عيسى عليه‌السلام ، قاله الحسن. والثاني : أن آله موسى وهارون ، قاله مقاتل. والثالث : أن المراد ب «آله» نفسه ، ذكره بعض المفسّرين. وإنما خصّ هؤلاء بالذّكر ، لأن الأنبياء كلّهم من نسلهم.

وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد اصطفى دينهم على سائر

____________________________________

(١٧٦) هو مكرر الحديث ١٧٣ ، وإسناده ساقط. وليس في هذا الأقوال شيء صحيح ولا حسن ، ولا يلزم في كل آية وجود سبب لنزولها كما يظنه الكلبي ومقاتل وجويبر وغيرهم ، وعامة ما يرويه هؤلاء موضوع.

(١٧٧) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو متروك كذاب.

__________________

(١) هو المتقدم برقم ١٧٥.

(٢) البقرة : ٢٤٨.


الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفرّاء ، والدّمشقيّ. والثاني : اصطفاهم بالنّبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل. والثالث : اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميّزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في «البقرة».

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، قال الزجّاج : نصبها على البدل ، والمعنى : اصطفى ذرّية بعضها من بعض. قال ابن الأنباريّ : وإنما قال : بعضها ، لأن لفظ الذّرّيّة مؤنث ، ولو قال : بعضهم ، ذهب إلى معنى الذّرّيّة. وفي معنى هذه البعضيّة قولان : أحدهما : أن بعضهم من بعض في التّناصر والدّين ، لا في التّناسل ، وهو معنى قول ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنه في التّناسل ، لأن جميعهم ذرّيّة آدم ، ثم ذريّة نوح ، ثم ذريّة إبراهيم ، ذكره بعض أهل التفسير. قال أبو بكر النّقاش : ومعنى قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أن الأبناء ذريّة للآباء ، والآباء ذريّة للأبناء ؛ كقوله تعالى : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١) ، فجعل الآباء ذريّة للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله : ذرأ الله الخلق ، فسمّي الولد للوالد ذريّة ، لأنه ذرئ منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب : ذريّة للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين ، ومثله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ، فأضاف الحبّ إلى الله ، والمعنى : كحبّ المؤمن لله ، ومثله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) ، فأضاف الحبّ إلى الطعام.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥))

قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ، في «إذ» قولان : أحدهما : أنها زائدة ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثاني : أنها أصل في الكلام ، وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أن المعنى : اذكر إذ قالت امرأة عمران ، قاله المبرّد ، والأخفش. والثاني : أن العامل في (إِذْ قالَتِ) معنى الاصطفاء ، فيكون المعنى : اصطفى آل عمران ، إذ قالت امرأة عمران ، واصطفاهم إذ قالت الملائكة : يا مريم ، هذا اختيار الزجّاج. والثالث : أنها من صلة «سميع» تقديره : والله سميع إذ قالت ، وهذا اختيار ابن جرير الطّبريّ. قال ابن عباس : واسم امرأة عمران حنّة ، وهي أمّ مريم ، وهذا عمران بن ماتان ، وليس ب «عمران أبي موسى» ، وليست هذه مريم أخت موسى. وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة. والمحرّر : العتيق. قال ابن قتيبة : يقال : أعتقت الغلام ، وحرّرته : سواء. وأرادت : أي : نذرت أن أجعل ما في بطني محرّرا من التّعبيد للدنيا ، ليعبدك. وقال الزجّاج : كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبّدهم. وقال ابن إسحاق : كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنّت ، فرأت طائرا يطعم فرخا له ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، وقالت : اللهمّ لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدّس ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، وهي حامل. قال القاضي أبو يعلى : والنّذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا ، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته ، وأن يعلّمه القرآن ، والفقه ، وعلم الدّين ، صحّ النّذر.

__________________

(١) يس : ٤١.


(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ، قرأ ابن عامر ، وعاصم إلا حفصا ويعقوب (بما وضعت) بإسكان العين ، وضمّ التاء. وقرأ الباقون بفتح العين ، وجزم التاء ، قال ابن قتيبة : من قرأ بجزم التاء ، وفتح العين ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : إني وضعتها أنثى ، وليس الذّكر كالأنثى ، والله أعلم بما وضعت. ومن قرأ بضم التاء ، فهو كلام متّصل من كلام أمّ مريم.

قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ، من تمام اعتذارها ، ومعناه : لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذّكر ، من خدمته المسجد ، والإقامة فيه ، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس. قال السّدّيّ : ظنّت أن ما في بطنها غلام ، فلما وضعت جارية ، اعتذرت. ومريم : اسم أعجميّ. وفي الرّجيم قولان :

أحدهما : أنه الملعون ، قاله قتادة. والثاني : أنه المرجوم بالحجارة ، كما تقول : قتيل بمعنى مقتول ، قاله أبو عبيدة ، فعلى هذا سمّي رجيما ، لأنه يرمى بالنّجوم.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) ، وقرأ مجاهد (فتقبّلها) بسكون اللام «ربّها» بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدّعاء. قال الزجّاج : الأصل في العربية : فتقبّلها بتقبّل حسن ، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولا يقال : قبلت الشيء قبولا ، ويجوز قبولا : إذا رضيته.(وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، أي : جعل نشوءها نشوءا حسنا ، وجاء «نباتا» على غير لفظ أنبت ، على معنى : نبتت نباتا حسنا. وقال ابن الأنباريّ : لما كان «أنبت» يدلّ على نبت حمل الفعل على المعنى ، فكأنّه قال : وأنبتها ، فنبتت هي نباتا حسنا. قال امرؤ القيس :

فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال

أراد : أي رياضة ، فلما دلّ «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى.

وللمفسرين في معنى النّبات الحسن ، قولان :

أحدهما : أنه كمال النّشوء ، قال ابن عباس : كان تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام.

والثاني : أنه ترك الخطايا ، حدّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب ، كما يصيب بنو آدم.

قوله تعالى : (وَكَفَّلَها) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «كفلها» بفتح الفاء خفيفة ، و «زكرياء» مرفوع ممدود. وروى أبو بكر عن عاصم : تشديد الفاء ، ونصب «زكرياء» ، وكان يمدّ «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر. وروى حفص عن عاصم : تشديد الفاء و «زكريا» مقصور في كل القرآن. وكان حمزة والكسائيّ يشدّدان و «كفّلها» ، ويقصران «زكريا» في كل القرآن. فأما «زكريا» فقال الفرّاء : فيه ثلاث لغات : أهل الحجاز يقولون : هذا زكريا قد جاء ، مقصور ، وزكرياء ، ممدود ، وأهل نجد يقولون : زكري ، فيجرونه ، ويلقون الألف. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ ، عن ابن


دريد ، قال : زكريا اسم أعجميّ ، يقال : زكريّ ، وزكرياء ممدود ، وزكريا مقصور. وقال غيره : وزكري بتخفيف الياء ، فمن قال : زكرياء بالمدّ ، قال في التّثنية : زكرياوان ، وفي الجمع زكرياوون ، ومن قال : زكريا بالقصر ، قال في التّثنية زكريّان كما نقول : مدنيّان ، ومن قال : زكري بتخفيف الياء ، قال في التثنية : زكريان الياء خفيفة ، وفي الجمع : زكرون بطرح الياء.

الإشارة إلى كفالة زكريا مريم

قال السّدّيّ : انطلقت بها أمّها في خرقها ، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم ، فقال زكريا وهو نبيّهم يومئذ : أنا أحقّكم بها ، عندي أختها ، فأبوا ، وخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، فجرت الأقلام ، وثبت قلم زكريا ، فكفلها ، قال ابن عباس : كانوا سبعة وعشرين رجلا ، فقالوا : نطرح أقلامنا ، فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها ، فصعد قلم زكريا ، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه ، وعلى قول السّدّيّ بوقوفه في جريان الماء. وقال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ، ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، وكانت إذا حاضت ، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أمّ يحيى ، فإذا طهرت ، ردّها إلى بيت المقدس. والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة ، وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة ، لأجل أن أمها ماتت وكانت خالتها عنده. فلما بلغت ، أدخلوها الكنيسة لنذر أمّها ، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة ، لأجل سنة أصابتهم. فقال محمد بن إسحاق : كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة ، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده ، فقالوا : ونحن أيضا كذلك ، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا ، فخرج السهم على جريج النّجار ، وكان فقيرا ، وكان يأتيها باليسير ، فينمى ، فدخل زكريا ، فقال : ما هذا على قدر نفقة جريج ، فمن أين هذا؟ قالت : هو من عند الله. والصحيح ما عليه الأكثرون ، وأن القوم تشاحّوا على كفالتها ، لأنها كانت بنت سيّدهم وإمامهم عمران ، كذلك قال قتادة في آخرين ، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها.

فأما المحراب فقال أبو عبيدة : المحراب سيّد المجالس ، ومقدّمها ، وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد. وقال الأصمعيّ : المحراب هاهنا : الغرفة. وقال الزجّاج : المحراب في اللغة : الموضع العالي الشريف. قال الشاعر (١) :

ربّة محراب إذا جئتها

لم ألقها أو أرتقي سلّما

قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) ، قال ابن عباس : ثمار الجنة ، فاكهة الصّيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصّيف ، وهذا قول الجماعة. قوله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا) أي : من أين؟ قال الرّبيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب (٢) ، فإذا دخل وجد عندها رزقا. وقال الحسن : لم ترتضع ثديا قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنّة ، فيقول زكريا : أنّى لك هذا؟ فتقول : هو من عند الله ، فتكلّمت وهي صغيرة ، وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون

__________________

(١) هو وضّاح اليمن ـ واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل.

(٢) هذا من الإسرائيليات المنكرة ، فلما ذا هذه الأبواب السبعة؟!!!.


قوله لها : أنّى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها. وما عليه الجمهور أصحّ. والحساب في اللغة : التّقتير والتّضييق.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))

قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) قال المفسرون : لما عاين زكريا هذه الآية المعجبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها ، طمع في الولد على الكبر. و (مِنْ لَدُنْكَ) بمعنى : من عندك. والذرية ، تقال للجمع ، وتقال للواحد ، والمراد بها هاهنا : الواحد. قال الفرّاء : وإنما قال : طيّبة ، لتأنيث الذريّة ، والمراد بالطّيبة : النّقيّة الصالحة. والسّميع : بمعنى السّامع. وقيل : أراد مجيب الدّعاء.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩))

قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «فنادته» بالتاء ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «فناداه» بألف ممالة ، قال أبو عليّ : هو كقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ) (١). وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس : «فناداه» بألف. وفي الملائكة قولان : أحدهما : جبريل وحده ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل ، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، تقول ركبت في السّفن ، وسمعت هذا من الناس. والثاني : أنهم جماعة من الملائكة ، وهو مذهب قوم ، منهم ابن جرير الطّبريّ. وفي المحراب قولان : أحدهما : أنه المسجد. والثاني : أنه قبلة المسجد. وفي تسمية محراب الصّلاة محرابا ، ثلاثة أقوال : أحدها : لانفراد الإمام فيه ، وبعده من الناس ، ومنه قولهم : فلان حرب لفلان : إذا كان بينهما مباغضة ، وتباعد ، ذكره ابن الأنباريّ عن أبيه ، عن أحمد بن عبيد. والثاني : أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن ، وأشرف المسجد مقام الإمام. والثالث : أنه من الحرب ، فالمصلّي محارب للشيطان.

قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى : فنادته الملائكة بأن الله ، فلمّا حذف الجارّ منها ، وصل الفعل إليها ، فنصبها. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بكسر «إنّ» فأضمر القول. والتقدير : فنادته ، فقالت : إن الله يبشّرك. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يبشّرك» بضم الياء ، وفتح الباء ، والتشديد في جميع القرآن إلا في «حم عسق» : (يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) (٢) فإنهما فتحا الياء وضما الشين ، وخففاها. فأمّا نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، فشدّدا كلّ القرآن. وقرأ حمزة : «يبشر» خفيفا في كل القرآن ، إلا قوله تعالى : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (٣). وقرأ الكسائيّ «يبشر» مخففة في خمسة مواضع ، في (آل عمران) في قصة زكريا ، وقصة مريم ، وفي بني (إسرائيل) وفي (الكهف) وفي (حم عسق) ، قال الزجّاج : وفي «يبشرك» ثلاث لغات : أحدها : يبشّرك بفتح الباء وتشديد الشين. والثانية : «يبشرك» بإسكان الباء ، وضم الشين. والثالثة : «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء ، فمعنى «يبشّرك» بالتشديد

__________________

(١) يوسف : ٣٠.

(٢) الشورى : ٢٣.

(٣) الحجر : ٥٤.


و «يبشرك» بضم الياء : البشارة. ومعنى «يبشرك» بفتح الياء : يسرّك ويفرحك ، يقال : بشرت الرجل أبشره ، : إذا أفرحته ، وبشر الرجل يبشر : وأنشد الأخفش والكسائيّ :

وإذا لقيت الباهشين إلى النّدى

غبرا أكفّهم بقاع ممحل

فأعنهم وابشر بما بشروا به

وإذا هم نزلوا بضنك فانزل (١)

فهذا على بشر يبشر : إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ، ومنه قولهم : يلقاني ببشر ، أي : بوجه منبسط.

وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال : أحدها : لأن الله تعالى أحيا به عقر أمّه. قاله ابن عباس. والثاني : لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان. قاله قتادة. والثالث : لأنه أحياه بين شيخ وعجوز ، قاله مقاتل. والرابع : لأنه حييّ بالعلم والحكمة التي أوتيها ، قاله الزجّاج. والخامس : لأن الله أحياه بالطاعة ، فلم يعص ، ولم يهمّ ، قاله الحسن بن الفضل.

وفي «الكلمة» قولان : أحدهما : أنها عيسى ، وسمّي كلمة ، لأنه بالكلمة كان ، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة والسّدّيّ ، ومقاتل ، وقيل : إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقتل يحيى قبل رفع عيسى. والثاني : أن الكلمة كتاب الله وآياته ، وهو قول أبي عبيدة في آخرين. ووجهه أن العرب تقول : أنشدني فلان كلمة ، أي : قصيدة.

وفي معنى السّيد ثمانية أقوال : أحدها : أنه الكريم على ربّه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنه الحليم التّقيّ ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : أنه الحكيم ، قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وأبو الشّعثاء والرّبيع ومقاتل. والرابع : أنه الفقيه العالم ، قاله سعيد بن المسيّب. والخامس : أنه التّقي ، رواه سالم عن ابن جبير. والسادس : أنه الحسن الخلق ، رواه أبو روق عن الضّحّاك. والسابع : أنه الشّريف ، قاله ابن زيد. والثامن : أنه الذي يفوق قومه في الخير ، قاله الزجّاج. وقال ابن الأنباريّ : السّيّد هاهنا الرّئيس ، والإمام في الخير.

فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة : هو الذي لا يأتي النساء ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كأنه محصور عنهنّ ، أي : محبوس عنهنّ. وأصل الحصر : الحبس. ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول» : ركوب بمعنى مركوب ، وحلوب بمعنى محلوب ، وهيوب بمعنى مهيب ، واختلف المفسرون لما ذا كان لا يأتي النّساء؟ على أربعة أقوال : أحدها : أنه لم يكن له ما يأتي به النّساء.

(١٧٨) فروى عمرو بن العاص عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلّ بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا

____________________________________

(١٧٨) ضعيف جدا ، والصحيح موقوف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير ١ / ٣٦٩ من حديث عمرو بن العاص مرفوعا. وقال ابن كثير : هذا غريب جدا ، ثم كرره ابن أبي حاتم موقوفا وهو أصح من المرفوع وأخرجه من حديث أبي هريرة اه. قلت وفي إسناد حديث أبي هريرة حجاج بن سليمان قال أبو زرعة : منكر الحديث.

__________________

(١) البيتان لعبد قيس بن خفاف البرجمي كما ورد في «لسان العرب» مادة «بشر». وبشر الرجل : فرح. والبهش : المسارعة إلى أخذ الشيء ، ورجل باهش وبهوش. والقاع : الأرض الحرّة الطين التي لا يخالطها رمل فيشرب ماءها. الممحل : من المحل الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض.


ما كان من يحيى بن زكريّا» قال : ثم دلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عودا صغيرا ، ثم قال : «وذلك أنّه لم يكن له ما للرّجال إلا مثل هذا العود ، ولذاك سمّاه الله سيّدا وحصورا» وقال سعيد بن المسيّب : كان له كالنّواة.

والثاني : أنه كان لا ينزل الماء ، قاله ابن عباس والضّحّاك. والثالث : أنه كان لا يشتهي النساء ، قاله الحسن وقتادة والسّدّيّ. والرابع : أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ، ذكره الماورديّ (١).

قوله تعالى : (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن الأنباريّ : معناه : من الصّالحي الحال عند الله.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون؟!. قال الكميت :

أنّى ومن أين آبك الطّرب (٢)

قال العلماء ، منهم الحسن ، وابن الأنباريّ ، وابن كيسان : كأنه قال : من أيّ وجه يكون لي الولد؟ أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام ، لا على وجه الشّكّ ، قال الزجّاج : يقال : غلام بيّن الغلوميّة ، وبيّن الغلاميّة ، وبيّن الغلومة. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : الغلام : فعال ، من الغلمة ، وهي شدّة شهوة النّكاح ، ويقال للكهل : غلام. قالت ليلى الأخيليّة تمدح الحجّاج :

غلام إذا هزّ القناة سقاها (٣)

وكأن قولهم للكهل : غلام ، أي : قد كان مرّة غلاما. وقولهم للطّفل : غلام على معنى التفاؤل ، أي : سيصير غلاما. قال : وقيل : الغلام الطار الشارب ، ويقال للجارية : غلامة. قال الشاعر (٤) :

يهان لها الغلامة والغلام

قوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي : وقد بلغت الكبر ، قال الزجّاج : كل شيء بلغته فقد بلغك. وفي سنّه يومئذ ستة أقوال : أحدها : أنه كان ابن مائة وعشرين سنة ، وامرأته بنت ثمان وتسعين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه كان ابن بضع وسبعين سنة ، قاله قتادة. والثالث : ابن خمس وسبعين ، قاله

____________________________________

انظر الميزان ، ورجّح السيوطي في «الدر» ٢ / ٢٢ الوقف فيه ومع ذلك هو منكر ، وهو من الإسرائيليات ، فإن ابن عمرو روى عن أهل الكتاب ، وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» ١٦٦٦ ، ويأتي تفصيل ذلك في سورة مريم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٦١ : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان (حصورا). معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها ، معصوم عن الفواحش والقاذورات. ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا عليه‌السلام (هب لي من لدنك ذرية طيبة) كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(٢) صدره : من حيث لا صبوة ولا ريب.

(٣) صدره : شفاها من الداء العضال الذي بها.

(٤) هو أوس بن غلفاء الهجيمي. وصدر بيته : ومركضة صريحيّ أبوها.


مقاتل. والرابع : ابن سبعين ، حكاه فضيل بن غزوان. والخامس : ابن خمس وستين. والسادس : ابن ستين ، حكاهما الزجّاج. قال اللغويون : والعاقر من الرّجال والنّساء : الذي لا يأتيه الولد ، وإنما قال : «عاقر» ولم يقل : عاقرة ، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث ، والمذكّر فيه كالمستعار ، فأجري مجرى «طالق» و «حائض» ، هذا قول الفرّاء.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : علامة على وجود الحمل. وفي علّة سؤاله «آية» قولان : أحدهما : أن الشيطان جاءه ، فقال : هذا الذي سمعت من صوت الشيطان ، ولو كان من وحي الله ، لأوحاه إليك ، كما يوحي إليك غيره ، فسأل الآية ، ذكره السّدّيّ عن أشياخه. والثاني : أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر ، وليتعجّل السرور ، لأن شأن الحمل لا يتحقّق بأوّله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام. فأما «الرّمز» فقال الفرّاء : الرّمز بالشّفتين ، والحاجبين ، والعينين ، وأكثره في الشّفتين. قال ابن عباس : جعل يكلّم الناس بيده ، وإنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذّكر لله تعالى. وقال ابن زيد : كان يذكر الله ، ويشير إلى الناس. وقال عطاء بن السّائب : اعتقل لسانه من غير مرض. وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل. وقال قتادة ، والرّبيع بن أنس : كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة.

قوله تعالى : (وَسَبِّحْ) قال مقاتل : صلّ. قال الزجّاج : يقال : فرغت من سبحتي ، أي : من صلاتي. وسمّيت الصلاة تسبيحا ، لأنّ التّسبيح تعظيم الله ، وتبرئته من السوء ، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرّئه من السّوء. قوله تعالى : (بِالْعَشِيِ) العشي : من حين نزول الشمس إلى آخر النهار (وَالْإِبْكارِ) ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضّحى : قال الشاعر :

فلا الظّلّ في برد الضّحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ يذوق

قال الزجّاج : يقال : أبكر الرجل يبكر إبكارا ، وبكّر يبكّر تبكيرا ، وبكر يبكر في كل شيء تقدّم فيه.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) ، قال جماعة من المفسرين : المراد بالملائكة : جبريل وحده ، وقد سبق معنى الاصطفاء. وفي المراد بالتّطهير هاهنا أربعة أقوال : أحدها : أنه التّطهير من الحيض ، قاله ابن عباس. وقال السّدّيّ : كانت مريم لا تحيض. وقال قوم : من الحيض والنّفاس. والثاني : من مسّ الرجال ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : من الكفر ، قاله الحسن ومجاهد. والرابع : من الفاحشة والإثم ، قاله مقاتل. وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال : أحدها : أنه تأكيد للأول. والثاني : أن الأوّل للعبادة. والثاني لولادة عيسى عليه‌السلام. والثالث : أن الاصطفاء الأوّل اختيار مبهم ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين. والرابع : أنه لما أطلق الاصطفاء الأول ، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. قال ابن


عباس ، والحسن ، وابن جريج : اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباريّ : وهذا قول الأكثرين.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) قد سبق شرح القنوت في «البقرة» ، وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال : أحدها : أنه العبادة ، قاله الحسن. والثاني : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد. والثالث : الطاعة ، قاله قتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والرابع : الإخلاص ، قاله سعيد بن جبير.

وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال : أحدها : أن الواو لا تقتضي التّرتيب ، وإنما تؤذن بالجمع ، فالركوع مقدّم ، ذكره الزجّاج في آخرين. والثاني : أن المعنى استعملي السجود في حال ، والركوع في حال ، لا أنهما يجتمعان في ركعة ، فكأنه حثّ لها على فعل الخير. والثالث : أنه مقدّم ومؤخّر ، والمعنى : اركعي واسجدي ، كقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (١) ذكرهما ابن الأنباريّ. والرابع : أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السّجود على الرّكوع ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. قال مقاتل : ومعناه اركعي مع المصلّين قرّاء بيت المقدس. قال مجاهد : سجدت حتى قرحت.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم من قصّة زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم. والأنباء : الأخبار. والغيب : ما غاب عنك. والوحي : كل شيء دللت به من كلام أو كتاب ، أو إشارة ، أو رسالة ، قاله ابن قتيبة. والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونّقة. وفي الأقلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنها التي يكتب بها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسّدّيّ. والثاني : أنها العصيّ ، قاله الرّبيع بن أنس. والثالث : أنها القداح ، وهو اختيار ابن قتيبة ، وكذلك قال الزجّاج : هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة. وإنما قيل للسّهم : القلم ، لأنه يقلّم ، أي : يبرى. وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء ، فقد قلّمته ، ومنه القلم الذي يكتب به ، لأنه قلّم مرة بعد مرة ، ومنه : قلّمت أظفاري. قال : ومعنى : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) لينظروا أيّهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها. ومعنى (لَدَيْهِمْ) : عندهم. وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا.

وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قول الله له : «كن» فكان ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى ، حكاه أبو سليمان. والثالث : أن الكلمة اسم لعيسى ، وسمّي كلمة ، لأنه كان عن الكلمة. وقال القاضي أبو يعلى : لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى. وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال : أحدها : أنه لم يكن لقدمه أخمص ، والأخمص : ما يتجافى عن الأرض من القدم ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ ، رواه

__________________

(١) آل عمران : ٥٥.


الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد. والرابع : أن معنى المسيح : الصّدّيق ؛ قاله مجاهد ، وإبراهيم النّخعيّ ، وذكره اليزيديّ. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : ومعنى هذا أن الله مسحه ، فطهّره من الذنوب. والخامس : أنه كان يمسح الأرض أي : يقطعها ، ذكره ثعلب. وبيانه : أنه كان كثير السياحة. والسادس : أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وحكاه ابن القاسم. وقال أبو عبيد : المسيح في كلام العرب على معنيين : أحدهما : المسيح الدّجّال ، والأصل فيه : الممسوح ، لأنه ممسوح أحد العينين. والمسيح عيسى ، وأصله بالعبرانية «مشيحا» بالشين ، فلما عرّبته العرب ، أبدلت من شينه سينا ، كما قالوا : موسى ، وأصله بالعبرانية موشى. قال ابن الأنباريّ : وإنما بدأ بلقبه ، فقال : المسيح عيسى ابن مريم ، لأن المسيح أشهر من عيسى ، لأنه قلّ أن يقع على سميّ يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدّمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم. فأما قوله : عيسى ابن مريم ، فإنما نسبه إلى أمّه لينفي ما قاله عنه الملحدون من النّصارى ، إذ أضافوه إلى الله تعالى.

قوله تعالى : (وَجِيهاً) قال ابن زيد : الوجيه في كلام العرب : المحبّب المقبول. وقال ابن قتيبة : الوجيه : ذو الجاه. وقال الزجّاج : هو ذو المنزلة الرّفيعة عند ذوي القدر والمعرفة ، يقال : قد وجه الرجل يوجه وجاهة ، ولفلان جاه عند الناس ، أي : منزلة رفيعة. قوله تعالى : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال قتادة : عند الله يوم القيامة. والمهد : مضجع الصّبيّ في رضاعه ، وهو مأخوذ من التّمهيد ، وهو التّوطئة. وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان : أحدهما : لتبرئة أمّه مما قذفت به. والثاني : لتحقيق معجزته الدّالة على نبوّته. قال ابن عباس : تكلم ساعة في مهده ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النّطق. (وَكَهْلاً) قال : ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، ثم رفعه الله. وقال وهب بن منبّه : جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة ؛ فمكث في نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله. وقال ابن الأنباريّ : كان عليه‌السلام قد زاد على الثلاثين ، ومن أربى عليها ، فقد دخل في الكهولة. والكهل عند العرب : الذي قد جاوز الثلاثين ، وإنما سمّي الكهل كهلا ، لاجتماع قوته ، وكمال شبابه ، وهو من قولهم : قد اكتهل النّبات. وقال ابن فارس : الكهل : الرجل حين وخطه الشّيب. فإن قيل : فقد علم أن الكهل يتكلّم ، فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره ، أي : أنه يبلغ الكهولة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : (وَكَهْلاً) قال : ذلك بعد نزوله من السماء. والثاني : أنه أخبرهم أن الزمان يؤثّر فيه ، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال ، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التّغير ، ذكره ابن جرير الطّبريّ. والثالث : أن المراد بالكهل : الحليم ، قاله مجاهد.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) في علّة قولها هذا قولان : أحدهما : أنها قالت هذا تعجّبا واستفهاما ، لا شكّا وإنكارا ، على ما أشرنا إليه في قصة زكريّا ، وعلى هذا الجمهور. والثاني : أن الذي خاطبها كان جبريل ، وكانت تظنّه آدميا يريد بها سوءا ، ولهذا قالت : (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) فلما بشّرها


لم تتيقّن صحّة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) ، قاله ابن الأنباريّ. قوله تعالى : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي : ولم يقربني زوج. والمسّ : الجماع ، قاله ابن فارس. وسمّي البشر بشرا ، لظهورهم ، والبشرة : ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض : أخرجت نباتها. وبشرت الأديم : إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصّبح : أوائله. قال : يعني جبريل : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : بسبب ، وبغير سبب. وباقي الآية مفسّر في «البقرة».

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) قرأ الأكثرون «ونعلمه» بالنون. وقرأ نافع ، وعاصم بالياء ، فعطفاه على قوله «يبشرك». وفي الكتاب قولان : أحدهما : أنه كتب النّبيين وعلمهم ، قاله ابن عباس. والثاني : الكتابة ، قاله ابن جريج ومقاتل. قال ابن عباس : والحكمة الفقه وقضاء النّبيين.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَرَسُولاً) قال الزجّاج : ينتصب على وجهين : أحدهما : ونجعله رسولا ، والاختيار عندي : ويكلّم النّاس رسولا.

قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ) قرأ الأكثرون «أنّي» بالفتح ، فجعلوها بدلا من آية ، فكأنه قال : قد جئتكم بأنّي أخلق ، وقرأ نافع بالكسر ، قال أبو عليّ (١) : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفا. والثاني : أنه فسّر الآية بقوله : إني أخلق ، أي : أصوّر وأقدر. قال ابن عباس : أخذ طينا ، وصنع منه خفّاشا ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير ، ويقال : لم يصنع غير الخفّاش ، ويقال : إنّ بني إسرائيل نعتوه بذلك ؛ لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال لهم : ما ذا تريدون؟ قالوا : الخفّاش. فسألوه أشدّ الطير خلقا ، لأنه يطير من غير ريش. وقال وهب : كان الذي صنعه يطير ما دام النّاس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليتميّز فعل الخلق من فعل الخالق. والأكثرون قرءوا (فَيَكُونُ طَيْراً) وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) «طائرا» قال أبو عليّ : حجّة الجمهور قوله تعالى : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ولم يقل : كهيئة الطائر. ووجهة قراءة نافع ، أنه أراد : يكون ما أنفخ فيه ، أو ما أخلقه ، طائرا.

وفي «الأكمه» أربعة أقوال : أحدها : أنه الذي يولد أعمى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وسعيد عن قتادة ، وبه قال اليزيديّ ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : أنه الأعمى ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس ، ومعمر عن قتادة ، وبه قال الحسن ، والسّدّيّ ، وحكى الزجّاج عن الخليل أن الأكمه : هو الذي يولد أعمى ، وهو الذي يعمى ، وإن كان بصيرا. والثالث : أنه الأعمش ، قاله عكرمة. والرابع : أنه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، قاله مجاهد والضّحّاك.

__________________

(١) هو الفارسي النحوي صاحب كتاب «الحلبيات» في اللغة والأدب.


والأبرص : الذي به وضح. وكان الغالب على زمان عيسى عليه‌السلام ، علم الطّب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص ، وكان ذلك دليلا على صدقه. قال وهب : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا ، وإنما كان يداويهم بالدّعاء. وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموتى. وعن ابن عباس : أن الأربعة كلّهم بقي حتى ولد له ، إلا سام بن نوح.

قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) قال سعيد بن جبير : كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون ، ويقول للغلام : يا غلام إن أهلك قد هيّئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد : بما أكلتم البارحة ، وبما خبّأتم منه. وعلى هذا المفسرون ، إلا أن قتادة كان يقول : وأنبّئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدّخرون منها ، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها ، ولا يدّخروا ، فلما خانوا ، مسخوا خنازير.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) قال الزجّاج : نصب «مصدقا» على الحال ، أي : وجئتكم مصدّقا (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) قال قتادة : كان قد حرّم عليهم موسى الإبل والثّروب (١) وأشياء من الطّير ، فأحلّها عيسى. قوله تعالى : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) أي : بآيات تعلمون بها صدقي ؛ وإنما وحّد ، لأنّ الكلّ من جنس واحد (مِنْ رَبِّكُمْ) أي : من عند ربّكم.

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي : علم. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : يقال : أحسست بالشيء ، وحسست به ، وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ ، إنما الصواب «المحسّات» فأما المحسوسات ، فهي المقتولات ، يقال : حسّه : إذا قتله. والأنصار : الأعوان. و «إلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة ، قال الزجّاج : وإنما حسنت في موضع «مع» لأنّ «إلى» غاية و «مع» تضمّ الشيء بالشيء. قال ابن الأنباريّ : ويجوز أن يكون المعنى : من أنصاري إلى أن أبيّن أمر الله. واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريّين ، فقال مجاهد : لما كفر به قومه ، وأرادوا قتله ، استنصر الحواريّين. وقال غيره : لما كفر به قومه ، وأخرجوه من قريتهم ، استنصر الحواريّين. وقيل : استنصرهم ، لإقامة الحق ، وإظهار الحجّة. والجمهور على تشديد «ياء» الحواريّين. وقرأ الجونيّ ، والجحدريّ ، وأبو حياة : الحواريون بتخفيف الياء.

وفي معنى الحواريّين أقوال : أحدها : أنهم الخواصّ الأصفياء ، قال ابن عباس : الحواريّون : أصفياء عيسى. وقال الفرّاء : كانوا خاصّة عيسى. وقال الزجّاج : الحواريّون في اللغة : الذين أخلصوا ،

__________________

(١) في «اللسان» : الثّرب : شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء ، وجمعه ثروب.


ونقوا من كل عيب ، وكذلك الدّقيق : الحوّاريّ ، إنما سمّي بذلك ، لأنه ينقى من لباب البرّ وخالصه. قال حذّاق اللغويين : الحواريّون : صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم. ويقال : عين حوراء : إذا اشتدّ بياضها ، وخلص ، واشتدّ سوادها ، ولا يقال : امرأة حوراء ، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء. والثاني : أنهم البيض الثياب ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سمّوا بذلك ، لبياض ثيابهم. والثالث : أنهم القصّارون ، سمّوا بذلك ، لأنهم كانوا يحوّرون الثياب ، أي : يبيّضونها. قال الضّحّاك ، ومقاتل : الحواريّون : هم القصّارون. قال اليزيديّ : ويقال للقصّارين : الحواريّون ، لأنهم يبيّضون الثياب ، ومنه سمّي الدقيق : الحوّاريّ ، والعين الحوراء : النّقيّة المحاجر. والرابع : الحواريّون : المجاهدون. وأنشدوا :

ونحن أناس يملأ البيض هامنا

ونحن حواريّون حين نزاحف

جماجمنا يوم اللقاء تراسنا

إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف (١)

والخامس : الحواريّون : الصّيّادون. والسادس : الحواريّون : الملوك (٢) ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباريّ. قال ابن عباس : عدد الحواريّين اثنا عشر رجلا. وفي صناعتهم قولان : أحدهما : أنهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنهم كانوا يغسلون الثياب ، قاله الضّحّاك ، وأبو أرطأة.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) هذا قول الحواريّين. والذي أنزل : الإنجيل. والرّسول : عيسى. وفي المراد بالشّاهدين خمسة أقوال : أحدها : أنهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، رواه عكرمة عن ابن عباس (٣). والثاني : أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم الأنبياء ، لأن كلّ نبيّ شاهد أمّته ، قاله عطاء. والرابع : أن الشّاهدين : الصّادقون ، قاله مقاتل. والخامس : أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتّصديق. فمعنى الآية : واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا ، هذا قول الزجّاج.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) قال الزجّاج : المكر من الخلق : خبث وخداع ، ومن الله عزوجل : المجازاة ، فسمّي باسم ذلك ، لأنه مجازاة عليه ، كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٤) ، (وَاللهُ

__________________

(١) في «اللسان» : الحنف : الاعوجاج في الرّجل.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٦٥ : والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبي حواريّ وحواري الزبير».

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٦٥ : قوله (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس. وهذا إسناد جيد اه.

ـ قلت : ولعل الراجح قول الزجاج وهو الأخير ، فإنه عامّ شامل.

(٤) البقرة : ١٥.


خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، لأن مكره مجازاة ، ونصر للمؤمنين. قال ابن عباس : ومكرهم ، أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، فدخل خوخة (١) ، فدخل رجل منهم ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم ، ظنّوه عيسى ، فقتلوه.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قال ابن قتيبة : التّوفّي ، من استيفاء العدد يقال :

توفّيت ، واستوفيت ، كما يقال : تيقّنت الخبر ، واستيقنته ، ثم قيل للموت : وفاة ، وتوفّ. وأنشد أبو عبيدة (٢) :

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد

ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد

ولا توفّاهم قريش في العدد أي : لا تجعلهم وفاء لعددها ، والوفاء : التّمام. وفي هذا التّوفّي قولان : أحدهما : أنه الرّفع إلى السماء. والثاني : أنه الموت. فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم ولا تأخير ، ويكون معنى «متوفّيك» قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا ، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وابن قتيبة ، واختاره الفرّاء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (٣) ، أي : رفعتني إلى السماء من غير موت ، لأنّهم إنما بدّلوا بعد رفعه ، لا بعد موته. وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير ، وتقديره : إنّي رافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا ، ومتوفّيك بعد ذلك ، هذا قول الفرّاء ، والزّجّاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتّوفّي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته (٤). قال سعيد بن المسيّب : رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مقاتل : رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان. وقيل : عاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين. ويقال : ماتت قبل رفعه.

قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه قولان : أحدهما : أنه رفعه من بين أظهرهم. والثاني : منعهم من قتله (٥). وفي الذين اتبعوه قولان : أحدهما : أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليه‌السلام ، لأنهم صدّقوا بنبوّته ، وأنه روح الله وكلمته ، وهذا قول قتادة ، والرّبيع ، وابن السّائب. والثاني :

__________________

(١) في «اللسان» : الخوخة : مخترق ما بين كل دارين لم ينصب عليها باب.

(٢) الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان» مادة (وفي)

(٣) المائدة : ١١٧.

(٤) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٦٦ : قال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ). وقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها). وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا قام من النوم : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال : في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».

(٥) وقع في المطبوع : قبله ، والتصويب من «تفسير الماوردي» ١ / ٣٩٧.


أنهم النّصارى ، فهم فوق اليهود ، واليهود مستذلّون مقهورون ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يعني الدّين.

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦))

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : هم اليهود والنّصارى. وعذابهم في الدنيا بالسّيف والجزية ، وفي الآخرة بالنّار.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧))

قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) قرأ الأكثرون بالنون ، وقرأ الحسن ، وقتادة ، وحفص عن عاصم : «فيوفيهم» بالياء معطوفا على قوله تعالى (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى).

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) يعني ما جرى من القصص. (مِنَ الْآياتِ) يعني الدّلالات على صحة رسالتك ، إذ كانت أخبارا لا يعلمها أميّ. (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) قال ابن عباس : هو القرآن. قال الزجّاج : معناه : ذو الحكمة في تأليفه ونظمه ، وإبانة الفوائد منه.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩))

قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) قال أهل التفسير : سبب نزول هذه الآية ، مخاصمة وفد نجران من النّصارى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في أمر عيسى ، وقد ذكرناه في أول السورة (١). فأما تشبيه عيسى بآدم ، فلأنهما جميعا من غير أب.

وقوله تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) يعني : آدم. قال ثعلب : وهذا تفسير لأمر آدم. وليس بحال. قوله تعالى : (ثُمَّ قالَ لَهُ) يعني آدم ، وقيل لعيسى (كُنْ فَيَكُونُ) أي : فكان : فأريد بالمستقبل الماضي ، كقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) (٢) أي : ما تلت.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قال الزّجّاج : الحقّ مرفوع على خبر ابتداء محذوف ، المعنى : الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحقّ من ربّك (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي : الشّاكّين. والخطاب للنبيّ خطاب للخلق ، لأنه لم يشك.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) في هاء «فيه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى عيسى. والثاني :

__________________

(١) تقدم برقم ١٥٣.

(٢) البقرة : ١٠٢.


إلى الحق. والعلم : البيان والإيضاح.

قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا) قال ابن قتيبة : تعال : تفاعل ، من علوت ، ويقال للاثنين من الرجال والنساء : تعاليا ، وللنساء : تعالين. قال الفرّاء : أصلها من العلوّ ، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها ، صارت عندهم بمنزلة «هلمّ» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل ، وهو فوق شرف : تعال ، أي : اهبط. وإنما أصلها : الصّعود. قال المفسرون : أراد بأبنائنا : فاطمة ، والحسن ، والحسين. وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقّاص قال :

(١٧٩) لما نزلت هذه الآية (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : «اللهمّ هؤلاء أهلي».

قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا) فيه خمسة أقوال : أحدها : أراد عليّ بن أبي طالب ، قاله الشّعبيّ. والعرب تخبر عن ابن العمّ بأنه نفس ابن عمه. والثاني : أراد الأخوان ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أراد أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والرابع : أراد الأزواج. والخامس : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النّيسابوريّ. فأما الابتهال ، فقال ابن قتيبة : هو التّداعي باللّعن ، يقال : عليه بهلة الله ، وبهلته ، أي : لعنته. وقال الزجّاج : معنى الابتهال في اللغة : المبالغة في الدّعاء وأصله : الالتعان ، يقال : بهله الله ، أي : لعنه. وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجّة.

(١٨٠) قال جابر بن عبد الله : قدم وفد نجران فيهم السّيد والعاقب فذكر الحديث .. إلى أن قال : فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه أن يغادياه ، فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما ، فأبيا أن يجيباه ، فأقرّا له بالخراج فقال : «والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي نارا»

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢))

قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) قال الزجّاج : دخلت «من» هاهنا توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادّعى المشركون من الآلهة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : عن الملاعنة ، قاله مقاتل. والثاني : أنه عن البيان الذي أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الزجّاج. والثالث : عن الإقرار بوحدانية الله ، وتنزيهه عن الصّاحبة والولد ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي الفساد هاهنا قولان : أحدهما : أنه العمل بالمعاصي ، قاله

____________________________________

(١٧٩) صحيح. أخرجه مسلم ٢٤٠٤ والترمذي ٢٩٩٩ والحاكم ٣ / ١٤٧ من حديث سعد ، وفيه قصة.

انظر «تفسير الشوكاني» ٥٠٤.

(١٨٠) أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٢٤٤ والواحدي ٢٠٩ من حديث جابر ، وفيه بشر بن مهران الخصاف ، قال ابن أبي حاتم : ترك أبي حديثه وفيه أيضا محمد بن دينار ، وهو ضعيف. وقد جعل الواحدي كلام جابر الأخير من كلام الشعبي ، ويؤيد ذلك هو أن الحاكم أخرج حديث جابر ٢ / ٥٩٣ دون كلام جابر. وقال صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي.


مقاتل. والثاني : الكفر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله قتادة ، وابن جريج ، والرّبيع بن أنس. والثاني : وفد نجران الذين حاجّوا في عيسى ، قاله السّدّيّ ومقاتل. والثالث : أهل الكتابين جميعا (١) ، قاله الحسن.

(١٨١) وقال ابن عباس : نزلت في القسّيسين والرّهبان ، فبعث بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة. فقرأها جعفر ، والنّجاشيّ جالس ، وأشراف الحبشة.

فأمّا «الكلمة» فقال المفسرون هي : لا إله إلا الله. فإن قيل : فهذه كلمات ، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن الكلمة تعبّر عن ألفاظ وكلمات. قال اللغويّون : ومعنى كلمة : كلام فيه شرح قصة وإن طال ، تقول العرب قال زهير في كلمته يراد في قصيدته : قالت الخنساء :

وقافية مثل حدّ السّنا

ن تبقى ويذهب من قالها

تقدّ الذّؤابة من يذبل

أبت أن تزايل أو عالها (٢)

نطقت ابن عمرو فسهّلتها

ولم ينطق النّاس أمثالها

فأوقعت القافية على القصيدة كلّها ، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة ، من البيت ، وإنما سمّيت قافية ، لأن الكلمة تتبع البيت ، وتقع آخره ، فسمّيت قافية ، من قول العرب : قفوت فلانا : إذا اتّبعته ، وإلى هذا الجواب يذهب الزجّاج وغيره.

والثاني : أن المراد بالكلمة : كلمات ، فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة :

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب

أراد : وأما جلودها ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) قال الزجّاج : يعني بالسّواء العدل ، وهو من استواء الشيء ، ويقال : للعدل سواء وسواء. قال زهير بن أبي سلمى :

أروني خطّة لا ضيم فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء

فإن تركا السّواء فليس بيني

وبينكم بني حصن بقاء

قال : وموضوع «أن» في قوله تعالى : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) خفض على البدل من «كلمة» المعنى :

____________________________________

(١٨١) لم أقف له على إسناد ، وهو غريب جدا ، ويأتي في مطلع سورة مريم شيء من هذا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٧١ : هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم.

(٢) في «اللسان» سنان الرمح : حديدته لصقالتها ، وملاستها. القد : القطع المستأصل والشق طولا. الذؤابة : ذؤابة كل شيء أعلاه. يذبل : جيل في أقصى أرض بني كلاب. تزايل : من تزيّل : تفرّق.


تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. وجائز أن يكون «أن» في موضوع رفع ، كأنّ قائلا قال : ما الكلمة؟ فأجيب ، فقيل : هي ألّا نعبد إلا الله.

قوله تعالى : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه سجود بعضهم لبعض ، قاله عكرمة. والثاني : لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، قاله ابن جريج. والثالث : لا نجعل غير الله ربّا ، كما قالت النّصارى في المسيح ، قاله مقاتل والزجّاج.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥))

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ). قال ابن عباس والحسن والسّدّيّ :

(١٨٢) اجتمع عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصارى نجران ، وأحبار اليهود ، فقال هؤلاء : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقال هؤلاء : ما كان إلا نصرانيا. فنزلت هذه الآية.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ) قرأ ابن كثير «ها أنتم» مثل : هعنتم ، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد : أأنتم. وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدودا استفهام بلا همزة ، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، «ها أنتم» ممدودا مهموزا ولم يختلفوا في مدّ «هؤلاء» و «أولاء».

قوله تعالى : (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه ما رأوا وعاينوا قاله قتادة. والثاني : ما أمروا به ونهوا عنه ، قاله السّدّيّ. فأما الذي ليس لهم به علم ، فهو شأن إبراهيم عليه‌السلام. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى ، خمسمائة وخمس وسبعون سنة. وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة (١). وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة. وقد سبق في «البقرة» معنى الحنيف.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

____________________________________

(١٨٢) أثر ابن عباس أخرجه الطبري ٧١٩٨ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لجهالة محمد ، شيخ ابن إسحاق.

ـ وأثر السدي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٢ / ٧٢ وهذا مرسل.

ـ وأثر الحسن لم أره مسندا ، وإنما ذكره الواحدي ٢١٤ بدون إسناد.

__________________

(١) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات.


قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ، في سبب نزولها قولان :

(١٨٣) أحدهما : أن رؤساء اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ، وأنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد ، فنزلت هذه الآية. ومعناها : أحقّ النّاس بدين إبراهيم ، الذين اتّبعوه على دينه ، وهذا النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه ، قاله ابن عباس.

(١٨٤) والثاني : أن عمرو بن العاص أراد إن يغضب النّجاشيّ على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال للنّجاشيّ : إنهم ليشتمون عيسى. فقال النّجاشيّ : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا : يقول : إنه عبد الله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النّجاشيّ من سواكه قدر ما يقذي العين ، فقال : والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى ، ثم أبشروا ، فلا دهورة (١) اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو بن العاص : ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرّهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، هذا قول عبد الرحمن بن غنم.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩))

قوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل ، وعمّار بن ياسر : تركتما دينكما ، واتبعتما دين محمّد ، فنزلت هذه الآية (٢) ، قاله ابن عباس. والطّائفة : اسم لجماعة مجتمعين على اجتمعوا عليه من دين ، ورأي ، ومذهب ، وغير ذلك. وفي هذه الطائفة قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والضّلال : الحيرة. وفيه هاهنا قولان : أحدهما : أنه الاستنزال عن الحقّ إلى الباطل ، وهو قول ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : الإهلاك ، ومنه (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٣) قاله ابن جرير ، والدّمشقيّ.

وفي قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما : وما يشعرون أنّ الله يدلّ المؤمنين على حالهم. والثاني : وما يشعرون أنهم يضلّون أنفسهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠))

____________________________________

(١٨٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٠ عن ابن عباس بدون إسناد ، فهو لا شيء.

(١٨٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١١ عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة.

وورد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم ، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٢ / ٧٣ وهذا مرسل ، وشهر بن حوشب غير قوي. وله شاهد موصول من حديث أبي موسى : أخرجه الحاكم ٢ / ٣٠٩ وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا ، لكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية.

__________________

(١) في «اللسان» : الدهورة : جمعك الشيء وقذفك به في مهواة ؛ ودهورت الشيء : كذلك. وفي حديث النجاشي : فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ، كأنه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم.

(٢) ذكره الواحدي ٢١٣ بدون عزو لأحد فهو ساقط ، ليس بشيء. وانظر «تفسير القرطبي» ٤ / ١١٠.

(٣) السجدة : ١٠.


قوله تعالى : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قال قتادة : يعني : محمّدا والإسلام (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنّ بعث محمّد في كتابكم ، ثم تكفرون به.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

قوله تعالى : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) قال اليزيديّ : معناه : لم تخلطون الحقّ بالباطل؟ قال ابن فارس : واللبس : اختلاط الأمر ، وفي الأمر لبسة ، أي : ليس بواضح. وفي الحق والباطل أربعة أقوال : أحدها : أن الحق : إقرارهم ببعض أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والباطل : كتمانهم بعض أمره. والثاني : الحق : إيمانهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدوة ، والباطل : كفرهم به عشيّة ، رويا عن ابن عباس. والثالث : الحق : التّوراة ، والباطل : ما كتبوه فيها بأيديهم ، قاله الحسن ، وابن زيد. والرابع : الحق : الإسلام. والباطل : اليهودية والنّصرانية ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) قال قتادة : كتموا الإسلام ، وكتموا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢))

قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أن طائفة من اليهود قالوا : إذا لقيتم أصحاب محمّد أول النهار ، فآمنوا ، وإذا كان آخره ، فصلّوا صلاتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فينقلبون عن دينهم ، رواه عطيّة عن ابن عباس (١). وقال الحسن والسّدّيّ : تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمّد باللسان أول النهار ، واكفروا آخره ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمّدا ليس بذلك ، فيشكّ أصحابه في دينهم ، ويقولون : هم أهل الكتاب ، وهم أعلم منّا ، فيرجعون إلى دينكم ، فنزلت هذه الآية (٢). وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. والثاني : أن الله تعالى صرف نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظّهر ، فقال قوم من علماء اليهود : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) يقولون : آمنوا بالقبلة التي صلّوا إليها الصّبح ، واكفروا بالتي صلّوا إليها آخر النهار ، لعلّهم يرجعون إلى قبلتكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس (٣). قال مجاهد وقتادة ، والزجّاج في آخرين : وجه النهار : أوّله. وأنشد الزجّاج (٤) :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

__________________

(١) أخرجه الطبري ٧٢٣٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي. وهو ضعيف عن ابن عباس ، فالإسناد واه.

(٢) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٤ عن الحسن والسدي بدون إسناد. وأثر السدي ، أخرجه الطبري ٧٢٢٩ مع اختلاف يسير فيه. وورد من مرسل أبي مالك ، أخرجه الطبري ٧٢٢٨.

(٣) عزاه المصنف لابن عباس ، وهو من رواية أبي صالح ، وهو متروك في روايته عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح ، هو الكلبي ، كذبه الجمهور. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢١٥ عن مجاهد ومقاتل والكلبي بدون إسناد.

(٤) البيتان لربيع بن زياد ، يرثي مالك بن زهير العبسي.


يجد النّساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلّج الأسحار (١)

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم ، ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم ، وفلق البحر ، والمنّ والسّلوى ، وغير ذلك ، ولا تصدّقوا أن يجادلوكم عند ربّكم ، لأنكم أصحّ دينا منهم ، فيكون هذا كلّه من كلام اليهود بينهم ، وتكون اللام في «لمن» صلة ، ويكون قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) كلاما معترضا بين كلامين ، هذا معنى قول مجاهد ، والأخفش. والثاني : أن كلام اليهود تامّ عند قوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) والباقي من قول الله تعالى ، لا يعترضه شيء من قولهم ، وتقديره : قل يا محمّد : إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمّة محمّد ، إلّا أن تجادلكم اليهود بالباطل ، فيقولون : نحن أفضل منكم ، هذا معنى قول الحسن ، وسعيد بن جبير. وقال الفرّاء : معنى : «أن يؤتى» : أن لا يؤتى. والثالث : أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلا من تبع دينكم ، فأخّرت «أن» ، وهي مقدّمة في النّية على مذهب العرب في التّقديم والتّأخير ، ودخلت اللام على جهة التّوكيد ، كقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) (٢) أي : ردفكم. وقال الشاعر :

ما كنت أخدع للخليل بخلّة

حتّى يكون لي الخليل خدوعا

أراد : ما كنت أخدع الخليل. وقال الآخر (٣) :

يذمّون للدّنيا وهم يحلبونها

أفاويق حتّى ما يدرّ لها ثعل

أراد : يذمّون الدنيا ، ذكره ابن الأنباريّ. والرابع : أن اللام غير زائدة ، والمعنى : لا تجعلوا تصديقكم النبيّ في شيء مما جاء به إلا لليهود. فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عونا لهم على تصديقه ، قاله الزجّاج. وقال ابن الأنباريّ : لا تؤمنوا أنّ محمّدا وأصحابه على حق ، إلا لمن تبع دينكم ، مخافة أن يطّلع على عنادكم الحق ، ويحاجّوكم به عند ربّكم. فعلى هذا يكون معنى الكلام : لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذكر هذا المعنى مكيّ بن أبي طالب النّحويّ. وقرأ ابن كثير : «أأن يؤتى» بهمزتين : الأولى مخفّفة ، والثانية مليّنة على الاستفهام ، مثل : أأنتم أعلم. قال أبو علي : ووجهها أنّ «أن» في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : يصدقون به ، أو يعترفون به ، أو يذكرونه لغيركم ، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصبا ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو أتذكرون أن يؤتى

__________________

(١) في «اللسان» : البلجة : ضوء الصبح آخر الليل عند انصداع الفجر.

(٢) النمل : ٧٢.

(٣) هو ابن همّام السّلولي كما في «اللسان» مادة (ثعل). والأفاويق : واحدها : فيقة : وهي اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ويقال شاة ثعول : تحلب من ثلاثة أمكنة وأربعة للزيادة التي في الطّبي. وإنما ذكر الثّعل للمبالغة في الارتضاع. والثعل لا يدرّ.


أحد ، ومثله في المعنى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) (١). وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرّف : «إن يؤتى» ، بكسر الهمزة ، على معنى : ما يؤتى.

وفي قوله تعالى (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قولان : أحدهما : أن معناه : ولا تصدّقوا أنهم يحاجّوكم عند ربكم ، لأنهم لا حجة لهم ، قاله قتادة. والثاني : أن معناه : حتى يحاجّوكم عند ربكم على طريق التّعبّد ، كما يقال : لا يلقاه أو تقوم السّاعة ، قاله الكسائيّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) قال ابن عباس : يعني النبوّة ، والكتاب ، والهدى (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا ما تمنّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

قوله تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) في الرّحمة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : النّبوّة ، قاله مجاهد. والثالث : القرآن والإسلام ، قاله ابن جريج.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) قال ابن عباس : أودع رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب عبد الله بن سلام ، فأداها إليه ، فمدحه الله بهذه الآية ، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا ، فخانه (٢). وأهل الكتاب : اليهود. وقد سبق الكلام في القنطار. وقيل. إن «الباء» في قوله : «بقنطار» بمعنى «على». فأما الدّينار ، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ ، قال : الدّينار فارسي معرّب ، وأصله : دنّار ، وهو وإن كان معرّبا ، فليس تعرف له العرب اسما غير الدّينار ، فقد صار كالعربيّ ، ولذلك ذكره الله عزوجل في كتابه ، لأنه خاطبهم بما عرفوا ، واشتقّوا منه فعلا ، فقالوا : رجل مدنّر : كثير الدّنانير. وبرذون (٣) مدنّر : أشهب مستدير النّقش ببياض وسواد. فإن قيل : لم خصّ أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك ، فالجواب : أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك ، وقد بيّته في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فحذّر منهم. وقال مقاتل : الأمانة إلى من أسلم منهم ، والخيانة إلى من لم يسلم. وقيل : إن الذين يؤدّون الأمانة : النّصارى ، والذين لا يؤدونها : اليهود.

قوله تعالى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : دمت ودمتم ، ومتّ ومتّم ، وتميم يقولون : متّ ودمت بالكسر ، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت. وفي هذا القيام

__________________

(١) البقرة : ٧٦.

(٢) لا أصل له ، ذكره البغوي في «تفسيره» ٣١٧ (آل عمران : ٧٥) عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، وجويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، فالخبر باطل ، وذكره القرطبي في «تفسيره» ٤ / ١١٤ بدون سند. وكذلك ذكره في «الكشاف» ١ / ٤٠١ بدون سند.

(٣) في «اللسان» : برذون : دابة معروفة.


قولان : أحدهما : أنه التّقاضي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج. قال ابن قتيبة : والمعنى : ما دمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة. وأصل هذا أنّ المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرّف والتّارك له يقعد عنه ، قال الأعشى :

يقوم على الرّغم في قومه

فيعفو إذا شاء أو ينتقم

أي : يطالب بالذّحل (١) ولا يقعد عنه. قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) (٢) أي : عاملة غير تاركة ، وقال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣) أي : آخذ لها بما كسبت. والثاني : أنه القيام حقيقة ، فتقديره : إلا ما دمت قائما على رأسه ، فإنه يعترف بأمانته ، فإذا ذهبت ثم جئت ، جحدك ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (ذلِكَ) يعني : الخيانة. والسّبيل : الإثم والحرج ، ونظيره (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٤) قال قتادة : إنما استحلّ اليهود أموال المسلمين ، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال السّدّيّ : يقولون : قد أحلّ الله لنا أموال العرب. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : يعلمون أن الله قد أنزل في التّوراة الوفاء ، وأداء الأمانة. والثاني : يقولون الكذب ، وهم يعلمون أنه كذب.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦))

قوله تعالى : (بَلى) ردّ الله عزوجل عليهم قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) بقوله : (بَلى) قال الزجّاج : وهو عندي وقف التّمام ، ثم استأنف ، فقال : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) ، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله : (بَلى مَنْ أَوْفى). والعهد : ما عاهدهم الله عزوجل عليه في التّوراة. وفي «هاء» (بِعَهْدِهِ) قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني : إلى الموفي.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٨٥) أحدها : أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض ، فجحده اليهوديّ فقدّمه إلى

____________________________________

(١٨٥) صحيح. أخرجه البخاري ٢٣٥٦ و ٢٣٥٧ و ٢٦٧٦ و ٢٦٧٧ و ٤٥٤٩ و ٤٥٥٠ و ٦٦٥٩ ، و ٦٦٦٠ ، و ٦٦٧٦ و ٦٦٧٧ و ٧١٨٣ و ٧١٨٤ ومسلم ١٣٨ والشافعي ٢ / ٥١ وأحمد ١ / ٤٤ و ٥ / ٢١٢ والطيالسي ٢٦٢ و ١٠٥١ وأبو داود ٣٢٤٣ والترمذي ١٢٦٩ وابن ماجة ٢٣٢٣ والطبري ٧٢٧٩ والواحدي في «أسباب النزول» ٢١٦ والبغوي ١ / ٣١٨ وابن حبان ٥٠٨٤ والبيهقي ١٠ / ٤٤ من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان قال : فقال الأشعث : فيّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي

__________________

(١) في «اللسان» الذّحل : الثأر ، وقيل : طلب المكافأة بجناية العداوة والحقد.

(٢) آل عمران : ١١٣.

(٣) الرعد : ٣٣.

(٤) التوبة : ٩١.


النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «ألك بيّنة»؟ قال : لا. قال لليهودي : «أتحلف»؟ فقال الأشعث : إذا يحلف فيذهب بمالي. فنزلت هذه الآية. أخرجه البخاريّ ومسلم.

(١٨٦) والثاني : أنها نزلت في اليهود ، عهد الله إليهم في التوراة تبيّن صفة النبيّ عليه‌السلام ، فجحدوا ، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا ، هذا قول عكرمة ، ومقاتل.

(١٨٧) والثالث : أنّ رجلا أقام سلعته في السّوق أوّل النهار ، فلما كان آخره ، جاء رجل يساومه ، فحلف : لقد منعها أول النهار من كذا ، ولو لا المساء لما باعها به ، فنزلت هذه الآية. هذا قول الشّعبيّ ، ومجاهد.

فعلى القول الأول ، والثالث ، العهد : لزوم الطّاعة ، وترك المعصية ، وعلى الثاني : ما عهده إلى اليهود في التّوراة. واليمين : الحلف. وإن قلنا : إنها في اليهود ، والكفار ، فإن الله لا يكلّمهم يوم القيامة أصلا. وإن قلنا : إنها في العصاة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : لا يكلّمهم الله كلام خير. ومعنى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) ، أي : لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم ، قال الزجّاج : تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، ولا يكلّمه معناه : أنه غضبان عليه.

قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي : لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثاني : في اليهود والنّصارى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقوله تعالى : (وَإِنَ) هي كلمة مؤكّدة ، واللام في قوله : «لفريقا» توكيد زائد على توكيد «إنّ» ، قال ابن قتيبة : ومعنى (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) : يقلبونها بالتّحريف والزّيادة. والألسنة : جمع لسان ، قال أبو عمرو : اللسان يذكّر ويؤنّث ، فمن ذكّره جمعه : ألسنة ، ومن أنّثه ، جمعه : ألسنا. وقال الفرّاء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكّرا. وتقول : سبق من فلان لسان ، يعنون به الكلام ، فيذكّرونه. وأنشد ابن الأعرابيّ :

لسانك معسول ونفسك شحّة

وعند الثّريّا من صديقك مالكا

وأنشد ثعلب (١) :

__________________

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألك بينة» قلت لا. قال ، فقال لليهودي : «احلف». قال قلت : يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى آخر الآية».

(١٨٦) ضعيف. أخرجه الطبري ٧٢٧٥ عن عكرمة مرسلا. وذكره السيوطي في «اللباب» ص ٥٨ ، ونقل عن الحافظ قوله : الآية محتملة ، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح اه. وهو المتقدم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٠ بدون إسناد.

(١٨٧) أخرجه الطبري ٧٢٨٠ عن عامر الشعبي مرسلا ، ورجاله ثقات ، لكنه مرسل. ولأصله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى : أخرجه البخاري ٤٥٥١ والواحدي في «أسباب النزول» ٢١٩.

__________________

(١) البيت للحطيئة كما في «اللسان» مادة «عكم».


ندمت على لسان كان منّي

فليت بأنّه في جوف عكم (١)

والعكم : العدل. ودلّ بقوله : كان منّي ، على أن اللسان الكلام. وأنشد ثعلب :

أتتني لسان بني عامر

أحاديثها بعد قول نكر

فأنّث لسان ، لأنه عنى الكلمة والرّسالة.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ) ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٨٨) أحدها : أن قوما من رؤساء اليهود والنّصارى ، قالوا : يا محمّد أتريد أن نتّخذك ربّا؟ فقال : معاذ الله ، ما بذلك بعثني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١٨٩) والثاني : أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا نسجد لك؟ قال «لا ، فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله» فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن البصريّ.

والثالث : أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى. قاله الضّحّاك ، ومقاتل.

وفيمن عنى ب «البشر» قولان : أحدهما : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والكتاب : القرآن ، قاله ابن عباس ، وعطاء.

والثاني : عيسى ، والكتاب : الإنجيل ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. والحكم : الفقه والعلم ، قاله قتادة في آخرين. قال الزجّاج : ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوّة ، والقول للناس : كونوا عبادا لي من دون الله ، لأن الله لا يصطفي الكذبة. قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا) أي : ولكن يقول لهم : كونوا ، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.

فأما الرّبّانيّون ، فروي عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : هم الذين يغذّون الناس بالحكمة ، ويربّونهم عليها. وقال ابن عباس ، وابن جبير : هم الفقهاء المعلّمون. وقال قتادة ، وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة : واحدهم ربّاني ، وهم العلماء المعلّمون. وقال أبو عبيد : أحسب الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانيّة ، وذلك أن عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الرّبّانيين. وقال أبو عبيد : وإنما عرفها الفقهاء ، وأهل العلم ، قال : وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول : هم العلماء

____________________________________

(١٨٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٧٢٩٤ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٣٨٤ من حديث ابن عباس وفيه محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول. وعزاه السيوطي في «الدر» ٢ / ٨٢ لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.

(١٨٩) ضعيف جدا. عزاه المصنف للحسن ، وهذا مرسل ، ومراسيل الحسن واهية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٣ وعزاه السيوطي في «الدر» ٢ / ٨٢ (آل عمران : ٨٠) لعبد بن حميد عن الحسن.

ـ تنبيه : والمرفوع منه صحيح ، له شواهد ، والوهن فقط في ذكر نزول الآية. والمرفوع سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في «اللسان» عكم : داخل الجنب على المثل بالعكم ، وهو النّمط تجعله المرأة كالوعاء تدخر فيه متاعها.


بالحلال والحرام ، والأمر والنّهي. وحكى ابن الأنباريّ عن بعض اللغويين : الرّبّانيّ : منسوب إلى الرّبّ ، لأن العلم : مما يطاع الله به ، فدخلت الألف والنون في النّسبة للمبالغة ، كما قالوا : رجل لحيانيّ : إذا بالغوا في وصفة بكبر اللحية.

قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «تعلمون» ، بإسكان العين ، ونصب اللام ، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : (تعلّمون) مثقلا ، وكلهم قرءوا : «تدرسون» خفيفة. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين وسعيد بن جبير ، وطلحة بن مصرّف ، وأبو حياة : «تدرّسون» ، بضم التاء مع التشديد. والدّراسة : القراءة. قال الزجّاج : ومعنى الكلام : ليكن هديكم في التعليم هدي العلماء والحكماء ، لأنّ العالم إنما يستحقّ هذا الاسم إذا عمل بعلمه.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب ، وعاصم في بعض الرّوايات عنه وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، واليزيديّ في اختياره ، بنصب الرّاء. وقرأ الباقون برفع الراء ، فمن نصب كان المعنى : وما كان لبشر أن يأمركم ، ومن رفع قطعه ممّا قبله. قال ابن جريج : ولا يأمركم محمّد.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) ، قال الزجّاج : موضع «إذ» نصب ، المعنى : واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. قال ابن عباس : الميثاق : العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان :

أحدهما : أنه تصديق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روي عن عليّ ، وابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ.

والثاني : أنه أخذ ميثاق الأوّل من الأنبياء ليؤمننّ بما جاء به الآخر منهم ، قاله طاوس. قال مجاهد والرّبيع بن أنس : هذه الآية خطأ من الكتّاب (١) ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» واحتجّ الرّبيع بقوله تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ). وقال بعض أهل العلم : إنما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم ، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم ، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التّابع ، وهذا معنى قول ابن عباس والزّجّاج.

__________________

(١) باطل. أما أثر مجاهد ، فأخرجه الطبري ٧٣٢١ من طريق عيسى بن أبي عيسى الرازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وإسناده واه إلى مجاهد لأجل عيسى هذا.

ـ وأما أثر الربيع ، فأخرجه الطبري ٧٣٢٣ من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع به وأبو جعفر هو الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى ، وهو المتقدم في إسناد مجاهد ، وعنه ابنه عبد الله وهو واه ، فهذا لا يصح عنهما ، وهو قول باطل بكل حال ، والصواب ما هو رسم المصحف ، وهو المجمع عليه.


واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام مع التخفيف ، وقرأ حمزة مثلها ، إلا أنه كسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير «لمّا» مشدّدة الميم ، فقراءة ابن جبير ، معناها : حين آتيتكم. وقال الفرّاء في قراءة حمزة : يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم ، ثم جعل قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) من الأخذ. قال الفرّاء : ومن نصب اللام جعلها زائدة. و «ما» هاهنا بمعنى الشّرط والجزاء ، فالمعنى : لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباريّ : اللام في قوله تعالى : (لَما آتَيْتُكُمْ) على قراءة من شدّد أو كسر : جواب لأخذ الميثاق ، لأن أخذ الميثاق يمين. وعلى قراءة من خفّفها ، معناها : القسم ، وجواب القسم اللام في قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) وإنما خاطب ، فقال : آتيتكم. بعد أن ذكر النّبيّين وهم غيّب ، لأن في الكلام معنى قول وحكاية ، فقال مخاطبا لهم : لما آتيتكم. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف.

قوله تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) قال عليّ عليه‌السلام : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد ، إن بعث محمّد وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه. وقال غيره : أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضا. والإصر هاهنا : العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة : أصل الإصر الثقل ، فسمي العهد إصرا ، لأنه منع من الأمر الذي أخذ له ، وثقل وتشديد. وكلّهم كسر ألف «إصري» وروى أبو بكر ، عن عاصم ضمّه. قال أبو عليّ : يشبه أن يكون الضمّ لغة.

قوله تعالى : (قالَ فَاشْهَدُوا) قال ابن فارس : الشّهادة : الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان : أحدهما : أنه خطاب للنّبيين ثم فيه قولان : أحدهما : أن معناه : فاشهدوا على أممكم ، قاله عليّ بن أبي طالب. والثاني : فاشهدوا على أنفسكم ، قاله مقاتل. والثاني : أنه خطاب للملائكة ، قاله سعيد بن المسيّب ، فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) قرأ أبو عمرو : «يبغون» بالياء مفتوحة. «وإليه ترجعون» بالتاء مضمومة ، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم : «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما ، وفتح الياء وكسر الجيم ، يعقوب على أصله.

(١٩٠) قال ابن عباس : اختصم أهل الكتابين ، فزعمت كلّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم». فغضبوا ، وقالوا : والله لا نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزلت هذه الآية.

والمراد بدين الله ، دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلَهُ أَسْلَمَ) انقاد ، وخضع (طَوْعاً وَكَرْهاً) الطّوع : الانقياد بسهولة ، والكره : الانقياد بمشقّة وإباء من النّفس. وفي معنى الطّوع والكره ستة أقوال : أحدها :

____________________________________

(١٩٠) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٤ بدون إسناد. ولم أره عند غيره ، فهذا متن باطل لا أصل له لخلوه عن الإسناد ، والظاهر أنه من رواية الكلبي بسلسلته المشهورة.


أن إسلام الكلّ كان يوم الميثاق طوعا وكرها ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد ، وبه قال السّدّيّ. والثاني : أن المؤمن يسجد طائعا ، والكافر يسجد ظلّه وهو كاره ، روي عن ابن عباس ، ورواه ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد. والثالث : أن الكلّ أقرّوا له بأنه الخالق ، وإن أشرك بعضهم ، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه ، هذا قول أبي العالية ، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع : أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم مخافة السّيف ، هذا قول الحسن. والخامس : أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه في ذلك الوقت ، وهذا قول قتادة. والسادس : أن إسلام الكلّ خضوعهم لنفاذ أمره في جبلّتهم ، لا يقدر أحدهم أن يمتنع من جبلّة جبله عليها ، ولا على تغييرها ، هذا قول الزجّاج ، وهو معنى قول الشّعبيّ : انقاد كلّهم له.

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧))

قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٩١) أحدها : أنّ رجلا من الأنصار ارتدّ ، فلحق بالمشركين ، فنزلت هذه الآية ، إلى قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فكتب بها قومه إليه ، فرجع تائبا فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منه وخلّى عنه. رواه عكرمة عن ابن عباس. وذكر مجاهد والسّدّيّ أن اسم ذلك الرجل : الحارث بن سويد.

والثاني : أنها نزلت في عشرة رهط ارتدّوا ، فيهم الحارث بن سويد ، فندم ، فرجع (١). رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثالث : أنها في أهل الكتاب ، عرفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كفروا به. رواه عطيّة عن ابن عباس (٢). وقال الحسن : هم اليهود والنّصارى. وقيل : إنّ «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها الجحد ، أي : لا يهدي الله هؤلاء.

____________________________________

(١٩١) صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٨٥ وأحمد ١ / ٢٤٧ وابن حبان ٤٤٦٠ والحاكم ٢ / ١٤٢ و ٤ / ٣٦٦ والطبري ٧٣٥٨ والبيهقي ٨ / ١٩٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٥ من حديث ابن عباس ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا ، وله شواهد مرسلة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٥٢٠ بتخريجنا.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» ٣٢٤ عن الكلبي بدون إسناد ، والكلبي كذبه غير واحد ، روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، والصواب ما تقدم.

(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٧٣٦٦ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي ، وهو ضعيف عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٨٨ وعزاه لابن أبي حاتم. والصحيح ما تقدم عن ابن عباس.


(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) قال الزّجّاج أي : في عذاب اللعنة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي : يؤخّرون عن الوقت. ومعنى : (وَأَصْلَحُوا) أي : أظهروا أنّهم كانوا على ضلال ، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ، وغرّوا به من تبعهم ممّن لا علم له.

فصل : وهذه الآية استثنت من تاب ممّن لم يتب ، وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمّنته الآيات قبلها من الوعيد ، والاستثناء ليس بنسخ.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم بمكة ونتربّص بمحمّد ريب المنون (١) ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد والقرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراسانيّ. والثالث : أنها نزلت في اليهود والنّصارى ، كفروا بمحمّد بعد إيمانهم بصفته ، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم ، قاله أبو العالية. قال الحسن : كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفرا.

وفي علّة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم ارتدّوا ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشّرك ، ولم يتوبوا من الشّرك ، قاله أبو العالية. والثالث : أنّ معناه : لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراسانيّ ، والسّدّيّ. والرابع : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر ، وهو قول مجاهد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ).

(١٩٢) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة ، دخل من كان من أصحاب

____________________________________

(١٩٢) باطل. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، ورواية أبي صالح عن الكلبي ، وهذه تعرف بسلسلة الكذب عند العلماء ، وهذا خبر باطل ، فالسورة نزلت قبل فتح مكة بزمن طويل.

__________________

(١) تقدم معناه عن ابن عباس ، ولم أره مسندا بهذا اللفظ عن ابن عباس. وإنما ورد عن مجاهد بأتم منه ، أخرجه الطبري ٧٣٦٥ والواحدي في «الأسباب» ٢٢٦ وهذا مرسل ، لكن يشهد لأصل حديث ابن عباس المتقدم أولا.


الحارث بن سويد حيّا في الإسلام ، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا.

قال الزجّاج : وملء الشيء : مقدار ما يملؤه. قال سيبويه ، والخليل : والملء بفتح الميم : الفعل ، تقول : ملأت الشيء أملؤه ملأ ، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة : التي تلبس ، ممدودة. والملاوة من الدّهر : القطعة الطّويلة منه ، يقولون : ابل جديدا ، وتملّ حبيبا ، أي : عش معه دهرا طويلا. و (ذَهَباً) منصوب على التّمييز. وقال ابن فارس : ربما أنّث الذهب ، فقيل : ذهبة ، ويجمع على الأذهاب.

قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) قال الفرّاء : الواو هاهنا قد يستغنى عنها ، ولو حذفت كان صوابا ، كقوله تعالى : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (١). قال الزجّاج : هذا غلط ، لأن فائدة الواو بيّنة ، فليست ممّا يلقى. قال النحاس : قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية : الواو ليست مقحمة وتقديره : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) ، في البرّ أربعة أقوال : أحدها : أنه الجنّة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ في آخرين. قال ابن جرير : فيكون المعنى : لن تنالوا برّ الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني : التقوى ، قاله عطاء ، ومقاتل. والثالث : الطّاعة ، قاله عطيّة. والرابع : الخير الذي يستحق به الأجر ، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى : لم يرد نفي الأصل ، وإنما نفي وجود الكمال. فكأنه قال : لن تنالوا البر الكامل.

قوله تعالى : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، فيه قولان :

(١٩٣) أحدهما : أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح ، رواه ابن عمر عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه الإنفاق من محبوب المال ، قاله قتادة ، والضّحّاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الصّدقة المفروضة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضّحّاك. والثاني : أنها جميع الصّدقات ، قاله ابن عمر. والثالث : أنها جميع النفقات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، سواء كانت صدقة ، أو لم تكن ، نقل عن الحسن ، واختاره القاضي أبو يعلى.

(١٩٤) وروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة

____________________________________

(١٩٣) لم أره من حديث ابن عمر بعد بحث ، وإنما صح من حديث أبي هريرة ، وقد ساقه المصنف بمعناه.

وحديث أبي هريرة ، أخرجه البخاري ١٤١٩ و ٢٧٤٨ ومسلم ١٠٣٢ وأبو داود ٢٨٦٥ والنسائي ٥ / ٨٦ و ٦ / ٢٣٧ وابن ماجة ٢٧٠٦ وأحمد ٢ / ٢٥ و ٢٣١ و ٤١٥ و ٤٤٧ والبغوي ١٦٧١ من طرق عن أبي هريرة ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم ؛ قال : «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح. تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، ألا وقد كان لفلان».

(١٩٤) صحيح. أخرجه البخاري ١٤٦١ و ٢٣١٨ و ٢٧٥٢ و ٢٧٦٩ و ٤٥٥٤ و ٥٦١١ ومسلم ٩٩٨ وأحمد ٣ / ١٤١ والدارمي ٢ / ٣٩٠ وابن حبان ٣٣٤٠ والبيهقي ٦ / ١٦٤ ـ ١٦٥ و ٢٧٥ ومالك ٢ / ٥٩٥ ـ ٥٩٦

__________________

(١) الأنعام : ٧٥.


أكثر أنصاريّ بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء (١) ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس : فلما نزلت : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة ، فقال : يا رسول الله ، إنّ الله يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها حيث أراك الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بخ بخ ، ذاك مال رابح أو رائح ـ شكّ الرّاوي (٢) ـ وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في أقاربه ، وبني عمّه.

وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال : لا أجد شيئا أحبّ إليّ من جاريتي رميثة (٣) ، فهي حرّة لوجه الله ، ثم قال : لو لا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، فأنكحها نافعا ، فهي أمّ ولده (٤). وسئل أبو ذرّ : أيّ الأعمال أفضل؟ فقال : الصّلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصّدقة شيء عجب. فقال السّائل : يا أبا ذرّ لقد تركت شيئا هو أوثق عمل في نفسي ما ذكرته. قال : ما هو؟ قال : الصّيام. فقال : قربة وليس هناك ، وتلا قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٥). قال الزجّاج : ومعنى قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي يجازي عليه.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣))

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) سبب نزولها أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(١٩٥) «أنا على ملّة إبراهيم» فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل ، وتشرب ألبانها؟ فقال : «كان ذلك حلالا لإبراهيم». فقالوا : كلّ شيء نحرّمه نحن ، فإنه كان محرّما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم. قاله أبو روق ، وابن السّائب. و «الطّعام» : اسم للمأكول. قال ابن قتيبة : والحلّ : الحلال ، والحرم والحرام ، واللبس واللباس.

وفي الذي حرّمه على نفسه ، ثلاثة أقوال : أحدها : لحوم الإبل وألبانها. روي عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي العالية في آخرين. والثاني : أنه العروق ، رواه سعيد بن جبير عن

____________________________________

من حديث أنس. وأخرجه الترمذي ٢٩٩٧ من وجه آخر عن أنس بنحوه. وأخرجه البخاري ٢٧٥٨ وأحمد ٣ / ٢٥٦ من طرق. عن أنس بن مالك.

(١٩٥) واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٩ عن أبي روق والكلبي به ، وهذا واه بمرة ، شبه موضوع ، الكلبي هو محمد بن السائب متهم بالوضع ، وأبو روق ، خبره معضل.

__________________

(١) في «اللسان» : بيرحاء : وهو اسم مال ، وموضع بالمدينة ، وإنها فيعل من البراح ، وهي الأرض الظاهرة.

(٢) هو القعنبي ، واسمه عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري.

(٣) في «الدر المنثور» ٢ / ٨٩ «مرجانة» وكذا في «المجمع» ١٠٨٩٢.

(٤) أخرجه البزار ٢١٩٤ وقال الهيثمي في «المجمع» ٦ / ٣٢٦ / ١٠٨٩٢ : فيه من لم أعرفه.

(٥) أخرجه الطبري ٧٣٩٤ من طريق ليث عن ميمون بن مهران عن أبي ذر به ، وإسناده ضعيف لضعف ليث وهو ابن أبي سليم ، وميمون لم يدرك أبا ذر.


ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ في آخرين. والثالث : أنه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشّحم إلا ما على الظّهر ، قاله عكرمة.

وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال :

(١٩٦) أحدها : أنه طال به مرض شديد ، فنذر : لئن شفاه الله ، ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشّراب إليه ، روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه اشتكى عرق النّسا فحرّم العروق ، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث : أن الأطباء وصفوا له حين أصابه «النّسا» اجتناب ما حرّمه ، فحرّمه ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : أنه كان إذا أكل ذلك الطعام ، أصابه عرق النّسا فيبيت وقيدا (١) ، فحرّمه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. واختلفوا : هل حرّم ذلك بإذن الله ، أم باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا : بما ذا ثبت تحريم الطعام الذي حرّمه على اليهود ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه حرّم عليهم بتحريمه ، ولم يكن محرّما في التّوراة ، قاله عطيّة. وقال ابن عباس : قال يعقوب : لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد. والثاني : أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه ، لا أنه حرّم عليهم بالشّرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ، فأكذبهم الله بقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) ، هذا قول الضّحّاك. والثالث : أن الله حرّمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما ، حرّم عليهم به طعام طيّب ، أو صبّ عليهم عذاب ، هذا قول ابن السّائب. قال ابن عباس : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤))

قوله تعالى : (فَمَنِ افْتَرى) يقول : اختلق (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد البيان في كتابهم ، وقيل : من بعد مجيئكم بالتّوراة وتلاوتكم.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) الصّدق : الإخبار بالشيء على ما هو به ، وضدّه الكذب. واختلفوا أيّ خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين :

أحدهما : أنه عني قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان الدّمشقيّ.

والثاني : أنه عنى قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا) قاله ابن السّائب.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦))

____________________________________

(١٩٦) حسن. أخرجه الترمذي ٣١٧ والنسائي في «الكبرى» ٩٠٧٢ وأحمد ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤ من حديث ابن عباس. وفيه عبد الله بن الوليد. لينه الحافظ. وتوبع ، فقد أخرجه الطبري ٧٤١٨ من وجه آخر بإسناد لا بأس به عن ابن عباس مرفوعا ، فالحديث حسن إن شاء الله. وقد حسنه الترمذي عن ابن عباس «أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يسكن البدو ، فاشتكى عرق النسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها ، فلذلك حرّمها» ، انظر «تفسير الشوكاني» ٥٢٣ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : الوقيذ الشديد المرض ، الذي قد أشرف على الموت.


قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قال مجاهد : افتخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون : الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه أوّلا قولان : أحدهما : أنه أوّل بيت كان في الأرض ، واختلف أرباب هذا القول ، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض ، فخلقه قبلها بألفي عام ، ودحاها من تحته ، فروى سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال : كانت الكعبة حشفة (١) على وجه الماء ، عليها ملكان يسبّحان الليل والنّهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس : وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ، وبهذا القول يقول ابن عمر ، وابن عمرو ، وقتادة ، ومجاهد ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أن آدم استوحش حين أهبط ، فأوحى الله إليه ، أن : ابن لي بيتا في الأرض ، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي ، فبناه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثالث : أنه أهبط مع آدم ، فلما كان الطّوفان ، رفع فصار معمورا في السماء ، وبنى إبراهيم على أثره ، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني : أنه أوّل بيت وضع للناس للعبادة ، وقد كانت قبله بيوت ، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وعطاء بن السّائب في آخرين.

فأما بكّة ، فقال الزجّاج : يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البكّ. يقال : بكّ الناس بعضهم بعضا ، أي : دفع. واختلفوا في تسميتها ببكّة على ثلاثة أقوال : أحدها : لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والفرّاء ، ومقاتل. والثاني : لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، أي : تدقّها ، فلم يقصدها جبّار إلا قصمه الله ، روي عن عبد الله بن الزّبير ، وذكره الزجّاج. والثالث : لأنها تضع من نخوة المتجبّرين ، يقال : بككت الرجل ، أي : وضعت منه ، ورددت نخوته ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيديّ ، وقطرب. واتفقوا على أنّ مكّة اسم لجميع البلدة. واختلفوا في بكّة على أربعة أقوال : أحدها : أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم ، وعطيّة. والثاني : أنها ما حول البيت ، ومكّة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة. والثالث : أنها المسجد ، والبيت. ومكّة : اسم للحرم كلّه ، قاله الزّهريّ ، وضمرة بن حبيب. والرابع : أن بكّة هي مكّة ، قاله الضّحّاك ، وابن قتيبة ، واحتجّ ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم ؛ يقال : سمد رأسه ، وسبد رأسه : إذا استأصله. وشرّ لازم ، ولازب.

قوله تعالى : (مُبارَكاً) قال الزجّاج : هو منصوب على الحال. المعنى : الذي استقرّ بمكّة في حال بركته. (وَهُدىً) ، أي : وذا هدى. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع ، المعنى : وهو هدى. فأمّا بركته ، ففيه تغفر الذنوب ، وتضاعف الحسنات ، ويأمن من دخله.

(١٩٧) وروى ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من طاف بالبيت ، لم يرفع قدما ، ولم يضع

____________________________________

(١٩٧) حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٩٥٩ وابن خزيمة ٢٧٥٣ وابن حبان ٣٦٩٧ والحاكم ١ / ٤٨٩ من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.

__________________

(١) في «القاموس» : الحشفة صخرة رخوة حولها سهل من الأرض ، أو صخرة تنبت في البحر.


أخرى ، إلا كتب الله له بها حسنة ، وحظّ عنه بها خطيئة ، ورفع له بها درجة».

قوله تعالى : (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) ، في معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال : أحدها : أنه بمعنى القبلة ، فتقديره : وقبلة للعالمين. والثاني : أنه بمعنى : الرّحمة. والثالث : أنه بمعنى : الصّلاح ، لأن من قصده ، صلحت حاله عند ربّه. والرابع : أنه بمعنى : البيان ، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره ، حيث يجتمع الكلب والظّبي في الحرم ، فلا الكلب يهيّج الظّبي ، ولا الظّبي يستوحش منه ، قاله القاضي أبو يعلى.

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ، الجمهور يقرءون : آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ : (فيه آية بيّنة مقام إبراهيم) ، وبها قرأ مجاهد. قالا : مقام إبراهيم. فأمّا من قرأ : (آياتٌ) فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : الآيات : مقام إبراهيم ، وأمن من دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبّرا عن التثنية ، وذلك جائز في اللغة ، كقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (١) وقال أبو رجاء : كان الحسن يعدّهنّ ، وأنا أنظر إلى أصابعه : مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، ولله على النّاس حجّ البيت. وقال ابن جرير : في الكلام إضمار ، تقديره : منهنّ مقام إبراهيم. قال المفسرون : الآيات فيه كثيرة ، منها مقام إبراهيم ، ومنها : أمن من دخله ، ومنها : امتناع الطّير من العلوّ عليه ، واستشفاء المريض منها به ، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه ، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى : والمراد بالبيت هاهنا : الحرم كلّه ، لأن هذه الآيات موجودة فيه ، ومقام إبراهيم ليس في البيت ، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر ، فأثّرت قدماه فيه ، فكان ذلك دليلا على قدرة الله ، وصدق إبراهيم.

قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، قال القاضي أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر ، وتقديره : ومن دخله ، فأمّنوه ، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله ، وفيمن جنى فيه بعد دخوله ، إلا

____________________________________

وإسناده ضعيف ، جرير سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه الطيالسي ١٩٠٠ وأحمد ٢ / ٩٥ و ٢ / ٢٢ ـ مطولا ـ وابن خزيمة ٢٧٥٣ عن محمد بن فضيل وهشيم عن عطاء به. وكلاهما سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه النسائي ٥ / ٢٢١ عن حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عمر لكن بلفظ «من طاف سبعا فهو كعدل رقبة». ورجاله ثقات ، وهو صحيح إن كان سمعه عبد الله من ابن عمر ، فإن عبارته تدل على الإرسال. لكن لهذا اللفظ طريق آخر ، أخرجه ابن ماجة ٢٩٥٦ من طريق العلاء بن المسيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به. وهذا إسناد صحيح ، رجاله رجال الشيخين. وقال البوصيري : رجاله ثقات.

ـ قلت : فلفظ النسائي صحيح. وأما لفظ المصنف ، فلم يرد من وجه صحيح عن ابن عمر ، لكن في الباب أحاديث تشهد له ، فهو حسن ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧٨.


أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمّن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان ، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه ، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أحمد في رواية المروذيّ : إذا قتل ، أو قطع يدا ، أو أتى حدّا في غير الحرم ، ثم دخله ، لم يقم عليه الحدّ ، ولم يقتصّ منه ، ولكن لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يؤاكل حتى يخرج ، فإن فعل شيئا من ذلك في الحرم ، استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل : إذا قتل خارج الحرم ، ثم دخله ، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النّفس ، فإنه يقام عليه الحدّ ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشّافعيّ : يقام عليه جميع ذلك في النّفس ، وفيما دون النّفس (١).

وفي قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك ، وهو مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وسعيد بن جبير ، وطاوس.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، الأكثرون على فتح حاء «الحج» ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : بكسرها. قال مجاهد : لما أنزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) قال أهل الملل كلّهم : نحن مسلمون ، فنزلت هذه الآية ، فحجّه المسلمون ، وتركه المشركون ، وقالت اليهود : لا نحجّه أبدا.

قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، قال النّحويون : «من» بدل من «الناس» ، وهذا بدل البعض ، كما تقول : ضربت زيدا رأسه.

(١٩٨) وقد روي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، وعائشة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل : ما السّبيل؟ فقال : «من وجد الزّاد والرّاحلة».

____________________________________

(١٩٨) ورد عن جماعة من الصحابة بأسانيد واهية ، لا تقوم بها حجة ، منها :

١ ـ حديث ابن عمر ، أخرجه الترمذي ٨١٣ و ٢٩٩٨ وابن ماجة ٢٨٩٦ والدارقطني ٢ / ٢١٧ والطبري ٧٤٨٢ و ٧٤٨٣ والبيهقي ٤ / ٣٣٠. وأشار الترمذي إلى ضعفه ، حيث قال : إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه اه. وكذا ضعف إسناده الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٣٩٠. لكن تابعه محمد بن عبد الله الليثي عند ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٣٩٤ ، لكن الليثي هذا واه.

٢ ـ حديث ابن مسعود ، أخرجه أبو يعلى ٥٠٨٦ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٣ / ٢٢٤ وقال : وفيه رجل ضعيف اه. وهو في مسند أبي حنيفة ٢٢٣.

٣ ـ حديث أنس ، أخرجه الدارقطني ٢ / ٢١٦ والحاكم ١ / ٤٤٢ وصححه على شرطهما ، وقال : وقد توبع سعيد بن أبي عروبة ، تابعه حمّاد بن سلمة عن قتادة ، ثم أسنده هو والدارقطني من طريق حماد وقال : صحيح على شرط مسلم! وسكت الذهبي! وليس كذلك بل فيه عبد الله بن واحد الحراني ، وهو متروك.

٤ ـ حديث عائشة : أخرجه الدارقطني ٢ / ٢١٧ والعقيلي ٣٢٣ والبيهقي ٤ / ٣٣٠ وأعلّه العقيلي بعتاب بن أعين وقال : وهم فيه والصواب عن الحسن مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٣٩٠ : حديث ابن عمر ضعيف ، وحديث أنس معلول ، وصوّب البيهقي أن يكون من مرسل الحسن ، وأخرجه الدارقطني ، بأسانيد ضعيفة اه باختصار.

ـ وجاء في «تلخيص الحبير» ٢ / ٢٢١ ما ملخصه : وطرقه كلها ضعيفة ، وكذا قال عبد الحق. وقال ابن منذر :

__________________

(١) تقدم هذا البحث في سورة البقرة.


قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) ، فيه خمسة أقوال : أحدها : أن معناه : من كفر بالحجّ فاعتقده غير واجب ، رواه مقسم عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : من لم يرج ثواب حجّه ، ولم يخف عقاب تركه ، فقد كفر به ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث : أنه الكفر بالله ، لا بالحجّ ، وهذا المعنى مروي عن عكرمة ، ومجاهد. والرابع : أنه إذا أمكنه الحجّ ، فلم يحجّ حتى مات ، وسم بين عينيه : كافر ، هذا قول ابن عمر. والخامس : أنه أراد الكفر بالآيات التي أنزلت في ذكر البيت ، لأن قوما من المشركين قالوا : نحن نكفر بهذه الآيات ، هذا قول ابن زيد.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ). قال الحسن : هم اليهود والنّصارى. فأمّا آيات الله فقال ابن عباس : هي القرآن ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما الشّهيد ، فقال ابن قتيبة : هو بمعنى الشّاهد ، وقال الخطّابيّ : هو الذي لا يغيب عنه شيء ، كأنه الحاضر الشّاهد.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ). قال مقاتل : دعت اليهود حذيفة ، وعمّار بن ياسر ، إلى دينهم ، فنزلت هذه الآية.

وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان : أحدهما : أنهم اليهود والنّصارى ، قاله الحسن. والثاني : اليهود. قاله زيد بن أسلم ، ومقاتل. قال ابن عباس : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : الإسلام ، والحجّ. وقال قتادة : لم تصدّون عن نبيّ الله ، وعن الإسلام. قال السّدّيّ : كانوا إذا سئلوا : هل تجدون محمّدا في كتبكم؟ قالوا : لا. فصدّوا عنه الناس.

قوله تعالى : (تَبْغُونَها) ، قال اللغويّون : الهاء كناية عن السّبيل ، والسّبيل يذكّر ويؤنّث. وأنشدوا :

فلا تبعد فكلّ فتى أناس

سيصبح سالكا تلك السّبيلا

ومعنى «تبغونها» : تبغون لها ، تقول العرب : أبغني خادما ، يريدون : ابتغه لي ، فإذا أرادوا : ابتغ معي ، وأعنّي على طلبه ، قالوا : أبغني ، ففتحوا الألف ، ويقولون : وهبتك درهما ، كما يقولون : وهبت لك. قال الشاعر :

فتولّى غلامهم ثمّ نادى

أظليما أصيدكم أم حمارا؟ (١)

أراد : أصيد لكم. ومعنى الآية : يلتمسون لسبيل الله الزّيغ والتّحريف ، ويريدون ردّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج ، ويطلبون العدول عن القصد ، هذا قول الفرّاء ، والزّجّاج ، واللغويين.

__________________

لا يثبت مسندا ، والصواب من الروايات رواية الحسن المرسلة اه. ولمزيد الكلام عليه راجع «نصب الراية» ٣ / ٨ ـ ١٠ فقد ذكر طرقه وكشف عن عللها. وانظر «تفسير ابن كثير» بتخريجي عند هذه الآية ، وكذا «فتح القدير» للشوكاني.

__________________

(١) في «اللسان» : ظليم : الذكر من النعام. وأصيدكم : يعني أصيد لكم.


قال ابن جرير : خرج هذا الكلام على السّبيل ، والمعنى : لأهله ، كأنّ المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحقّ عوجا. أي : ضلالا. قال أبو عبيدة : العوج بكسر العين ، في الدّين ، والكلام ، والعمل ، والعوج بفتحها ، في الحائط والجذع. وقال الزجّاج : العوج بكسر العين : فيما لا ترى له شخصا ، وما كان له شخص قلت : عوج بفتحها ، تقول : في أمره ودينه عوج ، وفي العصا عوج. وروى ابن الأنباريّ عن ثعلب قال : العوج عند العرب بكسر العين : في كلّ ما لا يحاط به ، والعوج بفتح العين في كل ما لا يحصّل ، فيقال : في الأرض عوج ، وفي الدّين عوج ، لأن هذين يتّسعان ، ولا يدركان. وفي العصا عوج ، وفي السّنّ عوج ، لأنهما يحاط بهما ، ويبلغ كنههما. وقال ابن أبي فارس : العوج بفتح العين : في كل منتصب ، كالحائط. والعوج : ما كان في بساط أو أرض ، أو دين ، أو معاش.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه ، وأنتم شاهدون بصحّة ما صددتم عنه ، وبطلان ما أنتم فيه ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، وقتادة ، والأكثرين. والثاني : أن معنى الشهداء هاهنا : العقلاء ، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠))

(١٩٩) سبب نزولها أنّ الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية ، فلمّا جاء النّبيّ عليه‌السلام أطفأ تلك الحرب بالإسلام ، فبينما رجلان أوسيّ وخزرجيّ يتحدّثان ، ومعهما يهوديّ ، جعل اليهوديّ يذكّرهما أيامهما ، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا ، فنادى كلّ واحد منهما بقومه ، فخرجوا بالسّلاح ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، والجماعة. قال المفسرون : والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج. قال زيد بن أسلم : وعنى بذلك الفريق : شاس بن قيس اليهوديّ وأصحابه. قال الزجّاج : ومعنى طاعتهم : تقليدهم.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ). قال ابن قتيبة : أي : يمتنع ، وأصل العصمة : المنع ، قال الزجّاج : ويعتصم جزم ب «من» والجواب : (فَقَدْ هُدِيَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢))

قال عكرمة : نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا ، وأصلح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم.

وفي (حَقَّ تُقاتِهِ) ثلاثة أقوال :

(٢٠٠) أحدها : أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، رواه ابن مسعود

____________________________________

(١٩٩) ضعيف. أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٢ / ١٠٣ (آل عمران : ١٠٠) والواحدي في «أسباب النزول» ٢٣١ عن عكرمة مرسلا ، فهو ضعيف.

(٢٠٠) الصواب موقوف ، كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٤٤١ والحاكم ٢ / ٢٩٤ والطبراني ٨٥٠١ والطبري


عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل.

والثاني : أن يجاهد في الله حقّ الجهاد ، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم ، وأن يقوموا له بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث : أن معناه : اتّقوه فيما يحقّ عليكم أن تتّقوه فيه ، قاله الزجّاج.

فصل : واختلف العلماء : هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين : أحدهما : أنه منسوخ ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد ، والسّدّيّ ، ومقاتل. قالوا : لما نزلت هذه الآية ، شقّت على المسلمين ، فنسخها قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١). والثاني : أنها محكمة ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول طاوس. قال شيخنا عليّ بن عبد الله : والاختلاف في نسخها وإحكامها ، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها ، فالمعتقد نسخها يرى أنّ (حَقَّ تُقاتِهِ) الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقّه ، وهذا يعجز الكلّ عن الوفاء به ، فتحصيله من الواحد ممتنع ، والمعتقد إحكامها يرى أنّ (حَقَّ تُقاتِهِ) أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته ، فكان قوله تعالى : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) مفسرا ل (حَقَّ تُقاتِهِ) لا ناسخا ولا مخصّصا.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) قال الزجاج : اعتصموا : استمسكوا. فأما الحبل ، ففيه ستة أقوال : أحدها : أنه كتاب الله : القرآن. رواه شقيق عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الجماعة ، رواه الشّعبيّ عن ابن مسعود. والثالث : أنه دين الله ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة. وقال ابن زيد : هو الإسلام. والرابع : عهد الله ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة في رواية ، وأبو عبيد ، واحتجّ له الزجاج بقول الأعشى :

وإذا تجوّزها حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالها

وأنشد ابن الأنباريّ :

فلو حبلا تناول من سليمى

لمدّ بحبلها حبلا متينا (٢)

والخامس : أنه الإخلاص ، قاله أبو العالية. والسادس : أنه أمر الله وطاعته ، قاله مقاتل بن حيّان. قال الزجّاج : وقوله : (جَمِيعاً) منصوب على الحال ، أي : كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل

____________________________________

٧٥٣٩ عن ابن مسعود. وصححه الحاكم على شرطهما ، وكرره الطبري ٧٥٣٤ و ٧٥٣٥ و ٧٥٣٦ موقوفا و ٧٥٣٧ و ٧٥٣٨ و ٧٥٤٠ و ٧٥٤١ من طرق موقوفا. ولم أجده مرفوعا ، فقد رواه الأئمة كما رأيت موقوفا ، وهو الصواب. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٥٣٨.

__________________

(١) التغابن : ١٦.

(٢) في «اللسان» : الحبل الوصال.


(تَفَرَّقُوا) : تتفرّقوا ، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد ، والمحذوفة هي الثّانية ، لأن الأولى دليلة على الاستقبال ، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدلّ على الاستقبال ، وهو مجزوم بالنّهي ، والأصل : ولا تتفرقون ، فحذفت النون ، لتدلّ على الجزم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، اختلفوا فيمن أريد بهذا الكلام على قولين :

أحدهما : أنهم مشركو العرب ، كان القويّ يستبيح الضعيف ، قاله الحسن ، وقتادة.

والثاني : الأوس والخزرج ، كان بينهم حرب شديد ، قاله ابن إسحاق. والأعداء : جمع عدوّ. قال ابن فارس : وهو من عدا : إذا ظلم.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحْتُمْ) أي : صرتم. قال الزجّاج : وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه ، والعرب تقول : فلان يتوخّى مسارّ فلان ، أي : ما يسرّه. والشّفا : الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك ، وقربهم من العذاب ، كأنه قال : كنتم على حرف حفرة من النّار ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السّدّيّ : فأنقذكم منها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) قال الزجّاج : معنى الكلام : ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير ، وتأمرون بالمعروف ، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس ، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ، ومثله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) معناه : اجتنبوا الأوثان ، فإنها رجس. ومثله قول الشاعر (١) :

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر

وهو النّوفل الزّفر. لأنه وصفه بإعطاء الرّغائب. والنّوفل : الكثير الإعطاء للنّوافل ، والزّفر : الذي يحمل الأثقال. ويدلّ على أن الكلّ أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قال : ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة ، لأنّ الدّعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه ، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض الناس فيه عن بعض ، كالجهاد. فأمّا الخير ، ففيه قولان : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله مقاتل. والثاني : العمل بطاعة الله ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وأما المعروف ؛ فهو ما يعرف كلّ عاقل صوابه ، وضدّه المنكر ، وقيل : المعروف ها هنا : طاعة الله ، والمنكر : معصيته.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود والنّصارى ، قاله ابن عباس ، والحسن في آخرين. والثاني : أنهم الحروريّة (٢) ، قاله أبو أمامة.

__________________

(١) هو أعشى باهلة ـ عامر بن الحارث ـ كما في «اللسان» مادة (نفل)

(٢) حروراء : هي قرية بظاهر الكوفة وقيل على ميلين منها نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسبوا إليها ـ انظر معجم البلدان ٢ / ٢٤٥.


(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦))

قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قرأ أبو رزين العقيليّ ، وأبو عمران الجونيّ ، وأبو نهيك : تبيضّ وتسودّ ، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن ، والزّهريّ ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياضّ وتسوادّ بألف ، ومدّة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر. «فأمّا الذين اسوادّت وأمّا الذين ابياضّت» بألف ومدّة. قال الزجاج : أخبر الله بوقت ذلك العذاب ، فقال : يوم تبيضّ وجوه. قال ابن عباس : تبيضّ وجوه أهل السّنّة ، وتسودّ وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودّت وجوههم ، خمسة أقوال : أحدها : أنهم كلّ من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق ، قاله أبيّ بن كعب. والثاني : أنهم الحروريّة ، قاله أبو أمامة ، وأبو إسحاق الهمذانيّ. والثالث : اليهود ، قاله ابن عباس. والرابع : أنهم المنافقون ، قاله الحسن. والخامس : أنهم أهل البدع ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ) قال الزجاج : معناه : فيقال لهم : أكفرتم ، فحذف القول لأنّ في الكلام دليلا عليه ، كقوله تعالى : (وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (١) ، أي ويقولان : ربّنا تقبّل منا. ومثله : (مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) والمعنى : يقولون : سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها التّقرير والتّوبيخ. فإن قلنا : إنهم جميع الكفار ، فإنهم آمنوا يوم الميثاق ، ثم كفروا ، وإن قلنا : إنهم الحروريّة ، وأهل البدع ، فكفرهم بعد إيمانهم : مفارقة الجماعة في الاعتقاد ، وإن قلنا : اليهود ، فإنهم آمنوا بالنبيّ قبل مبعثه ، ثم كفروا بعد ظهوره ، وإن قلنا : المنافقون ، فإنّهم قالوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم.

قوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أصل الذّوق إنما يكون بالفم ، وهذا استعارة منه ، فكأنّهم جعلوا ما يتعرّف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التّطعم ، تقول العرب : قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده ، يعنون : عرفت ، ويقولون ذق الفرس ، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل :

أو كاهتزاز ردينيّ تذاوقه

أيدي التّجار فزادوا متنه لينا

وقال الآخر :

وإنّ الله ذاق حلوم قيس

فلما راء خفّتها قلاها

يعنون بالذّوق : العلم. وفي كتاب الخليل : كل ما نزل بإنسان من مكروه ، فقد ذاقه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧))

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) قال ابن عباس : هم المؤمنون. ورحمة الله : جنّته ، قال ابن قتيبة : وسمّى الجنّة رحمة ، لأن دخولهم إيّاها كان برحمته. وقال الزجّاج : معناه : في ثواب رحمته ، قال : وأعاد ذكر «فيها» توكيدا.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨))

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٧.


قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) قال بعضهم : معناه : لا يعاقبهم بلا جرم. وقال الزجّاج : أعلمنا أنه يعذّب من عذّبه باستحقاق.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))

قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) سبب نزولها أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين ، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل : ديننا خير مما تدعونا إليه ، ونحن أفضل منكم ، فنزلت هذه الآية (١) ، هذا قول عكرمة ومقاتل.

وفيمن أريد بهذه الآية ، أربعة أقوال : أحدها : أنهم أهل بدر. والثاني : أنهم المهاجرون. والثالث : جميع الصحابة. والرابع : جميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس.

(٢٠١) وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إنّكم توفّون سبعين أمة أنتم خيرها ، وأكرمها على الله عزوجل». قال الزجّاج : وأصل الخطاب لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يعمّ سائر أمّته.

وفي قوله تعالى : (كُنْتُمْ) ، قولان : أحدهما : أنها على أصلها ، والمراد بها الماضي ، ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني : أن معناه : خلقتم وجدتم. ذكرهما المفسرون. والثالث : أن المعنى : كنتم مذ كنتم ، ذكره ابن الأنباريّ. والثاني : أن معنى كنتم : أنتم ، كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً*) (٢). ذكره الفرّاء ، والزجّاج. قال ابن قتيبة : وقد يأتي الفعل على بنية الماضي ، وهو راهن ، أو مستقبل ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ) ومعناه : أنتم ، ومثله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) (٣) ، أي : وإذ يقول. ومثله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) (٤) ، أي : سيأتي ، ومثله: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي

____________________________________

(٢٠١) حديث صحيح بشواهده. إسناده حسن للاختلاف المعروف في بهز عن آبائه ، وهي سلسلة الحسن ، وللحديث شواهد ، جد بهز هو معاوية بن حيدة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي ٣٠٠١ وابن ماجة ٤٢٨٧ وأحمد ٤ / ٤٤٧ والحاكم ٤ / ٨٤ والطبري ٧٦١٩ والطبراني في «الكبير» ١٩ / ١٠٢٣ و ١٠٣٠ من حديث بهز بن حكيم. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حديث حسن. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٨٦٤٥ وقال : رواه أحمد ورجاله ثقات.

ـ وأخرج الطبري ٧٦٢١ عن قتادة قال : «ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة : نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة ، نحن آخرها وخيرها» اه. وللحديث شواهد يتقوى بها إن شاء الله تعالى. ويشهد له ما أخرجه أحمد ٣ / ٦١ (١١١٩٣) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا وإن هذه الأمة توفّي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عزوجل». وهو حديث حسن ، وسيأتي.

__________________

(١) ضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٣٥ عن عكرمة ومقاتل بدون إسناد وأخرجه الطبري ٧٦٠٧ عن عكرمة مرسلا مختصرا.

(٢) سورة النساء : ٩٦.

(٣) سورة المائدة : ١١٦.

(٤) سورة النحل : ١.


الْمَهْدِ) (١) ، أي : من هو في المهد ، ومثله : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) أي : والله سميع بصير ، ومثله : (فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) (٣) أي : فنسوقه.

وفي قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قولان : أحدهما : أن معناه : كنتم خير النّاس للنّاس. قال أبو هريرة : يأتون بهم في السّلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني : أن معناه : كنتم خير الأمم التي أخرجت.

وفي قوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قولان : أحدهما : أنه شرط في الخيريّة ، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطّاب ، ومجاهد ، والزجّاج. والثاني : أنه ثناء من الله عليهم ، قاله الرّبيع بن أنس. قال أبو العالية : والمعروف : التّوحيد. والمنكر : الشّرك. قال ابن عباس : وأهل الكتاب : النّصارى واليهود.

قوله تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) : من أسلم ، كعبد الله بن سلام وأصحابه. (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) يعني : الكافرين ، وهم الذين لم يسلموا.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١))

قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) قال مقاتل : سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلّام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم ، فنزلت هذه الآية (٤). قال ابن عباس : والأذى قولهم : «عزير ابن الله» و «المسيح ابن الله» و «ثالث ثلاثة». وقال الحسن : هو الكذب على الله ، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج : هو البهت والتحريف. ومقصود الآية إعلام المسلمين بأنّه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إيّاهم إلى الضّلال ، وإسماعهم الكفر ، ثم وعدهم النّصر عليهم في قوله : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ، وكذلك كان.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

قوله تعالى : (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) معناه : أدركوا ووجدوا ، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان ، وأداء جزية. قال الحسن : أدركتهم هذه الأمة ، وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية. وأمّا الحبل ، فقال ابن عباس ، وعطاء ، والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد : الحبل : العهد ، قال بعضهم : ومعنى الكلام : إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجّاج : وما بعد الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) ليس من الأوّل ، وإنما المعنى : أنهم أذلّاء ، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية.

__________________

(١) سورة مريم : ٢٩.

(٢) سورة النساء : ٣٤.

(٣) سورة فاطر : ٩.

(٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو متروك متهم بالكذب ، فخبره لا شيء.


(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣))

قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) ، في سبب نزولها قولان :

(٢٠٢) أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، احتبس عن صلاة العشاء ليلة حتى ذهب ثلث الليل ، ثم جاء فبشّرهم ، فقال : «إنّه لا يصلّي هذه الصّلاة أحد من أهل الكتاب» ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود. والثاني : أنه لمّا أسلم ابن سلام في جماعة من اليهود ، قال أحبارهم : ما آمن بمحمّد إلا أشرارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، ومقاتل.

وفي معنى الآية قولان : أحدهما : ليس أمّة محمّد واليهود سواء ، هذا قول ابن مسعود ، والسّدّيّ. والثاني : ليس اليهود كلّهم سواء ، بل فيهم من هو قائم بأمر الله ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة. وقال الزجّاج : الوقف التّامّ (لَيْسُوا سَواءً) أي : أهل الكتاب متساوين.

وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الثّابتة على أمر الله ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنها العادلة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وابن جريج. والثالث : أنها المستقيمة ، قاله أبو عبيد ، والزجاج. قال الفرّاء : ذكر أمّة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى ، والكلام مبنيّ على أخرى ، لأن «سواء» لا بدّ لها من اثنين ، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشّيئين إذا كان في الكلام دليل عليه ، قال أبو ذؤيب :

عصيت إليها القلب إنّي لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها؟!

ولم يقل : أم لا ، ولا أم غيّ ، لأنّ الكلام معروف المعنى. وقال آخر (١) :

وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيّهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشّرّ الذي هو يبتغيني

ومثله قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) ولم يذكر ضدّه ، لأن في قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، دليلا على ما أضمر من ذلك ، وقد ردّ هذا القول الزجّاج ، فقال : قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى : (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) فأعلم الله أنّ منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال : وأمّة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم ، وهو الكفر والمشاقّة ، فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء. قال : و (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته ، وواحد

____________________________________

(٢٠٢) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٩٣ وأحمد ١ / ٣٩٦ وأبو يعلى ٥٣٠٦ وابن حبان ١٥٣٠ والبزار ٣٧٥ «كشف» والواحدي في «أسباب النزول» ٢٣٨ من حديث ابن مسعود ، وإسناده حسن لأجل عاصم بن أبي النجود ، وحسنه السيوطي في «الدر» ٢ / ٦٥ وكما نقل الشوكاني في «فتح القدير» ١ / ٤٣٠ ووافقه ، وله شاهد من حديث عائشة ، أخرجه البخاري ٥٦٦ ومسلم ٦٣٨. وشاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه البخاري ٥٦٤ ومسلم ٦٣٩ وليس فيهما نزول الآية. فالحديث حسن بتمامه ، وأصله صحيح بشواهده ، والله أعلم.

__________________

(١) هو المثقّب العبدي ـ عائذ بن محصن ، والبيت من قصيدة جيدة في المفضّليات.

(٢) سورة الزمر : ٩.


الآناء : إني. قال ابن فارس : يقال : مضى من الليل إنى وإنيان ، والجمع : الآناء. واختلف المفسرون : هل هذه الآناء معيّنة من الليل أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها معيّنة ، ثم فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها صلاة العشاء ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد. والثاني : أنّها ما بين المغرب والعشاء ، رواه سفيان عن منصور. والثالث : جوف الليل ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنها ساعات الليل من غير تعيين ، قاله قتادة في آخرين.

وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، قولان : أحدهما : أنه كناية عن الصلاة ، قاله مقاتل ، والفراء ، والزجّاج. والثاني : أنه السّجود المعروف ، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود ، ولكنهم جمعوا الأمرين ، التلاوة والسّجود.

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

قوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : تفعلوا ، وتكفروه ، بالتاء في الموضعين على الخطاب ، لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ). قال قتادة : فلن تكفروه : لن يضلّ عنكم. وقرأ قوم ، منهم : حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : يفعلوا ، ويكفروه ، بالياء فيهما ، إخبارا عن الأمّة القائمة. وبقيّة أصحاب أبي عمرو يخيّرون بين الياء والتاء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

قوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال : أحدها : أنها في نفقات الكفّار ، وصدقاتهم ، قاله مجاهد. الثاني : في نفقة سفلة اليهود على علمائهم ، قاله مقاتل. والثالث : في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين ، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماورديّ. وقال السّدّيّ : إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم.

وفي الصّرّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه البرد ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه النّار ، قاله ابن عباس ، قال ابن الأنباريّ : وإنما وصفت النّار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب. والثالث : أن الصّرّ : التّصويت ، والحركة من الحصى والحجارة ، ومنه : صرير النّعل ، ذكره ابن الأنباريّ.

والحرث : الزّرع. وفي معنى (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قولان : أحدهما : ظلموها بالكفر ، والمعاصي ، ومنع حقّ الله تعالى. والثاني : بأن زرعوا في غير وقت الزّرع.

قوله تعالى : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) قال ابن عباس : أي : ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه ، وإنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حقّ الله منه ، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة.


وحدّثنا عن ثعلب ، قال : بدأ الله عزوجل هذه الآية بالرّيح ، والمعنى : على الحرث ، كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) (١) وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) (٢) فخبّر عن «الأزواج» وترك «الذين» ، كأنّه قال : أزواج الذين يتوفّون منكم يتربّصن ، فبدأ بالذين ، ومراده : بعد الأزواج. وأنشد :

لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة

عن ابن أبي ديّان أن يتندّما

فخبّر عن ابن أبي ديان ، وترك نفسه ، وإنما أراد : لعلّ ابن أبي ديّان أن يتندّما إن مالت بي الرّيح ميلة. وقد يبدأ بالشيء ، والمراد التّأخير ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٣) والمعنى : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) قال ابن عباس ، ومجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ، ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة ، والصّداقة ، والجوار ، والرّضاع ، والحلف ، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجّاج : البطانة : الدّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم ، يقال : فلان بطانة لفلان ، أي : مداخل له ، مؤانس. ومعنى لا يألونكم : لا يتّقون غاية في إلقائكم فيما يضرّكم.

قوله تعالى : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي : ودّوا عنتكم ، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ ، ويقال : فلان يعنت فلانا ، أي : يقصد إدخال المشقّة والأذى عليه ، وأصل هذا من قولهم : أكمة عنوت ، إذا كانت طويلة ، شاقّة المسلك. قال ابن قتيبة : ومعنى (مِنْ دُونِكُمْ) أي : من غير المسلمين. والخبال : الشّرّ.

قوله تعالى : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) قال ابن عباس : أي : قد ظهر لكم منهم الكذب ، والشّتم ، ومخالفة دينكم ، قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذّمّة في أمور المسلمين من العمّالات والكتبة (٤) ، ولهذا قال أحمد : لا يستعين الإمام بأهل الذّمّة على قتال أهل الحرب ، وروي عن عمر أنه بلغه أنّ أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذّمّة ، فكتب إليه يعنّفه ، وقال : لا تردّوهم إلى العزّ بعد إذ أذلّهم الله.

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩))

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧١.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٣) سورة الزمر : ٦٠.

(٤) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٩٨ : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ، ففي هذا الأثر مع هذه الآية ، دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين ، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.


قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) قال ابن عباس : كان عامّة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم ، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود ، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة : ومعنى الكلام : ها أنتم يا هؤلاء. فأمّا «تحبونهم» ، فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبّة المؤمنين لهم أربعة أقوال : أحدها : أنها الميل إليهم بالطّباع ، لموضع القرابة والرّضاع والحلف ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني : أنها بمعنى الرّحمة لهم ، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشّديد ، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث : أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان ، روي عن أبي العالية. والرابع : أنها بمعنى الإسلام لهم ، وهم يريدون المسلمين على الكفر ، وهذا قول المفضّل ، والزجّاج. والكتاب : بمعنى الكتاب ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) هذه حالة المنافقين ، وقال مقاتل : هم اليهود. والأنامل : أطراف الأصابع. قال ابن عباس : والغيظ : الحنق عليكم ، وقيل : هذا من مجاز الكلام ، ضرب مثلا لما حلّ بهم ، وإن لم يكن هناك عضّ على أنملة ، ومعنى (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) : ابقوا به حتى تموتوا ، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما. قال ابن جرير : هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكم الله كمدا من الغيظ.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

قوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) قال قتادة : وهي الألفة والجماعة. والسّيئة : الفرقة والاختلاف ، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة : الحسنة : النّعمة. والسّيئة : المصيبة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا) فيه قولان : أحدهما : على أذاهم ، قاله ابن عباس. والثاني : على أمر الله ، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى : (وَتَتَّقُوا) قولان : أحدهما : الشّرك ، قاله ابن عباس. والثاني : المعاصي ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «لا يضركم» بكسر الضاد ، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «لا يضرّكم» بضم الضاد وتشديد الراء. قال الزجاج : الضّرّ والضّير بمعنى واحد. فأمّا الكيد فقال ابن قتيبة : هو المكر. قال أبو سليمان الخطّابيّ : والمحيط : الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه ، وأحاط علمه بالأشياء كلّها.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١))

قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) قال المفسرون : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ولقد نصركم الله ببدر ، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة : تبوّئ ، من قولك : بوّأتك منزلا : إذا أفدتك إياه ، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال : المعسكر والمصاف. واختلفوا في أيّ يوم كان ذلك ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يوم أحد ، قاله عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزّهريّ ، وقتادة والسّدّيّ ، والرّبيع وابن إسحاق ، وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال. والثاني : أنه يوم الأحزاب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل. والثالث : يوم بدر نقل عن


الحسن أيضا. قال ابن جرير : والأوّل أصحّ ، لقوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وقد اتّفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد.

قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : سميع لمشاورتك إيّاهم في الخروج ، ومرادهم للخروج ؛ عليم بما يخفون من حبّ الشهادة.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) قال الزجاج : كانت التبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا : تجبنا ، وتخورا. (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ، أي : ناصرهما. قال جابر بن عبد الله :

(٢٠٣) نحن هم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، وما نحبّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما). وقال الحسن : هما طائفتان من الأنصار همّتا بذلك ، فعصمهما الله. وقيل : لمّا رجع عبد الله بن أبيّ في أصحابه يوم أحد ، همّت الطّائفتان باتّباعه ، فعصمهما الله.

فصل : فأما التّوكل ، فقال ابن عباس : هو الثّقة بالله. وقال ابن فارس : هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك ، ويقال : فلان وكلة تكلة ، أي : عاجز ، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره : هو تفعّل من الوكالة ، يقال : وكلت أمري إلى فلان فتوكّل به ، أي : ضمنه ، وقام به ، وأنا متوكّل عليه. وقال بعضهم : هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) في تسمية بدر قولان : أحدهما : أنها بئر لرجل اسمه بدر ، قاله الشّعبيّ. والثاني : أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه ، ذكره الواقديّ عن أشياخه.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي لقلّة العدد والعدد (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتكونوا من الشّاكرين.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤))

قوله تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) قال الشّعبيّ : قال كرز بن جابر لمشركي مكّة : إني أمدّكم بقومي ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية. وفي أيّ يوم كان ذلك؟ فيه قولان : أحدهما : يوم بدر ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ومجاهد ، وقتادة. والثاني : يوم أحد ، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا ، فلمّا لم يصبروا لم يمدّوا ، روي عن عكرمة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والأوّل أصحّ. والكفاية : مقدار سدّ الخلّة. والاكتفاء : الاقتصار على ذلك. والإمداد : إعطاء الشيء بعد الشيء.

قوله تعالى : (مُنْزَلِينَ) قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي ، وشدّدها ابن عامر.

____________________________________

(٢٠٣) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٥٨ ومسلم ٢٥٠٥ والطبري ٧٧٢٧ من حديث جابر.

تنبيه : في هذا ردّ على الرافضة الذين اختصوا عليا وحده بالولاية. والآية نزلت في الأنصار بالاتفاق ، وهؤلاء كلهم أولياء الله ، والله وليهم ، إنه نعم المولى ونعم النصير.


(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥))

قوله تعالى : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : من وجههم وسفرهم هذا ، قاله ابن عباس والحسن ، وقتادة ومقاتل ، والزجّاج. والثاني : من غضبهم هذا ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، والضّحّاك في آخرين. قال ابن جرير : من قال : من وجههم ، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر ، ومن قال : من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، يقال : فارت القدر : إذ ابتداء ما فيها بالغليان ، ثمّ اتّصل. وقال ابن فارس : الفور : الغليان ، يقال : فارت القدر تفور ، وفار غضبه : إذا جاش ، ويقولون : فعله من فوره ، أي : قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان : أحدهما : أنه يوم بدر ، قاله قتادة. والثاني : يوم أحد ، قال مجاهد ، والضّحّاك : كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر ممّا لقوا.

قوله تعالى : (مُسَوِّمِينَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم بكسر الواو ، والباقون بفتحها ، فمن فتح الواو ، أراد أن الله سوّمها ، ومن كسرها ، أراد أن الملائكة سوّمت أنفسها. وقال الأخفش : سوّمت خيلها. وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم بدر :

(٢٠٤) «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت» ونسب الفعل إليها ، فهذا دليل الكسر.

قال ابن قتيبة : ومعنى مسوّمين : معلّمين بعلامة الحرب ، وهو من السّيماء ، والسّومة : العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه. قال عليّ عليه‌السلام : وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر ، الصّوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة : العهن الأحمر. وقال مجاهد : كانت أذناب خيولهم مجزوزة ، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة : كانت الملائكة على خيل بلق ، وعليهم عمائم صفر.

(٢٠٥) وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال : حضرت أنا وابن عمّ لي بدرا ، ونحن على شركنا ، فأقبلت سحابة ، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل ، وسمعنا فارسا يقول : أقدم حيزوم ، فأمّا صاحبي فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثمّ انتعشت.

(٢٠٦) وقال أبو داود المازني : إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه ، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنّ غيري قد قتله.

____________________________________

(٢٠٤) ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة ١٤ / ٢٥٨ والطبري ٧٧٧٥ عن عمير بن إسحاق قال : إن أول ما كان الصوف يومئذ ـ يعني بدر ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تسوّموا فإن الملائكة قد تسوّمت» ، وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

(٢٠٥) ضعيف. أخرجه الطبري ٧٧٤٨ من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدّث عن ابن عباس ...

فذكره. وإسناده ضعيف ، لجهالة المحدث لعبد الله.

(٢٠٦) صحيح. أخرجه الطبري ٧٧٥٠ من طريق ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن عن أبي داود المازني به. وإسناده ضعيف ، في الإسناد من لم يسمّ. وذكره ابن هشام في «السيرة» ٢ / ٢٧٤ وكذا الحافظ في «الإصابة» ٤ / ٥٨. وله شاهد من حديث ابن عباس ، أخرجه مسلم ١٧٦٣ بهذا السياق في أثناء حديث طويل ، فالخبر صحيح إن شاء الله.


وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال : أحدها : خمسة آلاف ، قاله الحسن.

(٢٠٧) وروى [محمد بن] (١) جبير بن مطعم عن عليّ عليه‌السلام قال : بينا أنا أمتح (٢) من قليب بدر ، [إذ] جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها ، ثمّ جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها إلا التي كانت قبلها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها ، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة ، وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الرّيح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله ، وكانت الرّيح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله ، وكنت عن يساره ، وهزم الله أعداءه.

والثاني : أربعة آلاف ، قاله الشّعبيّ. والثالث : ألف ، قاله مجاهد. والرابع : تسعة آلاف ، ذكره الزجّاج. والخامس : ثمانية آلاف ، ذكره بعض المفسرين.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦))

قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ) يعني المدد (إِلَّا بُشْرى) ، أي : إلا بشارة تطيّب أنفسكم ، (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) ، فتسكن في الحرب ، ولا تجزع. والأكثرون على أنّ هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد : يوم أحد ، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدّهم بالملائكة في اليومين جميعا ، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.

قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : ليس بكثرة العدد والعدد.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧))

قوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) معناه : نصركم ببدر ليقطع طرفا. قال الزجّاج : أي : ليقتل قطعة منهم. وفي أيّ يوم كان ذلك فيه قولان : أحدهما : في يوم بدر ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : يوم أحد ، قتل منهم ثمانية وعشرون ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) فيه سبعة أقوال : أحدها : أن معناه : يهزمهم ، قاله ابن عباس ، والزجّاج. والثاني : يخزيهم ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : يصرعهم ، قاله أبو عبيد ، واليزيديّ. وقال الخليل : هو الصّرع على الوجه. والرابع : يهلكهم ، قاله أبو عبيدة. والخامس : يلعنهم ، قاله السّدّيّ. والسادس : يظفّر عليهم ، قاله المبرّد. والسابع : يغيظهم ، قاله النّصر بن شميل واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة : أهل النّظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال ، كأنّ الأصل فيه : يكبدهم ، أي : يصيبهم في

____________________________________

(٢٠٧) ضعيف. أخرجه أبو يعلى ٤٨٩ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٥٥ من طريق موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن علي ، وإسناده ضعيف ، أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية وصفه الحافظ بأنه سيء الحفظ ، ثم هو منقطع بين محمد بن جبير وعلي. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» ٦ / ٧٦ : رجاله ثقات؟!.

__________________

(١) ما بين معقوفتين زيادة عن «مسند أبي يعلى» و «دلائل النبوة» ٣ / ٥٥.

(٢) في «اللسان» الماتح : المستقي ، ومتح : جذب الدلو من البئر مستقيا.


أكبادهم بالحزن والغيظ ، وشدّة العداوة ، ومنه يقال : فلان قد أحرق الحزن كبده ، وأحرقت العداوة كبده ، والعرب تقول : العدوّ : أسود الكبد ، قال الأعشى :

فما أجشمت من إتيان قوم

هم الأعداء والأكباد سود

كأنّ الأكباد لمّا احترقت بشدّة العداوة ، اسودّت ، ومنه يقال للعدو : كاشح ، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح : الخاصرة ، وإنما يريدون الكبد. لأن الكبد هناك. قال الشاعر :

وأضمر أضغانا عليّ كشوحها (١)

والتّاء والدّال متقاربتا المخرج ، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى ، وتبدل إحداهما من الأخرى ، كقولهم : هرت الثوب وهرده : إذا خرقه ، وكذلك : كبت العدوّ ، وكبده ، ومثله كثير.

قوله تعالى : (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) قال الزجّاج : الخائب : الذي لم ينل ما أمّل. وقال غيره : الفرق بين الخيبة واليأس ، أنّ الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل ، واليأس قد يكون من غير أمل.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨))

قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٢٠٨) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسرت رباعيّته يوم أحد ، وشجّ في جبهته حتى سال الدّم على وجهه ، فقال : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم ، وهو يدعوهم إلى ربّهم عزوجل؟!» فنزلت هذه الآية. أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس. وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والرّبيع.

(٢٠٩) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعن قوما من المنافقين ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر.

والثالث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم همّ بسبّ الذين انهزموا يوم أحد ، فنزلت هذه للآية ، فكفّ عن ذلك ، نقل عن ابن مسعود ، وابن عباس (٢).

____________________________________

(٢٠٨) حديث صحيح. أخرجه مسلم ١٧٩١ وأحمد ٣ / ٢٥٣ و ٢٨٨ وابن حبان ٦٥٧٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٤ والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس.

وأخرجه الترمذي ٣٠٠٢ و ٣٠٠٣ وابن ماجة ٤٠٢٧ وأحمد ٣ / ٩٩ وابن حبان ٦٥٧٤ والواحدي ٢٤٢ والبغوي ٣٦٤٢ والطبري ٧٨٠٥ و ٧٨٠٦ و ٧٨٠٧ من طريق حميد الطويل عن أنس.

(٢٠٩) ساقه المصنف بمعناه ، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٦٩ و ٤٥٥٩ و ٧٣٤٦ والترمذي ٣٠٠٤ و ٣٠٠٥ وأحمد ٢ / ٩٣ وأبو يعلى ٥٥٤٧ وابن خزيمة ٦٢٢ وعبد الرزاق ٤٠٢٧ وابن حبان ١٩٨٧ والنسائي في «التفسير» ٩٥ و ٩٦ والبيهقي ٢ / ١٧٨ من حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو على أربعة نفر فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) فهداهم الله للإسلام. وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح يستغرب من هذا الوجه من حديث نافع عن ابن عمر اه. وأخرجه الطبري ٧٨١٧ أيضا من هذا الوجه. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٥٥٢ بتخريجنا.

__________________

(١) هو عجز بيت للنمر بن تولب ، وصدره : تنفذ منهم نافذات تسؤنني.

(٢) لم أره مسندا ، ولا يصح ، والصواب ما رواه الإمام مسلم وكذا البخاري.

ـ وذكره الماوردي في «تفسيره» ١ / ٤٢٣ (آل عمران : ١٢٨)


(٢١٠) والرابع : أن سبعين من أهل الصّفّة ، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم ، عصيّة وذكوان ، فقتلوا جميعا ، فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم أربعين يوما ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان.

(٢١١) والخامس : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى حمزة ممثّلا به ، قال : «لأمثّلنّ بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية ، قاله الواقديّ.

وفي معنى الآية قولان : أحدهما : ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني : ليس لك من النّصر والهزيمة شيء. وقيل : إنّ «لك» بمعنى «إليك».

قوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) قال الفرّاء : في نصبه وجهان ؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول : لا أزال معك حتى تعطيني. ولمّا نفى الأمر عن نبيّه ، أثبت أنّ جميع الأمور إليه بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠))

____________________________________

(٢١٠) ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك ، وكذبه غير واحد. وله شاهد من مرسل الزهري ولكن مراسيل الزهري واهية ، أرسله الزهري في أثناء حديثه.

ـ ويشهد له ما أرسله الزهري عقب حديث صحيح. وهو ما أخرج البخاري ٤٥٦٠ و ٦٢٠٠ ومسلم ٦٧٥ والنسائي ٢ / ٢٠١ والشافعي ١ / ٨٦ و ٨٧ وأحمد ٢ / ٢٥٥ وابن أبي شيبة ٢ / ٣١٦ و ٣١٧ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٢٤١ وأبو عوانة ٢ / ٢٨٠ و ٢٨٣ وابن حبان ١٩٧٢ وابن خزيمة ٦١٩ والدارمي ١ / ٣٧٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٦ والبيهقي ٢ / ١٩٧ و ٢٤٤ من حديث أبي هريرة قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ، ويرفع رأسه : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد. ثم يقول وهو قائم : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسني يوسف ، اللهم العن لحيان ورعلا ، وذكوان وعصيّة عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

ـ وقول «ثم بلغنا» هو من مرسل الزهري كما بينه الحافظ في «الفتح» ٨ / ٧١ فالخبر ضعيف.

وفي الباب من حديث أنس قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية يقال لهم : القرّاء فأصيبوا ، فما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم فقنت شهرا في صلاة الفجر ويقول : إن عصية عصوا الله ورسوله».

أخرجه البخاري ٦٣٩٤ ومسلم ٦٧٧.

ـ الخلاصة : خبر عصية وذكوان ورعل صحيح ، لكن كون الآية نزلت فيهم ضعيف. وقال الحافظ في «الفتح» ٨ / ٢٢٧ : قول الزهري ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت ... هذا البلاغ لا يصح ، لأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ، ونزول الآية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) كان في قصة أحد ، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟!.

(٢١١) واه بمرة ؛ عزاه المصنف للواقدي واسمه محمد بن عمر ، وهو متروك متهم بالكذب ، فخبره لا شيء ، والصواب في ذلك ما رواه مسلم وكذا البخاري ، وأما الأقوال الثلاثة الأخيرة فليست بشيء.

ـ وخبر حمزة سيأتي في سورة النحل عند الآية : ١٢٦.


قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) قال أهل التفسير : هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير : كان الرجل يكون له على الرجل المال ، فإذا حل الأجل ، فيقول : أخر عنّي ، وأزيدك على مالك ، فتلك الأضعاف المضاعفة.

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) قال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين ، لئلّا يستحلّوا الرّبا. قال الزجّاج : والمعنى : اتّقوا أن تحلّوا ما حرّم الله فتكفّروا.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))

قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كلّهم أثبت الواو في (وَسارِعُوا) إلا نافعا ، وابن عامر ، فإنّهما لم يذكراها. وقال أبو عليّ : وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشّام ، فمن قرأ بالواو ، عطف (وَسارِعُوا) على (وَأَطِيعُوا) ومن حذفها ، فلأنّ الجملة الثانية ملتبسة بالأولى ، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية : بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال : أحدها : أنه الإخلاص ، قاله عثمان بن عفّان رضي الله عنه. والثاني : أداء الفرائض ، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث : الإسلام ، قاله ابن عباس. والرابع : التّكبيرة الأولى من الصّلاة ، قاله أنس بن مالك. والخامس : الطّاعة ، قاله سعيد بن جبير. والسادس : التّوبة ، قاله عكرمة. والسابع : الهجرة ، قاله أبو العالية. والثامن : الجهاد ، قاله الضّحّاك. والتاسع : الصّلوات الخمس ، قاله يمان.

والعاشر : الأعمال الصّالحة ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال ابن قتيبة : أراد بالعرض السّعة ، ولم يرد العرض الذي يخالف الطّول ، والعرب تقول : بلاد عريضة ، أي : واسعة.

(٢١٢) وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمنهزمين يوم أحد : «لقد ذهبتم فيها عريضة».

قال الشاعر (١) :

كأنّ بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

قال : وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطّول ، وإذا عرض الشيء اتّسع ، وإذا لم يعرض ضاق ودقّ. وقال سعيد بن جبير : لو ألصق بعضهنّ إلى بعض كانت الجنّة في عرضهنّ.

____________________________________

(٢١٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٠٢ عن ابن إسحاق به ، وهذا مرسل بل معضل ، فهو ضعيف. وأخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق كما في «الدر» ٢ / ١٥٧.

__________________

(١) في «اللسان» مادة ـ كفف ـ قال ابن بري : شاهد كفة الحابل قول الشاعر ولم ينسبه لأحد.

وكفة حابل : ما يصاد به الظباء ، يجعل كالطوق. والحابل : الصائد ، وكفته : حبالته التي يصيد بها.


(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) قال ابن عباس : في العسر واليسر ، ومعنى الآية : أنّهم رغبوا في معاملة الله ، فلم يبطرهم الرّخاء فينسيهم ، ولم تمنعهم الضّرّاء فيبخلوا.

قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال الزجّاج : يقال : كظمت الغيظ : إذا أمسكت على ما في نفسك منه ، وكظم البعير على جرّته : إذا ردّدها في حلقه. وقال ابن الأنباريّ : الأصل في الكظم : الإمساك على غيظ وغمّ.

(٢١٣) وروى ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما تجرّع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى».

قوله تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فيه قولان : أحدهما : أنه العفو عن المماليك ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه على إطلاقه ، فهم يعفون عمّن ظلمهم ، قاله زيد بن أسلم ، ومقاتل.

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٢١٤) أحدها : أن امرأة أتت إلى نبهان التّمّار تشتري منه تمرا فضمّها ، وقبّلها ، ثم ندم ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس.

(٢١٥) والثاني : أنّ أنصاريا وثقفيّا آخى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، فخرج الثّقفيّ مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض مغازيه ، فكان الأنصاري يتعاهد أهل الثّقفيّ ، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها ، فدخل ولم يستأذن ؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفّها على وجهها ، فقبّله ثم ندم ، فأدبر راجعا ،

____________________________________

(٢١٣) جيد. أخرجه ابن ماجة ٤١٨٩ والبيهقي في «الشعب» ٨٣٠٥ و ٨٣٠٧ وأحمد ٢ / ١٢٨ من حديث ابن عمر ؛ وإسناده ضعيف ، فيه عنعنة الحسن ، وهو مدلس. قال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ، ورجاله ثقات اه. وورد من وجه آخر ، أخرجه أحمد ٢ / ١٢٨ من طريق شجاع بن الوليد عن عمر بن محمد بن سالم عن ابن عمر ، وإسناده حسن ، رجاله ثقات. وفي الباب حديث ابن عباس ، أخرجه أحمد ١ / ٣٢٧. وصدره «من أنظر معسرا ، أو وضع له ، وقاه الله فيح جهنم ، ...». وله شاهد آخر من حديث معاذ بن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عزوجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء» أخرجه أبو داود ٤٧٧٧ والترمذي ٢٠٢٢ و ٢٤٩٥ وابن ماجة ٤١٨٦ وأبو يعلى ١٤٩٧ وأبو نعيم في الحلية ٨ / ٤٧ ـ ٤٨ وأحمد ٣ / ٤٤٠ و ٤٣٨.

(٢١٤) لم أره مسندا ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٤٧ عن ابن عباس في رواية عطاء بدون إسناد ولا يصح سبب النزول هذا ، وقد ورد خبر نبهان التمار. انظر سورة هود آية : ١١٤.

(٢١٥) باطل. ذكره الواحدي ٢٤٨ عن ابن عباس من طريق الكلبي وهو باطل ، الكلبي متروك كذاب ، وأبو صالح لم يلق ابن عباس. ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة.


فقالت : سبحان الله خنت أمانتك ، وعصيت ربك ولم تصب حاجتك ، قال : فخرج يسيح في الجبال ، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثّقفيّ أخبرته المرأة بفعله ، فخرج يطلبه حتى دل عليه ، فندم على صنيعه ، فوافقه ساجدا يقول : ذنبي ذنبي ، قد خنت أخي. فقال له : يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأله عن ذنبك ، لعلّ الله أن يجعل لك منه مخرجا ، فرجع إلى المدينة ، فنزلت هذه الآية بتوبته ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكره مقاتل.

(٢١٦) والثالث : أن المسلمين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بنو إسرائيل أكرم على الله منّا! كان أحدهم إذا أذنب ، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبيّ عليه‌السلام : «ألا أخبركم بخير من ذلك»؟ فقرأ هذه الآية ، والتي قبلها ، هذا قول عطاء.

واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السّرّاء والضّرّاء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين : أحدهما : أنها نعت لهم ، قاله الحسن. والثاني : أنها لصنف آخر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

والفاحشة : القبيحة ، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان : أحدهما : أنها الزّنى ، قاله جابر بن زيد ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنها كلّ كبيرة ، قاله جماعة من المفسرين. واختلفوا في «الظّلم» المذكور بعدها ، فلم يفرّق قوم بينه وبين الفاحشة ، وقالوا : الظّلم للنّفس فاحشة أيضا ، وفرّق آخرون ، فقالوا : هو الصّغائر.

وفي قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللهَ) قولان : أحدهما : أنه ذكر اللسان ، وهو الاستغفار ، قاله ابن مسعود ، وعطاء في آخرين. والثاني : أنه ذكر القلب ، ثم فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه ذكر العرض على الله ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنه ذكر السّؤال عنه يوم القيامة ، قاله الواقديّ. والثالث : ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا ، قاله ابن جرير. والرابع : ذكر نهي الله لهم عنه. والخامس : ذكر غفران الله ؛ ذكر القولين أبو سليمان الدّمشقيّ.

فأما الإصرار ، فقال الزجّاج : هو الإقامة على الشيء. وقال ابن فارس : هو العزم على الشيء والثّبات عليه. وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مواقعة الذّنب عند الاهتمام به. وهذا مذهب مجاهد. والثاني : أنه الثّبوت عليه من غير استغفار ، وهذا مذهب قتادة ، وابن إسحاق. والثالث : أنه ترك الاستغفار منه ، وهذا مذهب السّدّيّ.

وفي معنى (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : وهم يعلمون أنّ الإصرار يضرّ ، وأنّ تركه أولى من التّمادي ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : يعلمون أنّ الله يتوب على من تاب ، قاله مجاهد ، وأبو عمارة. والثالث : يعلمون أنهم قد أذنبوا ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧))

قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) السّنن : جمع سنّة ، وهي الطّريقة. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع ، فانظروا ما ذا صنعنا بالمكذّبين منهم ، وهذا قول

____________________________________

(٢١٦) ضعيف. أخرجه الواحدي ٢٤٩ في «الأسباب» عن عطاء مرسلا ، فهو حديث ضعيف.


ابن عباس. والثاني : قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذّب من الأمم ، فاعتبروا بهم ، وهذا قول مجاهد. وفي معنى (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) قولان : أحدهما : أنه السّير في السّفر. قال الزجّاج : إذا سرتم في أسفاركم ، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم. والثاني : أنه التّفكّر. ومعنى : فانظروا : اعتبروا ، والعاقبة : آخر الأمر.

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨))

قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) قال سعيد بن جبير : هذه الآية أوّل ما نزل من «آل عمران». وفي المشار إليه ب «هذا» قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : أنه شرح أخبار الأمم السّالفة ، قاله ابن إسحاق. والبيان : الكشف عن الشيء ، بان الشّيء : اتّضح ، وفلان أبين من فلان ، أي : أفصح. قال الشّعبيّ : هذا بيان للنّاس من العمى ، وهدى من الضّلالة ، وموعظة من الجهل.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩))

قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا).

(٢١٧) سبب نزولها أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا انهزموا يوم أحد ، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ لا يعلون علينا ، اللهمّ لا قوّة لنا إلا بك» فنزلت هذه الآيات ، قاله ابن عباس.

قال ابن عباس ، ومجاهد : (وَلا تَهِنُوا) أي : ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال : أحدها : أنه قتل إخوانهم من المسلمين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه هزيمتهم يوم أحد ، وقتلهم ، قاله مقاتل. والثالث : أنه ما أصاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شجّه ، وكسر رباعيّته ، ذكره الماورديّ. والرابع : أنه ما فات من الغنيمة ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ، قال ابن عباس : يقول : أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠))

قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ). قال ابن عباس :

(٢١٨) أصابهم يوم أحد قرح ، فشكوا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقوا ، فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(٢١٧) ضعيف بهذا اللفظ ، والمرفوع منه صحيح ، دون ذكر نزول الآية. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٠ عن ابن عباس بهذا اللفظ وبدون إسناد ، وليس بصحيح ، فإن المشهور في الأحاديث الصحيحة أن خالدا ومن معه قد علوا الجبل وكروا على المسلمين ، وكان ما كان. وأخرجه الطبري ٧٨٩١ عن ابن عباس مختصرا وفيه عطية العوفي وهو ضعيف وعنه مجاهيل ، وهذا خبر منكر ، وسيأتي في الصحيح ما يرده.

ـ وله شاهد أخرجه الطبري ٧٨٨٩ عن ابن جريج مرسلا ، ومراسيل ابن جريج واهية جدا.

(٢١٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٧٨٩٩ عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه ، وفيه حفص بن عمر ضعيف.


فأمّا المسّ ، فهو الإصابة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع «قرح» بفتح القاف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر ، عن عاصم «قرح» بضم القاف. واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد : القرح بالفتح : الجراح ، والقتل. والقرح بالضّمّ : ألم الجراح. وقال الزجّاج : هما في اللغة بمعنى واحد ، ومعناه : الجراح وألمها ، قال : ومعنى نداولها : أي : نجعل الدّولة في وقت للكفّار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأمّا إذا أطاعوا ، فهم منصورون ، قال : ومعنى (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) أي : ليعلم واقعا منهم ، لأنّه عالم قبل ذلك ، وإنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس : معنى العلم هاهنا : الرّؤية.

قوله تعالى : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) قال أبو الضّحى : نزلت في قتلى أحد ، قال ابن جريج : كان المسلمون يقولون : ربّنا أرنا يوما كيوم بدر ، نلتمس فيه الشّهادة ، فاتّخذ منهم شهداء يوم أحد. قال ابن عباس : والظّالمون هاهنا : المنافقون. وقال غيره : هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبيّ المنافق.

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال الزجاج : معنى الكلام : جعل الله الأيام مداولة بين الناس ، ليمحّص المؤمنين ، ويمحق الكافرين. وفي التّمحيص قولان :

أحدهما : أنه الابتلاء والاختبار ، وأنشدوا (١) :

رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا

فكشّفه التّمحيص حتى بدا ليا

وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، وابن قتيبة في آخرين.

والثاني : أنه التّنقية ، والتّخليص ، وهو قول الزجّاج ، وحكي عن المبرّد ، قال : يقال : محص الحبل محصا : إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلّص ، ومعنى قوله : اللهم محّص عنا ذنوبنا : أذهبها عنا. وذكر الزجّاج عن الخليل أن المحص : التّخليص ، يقال : محّصت الشيء أمحّصه محصا : إذا أخلصته. فعلى القول الأول التّمحيص : ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم ، وعلى الثاني : هو تنقيتهم من الذّنوب بذلك. قال الفرّاء : معنى الآية : وليمحّص الله بالذّنوب عن الذين آمنوا.

قوله تعالى : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : يهلكهم ، قاله ابن عباس. والثاني : يذهب دعوتهم ، قاله مقاتل. والثالث : ينقصهم ويقلّلهم ، قاله الفرّاء. والرابع : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجّاج.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

____________________________________

وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج كما في «الدر المنثور» ٢ / ١٤١ عن ابن عباس قال : نام المسلمون وبهم الكلوم ـ يعني يوم أحد ـ قال عكرمة : وفيهم أنزلت الآية. والآية (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) النساء : ١٠٤. وهو ضعيف ، ابن جريج عن عكرمة منقطع.

__________________

(١) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر كما في «الكامل» ١ / ١٨٣.


قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) قال ابن عباس : لمّا أخبرهم الله تعالى على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة ، رغبوا في ذلك ، فتمنّوا قتالا يستشهدون فيه ، فيلحقون بإخوانهم ، فأراهم الله يوم أحد ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فنزل فيهم (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) يعني القتال (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي : من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يومئذ ، قال الفرّاء ، وابن قتيبة : أي : رأيتم أسبابه ، وهي السّيف ونحوه من السّلاح. وفي معنى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : تنظرون إلى السّيوف ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه ذكر للتوكيد ، قاله الأخفش. وقال الزجّاج : معناه : فقد رأيتموه ، وأنتم بصراء ، كما تقول : رأيت كذا وكذا ، وليس في عينك علّة ، أي : رأيته رؤية حقيقية. والثالث : أن معناه : وأنتم تنظرون ما تمنّيتم. وفي الآية إضمار ، أي : فقد رأيتموه فلم انهزمتم!؟

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))

قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ). قال ابن عباس :

(٢١٩) صاح الشّيطان يوم أحد : قتل محمّد. فقال قوم : لئن كان قتل لنعطينّهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا ، ولو كان محمّد حيّا لم نهزم ، فترخّصوا في الفرار ، فنزلت هذه الآية.

وقال الضّحّاك : قال قوم من المنافقين : قتل محمّد ، فالحقوا بدينكم الأوّل ، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة : قال أناس : لو كان نبيّا ما قتل ، وقال ناس من علية أصحاب رسول الله : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى تلحقوا به ، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية : أنّه يموت كما ماتت قبله الرّسل ، أفإن مات على فراشه ، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء ، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي : ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل ، يقال لكل من رجع عمّا كان عليه : قد انقلب على عقبيه ، وأصله : رجعة القهقرى ، والعقب : مؤخّر القدم.

وقوله تعالى : (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) أي : لن ينقص الله شيئا برجوعه ، وإنما يضرّ نفسه (وَسَيَجْزِي) أي : يثيب (الشَّاكِرِينَ) ، وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الثّابتون على دينهم ، قاله عليّ عليه‌السلام ، وقال : كان أبو بكر أمير الشّاكرين. والثاني : أنهم الشّاكرون على التوفيق والهداية. والثالث : على الدّين.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) في الإذن قولان :

____________________________________

(٢١٩) ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٥٢ وعبد بن حميد وابن المنذر كما في «الدر» ٢ / ١٤٤ ـ آل عمران : ١٤٤ ـ عن عطية العوفي ، وعطية واه. وأخرجه الطبري ٧٩٤٨ عن عطية عن ابن عباس ، وإسناده واه لأجل عطية ، وعنه مجاهيل. وانظر «تفسير القرطبي» ١٨٤٧ بتخريجنا.


أحدهما : أنه الأمر ، قاله ابن عباس. والثاني : الإذن نفسه ، قاله مقاتل.

وقال الزجّاج : ومعنى الآية : وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.

قوله تعالى : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) توكيد ، والمعنى : كتب الله ذلك كتابا ذا أجل. والأجل : الوقت المعلوم ، ومثله في التوكيد (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (١) ، لأنه لمّا قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٢) دلّ على أنه مرفوض ، فأكّد بقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، وكذلك قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ) (٣) لأنّه لمّا قال : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) (٤) دلّ على أنه خلق الله فأكّد بقوله : (صُنْعَ اللهِ).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من قصد بعمله الدنيا ، أعطي منها ، قليلا كان أو كثيرا ، ومن قصد الآخرة بعمله ، أعطي منها. وقال مقاتل : عنى بالآية : من ثبت يوم أحد ، ومن طلب الغنيمة.

فصل : وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم ، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) والصّحيح أنه محكم ، لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته.

ومعنى قوله تعالى : (نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما نشاء ، وما قدّرنا له ، ولم يقل : ما يشاء هو.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦))

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) قرأ الجمهور (وَكَأَيِّنْ) في وزن «كعيّن». وقرأ ابن كثير «وكائن» في وزن «كاعن». قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : «كأيّن» مثل : «كعيّن» ينصبون الهمزة ، ويشددون الياء. وتميم يقولون : «وكائن» كأنه فاعل من كئت. وأنشدني الكسائيّ :

وكائن ترى يسعى من النّاس جاهدا

على ابن غدا منه شجاع وعقرب

وقال آخر :

وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة

على الله عقباها ومنه ثوابها

وقال ابن قتيبة : كائن بمعنى «كم» مثل قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) (٥) وفيها لغتان. «كأيّن» بالهمزة وتشديد الياء ، و «كائن» على وزن «قائل» ، وقد قرئ بهما جميعا في القرآن ، والأكثر والأفصح تخفيفها. قال الشاعر (٦) :

وكائن أرينا الموت من ذي تحيّة

إذا ما ازدرانا أو أصرّ لمأثم

وقال الآخر (٧) :

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التّكلّم

_________________

(١) سورة النساء : ٢٤.

(٢) سورة النساء : ٢٤.

(٣) سورة النمل : ٨٨.

(٤) سورة النمل : ٨٨.

(٥) سورة الطلاق : ٨.

(٦) أنشده ابن فارس ولم ينسبه لقائل كما في «الصاحبي» ص ١٣٢.

(٧) هو زهير بن أبي سلمى من «معلقته» في «شرح الزوزني» ص ٨٩.


قوله تعالى : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبان ، والمفضّل كلاهما عن عاصم : «قتل» بضم القاف ، وكسر التاء من غير ألف ، وقرأ الباقون : (قاتَلَ) بألف ، وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، والحسن ، وابن يعمر ، وابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، وأيوب : «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس ، وأنس وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والجحدريّ بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجّاج : أحدهما : أن يكون قتل للنبيّ وحده ، ويكون المعنى : وكأيّن من نبيّ قتل ، ومعه ربّيّون ، فما وهنوا بعد قتله. والثاني : أن يكون قتل للرّبّيين ، ويكون «فما وهنوا» لمن بقي منهم. وعلى إثبات الألف يكون المعنى : أنّ القوم قاتلوا ، فما وهنوا. وفي معنى الرّبّيين خمسة أقوال : أحدها : أنهم الألوف ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، واختاره الفرّاء. والثاني : الجماعات الكثيرة رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ، والرّبيع ، واختاره ابن قتيبة. والثالث : أنهم الفقهاء والعلماء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، واختاره اليزيديّ ، والزجّاج. والرابع : أنهم الأتباع ، قاله ابن زيد. والخامس : أنهم المتألّهون العارفون بالله تعالى ، قاله ابن فارس.

قوله تعالى : (فَما وَهَنُوا) فيه قولان : أحدهما : أنه الضّعف ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة. والثاني : أنه العجز ، قاله قتادة.

قال ابن قتيبة : والاستكانة : الخشوع والذّلّ ، ومنه أخذ المساكين. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : فما وهنوا بالخوف ، وما ضعفوا بنقصان القوة ، ولا استكانوا بالخضوع. والثاني : فما وهنوا لقتل نبيّهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧))

قوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) يعني الرّبّيين. (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) أي : لم يكن قولهم غير الاستغفار. والإسراف : مجاوزة الحدّ ، وقيل : أريد بالذنوب الصّغائر ، وبالإسراف : الكبائر. قوله تعالى : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) قال ابن عباس : على القتال. وقال الزجّاج : معناه : ثبّتنا على دينك ، فإنّ الثّابت على دينه ثابت في حربه.

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

قوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) فيه قولان : أحدهما : أنه النّصر ، قاله قتادة. والثاني :

الغنيمة ، قاله ابن جريج. وروي عن ابن عباس ، أنه النّصر والغنيمة.

وفي حسن ثواب الآخرة قولان : أحدهما : أنه الجنّة. والثاني : الأجر والمغفرة. وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدوّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩))


قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا). قال ابن عباس : نزلت في قول ابن أبيّ للمسلمين لمّا رجعوا من أحد : لو كان نبيّا ما أصابه الذي أصابه (١).

وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المنافقون ، على قول ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن جريج. والثالث : أنهم عبدة الأوثان ، قاله السّدّيّ. قالوا : وكانوا قد أمروا المسلمين بالرّجوع عن دينهم. ومعنى (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) : يصرفوكم إلى الشّرك. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) بالعقوبة.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠))

قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي : وليّكم ينصركم عليهم ، فاستغنوا عن موالاة الكفّار.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

(٢٢٠) قال السّدّيّ : لمّا ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكّة ندموا في بعض الطريق ، وقالوا : قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشّرذمة ، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله في قلوبهم الرّعب ، ونزلت هذه الآية.

والإلقاء : القذف. والرّعب : الخوف. قرأ ابن كثير ، ونافع وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «الرّعب» ساكنة العين خفيفة ، وقرأ ابن عامر ، والكسائيّ ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، مضمومة العين ، مثقّلة ، أين وقعت. والسّلطان هاهنا : الحجّة في قول الجماعة. والمأوى : المكان الذي يؤوى إليه.

والمثوى : المقام ، والثّوى : الإقامة. قال ابن عباس : والظّالمون هاهنا : الكافرون.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ).

(٢٢١) قال محمّد بن كعب القرظيّ : لما رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من أحد ، قال قوم منهم : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النّصر؟! فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون : وعد الله تعالى المؤمنين

____________________________________

(٢٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٨٠٠٢ عن السدي مرسلا ، فهو ضعيف.

(٢٢١) واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٤ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا وبدون سند ، فهو لا شيء. وانظر «تفسير القرطبي» ١٨٥٧.

__________________

(١) لم أقف عليه ، وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.


النّصر بأحد ، فنصرهم فلمّا خالفوا ، وطلبوا الغنيمة ، هزموا.

(٢٢٢) وقال ابن عباس : ما نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موطن ما نصر في أحد ، فأنكر ذلك عليه ، فقال : بيني وبينكم كتاب الله ، إنّ الله يقول : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ). فأمّا الحسّ ، فهو القتل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ ، والجماعة. وقال ابن قتيبة :

تحسّونهم ، أي تستأصلونهم بالقتل ، يقال : سنة حسوس : إذا أتت على كلّ شيء ، وجراد محسوس : إذا قتله البرد.

وفي قوله تعالى : (بِإِذْنِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس. والثاني : بعلمه ، قاله الزجّاج. والثالث : بقضائه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) قال الزجّاج : أي : جبنتم (وَتَنازَعْتُمْ) أي : اختلفتم (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) يعني : النّصرة. وقال الفرّاء : فيه تقديم وتأخير ، معناه : حتى إذا تنازعتم في الأمر ، فشلتم وعصيتم ، وهذه الواو زائدة ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ) (١) معناه : ناديناه.

(٢٢٣) فأما تنازعهم ، فإنّ بعض الرّماة قال : قد انهزم المشركون ، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فترك المركز بعضهم ، وطلب الغنيمة ، وتركوا مكانهم ، فذلك عصيانهم ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أوصاهم : «لو رأيتم الطّير تخطّفنا فلا تبرحوا من مكانكم».

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) قال المفسرون : هم الذين طلبوا الغنيمة ، وتركوا مكانهم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا. وقال ابن مسعود : ما كنت أظنّ أحدا من

____________________________________

(٢٢٢) أخرجه أحمد ٢٦٠٩ والحاكم ٢ / ٢٩٦ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ٢٦٩ و ٢٧٠ عن ابن عباس به ، وأتم ، صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد ، فهو غير قوي ، ومقصد ابن عباس هو في بداية المعركة كما هو ظاهر في رواية الحاكم ، فللخبر تتمة توضح ذلك.

(٢٢٣) هو بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس.

ـ وله شاهد صحيح : أخرجه البخاري ٣٠٣٩ و ٤٠٤٣ وأبو داود ٢٦٦٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٧٩ والطيالسي ٧٢٥ وأحمد ٤ / ٢٩٣ وابن سعد في «الطبقات» ٢ / ٤٧ وابن حبان ٤٧٣٨ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ من طرق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : «جعل النبي على الرّجالة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلا ـ عبد الله بن جبير فقال : «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم». فهزموهم. قال : فأنا والله رأيت النساء يشددن ، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير اثني عشر رجلا ، فأصابوا منا سبعين ، وكان أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيرا وسبعين قتيلا .....». واللفظ للبخاري.

__________________

(١) سورة الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤.


أصحاب محمّد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي : ردّكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم. (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ليختبركم ، فيبيّن الصّابر من الجازع.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) فيه قولان : أحدهما : عفا عن عقوبتكم ، قاله ابن عباس. والثاني : عفا عن استئصالكم ، قاله الحسن. وكان يقول : هؤلاء مع رسول الله ، في سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيّعوه ، فما تركوا حتى غمّوا بهذا الغمّ ، والفاسق اليوم يتجرّم كلّ كبيرة ويركب كلّ داهية ، ويزعم أن لا بأس عليه ، فسوف يعلم.

قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فيه قولان : أحدهما : إذا عفا عنهم ، قاله ابن عباس. والثاني : إذ لم يقتلوا جميعا ، قاله مقاتل.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ) قال المفسرون : «إذ» متعلّقة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) وأكثر القرّاء على ضمّ التاء ، وكسر العين ، من قوله تعالى : «تصعدون» وهو من الإصعاد. وروى أبان عن ثعلب ، عن عاصم فتحهما ، وهي قراءة الحسن ، ومجاهد ، وهو من الصّعود. قال الفرّاء : الإصعاد في ابتداء الأسفار ، والمخارج ، تقول : أصعدنا من بغداد إلى خراسان ، فإذا صعدت على سلّم أو درجة ، قلت : صعدت ، ولا تقول : أصعدت. وقال الزجّاج : كلّ من ابتدأ مسيرا من مكان ، فقد أصعد ، فأما الصّعود ، فهو من أسفل إلى فوق ، قال ومن فتح التاء والعين ، أراد الصّعود في الجبل. وللمفسرين في معنى الآية قولان : أحدهما : أنه صعودهم في الجبل ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني : أنه الإبعاد في الهزيمة ، قاله قتادة ، وابن قتيبة.

و (تَلْوُونَ) بمعنى : تعرّجون. وقوله تعالى : (عَلى أَحَدٍ) عامّ.

(٢٢٤) وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناديهم من خلفهم : «إليّ عباد الله ، أنا رسول الله».

وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد «على أحد» بضم الألف والحاء ، يعنون الجبل.

قوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ) أي : جازاكم. قال الفرّاء : الإثابة هاهنا بمعنى عقاب ، ولكنه كما قال الشاعر (١) :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

____________________________________

(٢٢٤) أخرجه الطبري ٨٠٥٣ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ، ابن جريج لم يدرك ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلا كما في «الدر» ٢ / ٥٤ ـ آل عمران : ١٥٣. وأخرجه الطبري أيضا ٨٠٤٨ عن قتادة مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

__________________

(١) هو الفرزدق ، كما في «اللسان» ـ حدرج ـ وحدرج السوط : أحكم فتله حتى استوى.


المحدرجة : السّياط. والسّود فيما يقال : القيود.

قوله تعالى : (غَمًّا بِغَمٍ) في هذه الباء أربعة أقوال : أحدها : أنّها بمعنى «مع». والثاني : بمعنى «بعد». والثالث : بمعنى «على» ، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلّق الغمّان بالصّحابة. وللمفسرين في المراد بهذين الغمّين خمسة أقوال : أحدها : أن الغمّ الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل ، والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : أن الأول قرارهم الأول ، والثاني. قرارهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل ، قاله مجاهد. والثالث : أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح ، والثاني : حين سمعوا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، قاله قتادة. والرابع : أنّ الأول ما فاتهم من الغنيمة ، والفتح ، والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، قاله السّدّيّ. والخامس : أن الأوّل إشراف خالد بن الوليد عليهم ، والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثّعلبيّ. والقول الرابع : أن الباء بمعنى الجزاء ، فتقديره : غمّكم كما غممتم غيركم ، فيكون أحد الغمّين للصحابة ، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين ، ويكون الغمّ الذي جوزوا لأجله لغيرهم. وفي المراد بغيرهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون غمّوهم يوم بدر ، قاله الحسن. والثاني : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غمّوه حيث خالفوه ، فجوزوا على ذلك بأن غمّوا بما أصابهم ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) في «لا» قولان : أحدهما : أنها باقية على أصلها ، ومعناها النّفي ، فعلى هذا في معنى الكلام قولان : أحدهما : فأثابكم غمّا أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم ، وقد روي أنهم لما سمعوا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، نسوا ما أصابهم وما فاتهم. والثاني : أنه متّصل بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) فمعنى الكلام : عفا عنكم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم ، لأنّ عفوه يذهب كلّ غمّ. والقول الثاني : أنها صلة ، ومعنى الكلام : لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم. ومثلها قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) (١) أي : ليعلم. هذا قول المفضّل. قال ابن عباس : والذي فاتهم : الغنيمة ، والذي أصابهم : القتل والهزيمة.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) قال ابن قتيبة : الأمنة : الأمن. يقال : وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجّاج : معنى الآية : أعقبكم بما نالكم من الرّعب أن أمّنكم أمنا تنامون معه ، لأن الشّديد الخوف لا يكاد ينام. و «نعاسا» منصوب على البدل من «أمنة» ، يقال : نعس الرجل ينعس

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٩.


نعاسا ، فهو ناعس. وبعضهم يقول : نعسان. قال الفرّاء : قد سمعتها ، ولكني لا أشتهيها. قال العلماء : النّعاس : أخفّ النّوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنّعاس قولان : أحدهما : أنه أمّنهم بعد خوفهم حتى ناموا ، فالمنّة بزوال الخوف ، لأنّ الخائف لا ينام. والثاني : قوّاهم بالاستراحة على القتال.

قوله تعالى : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يغشى» بالياء مع التّفخيم ، وهو يعود إلى النّعاس. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة ، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطّائفة التي غشيها النّوم ، فهم المؤمنون ، والطّائفة الذين أهمّتهم أنفسهم : المنافقون ، أهمّهم خلاص أنفسهم ، فذهب النّوم عنهم.

(٢٢٥) قال أبو طلحة : كان السّيف يسقط من يدي ، ثم آخذه ، ثم يسقط ، وآخذه من النّعاس. وجعلت أنظر ، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته (١) من النّعاس.

(٢٢٦) وقال الزّبير : أرسل الله علينا النّوم ، فما منّا رجل إلا ذقنه في صدره ، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) فحفظتها منه.

قوله تعالى : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنهم ظنّوا أنّ الله لا ينصر محمّدا وأصحابه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنهم كذّبوا بالقدر ، رواه الضّحّاك ، عن ابن عباس. والثالث : أنهم ظنّوا أن محمّدا قد قتل ، قاله مقاتل. والرابع : ظنّوا أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضمحل ، قاله الزجاج.

قوله تعالى : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) ، قال ابن عباس : أي : كظنّ الجاهلية.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه : الجحد ، تقديره : ما لنا من الأمر من شيء. قال الحسن : قالوا : لو كان الأمر إلينا ما خرجنا ، وإنما أخرجنا كرها. وقال غيره : المراد بالأمر : النّصر والظّفر ، قالوا : إنما النصر للمشركين ، (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ) ، أي : النصر والظفر ، والقضاء والقدر (لِلَّهِ). والأكثرون قرءوا (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) بنصب اللام ، وقرأ أبو عمرو برفعها ، قال أبو عليّ : حجّة من نصب ، أن «كلّه» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم ، فلو قال : إنّ الأمر أجمع ، لم يكن إلا النّصب ، و «كلّه» بمنزلة «أجمعين» ، ومن رفع ، فلأنّه قد ابتدأ به ، كما ابتدأ بقوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ).

قوله تعالى : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) في الذي أخفوه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قولهم : «لو كنا في

____________________________________

(٢٢٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٦٨ والترمذي ٣٠٠٧ والنسائي في «الكبرى» ١١١٩٨ وابن سعد ٣ / ٥٠٥ وابن أبي شيبة ١٤ / ٤٠٦ والطبري ٨٠٧٥ والحاكم ٢ / ٢٩٧ والطبراني ٤٧٠٠ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٢٧٢ وأبو نعيم في «الدلائل» ٤٢١ من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت به. وإسناده على شرط مسلم.

(٢٢٦) أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ٢٧٣ عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير به.

وفي الإسناد أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، وهو ضعيف ، ومن فوقه ثقات ، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث ، فانحصرت العلة في أحمد هذا.

__________________

(١) الحجف : ضرب من الترسة ، واحدتها حجفة ، وقيل : هي من الجلود خاصة. وميد : تحرك ومال.


بيوتنا ما قتلنا هاهنا». والثاني : أنه إسرارهم الكفر ، والشّكّ في أمر الله. والثالث : النّدم على حضورهم مع المسلمين بأحد.

قال أبو سليمان الدّمشقيّ : والذي قال : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) عبد الله بن أبيّ. والذي قال : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معتب بن قشير.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) أي : لو تخلّفتم ، لخرج منكم من كتب عليه القتل ، ولم ينجه القعود. والمضاجع : المصارع بالقتل.

قال الزجّاج : ومعنى (لَبَرَزَ) : صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف. ومعنى (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي : ليختبره بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيبا ، فيعلمه شهادة.

قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) قال قتادة : أراد ليظهرها من الشّكّ والارتياب ، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة ، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التّمحيص خاصّ للمؤمنين. وقال غيره : أراد بالتّمحيص : إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين ، فهو خطاب للمنافقين. قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها. وقال ابن الأنباريّ : معناه : عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات ، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة ، كما تقول العرب : لقيته ذات يوم. فيؤنّثون لأنّ مقصدهم : لقيته مرة في يوم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الخطاب للمؤمنين ، وتولّيهم : فرارهم من العدوّ. والجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، وذلك يوم أحد. واستزلّهم : طلب زللهم ، قال ابن قتيبة : هو كما تقول : استعجلت فلانا ، أي : طلبت عجلته ، واستعملته : طلبت عمله. والذي كسبوا : يريد به الذّنوب. وفي سبب فرارهم يومئذ قولان : أحدهما : أنهم سمعوا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، فترخّصوا في الفرار (١) ، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني : أن الشّيطان أذكرهم خطاياهم ، فكرهوا لقاء الله إلّا على حال يرضونها ، قاله الزجّاج.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النّفاق ، وقيل : إخوانهم في النّسب. قال الزجّاج : وإنما قال : (إِذا ضَرَبُوا) ولم يقل : إذ ضربوا ، لأنه يريد : شأنهم هذا أبدا ، تقول : فلان إذا حدّث صدق ، وإذا ضرب صبر. و «إذا» لما يستقبل ، إلا أنّه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون : ومعنى (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) :

__________________

(١) تقدم ، تخريجه ، وهو ضعيف جدا.


ساروا وسافروا. و «غزى» جمع غازي. وفي الكلام محذوف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو غزوا ، فقتلوا.

قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) قال ابن عباس : ليجعل الله ما ظنّوا من أنّهم لو كانوا عندهم ، سلموا ، (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : حزنا. قال ابن فارس : الحسرة : التّلهّف على الشيء الفائت. قوله تعالى : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : ليس تحرّز الإنسان يمنعه من أجله.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ : «يعملون» بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو عليّ : حجّة من قرأ بالياء أنّ قبلها غيبة ، وهو قوله عزوجل : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) ، ومن قرأ بالتاء ، فحجّته (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا).

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) اللام في «لئن» لام القسم ، تقديره : والله لئن قتلتم في الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) في إقامتكم. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «متّ» و «متّم» و «متنا» برفع الميم في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم : (أَوْ مُتُّمْ)(وَلَئِنْ مُتُّمْ) برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ كلّ ما في القرآن بالكسر.

قوله تعالى : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : من أعراض الدّنيا التي تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم : يجمعون بالياء ، ومعناه : خير ممّا يجمع غيركم ممّا تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس : خير ممّا يجمع المنافقون في الدنيا.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ) أي : في إقامتكم. (أَوْ قُتِلْتُمْ) في جهادكم. (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

وهذا تخويف من القيامة. والحشر : الجمع من سوق.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) قال الفرّاء وابن قتيبة والزجّاج : «ما» هاهنا صلة ، ومثله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ*). قال ابن الأنباريّ : دخول «ما» هاهنا يحدث توكيدا. قال النّابغة :

المرء يهوى أن يعيش

وطول عيش ما يضرّه

فأكّد بذكر «ما». وفيمن تتعلّق به هذه الرّحمة قولان : أحدهما : أنها تتعلّق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : بالمؤمنين.

قال قتادة : ومعنى (لِنْتَ لَهُمْ) لان جانبك ، وحسن خلقك ، وكثر احتمالك. قال الزجّاج : والفظّ : الغليظ الجانب ، السّيئ الخلق ، يقال : فظظت تفظّ فظاظة وفظظا ، والفظّ : ماء الكرش والفرث ، وإنما سمّي فظا لغلظ مشربه. فأمّا الغليظ القلب ، فقيل : هو القاسي القلب ، فيكون ذكر


الفظاظة والغلظ ـ وإن كانا بمعنى واحد ـ توكيدا. وقال ابن عباس : الفظّ : في القول ، والغليظ القلب : في الفعل.

قوله تعالى : (لَانْفَضُّوا) أي : تفرّقوا. وتقول : فضضت عن الكتاب ختمه : إذا فرّقته عنه. (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي : تجاوز عن هفواتهم ، وسل الله المغفرة لذنوبهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) معناه : استخرج آراءهم ، واعلم ما عندهم. ويقال : إنه من : شرت العسل. وأنشدوا (١) :

وقاسمها بالله حقّا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

قال الزجّاج : يقال : شاورت الرجل مشاورة وشورا ، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول : المشورة. ويقال : فلان حسن الصّورة والشّورة ، أي : حسن الهيئة واللباس. ومعنى قولهم : شاورت فلانا ، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدّابة : إذا امتحنتها. فعرفت هيئتها في سيرها.

وشرت العسل : إذا أخذته من مواضع النّحل. وعسل مشار. قال الأعشى :

كأنّ القرنفل والزّنجبيل

باتا بفيها وأريا مشارا

والأري : العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيّه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي ، تامّ التّدبير ، على ثلاثة أقوال : أحدها : ليستنّ به من بعده ، وهذا قول الحسن ، وسفيان بن عيينة. والثاني : لتطيب قلوبهم ، وهو قول قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق ، ومقاتل. قال الشّافعيّ رضي الله عنه : نظير هذا قوله عليه‌السلام :

(٢٢٧) «البكر تستأمر في نفسها» ، إنما أراد استطابة نفسها ، فإنها لو كرهت ، كان للأب أن يزوّجها ، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه‌السلام لابنه حين أمر بذبحه.

والثالث : للإعلام ببركة المشاورة ، وهو قول الضّحّاك.

ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره ، علم أن امتناع النجاح محض قدر ، فلم يلم نفسه ، ومنها أنه قد يعزم على أمر ، فيبين له الصّواب في قول غيره ، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال عليّ عليه‌السلام : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه ، والتّدبير قبل العمل يؤمّنك من النّدم. وقال بعض الحكماء : ما استنبط الصّواب بمثل المشاورة ، ولا حصنت النّعم بمثل المواساة ، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنّما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي ، وعمّهم بالذّكر ، والمقصود أرباب الفضل والتّجارب منهم.

وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان ، حكاهما القاضي أبو يعلى : أحدهما : أنه أمر الدّنيا خاصّة. والثاني : أمر الدّين والدّنيا ، وهو أصحّ.

____________________________________

(٢٢٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٢١ وأبو داود ٢٠٩٩ والنسائي ٦ / ٨٥ والدارقطني ٣ / ٢٤٠ و ٢٤٠ ـ ٢٤١ والطبراني ١٠ / ١٠٧٤٥ و ٤٠٨٤ و ٤٠٨٧ و ٤٠٨٩ وابن حبان ٤٠٨٨ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها ، وإذنها صماتها».

__________________

(١) البيت لخالد بن زهير «ديوان الهذليين» ١ / ١٥٨.


وقد قرأ ابن مسعود ، وابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر».

قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ) قال ابن فارس : العزم : عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله. وقد قرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والجحدريّ : (فإذا عزمت) بضمّ التاء. فأمّا التّوكّل ، فقد سبق شرحه.

ومعنى الكلام : فإذا عزمت على فعل شيء ، فتوكّل على الله ، لا على المشاورة.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) قال ابن فارس : النّصر : العون ، والخذلان : ترك العون. وقيل ؛ الكناية في قوله تعالى (مِنْ بَعْدِهِ) تعود إلى خذلانه.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ، في سبب نزولها سبعة أقوال :

(٢٢٨) أحدها : أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر ، فقال ناس : لعلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٢٢٩) والثاني : أنّ رجلا غلّ من غنائم هوازن يوم حنين ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

(٢٣٠) والثالث : أن قوما من أشراف النّاس طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخصّهم بشيء من الغنائم ، فنزلت هذه الآية ، نقل عن ابن عباس أيضا.

(٢٣١) والرابع : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث طلائعا ، فغنم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنيمة ، ولم يقسم للطّلائع ، فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك.

____________________________________

(٢٢٨) غير قوي. أخرجه أبو داود ٣٩٧١ والترمذي ٣٠٠٩ وأبو يعلى ٢٤٣٨ والطبري ٨١٣٨ والواحدي ٢٥٥ من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. وفي إسناده ضعف من أجل خصيف بن عبد الرحمن الجزري فإنه صدوق لكنه سيء الحفظ ، وقد رواه بعضهم مرسلا.

ـ وأخرجه الطبري ٨١٣٧ عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم ، ولم يذكر فيه ابن عباس اه.

وورد من وجه آخر عن ابن عباس ، أخرجه الطبراني ١١ / ١٠١ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٦ وإسناده ضعيف لضعف محمد بن أحمد النرسي شيخ الطبراني. والله أعلم.

(٢٢٩) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٧ م عن الضحاك عن ابن عباس والضحاك لم يسمع ابن عباس ، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، وهو متروك الحديث والسورة نزلت قبل حنين بزمن ، فهذا خبر باطل.

(٢٣٠) لم أقف على إسناده. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بدون إسناد ، فهذا لا شيء ، لخلوه عن الإسناد.

(٢٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٤٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٧ عن الضحاك مرسلا ، فهو ضعيف.


(٢٣٢) والخامس : أنّ قوما غلّوا يوم بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

(٢٣٣) والسادس : أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخاف أن يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أخذ شيئا ، فهو له» فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم أعهد إليكم ألّا تبرحوا؟! أظننتم أنّا نغلّ؟!» فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل.

والسابع : أنها نزلت في غلول الوحي ، قاله القرظيّ ، وابن إسحاق (١).

وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فنزلت هذه الآية.

واختلف القرّاء في «يغل» فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : بفتح الياء وضمّ الغين ، ومعناها : يخون ، وفي هذه الخيانة قولان : أحدهما : خيانة المال على قول الأكثرين. والثاني : خيانة الوحي على قول القرظيّ ، وابن إسحاق. وقرأ الباقون : بضمّ الياء وفتح الغين ، ولها وجهان : أحدهما : أن يكون المعنى يخان ، ويجوز أن يكون : يلفى خائنا ، يقال : أغللت فلانا ، أي : وجدته غالا ، كما يقال : أحمقته : وجدته أحمق ، وأحمدته : وجدته محمودا ، قاله الحسن ، وابن قتيبة. والثاني : يخوّن ، قاله الفرّاء ، وأجازه الزجّاج ، وردّه ابن قتيبة ، فقال : لو أراد : يخون ، لقال : يغلل ، كما يقال : يفسق ويخون ، ويفجر.

وقيل : «اللام» في قوله «لنبيّ» منقولة ، ومعنى الآية : وما كان النبيّ ليغلّ ، ومثله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (٢) أي : ما كان الله ليتّخذ ولدا. وهذه الآية من ألطف التّعريض ، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغلول ، فدلّ على أنّ الغلول في غيره. ومثله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣) وقد ذكر عن السّدّيّ نحو هذا.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الغلول : أخذ شيء من المغنم خفية ، ومنه الغلالة ، وهي ثوب يلبس تحت الثياب ، والغلل : وهو الماء الذي يجري تحت الشّجر ، والغلّ : وهو الحقد الكامن في الصّدر ، وأصل الباب الاختفاء. وفي إتيانه بما غلّ ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه يأتي بما غلّه ، يحمله ، ويدلّ عليه ما روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة قال :

____________________________________

(٢٣٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٨١٥٢ وعبد بن حميد كما في «الدر» ٢ / ١٦٢ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف.

(٢٣٣) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٥٨ م عن الكلبي ومقاتل بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٤٣٤ : ذكره الثعلبي والواحدي في «أسبابه» عن الكلبي ومقاتل ... اه.

وهو معضل ، مقاتل إن كان ابن سليمان فهو متروك متهم ، وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة ، وأما الكلبي فمتروك متهم ولم أر من أسنده ، ولا روي عن غيرهما.

__________________

(١) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٨١٤٧ عن ابن إسحاق ، وهذا معضل فهو ضعيف جدا.

(٢) سورة مريم : ٣٦.

(٣) سورة سبأ : ٢٥.


(٢٣٤) قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فذكر الغلول ، فعظّمه ، وعظم أمره ، ثم قال : «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك». الرّغاء : صوت البعير ، والثّغاء : صوت الشّاة ، والنّفس : ما يغلّ من السّبي ، والرّقاع : الثّياب ، والصّامت : المال.

والقول الثاني : أنّه يأتي حاملا إثم ما غلّ. والثالث : أنه يردّ عوض ما غلّ من حسناته. والقول الأوّل أصحّ لمكان الأثر الصّحيح.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢))

قوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين :

أحدهما : أن معناها : أفمن اتّبع رضوان الله ، فلم يغلّ ، (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) حين غلّ؟! هذا قول سعيد بن جبير ، والضّحّاك ، والجمهور.

والثاني : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أمر المسلمين باتّباعه يوم أحد ، اتّبعه المؤمنون ، وتخلّف جماعة من المنافقين ، فأخبر الله بحال من تبعه ، ومن تخلّف عنه ، هذا قول الزجّاج.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ) ، قال الزجّاج : معناه : هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان : أحدهما : أنّها درجات الجنة ، قاله الحسن. والثاني : أنها فضائلهم ، فبعضهم أفضل من بعض ، قاله الفرّاء ، وابن قتيبة. وفيمن عنى بهذا الكلام قولان : أحدهما : أنهم الذين اتّبعوا رضوان الله ، والذين باؤوا بسخط من الله ، فلمن اتّبع رضوانه الثّواب ، ولمن باء بسخطه العذاب ، هذا قول ابن عباس. والثاني : أنهم الذين اتّبعوا رضوان الله فقط ، فإنّهم يتفاوتون في المنازل ، هذا قول سعيد بن جبير ، وأبي صالح ، ومقاتل.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

____________________________________

(٢٣٤) صحيح. أخرجه البخاري ٣٠٧٣ ومسلم ١٨٣١ وابن حبان ٤٨٤٧ و ٤٨٤٨ والطبري ٨١٥٥ و ٨١٥٦ وأحمد ٢ / ٤٢٦ من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.


قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : أنعم عليهم. و «أنفسهم» : جماعتهم ، وقيل : نسبهم. وقرأ الضّحّاك ، وأبو الجوزاء : (من أنفسهم) بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال : أحدها : لكونه معروف النّسب فيهم ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : لكونهم قد خبروا أمره ، وعلموا صدقه ، قاله الزجّاج. والثالث : ليسهل عليهم التعلم منه ، لموافقة لسانه للسانهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع : لأن شرفهم يتمّ بظهور نبيّ منهم ، قاله الماورديّ. وهل هذه الآية خاصّة أم عامّة؟ فيه قولان : أحدهما : أنها خاصّة للعرب. روي عن عائشة والجمهور. والثاني : أنها عامّة لسائر المؤمنين ، فيكون المعنى أنه ليس بملك ، ولا من غير بني آدم ، وهذا اختيار الزجّاج. وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥))

قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ، قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : لمّا كان يوم أحد ، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفرّ أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكسرت رباعيّته ، وهشّمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) قال : بأخذكم الفداء.

قوله تعالى (أَوَلَمَّا) قال الزجّاج : هذه واو النّسق ، دخلت عليها ألف الاستفهام ، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها ، ومثل ذلك قول القائل : تكلّم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له : أو هو ممّن يقول ذلك؟ فأمّا «المصيبة» فما أصابهم يوم أحد ، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر ، لأنّهم قتل منهم سبعون ، فقتلوا يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وهذا قول ابن عباس ، والضّحّاك ، وقتادة ، والجماعة ، إلا أن الزجّاج قال : قد أصبتم يوم أحد مثلها ، ويوم بدر مثلها ، فجعل المثلين في اليومين.

قوله تعالى : (أَنَّى هذا) ، قال ابن عباس : من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن معناه : بأخذكم الفداء يوم بدر ، قاله عمر بن الخطّاب.

(٢٣٥) وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : جاء جبريل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء ، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدّتهم ، فذكر ذلك للناس ، فقالوا : عشائرنا وإخواننا ، بل نأخذ منهم الفداء ، ويستشهد منا عدّتهم ، فقتل منهم يوم أحد سبعون ، عدد أسارى بدر ، فعلى هذا يكون المعنى : قل هو بأخذكم الفداء ، واختياركم القتل لأنفسكم.

والثاني : أنه جرى ذلك بمعصية الرّماة يوم أحد ، وتركهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ،

____________________________________

(٢٣٥) ضعيف. أخرجه الترمذي ١٥٦٧ والنسائي في «الكبرى» ٨٦٦٢ من حديث علي ، وهو حديث ضعيف ، ويأتي في سورة الأنفال باستيفاء ، وقال الترمذي : حسن غريب.


ومقاتل في آخرين. والثالث : أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد ، فإنه أمرهم بالتّحصّن فيها ، فقالوا : بل نخرج ، قاله قتادة ، والرّبيع.

قال مقاتل : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من النّصر والهزيمة (قَدِيرٌ).

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧))

قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الجمعان : النبيّ وأصحابه ، وأبو سفيان وأصحابه ، وذلك في يوم أحد ، وقد سبق ذكر ما أصابهم.

قوله تعالى : (فَبِإِذْنِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أمره. والثاني : قضاؤه ، رويا عن ابن عباس. والثالث : علمه ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلّة صبرهم.

قال ابن قتيبة : والنّفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع ، وهو جحر من جحرته ، يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال ابن قتيبة : قال الزّياديّ عن الأصمعيّ : ولليربوع أربعة أجحرة : النّافقاء : وهو الذي يخرج منه كثيرا ، ويدخل منه كثيرا. والقاصعاء ، سمّي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر ، ثم يقصّع ببعضه كأنه يسدّ به فم الجحر ، ومنه يقال : جرح فلان قد قصع بالدّم : إذا امتلأ ولم يسل. والدّامّاء ، سمّي بذلك ، لأنه يخرج التراب من فم الجحر ، ثم يدمّ به فم الجحر ، كأنه يطليه ، ومنه يقال : ادمم قدرك بشحم ، أي اطلها به. والرّاهطاء ، ولم يذكر اشتقاقه ، وإنما يتّخذ هذه الجحر عددا ، فإذا أخذ عليه بعضها ، خرج من بعض.

قال أبو زيد : فشبّه المنافق به ، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه ، ويخرج منه بعقده ، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب. قال ابن قتيبة : والنّفاق : لفظ إسلاميّ لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. قال ابن عباس : والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبيّ ، وأصحابه.

(٢٣٦) قال موسى بن عقبة : خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، ومعه المسلمون ، وهم ألف رجل ، والمشركون ثلاثة آلاف ، فرجع عنه ابن أبيّ في ثلاثمائة.

فأمّا القتال ، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدّفع ثلاثة أقوال : أحدها : أنه التّكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعكرمة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وابن جريج في آخرين. والثاني : أن معناه : ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل. والثالث : أنه بمعنى القتال أيضا. قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما

____________________________________

(٢٣٦) هذا معضل. وأخرجه الطبري ٨١٩٤ عن السدي ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف.


أسلمناكم ، ذكره ابن إسحاق. والثاني : لو كنا نحسن القتال لاتّبعناكم. والثالث : إن معناه : أن هناك قتلا وليس بقتال ، ذكرهما الماورديّ.

قوله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ) أي : إلى الكفر (أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي : إلى الإيمان ، وإنما قال : يومئذ ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا ، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان. قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فيه وجهان ذكرهما الماورديّ : أحدهما : ينطقون بالإيمان ، وليس في قلوبهم إلا الكفر. والثاني : يقولون : نحن أنصار ، وهم أعداء. وذكر في الذي يكتمون وجهين : أحدهما : أنه النّفاق. والثاني : العداوة.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أبيّ. وفي إخوانهم قولان : أحدهما : أنهم إخوانهم في النّفاق ، قاله ابن عباس. والثاني : إخوانهم في النّسب ، قاله مقاتل. فعلى الأول يكون المعنى : قالوا لإخوانهم المنافقين : لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمّد ما قتلوا ، وعلى الثاني يكون المعنى : قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد : لو أطاعونا ما قتلوا.

قوله تعالى : (وَقَعَدُوا) يعني القائلين قعدوا عن الجهاد. قوله تعالى : (فَادْرَؤُا) أي : فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ الحذر ينفع مع القدر.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩))

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) قرأ ابن عامر : قتّلوا بالتشديد. واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت في شهداء أحد.

(٢٣٧) روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقيلهم ، قالوا : ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا ، لئلّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ؛ قال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» وهذا قول سعيد بن جبير ، وأبي الضّحى.

والثاني : أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عزوجل وقالوا : ربّنا أعلم إخواننا ،

____________________________________

(٢٣٧) حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أبو داود ٢٥٢٠ والحاكم ٢ / ٨٨ وأبو يعلى ٢٣٣١ وأحمد ١ / ٢٦٦ والبيهقي ٩ / ١٦٣ والواحدي في «أسباب النزول» ٢٦١ عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير عن سعيد بن جابر عن ابن عباس ، ورجاله ثقات. وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية أحمد ، وحديثه حسن. وأخرجه أحمد ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ والطبري ٨٢٠٥ عن أبي الزبير عن ابن عباس وإسناده منقطع أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس كما في مراسيل ابن أبي حاتم ص ١٩٣. ويشهد له حديث ابن مسعود. أخرجه مسلم ١٨٨٧ والطيالسي ١١٤٣ والبيهقي ٩ / ١٦٣ والطبري ٨٢٠٨ ، والله أعلم.


فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (١) ، وهو قول مقاتل.

(٢٣٨) والثالث : أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمّد بن إسحاق عن أشياخ له ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد ، فلمّا نزلوا بئر معونة ، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطّفيل بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم ينظر فيه عامر ، وخرج رجل من كسر (٢) البيت برمح ، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشّقّ الآخر ، فقال : الله أكبر ، فزت وربّ الكعبة ، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم ، قال أنس بن مالك : فأنزل الله تعالى فيهم : «بلّغوا قومنا عنّا أنّا قد لقينا ربّنا ، فرضي عنّا ورضينا عنه» ثم رفعت ، فنزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً).

فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت ، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم ، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : أنّ رجلا قال : يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا ، فنزلت ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور ، تحسّروا ، وقالوا نحن في النّعمة والسّرور ، وآباؤنا ، وأبناؤنا ، وإخواننا ، في القبور ، فنزلت هذه الآية ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.

فأما التّفسير ، فمعنى الآية : لا تحسبنّهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، وقد بيّنا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم : أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنّة ، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠))

قوله تعالى : (فَرِحِينَ) قال ابن قتيبة : الفرح : المسرّة ، فأمّا الذي آتاهم الله ، فما نالوا من كرامة الله ورزقه ، والاستبشار : السّرور بالبشارة ، (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) إخوانهم من المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء ، أخبر الشهداء بأنّي قد أنزلت على نبيّكم ، وأخبرته بأمركم فاستبشروا ، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة ، يقولون : إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل ، قاله قتادة. والثالث : أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله ، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا ، فيستبشر بقدومه ، كما يستبشر أهل الغائب به ، هذا قول السّدّيّ.

____________________________________

(٢٣٨) ذكره ابن هشام في «السيرة» ٣ / ١٤٧ في أثناء خبر مطول. وأخرج بعضه الطبري ٨٢٢٤ من حديث أنس.

وانظر «الدر المنثور» ٢ / ١٦٩ و «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ وأصله في «صحيح البخاري» ٢٨٠١ من حديث أنس.

__________________

(١) لم أقف على إسناده إلى سعيد ، ولا يصح ، والصواب أنها نزلت في شهداء أحد.

(٢) في «اللسان» : كسر البيت : جانبه.


و «الهاء» و «الميم» في قوله تعالى : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفرّاء : معناه : يستبشرون لهم بأنّهم لا خوف عليهم ، ولا حزن. وفي ما ذا يرتفع «الخوف» و «الحزن» عنهم؟ فيه قولان :

أحدهما : لا خوف عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيتهم ، ولا يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم.

والثاني : لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ، ولا يحزنون على مفارقة الدّنيا فرحا بالآخرة.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) قال مقاتل : برحمة ورزق.

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ) قرأ الجمهور بالفتح على معنى : ويستبشرون بأنّ الله ، وقرأ الكسائيّ بالكسر على الاستئناف.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢))

قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) في سبب نزولها قولان :

(٢٣٩) أحدهما : أن المشركين لمّا انصرفوا يوم أحد ، ندب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه لاتّباعهم ، ثم خرج بمن انتدب معه ، فلقي أبو سفيان قوما ، فقال : إن لقيتم محمّدا ، فأخبروه أني في جمع كثير ، فلقيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم عنه؟ فقالوا : لقيناه في جمع كثير ، ونراك في قلّة ، فأبى إلّا أن يطلبه ، فسبقه أبو سفيان ، فدخل مكّة ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والجمهور.

(٢٤٠) والثاني : أنّ أبا سفيان لمّا أراد الانصراف عن أحد ، قال : يا محمّد ، موعد بيننا وبينك موسم بدر ، فلمّا كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان ، ثم ألقى الله في قلبه الرّعب ، فبدا له الرّجوع ، فلقي نعيم بن مسعود ، فقال : إني قد واعدت محمّدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصّغرى ، وهذا عام جدب ، لا يصلح لنا ، فثبّطهم عنّا ، وأعلمهم أنّا في جمع كثير ، فلقيهم فخوّفهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه ، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان ، فنزل قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآيات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد ، وعكرمة. والاستجابة : الإجابة.

وأنشدوا :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

__________________

(٢٣٩) لم أره عن ابن عباس بهذا اللفظ ، وإنما أخرجه الطبري ٨٢٣٨ بنحوه عن ابن عباس ، وفي الإسناد مجاهيل.

وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٦٨ عن عمرو بن دينار مرسلا بهذا السياق. وأخرجه الطبري ٨٢٣٦ عن قتادة بنحوه.

(٢٤٠) أخرجه الطبري ٤٢٤٦ عن ابن عباس بنحوه ، وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وأخرج الطبري ٨٢٤٨ بعضه عن مجاهد وكرره برقم ٨٢٤٩ عن مجاهد وعن ابن جريج ، وأخرجه ٨٢٥٠ عن عكرمة مختصرا أيضا وليس فيه ذكر نعيم بن مسعود.

__________________

(١) هو عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي وصدره : وداع دعا يا من يجيب إلى الندى


أي : فلم يجبه. وفي مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال :

أحدها : ليرهب العدوّ باتّباعهم. والثاني : لموعد أبي سفيان. والثالث : لأنه بلغه عن القوم أنّهم قالوا : أصبتم شوكتهم ، ثم تركتموهم. وقد سبق الكلام في القرح.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) أي : أحسنوا بطاعة الرسول ، واتقوا مخالفته.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣))

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) في المراد بالنّاس ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ركب لقيهم أبو سفيان ، فضمن لهم ضمانا لتخويف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قاله ابن عباس ، وابن إسحاق. والثاني : أنه نعيم بن مسعود الأشجعيّ ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، ومقاتل في آخرين. والثالث : أنهم المنافقون ، لمّا رأوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهّز ، نهوا المسلمين عن الخروج ، وقالوا : إن أتيتموهم في ديارهم ، لم يرجع منكم أحد ، هذا قول السّدّي.

قوله تعالى : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أبا سفيان وأصحابه.

قوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) قال الزجّاج : زادهم ذلك التّخويف ثبوتا في دينهم ، وإقامة على نصرة نبيّهم ، وقالوا : (حَسْبُنَا اللهُ) أي : هو الذي يكفينا أمرهم. فأمّا «الوكيل» ، فقال الفرّاء : الوكيل : الكافي ، واختاره ابن القاسم. وقال ابن قتيبة : هو الكفيل ، قال : ووكيل الرجل في ماله : هو الذي كفله له ، وقام به. وقال الخطّابيّ : الوكيل : الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم ، وحقيقته : أنه الذي يستقلّ بالأمر الموكول إليه. وحكى ابن الأنباريّ أنّ قوما قالوا : الوكيل : الرّبّ.

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤))

قوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) الانقلاب : الرّجوع. وفي النّعمة ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الأجر ، قاله مجاهد. والثاني : العافية ، قاله السّدّيّ. والثالث : الإيمان والنّصر ، قاله الزجّاج. وفي الفضل ، ثلاثة أقوال : أحدها : ربح التّجارة ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ ، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزّهريّ : لما استنفر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر ، خرجوا ببضائع لهم ، وقالوا : إن لقينا أبا سفيان ، فهو الذي خرجنا إليه ، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا ، وكانت بدر متجرا يوافى كلّ عام ، فانطلقوا فقضوا حوائجهم ، وأخلف أبو سفيان الموعد. والثاني : أنهم أصابوا سريّة بالصّفراء ، فرزقوا منها ، قاله مقاتل. والثالث : أنه الثّواب ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) قال ابن عباس : لم يؤذهم أحد. (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في طلب القوم. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ) أي : ذو منّ بدفع المشركين عن المؤمنين.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) قال الزجّاج : معناه : ذلك التّخويف كان فعل الشيطان ، سوّله للمخوّفين. وفي قوله تعالى : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) قولان :


أحدهما : أن معناه : يخوّفكم بأوليائه ، قاله الفرّاء ، واستدلّ بقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) (١) أي : ببأس ، وبقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (٢) أي : بيوم التّلاق. وقال الزجّاج : معناه : يخوّفكم من أوليائه ، بدليل قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ). وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وإبراهيم ، وابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباريّ في ذلك (٣) :

وأيقنت التّفرّق يوم قالوا

تقسّم مال أربد بالسّهام

أراد : أيقنت بالتّفرّق. قال : فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال : والذي نختاره في الآية : أن المعنى : يخوّفكم أولياءه. تقول العرب : قد أعطيت الأموال ، يريدون : أعطيت القوم الأموال ، فيحذفون القوم ، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادّعاء «باء» ما عليها دليل ، ولا تدعو إليها ضرورة.

والثاني : أن معناه : يخوّف أولياءه المنافقين ، ليقعدوا عن قتال المشركين ، قاله الحسن والسّدّيّ ، وذكره الزجّاج.

قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ) يعني : أولياء الشّيطان (وَخافُونِ) في ترك أمري. وفي «إن» قولان : أحدهما : أنها بمعنى : «إذ» ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنها للشّرط ، وهو قول الزجّاج في آخرين.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦))

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، قرأ نافع «يحزنك» «ليحزنني» «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن ، إلا في (الأنبياء) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ) (٤) ، فإنه فتح الياء ، وضمّ الزاي. وقرأ الباقون كلّ ما في القرآن بفتح الياء وضمّ الزّاي. قال أبو عليّ : يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثرا ، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال : أحدها : أنهم المنافقون ، ورؤساء اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : المنافقون ، قاله مجاهد. والثالث : كفّار قريش ، قاله الضّحّاك. والرابع : قوم ارتدّوا عن الإسلام ، ذكره الماورديّ.

وقيل : معنى مسارعتهم في الكفر : مظاهرتهم للكفّار ، ونصرهم إيّاهم. فإن قيل : كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب : لا يحزنك فعلهم ، فإنّك منصور عليهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فيه قولان : أحدهما : لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : لن يضرّوا أولياء الله شيئا ، قاله عطاء.

قال ابن عباس : والحظّ : النّصيب ، والآخرة : الجنّة. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في النّار.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧))

__________________

(١) سورة الكهف : ٤.

(٢) سورة غافر : ١٥.

(٣) البيت للبيد بن ربيعة «الأغاني» ١٥ / ١٣٣.

(٤) سورة الأنبياء : ١٠٣.


قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) ، قال مجاهد : المنافقون آمنوا ثم كفروا ، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال : أحدها : في اليهود والنّصارى والمنافقين ، قاله ابن عباس. والثاني : في قريظة والنّضير ، قاله عطاء. والثالث : في مشركي مكّة ، قاله مقاتل. والرابع : في كلّ كافر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع : «ولا يحسبنّ الذين كفروا» «ولا يحسبنّ الذين يبخلون» «ولا يحسبنّ الذين يفرحون» بالياء وكسر السين ، ووافقهم ابن عامر غير أنّه فتح السين ، وقرأ حمزة بالتاء ، وقرأ عاصم والكسائيّ كلّ ما في هذه السّورة بالتاء غير حرفين (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فإنّهما بالياء ، إلا أن عاصما فتح السين ، وكسرها الكسائيّ ، ولم يختلفوا في (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) أنها بالتاء. (نُمْلِي لَهُمْ) : أي : نطيل لهم في العمر ، ومثله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). قال ابن الأنباريّ : واشتقاق «نملي لهم» من الملوة ، وهي المدّة من الزّمان ، يقال : ملوة من الدّهر ، وملوة ، وملوة ، وملاوة ، وملاوة ، وملاوة ، بمعنى واحد ، ومنه قولهم : وتمل حبيبا ، أي : لتطل أيّامك معه. قال متمّم بن نويرة :

بودّي لو أني تملّيت عمره

بما لي من مال طريف وتالد (١)

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

أحدها : أنّ قريشا قالت : تزعم يا محمّد أنّ من اتّبعك فهو في الجنّة ، ومن خالفك فهو في النّار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس (٢).

والثاني : أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن والمنافق ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول أبي العالية.

(٢٤١) والثالث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : عرضت عليّ أمّتي ، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا : فنحن معه ولا يعرفنا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السّدّيّ.

____________________________________

(٢٤١) لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٧١ عن السدي بدون إسناد فهو لا شيء. وأخرج الطبري ٨٢٧٣ نحوه عن السدي.

__________________

(١) في «اللسان» التالد : المال القديم الأصلي الذي ولد عندك. وهو نقيض الطارف والطريف : ما استحدثت من المال واستطرفته.

(٢) ذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٧٢ عن الكلبي بدون سند ، والكلبي متهم وانظر الحديث الآتي.


والرابع : أنّ اليهود ، قالت : يا محمّد قد كنتم راضين بديننا ، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة.

والخامس : أن قوما من المنافقين ادّعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين ، فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ، وأنزل هذه الآية ، هذا قول أبي سليمان الدّمشقيّ.

وفي المخاطب بهذه الآية قولان : أحدهما : أنهم الكفّار والمنافقون ، وهو قول ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : أنهم المؤمنون ، فيكون المعنى : ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق. قال الثّعلبيّ : وهذا قول أكثر أهل المعاني.

قوله تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر (حَتَّى يَمِيزَ) و (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، ويعقوب : «يميّز» بالتشديد ، وكذلك في الأنفال : «ليميّز الله الخبيث». قال أبو عليّ : مزت وميّزت لغتان. قال ابن قتيبة : ومعنى يميز : يخلّص. فأمّا الطّيّب ، فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان : أحدهما : أنه المنافق ، قاله مجاهد ، وابن جريج. والثاني : الكافر ، قاله قتادة ، والسّدّيّ.

وفي الذي وقع به التّمييز بينهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الهجرة والقتال ، قاله قتادة ، وهو قول من قال : الخبيث : الكافر. والثاني : أنه الجهاد ، وهو قول من قال : هو المنافق. قال مجاهد : فميّز الله يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين ، حيث أظهروا النّفاق وتخلّفوا. والثالث : أنه جميع الفرائض والتّكاليف. فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار ، فإذا جاءت التّكاليف بان أمره ، هذا قول ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) قولان : أحدهما : أنهم كفّار قريش ، فمعناه : ما كان الله ليبيّن لكم المؤمن من الكافر ، لأنهم طلبوا ذلك ، فقالوا : أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، هذا قول ابن عباس. والثاني : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعناه : وما كان الله ليطلع محمّدا على الغيب ، قاله السّدّيّ. و «يجتبي» بمعنى يختار ، قاله الزجّاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول : أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم ، وعلى القول الثاني : أنّ الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

أحدهما : أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدّوا زكاة أموالهم ، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح ، والشّعبيّ ، ومجاهد ، وفي رواية السّدّيّ في آخرين.

والثاني : أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونبوّته ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، واختاره الزجّاج.

قال الفرّاء : ومعنى الكلام : لا يحسبنّ الباخلون البخل هو خيرا لهم ، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل ، كما تقول : قدم فلان ، فسررت به ، أي : سررت بقدومه. قال الشاعر :


إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف (١)

يريد جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال : البخل بالزّكاة : هو المال ، وعلى قول من قال : البخل بذكر صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو العلم.

قوله تعالى : (هُوَ) إشارة إلى البخل وليس مذكورا ، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون».

وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال : أحدها : أنه يجعل كالحيّة يطوّق بها الإنسان.

(٢٤٢) روى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاع (٢) أقرع يفرّ منه ، وهو يتبعه حتى يطوّق في عنقه» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وهذا مذهب ابن مسعود ، ومقاتل.

والثاني : أنه يجعل طوقا من نار ، رواه منصور عن مجاهد ، وإبراهيم.

والثالث : أن معنى تطويقهم به : تكليفهم أن يأتوا به ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد.

والرابع : أن معناه : يلزم أعناقهم إثمه ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن عباس : يموت أهل السّماوات وأهل الأرض ، ويبقى ربّ العالمين ، قال الزجّاج : خوطب القوم بما يعقلون ، لأنّهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له ، وقال ابن الأنباريّ : معنى الميراث : انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به ، فلمّا مات الخلق ، وانفرد عزوجل صار ذلك له وراثة.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يعملون» بالياء اتباعا لقوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ) وقرأ الباقون بالتاء ، لأنّ قبله (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا).

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١))

قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) في سبب نزولها قولان :

(٢٤٣) أحدهما : أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود ، فوجدهم قد

____________________________________

(٢٤٢) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠١٢ والنسائي في «الكبرى» ٢٢٢١ و ١١٠٨٤ وابن ماجة ١٧٨٤ من حديث ابن مسعود. وقال الترمذي : حسن صحيح. وهو في صحيح البخاري ١٤٠٣ و ٤٥٦٥ ومالك ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧ وأحمد ٢ / ٢٧٩ والنسائي ٥ / ٣٩ وأبو يعلى ٦٣١٩ وابن حبان ٣٢٥٨ من حديث أبي هريرة. وورد من حديث جابر أخرجه مسلم ٩٨٨ والدارمي ١ / ٣٨٠ وابن حبان ٣٢٤٤ وله شواهد تبلغ به حد الشهرة. وانظر «تفسير القرطبي» ١٩٢٨ و «تفسير الشوكاني» ٥٧١ بتخريجنا.

(٢٤٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٧٥ عن عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق. وأخرجه الطبري ٨٣٠٠

__________________

(١) أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» ١ / ٢٤٨ وثعلب في «مجالسه» ١ / ٦٠ و «أمالي الشجري» ١ / ٦٨ والبغدادي في «الخزانة» ٢ / ٣٨٣ ولم ينسبوه لقائل.

(٢) وفي «اللسان» : الشجاع : الحية الذكر ، وقيل : هو الخبيث المارد منها.


اجتمعوا على رجل منهم ، اسمه فنحاص ، فقال له أبو بكر : اتّق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمّدا رسول الله. فقال : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنّه إلينا لفقير ، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والله لو لا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبره أبو بكر بما قال ، فجحد فنحاص ، فنزلت هذه الآية ، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (١) ، هذا قول ابن عباس ، وإلى نحوه ذهب مجاهد ، وعكرمة والسّدّيّ ، ومقاتل.

والثاني : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً*) (٢) قالت اليهود : إنّما يستقرض الفقير من الغنيّ ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، وقتادة.

وفي الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، أربعة أقوال : أحدها : أنه فنحاص بن عازوراء اليهوديّ ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : حييّ بن أخطب ، قاله الحسن وقتادة. والثالث : أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد : صكّ أبو بكر رجلا من الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) لم يستقرضنا وهو غنيّ؟! والرابع : أنه النبّاش بن عمرو اليهوديّ ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) قرأ حمزة وحده : «سيكتب» بياء مضمومة و «قتلهم» بالرّفع و «يقول» بالياء ، وقرأ الباقون : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) بالنّون ، و (وَقَتْلَهُمُ) بالنّصب و «نقول» بالنون ، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة : «ويقول».

وفي معنى (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) قولان : أحدهما : سنحفظ عليهم ما قالوا ، قاله ابن عباس. والثاني : سنأمر الحفظة بكتابته ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) أي : ونكتب ذلك. فإن قيل : هذا القائل لم يقتل نبيّا قطّ! فالجواب : أنه رضي بفعل متقدّميه لذلك ، كما بيّنا في قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ). قال الزجّاج : ومعنى (عَذابَ الْحَرِيقِ) : عذاب محرق ، أي : عذاب بالنّار ، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))

قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب ، والذي قدّمت أيديهم : الكفر والخطايا.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣))

____________________________________

من حديث ابن عباس ، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، وهو مجهول. وأخرجه الطبري ٨٣٠٢ عن السدي مرسلا ، باختصار ، و ٨٣١٦ عن عكرمة ، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، ويعلم أن له أصلا ، والله أعلم.

__________________

(١) آل عمران : ١٨٦.

(٢) البقرة : ٢٤٥.


قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا). قال ابن عباس :

(٢٤٤) نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصّيف ، وحييّ بن أخطب ، وجماعة من اليهود ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ الله عهد إلينا ، أي : أمرنا في التّوراة : أن لا نؤمن لرسول ، أي : لا نصدّق رسولا يزعم أنه رسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النّار.

قال ابن قتيبة : والقربان : ما تقرّب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان ، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدّمين ، وكان نزول النّار علامة القبول. قال ابن عباس : كان الرجل يتصدّق ، فإذا قبلت منه ، نزلت نار من السماء فأكلته ، وكانت نارا لها دويّ ، وحفيف. وقال عطاء : كان بنو إسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون أطايب اللحم ، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء ، فيقوم النبيّ في البيت ، ويناجي ربّه ، فتنزل نار ، فتأخذ ذلك القربان ، فيخرّ النبيّ ساجدا ، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس : قل يا محمّد لليهود (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي : بالآيات ، (وَبِالَّذِي) سألتم من القربان.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) معناه : لست بأوّل رسول كذّب.

قال أبو عليّ : وقرأ ابن عامر وحده «بالبيّنات وبالزّبر» بزيادة باء ، وكذلك في مصاحف أهل الشّام ، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد ، ووجه قراءة الجمهور أنّ الواو قد أغنت عن تكرير العامل ، تقول : مررت بزيد وعمرو ، فتستغني عن تكرير الباء.

قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قال أبو سليمان : يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). قال ابن عباس :

(٢٤٥) لما نزل قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) قالوا : يا رسول الله إنما نزل في بني آدم ، فأين ذكر الموت في الجنّ ، والطّير ، والأنعام ، فنزلت هذه الآية.

وفي ذكر الموت تهديد للمكذّبين بالمصير ، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بشارة للمحسنين ، وتهديد للمسيئين.

____________________________________

(٢٤٤) لم أره عن ابن عباس ، ولعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فقد روى الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٧٧ عن الكلبي بلا سند ، والكلبي متروك متهم بالكذب ، والصواب الخبر المتقدم ، وأن المراد بذلك فنحاص.

(٢٤٥) يأتي في سورة السجدة.

__________________

(١) السجدة : ١١.


قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ) قال ابن قتيبة : نجّي وأبعد. (فَقَدْ فازَ) قال الزجّاج : تأويل فاز. تباعد عن المكروه ولقي ما يحبّ ، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به : قد فاز.

قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) يريد أنّ العيش فيها يغرّ الإنسان بما يمنّيه من طول البقاء ، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير : هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، فأما من يشتغل بطلب الآخرة ، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٢٤٦) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن رواحة ، فغشي المجلس عجاجة الدّابة ، فخمّر ابن أبيّ أنفه بردائه ، وقال : لا تغبّروا علينا ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال ابن أبيّ : إنه لا أحسن ممّا تقول ، إن كان حقّا فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة : اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله ، فإنّا نحبّ ذلك ، فاستبّ المسلمون ، والمشركون ، واليهود ، فنزلت هذه الآية ، رواه عروة عن أسامة بن زيد.

والثاني : أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أشدّ الأذى ، فنزلت هذه الآية ، قال كعب بن مالك الأنصاريّ. والثالث : أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصّديق ، وبين فنحاص اليهوديّ (١) ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع : أنها نزلت في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر الصّدّيق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة : نزلت في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر الصّدّيق ، وفنحاص اليهوديّ (٢).

(٢٤٧) والخامس : أنها نزلت في كعب بن الأشرف ، كان يحرّض المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

____________________________________

(٢٤٦) صحيح. أخرجه البخاري ٢٩٨٧ ومسلم ١٧٩٨ والطبراني في الكبير ١ / ٣٨٩ من حديث أسامة بن زيد.

تنبيه : لفظ الحديث عند البخاري والطبراني .... قال الله عزوجل (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ...) وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب.

(٢٤٧) أخرجه الطبري ٨٣١٧ عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٨ عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح ، لكن ليس فيه نزول الآية ، فقد أخرج البخاري ٢٥١٠ و ٣٠٣١ و ٣٠٣٢ و ٤٠٣٧ ومسلم ١٨٠١ وأبي داود ٢٧٦٨ من حديث جابر رضي الله عنه. يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : فقال محمد بن مسلمة : أنا ، فأتاه فقال : أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال : ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال : رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ـ قال سفيان : يعني السلاح ـ فوعده أن يأتيه ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه». وورد بألفاظ أخرى.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.


وأصحابه في شعره ، وهذا مذهب الزّهريّ.

قال الزجّاج : ومعنى (لَتُبْلَوُنَ) : لتخبرنّ ، أي : توقع عليكم المحن ، فيعلم المؤمن حقا من غيره. و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم ، وضمّت الواو لسكونها وسكون النّون.

وفي البلوى في الأموال قولان : أحدهما : ذهابها ونقصانها. والثاني : ما فرض فيها من الحقوق. وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال : أحدها : المصائب ، والقتل. والثاني : ما فرض من العبادات. والثالث : الأمراض. والرابع : المصيبة بالأقارب ، والعشائر.

وقال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ، وباعوا رباعهم ، وعذّبوهم.

قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قال ابن عباس : هم اليهود والنّصارى ، و (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : مشركو العرب (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على الأذى (وَتَتَّقُوا) الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : ما يعزم عليه ، لظهور رشده.

فصل : والجمهور على إحكام هذه الآية ، وقد ذهب قوم إلى أن الصّبر المذكور منسوخ بآية السّيف.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسّدّيّ ، ومقاتل. فعلى هذا ، الكتاب : التّوراة. والثاني : أنهم اليهود والنّصارى ، والكتاب : التّوراة والإنجيل. والثالث : أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.

قوله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ). قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، والمفضّل عن عاصم ، وزيد عن يعقوب (ليبيّننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما ، وقرأ الباقون ، وحفص عن عاصم بالتّاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيّننّه» و «تكتمونه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول من قال : هم اليهود. والثاني : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وهو أصحّ ، لأن الكتاب أقرب المذكورين ، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول من ذهب إلى أنه عامّ في كلّ كتاب. وقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا (١).

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٣٦ (آل عمران : ١٨٧) : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله

الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم ، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».


قوله تعالى : (فَنَبَذُوهُ) قال الزجّاج : أي : رموا به ، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به : قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق :

تميم بن قيس لا تكوننّ حاجتي

بظهر ولا يعيا عليّ جوابها (١)

معناه : لا تكوننّ حاجتي مهملة عندك ، مطّرحة.

وفي هاء «فنبذوه» قولان : أحدهما : أنها تعود إلى الميثاق. والثاني : إلى الكتاب.

قوله تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ) يعني : استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به ، ووعدهم عليه الجنة (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا يسيرا من الدنيا.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) وقرأ أهل الكوفة : لا تحسبنّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال (٢) :

(٢٤٨) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأل اليهود عن شيء ، فكتموه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، فنزلت هذه الآية.

والثاني : أنها نزلت في قوم من اليهود ، فرحوا بما يصيبون من الدنيا ، وأحبّوا أن يقول الناس : إنهم علماء ، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث : أن اليهود قالوا : نحن على دين إبراهيم ، وكتموا ذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير (٣). والرابع : أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلّها ، أنّ محمّدا ليس بنبيّ ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ، ففرحوا بذلك ، وقالوا : نحن أهل الصّوم والصّلاة ، وأولياء

____________________________________

(٢٤٨) حديث صحيح لكن ليس فيه ذكر نزول الآية ، وإنما فيه أنهم المراد بهذه الآية ، فقد أخرجه البخاري ٤٥٦٨ ومسلم ٢٧٧٨ ح ٨ والترمذي ٣٠١٤ والنسائي في «التفسير» ١٠٦ والطبري ٨٣٤٩ والحاكم ٢ / ٢٩٩ والواحدي ٢٨١ من طرق أن مروان بن الحكم قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كذلك حتى قوله (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا). واللفظ للبخاري.

__________________

(١) في «اللسان» : رجل تكلّف عملا فيعيا به وعنه إذا لم يهتد لوجه عمله.

(٢) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٤٩ (آل عمران : ١٨٨) : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : «عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله عزوجل أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يكتمونه». لأن قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الآية ، في سياق الخبر عنهم وهو شبيه بقصتهم ، مع اتفاق أهل التأويل بأنهم معنيون بذلك.

(٣) أخرجه الطبري ٨٣٤٣ عن سعيد مرسلا.


الله ، فنزلت هذه الآية (١) ، هذا قول الضّحّاك ، والسّدّيّ.

(٢٤٩) والخامس : أن يهود خيبر أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فقالوا : نحن على رأيكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالتهم ، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

والسادس : أن ناسا من اليهود جهّزوا جيشا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتّفقوا عليهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله إبراهيم النّخعيّ (٢). والسابع : أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنّهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها ، فحمدوهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الزجّاج (٣).

(٢٥٠) والثامن : أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا قدم اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سعيد الخدريّ ، وهذا القول يدلّ على أنها نزلت في المنافقين ، وما قبله من الأقوال يدلّ على أنها في اليهود.

وفي الذي أتوا ثمانية (٤) أقوال : أحدها : أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني : تبديلهم التّوراة. والثالث : إيثارهم الفاني من الدنيا على الثّواب. والرابع : إضلالهم النّاس. والخامس : اجتماعهم على تكذيب النبيّ. والسادس : نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضدّه. والسابع : اتّفاقهم على محاربة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه أقوال من قال : هم اليهود. والثامن : تخلّفهم في الغزوات ، وهذا قول من قال : هم المنافقون.

وفي قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ستة أقوال : أحدها : أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني : أحبّوا أن يقول الناس : إنهم علماء ، وليسوا كذلك. والثالث : أحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصّلاة والصّيام ، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن

____________________________________

(٢٤٩) أخرجه الطبري ٨٣٥٠ عن قتادة مرسلا بنحوه ، و ٨٣٥١ من طريق عبد الرزاق بن معمر عن قتادة مرسلا باختصار. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ١ / ١٩٢ عن الحسن مرسلا مختصرا.

(٢٥٠) صحيح أخرجه البخاري ٤٥٦٧ ومسلم ٢٧٧٧ ح ٧ ص ٢١٤٢ والطبري ٨٣٣٥ والواحدي ٢٨٠ من طرق عن أبي سعيد الخدري.

__________________

(١) عزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٨٣ للضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٨٣٤٠ عن جويبر عن الضحاك مع اختلاف يسير فيه ، وجويبر هو ابن سعيد متروك ، وكرره الطبري ٨٣٣٩ من وجه آخر عن الضحاك ، وكرره ٨٣٤٢ عن السدي نحوه.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) لم أره مسندا ، وعزاه المصنف للزجاج.

(٤) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٤٩ عني بذلك أهل الكتاب وتأويل الآية : لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك وأنك لي رسول مرسل بالحق ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ومخالفتهم أمري.


عباس. والرابع : أحبّوا أن يحمدوا على قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وليسوا عليه ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أحبّوا أن يحمدوا على قولهم : إنّا راضون بما جاء به النبيّ ، وليسوا كذلك ، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال : هم اليهود. والسادس : أنّهم كانوا يحلفون للمسلمين ، إذا نصروا : إنا قد سررنا بنصركم ، وليسوا كذلك ، قاله أبو سعيد الخدريّ ، وهو قول من قال : هم المنافقون.

قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «فلا يحسبنهم» ، بالياء وضمّ الباء. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بالتّاء ، وفتح الباء. قال الزجّاج : إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصّة ، والعرب تعيد إذا طالت القصّة «حسبت» وما أشبهها ، إعلاما أنّ الذي يجري متّصل بالأوّل ، وتوكيدا له ، فتقول : لا تظنّنّ زيدا إذا جاء وكلّمك بكذا وكذا ، فلا تظنّنّه صادقا. قوله تعالى (بِمَفازَةٍ) قال ابن زيد ، وابن قتيبة : بمنجاة.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه تكذيب القائلين : بأنه فقير. وفي قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تهديد لهم ، أي : لو شئت لعجّلت عذابهم.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٢٥١) أحدها : أنّ قريشا قالوا لليهود : ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء. وقالوا للنّصارى : ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : ادع ربّك يجعل لنا الصّفا ذهبا ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني : أن أهل مكّة سألوه أن يأتيهم بآية ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١) قالت قريش : قد سوّى بين آلهتنا ، ائتنا بآية ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو الضّحى ، واسمه : مسلم بن صبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) في هذا الذّكر ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الذّكر في

____________________________________

(٢٥١) ضعيف منكر ، أخرجه الطبراني ١٢٣٢٢ والواحدي في «الأسباب» ٢٨٤ عن ابن عباس به ، وإسناده ضعيف لضعف يحيى بن عبد الحميد الحماني ، وبه أعله الحافظ الهيثمي في «المجمع» ٦ / ٣٢٩ ، ثم المتن منكر.

وقال الحافظ في «الفتح» ٨ / ٢٣٥ : فيه إشكال أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة اه. وقال ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٤٣٨ : وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة ، والله أعلم.

__________________

(١) البقرة : ١٦٤.


الصّلاة ، يصلي قائما ، فإن لم يستطع ، فعلى جنب ، هذا قول عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنه الذّكر في الصّلاة وغيرها ، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث : أنه الخوف ، فالمعنى : يخافون الله قياما في تصرّفهم وقعودا في دعتهم ، وعلى جنوبهم في منامهم.

قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن فارس : الفكرة : تردّد القلب في الشيء. قال ابن عباس : ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة ، والقلب ساه.

قوله تعالى : (رَبَّنا) قال الزجّاج : معناه : يقولون : ربّنا (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي : خلقته دليلا عليك ، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى (سُبْحانَكَ) : براءة لك من السّوء ، وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا ، (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) فقد صدّقنا أنّ لك جنّة ونارا.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) قال الزجّاج : المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجّة. يقال : أخزيته ، أي : ألزمته حجّة أذللته معها. وفيمن يتعلّق به هذا الخزي قولان : أحدهما : أنه يتعلّق بمن يدخلها مخلّدا ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، ومقاتل. والثاني : أنه يتعلّق بكل داخل إليها ، وهذا المعنى مرويّ عن جابر بن عبد الله ، واختاره ابن جرير الطّبريّ ، وأبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) قال ابن عباس : وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) في المنادي قولان : أحدهما : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل. والثاني : أنه القرآن ، قاله محمّد بن كعب القرظيّ ، واختاره ابن جرير الطّبريّ.

قوله تعالى : (يُنادِي لِلْإِيمانِ) فيه قولان : أحدهما : ينادي إلى الإيمان ، ومثله : (الَّذِي هَدانا لِهذا) (١) ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٢) ، قاله الفرّاء. والثاني : بأنّه مقدّم ومؤخّر ، والمعنى : سمعنا مناديا للإيمان ينادي ، قاله أبو عبيدة.

قوله تعالى : (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) قال مقاتل : أمح عنّا خطايانا. وقال غيره : غطّها عنّا ، وقيل : إنما جمع بين غفران الذّنوب ، وتكفير السّيئات ، لأن الغفران بمجرّد الفضل ، والتّكفير بفعل الخير. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم بالفتح. ومعنى (مَعَ الْأَبْرارِ) : فيهم ، قال ابن عباس : وهم الأنبياء والصّالحون.

__________________

(١) الأعراف : ٤٣.

(٢) الزلزلة : ٥.


(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) قال ابن عباس : يعنون : الجنّة (عَلى رُسُلِكَ) أي : على ألسنتهم. فإن قيل : ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه خرج مخرج المسألة ، ومعناه : الخبر ، تقديره : فآمنّا ، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا. والثاني : أنه سؤال له ، أن يجعلهم ممّن آتاه ما وعده ، لا أنّهم استحقّوا ذلك ، إذ لو كانوا قد قطعوا أنّهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث : أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النّصر على الأعداء ، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقّت ، فرغبوا في تعجيله ، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير ، وقال : أولى الأقوال بالصّواب ، أنّ هذه صفة المهاجرين ، رغبوا في تعجيل النّصر على أعدائهم. فكأنّهم قالوا : لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم ، وظفرنا عليهم.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).

(٢٥٢) روي عن أمّ سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع ذكر النّساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية. واستجاب : بمعنى أجاب. والمعنى : أجابهم بأن قال لهم : إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أنثى.

وفي معنى قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : بعضكم من بعض في الدّين ، والنّصرة والموالاة. والثاني : حكم جميعكم في الثّواب واحد ، لأنّ الذّكور من الإناث والإناث من الذّكور. والثالث : كلّكم من آدم وحوّاء.

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي : تركوا الأوطان والأهل والعشائر (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني : المؤمنين الذين أخرجوا من مكّة بأذى المشركين ، فهاجروا ، (وَقُتِلُوا) المشركين (وَقُتِلُوا). قرأ ابن كثير ، وابن عامر : «وقاتلوا وقتّلوا» مشدّدة التاء. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : و «قتلوا وقاتلوا». قال أبو عليّ : تقديم «قتلوا» جائز ، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يكون أوّلا في المعنى ، مؤخّرا في اللفظ.

____________________________________

(٢٥٢) حديث حسن. أخرجه الطبري ٨٣٦٧ من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين ، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه : قالت أم سلمة ، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٤٩٨ والترمذي ٣٠٢٣ عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٠٠ والواحدي ٢٨٥ عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة ـ رجل من ولد أم سلمة قال : قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة ، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد ، وقد توبع في ما تقدم ، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.


قوله تعالى : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال الزجّاج : هو مصدر مؤكّد لما قبله ، لأنّ معنى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) : لأثيبنّهم.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧))

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، ثمّ في ذلك قولان : أحدهما : أنّ اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٢٥٣) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا ، فأبى إلّا على رهن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أعطاني لأوفيته ، إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض» فنزلت ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

والقول الثاني : أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء ، فقال بعض المؤمنين : قد أهلكنا الجهد ، وأعداء الله فيما ترون ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل. قال قتادة : والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره. وقال غيره : إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا ، وإن كان لا يغترّ.

وفي معنى «تقلّبهم» ثلاثة أقوال : أحدها : تصرّفهم في التّجارات ، قاله ابن عباس ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : تقلّب ليلهم ونهارهم ، وما يجري عليهم من النّعم ، قاله عكرمة ومقاتل.

والثالث : تقلّبهم غير مأخوذين بذنوبهم ، ذكره بعض المفسّرين. قال الزجاج : ذلك الكسب والرّبح متاع قليل ، وقال ابن عباس : منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد : الفراش.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) قرأ أبو جعفر : «لكنّ» بالتشديد هاهنا ، وفي «الزّمر» قال مقاتل : وحّدوا. قال ابن عباس : «النّزل» الثّواب. قال ابن فارس : النّزل : ما يهيّأ للنّزيل ، والنّزيل : الضّيف.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

____________________________________

(٢٥٣) لم أقف عليه هكذا ، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ....) ـ طه : ١٣١ ـ أخرجه الواحدي ٦١٥ والطبري ٢٢٤٥٥ من حديث أبي رافع ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف ، وكرره الطبري ٢٤٤٥٦ من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر ، لأن سورة طه مكية ، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي ، وسيأتي.

وانظر «تفسير القرطبي» ٤٣٣٢ بتخريجنا.


(٢٥٤) أحدها : أنها نزلت في النّجاشيّ ، لأنه لمّا مات صلّى عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قائل : يصلّي على هذا العلج النّصرانيّ ، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية ، هذا قول جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس. وقال الحسن ، وقتادة : فيه وفي أصحابه.

والثاني : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثالث : في عبد الله بن سلّام ، وأصحابه ، قاله ابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل. والرابع : في أربعين من أهل نجران ، وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الرّوم كانوا على دين عيسى ، فآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عطاء (١).

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني : القرآن ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) يعني : كتابهم. والخاشع : الذّليل. (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) قال أبو سلمة بن عبد الرّحمن : نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة ، وليس يومئذ غزو يرابط.

وفي الذي أمروا بالصّبر عليه خمسة أقوال : أحدها : البلاء والجهاد ، قاله ابن عباس. والثاني : الدّين ، قاله الحسن ، والقرظيّ ، والزجّاج. والثالث : المصائب ، روي عن الحسن أيضا. والرابع : الفرائض ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : طاعة الله ، قاله قتادة.

وفي الذي أمروا بمصابرته قولان : أحدهما : العدوّ ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : الوعد الذي وعدهم الله : قاله عطاء ، والقرظيّ.

____________________________________

(٢٥٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٨٧ بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة ، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢٤٦ للثعلبي عن ابن عباس وقتادة.

ـ وخبر جابر ، أخرجه الطبري ٨٣٧٦ وفيه رواد بن الجراح ، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» ١٠٨ و ١٠٩ والبزار «كشف الأستار» ٣٨٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٦٨٨ والواحدي ٢٨٨ ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع ٣ / ٣٨ ، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري ١٣٣٣ ومسلم ٩٥١.

__________________

(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٦٠ (آل عمران : ١٩٩) : فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره : أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟

قيل : ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحا لا شك فيه ، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف.

وقد تنزل الآية في الشيء ، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي ، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين ، التوراة والإنجيل.


وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان : أحدهما : الجهاد للأعداء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة : وأصل المرابطة والرّباط : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم في الثّغر ، كلّ يعدّ لصاحبه. والثاني : أنه الصّلاة ، أمروا بالمرابطة عليها ، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ» ، ومعنى «الفلاح» (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣١٣ : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة ، فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، وقيل : على الصلوات الخمس وقيل : إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع.

والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة : رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بقوله عليه‌السلام : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا ، فارسا كان أو راجلا.

قلت : إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة أيضا.

والمرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحل ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد : للرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.


سورة النساء

مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

اختلفوا في نزولها على قولين (١) : أحدهما : أنها مكّيّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وقتادة. والثاني : أنها مدنيّة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل. وقيل : إنها مدنيّة ، إلا آية نزلت بمكّة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة ، فيسلّمها إلى العبّاس ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٢) ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى الطّاعة ، قاله ابن عباس. والثاني : بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنّفس الواحدة : آدم ، وزوجها حوّاء ، و «من» في قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها) للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر : «منها» ، أي : من جنسها.

واختلفوا أيّ وقت خلقت له ، على قولين : أحدهما : أنها خلقت بعد دخوله الجنّة ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس. والثاني : قبل دخوله الجنّة ، قاله كعب الأحبار ، ووهب ، وابن إسحاق. قال ابن عباس : لمّا خلق الله آدم ، ألقى عليه النّوم ، فخلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلم تؤذه بشيء ، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا ، فلمّا استيقظ ؛ قيل : يا آدم ما هذه؟ قال : حوّاء.

قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما) قال الفرّاء : بثّ : نشر ، ومن العرب من يقول : أبثّ الله الخلق ، ويقولون : بثثتك ما في نفسي ، وأبثثتك.

قوله تعالى : (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والبرجمي ، عن أبي بكر ، عن عاصم.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٥ : هي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها). وهو الصحيح ، فإن في صحيح البخاري ـ ٤٩٩٣ ـ عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. والله أعلم.

(٢) النساء : ٥٨. وسيأتي الحديث أثناء تفسيرها.


واليزيديّ ، وشجاع ، والجعفيّ ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : «تسّاءلون» بالتشديد. وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ ، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجّاج : الأصل : تتساءلون ، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التّاء في السين ، لقرب مكان هذه من هذه ، ومن قرأ بالتخفيف ، حذف التاء الثانية لاجتماع التّاءين. وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال : أحدها : تتعاطفون به ، قاله ابن عباس. والثاني : تتعاقدون ، وتتعاهدون به. قاله الضّحّاك ، والرّبيع. والثالث : تطلبون حقوقكم به ، قاله الزجّاج.

فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى : واتّقوا الأرحام أن تقطعوها ، وفسّرها على هذا ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ ، وابن زيد. وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة بخفض الميم على معنى : تساءلون به وبالأرحام ، وفسّرها على هذا الحسن ، وعطاء والنّخعيّ. وقال الزجّاج : الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشّعر ، وخطأ في الدّين ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(٢٥٥) «لا تحلفوا بآبائكم» ، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء ، وقال ابن الأنباريّ : إنما أراد ، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به ، فالمعنى : الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهليّة. قال أبو عليّ : من جرّ ، عطف على الضّمير المجرور بالباء ، وهو ضعيف في القياس ، قليل في الاستعمال ، فترك الأخذ به أحسن.

فأما الرّقيب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد : الرّقيب : الحافظ. وقال الخطّابيّ : هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، وهو في نعوت الآدميين الموكّل بحفظ الشيء ، المترصّد له ، المتحرّز عن الغفلة فيه ، يقال منه : رقبت الشيء أرقبه رقبة.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

(٢٥٦) سبب نزولها : أنّ رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلمّا بلغ ، طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت ، قاله سعيد بن جبير.

والخطاب بقوله تعالى : «وآتوا» للأولياء والأوصياء. قال الزجّاج : وإنما سمّوا يتامى بعد البلوغ ، بالاسم الذي كان لهم ، وقد كان يقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يتيم أبي طالب.

قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، قرأ ابن محيصن : «تبدّلوا» بتاء واحدة. ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنه إبدال حقيقة ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه أخذ الجيّد ، وإعطاء الرّديء

____________________________________

(٢٥٥) صحيح. أخرجه البخاري ٣٨٣٦ و ٦٦٤٨ ومسلم ١٦٤٦ وأحمد ٢ / ٢٠ ـ ٤٢ ـ ٧٦ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال : لا تحلفوا بآبائكم». وانظر «تفسير القرطبي» ١٩٩١ بتخريجنا.

(٢٥٦) عزاه السيوطي في «الدر» ٢ / ٢٠٧ لابن أبي حاتم عن ابن جبير ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩١ بدون إسناد عن مقاتل والكلبي وعزاه ابن حجر في «تخريج الكشاف» ١٩٩٩ للثعلبي وقال : وسنده إليهما مذكور أول الكتاب ـ أي كتاب الثعلبي ـ وسكت الحافظ عليه. وهو معضل ، والكلبي متروك متهم ، ومقاتل إن كان ابن سليمان ، فهو كذاب ، وإن كان ابن حيان ، فإنه صدوق فيه ضعف وقد روى مناكير كثيرة.


مكانه ، قاله سعيد بن المسيّب ، والضّحّاك ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، والسّدّيّ. قال السّدّيّ : كان أحدهم يأخذ الشّاة السّمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدّراهم الجياد ، ويطرح مكانها الزّيوف. والثاني : أنه الرّبح على اليتيم ، واليتيم غرّ لا علم له ، قاله عطاء. والقول الثاني : أنه ليس بإبدال حقيقة ، وإنّما هو أخذه مستهلكا ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصّغار ، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرّجال ، فنصيب الرّجل من الميراث طيّب ، وما أخذه من حقّ اليتيم خبيث ، هذا قول ابن زيد. والثاني : أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم ، قاله الزجّاج.

و «إلى» بمعنى «مع» والحوب : الإثم. وقرأ الحسن ، وقتادة ، والنّخعيّ بفتح الحاء. قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : حوب بالضّم ، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباريّ : وقال الفرّاء : المضموم الاسم ، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة : وفيه ثلاث لغات : حوب ، وحوب ، وحاب.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال :

أحدها : أنّ القوم كانوا يتزوّجون عددا كثيرا من النّساء في الجاهليّة ، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهنّ ، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى ، فقيل لهم بهذه الآية : احذروا من ترك العدل بين النّساء ، كما تحذرون من تركه في اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنّ أولياء اليتامى كانوا يتزوّجون النّساء بأموال اليتامى ، فلمّا كثر النّساء ، مالوا على أموال اليتامى ، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا ، وعكرمة. والثالث : أنّ معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهنّ ، فانكحوا سواهنّ من الغرائب اللواتي أحلّ الله لكم ، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة. والرابع : أنّ معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهنّ ، وحذرتم سوء الصّحبة لهنّ ، وقلّة الرّغبة فيهنّ ، فانكحوا غيرهنّ ، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة أيضا ، والحسن. والخامس : أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فأمروا بالتّحرّج من الزّنى أيضا ، وندبوا إلى النّكاح الحلال ، وهذا المعنى مرويّ عن مجاهد. والسادس : أنّهم تحرّجوا من نكاح اليتامى ، كما تحرّجوا من أموالهم ، فرخّص الله لهم بهذه الآية ، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه ، فكأنّه قال : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهنّ ، فانكحوهنّ ، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا ، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهنّ ، فواحدة ، وهذا المعنى مرويّ عن الحسن (١).

__________________

(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في تفسيره ٣ / ٥٧٧ (النساء : ٣) : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) فكذلك خافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع. فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن». وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حق وخلطها بغيرها من


قال ابن قتيبة : ومعنى قوله : وإن خفتم ، أي : فإن علمتم أنّكم لا تعدلون بين اليتامى. يقال : أقسط الرّجل : إذا عدل ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٢٥٧) المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة.

ويقال قسط الرجل : إذا جار ، ومنه قول الله (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

وفي معنى العدل في اليتامى قولان : أحدهما : في نكاح اليتامى. والثاني : في أموالهم.

قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) أي : ما حلّ لكم. قال ابن جرير : وأراد بقوله تعالى : ما طاب لكم ، الفعل دون أعيان النّساء ، ولذلك قال : «ما» ولم يقل : «من» واختلفوا : هل النّكاح من اليتامى ، أو من غيرهنّ؟ على قولين قد سبقا.

قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). قال الزجّاج : هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه : اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا. وإنّما خاطب الله العرب بأفصح اللغات ، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التّسعة باثنتين ، وثلاث ، وأربع ، لأنّ التسعة قد وضعت لهذا العدد ، فيكون عيّا في الكلام. وقال ابن الأنباريّ : هذه الواو معناها التّفرّق ، وليست جامعة ، فالمعنى : فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى ، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى ، وانكحوا رباع في غير الحالين. وقال القاضي أبو يعلى : الواو هاهنا لإباحة أيّ الأعداد شاء ، لا للجمع ، وهذا العدد إنّما هو للأحرار ، لا للعبيد ، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ. وقال مالك : هم كالأحرار. ويدلّ على قولنا : أنّه قال : فانكحوا ، فهذا منصرف إلى من يملك النّكاح ، والعبد لا يملك ذلك بنفسه ، وقال في سياقها (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، والعبد لا ملك له ، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين.

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فيه قولان : أحدهما : علمتم. والثاني : خشيتم.

قوله تعالى : (أَلَّا تَعْدِلُوا) قال القاضي أبو يعلى : أراد العدل في القسم بينهنّ.

قوله تعالى : (فَواحِدَةً) أي : فانكحوا واحدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وحميد : «فواحدة» بالرّفع ، المعنى ، فواحدة تقنع.

قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : السّراريّ. قال ابن قتيبة : معنى الآية : فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم ، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النّساء إذا نكحتموهنّ ، فقصرهم على أربع ، ليقدروا على العدل ، ثم قال : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع ، فانكحوا واحدة ، واقتصروا على ملك اليمين.

قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى) أي : أقرب. وفي معنى (تَعُولُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : تميلوا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، والفرّاء. وقال

____________________________________

(٢٥٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٨٢٧ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

__________________

الأموال. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى.


أبو مالك ، وأبو عبيدة ، تجوروا. قال ابن قتيبة ، والزجّاج : تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل ، فحكم لأحدهما ، فقال المحكوم عليه : إنّك والله تعول عليّ ، أي تميل وتجور. والثاني : تضلّوا ، قاله مجاهد. والثالث : تكثر عيالكم ، قال ابن زيد ، ورواه أبو سليمان الدّمشقيّ في «تفسيره» عن الشّافعيّ ، وردّه الزجّاج ، فقال : أهل اللغة يقولون : هذا القول خطأ ، لأنّ الواحدة يعولها ، وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين :

أحدهما : أنّهم الأزواج ، وهو قول الجمهور ، واحتجّوا بأن الخطاب للنّاكحين قد تقدّم ، وهذا معطوف عليه ، وقال مقاتل : كان الرجل يتزوّج بلا مهر ، فيقول : أرثك وترثيني ، فتقول المرأة : نعم ، فنزلت هذه الآية.

والثاني : أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان : أحدهما : أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها ، فنهوا بهذه الآية ، هذا قول أبي صالح واختاره الفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر ، فنهوا عن هذا بهذه الآية ، رواه أبو سليمان التّيميّ عن بعض أشياخه.

قال ابن قتيبة : والصدقات : المهور ، واحدها : صدقة.

وفي قوله تعالى : (نِحْلَةً) أربعة أقوال : أحدها : أنها بمعنى الفريضة ، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل. والثاني : أنها الهبة والعطية ، قاله الفراء. قال ابن الأنباريّ : كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهنّ ، فلما فرض الله لهنّ المهر ، كان نحلة من الله ، أي : هبة للنساء ، فرضا على الرّجال. وقال الزجّاج : هو هبة من الله للنّساء. قال القاضي أبو يعلى : وقيل : إنما سمي المهر : نحلة ، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئا ، لأن البضع بعد النّكاح في ملك المرأة ، ألا ترى أنّها لو وطئت بشبهة ، كان المهر لها دون الزّوج ، وإنما الذي يستحقّه الزوج الاستباحة ، لا الملك. والثالث : أنها العطيّة بطيب نفس ، فكأنه قال : لا تعطوهنّ مهورهنّ وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة. والرابع : أنّ معنى «النّحلة» : الدّيانة ، فتقديره : وآتوهنّ صدقاتهنّ ديانة ، يقال : فلان ينتحل كذا ، أي : يدين به ، ذكره الزجّاج عن بعض العلماء.

قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) يعني : النّساء المنكوحات. وفي (لَكُمْ) قولان : أحدهما : أنه يعني الأزواج. والثاني : الأولياء. و «الهاء» في (مِنْهُ) كناية عن الصّداق ، قال الزّجّاج : و (مِنْهُ) هاهنا للجنس ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) معناه : فاجتنبوا الرّجس الذي هو وثن ، فكأنه قال : كلوا الشيء الذي هو مهر ، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه. و (نَفْساً) : منصوب على التمييز.

فالمعنى : فإن طابت أنفسهنّ لكم بذلك ، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما تؤمن عاقبته. والثاني : ما أعقب نفعا وشفاء. والثالث : أنه الذي لا ينغّصه شيء. وأما «المريء» فيقال : مرئ الطّعام : إذا انهضم ، وحمدت عاقبته.


(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، المراد بالسّفهاء خمسة أقوال : أحدها : أنهم النّساء ، قاله ابن عمر. والثاني : النّساء والصّبيان ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين. والثالث : الأولاد ، قاله أبو مالك ، وهذه الأقوال الثلاثة مرويّة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، قال : هم الأولاد الصّغار. والرابع : اليتامى ، قاله عكرمة ، وسعيد بن جبير في رواية. قال الزجّاج : ومعنى الآية : ولا تؤتوا السّفهاء أموالهم ، بدليل قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) وإنّما قال : «أموالكم» ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للنّاس. وقال غيره : أضافها إلى الولاة ، لأنهم قوّامها. والخامس : أن القول على إطلاقه ، والمراد به كلّ سفيه يستحقّ الحجر عليه ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدّمشقيّ ، وغيرهما ، وهو ظاهر الآية.

وفي قوله تعالى : (أَمْوالَكُمُ) قولان : أحدهما : أنه أموال اليتامى. والثاني : أموال السّفهاء.

قوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) قرأ الحسن : «اللاتي جعل الله لكم قواما». وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو عمرو : «قياما» بالألف ، وقرأ نافع ، وابن عامر : «قيّما» بغير ألف. قال ابن قتيبة : قياما وقواما بمنزلة واحدة ، تقول : هذا قوام أمرك وقيامه ، أي : ما يقوم به أمرك. وذكر أبو عليّ الفارسيّ أن «قواما» و «قياما» و «قيّما» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشّأن ، قال : وليس قول من قال «القيم» هاهنا : جمع «قيمة» بشيء.

قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي : منها. وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال : أحدها : العدة الحسنة ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، ومقاتل. والثاني : الرّدّ الجميل ، قاله الضّحّاك. والثالث : الدّعاء ، كقولك : عافاك الله ، قاله ابن زيد.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى).

(٢٥٨) سبب نزولها أنّ رجلا ، يقال له : رفاعة ، مات وترك ولدا صغيرا ، يقال له : ثابت ، فوليه عمّه ، فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحلّ لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية ، ذكر نحوه مقاتل.

والابتلاء : الاختبار. وبما ذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم يختبرون في عقولهم ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وسفيان ، ومقاتل. والثاني : يختبرون في عقولهم ودينهم ، قاله الحسن ، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث : في عقولهم ودينهم ، وحفظهم أموالهم ، ذكره الثّعلبيّ. قال القاضي أبو يعلى : وهذا الابتلاء قبل البلوغ.

____________________________________

(٢٥٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٨٦٤٠ عن قتادة مرسلا ، وذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٩٤ بدون إسناد.


قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) قال ابن قتيبة : أي : بلغوا أن ينكحوا النّساء (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي : علمتم ، وتبيّنتم. وأصل : آنست : أبصرت. وفي الرّشد أربعة أقوال : أحدها : الصّلاح في الدّين ، وحفظ المال ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : الصّلاح في العقل ، وحفظ المال ، روي عن ابن عباس والسّدّيّ. والثالث : أنه العقل ، قاله مجاهد ، والنّخعيّ. والرابع : العقل ، والصّلاح في الدّين ، روي عن السّدّيّ.

فصل : واعلم أنّ الله تعالى علّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين : بالبلوغ والرّشد ، وأمر الأولياء باختبارهم ، فإذا استبانوا رشدهم ، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم.

والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ، ثلاثة يشترك فيها الرّجال والنّساء : الاحتلام ، واستكمال خمس عشرة سنة ، والإنبات ، وشيئان يختصّان بالنّساء : الحيض والحمل (١).

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) خطاب للأولياء ، قال ابن عباس : لا تأكلوها بغير حقّ.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٣٨ : واختلف العلماء في تأويل «رشدا» على أقوال ـ وذكرها ـ قال سعيد بن جبير والشعبي : إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده ، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضّحاك ، وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه ، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة : لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل ، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف ، فقيل : يا رسول الله احجر عليه ، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تبع». فقال : لا أصبر. فقال له : «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا». قالوا : فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه‌السلام ، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه مخصوص بذلك ، فغيره بخلافه. وقال الشافعي : إن كان مفسدا لماله ودينه ، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين : أحدهما يحجر عليه ، وهو اختيار أبي العباس بن شريح.

والثاني : لا حجر عليه ، وهو اختيار أبي إسحاق المروزيّ والأظهر من مذهب الشافعي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين : إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال ، كذلك نص الآية ، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة : لكونه جدّا وهذا يدل على ضعف قوله حسب ما تقدم وما ذا يعني كونه جدّا إذا كان غير جدّ ، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي. وفرّق علماؤنا بينهما بأن قالوا : الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح ، فيه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها ، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار ، ويكمل عقله بالبلوغ ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب. ثم زاد علماؤنا فقالوا : لا بد بعد الدخول من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن عربي : وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة : منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب ، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وليس في هذا كله دليل ، وتحديد الأعوام عسير. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركّب عليه واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.


(وَبِداراً) تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصّبيّ (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) بماله عن مال اليتيم.

وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال : أحدها : أنه الأخذ على وجه القرض ، وهذا مروي عن عمر ، وابن عباس ، وابن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة ، وأبي وائل ، ومجاهد ، ومقاتل. والثاني : الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، والنّخعيّ ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا ، روي عن ابن عباس ، وعائشة ، وهي رواية أبي طالب ، وابن منصور ، عن أحمد رضي الله عنه. والرابع : أنه الأخذ عند الضّرورة ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر ، فهو في حلّ ، وهذا قول الشّعبيّ (١).

فصل : واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين :

أحدهما : محكمة ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والشّعبيّ ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وابن جبير ، والنّخعيّ ، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغنيّ ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا ، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه ، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية ، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف. وهل عليه الضّمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم : أحدهما : أنه لا ضمان عليه ، بل يكون كالأجرة له على عمله ، وهو قول الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وقتادة ، وأحمد بن حنبل. والثاني : إذا أيسر وجب عليه القضاء ، روي عن عمر وغيره ، وعن ابن عباس أيضا كالقولين. والقول الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ*) (٢) وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح.

قوله تعالى : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) قال القاضي أبو يعلى : هذا على طريق الاحتياط لليتيم ، والوليّ ، وليس بواجب ، فأما اليتيم ، فإنه إذا كانت عليه بيّنة ، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض ، وأما الوليّ ، فإنه تظهر أمانته ، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدّفع.

وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه الكافي ، من قولك : أحسبني هذا الشيء ، أي كفاني ، والله حسيبي وحسيبك ، أي : وكافينا ، أي يكون حكما بيننا كافيا ، قال الشاعر (٣) :

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٦٤ : قال الفقهاء : له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته. واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين : أحدهما : لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا ؛ وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. قال أحمد ؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال : «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك. والثاني : نعم لأن مال اليتيم على الحظر ؛ وإنما أبيح للحاجة فيردّ بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة.

(٢) النساء : ٢٩.

(٣) في «اللسان» : قفي ؛ نسب البيت لامرأة من بني قشير. ونقفيه أي نؤثره بالقفية ؛ وهي ما يؤثر به الصبي والضيف.


أي : نعطيه ما يكفيه حتى يقول : حسبي. قاله ابن قتيبة والخطّابيّ. والثالث : أنه المحاسب ، فيكون في مذهب جليس ، وأكيل ، وشريب ، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

(٢٥٩) سبب نزولها أنّ أوس بن ثابت الأنصاريّ توفي وترك ثلاث بنات وامرأة ، فقام رجلان من بني عمّه ، يقال لهما : قتادة ، وعرفطة (١) فأخذوا ماله ، ولم يعطيا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك ، وشكت الفقر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : كانوا لا يورّثون النساء ، فنزلت هذه الآية.

والمراد بالرجال : الذّكور ، وبالنّساء : الإناث ، صغارا كانوا أو كبارا. و «النصيب» : الحظّ من الشيء ، وهو مجمل في هذه الآية ، ومقداره معلوم من موضع آخر ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (٢) وقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٣). والمفروض : الذي فرضه الله ، وهو آكد من الواجب.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

____________________________________

(٢٥٩) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩٥ بدون إسناد ، وأخرجه الطبري ٨٦٥٨ عن عكرمة مرسلا لكن باختصار. ونسبه السيوطي في «الدر» ٢ / ٢١٧ لأبي الشيخ عن ابن عباس ، وكذا ذكره الواحدي في «الوسيط» ٢ / ١٤ عن ابن عباس في رواية الكلبي باختصار ، وبدون إسناد.

ـ وورد مختصرا من حديث جابر وسيأتي أخرجه أبو نعيم وأبو موسى كما في «الإصابة» ٤ / ٤٨٧ قال أبو موسى : كذا قال : ليس لهما شيء ، وأراد ليس يعطيان شيئا من ميراث أبيهما.

قال ابن حجر : قلت : راويه عن سفيان هو إبراهيم بن هراسة ضعيف ، وقد خالفه بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد عن جابر أخرجه أبو داود من طريقه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق ، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت : يا رسول الله ، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد ، وقد استفاء عمّهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه ، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقضي الله في ذلك» ونزلت سورة النساء (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فلك» قال أبو داود : أخطأ بشر فيه إنما هما ابنتا سعد بن الربيع ، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» ٤ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ترجمة أم كجّة ، وهو عند أبي داود ٢٨٩١ و ٢٨٩٢ والترمذي ٢٠٩٢ وابن ماجة ٢٧٢٠ وأحمد ٣ / ٣٥٢ والحاكم ٤ / ٣٣٤ والواحدي ٢٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٢٩ من حديث جابر بنحو سياق المصنف ، وليس فيه تسمية المرأة بل فيه أن امرأة سعد بن الربيع ، والحديث حسن الإسناد.

__________________

(١) في «أسباب النزول للواحدي» ٢٩٥ سويد وعرفجة ، وفي «الدرّ المنثور» ٢ / ٢١٧.

(٢) الأنعام : ١٤١.

(٣) التوبة : ١٠٣.


قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) في هذه القسمة قولان : أحدهما : قسمة الميراث بعد موت الموروث ، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين ، وبهذا قال الأكثرون ، منهم ابن عباس ، والحسن ، والزّهريّ. والثاني : أنها وصيّة الميّت قبل موته ، فيكون مأمورا. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئا ، روي عن ابن عباس ، وابن زيد. قال المفسّرون : والمراد بأولي القربى : الذين لا يرثون ، (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي : أعطوهم منه ، وقيل : أطعموهم ، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين ، وذهب قوم إلى أنه واجب في المال ، فإن كان الورثة كبارا ، تولّوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغارا تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم ، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام ، فأمر بشاة ، فاشتريت من مالهم ، وبطعام فصنع ، وقال : لو لا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي ، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتام وليهم ، وكذلك روي عن مجاهد : أن ما تضمّنته هذه الآية واجب.

وفي «القول المعروف» أربعة أقوال : أحدها : أن يقول لهم الوليّ حين يعطيهم : خذ بارك الله فيك ، رواه سالم الأفطس ، عن ابن جبير. والثاني : أن يقول الوليّ : إنه مال يتامى ، وما لي فيه شيء ، رواه أبو بشر عن ابن جبير ، وفي رواية أخرى عن ابن جبير ، قال : إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيّتهم ، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانوا صغارا ، قال وليّهم : إني لست أملك هذا المال ، إنّما هو للصّغار ، فذلك القول المعروف. والثالث : أنه العدة الحسنة ، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة : إنّ هؤلاء الورثة صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقّكم. رواه عطاء بن دينار ، عن ابن جبير. والرابع : أنهم يعطون من المال ، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرّقيق : بورك فيكم ، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنّخعي : أدركنا الناس يفعلون هذا.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها محكمة ، وهو قول أبي موسى الأشعريّ ، وابن عباس ، والحسن ، وأبي العالية ، والشّعبيّ ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وقد ذكرنا أنّ ما تضمّنته من الأمر مستحبّ عند الأكثرين ، وواجب عند بعضهم.

والقول الثاني : أنها منسوخة ، نسخها قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وقتادة في آخرين (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٤٨ : بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم ، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير : ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن : هي ثابتة ـ محكمة ـ ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال : إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها ، هما واليان : وال يرث ، وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أمل.


(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان :

أحدهما : وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه ، فيفرّقه ويترك ورثته ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل.

والثاني : على الضّدّ من هذا القول ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصيّة لأقاربه ، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التّيميّ في آخرين.

والقول الثاني : أنه خطاب لأولياء اليتامى ، متعلّق بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) فمعنى الكلام : أحسنوا فيمن ولّيتم من اليتامى ، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وابن السّائب.

والثالث : أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي ، وأن تكون الوجوه التي عيّنها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذّرّية الضّعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١) فأمر الوصي ، بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحقّ أن يستعمل قضيّة الشّرع ، ويصلح بين الورثة ، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله ، وغيره في «النّاسخ والمنسوخ» ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة ، وعلى ما قبله تكون محكمة.

و «الضّعاف» : جمع ضعيف ، وهم الأولاد الصّغار ، وقرأ حمزة : ضعافا ، بإمالة العين.

قال أبو عليّ : ووجهها : أنّ ما كان على «فعال» وكان أوّله حرفا مستعليا مكسورا ، نحو ضعاف ، وقفاف ، وخفاف ؛ حسنت فيه الإمالة ، لأنه قد يصعّد بالحرف المستعلي ، ثم يحدر بالكسر ، فيستحبّ أن لا يصعّد بالتّفخيم بعد التّصوّب بالكسر ، فيجعل الصّوت على طريقة واحدة ، وكذلك قرأ حمزة : (خافُوا عَلَيْهِمْ) بإمالة الخاء ، والإمالة هاهنا حسنة ، وإن كانت «الخاء» حرفا مستعليا ، لأنه يطلب

__________________

لك أن أعطيك. قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عزوجل. وقالت طائفة : هذا الرضخ ـ العطاء القليل ـ واجب على جهة الفرض ، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب ، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث ، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع.

(١) البقرة : ١٨٢.


الكسرة التي في «خفت» فينحو نحوها بالإمالة. والقول السّديد : الصّواب.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنّ رجلا من غطفان ، يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه ، فأكله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن حيّان (١). والثاني : أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما ، فأكل ماله ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ الأكل بالذّكر ، لأنه معظم المقصود ، وقيل : عبّر به عن الأخذ.

قال سعيد بن جبير : ومعنى الظّلم : أن يأخذه بغير حقّ. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد ، كما تقول : نظرت بعيني ، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النّار قولان :

أحدهما : أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا ، فسمّي الأكل بما يؤول إليه أمرهم ، كقوله تعالى : (أَعْصِرُ خَمْراً) (٢) قال السّدّيّ : يبعث آكل مال اليتيم ظلما ، ولهب النار يخرج من فيه ، ومن مسامعه ، وأذنيه ، وأنفه ، وعينيه ، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم.

والثاني : أنه مثل. معناه : يأكلون ما يصيرون به إلى النّار ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) (٣) أي : رأيتم أسبابه.

قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، «وسيصلون» بفتح الياء ، وقرأ الحسن ، وابن عامر ، بضمّ الياء ، ووافقهما ابن مقسم ، إلا أنه شدّد. والمعنى : سيحرّقون بالنّار ، ويشوون. والسّعير : النار المستعرة ، واستعار النّار : توقّدها.

فصل : وقد توهّم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه ، أنّ هذه الآية منسوخة ، لأنهم سمعوا أنها لمّا نزلت ، تحرّج القوم عن مخالطة اليتامى ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٤) وهذا غلط ، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح ، لا على إباحة الظّلم.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩٦ عن مقاتل بن حيان بدون إسناد ، فهذه علة ، ومقاتل ذو مناكير ، وخبره معضل ، فهو لا شيء.

(٢) يوسف : ٣٦.

(٣) آل عمران : ١٤٣.

(٤) البقرة : ٢٢٠.


(٢٦٠) أحدها : أنّ جابر بن عبد الله مرض ، فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه البخاريّ ومسلم.

(٢٦١) والثاني : أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابنتين لها ، فقالت : يا رسول الله قتل أبو هاتين معك يوم أحد ، وقد استفاء (١) عمّهما مالهما ، فنزلت ، روي عن جابر بن عبد الله أيضا.

(٢٦٢) والثالث : أنّ عبد الرحمن أخا حسّان بن ثابت مات ، وترك امرأة ، وخمس بنات ، فأخذ ورثته ماله ، ولم يعطوا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السّدّيّ.

قال الزجّاج : ومعنى يوصيكم : يفرض عليكم ، لأن الوصيّة منه فرض (٢). وقال غيره : إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين : أحدهما : أن الوصيّة تزيد على الأمر ، فكانت آكد. والثاني : أن في الوصيّة حقا للموصي ، فدلّ على تأكيد الحال بإضافته إلى حقّه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة : «يوصّيكم» بالتّشديد.

قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني ، للابن من الميراث مثل حظّ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإناث من الأوّل فقال (فَإِنْ كُنَ) يعني : البنات (نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) وفي قوله تعالى : (فَوْقَ) قولان : أحدهما : أنها زائدة ، كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ). والثاني : أنها بمعنى الزّيادة. قال القاضي أبو يعلى : إنما نصّ على ما فوق الاثنتين ، والواحدة ، ولم ينصّ على الاثنتين ، لأنه لمّا جعل لكلّ واحدة مع الذّكر الثلث ، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) قرأ الجمهور بالنّصب ، وقرأ نافع بالرّفع ، على معنى : وإن وقعت ، أو وجدت واحدة.

____________________________________

(٢٦٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٧٧ ومسلم ١٦١٦ وأبو داود ٢٨٨٦ والترمذي ٣٠١٥ وابن ماجة ١٤٣٦ و ٢٧٢٨ واستدركه الحاكم ٢ / ٣٠٣ من حديث جابر.

(٢٦١) حسن. أخرجه أبو داود ٢٨٩١ و ٢٨٩٢ والترمذي ٢٠٩٢ وابن ماجة ٢٧٢٠ وأحمد ٣ / ٣٥٢ والحاكم ٤ / ٣٣٤ والواحدي ٢٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٢٩ من حديث جابر ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وهو حسن لأن مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو حسن الحديث. وانظر الحديث المتقدم برقم ٢٥٩ وانظر «تفسير الشوكاني» ٦٠٧ بتخريجنا.

(٢٦٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٨٧٢٧ عن أسباط عن السدي مرسلا فهو ضعيف.

__________________

(١) في «اللسان» : الاستيفاء : استرجع حقهما من الميراث وجعله فيئا له.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٥٩ ـ ٦٠ : اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب :

منها الحلف ، والهجرة والمعاقدة. ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمّى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها» رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة ... والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة ... ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضا ، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.


قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ) قال الزجّاج : أبواه تثنية أب وأبة ، والأصل في الأمّ أن يقال لها : أبة ، ولكن استغني عنها بأمّ ، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجر له ذكر.

وقوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي : إذا لم يخلّف غير أبوين ، فثلث ماله لأمّه ، والباقي للأب ، وإنما خصّ الأمّ بالذّكر ، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ظنّ الظّانّ أن المال يكون بينهما نصفين ، فلما خصّها بالثلث ، دلّ على التفضيل.

وقرأ ابن كثير ، ونافع وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : (فَلِأُمِّهِ) و (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ*) (١) و (فِي أُمِّها) (٢) و (فِي أُمِّ الْكِتابِ) بالرّفع. وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا ، وحجّتهما : أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها ، من ياء أو كسرة.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي : مع الأبوين ، فإنّهم يحجبون الأم عن الثلث ، فيردّونها إلى السّدس ، واتّفقوا على أنّهم إذا كانوا ثلاثة إخوة ؛ حجبوا ، فإن كانا أخوين ، فهل يحجبانها؟ فيه قولان : أحدهما : يحجبانها عن الثلث ، قاله عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيد ، والجمهور. والثاني : لا يحجبها إلا ثلاثة ، قاله ابن عباس ، واحتجّ بقوله : إخوة. والإخوة : اسم جمع ، واختلفوا في أقلّ الجمع ، فقال الجمهور : أقلّه ثلاثة ، وقال قوم : اثنان ، والأوّل : أصحّ. وإنما حجب العلماء الأمّ بأخوين لدليل اتّفقوا عليه ، وقد يسمّى الاثنان بالجمع ، قال الزجّاج : جميع أهل اللغة يقولون : إن الأخوين جماعة ، وحكى سيبويه أنّ العرب تقول : وضعا رحالهما ، يريدون : رحلي راحلتيهما.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) أي : هذه السّهام إنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم «يوصى بها» بفتح الصّاد في الحرفين. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «يوصي» فيهما بالكسر ، وقرأ حفص ، عن عاصم الأولى بالكسر ، والثانية بالفتح.

واعلم أن الدّين مؤخّر في اللفظ ، مقدّم في المعنى ، لأن الدّين حق عليه ، والوصيّة حق له ، وهما جميعا مقدّمان على حقّ الورثة إذا كانت الوصيّة في ثلث المال ، و «أو» لا توجب الترتيب ، إنما تدلّ على أن أحدهما إن كان ، فالميراث بعده ، وكذلك إن كانا.

قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فيه قولان : أحدهما : أنه النّفع في الآخرة ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده ، رفع إليه ولده ، وكذلك الولد ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أنه شفاعة بعضهم في بعض ، رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والقول الثاني : أنه النّفع في الدّنيا ، قاله مجاهد. ثمّ في معناه قولان : أحدهما : أن المعنى : لا تدرون هل موت الآباء أقرب ، فينتفع الأبناء بأموالهم ، أو موت الأبناء ، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني : أن المعنى : أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النّفع ، حتى لا يدرى أيّهم أقرب نفعا ، لأنّ الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ، ذكره القاضي أبو يعلى.

وقال الزجّاج : معنى الكلام : أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيّهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح

__________________

(١) الزمر : ٦.

(٢) القصص : ٥٩.


خلقه ، (حَكِيماً) فيما فرض. وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناها : كان عليما بالأشياء قبل خلقها ، حكيما فيما يقدر تدبيره منها ، قاله الحسن. والثاني : أن معناها : لم يزل. قال سيبويه : كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة ، فقيل له : إنّ الله كان كذلك ، أي : لم يزل على ما شاهدتم ، ليس ذلك بحادث. والثالث : أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عزوجل يتساوى ماضيها ومستقبلها ، لأن الأشياء عنده على حال واحدة ، ذكر هذه الأقوال الزجّاج.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) قرأ الحسن : «يورث» بفتح الواو ، وكسر الراء مع التّشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال : أحدها : أنها ما دون الوالد والولد ، قاله أبو بكر الصّدّيق. وقال عمر بن الخطّاب : أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة ، فإذا هو : من لم يكن له والد ولا ولد ، وهذا قول عليّ ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والزّهريّ ، وقتادة ، والفرّاء ، وذكر الزجّاج عن أهل اللغة ، أن «الكلالة» : من قولهم : تكلّله النّسب ، أي : لم يكن الذي يرثه ابنه ، ولا أباه. قال : والكلالة سوى الوالد والولد ، وإنما هو كالإكليل على الرّأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلّله النّسب : إذا أحاط به. والابن والأب : طرفان للرّجل. فإذا مات ، ولم يخلّفهما ، فقد مات عن ذهاب طرفيه ، فسمّي ذهاب الطّرفين : كلالة. والثاني : أن الكلالة : من لا ولد له ، رواه ابن عباس ، عن عمر بن الخطّاب ، وهو قول طاوس. والثالث : أن الكلالة : ما عدا الوالد ، قاله الحكم. والرابع : أن الكلالة : بنو العمّ الأباعد ، ذكره ابن فارس ، عن ابن الأعرابيّ (١).

واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اسم للحيّ الوارث ، وهذا مذهب أبي بكر الصّدّيق ، وعامّة العلماء الذين قالوا : إن الكلالة من دون الوالد والولد ، فإنهم قالوا : الكلالة : اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد ، قال بعض الأعراب : مالي كثير ، ويرثني كلالة متراخ

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٧٠ : الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روي عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.


نسبهم. والثاني : أنه اسم للميّت ، قاله ابن عباس : والسّدّيّ ، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي أبو يعلى : الكلالة : اسم للميّت ، ولحاله ، وصفته ، ولذلك انتصب. والثالث : أنه اسم للميّت والحيّ ، قاله ابن زيد.

وفيما أخذت منه الكلالة قولان : أحدهما : أنه اسم مأخوذ من الإحاطة ، ومنه الإكليل ، لإحاطته بالرأس. والثاني : أنه مأخوذ من الكلال ، وهو التّعب ، كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء. قال الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفى حتّى تزور محمّدا

قوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) يعني : من الأمّ بإجماعهم.

قوله تعالى : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) قال قتادة : ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ) قال الزجّاج : «غير» منصوب على الحال ، والمعنى : يوصي بها غير مضارّ ، يعني : للورثة.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣))

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) قال ابن عباس : يريد ما حدّ الله من فرائضه في الميراث (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في شأن المواريث (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) قرأ ابن عامر ، ونافع : «ندخله» بالنون في الحرفين جميعا ، والباقون بالياء فيهما.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) فلم يرض بقسمه (يُدْخِلْهُ ناراً) ، فإن قيل : كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب : أنه إذا ردّ حكم الله ، وكفر به ، كان كافرا مخلّدا في النار.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥))

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) قال الزجّاج : «التي» تجمع اللاتي واللواتي. قال الشاعر :

من اللواتي والتي واللاتي

زعمن أنّي كبرت لداتي (١)

وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها. قال الشاعر :

من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفّلا

والفاحشة : الزّنى في قول الجماعة.

__________________

(١) قال البغدادي في «خزانة الأدب» ٢ / ٥٦٠ لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو ، وهو في «القرطبي» قال الجوهري : أنشد أبو عبيدة. وفي «اللسان» : أنشده أبو عمرو ـ مادة لتا


وفي قوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) قولان : أحدهما : أنه خطاب للأزواج. والثاني : خطاب للحكّام ، فالمعنى : اسمعوا شهادة أربعة منكم ، ذكرهما الماورديّ. قال عمر بن الخطّاب : إنما جعل الله عزوجل الشهود أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم. ومعنى «منكم» : من المسلمين. قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) قال ابن عباس : كانت المرأة إذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فجعل الله لهنّ سبيلا ، وهو الجلد أو الرّجم.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

قوله تعالى : (وَالَّذانِ) قرأ ابن كثير : «واللذانّ» بتشديد النون ، و «هذانّ» في طه والحج و «هاتين» في القصص : «إحدى ابنتيّ هاتينّ» و «فذانّك» كلّه بتشديد النون. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، بتخفيف ذلك كلّه ، وشدّد أبو عمرو «فذانّك» وحدها.

وقوله : واللذان : يعني : الزّانيين. وهل هو عامّ ، أم لا؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه عامّ في الأبكار والثّيّب من الرجال والنساء ، قاله الحسن ، وعطاء.

والثاني : أنه خاصّ في البكرين إذا زنيا ، قاله أبو صالح ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، وسفيان. قال القاضي أبو يعلى : والأوّل أصحّ ، لأن هذا تخصيص بغير دلالة.

قوله تعالى : (يَأْتِيانِها) يعني الفاحشة. قوله تعالى (فَآذُوهُما) فيه قولان : أحدهما : أنه الأذى بالكلام ، والتّعيير ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسّدّيّ ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : أنه التّعيير ، والضّرب بالنّعال ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. (فَإِنْ تابا) من الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل (فَأَعْرِضُوا) عن أذاهما. وهذا كلّه كان قبل الحدّ.

فصل : كان حدّ الزانيين ، فيما تقدّم ، الأذى لهما ، والحبس للمرأة خاصّة ، فنسخ الحكمان جميعا ، واختلفوا بما ذا وقع نسخهما :

(٢٦٣) فقال قوم بحديث عبادة بن الصّامت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «خذوا عنّي ، خذوا عنّي ، قد جعل الله لهنّ سبيلا ، الثّيب بالثّيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة» ؛ وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسّنّة.

وقال قوم : نسخ بقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) قالوا : وكان قوله

____________________________________

(٢٦٣) صحيح. أخرجه مسلم ١٦٩٠ وأبو داود ٤٤١٥ و ٤٤١٦ والترمذي ١٤٣٤ والنسائي في «التفسير» ١١٣ وابن ماجة ٢٥٥٠ والشافعي في «الرسالة» ٦٨٦ وعبد الرزاق ١٣٣٥٩ وابن أبي شيبة ١٠ / ٨٠ والطيالسي ٥٨٤ والدارمي ٢ / ١٨١ وابن الجارود ٨١٠ وأحمد ٥ / ٣١٣ ـ ٣١٧ وابن حبان ٤٤٠٨ و ٤٤٠٩ و ٤٤١٠ والطحاوي في «المعاني» ٣ / ١٣٤ من طرق كلهم من حديث عبادة بن الصامت.

__________________

(١) النور : ٢.


تعالى (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) للبكرين ، فنسخ حكمها بالجلد ، ونسخ حكم الثّيّب من النساء بالرّجم (١).

وقال قوم : يحتمل أن يكون النّسخ وقع بقرآن ، ثم رفع رسمه ، وبقي حكمه. لأن في حديث عبادة «قد جعل الله لهنّ سبيلا» والظاهر : أنه جعل بوحي لم تستقرّ تلاوته. قال القاضي أبو يعلى : وهذا وجه صحيح ، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسّنّة. قال : ويمتنع أن يقع النّسخ بحديث عبادة ، لأنه من أخبار الآحاد ، والنّسخ لا يجوز بذلك.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧))

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) قال الحسن : إنما التوبة التي يقبلها الله. فأما «السّوء» ، فهو المعاصي ، سمّي سوءا لسوء عاقبته.

قوله تعالى : (بِجَهالَةٍ) قال مجاهد : كلّ عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، والسّدّي في آخرين : إنما سمّوا جهّالا لمعاصيهم ، لا أنهم غير مميّزين.

وقال الزجّاج : ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء ، لأن المسلم لو أتى ما يجهله ، كان كمن لم يوقع سوءا ، وإنما يحتمل أمرين : أحدهما : أنهم عملوه ، وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني : أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة ، وآثروا العاجل على الآجل ، فسمّوا جهّالا ، لإيثارهم القليل على الرّاحة الكثيرة ، والعاقبة الدّائمة.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٧٢ : كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج إلى أن تموت والسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.

وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٨٣ ـ ٨٤ : قوله تعالى (فآذوهما) قال قتادة والسدي معناه التوبيخ والتعبير وقالت فرقة : هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس : النيل باللسان والضرب بالنعال قال النحاس : وزعم قوم أنه منسوخ. قلت : رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : (واللاتي يأتين الفاحشة) و (اللذان يأتيانها) كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في النور وقيل وهو أولى : إنه ليس بمنسوخ ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما : فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عزوجل.

واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك ، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك ، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق وقال جماعة من العلماء : بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور ، متماسكين بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وبقوله عليه‌السلام لأنيس : «اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يذكر الجلد ، فهو لو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم : إنما سكت عنه ، لأنه ثابت بكتاب الله تعالى ، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن ، لأن قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يعم جميع الزناة والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له : عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.


وفي «القريب» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه التّوبة في الصّحة ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السّدّيّ ، وابن السّائب. والثاني : أنه التّوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال أبو مجلز. والثالث : أنه التّوبة قبل الموت ، وبه قال ابن زيد في آخرين.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) في السيئات ثلاثة أقوال : أحدها : الشّرك ، قاله ابن عباس ، وعكرمة. والثاني : أنها النّفاق ، قاله أبو العالية ، وسعيد بن جبير. والثالث : أنها سيئات المسلمين ، قاله سفيان الثّوريّ ، واحتجّ بقوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) في الحضور قولان : أحدهما : أنه السّوق (١) ، قاله ابن عمر. والثاني : أنه معاينة الملائكة لقبض الرّوح ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقد روى عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : أنزل الله تعالى بعد هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢) الآية. فحرّم المغفرة على من مات مشركا ، وأرجا أهل التّوحيد إلى مشيئته ، فعلى هذا تكون منسوخة في حقّ المؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

(٢٦٤) سبب نزولها : أنّ الرّجل كان إذا مات ، كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاؤوا زوّجوها ، وإن شاؤوا لم يزوّجوها ، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى : كانوا في أوّل الإسلام إذا مات الرجل ، قام أقرب الناس منه ، فيلقي على امرأته ثوبا ، فيرث نكاحها. وقال مجاهد : كان إذا توفّي الرجل ، فابنه الأكبر أحقّ بامرأته ، فينكحها إن شاء ، أو ينكحها من شاء.

(٢٦٥) وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف : لمّا توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته من بعده ، وكان ذلك لهم في الجاهليّة ، فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(٢٦٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٧٩ و ٦٩٤٨ وأبو داود ٢٠٨٩ والنسائي في «التفسير» ١١٤ والطبري ٨٨٧٠ والبيهقي ٧ / ١٣٨ والواحدي في «الأسباب» ٢٩٩ عن ابن عباس.

(٢٦٥) حسن ، أخرجه النسائي في تفسيره ١١٥ والطبري ٨٨٧١ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وحسّن إسناده الحافظ في «الفتح» ٨ / ٢٤٧ ، وهو كما قال. وله شاهد من مرسل عكرمة ، أخرجه الطبري ٨٨٧٤.

__________________

(١) في «اللسان» : السّوق أي الموت والسّياق : نزع الروح كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.

(٢) النساء : ١١٦.


قال عكرمة ، واسم هذه المرأة : كبيشة بنت معن بن عاصم (١) ، وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز : كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد : كان هذا في أهل المدينة. وقال السّدّيّ : إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة ، فتذهب إلى أهلها ، فإن ذهبت ، فهي أحقّ بنفسها.

وفي معنى قوله تعالى : (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قولان : أحدهما : أن ترثوا نكاح النساء ، وهذا قول الجمهور. والثاني : أن ترثوا أموالهنّ كرها. روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : كان يلقي حميم (٢) الميت على الجارية ثوبا ، فإن كانت جميلة تزوّجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ، فيرثها.

واختلف القرّاء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع : هاهنا ، وفي التّوبة ، وفي الأحقاف في موضعين ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهنّ ، وضمّهنّ حمزة. وقرأ عاصم ، وابن عامر بالفتح في النّساء والتّوبة ، وبالضّمّ في الأحقاف. وهما لغتان ، قد ذكرناهما في البقرة. وفيمن خوطب بقوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه خطاب للأزواج ، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الرجل كان يكره صحبة امرأته ، ولها عليه مهر ، فيحبسها ، ويضربها لتفتدي ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : أنّ الرجل كان ينكح المرأة الشريفة ، فلعلّها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوّج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت ، فأرضته ، أذن لها ، وإلا عضلها ، قاله ابن زيد. والثالث : أنهم كانوا بعد الطّلاق يعضلون ، كما كانت الجاهليّة تفعل ، فنهوا عن ذلك ، روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في البقرة أنّ الرجل كان يطلّق المرأة ، ثم يراجعها ، ثمّ يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية ، يقصد إضرارها ، حتى نزلت (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (٣).

والقول الثاني : أنه خطاب للأولياء ، ثمّ في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الرجل كان في الجاهليّة إذا كانت له قرابة قريبة ، ألقى عليها ثوبه ، فلم تتزوّج أبدا غيره إلا بإذنه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ اليتيمة كانت تكون عند الرجل ، فيحبسها حتى تموت ، أو تتزوّج بابنه ، قاله مجاهد. والثالث : أنّ الأولياء كانوا يمنعون النساء من التّزويج ، ليرثوهنّ ، روي عن مجاهد أيضا.

والقول الثالث : أنه خطاب لورثة أزواج النّساء الذين قيل لهم : لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها. كان الرجل يرث امرأة قريبه ، فيعضلها حتى تموت ، أو تردّ عليه صداقها. هذا قول ابن عباس في آخرين (٤) وعلى هذا يكون الكلام متّصلا بالأوّل ، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن

__________________

(١) ورد عن عكرمة في أثناء خبر ، أخرجه الطبري ٨٨٧٤ وانظر ما قبله.

(٢) في «اللسان» الحميم : القرابة ، وهو القريب الذي تودّه ويودّك.

(٣) البقرة : ٢٢٩.

(٤) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٦٥١ بعد أن ذكر أقوال السلف : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) قول من قال : نهى الله عزوجل زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد الرجلين : إما لزوجها


قوله تعالى : (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ).

وفي الفاحشة قولان : أحدهما : أنها النّشوز على الزّوج ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة في جماعة. والثاني : الزّنى ، قاله الحسن ، وعطاء ، وعكرمة في جماعة.

قد روى معمر ، عن عطاء الخراسانيّ ، قال : كانت المرأة إذا أصابت فاحشة ، أخذ زوجها ما ساق إليها ، وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحدّ. قال ابن جرير : وهذا القول ليس بصحيح ، لأن الحدّ حقّ الله ، والافتداء حقّ للزوج ، وليس أحدهما مبطلا للآخر ، والصّحيح : أنها إذا أتت بأيّ فاحشة كانت ، من زنى الفرج ، أو بذاءة اللسان ، جاز له أن يعضلها ، ويضيّق عليها حتى تفتدي. فأما قوله تعالى : (مُبَيِّنَةٍ) فقرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، عن عاصم : «مبيّنة» ، و «آيات مبيّنات» (١) بفتح الياء فيهما جميعا. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص ، عن عاصم : بكسر الياء فيهما ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو «مبيّنة» كسرا و «آيات مبيّنات» فتحا. وقد سبق ذكر «العشرة».

قوله تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) قال ابن عباس : ربّما رزق الله منهما ولدا ، فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا. وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ، ونبّهت على معنيين :

أحدهما : أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصّلاح ، فربّ مكروه عاد محمودا ، ومحمود عاد مذموما. والثاني : أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره ، فليصبر على ما يكره لما يحبّ. وأنشدوا في هذا المعنى :

ومن لم يغمّض عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبّع جاهدا كلّ عثرة

يجدها ولا يسلم له الدّهر صاحب

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) هذا الخطاب للرّجال. والزّوج : المرأة. وقد سبق ذكر «القنطار» في (آل عمران).

قوله تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) إنما ذلك في حقّ من وطئها ، أو خلا بها ، وقد بيّنت ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى : وإنما خصّ النّهي عن أخذ شيء ممّا أعطى بحال الاستبدال ، وإن كان المنع عامّا ، لئلّا يظنّ أنه لمّا عاد البضع إلى ملكها ، وجب أن يسقط حقّها من المهر ، أو يظنّ ظانّ أنّ الثانية أولى بالمهر منها ، لقيامها مقامها.

وفي البهتان قولان : أحدهما : أنه الظّلم ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة. والثاني : الباطل ، قاله الزجّاج. ومعنى الكلام : أتأخذونه مباهتين آثمين.

__________________

بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره ، مضارة منه لها بذلك ليأخذ ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك ، أو لوليها الذي إليه نكاحها. والولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح : «عضلها ليذهب ببعض ما آتاها».

(١) النور : ٣٤.


(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) أي : كيف تستجيزون أخذه. وفي «الإفضاء» قولان :

أحدهما : أنه الجماع ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : الخلوة بها ، وإن لم يغشها ، قاله الفرّاء.

وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال ؛ الإمساك بمعروف ، أو التّسريح بإحسان. هذا قول ابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه عقد النّكاح ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والثالث : أنه أمانة الله ، قاله الرّبيع.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية.

(٢٦٦) وقال بعض الأنصار : توفي أبو قيس بن الأسلت ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فأتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستأذنه ، وقالت : إنما كنت أعدّه ولدا ، فنزلت هذه الآية.

قال أبو عمر غلام ثعلب : الذي حصّلناه عن ثعلب ، عن الكوفيين ، والمبرّد عن البصريّين ، أنّ «النّكاح» في أصل اللغة : اسم للجمع بين الشيئين. وقد سمّوا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد. قال الأعشى :

ومنكوحة غير ممهورة (١)

يعني المسبيّة الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى : قد يطلق النّكاح على العقد ، قال الله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٢) وهو حقيقة في الوطء ، مجازا في العقد ، لأنه اسم للجمع ، والجمع : إنما يكون بالوطء ، فسمّي العقد نكاحا ، لأنه سبّب إليه.

قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فيه ستة أقوال : أحدها : أنها بمعنى : بعد ما قد سلف ، فإنّ الله يغفره ، قاله الضّحّاك ، والمفضّل. وقال الأخفش : المعنى : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنكم تعذّبون به ، إلا ما قد سلف ، فقد وضعه الله عنكم. والثاني : أنها بمعنى : سوى ما قد سلف ، قاله الفرّاء.

____________________________________

(٢٦٦) أخرجه البيهقي ٧ / ١٦١ من طريق أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت الأنصاري ، وقال البيهقي : هذا مرسل. والمرسل من قسم الضعيف ، ومع ذلك ، أشعث بن سوار ضعيف كما في «التقريب». و «المجروحين ١ / ١٧١» ، وانظر ما تقدم آنفا.

__________________

(١) هو صدر بيت وعجزه : وأخرى يقال له : فادها.

(٢) الأحزاب : ٤٩.


والثالث : أنها بمعنى : لكن ما قد سلف فدعوه ، قاله قطرب. وقال ابن الأنباريّ : لكن ما قد سلف ، فإنه كان فاحشة. والرابع : أن المعنى : ولا تنكحوا كنكاح آبائكم النّساء ، أي : كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليّتكم ، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه ، وهذا كقول القائل : لا تفعل ما فعلت ، أي : لا تفعل مثل ما فعلت ، ذكره ابن جرير (١). والخامس : أنها بمعنى «الواو» فتقديرها : ولا ما قد سلف ، فيكون المعنى : اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ، ولا تبتدئوا ، قاله بعض أهل المعاني. والسادس : أنها للاستثناء ، فتقدير الكلام : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنّكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم بالزّنى ، والسّفاح ، فإنهنّ حلال لكم ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (إِنَّهُ) يعني النّكاح ، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح. و «المقت» : أشدّ البغض. وفي المراد بهذا «المقت» قولان : أحدهما : أنه اسم لهذا النّكاح ، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهليّة : مقتا ، ويسمّون الولد منه : المقتيّ. فأعلموا أن هذا الذي حرّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم. هذا قول الزجّاج. والثاني : أنه يوجب مقت الله لفاعله ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَساءَ سَبِيلاً) قال ابن قتيبة : أي : قبح هذا الفعل طريقا.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) قال الزجاج : الأصل في أمّهات : أمات ، ولكنّ الهاء زيدت مؤكّدة ، كما زادوها في : أهرقت الماء ، وإنما أصله : أرقت.

قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إنما سمّين أمّهات ، لموضع الحرمة. واختلفوا : هل يعتبر في الرّضاع العدد ، أم لا؟ فنقل حنبل ، عن أحمد : أنه يتعلّق التحريم بالرّضعة الواحدة ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وطاوس ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، والأوزاعيّ ، والثّوريّ ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابه. ونقل محمّد بن العبّاس ، عن أحمد : أنه يتعلّق التّحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث ، عن أحمد : لا يتعلّق بأقلّ من خمس رضعات متفرّقات ، وهو قول الشّافعيّ (٢).

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٦٦١ : وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠ : الأصل في التحريم بالرّضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وأما السنة : ما


قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أمّهات النّساء : يحرّمن بنفس العقد على البنت ، سواء دخل بالبنت ، أو لم يدخل ، وهذا قول عمر ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ومسروق ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، والجمهور. وقال عليّ رضي الله عنه في رجل طلّق امرأته قبل الدّخول : له أن يتزوّج أمّها ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة (١).

قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ) الرّبيبة : بنت امرأة الرّجل من غيره. ومعنى الرّبيبة : مربوبة ، لأنّ الرجل يربّيها ، وخرج الكلام على الأعمّ من كون التّربية في حجر الرّجل ، لا على الشّرط (٢).

قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) قال الزجّاج : الحلائل : الأزواج. وحليلة بمعنى محلّة ، وهي

__________________

روت عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة». وفي لفظ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». والرضاع الذي لا يشك في تحريمه ، أن يكون خمس رضعات فصاعدا. هذا الصحيح في المذهب وروي عن عائشة ، وابن مسعود ، وابن الزبير ، وعطاء ، وطاوس. وهو قول الشافعي.

وعن أحمد رواية ثانية ، أن قليل الرضاع وكثيره يحرّم وروي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب ، والحسن ومكحول والزهري وأصحاب الرأي ، وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرّم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بالكتاب والسنة. وعن عقبة بن الحارث ، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت امرأة سوداء ، فقالت : قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «كيف ، وقد زعمت أن قد أرضعتكما». ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد. فلم يعتبر فيه العدد. والرواية الثالثة ، لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات ، وبه قال أبو ثور وداود وابن المنذر. لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحرّم المصّة ولا المصتان» لأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار ، يعتبر فيه الثلاث. وإذا وقع الشك في وجود الرضاع ، أو في عدد الرضاع المحرّم هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه ، فلا تزول عن اليقين بالشك. والسّعوط : بأن يصب اللبن في أنفه من إناء ، والوجور : أن يصبّ في حلقه صبا من غير الثدي. فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع. وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي ، ثبت به التحريم ، بهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يحرّم به ، لزوال الاسم.

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٩ / ٥١٥ ـ ٥١٦ : من تزوج امرأة حرّم عليه كل أمّ لها ، من نسب أو رضاع ، قريبة أو بعيدة بمجرد العقد. نص عليه أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم ، ابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر ، وعمران بن حصين وكثير من التابعين. وبه يقول مالك والشافعي ، وأصحاب الرأي ، وحكي عن علي رضي الله عنه أنها لا تحرم إلا بالدخول بابنتها ، كما لا تحرم ابنتها إلا بالدخول. ولنا ، قول الله تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية. قال ابن عباس : أبهموا ما أبهم القرآن ، يعني غمّموا حكمها في كل حال ، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تزوج امرأة ، فطلقها قبل أن يدخل بها ، فلا بأس أن يتزوج ربيبته ، ولا يحلّ له أن يتزوج أمها». رواه أبو حفص بإسناده. وقال زيد : تحرّم بالدخول أو بالموت ، لأنه يقوم مقام الدخول. وقد ذكرنا ما يوجب التحريم مطلقا. وحديث علي رضي الله عنه ، أخرجه الطبري ٨٩٥٢ عن خلاس بن عمرو عن علي مرسلا.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٥١٦ ـ ٥١٧ روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، أنهما رخصا فيها إذا لم تكن في حجره وهو قول داود. قال ابن المنذر : وقد أجمع علماء الأمصار على خلاف هذا القول.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حبيبة : «لا تعرضن علي بناتكن ، ولا أخواتكن». لأن التربية لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات. وأما الآية فلم تخرج مخرج الشرط ، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها بغالب حالها ، وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسّك بمفهومه. وإن لم يدخل بالمرأة لم تحرّم عليه بناتها.


مشتقة من الحلال. وقال غيره : سمّيت بذلك ، لأنها تحلّ معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغويّ ، قال : الحليل : الزّوج ، والحليلة : المرأة ، وسمّيا بذلك ، إما لأنّهما يحلّان في موضع واحد ، أو لأنّ كلّ واحد منهما يحالّ صاحبه ، أي : ينازله ، أو لأنّ كلّ واحد منهما يحلّ إزار صاحبه. قوله تعالى : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) قال عطاء : إنما ذكر الأصلاب ، لأجل الأدعياء. والكلام في قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) على نحو ما تقدّم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا قولين آخرين : أحدهما : إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه‌السلام ، لأنه جمع بين أمّ يوسف وأختها ، وهذا مرويّ عن عطاء ، والسّدّيّ ، وفيه ضعف لوجهين : أحدهما : أنّ هذا التّحريم يتعلّق بشريعتنا ، وليس كلّ الشّرائع تتّفق ، ولا وجه للعفو عنّا فيما فعله غيرنا. والثاني : أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله ، لعسر عليه. والقول الثاني : أن تكون فائدة هذا الاستثناء أنّ العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ ، ويكون للإنسان أن يختار إحداهما.

(٢٦٧) ومنه حديث فيروز الدّيلميّ قال : أسلمت وعندي أختان ، فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «طلّق إحداهما» ، ذكره القاضي أبو يعلى.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ). أما سبب نزولها :

(٢٦٨) فروى أبو سعيد الخدريّ قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس لهنّ أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ، فسألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فاستحللناهن.

وأما خلاف القرّاء ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة بفتح الصّاد في كل القرآن ، وفتح الكسائيّ الصّاد في هذه وحدها ، وقرأ سائر القرآن «والمحصنات» و «محصنات». قال ابن قتيبة : والإحصان : أن يحمي الشيء ، ويمنع منه ، فالمحصنات من النساء : ذوات الأزواج ، لأن الأزواج أحصنوهنّ ، ومنعوا منهنّ. قال الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، والمحصنات : الحرائر وإن لم يكنّ متزوجات ، لأن الحرّة تحصن وتحصن ، وليست كالأمة ، قال الله

____________________________________

(٢٦٧) حسن. أخرجه أبو داود ٢٢٤٣ والترمذي ١١٢٩ و ١١٣٠ وابن ماجة ١٩٥٠ و ١٩٥١ وعبد الرزاق ١٢٦٢٧ وابن أبي شيبة ٤ / ٣١٧ وأحمد ٢ / ٢٣٢ وابن حبان ٤١٥٥ والدارقطني ٣ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤ والطبراني ١٨ / ٨٤٣ والبيهقي ٧ / ١٨٤ ـ ١٨٥ من طرق عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه به. وإسناده حسن ، رجاله ثقات. وأخرجه الدارقطني ٣ / ٢٧٣ من وجه آخر ، وفيه محمد بن يحيى الأسلمي شيخ الشافعي ، وهو متروك ، والحجة في الرواية المتقدمة.

(٢٦٨) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٥٦ وأبو داود ٢١٥٥ والترمذي ١١٣٢ والنسائي ٦ / ١١٠ وفي «التفسير» ١١٦ و ١١٧ وعبد الرزاق في «تفسيره» ٥٤٩ وأحمد ٣ / ٨٤ والطيالسي ٢٢٣٩ وأبو يعلى ١٣١٨ والبيهقي ٧ / ١٦٧ من طرق من حديث أبي سعيد. وله شاهد حسن من حديث ابن عباس أخرجه النسائي في «التفسير» ١١٨ وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ٤٤١ بتخريجنا ؛ والله الموفق.


تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) وقال : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) يعني : الحرائر. والمحصنات : العفائف. قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يعني العفائف وقال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : عفّت. وفي المراد بالمحصنات هنا ثلاثة أقوال : أحدها : ذوات الأزواج. وهذا قول ابن عباس. وسعيد بن المسيب والحسن ، وابن جبير ، والنخعي ، وابن زيد ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج. والثاني : العفائف : فإنهنّ حرام على الرجال إلا بعقد نكاح ، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطّاب ، وأبي العالية ، وعطاء ، وعبيدة ، والسّدّيّ. والثالث : الحرائر ، فالمعنى : أنهنّ حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أوّل السّورة ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة.

فعلى القول الأول في معنى قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قولان : أحدهما : أن معناه : إلّا ما ملكت أيمانكم من السّبايا في الحروب ، وعلى هذا تأوّل الآية عليّ ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا. والثاني : إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج ، بسبي أو غير سبي ، وعلى هذا تأوّل الآية ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وجابر ، وأنس. وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا. وقد ذكر ابن جرير ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن : أنهم قالوا : بيع الأمة طلاقها ، والأوّل أصحّ.

(٢٦٩) لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيّر بريرة إذ أعتقتها عائشة ، بين المقام مع زوجها الذي زوّجها منه سادتها في حال رقّها ، وبين فراقه ، ولم يجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتق عائشة إيّاها طلاقا ، ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إيّاها معنى. ويدلّ على صحّة القول الأوّل ما ذكرناه من سبب نزول الآية.

وعلى القول الثاني : العفائف حرام إلا بملك ، والملك يكون عقدا ، ويكون ملك يمين.

وعلى القول الثالث : الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ، فإنهنّ لم يحصرن بعدد.

قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) قال الزجّاج : هو منصوب على التّوكيد ، محمول على المعنى ، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم» : كتب الله عليكم هذا كتابا ، قال : ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر ، ويكون «عليكم» مفسّرا له ، فيكون المعنى : الزموا كتاب الله. قال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي : ما بعد هذه الأشياء ، إلا أن السّنّة قد حرّمت تزويج المرأة على عمّتها ، وتزويجها على خالتها (١). وقرأ ابن السّميفع ، وأبو عمران : «كتب الله عليكم» بفتح الكاف ، والتاء ، والباء ، من غير ألف ، ورفع

____________________________________

(٢٦٩) صحيح. أخرجه البخاري ٢٥٧٨ ومسلم ١٥٠٤ وأبو داود ٢٩١٦ والنسائي ٦ / ١٦٢ وأحمد ٦ / ٤٥ ـ ٤٦ والبيهقي ٦ / ١٦١ والبغوي ١٦١١ وابن حبان ٤٢٦٩ من طرق كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت : «اشتريت بريرة ، فاشترط أهلها ولاءها ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أعتقيها ، فإن الولاء لمن أعطى الورق ، فأعتقتها ، فدعاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخيرها من زوجها فقالت لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده. فاختارت نفسها». وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه البخاري ٢٥٨١ و ٢٥٨٢ والترمذي ١١٥٦.

__________________

(١) هو الآتي.


الهاء. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : وأحلّ بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بضمّ الألف.

فصل : قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وعامّة العلماء ذهبوا إلى أن قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) تحليل ورد بلفظ العموم ، وأنه عموم دخله التّخصيص ، والمخصّص له :

(٢٧٠) نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تنكح المرأة على عمّتها ، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النّسخ. وذهب طائفة إلى أن التّحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث.

قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) أي : تطلبوا إمّا بصداق في نكاح ، أو ثمن في ملك (مُحْصِنِينَ) قال ابن قتيبة : متزوّجين ، وقال الزجاج : عاقدين التّزويج ، وقال غيرهما : متعفّفين غير زانين. والسّفاح : الزّنى ، قال ابن قتيبة .. أصله من سفحت القربة : إذا صببتها ، فسمّي الزّنى سفاحا ، لأنه حين يسافح يصبّ النّطفة ، وتصبّ المرأة النّطفة. وقال ابن فارس : السّفاح : صبّ الماء بلا عقد ، ولا نكاح ، فهو كالشّيء يسفح ضياعا.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه الاستمتاع في النّكاح بالمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور. والثاني : أنه الاستمتاع إلى أجل مسمّى من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة ، ثم رجع عن ذلك. وقد تكلّف قوم من مفسّري القرّاء ، فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ، ثم نسخت بما روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه :

(٢٧١) نهى عن متعة النّساء ، وهذا تكلّف لا يحتاج إليه ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاز المتعة ، ثم منع منها ، فكان قوله منسوخا بقوله. وأما الآية ، فإنّها لم تتضمّن جواز المتعة ، لأنه تعالى قال فيها : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) فدلّ ذلك على النّكاح الصحيح.

____________________________________

(٢٧٠) صحيح. أخرجه البخاري ٥١٠٩ و ٥١١٠ ومسلم ١٤٠٨ ح ٣٥ و ٣٦ وأبو داود ٢٠٦٦ والنسائي ٦ / ٩٦ ـ ٩٧ ـ ٩٨ وابن ماجة ١٩٢٩ والشافعي ٢ / ١٨ وعبد الرزاق ١٠٧٥٣ وأحمد ٢ / ٤٣٢ ـ ٤٦٢ و ٤٧٤ و ٤٨٩ و ٥٠٨ و ٥١٦ وابن حبان ٤٠٦٨ والبيهقي ٥ / ٣٤٥ و ٧ / ١٦٥ من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها». لفظ البخاري.

(٢٧١) صحيح. أخرج البخاري ٤٢١٦ و ٥٥٢٣ ومسلم ١٤٠٧ والنسائي ٦ / ١٢٦ و ٧ / ٢٠٢ والترمذي ١١٢١ و ١٧٩٤ وابن ماجة ١٩٦١ وأحمد ١ / ٧٩ وسعيد بن منصور ٨٤٨ والحميدي ٣٧ والدارمي ٢ / ١٤٠ وابن حبان ٤١٤٠ و ٤١٤٣ وأبو يعلى ٥٧٦ وابن أبي شيبة ٤ / ٢٩٢ والبيهقي ٧ / ٢٠١ و ٢٠٢ من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الإنسية.

ـ وله شاهد من حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «يا أيها الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». أخرجه مسلم ١٤٠٦ وأحمد ٢ / ٤٠٤ والدارمي ٢ / ١٤٠ والنسائي ٦ / ١٢٦ وابن ماجة ١٩٦٢ وسعيد بن منصور ٨٤٧ وأبو يعلى ٩٣٨ وعبد الرزاق ١٤٠٤١ والحميدي ٨٤٧ والدارمي ٢ / ١٤٠ وابن الجارود ٦٩٩ وابن أبي شيبة ٤ / ٢٩٢ وابن حبان ٤١٤٤ و ٤١٤٦ و ٤١٤٨ والطحاوي ٣ / ٢٥ من حديث الربيع بن سبرة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٦٢٩.


قال الزجّاج : ومعنى قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) فما نكحتموهنّ على الشّريطة التي جرت ، وهو قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : عاقدين التّزويج (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا ، فقد أخطأ ، وجهل اللغة.

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) فيه ستة أقوال :

أحدها : أن معناه : لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ، ووهبته لزوجها ، هذا مروي عن ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : ولا جناح عليكم فما تراضيتم به من مقام ، أو فرقة بعد أداء الفريضة ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم ، أو يبرّئنكم ، قاله أبو سليمان التّيميّ. والرابع : لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل ، وتزيدونهنّ في الأجر من غير استبراء ، قاله السّدّيّ ، وهو يعود إلى قصة المتعة. والخامس : لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها ، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجّاج. والسادس : أنه عامّ في الزّيادة ، والنّقصان ، والتّأخير ، والإبراء ، قاله القاضي أبو يعلى (١).

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) «الطّول» : الغنى والسّعة في قول الجماعة. و «المحصنات» : الحرائر ، قال الزجّاج : والمعنى : من لم يقدر على مهر الحرّة ، يقال : قد طال فلان طولا على فلان ، أي : كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا : المملوكات ، يقال : للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، وقد سمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإمام أبي منصور اللّغويّ قال : المتفتّية : الفتاة والمراهقة ، ويقال للجارية الحدثة : فتاة ، وللغلام : فتى. قال القتيبيّ : وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث ، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرّجال.

فأما ذكر الإيمان ، فشرط في إباحتهنّ ، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة ، هذا قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة : يجوز.

__________________

(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٦ : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ولا حرج عليكم ، أيها الناس ، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن من حط ما وجب لهن عليكم ، أو إبراء ، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) النساء : ٤.

فأما الذي قاله السدي ، فقول لا معنى له ، لفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.


قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) قال الزجّاج : معناه : اعملوا على ظاهركم في الإيمان ، فإنّكم متعبّدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال : وفي قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) وجهان : أحدهما : أنه أراد النّسب ، أي كلّكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه : دينكم واحد ، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات. وإنما قيل لهم ذلك ، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب ، وتفخر بالأحساب ، وتسمّي ابن الأمة : الهجين ، فأعلم الله عزوجل أن أمر العبيد وغيرهم مستو في باب الإيمان ، وإنما كره التّزويج بالأمة ، وحرم إذا وجد إلى الحرّة سبيلا ، لأن ولد الأمة من الحرّ يصيرون رقيقا ، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال ، وذلك يشق على الزوج.

قال ابن الأنباريّ : ومعنى الآية : كلّكم بنو آدم ، فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء عند الضرورة. وقال ابن جرير : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض ، لينكح هذا فتاة هذا.

قوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَ) يعني : الإماء (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) ، أي : سادتهنّ. و «الأجور» : المهور. وفي قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) قولان : أحدهما : أنه مقدّم في المعنى ، فتقديره : انكحوهنّ بإذن أهلهنّ بالمعروف ، أي : بالنّكاح الصّحيح (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ). والثاني : أن المعنى : وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف ، كمهور أمثالهنّ. قال ابن عباس : (مُحْصَناتٍ) : عفائف غير زوان (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) يعني : أخلّاء ، كان الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزّنى ، ويستحلّون ما خفي. وقال في رواية أخرى : «المسافحات» : المعلنات بالزّنى. و «المتّخذات أخدان» : ذات الخليل الواحد. وقال غيره : كانت المرأة تتّخذ صديقا تزني معه ، ولا تزني مع غيره.

قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «أحصن» مضمومة الألف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : بفتح الألف ، والصّاد. قال ابن جرير : من قرأ بالفتح ، أراد : أسلمن ، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالإسلام ، ومن قرأ بالضّم ، أراد : فإذا تزوّجن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج. فأما «الفاحشة» ، فهي الزّنى ، و (الْمُحْصَناتُ) : الحرائر ، و «العذاب» : الحدّ. قال القاضي أبو يعلى : وليس الإسلام والتّزويج شرطا في إيجاب الحدّ على الأمة ، بل يجب وإن عدما ، وإنما شرط الإحصان في الحدّ ، لئلّا يتوهّم متوهّم أنّ عليها نصف ما على الحرّة إذا لم تكن محصنة ، وعليها مثل ما على الحرّة إذا كانت محصنة.

قوله تعالى : (ذلِكَ) الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء. وفي (الْعَنَتَ) خمسة أقوال :

أحدها : أنه الزّنى ، قاله ابن عباس ، والشّعبيّ ، وابن جبير ، ومجاهد ، والضّحّاك ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : أنه الهلاك ، ذكره أبو عبيدة ، والزجّاج. والثالث : لقاء المشقّة في محبّة الأمة ، حكاه الزجّاج. والرابع : أن العنت هاهنا : الإثم. والخامس : أنه العقوبة التي تعنته ، وهي الحدّ ، ذكرهما ابن جرير الطّبريّ.

قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين : أحدهما : عدم طول الحرّة. والثاني : خوف الزّنى ، وهذا قول ابن عباس ، والشّعبيّ ، وابن جبير ، ومسروق ، ومكحول ، وأحمد ، ومالك ، والشّافعيّ. وقد روي عن عليّ ، والحسن ، وابن المسيّب ، ومجاهد ،


والزّهريّ ، قالوا : ينكح الأمة ، وإن كان موسرا ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، قال ابن عباس والجماعة : عن نكاح الإماء ، وإنما ندب إلى الصّبر عنه ، لاسترقاق الأولاد.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦))

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ). اللام بمعنى «أن» ، وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة ، واختاره ابن جرير ، ومثله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (١) ، (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) (٢) ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (٣).

والبيان من الله تعالى بالنّص تارة ، وبدلالة النّص أخرى. قال الزجّاج : و «السّنن» : الطّرق ، فالمعنى يدلّكم على طاعته ، كما دلّ الأنبياء وتابعيهم. وقال غيره : معنى الكلام : يريد الله ليبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحقّ ، ويهديكم إلى الحق.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧))

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) قال الزجّاج : يريد أن يدلّكم على ما يكون سببا لتوبتكم. وفي الذين اتّبعوا الشّهوات أربعة أقوال : أحدها : أنهم الزّناة ، قاله مجاهد ، ومقاتل. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنهم اليهود خاصّة ، ذكره ابن جرير. والرابع : أهل الباطل ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي : عن الحقّ بالمعصية.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) التّخفيف : تسهيل التّكليف ، أو إزالة بعضه. قال ابن جرير : والمعنى : يريد أن ييسّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا لحرّة. وفي المراد بضعف الإنسان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الضّعف في أصل الخلقة. قال الحسن : هو أنه خلق من ماء مهين. والثاني : أنه قلّة الصّبر عن النساء ، قاله طاوس ، ومقاتل. والثالث : أنه ضعف العزم عن قهر الهوى ، وهذا قول الزجّاج ، وابن كيسان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩))

قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، الباطل : ما لا يحلّ في الشّرع.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تجارة» بالرفع. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وعاصم بالنّصب ، وقد بيّنّا العلّة في آخر (البقرة).

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه على ظاهره ، وأن الله حرّم على

__________________

(١) سورة الشورى : ١٥.

(٢) سورة الأنعام : ٧١.

(٣) سورة الصف : ٨.


العبد قتل نفسه ، وهذا الظّاهر. والثاني : أن معناه : لا يقتل بعضكم بعضا ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثالث : أنّ المعنى : لا تكلّفوا أنفسكم عملا ربّما أدّى إلى قتلها وإن كان فرضا.

(٢٧٢) وعلى هذا تأوّلها عمرو بن العاص في غزاة ذات السّلاسل حيث صلّى بأصحابه جنبا في ليلة باردة ، فلمّا ذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال له : يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال : يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة ، وأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والرابع : أن المعنى : لا تغفلوا عن حظّ أنفسكم ، فمن غفل عن حظّها ، فكأنّما قتلها ، هذا قول الفضيل بن عياض. والخامس : لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) في المشار إليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قتل النّفس ، قاله ابن عباس ، وعطاء. والثاني : أنه عائد إلى كلّ ما نهى الله عنه من أوّل السّورة إلى هاهنا ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : قتل النّفس ، وأكل الأموال بالباطل ، قاله مقاتل.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، اجتناب الشّيء : تركه جانبا.

وفي الكبائر أحد عشر قولا :

(٢٧٣) أحدها : أنها سبع. فروى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اجتنبوا السّبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هنّ؟ قال : الشّرك بالله ، والسّحر ، وقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ ، وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتّولّي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».

(٢٧٤) وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكبائر سبع ، الإشراك بالله أوّلهنّ ، وقتل النّفس بغير حقّها ، وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا ، والفرار من الزّحف ، ورمي المحصنات ، وانقلاب إلى أعرابيّة بعد هجرة».

____________________________________

(٢٧٢) جيد. أخرجه أبو داود ٣٣٤ وأحمد ٤ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤ والحاكم ١ / ١٧٧ والبيهقي ١ / ٢٢٥ من حديث عمرو بن العاص. وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ في الفتح ١ / ٤٥٤ : إسناده قوي. ونقل الزيلعي في نصب الراية ١ / ١٥٧ عن النوري قوله : حسن أو صحيح.

(٢٧٣) صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٦٦ و ٥٧٦٤ و ٦٨٥٧ ومسلم ٨٩ وأبو داود ٦٨٧٤ والنسائي ٦ / ٢٥٧ وأبو عوانة ١ / ٥٤ ـ ٥٥ والطحاوي في «المشكل» ٨٩٤ وابن حبان ٥٥٦١ والبيهقي ٨ / ٢٤٩ من طرق وكلهم عن أبي هريرة مرفوعا.

(٢٧٤) أخرجه البزار ١٠٩ «كشف» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» ١ / ١٠٣ : رواه البزار ، وفيه عمرو بن أبي سلمة ، ضعفه شعبة وغيره ، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره.


وروي عن عليّ عليه‌السلام قال : هي سبع ، فعدّ هذه. وروي عن عطاء أنه قال : هي سبع ، وعدّ هذه ، إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرّب شهادة الزّور وعقوق الوالدين.

(٢٧٥) والثاني : أنها تسع. روى عبيد بن عمير ، عن أبيه ، وكان من الصّحابة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال : «تسع ، أعظمهنّ الإشراك بالله ، وقتل نفس المؤمن بغير حقّ ، والفرار من الزّحف ، وأكل مال اليتيم ، والسّحر ، وأكل الرّبا ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا».

(٢٧٦) والثالث : أنها أربع. روى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النّفس ، واليمين الغموس» (١).

(٢٧٧) وروى أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبائر ، أو سئل عنها ، فقال : «الشّرك بالله ، وقتل النّفس ، وعقوق الوالدين» وقال : «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزّور ، أو شهادة الزّور». وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأمن لمكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، والإياس من روح الله ، وعن عكرمة نحوه.

(٢٧٨) والرابع : أنها ثلاث. فروى عمران بن حصين ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ الشّرك بالله ، وعقوق الوالدين ـ وكان متّكئا فاحتفز (٢) ـ قال : والزّور».

____________________________________

(٢٧٥) أخرجه أبو داود ٢٨٧٥ والنسائي ٧ / ٨٩ والحاكم ١ / ٥٩ ح ١٩٧ و ٤ / ٢٥٩ ح ٧٦٦٦ من حديث عبيد بن عمير بن قتادة عن أبيه. قال الحاكم عقب الرواية الأولى : قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان ، وتعقبه الذهبي بقوله : لم يحتجا به لجهالته. ووثقه ابن حبان وصححه الحاكم عقب الرواية الثانية! وسكت الذهبي! مع أن الإسناد واحد. وقال الحافظ في «التقريب» عن عبد الحميد بن سنان : مقبول اه. أي حيث يتابع وقال الذهبي في «الميزان» ٤٧٧٨ : لا يعرف وقد وثقه بعضهم ، وقال البخاري : روى عن عبيد بن عمير وفي حديثه نظر. وله شاهد عن ابن عمر لكن الجمهور رووه موقوفا.

(٢٧٦) صحيح. أخرجه البخاري ٦٨٧ ـ ٦٩٢٠ والترمذي ٣٠٢١ والنسائي ٧ / ٨٩ و ٨ / ٦٣ وأحمد ٢ / ٢٠١ والدارمي ٢ / ١٩١ وأبو نعيم في «الحلية» ٧ / ٢٠٢ وابن حبان ٥٥٦٢ والبيهقي ١٠ / ٣٥ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وورد من حديث عبد الله بن أنيس أخرجه الترمذي ٣٠٢٠ وأحمد ٣ / ٤٩٥ والحاكم ٤ / ٢٩٦ والطحاوي في «المشكل» ٨٩٣ من طريق الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد عن أبي أمامة عنه. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الترمذي : حسن غريب اه.

(٢٧٧) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٥٣ ومسلم ٨٨ والترمذي ١٢٠٧ و ٣٠١٨ والطحاوي في «المشكل» ٨٩٧.

(٢٧٨) حسن. أخرجه الطبراني ٢٦٣٣ و ١٨ / ١٤٠ من حديث عمران. وقال الهيثمي في «المجمع» ١ / ١٠٣ : رجاله ثقات ، إلا أن الحسن مدلس ، وعنعنه. قلت : وقال أبو حاتم : لم يسمع الحسن من عمران. لكن للحديث شواهد ، فهو حسن إن شاء الله.

__________________

(١) قال ابن الأثير رحمه‌الله في «النهاية» ٣ / ٣٨٦ : اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة الفاجرة ، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره ، سميت غموسا ، لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ثم في النار.

(٢) أي استوى جالسا على وركيه.


(٢٧٩) وروى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ـ وكان متّكئا فجلس ـ فقال : وشهادة الزّور» فما زال يكرّرها حتى قلنا : ليته سكت.

(٢٨٠) وأخرجا في «الصّحيحين» من حديث ابن مسعود قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ الذّنب أكبر؟ قال : «أن تجعل لله تعالى ندّا وهو خلقك». قلت : ثم أيّ؟ قال : «ثمّ أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك». قلت : ثم أيّ؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك».

والخامس : أنها مذكورة من أوّل السّورة إلى هذه الآية ، قاله ابن مسعود وابن عباس.

والسادس : أنها إحدى عشرة : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وقتل النّفس. وأكل مال اليتيم ، وأكل الرّبا ، والفرار من الزّحف ، وقذف المحصنات ، وشهادة الزّور ، والسّحر ، والخيانة. روي عن ابن مسعود أيضا. والسابع : أنها كلّ ذنب يختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والثامن : أنها كلّ ما أوجب الله عليه النّار في الآخرة ، والحدّ في الدّنيا ، روى هذا المعنى أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والتاسع : أنها كلّ ما عصي الله به ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة (١) ، وهو قول ضعيف. والعاشر : أنها كلّ ذنب أوعد الله عليه النّار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضّحّاك في رواية ، والزجّاج. والحادي عشر : أنها ثمان ، الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل المؤمن ، وقذف المحصنة ، والزّنا ، وأكل مال اليتيم ، وقول الزّور ، واقتطاع الرّجل بيمينه وعهده ثمنا قليلا. رواه محرز ، عن الحسن البصريّ.

قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) روى المفضّل ، عن عاصم : «يكفّر» «ويدخلكم» بالياء فيهما ، وقرأ الباقون بالنون فيهما ، وقرأ نافع ، وأبان ، عن عاصم ، والكسائيّ ، عن أبي بكر ، عن عاصم : «مدخلا» بفتح الميم هاهنا ، وفي «الحجّ» وضمّ الباقون «الميم» ، ولم يختلفوا في ضمّ «ميم» (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) (٢). قال أبو عليّ الفارسيّ : يجوز أن يكون «المدخل» مصدرا ويجوز أن يكون مكانا ، سواء فتح ، أو ضمّ : قال السّدّيّ : السّيئات هاهنا : هي الصّغائر. والمدخل الكريم : الجنّة. قال ابن قتيبة : والكريم : بمعنى : الشّريف.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢))

____________________________________

(٢٧٩) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٥٤ و ٥٩٧٦ و ٦٢٧٣ و ٦٢٧٤ و ٦٩١٩ ومسلم ٨٧ والترمذي ١٩٠١ و ٣٠١٩ وأبو عوانة ١ / ٥٤ والطحاوي في المشكل ٨٩٢ والبيهقي ١٠ / ١٢١. عن أبي بكرة.

(٢٨٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٦١ و ٦٠٠١ و ٦٨١١ و ٦٨٦١ و ٧٥٣٢ ومسلم ٨٦ من وجوه ، وأبو داود ٢٣١٠ والترمذي ٣١٨٢ والنسائي ٧ / ٨٩ ـ ٩٠ وأحمد ١ / ٤٣٤ ـ ٤٦٢ والطحاوي في «المشكل» ١ / ٣٧٩ وابن حبان ٤٤١٤ و ٤٤١٥ و ٤٤١٦ والبغوي ٤٢ والبيهقي ٨ / ١٨ من طرق كثيرة كلهم عن ابن مسعود.

__________________

(١) هو السّلماني صاحب علي ، ثقة ثبت من كبار التابعين.

(٢) سورة الإسراء : ٨٠.


قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٢٨١) أحدها : أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله : يغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنّما لنا نصف الميراث ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.

(٢٨٢) والثاني : أنّ النّساء قلن : وددن أنّ الله جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة.

(٢٨٣) والثالث : أنه لمّا نزل (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قال الرجال : إنّا لنرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا ، كما فضّلنا عليهنّ في الميراث ، وقال النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال ، كما لنا الميراث على النّصف من نصيبهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، والسّدّيّ.

وفي معنى هذا التّمنّي قولان : أحدهما : أن يتمنّى الرجل مال غيره ، قاله ابن عباس ، وعطاء. والثاني : أن يتمنّى النساء أن يكنّ رجالا. وقد روي عن أمّ سلمة أنها قالت : يا ليتنا كنّا رجالا ، فنزلت هذه الآية (١). وللتّمنّي وجوه : أحدها : أن يتمنّى الإنسان أن يحصل له مال غيره ، ويزول عن الغير ، فهذا الحسد. والثاني : أن يتمنّى مثل ما لغيره ، ولا يحبّ زواله عن الغير ، فهذا هو الغبطة وربّما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حقّ المتمنّي. قال الحسن : لا تمنّ مال فلان ، ولا مال فلان ، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟ والثالث : أن تتمنّى المرأة أن تكون رجلا ، ونحو هذا ممّا لا يقع ، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح ، فليرض بقضاء الله ، ولتكن أمانيه الزّيادة من عمل الآخرة.

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فيه قولان :

أحدهما : أن المراد بهذا الاكتساب : الميراث ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة.

والثاني : أنه الثّواب والعقاب. فالمعنى : أنّ المرأة تثاب كثواب الرجل ، وتأثم كإثمه ، هذا قول قتادة ، وابن السّائب ، ومقاتل ، واحتجّ على صحته أبو سليمان الدّمشقيّ بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب ، وبأنّ الآية نزلت لأجل التّمنّي والفضل.

قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) قرأ ابن كثير ، والكسائيّ ، وأبان ، وخلف في اختياره «وسلوا الله» «فسل الذين» «فسل بني إسرائيل» «وسل من أرسلنا» وما كان مثله من الأمر المواجه به ، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم. وكذلك نقل عن أبي جعفر ، وشيبة (٢). وقرأ الباقون

____________________________________

(٢٨١) حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٣٠٢٢ والحاكم ٢ / ٣٠٥ والواحدي ٣٠٦ من طريق مجاهد عن أم سلمة.

قال الترمذي : هذا حديث مرسل اه. وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة ووافقه الذهبي ، وللحديث شواهد مرسلة ، وهي الآتية.

(٢٨٢) أخرجه الطبري ٩٢٤٥ عن مجاهد وعكرمة ، قالا : نزلت في أم سلمة.

(٢٨٣) مرسل. أخرجه الطبري ٩٢٤٧ عن السدي مرسلا ، وهو شاهد لما قبله.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٩٢٤١ عن مجاهد : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) قول النساء يتمنين : «ليتنا رجال فنغزو»! وليس فيه ذكر أم سلمة وانظر الحديث المتقدم برقم ٢٨١.

(٢) هو شيبة بن نصاح ، إمام ثقة ، راجع «طبقات القرّاء» ١ / ٣٢٩.


بالهمز في ذلك كله ، ولم يختلفوا في قوله تعالى : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) (١) أنه مهموز. وفي المراد بالفضل قولان : أحدهما : أن الفضل : الطّاعة ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الرّزق ، قاله ابن السّائب ، فيكون المعنى : سلوا الله ما تتمنّونه من النّعم ، ولا تتمنّوا مال غيركم.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) الموالي : الأولياء ، وهم الورثة من العصبة وغيرهم. ومعنى الآية : لكل إنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب : أحدهما : أن يكون الرّفع على خبر الابتداء ، والتقدير : وهم الوالدان والأقربون ، ويكون تمام الكلام قوله : (مِمَّا تَرَكَ). والثاني : أن يكون رفعا على أن الفاعل التّارك للمال ، فيكون الوالدان ، هم المولى.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «عاقدت» بالألف ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «عقدت» بلا ألف. قال أبو علي : من قرأ بالألف ، فالتقدير : والذين عاقدتهم أيمانكم ، ومن حذف الألف ، فالمعنى : عقدت حلفهم أيمانكم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أهل الحلف ، كان الرجل يحالف الرجل ، فأيّهما مات ورثه الآخر ، فنسخ ذلك بقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ*) (٢) ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروى عنه عطيّة قال : كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية ، فيكون تابعه ، فإذا مات الرجل ، صار لأهله الميراث ، وبقي تابعه بغير شيء ، فأنزل الله «والذين عاقدت أيمانكم» فأعطي من ميراثه ، ثم نزل من بعد ذلك (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ*) ، وممّن قال هم الحلفاء : سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة.

(٢٨٤) والثاني : أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المهاجرون والأنصار ، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوّة التي عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم. رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد.

والثالث : أنهم الذين كانوا يتبّنون أبناء غيرهم في الجاهليّة ، هذا قول سعيد بن المسيّب.

فأمّا أرباب القول الأول ، فقالوا : نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النّصرة والميراث بآخر (الأنفال) ، وإليه ذهب ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والثّوريّ ، والأوزاعيّ ، ومالك ، وأحمد ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه : هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من

____________________________________

(٢٨٤) صحيح. أخرجه البخاري ٦٧٤٧ عن ابن عباس : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ .... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء : ٣٣ قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، فلما نزلت : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) قال : نسختها (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ، لفظ البخاري.

وانظر «تفسير القرطبي» ٢١٥٥ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة الممتحنة : ١٠.

(٢) سورة الأنفال : ٧٥.


موالي المعاقدة. وذهب قوم إلى أن المراد : فآتوهم نصيبهم من النّصر والنصيحة من غير ميراث ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة : إنّما كانت في الجاهلية على النّصرة لا غير ، والإسلام لم يغيّر ذلك ، وإنما قرّره.

(٢٨٥) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما حلف كان في الجاهلية ، فإنّ الإسلام لم يزده إلّا شدّة» أراد : النّصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير ، وهو يدلّ على أن الآية محكمة.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤))

قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

(٢٨٦) سبب نزولها : أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكر المفسّرون أنه سعد بن الرّبيع الأنصاريّ (١).

قال ابن عباس : «قوّامون» أي : مسلّطون على تأديب النساء في الحقّ. وروى هشام بن محمّد عن أبيه (٢) في قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) قال : إذا كانوا رجالا ، وأنشد :

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونارا توقّد باللّيل نارا (٣)

قوله تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) يعني : الرجال على النساء ، وفضّل الرجل على المرأة بزيادة العقل ، وتوفير الحظّ في الميراث ، والغنيمة ، والجمعة ، والجماعات ، والخلافة ، والإمارة ، والجهاد ، وجعل الطّلاق إليه ، إلى غير ذلك.

قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) قال ابن عباس يعني : المهر والنّفقة عليهنّ. وفي «الصّالحات» قولان : أحدهما : المحسنات إلى أزواجهنّ ، قاله ابن عباس. والثاني : العاملات بالخير ، قاله ابن المبارك. قال ابن عباس : و «القانتات» : المطيعات لله في أزواجهنّ ، والحافظات للغيب ، أي :

____________________________________

(٢٨٥) صحيح. أخرجه مسلم ٢٥٣٠ وأبو داود ٢٩٢٥ وأحمد ٤ / ٨٣ وابن حبان ٤٣٧١ والطبري ٩٢٩٥ والطبراني ١٥٩٧ والبيهقي ٦ / ٢٦٢ من حديث جبير بن مطعم ، وصدره «لا حلف في الإسلام ، وأيما ...».

ـ وله شاهد أخرجه الطبري ٩٢٩٢ وأحمد ٥ / ٦١ والطبراني ١٨ / ٨٦٥ عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف فقال : «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام».

ـ وله شاهد أخرجه الطبري ٩٢٩٥ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : فوا بالحلف ، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام».

(٢٨٦) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٥٠٣ عن ابن عباس به ، وفيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق ، وهو مجهول.

__________________

(١) عزاه الواحدي ٣١٠ لمقاتل ، وهو متروك متهم ، فلا يحتج بمثل هذا الخبر.

(٢) هو محمد بن السائب الكلبي ، وهو متروك ، وكذبه غير واحد.

(٣) البيت لأبي داود الإيادي كما في «الخزانة» ٤ / ١٩١.


لغيب أزواجهنّ. وقال عطاء ، وقتادة : يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال ، وما يجب عليهنّ من صيانة أنفسهنّ لهم.

قوله تعالى : (بِما حَفِظَ اللهُ) قرأ الجمهور برفع اسم «الله». وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال : أحدها : بحفظ الله إياهنّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وروى ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بحفظ الله إيّاها أن جعلها كذلك. والثاني : بما حفظ الله لهنّ مهورهنّ ، وإيجاب نفقتهنّ ، قاله الزجّاج. والثالث : أن معناه : حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله ، حكاه الزجّاج. وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله. والمعنى : بحفظهنّ الله في طاعته.

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) في الخوف قولان : أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس. والثاني : بمعنى الظّنّ لما يبدو من دلائل النّشوز ، قاله الفرّاء ، وأنشد :

وما خفت يا سلّام أنّك عائبي (١)

قال ابن قتيبة : والنّشوز : بغض المرأة للزّوج ، يقال : نشزت المرأة على زوجها ، ونشصت : إذا فركته (٢) ، ولم تطمئنّ عنده ، وأصل النّشوز : الانزعاج. وقال الزجّاج : أصله من النّشز ، وهو المكان المرتفع من الأرض.

قوله تعالى : (فَعِظُوهُنَ) قال الخليل : الوعظ : التّذكير بالخير فيما يرقّ له القلب. قال الحسن : يعظها بلسانه ، فإن أبت ، وإلّا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال : أحدها : أنه ترك الجماع ، رواه سعيد بن جبير ، وابن أبي طلحة ، والعوفيّ ، عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ، ومقاتل. والثاني : أنه ترك الكلام ، لا ترك الجماع ، رواه أبو الضّحى ، عن ابن عباس ، وخصيف ، عن عكرمة ، وبه قال السّدّيّ ، والثّوريّ. والثالث : أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة. فيكون المعنى : قولوا لهنّ في المضاجع هجرا من القول. والرابع : أنه هجر فراشها ، ومضاجعتها. روي عن الحسن ، والشّعبيّ ، ومجاهد ، والنّخعي ، ومقسم ، وقتادة. قال ابن عباس : أهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلّا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرّح. وقال جماعة من أهل العلم : الآية على التّرتيب ، فالوعظ عند خوف النّشوز ، والهجر عند ظهور النّشوز ، والضّرب عند تكرّره ، واللجاج فيه. ولا يجوز الضّرب عند ابتداء النّشوز. قال القاضي أبو يعلى : وعلى هذا مذهب أحمد. وقال الشّافعيّ : يجوز ضربها في ابتداء النّشوز.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) قال ابن عباس : يعني في المضجع (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي : فلا تتجنّ عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة : لا تكلّفها الحبّ ، لأنّ قلبها ليس في يدها. وقال ابن جرير : المعنى : فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحلّ لكم من أبدانهنّ وأموالهنّ بالعلل ، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك : لست لي محبّة ، فتضربها ، أو تؤذيها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : لا تبغوا على أزواجكم ،

__________________

(١) هو عجز بيت لأبي الغول الطهوي كما في «الخزانة» ٣ / ١٠٩. وصدره : أتاني زمان عن نصيب بقوله

(٢) في «اللسان» فركته : أبغضته.


فهو ينتصر لهنّ منكم. وقال الخطّابيّ : الكبير : الموصوف بالجلال ، وكبر الشّأن ، يصغر دون جلاله كلّ كبير. ويقال : هو الذي كبر عن شبه المخلوقين.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) ، في الخوف قولان : أحدهما : أنه الحذر من وجود ما لا يتيقّن وجوده ، قاله الزجّاج. والثاني : أنه العلم ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قال الزجّاج : والشّقاق : العداوة ، واشتقاقه من المتشاقّين ، كل صنف منهم في شقّ. و «الحكم» : هو القيم بما يسند إليه. وفي المأمور بإنفاذ الحكمين قولان : أحدهما : أنه السّلطان إذا ترافعا إليه ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك. والثاني : الزّوجان ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) قال ابن عباس : يعني الحكمين. وفي قوله تعالى : (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) قولان : أحدهما : أنه راجع إلى الحكمين ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والسّدّيّ ، والجمهور. والثاني : أنه راجع إلى الزّوجين ، ذكره بعض المفسّرين.

فصل : والحكمان وكيلان للزوجين ، ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به ، هذا قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشّافعيّ : لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزّوجين (١).

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ٢٦٣ : والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان ، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ، مأمونين ، برضى الزوجين ، وتوكيليهما ، بأن يجمعا إذا رأيا أو يفرّقا ، فما فعلا من ذلك لزمهما ، وجملة ذلك أن الزوجين إذا وقع بينهما شقاق ، نظر الحاكم ، فإن بان له أنه من المرأة ، فهو نشوز ـ وسيأتي عند الآية ١٢٨ ـ وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة ، يمنعه من الإضرار بها ، والتعدي عليها. وكذلك إن بان من كل واحد منهما تعدّ أو ادّعى كلّ واحد منهما أن الآخر ظلمه ، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف ، فإن لم يتهيأ ذلك ، وتمادى الشرّ بينهما ، وخيف الشقاق عليهما والعصيان ، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ، فنظرا بينهما ، وفعلا ما يريان المصلحة فيه ، من جمع أو تفريق ، لقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).

واختلفت الرواية عن أحمد ، رحمه‌الله ، في الحكمين ، ففي إحدى الروايتين عنه ، أنهما وكيلان لهما ، لا يملكان التفريق إلا بإذنهما. وهذا مذهب عطاء وأحد قولي الشافعي. وحكي ذلك عن الحسن ، وأبي حنيفة ، لأنّ البضع حقه ، والمال حقّها وهما رشيدان ، فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما ، أو ولاية عليهما. والثانية أنهما حاكمان ، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق ، بعوض وغير عوض ، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما. وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومالك والأوزاعي ، وابن المنذر ، لقول الله تعالى ، فسمّاهما حكمين ولم يعتبر رضى الزوجين ثم قال تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً). فخاطب الحكمين بذلك. وروي أبو بكر ، بإسناده عن عبيدة السلماني ، أن رجلا وامرأة أتيا عليا ، مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها ، فبعثوا حكمين ، ثم قال عليّ للحكمين : هل تدريان ما عليكما من الحقّ ؛ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما. فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله عليّ ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا. فقال عليّ : كذبت حتى ترضى بما رضيت به. وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك. ولا يمتنع أن تثبت الولاية على


(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ) قال ابن عباس : وحدوه.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قال الفرّاء : أغراهم بالإحسان إلى الوالدين.

قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) فيه قولان : أحدهما : أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه الجار المسلم ، قاله نوف الشّاميّ. فيكون المعنى : ذي القربى منكم بالإسلام.

قوله تعالى : (وَالْجارِ الْجُنُبِ) روى المفضّل ، عن عاصم : «والجار الجنب» بفتح الجيم ، وإسكان النون. قال أبو عليّ : المعنى : والجار ذي الجنب ، فحذف المضاف. وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه جارك عن يمينك ، وعن شمالك ، وبين يديك ، وخلفك ، رواه الضّحاك ، عن ابن عباس. والثالث : أنه اليهوديّ والنّصرانيّ ، قاله نوف الشّاميّ. وفي الصّاحب بالجنب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الزّوجة ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، والحسن ، وإبراهيم النّخعيّ ، وابن أبي ليلى. والثاني : أنه الرّفيق في السّفر ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين. والثالث : أنه الرّفيق ، رواه ابن جريج ، عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد : هو الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل : هو رفيقك حضرا وسفرا. وفي ابن السّبيل أقوال قد ذكرناها في (البقرة).

قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : المملوكين. وقال بعضهم : يدخل فيه الحيوان البهيم. قال ابن عباس : والمختال : البطر في مشيته ، والفخور : المفتخر على الناس بكبره. وقال مجاهد : هو الذي يعدّ ما أعطى ، ولا يشكر الله ، وقال ابن قتيبة : المختال : ذو الخيلاء والكبر. وقال الزجّاج : المختال : الصّلف التّيّاه الجهول. وإنما ذكر الاختيال هاهنا ، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته ، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود. فأمّا سبب نزولها ، فقال ابن عباس : كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحريّ بن عمرو ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التّابوت ، يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول

__________________

الرّشيد عند امتناعه من أداء الحق ، كما يقضى الدين عنه من ماله إذا امتنع ، إذا ثبت هذا ، فإن الحكمين لا يكونان إلا عاقلين بالغين عدلين مسلمين ، لأن هذه من شروط العدالة ، سواء قلنا : هما حاكمان أو وكيلان.


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا يخالطونهم ، وينتصحون لهم ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم ، فإنّا نخشى عليكم الفقر ، ولا تسارعوا في النّفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فنزلت هذه الآية.

وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان : أحدهما : أنه المال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : أنه إظهار صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ.

قوله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «بالبخل» خفيفا. وقرأ حمزة والكسائيّ : «بالبخل» محرّكا ، وكذلك في سورة الحديد.

وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان :

أحدهما : أنهم اليهود ، أوتوا علم نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكتموه ، هذا قول الجمهور. والثاني : أنهم أرباب الأموال بخلوا بها ، وكتموا الغنى ، ذكره الماورديّ في آخرين (١).

قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا) قال الزجّاج : معناه : جعلنا ذلك عتادا لهم ، أي : مثبّتا لهم.

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل. والثاني : أنهم المنافقون ، قاله السّدّيّ ، والزجّاج وأبو سليمان الدّمشقيّ. والثالث : مشركو مكّة أنفقوا على عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره الثّعلبيّ.

والقرين : الصاحب المؤالف ، وهو فعيل من الاقتران بين الشّيئين. وفي معنى مقارنة الشّيطان قولان : أحدهما : مصاحبته في الفعل. والثاني : مصاحبته في النّار.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))

قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ) المعنى : وأيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ، لو آمنوا!. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان : أحدهما : أنه الصّدقة ، قاله ابن عباس. والثاني : الزّكاة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

وفي قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) تهديد لهم على سوء مقاصدهم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٠٨ : وقد حمل السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً). ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها.

ووافقه الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٨٩ وزاد : وإنما قلنا : هذا القول أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلّقا ، بل ترى ذلك قبيحا وتذمّ فاعله ، وتمتدح ـ وإن هي تخلّقت بالبخل واستعملته في أنفسها ـ بالسخاء والجود ، وتعدّه من مكارم الأفعال وتحثّ عليه. ولذلك قلنا : إن بخلهم الذي وصفهم الله به ، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه.


(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) قد شرحنا الظّلم فيما سلف ، وهو مستحيل على الله عزوجل ، لأنّ قوما قالوا : الظّلم : تصرّف فيما لا يملك ، والكلّ ملكه ، وقال آخرون : هو وضع الشيء في غير موضعه ، وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته. ومثقال الشّيء : زنة الشّيء. قال ابن قتيبة : يقال : هذا على مثقال هذا ، أي : على وزنه. قال الزجّاج : وهو مفعال من الثّقل.

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ قال : يظنّ الناس أن المثقال وزن دينار لا غير ، وليس كما يظنّون. مثقال كل شيء : وزنه ، وكل وزن يسمّى مثقالا ، وإن كان وزن ألف. قال الله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) قال أبو حاتم : سألت الأصمعيّ عن صنجة مثقال الميزان ، فقال : فارسيّ ، ولا أدري كيف أقول ، ولكني أقول : مثقال ، فإذا قلت للرجل : ناولني مثقالا ، فأعطاك صنجة ألف ، أو صنجة حبّة ، كان ممتثلا.

وفي المراد بالذّرّة خمسة أقوال : أحدها : أنه رأس نملة حمراء ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : ذرّة يسيرة من التراب ، رواه يزيد بن الأصمّ ، عن ابن عباس. والثالث : أصغر النّمل ، قاله ابن قتيبة ، وابن فارس. والرابع : الخردلة. والخامس : الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ، ذكرهما الثّعلبيّ. واعلم أنّ ذكر الذّرّة ضرب مثل بما يعقل ، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) قرأ ابن كثير ، ونافع : «حسنة» بالرفع. وقرأ الباقون بالنّصب. قال الزجّاج : من رفع ، فالمعنى : وإن تحدث حسنة ، ومن نصب ، فالمعنى : وإن تك فعلته حسنة. قوله تعالى : (يُضاعِفْها) قرأ ابن عامر ، وابن كثير : «يضعّفها» بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون : «يضاعفها» بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة : يضاعفها بالألف : يعطي مثلها مرات ، ويضعّفها بغير ألف : يعطي مثلها مرّة.

قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْهُ) أي : من قبله. والأجر العظيم : الجنّة (١).

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) قال الزجّاج : معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة ، فحذف الحال ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام ، ومعناها :

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٠٩ : يقول الله تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) الآية وقال تعالى : مخبرا عن سليمان أنه قال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة الطويل ، وفيه «يقول الله عزوجل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقول أبو سعيد : اقرءوا إن شئتم : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية.


التّوبيخ. والشّهيد : نبيّ الأمّة. وبما ذا يشهد فيه أربعة أقوال : أحدها : بأنه قد بلّغ أمّته. قاله ابن مسعود ، وابن جريج ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : بإيمانهم ، قاله أبو العالية. والثالث : بأعمالهم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والرابع : يشهد لهم وعليهم ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ) يعني : نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي «هؤلاء» ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم جميع أمّته ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه يشهد عليهم. والثاني : يشهد لهم فتكون «على» بمعنى : اللام. والقول الثاني : أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرّسالة ، قاله مقاتل. والثالث : اليهود والنّصارى ، ذكره الماورديّ.

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))

قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : «لو تسوى» ، بضمّ التاء ، وتخفيف السين. والمعنى : ودّوا لو جعلوا ترابا ، فكانوا هم والأرض سواء ، هذا قول الفرّاء في آخرين. قال أبو هريرة : إذا حشر الله الخلائق ، قال للبهائم ، والدّواب ، والطّير : كوني ترابا. فعندها يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا.

وقرأ نافع ، وابن عامر : «لو تسّوّى» ، بفتح التاء ، وتشديد السين ، والمعنى : لو تتسوّى ، فأدغمت التاء في السين ، لقربها منها. قال أبو عليّ : وفي هذه القراءة اتّساع ، لأن الفعل مسند إلى الأرض ، وليس المراد : ودّوا لو صارت الأرض مثلهم ، وإنما المعنى : ودّوا لو يتسوّون بها.

ثم في المعنى للمفسّرين قولان : أحدهما : أن معناه : ودّوا لو تخرّقت بهم الأرض ، فساخوا فيها ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، ومقاتل. والثاني : أن معناه : ودّوا أنهم لم يبعثوا ، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها ، قاله ابن كيسان ، وذكر نحوه الزجّاج.

وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «لو تسوّى» ، بفتح التاء ، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة ، وهي بمعنى : تتسوّى ، فحذف التاء التي أدغمها نافع ، وابن عامر. فأما معنى القراءتين ، فواحد.

قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) في الحديث قولان : أحدهما : أنه قولهم : ما كنّا مشركين ، هذا قول الجمهور. والثاني : أنه أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ونعته ، قاله عطاء. فعلى الأول يتعلّق الكتمان بالآخرة ، وعلى الثاني يتعلّق بما كان في الدنيا ، فيكون المعنى : ودّوا أنهم لم يكتموا ذلك.

وفي معنى الآية ستة أقوال : أحدها : ودّوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني : أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا ، وفي موطن يكتمون ، ويقولون : ما كنّا مشركين ، قاله الحسن. والرابع : أن قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) كلام مستأنف لا يتعلّق بقوله : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ، هذا قول الفرّاء ، والزجّاج. ومعنى : لا يكتمون الله حديثا : لا يقدرون على كتمانه ، لأنه ظاهر عند الله. والخامس : أن المعنى : ودّوا لو سوّيت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. والسادس : أنهم لم يعتقدوا قولهم : ما كنّا مشركين كذبا ، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر القولين ابن الأنباريّ. وقال القاضي أبو يعلى : أخبروا بما توهّموا ، إذ كانوا


يظنّون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).

(٢٨٧) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ ، عن عليّ بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منّا ، وحضرت الصّلاة ، فقدّموني ، فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عليّ رضي الله عنه أنّ الذي قدّموه ، وخلط في هذه السورة ، عبد الرّحمن بن عوف.

وفي معنى قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) قولان : أحدهما : لا تتعرّضوا بالسّكر في أوقات الصّلاة. والثاني : لا تدخلوا في الصّلاة في حال السّكر ، والأوّل أصحّ ، لأن السّكران لا يعقل ما يخاطب به. وفي معنى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) قولان : أحدهما : من الخمر ، قاله الجمهور. والثاني : من النّوم ، قاله الضّحّاك ، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إباحة السّكر في غير أوقات الصّلاة ، ثم نسخت بتحريم الخمر. قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) قال ابن قتيبة : الجنابة : البعد ، قال الزجّاج : يقال : رجل جنب ، ورجلان جنب ، ورجال جنب ، كما يقال : رجل رضى ، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان : أحدهما : لمجانبة مائه محلّه. والثاني : لما يلزمه من اجتناب الصّلاة ، وقراءة القرآن ، ومسّ المصحف ، ودخول المسجد (١).

____________________________________

(٢٨٧) حديث حسن. أخرجه أبو داود ٣٦٧١ والترمذي ٣٠٢٦ والحاكم ٢ / ٣٠٧ والطبري ٩٥٢٦ وإسناده حسن ، وفيه أن الذي قدّم للصلاة هو علي رضي الله عنه ، وفيه عطاء بن السائب لكن الثوري الراوي عنه سمع منه قبل الاختلاط ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الترمذي ، والله أعلم.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ١٩٧ : والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة أن لا غسل إلا من إنزال ، لقوله عليه‌السلام : «إنما الماء من الماء».

أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال «يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي». قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ، وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه وقال في آخر : قال أبو العلاء بن الشّخّير كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق هذا منسوخ. وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ. قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة. قال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف ما قبلهم على الأخذ بحديث «إذا التقى الختانان» وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث : «الماء من الماء»


قوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فيه قولان : أحدهما : أن المعنى : لا تقربوا الصّلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمّموا ، وتصلّوا. وهذا المعنى مروي عن عليّ رضي الله عنه. ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفرّاء ، والزجّاج.

والثاني : لا تقربوا مواضع الصّلاة ـ وهي المساجد ـ وأنتم جنب إلّا مجتازين ، ولا تقعدوا. وهذا المعنى مرويّ عن ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، وعطاء الخراسانيّ ، والزّهريّ ، وعمرو بن دينار ، وأبي الضّحى ، وأحمد ، والشّافعيّ ، وابن قتيبة (١). وعن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، كالقولين ، فعلى القول الأوّل : «عابر السبيل» : المسافر ، وقربان الصّلاة :

__________________

لما اختلفوا ، وتأوله ابن عباس على الاحتلام ، أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء. وانظر «المغني» ١ / ٢٦٥ باب ما يوجب الغسل ففيه تفصيل وزيادة بيان.

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ١٩٩ ـ ٢٠١ : ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء وليس لهم اللبث في المسجد لقوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا). وروت عائشة ، قالت : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : «وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب» رواه أبو داود. ويباح العبور للحاجة ؛ من أخذ شيء أو تركه ، أو كون الطريق فيه ، فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال. وممن نقلت عنه الرخصة في العبور : ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن المسيب ، وابن جبير ، والحسن ، ومالك والشافعي. وقال الثوري وإسحاق : لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدّا ، فيتيمم. وهو قول أصحاب الرأي ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ، ولنا قول الله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) والاستثناء من المنهي عنه إباحة ، وعن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «ناوليني الخمرة من المسجد». قالت : إني حائض ، قال : «إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم. وعن جابر قال : كنا نمرّ في المسجد ونحن جنب. رواه ابن المنذر. وعن زيد بن أسلم ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشون في المسجد وهم جنب. رواه ابن المنذر أيضا. وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا. وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله ، أو لم يمكنه الخروج من المسجد ، أو لم يجد مكانا غيره ، أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء ، تيمم ، ثم أقام في المسجد ، وقال بعض أصحابنا : يلبث بغير تيمم ، لأن التيمم لا يرفع الحدث. وهذا غير صحيح ، لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة ، ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها ، كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة. وقولهم : لا يرفع الحدث. قلنا : إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث ، في إباحة ما يستباح به. إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق. وقال أكثر أهل العلم : لا يجوز ، للآية والخبر. واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ، ثم يدخل ، فيتحدّث. وهذا إشارة إلى جميعهم ، فيكون إجماعا يخصّ به العموم ، ولأنه إذا توضأ خفّ حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء ، ودليل خفته أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنب به إذا أراد النوم ، واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاوده الوطء. أما الحائض فلا يباح لها اللبث ، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول ، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد ، لما روي عن عائشة ، أن امرأة من أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتكفت معه وهي مستحاضة ، فكانت ترى الخمرة والصفرة ، وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي. رواه البخاري. ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث ، كخروج الدم اليسير من أنفه. فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور ، فإن المسجد يصان عن هذا ، كما يصان عن البول فيه. ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك.


فعلها ، وعلى الثاني : «عابر السبيل» : المجتاز في المسجد ، وقربان الصّلاة : دخول المسجد الذي تفعل فيه الصّلاة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) ، في سبب نزول هذا الكلام قولان :

(٢٨٨) أحدهما : أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضّأ ، ولم يكن له خادم ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر له ذلك ، فنزلت : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) قاله مجاهد.

(٢٨٩) والثاني : أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابتهم جراحات ، ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الآية كلّها ، قاله إبراهيم النّخعيّ.

قال القاضي أبو يعلى : وظاهر الآية يقتضي جواز التّيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال الماء ، سواء كان يخاف التّلف ، أو لا يخاف ، وكذلك السّفر يجوز فيه التّيمم عند عدم الماء ، سواء كان قصيرا ، أو طويلا ، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التّيمم للمريض ، وإنما الشّرط : حصول الضّرر ، وأما السّفر ، فعدم الماء شرط في إباحة التّيمم ، وليس السّفر بشرط ، وإنما ذكر السّفر ، لأن الماء يعدم فيه غالبا (١).

____________________________________

(٢٨٨) ضعيف. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٢ / ٢٩٦ عن مجاهد مرسلا ، فهو ضعيف.

(٢٨٩) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٦٣٩ عن إبراهيم النّخعي مرسلا.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ٣١٦ و ٣٣٤ ـ ٣٣٦ (وإذا كان به قرح أو مرض مخوف ، وأجنب ، فخشي على نفسه إن أصابه الماء ، غسل الصحيح من جسده ، وتيمم لما لم يصبه الماء) فالجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء جاز له التيمم ، هذا قول أكثر أهل العلم ، منهم ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، والنخعي ، وقتادة ومالك ، والشافعي. ولم يرخّص له عطاء في التيمم إلا عند عدم الماء ، لظاهر الآية ، ونحوه عن الحسن في المجدور الجنب ، قال لا بد من الغسل. ولنا ، قول الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد ، وحديث ابن عباس ، وجابر في الذي أصابته الشجّة ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش ، أو خاف من سبع ، فكذلك هاهنا ، فإن الخوف لا يختلف ، وإنما اختلفت جهاته. واختلف في الخوف المبيح للتيمم ، فروي عن أحمد : لا يبيحه إلا خوف التّلف. وهذا أحد قولي الشافعي. وظاهر المذهب : أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء ، أو خاف شيئا فاحشا ، أو ألما غير محتمل. وهذا مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي. وهو الصحيح ، لعموم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) لأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شيء من ماله ، أو ضررا في نفسه من لص ، أو سبع أو لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن مثله كثيرة ، فلأن يجوز هاهنا أولى والمرض والجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء ، مثل من به الصداع والحمّى الحارة ، أو أمكنه استعمال الماء الحار ، ولا ضرر عليه فيه ، لزمه ذلك. وحكي عن داود ومالك ، إباحة التيمم للمريض مطلقا ، لظاهر الآية. ولنا ، أنه واجد للماء ، لا يستضرّ باستعماله فلم يجز له التيمم ، كالصحيح ، والآية اشترط فيها عدم الماء ، فلم يتناول محل النزاع ، على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة ، والضرورة إنما تكون عند الضرر. ومن كان مريضا لا يقدر على الحركة ، ولا يجد من يناوله الماء ، فهو كالعادم. قاله ابن أبي موسى.

وهو قول الحسن ، لأنه لا سبيل له إلى الماء فأشبه من وجد بئرا ليس له ما يستقي به منها. وإن كان له من يناوله الماء قبل خروج الوقت ، فهو كالواجد ، لأنه بمنزلة ما يستقى به في الوقت. وإن خاف خروج الوقت قبل مجيئه. قال ابن أبي موسى : له التيمم ولا إعادة عليه. وهو قول الحسن ، لأنه عادم في الوقت ، فأشبه


قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) «أو» بمعنى الواو ، لأنها لو لم تكن كذلك ، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلّق بالحدث. والغائط : المكان المطمئنّ من الأرض ، فكنّى عن الحدث بمكانه ، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة : راوية ، وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه ، وقالوا للنّساء : ظعائن ، وإنما الظّعائن : الهوادج ، وكنّ يكنّ فيها ، وسمّوا الحدث عذرة ، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور.

قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «أو لامستم» بألف هاهنا ، وفي (المائدة) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف في اختياره ، والمفضّل عن عاصم ، والوليد بن عتبة ، عن ابن عامر «أو لمستم» بغير ألف هاهنا ، وفي «المائدة».

وفي المراد بالملامسة قولان : أحدهما : أنها الجماع ، قاله عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنها الملامسة باليد ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والشّعبيّ ، وعبيدة ، وعطاء ، وابن سيرين ، والنّخعيّ ، والنّهديّ ، والحكم ، وحمّاد. قال أبو عليّ : اللّمس يكون باليد ، وقد اتّسع فيه ، فأوقع على غيره ، فمن ذلك (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) (١) أي : عالجنا غيب السماء ، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة ، ويخبرهم به. فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد ، قال : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) (٢) فخصّ اليد ، لئلّا يلتبس بالوجه الآخر ، كما قال : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٣) لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب (٤).

__________________

العادم مطلقا ، ويحتمل أن ينتظر مجيء من يناوله ، لأنه جاهز ينتظر حصول الماء قريبا ، فأشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله.

(١) سورة الجن : ٨.

(٢) سورة الأنعام : ٧.

(٣) سورة النساء : ٣٣.

(٤) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ٢٥٦ : المشهور من مذهب أحمد ، رحمه‌الله ، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة ، وأبي عبيدة ، والنخعيّ ، والحكم ، وحمّاد ، ومالك ، والثوري ، وإسحاق ، والشعبي ، فإنهم قالوا : يجب الوضوء على من قبل لشهوة ، ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء ابن مسعود وابن عمر ، والزهري والشافعي. قال أحمد : المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء ، حتى كان بأخرة وصار فيهم أبو حنيفة ، فقالوا : لا تنقض الوضوء. ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط. وعن أحمد ، رواية ثانية ، لا ينقض اللمس بحال.

وروي ذلك عن علي ، وابن عباس وبه قال أبو حنيفة ، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها ، لما روى حبيب عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل امرأة من نسائه ، وخرج إلى الصلاة ، ولم يتوضأ. وهو حديث مشهور. ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به ، وقوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أراد به الجماع ، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس ، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة ، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين. وعن أحمد رواية ثالثة ، أن اللمس ينقض بكل حال. وهو مذهب الشافعي ، لعموم قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة ، قال يحيى بن سعيد : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. واللمس لغير شهوة لا ينقض ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسّه. ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله ، قالت عائشة : إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلّي ، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة ، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه.

وفي حديث آخر : فإذا أراد أن يوتر مسني برجله. يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه ، وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تقضي إلى الحدث فيها ، وهي حالة الشهوة. ولا فرق


قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا).

(٢٩٠) سبب نزولها : أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره ، فانقطع عقد لها ، فأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فنزلت هذه الآية ، فقال أسيد بن حضير : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه البخاريّ ، ومسلم.

(٢٩١) وفي رواية أخرى أخرجها البخاريّ ، ومسلم أيضا : أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا في طلبها ، فأدركتهم الصّلاة وليس معهم ماء ، فصلّوا بغير وضوء ، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت آية التّيمّم.

والتّيمّم في اللغة : القصد ، وقد ذكرناه في قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ). وأمّا الصعيد : فهو التراب ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، والفرّاء ، وأبو عبيد ، والزجّاج ، وابن قتيبة. وقال الشّافعيّ : لا يقع اسم الصّعيد إلّا على تراب ذي غبار. وفي الطّيّب قولان : أحدهما : أنه الطّاهر. والثاني : الحلال.

قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) الوجه الممسوح في التّيمم هو المحدود في الوضوء.

____________________________________

(٢٩٠) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٤ و ٣٦٧٢ و ٤٦٠٧ و ٥٢٥٠ و ٦٨٤٤ ومسلم ٣٦٧ والنسائي ١ / ١٦٣ ـ ١٦٤ وعبد الرزاق ٨٨٠ والشافعي ١ / ٤٣ ـ ٤٤ وأبو عوانة ١ / ٣٠٢ وابن خزيمة ٢٦٢ وابن حبان ١٣٠٠ والبيهقي ١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤. وأخرجه البخاري ٤٦٠٨ و ٦٨٤٥ والطبري ٩٦٤١ والبيهقي ١ / ٢٢٣ من طريق آخر. كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء ـ أو بذات الجيش ـ انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فقالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، (فَتَيَمَّمُوا). فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فأصبنا العقد تحته. لفظ البخاري.

(٢٩١) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٦ و ٤٥٨٣ و ٥١٦٤ و ٥٨٨٢ ومسلم ٣٦٧ ح ١٠٩ ، وأبو داود ٣١٧ والنسائي ١ / ١٧٢ وابن ماجة ٥٦٨ والحميدي ١٦٥ وابن حبان ١٧٠٩ وأبو عوانة ١ / ٣٠٣ والطبري ٩٦٤٠ والبيهقي ١ / ٢١٤ من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وانظر الحديث المتقدم.

__________________

بين الأجنبية وذات المحرم ، والكبيرة والصغيرة. وقال الشافعي : لا ينقض لمس ذوات المحارم ، ولا الصغيرة في أحد القولين ، لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج ، أشبه لمس الرجل الرجل. ولنا عموم النص ، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة ، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع. وسئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال : ما سمعت فيه شيئا ، ولكن هي شقيقة الرجل. يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس ، فهي كالرجل. وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة ، لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس. وفيه رواية أخرى : لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس ، وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء ، فيتناول اللامس من الرجال ، فيختص به النقض ، كلمس الفرج. ولأن المرأة والملموس لا نص فيه ، ولا هو في معنى المنصوص ، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.


وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه إلى الكوعين حيث يقطع السّارق.

(٢٩٢) روى عمّار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «التّيمّم ضربة للوجه والكفّين» ، وبهذا قال سعيد بن المسيّب ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، والأوزاعيّ ، ومكحول ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود.

والثاني : أنه إلى المرفقين.

(٢٩٣) روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه تيمّم ، فمسح ذراعيه. وبهذا قال ابن عمر ، وابنه سالم ، والحسن ، وأبو حنيفة ، والشّافعيّ ، وعن الشّعبيّ كالقولين.

والثالث : أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط.

(٢٩٤) روى عمّار بن ياسر قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فنزلت الرّخصة في المسح ،

____________________________________

(٢٩٢) صحيح. أخرجه أحمد ٤ / ٢٦٣ من طريق يونس وعفان قال : حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر : «أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال يونس : إنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التيمم؟ ـ فقال : ضربة للكفين والوجه ـ قال عفان : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في التيمم : ضربة للوجه والكفين».

وأخرجه البخاري ٣٣٩ ـ ٣٤٣ ومسلم ٣٦٨ ح ١١٢ و ١١٣ وأبو داود ٣٢٦ والنسائي ١ / ١٦٩ و ١٧٠ وابن ماجة ٥٦٩ والطيالسي ١ / ٦٣ وأحمد ٤ / ٢٦٥ و ٣٢٠ وأبو عوانة ١ / ٣٠٦ والطحاوي في «المعاني» ١ / ١١٢ والدارقطني ١ / ١٨٣ وابن الجارود ١٢٥ والبيهقي ١ / ٢٠٩ و ٢١٤ و ٢١٦ من طرق عن شعبه به ، وبعضهم رواه مختصرا. وأخرجه أبو داود ٣٢٢ والنسائي ١ / ١٦٨ والطحاوي ١ / ١١٣ والبيهقي ١ / ٢١٠ من طريق أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى به. وأخرجه أبو داود ٣٢٣ وابن أبي شيبة ١ / ١٥٩ وأبو عوانة ١ / ٣٠٥ وابن خزيمة ٢٦٩ والطحاوي ١ / ١١٢ والدارقطني من طرق عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه به. قال عمار : «فضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» لفظ البخاري.

وحديث عمار ورد من طرق كثيرة.

وقد أخرج البخاري ٣٤٧ ومسلم ٣٦٨ ح ١١٠ وأبو داود ٣٢١ والنسائي ١ / ١٧٠ وابن أبي شيبة ١ / ١٥٨ و ١٥٩ وأحمد ٤ / ٣٩٦ و ٢٦٤ وابن حبان ١٣٠٤ و ١٣٠٥ والدارقطني ١ / ١٧٩ و ١٨٠ من طريق الأعمش عن شقيق بن سلمة قال : كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن الرجل يجنب فلا يجد الماء أيصلي؟ فقال : لا ، فقال : أما تذكر قول عمار لعمر : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا» فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه؟. فقال عبد الله : ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار.

(٢٩٣) أخرجه الدارقطني ١ / ١٧٧ وإسناده لين لأجل محمد بن ثابت العبدي. وورد من حديث أبي الجهيم ، أخرجه الدارقطني ١ / ١٧٦ ، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح كاتب الليث ، والصحيح في حديث أبي الجهيم ذكر «ويديه» بدل «ذراعيه» كذا رواه البخاري ٣٣٧ ومسلم ٣٦٩ وغيرهما.

(٢٩٤) أخرجه أبو داود ٣١٨ و ٣١٩ والنسائي ١ / ١٦٨ وابن ماجة ٥٧١ والشافعي ١ / ٤٤ وعبد الرزاق ٨٢٧ وأحمد ٤ / ٣٢٠ و ٣٢١ وابن حبان ١٣١٠ والبيهقي في «السنن» ١ / ٢٠٨ والطحاوي في «شرح معاني الآثار» ١ / ١١٠ من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار بن ياسر. قال الزيلعي في «نصب الراية» ١ / ١٥٥ : وهو منقطع ، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر. وأخرجه أبو داود ٣٢٠ والطحاوي ١ / ١١١ والبيهقي ١ / ٢٠٨ عن ابن عباس عن عمار ، وذكره الطيالسي ١ / ٦٣ من طريق الزهري به.


فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط. وهذا قول الزّهريّ (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) قال الخطّابيّ : «العفوّ» : بناء للمبالغة. و «العفو» : الصّفح عن الذنوب ، وترك مجازاة المسيء. وقيل : إنه مأخوذ من عفت الريح الأثر : إذا درسته ، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.

___________________________________

وقال البغوي في «شرح السنة» ٢ / ١١٤ : وما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب ، فهو حكاية فعله ولم ينقله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما حكى عن نفسه التمعك في حال الجنابة ، فلما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بالوجه والكفين ، انتهى إليه ، وأعرض عن فعله. وفي «نصب الراية» ١ / ١٥٦ نقلا عن الأثرم في هذا الحديث : إنما حكى فيه فعلهم دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما حكى في الآخر أنه أجنب ، فعلمه عليه‌السلام. قال ابن حجر : إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار «الفتح» ١ / ٤٤٤.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ٣٢٨ : ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين لقول الله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ويجب مسح جميعها ، واستيعاب ما يأتي عليه الماء منها ، لا يسقط إلا المضمضة والاستنشاق ، وما تحت الشعور الخفيفة وبهذا قال الشافعي ولنا قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) الباء زائدة فيجب تعميمها فيضرب ضربة واحدة ، فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه ، وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ، ويخلل بين الأصابع ، وليس بفرض وإن تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه ويمسح بالثانية يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ، ويمرّها على ظهر الكفّ ، فإذا بلغ الكوع قبض أصابعه على حرف الذراع ويمرّها إلى مرفقه ، ثم يدير بطن الكف إلى بطن الذراع ويمرها عليه ، ويرفع إبهامه ، فإذا بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ويمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك. ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى. ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق ، أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمم ، فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه. وقال : قال الله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) من أين تقطع يد السارق؟ أليس من هاهنا؟ وأشار إلى الرسغ. والجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض لزمه ما غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله ، ولا يتيمم. وإن كان أكثره جريحا تيمم ولا غسل عليه ، لأن الجمع بين المبدل والبدل لا يجب ولنا ما روى جابر ، قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا شجة في وجهه ، ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بذلك ، فقال : «قتلوه ، قتلهم الله ، ألا سألوا ، إذا لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ثم يغسل سائر جسده». ولأن كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة. فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره. وما لا يمكن غسله في الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح ، حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه ضبطه ، وقدر أن يستنيب من يضبطه ، لزمه ذلك ، فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه. وإذا كان الجريح جنبا ، فهو مخير ، إن شاء قدّم التيمم على الغسل ، وإن شاء أخره ، بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه ، فإنه يلزمه استعمال الماء أولا ، لأن التيمم للعدم ، لا يتحقق إلا بعد فراغ الماء. وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر ، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه. فإن كان الجرح في بعض وجهه خيّر بين غسل صحيح وجهه ثم تيمم ـ أو العكس ـ وإن كان الجرح في عضو آخر ، لزمه غسل ما قبله ، واحتاج كل عضو إلى تيمم في محل غسله ، ليحصل الترتيب.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التّابوت.

(٢٩٥) والثاني : أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لويا ألسنتهما وعاباه ، روي القولان عن ابن عباس. والثالث : أنها نزلت في اليهود ، قاله قتادة.

وفي النّصيب الذي أوتوه قولان : أحدهما : أنه علم نبوّة محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : العلم بما في كتابهم دون العمل.

قوله تعالى : (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) قال ابن قتيبة : هذا من الاختصار ، والمعنى : يشترون الضّلالة بالهدى ، ومثله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ*) (١) أي : تركنا عليه ثناء حسنا ، فحذف الثّناء لعلم المخاطب. وفي معنى اشترائهم الضّلالة أربعة أقوال : أحدها : أنه استبدالهم الضّلالة بالإيمان ، قاله أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أنه استبدالهم التكذيب بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره ، قاله مقاتل. والثالث : أنه إيثارهم التكذيب بالنبيّ لأخذ الرّشوة ، وثبوت الرّئاسة لهم ، قاله الزجّاج. والرابع : أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) خطاب للمؤمنين. والمراد بالسّبيل : طريق الهدى.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) فهو يعلمكم ما هم عليه ، فلا تستنصحوهم ، وهم اليهود ، (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) لكم ، فمن كان وليّه ، لم يضرّه عدوّه. قال الخطّابيّ : «الوليّ» : النّاصر ، و «الوليّ» : المتولّي للأمر ، والقائم به ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، و «النّصير» : فعيل بمعنى فاعل.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال مقاتل : نزلت في رفاعة بن زيد ، ومالك ابن الضّيف ، وكعب بن أسيد ، وكلّهم يهود. وفي «من» قولان ، ذكرهما الزجّاج :

أحدهما : أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب ، فيكون المعنى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا. والثاني : أنها مستأنفة ، فالمعنى : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، فيكون قوله :

____________________________________

(٢٩٥) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٦٩٤ عن ابن عباس بإسناد ضعيف ، فيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق ، وهو مجهول.

__________________

(١) سورة الصافات : ٧٨.


يحرّفون ، صفة ، ويكون الموصوف محذوفا ، وأنشد سيبويه :

وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

والمعنى : فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو عليّ الفارسيّ : والمعنى : وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا ، أي : إنّ الله ينصر عليهم.

فأما «التّحريف» ، فهو التّغيير. و (الْكَلِمَ) : جمع كلمة. وقيل : إن «الكلام» مأخوذ من «الكلم» ، وهو الجرح الذي يشقّ الجلد واللحم ، فسمّي الكلام كلاما ، لأنه يشقّ الأسماع بوصوله إليها ، وقيل : بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب.

وفي معنى تحريفهم الكلم قولان : أحدهما : أنهم كانوا يسألون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشيء ، فإذا خرجوا ، حرّفوا كلامه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه تبديلهم التّوراة ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (عَنْ مَواضِعِهِ) ، أي : عن أماكنه ووجوهه.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) قال مجاهد : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك.

قوله تعالى : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : اسمع لا سمعت ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ معناه : اسمع غير مقبول ما تقول ، قاله الحسن ، ومجاهد. وقد تقدّم في (البقرة) معنى : وراعنا.

قوله تعالى : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) قال قتادة : «الليّ» : تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة معنى «ليّا بألسنتهم» : أنهم يحرّفون «راعنا» عن طريق المراعاة ، والانتظار إلى السّبّ والرّعونة. قال ابن عباس : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ممّا بدّلوا (وَأَقْوَمَ) أي أعدل (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) بمحمّد.

قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) فيه قولان : أحدهما : فلا يؤمن منهم إلا قليل ، وهم عبد الله بن سلّام ، ومن تبعه ، قاله ابن عباس. والثاني : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، قاله قتادة ، والزجّاج. قال مقاتل : وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) سبب نزولها :

(٢٩٦) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا قوما من أحبار اليهود ، منهم عبد الله بن صوريا ، وكعب بن أسد إلى الإسلام ، وقال لهم : إنكم لتعلمون أنّ الذي جئت به حقّ ، فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس.

____________________________________

(٢٩٦) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٧٢٩ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٥٣٤ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٢٧٠ بتخريجنا.

__________________

(١) البيت لتميم بن مقبل كما في «الكامل» ٣ / ٩٠٨ و «اللسان» مادة ـ كدح ـ والكدح : الاكتساب بمشقة.


وفي الذين أوتوا الكتاب قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الجمهور. والثاني : اليهود والنّصارى ، ذكره الماورديّ. وعلى الأوّل يكون الكتاب : التّوراة ، وعلى الثاني : التّوراة والإنجيل. والمراد بما نزّلنا : القرآن ، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) في طمس الوجوه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إعماء العيون ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أنه طمس ما فيها من عين ، وأنف ، وحاجب ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، واختيار ابن قتيبة. والثالث : أنه ردّها عن طريق الهدى ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، ومجاهد ، والضّحاك ، والسّدّيّ. وقال مقاتل : من قبل أن نطمس وجوها ، أي : نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة. فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا. والمراد : البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه : العضو المعروف.

قوله تعالى : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) خمسة أقوال : أحدها : نصيرها في الأقفاء ، ونجعل عيونها في الأقفاء ، هذا قول ابن عباس ، وعطيّة. والثاني : نصيّرها كالأقفاء ، ليس فيها فم ، ولا حاجب ، ولا عين ، وهذا قول قوم ، منهم ابن قتيبة. والثالث : نجعل الوجه منبتا للشّعر ، كالقرود ، هذا قول الفرّاء. والرابع : ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير : فيكون المعنى : من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول ، (فنردّها على أدبارها) من حيث جاءوا بديّا (١) من الشّام. والخامس : نردّها في الضّلالة ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل.

قوله تعالى : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) يعود إلى أصحاب الوجوه. وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان : أحدهما : مسخهم قردة ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : طردهم في التّيه حتى هلك فيه أكثرهم ، ذكره الماورديّ. قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) قال ابن جرير : الأمر هاهنا بمعنى المأمور ، سمّي باسم الأمر لحدوثه عنه.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)

(٢٩٧) قال ابن عمر : لمّا نزلت (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ

____________________________________

(٢٩٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٧٣٥ و ٩٧٣٦ من طريقين عن ابن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع قال : أخبرني مخبر عن ابن عمر .... فذكره ، وإسناده ضعيف ، وله علتان : جهالة المخبر للربيع بن أنس ، فهذه علة ، والثانية : ضعف أبي جعفر الرازي واسمه عيسى ابن أبي عيسى. وسيأتي في سورة الزمر تمام البحث.

__________________

(١) في «اللسان» ومن كلام العرب بادي بدي بهذا المعنى إلا أنه لم يهمز الجوهري : افعل ذلك بادي بد وبادي بديّ أي أولا ، قال وأصله الهمز وإنما ترك لكثرة الاستعمال.


يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (١) قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والشّرك؟ فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإشراك.

والمراد من الآية : لا يغفر لمشرك مات على شركه. وفي قوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) نعمة عظيمة من وجهين : أحدهما : أنها تقتضي أنّ كلّ ميّت على ذنب دون الشّرك لا يقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرّا. والثاني : أنّ تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين ، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ).

(٢٩٨) سبب نزولها : أن مرحب بن زيد ، وبحري بن عون ـ وهما من اليهود ، أتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأطفالهما ، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا : يا محمّد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال : لا ، قالوا : والله ما نحن إلّا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله بالنّهار إلا كفّر عنّا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنّا بالنّهار ، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس.

وفي قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) قولان : أحدهما : ألم تخبر ، قاله ابن قتيبة. والثاني : ألم تعلم ، قاله الزجّاج. وفي الذين يزكّون أنفسهم قولان : أحدهما : اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : أنهم اليهود ، والنّصارى ، وبه قال الحسن ، وابن زيد. ومعنى «يزكّون أنفسهم» : يزعمون أنهم أزكياء ، يقال : زكى الشيء : إذا نما في الصّلاح. وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم برّؤوا أنفسهم من الذّنوب ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أنّ اليهود قالوا : إنّ أبناءنا الذين ماتوا يزكّوننا عند الله ، ويشفعون لنا ، رواه عطيّة ، عن ابن عباس. والثالث : أن اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصّلاة فيؤمّونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، هذا قول عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك. والرابع : أن اليهود والنّصارى قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٢) وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٣) ، هذا قول الحسن ، وقتادة.

قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : يجعله زاكيا ، ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل قال ابن جرير : وأصل «الفتيل» : المفتول ، صرف عن مفعول إلى فعيل ، كصريع ، ودهين.

وفي الفتيل قولان : أحدهما : أنه ما يكون في شقّ النّواة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، والضّحّاك ، وقتادة ، وعطيّة ، وابن زيد ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن ، رواه العوفيّ ، عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو مالك ، والسّدّيّ ، والفرّاء.

____________________________________

(٢٩٨) هذا الخبر ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣١٩ عن الكلبي بلا سند ، والكلبي متهم بالكذب.

وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٢٠ للثعلبي عن الكلبي فالخبر واه بمرة ، ليس بشيء.

__________________

(١) سورة الزمر : ٥٣.

(٢) سورة المائدة : ١٨.

(٣) سورة البقرة : ١١١.


(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وهو قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقولهم : لا ذنب لنا ونحو ذلك ممّا كذّبوا فيه ، (وَكَفى بِهِ) أي : وحسبهم بقيلهم الكذب (إِثْماً مُبِيناً) يتبيّن كذبهم لسامعيه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

أحدها : أن جماعة من اليهود قدموا على قريش ، فسألوهم : أديننا خير ، أم دين محمّد؟ فقال اليهود : بل دينكم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس.

(٢٩٩) والثاني : أن كعب بن الأشرف ، وحييّ بن أخطب ، قدما مكّة ، فقالت لهما قريش : أنحن خير ، أم محمّد؟ فقالا : أنتم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة في رواية. وقال قتادة : نزلت في كعب ، وحييّ ، ورجلين آخرين من بني النّضير قالوا لقريش : أنتم أهدى من محمّد.

والثالث : أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفّار قريش : أنتم أهدى من محمّد ، فنزلت هذه الآية. وهذا قول مجاهد ، والسّدّيّ ، وعكرمة في رواية.

والرابع : أن حييّ بن أخطب قال للمشركين : نحن وإيّاكم خير من محمّد ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.

وفي «الجبت» سبعة أقوال : أحدها : أنه السّحر ، قاله عمر بن الخطّاب ، ومجاهد ، والشّعبيّ. والثاني : الأصنام ، رواه عطيّة ، عن ابن عباس. وقال عكرمة : الجبت : صنم. والثالث : حييّ بن أخطب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، والفرّاء. والرابع : كعب بن الأشرف ، رواه الضّحّاك ، عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد. والخامس : الكاهن ، روي عن ابن عباس ، وبه قال ابن سيرين ، ومكحول. والسادس : الشّيطان ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، وقتادة ، والسّدّيّ. والسابع : السّاحر ، قاله أبو العالية ، وابن زيد. وروى أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجبت : السّاحر بلسان الحبشة.

وفي المراد بالطّاغوت ها هنا ستة أقوال : أحدها : الشّيطان ، قاله عمر بن الخطّاب ، ومجاهد في رواية ، والشّعبيّ ، وابن زيد. والثاني : أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلّوا الناس ، رواه العوفيّ ، عن ابن عباس. والثالث : كعب بن الأشرف ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، والفرّاء. والرابع : الكاهن ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وقتادة ، والسّدّيّ. والخامس : أنه الصّنم ، قاله عكرمة. وقال : الجبت والطّاغوت صنمان. والسادس : السّاحر ،

____________________________________

(٢٩٩) أخرجه الطبري ٩٧٩٤ عن عكرمة مرسلا. وأخرج الطبري ٩٧٩١ عن ابن عباس مختصرا ، وعن السدي مرسلا أخرجه الطبري ٩٧٩٥ بنحوه ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.


روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول. فهذه الأقوال تدلّ على أنهما اسمان لمسمّيين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة ، والزجّاج : كلّ معبود من دون الله ، من حجر ، أو صورة ، أو شيطان ، فهو جبت وطاغوت (١).

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني لمشركي قريش : أنتم (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (سَبِيلاً) في الدّيانة والاعتقاد.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣))

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) هذا استفهام معناه الإنكار ، فالتقدير : ليس لهم. وقال الفرّاء : قوله (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) جواب لجزاء مضمر ، تقديره : ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون النّاس نقيرا. وفي «النّقير» أربعة أقوال : أحدها : أنه النّقطة التي في ظهر النّواة ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة في آخرين. والثاني : أنه القشر الذي يكون في وسط النّواة ، رواه التّيميّ ، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد : أنه الخيط الذي يكون في وسط النّواة. والثالث : أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه ، رواه أبو العالية ، عن ابن عباس. والرابع : أنه حبّة النّواة التي في وسطها ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد. قال الأزهريّ : و «الفتيل» و «النّقير» و «القطمير» : تضرب أمثالا للشيء التّافه الحقير.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤))

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ).

(٣٠٠) سبب نزولها : أنّ أهل الكتاب قالوا : يزعم محمّد أنه أوتي ما أوتي في تواضع ، وله تسع نسوة ، فأيّ ملك أفضل من هذا ، فنزلت ، رواه العوفيّ ، عن ابن عباس.

وفي «أم» قولان : أحدهما : أنها بمعنى ألف الاستفهام ، قاله ابن قتيبة. والثاني : بمعنى «بل» قاله

____________________________________

(٣٠٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٨٢٨ عن ابن عباس وإسناده واه ، فيه عطية العوفي ضعيف ، وعنه مجاهيل.

وورد من مرسل الضحاك ، أخرجه الطبري ٩٨٣٠.

__________________

(١) قال الإمام القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٢٣٩ : وقول مالك في هذا الباب حسن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله. وقيل : هما كل معبود من دون الله ، أو مطاع في معصية وهذا حسن. يدل عليه قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت» الطّرق : الزجر ، والعيافة : الخط ، خرجه أبو داود في سننه ، وقيل : الجبت كل ما حرّم الله والطاغوت كل ما يطغى الإنسان. والله أعلم.


الزجّاج. وقد سبق ذكر «الحسد» في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا : اليهود. وفي المراد بالنّاس ها هنا أربعة أقوال : أحدها : النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ومجاهد والضّحّاك والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث : العرب ، قاله قتادة. والرابع : النبيّ والصّحابة ، ذكره الماورديّ. وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال : أحدها : إباحة الله تعالى نبيّه أن ينكح ما شاء من النّساء من غير عدد ، روي عن ابن عباس ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : أنه النبوّة ، قاله ابن جريج ، والزجّاج. والثالث : بعثة نبيّ منهم على قول من قال : هم العرب (١).

قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) يعني : التّوراة ، والإنجيل ، والزّبور. كله كان في آل إبراهيم ، وهذا النبيّ من أولاد إبراهيم. وفي الحكمة قولان : أحدهما : النّبوّة ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : الفقه في الدّين ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي الملك العظيم خمسة أقوال (٢) : أحدها : ملك سليمان ، رواه عطيّة ، عن ابن عباس. والثاني : ملك داود ، وسليمان في النّساء ، كان لداود مائة امرأة ، ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة (٣) ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السّدّيّ. والثالث : النّبوّة ، قاله مجاهد. والرابع : التّأييد بالملائكة ، قاله ابن زيد في آخرين. الخامس : الجمع بين سياسة الدنيا ، وشرع الدّين ، ذكره الماورديّ.

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان :

أحدهما : اليهود الذين أنذرهم نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول مجاهد ، ومقاتل ، والفرّاء في آخرين. فعلى هذا القول في هاء (بِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : تعود على ما أنزل الله على نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد : قال أبو سليمان : فيكون الكلام مبنيا على قوله تعالى : (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو النّبوّة ، والقرآن. والثاني : أنها تعود إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون متعلّقة بقوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) يعني بالناس : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون المراد بقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) عبد الله بن سلّام ، وأصحابه. والثالث : أنها تعود إلى النّبإ عن آل إبراهيم ، قاله الفرّاء.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٤٢ : وأولى القولين في ذلك بالصواب هو قول قتادة ، وابن جريج الذي ذكر : أن معنى الفضل في هذا الموضع : النبوة التي فضل الله بها محمدا ، وشرّف بها العرب ، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم. وليس النكاح وتزويج النساء ، وإن كان من فضل الله عزوجل الذي آتاه عباده ، بتقريظ لهم ومدح.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٤٤ : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، القول الذي روي عن ابن عباس أنه قال : «يعني ملك سليمان». لأن ذلك معروف من كلام العرب ولأن كلام الله الذي خوطب به العرب ، غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه ، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك ، يجب التسليم بها.

(٣) أبو صالح واه ، روى عنه الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، والذي صح في سليمان أن له مائة امرأة كذا أخرجه البخاري ٣٤٢٤ ومسلم ١٦٥٤.


والقول الثاني : أن الهاء ، والميم في قوله (فَمِنْهُمْ) تعود إلى آل إبراهيم ، فعلى هذا في هاء (بِهِ) قولان : أحدهما : أنها عائدة إلى إبراهيم ، قاله السّدّيّ. والثاني : إلى الكتاب ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «من صدّ عنه» برفع الصاد. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني : بكسر الصاد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦))

قوله تعالى : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) قال الزجّاج : أي نشويهم في نار.

(٣٠١) ويروى أن يهوديّة أهدت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة مصليّة ، أي مشوية.

وفي قوله تعالى (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) قولان : أحدهما : أنها غيرها حقيقة ، ولا يلزم على هذا أن يقال : كيف بدّلت جلود التذّت بالمعاصي بجلود ما التذّت ، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إليهم ، كما كانت آلة في إيصال اللذّة ، وهم المعاقبون لا الجلود. والثاني : أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها ، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيريّة عائدة إلى الصّفة ، لا إلى الذّات ، فالمعنى : بدّلناهم جلودا غير محترقة ، كما تقول : صغت من خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصريّ : في هذه الآية : تأكلهم النار كلّ يوم سبعين ألف مرّة ، كلّما أكلتهم قيل لهم : عودوا ، فعادوا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) قال الزجّاج : هو الذي يظلّ من الحرّ والرّيح ، وليس كلّ ظلّ كذلك ، فأعلم الله تعالى أن ظلّ الجنة ظليل لا حرّ معه ، ولا برد. فإن قيل : أفي الجنة برد أو حرّ يحتاجون معه إلى ظلّ؟ فالجواب : أن لا ، وإنّما خاطبهم بما يعقلون مثله ، كقوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١). وجواب آخر : وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها ، وتمكين بنائها ، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلّط عليها ، لكان في أبنيتها وشجرها ظلّ ظليل.

____________________________________

(٣٠١) لم أره بهذا اللفظ. وحديث اليهودية ، أخرجه البخاري ٢٦١٧ عن أنس ، أن يهودية أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ... وأخرجه البخاري ٤٢٢٩ من حديث أبي هريرة. وليس فيه اللفظ المذكور عند المصنف. وانظر «فتح الباري» ٥ / ٢٣١ و ٧ / ٤٩٧. وورد في حديث موقوف ، أخرجه الترمذي ٦٨٦ وابن حبان ٣٥٨٥ عن صلة بن زفر قال : كنا عند عمار بن ياسر ، فأتي بشاة مصلية ، فقال كلوا ، فتنحى بعض القوم ، وقال : إني صائم ، فقال عمار : من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ، إسناده صحيح.

__________________

(١) سورة مريم : ٦٢.


(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٠٢) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا فتح مكة ، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة ، فذهب ليعطيه إيّاه ، فقال العباس : بأبي أنت وأمّي اجمعه لي مع السّقاية ، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هات المفتاح» فأعاد العباس قوله ، وكفّ عثمان ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر» فقال : هاكه يا رسول الله بأمانة الله ، فأخذ المفتاح ، ففتح البيت ، فنزل جبريل بهذه الآية ، فدعا عثمان ، فدفعه إليه. رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والزّهريّ ، وابن جريج ، ومقاتل.

والثاني : أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال زيد بن أسلم ، وابنه ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ ، وقال : أمر الأمراء أن يؤدّوا الأمانة في أموال المسلمين. والثالث : أنها نزلت عامّة ، وهو مرويّ عن أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها ، فإنها عامّة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود : الأمانة في الوضوء ، وفي الصّلاة ، وفي الصّوم ، وفي الحديث ، وأشدّ ذلك في الودائع.

قوله تعالى : (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) يقول : نعم الشيء يعظكم به ، وقد ذكرناه في (البقرة).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في سبب نزولها قولان :

(٣٠٣) أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السّهميّ إذ بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سريّة ، أخرجه البخاريّ ، ومسلم ، من حديث ابن عباس.

____________________________________

(٣٠٢) أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح وفيه الكلبي ضعيف جدا. ومثله لا يحتج به ، وذكره الواحدي في «الوسيط» ٢ / ٦٩ ـ ٧٠ وفي «الأسباب» ٣٢٣ بدون إسناد ، ودون اللفظ المرفوع.

وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٢٣ : ذكره الثعلبي ، ثم البغوي بغير إسناد.

وخبر إعطاء المفتاح لعثمان ورد من وجوه ، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية. وانظر «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٣٠ و «الدر» ٢ / ٣١٢.

(٣٠٣) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٨٤ ومسلم ١٨٣٤ والترمذي ١٦٧٢ والنسائي في «التفسير» ١٢٩ وأحمد ١ / ٣٣٧ وابن الجارود ١٠٤٠ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ٣١١ عن ابن عباس به. وانظر كلام الحافظ في «فتح الباري» ٨ / ٢٤٥ حول هذا الخبر.

ـ ولعبد الله بن حذافة قصة معروفة أخرجها أحمد ٣ / ٦٧ وابن ماجة ٢٨٦٣ وأبو يعلى ١٣٤٩ وابن حبان ٤٥٥٨ من حديث أبي سعيد وإسناده حسن ، لأجل محمد بن عمرو ، وصححه البوصيري في الزوائد ١٨٣ أن


(٣٠٤) والثاني : أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة ، فهرب القوم ، ودخل رجل منهم على عمّار ، فقال : إني قد أسلمت ، هل ينفعني ، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمّار : أقم فأنت آمن ، فرجع الرجل ، وأقام فجاء خالد ، فأخذ الرجل ، فقال عمّار : إنّي قد أمّنته ، وإنه قد أسلم ، قال : أتجير عليّ وأنا الأمير؟ فتنازعا ، وقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) طاعة الرسول في حياته : امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وبعد مماته : اتّباع سنّته. وفي أولي الأمر أربعة أقوال : أحدها : أنهم الأمراء ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس في رواية ، وزيد بن أسلم والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنهم العلماء ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنّخعيّ والضّحّاك ، ورواه خصيف عن مجاهد. والثالث : أنهم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال بكر بن عبد الله المزنيّ. والرابع : أنهم أبو بكر وعمر ، وهذا قول عكرمة (١).

قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) قال الزجّاج : معناه : اختلفتم. وقال كل فريق : القول قولي. واشتقاق المنازعة : أنّ كلّ واحد ينتزع الحجّة.

قوله تعالى : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) في كيفيّة هذا الرّدّ قولان : أحدهما : أنّ ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه ، وردّه إلى النبيّ ردّه إلى سنّته ، هذا قول مجاهد ، وقتادة ، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى : وهذا الرّدّ يكون من وجهين : أحدهما : إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه. والثاني : الرّدّ إليهما من جهة الدّلالة عليه ، واعتباره من طريق القياس ، والنّظائر. والقول الثاني : أنّ ردّه إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء : الله ورسوله أعلم ، ذكره قوم ، منهم الزجّاج.

____________________________________

أبا سعيد الخدري قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علقمة بن محرز على بعث أنا فيهم ، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق ، أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة ـ يعني مزاحا ـ وكنت ممن رجع معه ، فنزلنا ببعض الطريق قال : وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون ، قال : فقال لهم : أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا : بلى ، قال : فما أنا بآمركم بشيء إن صنعتموه؟ قالوا بلى ، قال : أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار ، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون ، قال : احبسوا أنفسكم ، فإنما كنت أضحك معكم ، فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قدموا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» لفظ أحمد. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٢٩٢ و «الشوكاني» ٦٧٣ بتخريجنا.

(٣٠٤) ضعيف. أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٣٠ من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس. والحكم بن ظهير متروك الحديث وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. واسم أبي صالح باذام. وأخرجه الطبري ٩٨٦٦ عن السدي وهذا معضل ، ومع ذلك فالسدي متكلم فيه إذا وصل الحديث فكيف إذا رواه معضلا. وخبر خالد وعمار في الصحيح بغير هذا السياق ، وليس فيه ذكر نزول الآية.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ١٥٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال هم الأمراء والولاة ، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة.


وفي المراد بالتّأويل أربعة أقوال : أحدها : أنه الجزاء ، والثّواب ، وهو قول مجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه العاقبة ، وهو قول السّدّيّ ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثالث : أنه التّصديق ، مثل قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ). قاله ابن زيد في رواية. والرابع : أن معناه : ردّكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم ، ذكره الزجّاج (١).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٣٠٥) أحدها : أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهوديّ خصومة ، فقال اليهوديّ : انطلق بنا إلى محمّد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، فأبى اليهوديّ ، فأتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لليهوديّ ، فلمّا خرجا ، قال المنافق : ننطلق إلى عمر بن الخطّاب ، فأقبلا إليه ، فقصّا عليه القصّة ، فقال : رويدا حتى أخرج إليكما ، فدخل البيت ، فاشتمل على السّيف ، ثم خرج ، فضرب به المنافق حتى برد (٢) ، وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

____________________________________

(٣٠٥) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٣١ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد ، والكلبي متروك متهم. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٢٠ ونسبه للثعلبي من حديث ابن عباس.

ـ وأخرجه الطبري ٩٩٠٠ عن قتادة مرسلا بنحوه دون ذكر عجزه ، أي دون ذكر عمر بن الخطاب وفعله.

ـ وورد بنحوه عن عتبة بن ضمرة مرسلا كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٢٢ عن عتبة بن ضمرة ونسبه للحافظ دحيم في «تفسيره». وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود مرسلا كما في «الدر» ٢ / ٣٢٢ وقال الحافظ ابن كثير ١ / ٥٣٣ : وهذا مرسل غريب. وكذا أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن مكحول مرسلا كما في «الدر» ٢ / ٣٢٣.

الخلاصة : أما قتل عمر للمنافق فهو ضعيف ، وأما أصل التحاكم من غير ذكر عمر وما بعده ، فله شواهد تعضده ، راجع تفصيل ذلك في «أحكام القرآن» لابن العربي ٥١٥ بتخريجي. وانظر الآتي.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٥٣٠ ـ ٥٣١ : وهذا أمر من الله عزوجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال الله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى : ١٠] ، فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فدل على أن من لا يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) أي : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والرجوع في فصل النزاع إليهما خير (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : وأحسن عاقبة ومآلا ، كما قاله السدي وغير واحد ، وقال مجاهد : وأحسن جزاء وهو قريب.

(٢) حتى برد : أي حتى مات.


(٣٠٦) والثاني : أنّ أبا برزة (١) الأسلميّ كان كاهنا يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس.

(٣٠٧) والثالث : أنّ يهوديّا ومنافقا كانت بينهما خصومة ، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ ، لأنه لا يأخذ الرّشوة ، ودعا المنافق إلى حكّامهم ، لأنهم يأخذون الرّشوة ، فلمّا اختلفا ، اجتمعا أن يحكّما كاهنا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الشّعبيّ.

(٣٠٨) والرابع : أنّ رجلا من بني النّضير قتل رجلا من بني قريظة ، فاختصموا ، فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن ، فقال المسلمون من الفريقين : بل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى المنافقون ، فانطلقوا إلى الكاهن ، فنزلت هذه الآية. هذا قول السّدّيّ.

والزّعم والزّعم لغتان ، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقّق صحته ، وفي الذين زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان : أحدهما : أنه المنافق. والثاني : أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق ، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهوديّ. والطّاغوت : كعب بن الأشرف ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والرّبيع ، ومقاتل. قوله تعالى : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قال مقاتل : أن يتبرّؤوا من الكهنة ، و «الضّلال البعيد» : الطّويل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) قال مجاهد : هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهوديّ ، والمنافق ، والهاء والميم في «لهم» : إشارة إلى الذين يزعمون ، و (ما أَنْزَلَ اللهُ) : أحكام القرآن. (وَإِلَى الرَّسُولِ) أي : إلى حكمه (٢).

____________________________________

(٣٠٦) حسن. أخرجه الطبراني ١١ / ١٢٠٤٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٢٨ عن ابن عباس وإسناده حسن ، وقال الحافظ في «الإصابة ٤ / ١٩ : إسناده جيد. وأخرجه ابن أبي بسند صحيح كما في «الدر» ٣٢٠.

(٣٠٧) مرسل. أخرجه الطبري ٩٨٩٨ عن الشعبي مرسلا ، وهو شاهد لأصل الخبر المتقدم أولا.

(٣٠٨) مرسل. أخرجه الطبري ٩٩٠١ عن السدي مرسلا ، فهو ضعيف ، لكن يشهد للحديث المتقدم أولا.

وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٣٢ عن السدي بدون إسناد.

__________________

(١) وقع في المطبوع هنا وفي الحديث الآتي (٣٠٨) : «أبو بردة» والتصويب من كتب التخريج.

(٢) يفهم من سياق الآية عدم صحة إيمان من يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله عزوجل سمّى من يدعي الإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة ثم هو يتحاكم إلى ما ابتدعه البشر من تشريعات وقوانين وغير ذلك ، فقد سمى الله عزوجل ذلك المدعي للإيمان بأنه يزعم ذلك ، يعني ليس ذلك بصحيح ولا مقبول منه ، ثم ذكر الله المنافقين. وهذا دليل على أن الله عزوجل قد أدرج هذا الزاعم في زمرة المنافقين. وإن كان يدّعي الإسلام ويتظاهر بالصلاة ونحوها ، وقد قال الله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) نسأل الله السلامة.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٣١ : هذا إنكار من الله عزوجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إلى آخرها. وقوله :


(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان : أحدهما : أنه تهديد ووعيد. والثاني : أنه قتل المنافق الذي قتله عمر. وفي الذي قدّمت أيديهم ثلاثة أقوال : أحدها : نفاقهم واستهزاؤهم. والثاني : ردّهم حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثالث : معاصيهم المتقدّمة.

قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنا) بمعنى. ما أردنا. قوله تعالى : (إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لما قتل عمر صاحبهم ، جاءوا يطلبون بدمه ، ويحلفون ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحسانا إلينا ، وما يوافق الحقّ في أمرنا. والثاني : ما أردنا بالتّرافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا. والثالث : أنهم جاءوا يعتذرون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من محاكمتهم إلى غيره ، ويقولون : ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتّقريب في الحكم ، وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مرّ الحقّ.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : من النّفاق والزّيغ. وقال ابن عباس : إضمارهم خلاف ما يقولون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تعاقبهم (وَعِظْهُمْ) بلسانك (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي : تقدّم إليهم : إن فعلتم الثانية ، عاقبتكم. وقال الزجّاج : يقال : بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ : إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه.

وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم : «البلاغة» : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، وقيل : «البلاغة» : حسن العبارة مع صحّة المعنى ، وقيل : البلاغة : الإيجاز مع الإفهام ، والتّصرّف من غير إضجار. قال خالد بن صفوان : أحسن الكلام ما قلّت ألفاظه ، وكثرت معانيه ، وخير الكلام ما شوّق أوّله إلى سماع آخره ، وقال غيره : إنما يستحقّ الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه ، ومعناه لفظه ، ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.

فصل : وقد ذهب قوم إلى أنّ «الإعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السّيف.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤))

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) قال الزجّاج : «من» دخلت للتّوكيد. والمعنى :

__________________

(يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً). أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الآية.


وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع. وفي قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) قولان : أحدهما : أنه بمعنى : الأمر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الإذن نفسه ، قاله مجاهد. وقال الزجّاج : المعنى : إلا ليطاع بأنّ الله أذن له في ذلك. وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس : ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرّسول : (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) من صنيعهم.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) في سبب نزولها قولان :

(٣٠٩) أحدهما : أنها نزلت في خصومة كانت بين الزّبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرّة (١) ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزّبير : «اسق ثمّ أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاريّ ، قال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمّتك! فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال للزّبير : «اسق يا زبير ثمّ احبس الماء حتّى يبلغ الجدر» قال الزّبير : فو الله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك. أخرجه البخاريّ ومسلم. والثاني : أنها نزلت في المنافق ، واليهوديّ اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف ، وقد سبقت قصّتهما ، قاله مجاهد (٢).

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يكونون مؤمنين حتى يحكّموك ، وقيل : «لا» ردّ لزعمهم أنهم مؤمنون ، والمعنى : فلا ، أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يخالفون حكمك. ثم استأنف ، فقال : وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ، أي : فيما اختلفوا فيه. وفي «الحرج» قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : الضّيق ، قاله أبو عبيدة ، والزجّاج. وفي قوله : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قولان : أحدهما : يسلّموا لما أمرتهم به ، فلا يعارضونك ، هذا قول ابن عباس ، والزجّاج ، والجمهور. والثاني : يسلّموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، قاله الماورديّ (٣).

____________________________________

(٣٠٩) صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٠٨ عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير.

وأخرجه البخاري ٢٣٥٩ و ٢٣٦١ و ٢٣٦٢ و ٤٥٨٥ ومسلم ٢٣٥٧ وأبو داود ٣٦٣٧ والترمذي ١٣٦٣ والنسائي ٨ / ٢٤٥ وابن ماجة ١٥ و ٢٤٨٠ وأحمد ٤ / ٤ ـ ٥ و ١٦٥ وابن حبان ٢٤ وابن الجارود ١٠٢١ والطبري ٩٩١٧ و ٩٩١٨ والبيهقي ٦ / ١٥٣ و ١٥٤ و ١٠ / ١٠٦ من طرق عن الزهري به.

__________________

(١) في «اللسان» الشراج : بكسر الشين جمع شرج ، والشرج : مسيل الماء من الحرّة إلى السهل ، والحرّة : موضع معروف في المدينة ، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة ، كأنما أحرقت بالنار كما في «معجم البلدان» ٢ / ٢٤٤.

(٢) تقدم عند الآية ٦٠ برقم ٣٠٥.

(٣) يقسم الله عزوجل بذاته جلّ وعلا بأن الذي يتحاكم إلى غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أي إلى غير الكتاب والسنة ، بأنه ليس بمؤمن ولا يصح إيمانه ، وأنه مردود عليه. وهذا ينطبق على أولئك الذين اختاروا القوانين الوضعية على القوانين الشرعية. فليحذر هؤلاء أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. وهذا في الدنيا. وأما في الآخرة ، فإنهم إن ماتوا على ذلك ، حشروا مع الكفرة ، بل ربما كانوا أسفل منهم. فإن الله يقول : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقال تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).


(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣١٠) سبب نزولها : أنّ رجلا من اليهود قال : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشّمّاس : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا ، فنزلت هذه الآية. هذا قول السّدّيّ.

قال الزجّاج : «لو» يمتنع به الشّيء لامتناع غيره ، تقول : لو جاءني زيد لجئته. والمعنى : أنّ مجيئك امتنع لامتناع مجيئه ، و (كَتَبْنا) بمعنى : فرضنا. والمعنى : لو أنّا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو : (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، بكسر النون ، «أو اخرجوا» بضمّ الواو. وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ : «أن اقتلوا» «أو اخرجوا» بضم النون والواو. وقرأ عاصم ، وحمزة بكسرهما. والمعنى : لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى ، لم يفعله (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر : «إلا قليلا» بالنّصب. (وَلَوْ أَنَّهُمْ) يعني : المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يتحاكمون إلى الطّاغوت ، ويصدّون عنك (فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي : ما يذكّرون به من طاعة الله ، والوقوف مع أمره ، (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) وأثبت لأمورهم. وقال السّدّيّ : (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي : تصديقا.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣١١) أحدها : أن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد المحبّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرآه رسول الله يوما

____________________________________

(٣١٠) أخرجه الطبري ٩٩٢٥ وابن أبي حاتم كما في ابن كثير ١ / ٥٣٤ عن السدي مرسلا ، فهو ضعيف.

(٣١١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٣٤ م عن الكلبي بدون إسناد ، والكلبي متروك متهم ، لكن ورد بنحو هذا السياق من حديث عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك لأحب إليّ من ولدي ، وإني لأكون في البيت ، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يرد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ...) الآية. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٤٨٠ و «الصغير» ٥٢ والضياء المقدسي في «صفة الجنة» كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٣٥. وقال ابن كثير : قال الحافظ الضياء المقدسي : لا أرى بإسناده بأسا ووافقه ابن كثير.

ـ وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٧ : رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة اه.

ـ وفي الباب أيضا من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٥٥٩ وفي إسناده عطاء بن السائب ، وقد اختلط كذا قال الهيثمي. لكن يصلح شاهدا لما قبله. وفي الباب أحاديث أخرى ، انظر «الدر المنثور» ٢ / ٣٢٤ فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم ، راجع «أحكام القرآن» ٥١٨ بتخريجنا.


فعرف الحزن في وجهه ، فقال : يا ثوبان ما غيّر وجهك؟ قال : ما بي من وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك ، فأذكر الآخرة ، فأخاف أن لا أراك هناك ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٣١٢) والثاني : أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له : ما ينبغي أن نفارقك في الدّنيا ، فإنّك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.

(٣١٣) والثالث : أنّ رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محزون ، فقال : ما لي أراك محزونا؟ فقال : يا رسول الله غدا ترفع مع الأنبياء ، فلا نصل إليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير.

قال ابن عباس : ومن يطع الله في الفرائض ، والرّسول في السّنن. قال ابن قتيبة : والصّدّيق : الكثير الصّدق ، كما يقال : فسّيق ، وسكّير ، وشرّيب ، وخمّير ، وسكّيت ، وفجّير ، وعشّيق ، وضلّيل ، وظلّيم : إذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة ، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك ، أو يكون عادة. فأما الشهداء ، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله. وفي تسميته بالشّهيد خمسة أقوال : أحدها : لأنّ الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة ، قاله ثعلب. والثاني : لأنّ ملائكة الرّحمة تشهده. والثالث : لسقوطه بالأرض ، والأرض : هي الشّاهدة ، ذكر القولين ابن فارس اللغويّ. والرابع : لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل ، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس : لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل ، قاله شيخنا عليّ بن عبيد الله.

فأما الصّالحون ، فهو اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته. والجمهور على أن النّبيين ، والصّدّيقين ، والشّهداء ، والصّالحين عامّ في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة : المراد بالنّبيين هاهنا محمّد ، والصّديقين أبو بكر ، وبالشّهداء عمر وعثمان وعليّ ، وبالصّالحين سائر الصّحابة.

قوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) قال الزجّاج : «رفيقا» منصوب على التّمييز ، وهو ينوب عن رفقاء ، قال الشاعر :

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (١)

وقال آخر :

في حلقكم عظم وقد شجينا (٢) يريد : في حلوقكم عظام. (ذلِكَ الْفَضْلُ) الذي أعطي المذكورين (مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بالمقاصد والنّيات.

____________________________________

(٣١٢) مرسل. أخرجه الطبري ٩٩٣٠ والواحدي ٣٣٥ عن مسروق مرسلا ، وكرره ٩٩٣١ من مرسل قتادة و ٩٩٣٢ من مرسل السدي ، فهذه المراسيل تتقوى بمجموعها ، وانظر ما قبله. و «تفسير القرطبي» ٢٣١٠.

(٣١٣) مرسل. أخرجه الطبري ٩٩٢٩ عن سعيد بن جبير مرسلا ، وهو شاهد قوي لما تقدم.

__________________

(١) البيت لعلقمة بن عبدة «الكتاب» ١ / ١٠٧ وقد تقدم.

(٢) هو عجز بيت للمسيب بن زيد مناة الغنوي وصدره : لا تنكر القتل وقد سبينا.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١))

قوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) فيه قولان : أحدهما : احذروا عدوّكم. والثاني : خذوا سلاحكم. قوله تعالى : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) قال ابن قتيبة : أي : جماعات ، واحدتها : ثبة ، يريد جماعة بعد جماعة. وقال الزجّاج : «الثّبات» : الجماعات المتفرّقة. قال زهير :

وقد أغدوا على ثبة كرام

نشاوى واجدين لما نشاء

قال ابن عباس : فانفروا ثبات ، أي : عصبا ، سرايا متفرّقين ، أو انفروا جميعا ، يعني كلّكم.

فصل : وقد نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية وقوله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (١) وقوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢) منسوخات بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (٣) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام ، وليس في هذا من المنسوخ شيء.

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

(٣١٤) أحدهما : أنها في المنافقين ، كعبد الله بن أبيّ ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد ، فإن لقيت السّريّة نكبة ، قال من أبطأ منهم : لقد أنعم الله عليّ ، وإن لقوا غنيمة ، قال : يا ليتني كنت معهم. هذا قول ابن عباس ، وابن جريج.

والثاني : أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومهم بأحكام الدّين ، فتثبّطوا لقلّة العلم ، لا لضعف الدّين ، ذكره الماورديّ وغيره. فعلى الأوّل تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإسلام ، وجريان أحكامه عليهم ، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة.

قال ابن جرير : اللام في (لَمَنْ) لام تأكيد. قال الزجّاج : واللام في (لَيُبَطِّئَنَ) لام القسم ، كقولك : إنّ منكم لمن أحلف بالله ليبطّئنّ ، يقال : «أبطأ الرّجل» و «بطؤ» فمعنى «أبطأ» : تأخّر ، ومعنى «بطؤ» : ثقل. وقرأ أبو جعفر : «ليبطّئن» بتخفيف الهمزة. وفي معنى «ليبطّئنّ» قولان : أحدهما : ليبطّئنّ هو نفسه ، وهو قول ابن عباس. والثاني : ليبطّئنّ غيره ، قاله ابن جريج. قال ابن عباس : و «المصيبة» : النّكبة. و «الفضل من الله» : الفتح والغنيمة.

قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) قرأ ابن كثير ، وحفص ، والمفضّل ، عن عاصم :

____________________________________

(٣١٤) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٩٤٣ عن ابن جريج ، وهذا معضل.

ـ وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٢ / ١٨٣ عن مقاتل بن حيان ، وهذا معضل أيضا.

ـ وعزاه المصنف لابن عباس ، والظاهر أنه من رواية الكلبي ، وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس.

__________________

(١) سورة التوبة : ٤١.

(٢) سورة التوبة : ٣٩.

(٣) سورة التوبة : ١٢٢.


(كأن لم تكن) بالتاء ، لأن الفاعل المسند إليه مؤنّث في اللفظ ، وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر ، عن عاصم : يكن بالياء ، لأن التّأنيث ليس بحقيقي. قال الزجّاج : يجوز أن يكون المعنى : ليقولنّ يا ليتني كنت معهم ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة ، أي : كأنّه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به ، فيكون المعنى : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولنّ يا ليتني كنت معهم فإن أصابتكم مصيبة ، قال : قد أنعم الله عليّ ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة. فيكون معنى «المودّة» أي : كأنّه لم يعاقدكم على الإيمان.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) يشرون هاهنا : بمعنى يبتغون في قول الجماعة. وأنشدوا :

وشريت ... بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة (١)

و «برد» غلام له باعه.

ومعنى الآية : ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص وطلب الآخرة.

قوله تعالى : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) خرج مخرج الغالب ، وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥))

قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ) قال الفرّاء : تقديره : وفي المستضعفين. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال الزجّاج : المستضعفون في موضع خفض ، والمعنى في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين ، أي : ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس : وهم ناس مسلمون كانوا بمكّة لا يستطيعون أن يخرجوا. و «القرية» : مكّة في قول الجماعة. قال الفرّاء : وإنما خفض (الظَّالِمِ) لأنه نعت للأهل ، فلمّا عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها ، تقول : مررت بالرّجل الواسعة داره.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) قال أبو سليمان : سألوا الله وليّا من عنده يلي إخراجهم منها ، ونصيرا يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس :

(٣١٥) فلما فتح رسول الله مكّة ، جعل الله عزوجل النبيّ عليه‌السلام وليّهم ، واستعمل عليهم

____________________________________

(٣١٥) سيأتي تخريجه إن شاء الله.

__________________

(١) البيت لابن مفرغ ، شاعر إسلامي ، وهو من حمير «الخزانة» : ٢ / ٢١٤. وفي «اللسان» : الهامة : فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى ، وقيل أرواحهم تصير هامة فتطير ، وقيل كانوا يسمون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت الصدى فنهاهم الإسلام عنه ، ويقال أصبح فلان هامة إذا مات.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاب بن أسيد ، فكان نصيرا لهم ، ينصف الضعيف من القوي.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

قوله تعالى : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الطّاغوت هاهنا في معنى جماعة ، كقوله (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ*) معناه : ولحم الخنازير. قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) يعني : مكره وصنيعه (كانَ ضَعِيفاً) حيث خذل أصحابه يوم بدر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

(٣١٦) أحدهما : أنها نزلت في نفر من المهاجرين ، كانوا يحبّون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يفرض القتال ، فنهوا عن ذلك ، فلما أذن لهم فيه ، كرهه بعضهم. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول قتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل.

والثاني : أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدّم ، فحذّرت هذه الأمّة من مثل حالهم ، روى هذا المعنى عطيّة ، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا : ابعث لنا ملكا. وقال مجاهد : هي في اليهود.

فأما كفّ اليد ، فالمراد به : الامتناع عن القتال ، ذلك كان بمكّة. و «كتب» بمعنى : فرض ، وذلك بالمدينة ، هذا على القول الأول.

قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) في هذا الفريق ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المنافقون. والثاني : أنهم كانوا مؤمنين ، فلما فرض القتال ، نافقوا جبنا وخوفا. والثالث : أنهم مؤمنون غير أنّ طبائعهم غلبتهم ، فنفرت نفوسهم عن القتال.

قوله : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) في المراد بالناس قولان : أحدهما : كفّار مكّة. والثاني : جميع الكفّار. قوله تعالى : (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) قيل : إن «أو» بمعنى الواو ، و «كتبت» بمعنى : فرضت. و «لولا» بمعنى «هلا» ، قال الفراء : إذا لم تر بعدها اسما فهي استفهام بمعنى هلا ، وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا ، فهي

____________________________________

(٣١٦) خبر منكر. وورد بذكر ابن عوف وجماعة ، لم يسم غير ابن عوف برواية عكرمة عن ابن عباس أخرجه النسائي ٦ / ٣ وفي «التفسير» ١٣٢ والحاكم ٢ / ٦٦ و ٣٠٧ والبيهقي ٩ / ١١ والواحدي ٣٣٩ ورجاله ثقات وصححه الحاكم على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي ، مع أن في إسناده حسين بن واقد وهو من رجال مسلم فقط ، فهو على شرط مسلم ، ومع ذلك حسين بن واقد فيه ضعف ، وقد استنكر الإمام أحمد بعض ما ينفرد به ، وهذا الخبر غريب ، فإن ظاهر القرآن يدل على أن المخاطب بذلك فئة من المنافقين كابن سلول وأمثاله ، ولا يصح هذا السياق في أحد من المهاجرين السابقين والله أعلم.


التي جوابها اللام ، تقول : لو لا عبد الله لضربتك. وقال ابن قتيبة : إذا رأيتها بغير جواب ، فهي بمعنى «هلّا» ، تقول : لو لا فعلت كذا ، ومثلها «لوما» ، فإذا رأيت ل «لولا» جوابا ، فليست بمعنى «هلّا» ، إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١). قلت : فأما «لولا» التي لها جواب فكثيرة في الكلام ، وأنشدوا في ذلك :

لو لا الحياء وأنّ رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (٢)

وأمّا التي بمعنى «هلا» فأنشدوا منها :

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا (٣)

أراد : فهلّا تعدون الكميّ ، والكميّ : الدّاخل في السّلاح.

وفي الأجل القريب قولان : أحدهما : أنه الموت ، فكأنهم قالوا : هلّا تركتنا نموت موتا ، وعافيتنا من القتل ، هذا قول السّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه إمهال زمان ، فكأنهم قالوا : هلّا أخّرت فرض الجهاد عنّا قليلا حتى نكثر ونقوى ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.

قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) أي : مدّة الحياة فيها قليلة.

قوله تعالى : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : ولا يظلمون بالياء. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : بالتاء ، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨))

قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ). سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أحد : لو كانوا عندنا ما ماتوا ، وما قتلوا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس (٤) ، ومقاتل. والبروج : الحصون ، قاله ابن عباس وابن قتيبة. وفي «المشيّدة» خمسة أقوال (٥) : أحدها : أنّها الحصينة ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : المطوّلة ، قاله أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثالث : المجصّصة ، قاله

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢) البيت لعدي بن الرقاع وفي «اللسان» عثا فيه المشيب : أفسده أشد الإفساد.

(٣) البيت لجرير بن عطية كما في «الخزانة» ١ / ٤٦١ وقوله : عقر النبيب ، عقر الناقة المسنّة : ضرب قوائمها فقطعها. وفي حديث ابن عباس : «لا تأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله». هو عقرهم الإبل كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء ، فيعقر هذا إبلا ويعقر هذا إبلا حتى يعجز أحدهما الآخر. وقوله : «بني ضوطرى» يعني : يا بني الحمقى ، ويقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء : بنو ضوطرى.

والكمي : الشجاع الذي لا يرهب ، والمقنع : على رأسه البيضة والمغفر.

(٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٠ برواية أبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح وعنه الكلبي ؛ رويا تفسيرا مصنوعا عن ابن عباس. فالإسناد ساقط ، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن المراد بذلك المنافقون.

(٥) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٢٧١ : واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج ، فقال الأكثر وهو الأصح : إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصّن والمنعة ، فمثّل الله لهم بها.


هلال بن خبّاب ، واليزيديّ. والرابع : أنها المبنيّة بالشّيد ، وهو الجصّ ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والخامس : أنها بروج في السّماء ، قاله الرّبيع بن أنس ، والثّوريّ. وقال السّدّيّ : هي قصور بيض في السّماء مبنيّة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المنافقون واليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : المنافقون ، قاله الحسن. والثالث : اليهود ، قاله ابن السّري. وفي الحسنة والسّيئة قولان : أحدهما : أنّ الحسنة : الخصب ، والمطر. والسّيئة : الجدب ، والغلاء ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أن الحسنة : الفتح والغنيمة ، والسّيئة : الهزيمة والجراح ، ونحو ذلك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِكَ) قولان : أحدهما : بشؤمك ، قال ابن عباس. والثاني : بسوء تدبيرك ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال ابن عباس : الحسنة والسّيئة ، أما الحسنة ، فأنعم بها عليك ، وأمّا السّيئة ، فابتلاك بها. قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) وقف أبو عمرو ، والكسائيّ على الألف من «فما» في قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) و (ما لِهذَا الْكِتابِ) و (ما لِهذَا الرَّسُولِ) و (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والباقون وقفوا على اللام. فأمّا «الحديث» ، فقيل : هو القرآن ، فكأنه قال : لا يفقهون القرآن ، فيؤمنون به ، ويعلمون أن الكلّ من عند الله.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه عامّ ، فتقديره : ما أصابك أيّها الإنسان ، قاله قتادة.

والثاني : أنه خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به غيره ، ذكره الماورديّ. وقال ابن الأنباريّ : ما أصابك الله من حسنة ، وما أصابك الله به من سيّئة ، فالفعلان يرجعان إلى الله عزوجل.

وفي «الحسنة» و «السّيئة» ثلاثة أقوال : أحدها : أن الحسنة : ما فتح عليه يوم بدر ، والسّيئة : ما أصابه يوم أحد ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والثاني : الحسنة : الطّاعة ، والسّيئة : المعصية ، قاله أبو العالية. والثالث : الحسنة : النّعمة ، والسّيئة : البليّة ، قاله ابن قتيبة ، وعن أبي العالية نحوه ، وهو أصحّ ، لأنّ الآية عامّة. وروى كرداب ، عن يعقوب : «ما أصابك من حسنة فمن الله» بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله ، «وما أصابك من سيئة فمن نفسك» بنصب الميم ورفع السين. وقرأ ابن عباس : «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك». وقرأ ابن مسعود : «وأنا عددتها عليك». قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي : فبذنبك ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجماعة ، وذكر فيه ابن الأنباريّ وجها آخر ، فقال : المعنى : أفمن نفسك ، فأضمرت ألف الاستفهام كما أضمرت في قوله (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) أي : أو تلك نعمة.

قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) قال الزجّاج : ذكر الرسول مؤكّد لقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ) ، والباء في «بالله» مؤكّدة. والمعنى : وكفى بالله شهيدا. و «شهيدا» : منصوب على التّمييز ، لأنك إذا قلت : كفى بالله ، ولم تبيّن في أيّ شيء الكفاية كنت مبهما. وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال :


أحدها : شهيدا لك بأنّك رسوله ، قاله مقاتل. والثاني : على مقالتهم ، قاله ابن السّائب. والثالث : لك بالبلاغ ، وعليهم بالتّكذيب والنّفاق ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

فإن قيل : كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا : إن الحسنة من عند الله ، والسّيئة من عند النبيّ عليه‌السلام ، وردّ عليهم بقوله تعالى : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم عاد فقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فهل قال القوم إلا هكذا؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنهم أضافوا السّيئة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشاؤما به ، فردّ عليهم ، فقال : كلّ بتقدير الله. ثم قال : ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، أي : من فضله ، وما أصابك من سيئة ، فبذنبك ، وإن كان الكلّ من الله تقديرا. والثاني : أن جماعة من أرباب المعاني قالوا : في الكلام محذوف مقدّر ، تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، يقولون : ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. فيكون هذا من قولهم. والمحذوف المقدّر في القرآن كثير ، ومنه قوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (١) أي : يقولان : ربّنا. ومثله (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) (٢) أي : فحلق ، ففدية. ومثله (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) (٣) أي : فيقال لهم. ومثله (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٤) أي : يقولون سلام. ومثله (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ) (٥) أراد : لكان هذا القرآن. ومثله (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦) أراد : لعذّبكم. ومثله (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : يقولون. وقال النّمر بن تولب :

فإنّ المنيّة من يخشها

فسوف تصادفه أينما

أراد : أينما ذهب. وقال غيره :

فأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (٧)

أراد : لرددناه.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠))

قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) سبب نزولها :

(٣١٧) أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أطاعني ، فقد أطاع الله ، ومن أحبّني ، فقد أحبّ الله» فقال المنافقون : لقد قارب هذا الرجل الشّرك ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

____________________________________

(٣١٧) لا أصل له بهذا اللفظ ، عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم بالوضع. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٣٩ : لم أجده. وبعض الحديث المرفوع صحيح ، ورد في خبر مسند عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ، ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا ، وإن قال بغيره فإن عليه منه».

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٧.

(٢) سورة البقرة : ١٩٦.

(٣) سورة آل عمران : ١٠٦.

(٤) سورة الرعد : ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) سورة الرعد : ٣٤.

(٦) سورة النور : ٢٠.

(٧) البيت لامرئ القيس وهو في ديوانه ٢٤٢.


ومعنى الكلام : من قبل ما أتى به الرسول ، فإنما قبل : ما أمر الله به ، ومن تولّى ، أي : أعرض عن طاعته. وفي «الحفيظ» قولان : أحدهما : أنه الرّقيب ، قاله ابن عباس. والثاني : المحاسب ، قاله السّدّيّ ، وابن قتيبة.

فصل : قال المفسّرون : وهذا كان قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بآية السّيف.

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ).

(٣١٨) نزلت في المنافقين ، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأمنوا ، فإذا خرجوا ، خالفوا ، هذا قول ابن عباس. قال الفرّاء : والرّفع في «طاعة» على معنى : أمرك طاعة.

قوله تعالى : (بَيَّتَ طائِفَةٌ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة : بيّت ، بسكون «التاء» وإدغامها في «الطاء» ، ونصب الباقون «التاء» ، قال أبو عليّ : التاء والطاء والدال من حيز واحد ، فحسن الإدغام ، ومن بيّن ، فلانفصال الحرفين ، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة : والمعنى (فإذا برزوا من عندك) أي خرجوا ، (بيّت طائفة منهم غير الذي تقول) ، أي (١) قالوا ، وقدّروا ليلا غير ما أعطوك نهارا. قال الشاعر :

أتوني فلم أرض ما بيّتوا

وكانوا أتوني بشيء نكر (٢)

والعرب تقول : هذا أمر قد قدّر بليل ، [وفرغ منه بليل ، ومنه قول الحارث بن حلزة :

أجمعوا أمرهم عشاء فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء] (٣)

وقال بعضهم : بيّت ، بمعنى : بدّل ، وأنشد :

وبيّت قولي عند المليك

قاتلك الله عبدا كفورا (٤)

وفي قوله تعالى : (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) قولان : أحدهما : غير الذي تقول الطّائفة عندك ، وهو قول ابن عباس ، وابن قتيبة. والثاني : غير الذي تقول أنت يا محمّد ، وهو قول قتادة ، والسّدّيّ.

____________________________________

وهذا صحيح. أخرجه البخاري ٢٩٥٧ و ٧١٣٧ ومسلم ١٨٣٥ والنسائي ٧ / ١٥٤ وابن ماجة ٣ وابن حبان ٣٥٥٦ وعبد الرزاق ٢٠٦٧٩ وأحمد ٢ / ٣٤٢ و ٤١٦ من حديث أبي هريرة ، وليس فيه سبب نزول ولا قول المنافقين وقال الحافظ في «الفتح» ٢٩٥٧ : قوله : «من أطاعني فقد أطاع الله» : هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى : (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله).

(٣١٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٩٩٩١ عن العوفي عن ابن عباس وإسناده واه لأجل عطية بن سعد العوفي.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة من «غريب القرآن» : ١٣١.

(٢) البيت لعبيدة بن همام كما في «تفسير الطبري» ٤ / ١٨٠ والبيت الذي بعده يتممه :

لأنكح أيمهم منذرا

وهل ينكح العبد حرّ لحر؟!

وفي «اللسان» : النكر : الأمر المنكر الذي تنكره.

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة من غريب القرآن.

(٤) البيت للأسود بن عامر بن جوين الطائي كما في «تفسير القرطبي» ٥ / ٢٧٦ وفيه عبد المليك.


قوله تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يكتبه في الأعمال التي تثبّتها الملائكة ، قاله مقاتل في آخرين. والثاني : ينزله إليك في كتابه. والثالث : يحفظه عليهم ليجازوا به ، ذكر القولين الزجّاج. قال ابن عباس : فأعرض عنهم : فلا تعاقبهم ، وثق بالله عزوجل ، وكفى بالله ثقة لك. قال : ثم نسخ هذا الإعراض ، وأمر بقتالهم.

فإن قيل : ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة ، ثم قال : (بَيَّتَ طائِفَةٌ) ، والكلّ منافقون؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما أهل التفسير : أحدهما : أنه أخبر عمّن سهر ليله ، ودبّر أمره منهم دون غيره منهم. والثاني : أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنّه يرجع.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) قال الزجّاج : «التدبّر» : النّظر في عاقبة الشّيء. و «الدّبر» النّحل ، سمّي دبرا ، لأنه يعقب ما ينتفع به ، و «الدّبر» : المال الكثير ، سمي دبرا لكثرته ، لأنّه يبقى للأعقاب ، والأدبار. وقال ابن عباس : أفلا يتدبّرون القرآن ، فيتفكّرون فيه ، فيرون تصديق بعضه لبعض ، وأنّ أحدا من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة : والقرآن من قولك : ما قرأت النّاقة سلى (١) قط ، أي : ما ضمّت في رحمها ولدا ، وأنشد أبو عبيدة :

هجان اللّون لم تقرأ جنينا (٢)

وإنما سمّي قرآنا ، لأنه جمع السّور ، وضمّها.

قوله تعالى : (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه التّناقض ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، والجمهور. والثاني : الكذب ، قاله مقاتل ، والزجّاج. والثالث : أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام ، ومرذول ، إذ لا بدّ للكلام إذا طال من مرذول ، وليس في القرآن إلا بليغ ، ذكره الماورديّ في جماعة.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) في سبب نزولها قولان :

(٣١٩) أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما اعتزل نساءه ، دخل عمر المسجد ، فسمع الناس يقولون : طلّق

____________________________________

(٣١٩) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٧٩ عن ابن عباس عن عمر في أثناء خبر مطول ، وكرره لكن دون ذكر الآية.

ـ وسيأتي باستيفاء في سورة الأحزاب.

__________________

(١) في «اللسان» السلى : لفاقة الولد من الدواب والإبل.

(٢) هو عجز بيت لعمرو بن كلثوم كما في اللسان : (قرأ) ، وصدره : ذراعي عيطل أدماء بكر.

والعيطل : الناقة الطويلة العنق ، في حسن منظر وسمن. الأدماء : البيضاء مع سواد المقلتين. وهجان اللون : بيضاء كريمة.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، فدخل على النبيّ عليه‌السلام فسأله : أطلّقت نساءك؟ قال : «لا». فخرج فنادى : ألا إنّ رسول الله لم يطلّق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم ، من حديث ابن عباس ، عن عمر.

(٣٢٠) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بعث سريّة من السّرايا فغلبت أو غلبت ، تحدّثوا بذلك ، وأفشوه ، ولم يصبروا حتى يكون النبيّ هو المتحدّث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان : أحدهما : أنهم المنافقون. قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أهل النّفاق ، وضعفة المسلمين ، ذكره الزجّاج. وفي المراد بالأمن أربعة أقوال : أحدها : فوز السّريّة بالظّفر والغنيمة ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنه الخبر يأتي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ظاهر على قوم ، فيأمن منهم ، قاله الزجّاج. والثالث : أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الموادعة والأمان لقوم ، ذكره الماورديّ. والرابع : أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ مخرّجا من حديث عمر. وفي (الْخَوْفِ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه النّكبة التي تصيب السّريّة ، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني : أنه الخبر يأتي أنّ قوما يجمعون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخاف منهم ، قاله الزجّاج. والثالث : ما يعزم عليه النبيّ من الحرب والقتال ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (أَذاعُوا بِهِ) قال ابن قتيبة : أشاعوه. وقال ابن جرير : والهاء عائدة على الأمر. قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ) يعني : الأمر (إِلَى الرَّسُولِ) حتى يكون هو المخبر به (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وفيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم أبو بكر ، وعمر ، قاله عكرمة. والثالث : العلماء ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن جريج. والرابع : أمراء السّرايا ، قاله ابن زيد ، ومقاتل. وفي (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) قولان : أحدهما : أنهم الذين يتتبّعونه من المذيعين له ، قاله مجاهد. والثاني : أنّهم أولو الأمر ، قاله ابن زيد. و «الاستنباط» في اللغة : الاستخراج. قال الزجّاج : أصله من النّبط ، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، يقال من ذلك : قد أنبط فلان في غضراء ، أي : استنبط الماء من طين حرّ. والنّبط : سمّوا نبطا ، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض.

قال ابن جرير : ومعنى الآية : وإذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه ، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولّون الخبر عن ذلك ، فيصحّحوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلا ، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولي الأمر.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ). في المراد بالفضل أربعة أقوال : أحدها : أنه رسول الله. والثاني : الإسلام. والثالث : القرآن. والرابع : أولو الأمر. وفي الرّحمة أربعة أقوال : أحدها : أنها الوحي. والثاني : اللّطف. والثالث : النّعمة. والرابع : التّوفيق.

__________________

(٣٢٠) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.


قوله تعالى : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه راجع إلى الإذاعة ، فتقديره : أذاعوا به إلا قليلا. وهذا قول ابن عباس وابن زيد ، واختاره القرّاء وابن جرير. والثاني : أنه راجع إلى المستنبطين ، فتقديره : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ، وهذا قول الحسن وقتادة ، واختاره ابن قتيبة. فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير. والثالث : أنه راجع إلى اتّباع الشّيطان ، فتقديره : لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا منكم ، وهذا قول الضّحّاك ، واختاره الزجّاج. وقال بعض العلماء : المعنى : لو لا فضل الله بإرسال النبيّ إليكم ، لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله ، ويعرفون ضلال من يعبد غيره ، كقسّ بن ساعدة.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) سبب نزولها :

(٣٢١) أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ندب النّاس لموعد أبي سفيان ببدر الصّغرى بعد أحد ، كره بعضهم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

وفي «فاء» (فَقاتِلْ) قولان : أحدهما : أنه جواب قوله (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ). والثاني : أنها متّصلة بقوله (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكرهما ابن السّريّ. والمراد بسبيل الله : الجهاد.

قوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي : إلا المجاهدة بنفسك. و «حرّض» : بمعنى حضّض. قال الزجّاج : ومعنى (عَسَى) في اللغة : معنى الطّمع والإشفاق. والإطماع من الله واجب. و «البأس» : الشّدّة. وقال ابن عباس : والله أشدّ عذابا. قال قتادة : و «التّنكيل» : العقوبة.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥))

قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) ، في المراد بالشّفاعة أربعة أقوال : أحدها : أنها شفاعة الإنسان للإنسان ، ليجتلب له نفعا ، أو يخلّصه من بلاء ، وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة ، وابن زيد. والثاني : أنها الإصلاح بين اثنين ، قاله ابن السّائب. والثالث : أنه الدّعاء للمؤمنين والمؤمنات ، ذكره الماورديّ. والرابع : أن المعنى : من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمّد ، فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل الله ، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدّمشقيّ.

وفي الشّفاعة السّيئة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها السّعي بالنّميمة ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثاني : أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات ، وكانت اليهود تفعله ، ذكره الماورديّ. والثالث : أن المعنى : من يشفع وتر أهل الكفر ، فيقاتل المؤمنين ؛ قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.

____________________________________

(٣٢١) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهو من رواية الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.


قال الزجّاج : و «الكفل» في اللغة : النّصيب ، وأخذ من قولهم : اكتفلت البعير : إذا أدرت على سنامه ، أو على موضع من ظهره كساء ، وركبت عليه. وإنما قيل له : كفل ، لأنه لم يستعمل الظّهر كلّه ، وإنما استعمل نصيبا منه.

وفي المقيت» سبعة أقوال : أحدها : أنه المقتدر ، قال أحيحة بن الجلّاح :

وذي ضغن كففت النّفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا (١)

وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، وابن جرير ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والفرّاء ، وأبو عبيد ، وابن قتيبة ، والخطّابيّ. والثاني : أنه الحفيظ ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجّاج. وقال : هو بالحفيظ أشبه ، لأنه مشتق من القوت ، يقال : قتّ الرجل أقوته قوتا : إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت : اسم الشيء الذي يحفظ نفسه ، ولا فضل فيه على قدر الحفظ ، فمعنى المقيت : الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر :

ألي الفضل أم عليّ إذا حو

سبت إنّي على الحساب مقيت

والثالث : أنه الشّهيد ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ. والرابع : أنه الحسيب ، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس : الرّقيب ، رواه أبو شيبة عن عطاء. والسادس : الدّائم ، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير. والسابع : أنه معطي القوت ، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطّابيّ : المقيت يكون بمعنى معطي القوت ، قال الفرّاء : يقال : قاته وأقاته.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))

قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) في التّحيّة قولان : أحدهما : أنها السّلام ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : الدّعاء ، ذكره ابن جرير والماورديّ. فأما «أحسن منها» فهو الزّيادة عليها ، وردّها : قول مثلها. قال الحسن : إذا قال أخوك المسلم : السّلام عليكم ، فردّ السلام ، وزد : ورحمة الله. أو ردّ ما قال ولا تزد. وقال الضّحّاك : إذا قال : السّلام عليك ، قلت : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا قال : السلام عليك ورحمة الله ، قلت : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهذا منتهى السّلام. وقال قتادة : بأحسن منها للمسلم ، أو ردّوها على أهل الكتاب (٢).

__________________

(١) في «اللسان» الضغن : الحقد والعداوة.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٢٨٣ : واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها ، فروى ابن وهب عن مالك أن هذه الآية بتشميت العاطس والردّ على المشمّت. وهذا ضعيف. والرد على المشمّت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة : التحية هنا الهدية ، لقوله تعالى : (أَوْ رُدُّوها) والصحيح أن التحية هاهنا السلام وعلى هذا جماعة المفسرين. وأجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنّة مرغب فيها ، وردّه فريضة لقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا. فمذهب الشافعي ومالك إلى الإجزاء. واحتجوا بما رواه داود عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم» قال أبو عمر : حديث حسن لا معارض له. وقد ضعفه بعضهم وجعلوه حديثا منكرا.

واحتجوا أيضا بقوله عليه‌السلام : «يسلّم القليل على الكثير». وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم


(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال مقاتل : نزلت في الذين شكّوا في البعث. قال الزجّاج : واللام في «ليجمعنكم» لام القسم ، كقولك : والله ليجمعنّكم ، قال : وجائز أن تكون سمّيت القيامة ، لقيام الناس من قبورهم ، وجائز أن تكون ، لقيامهم للحساب.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنما وصف نفسه بهذا ، لأنّ جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ، ويستحيل في حقّه.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨))

__________________

قال : «يسلّم الراكب على الماشي وإذا سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم». قلت : هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد ، وفيه قلق. وقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) رد الأحسن أن يزيد فيقول : عليك السلام ورحمة الله ، لمن قال : سلام عليك. فإن قال : سلام عليك ورحمة الله زدت في ردّك : وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. فإن انتهى بالسلام غايته ، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وينبغي أن يكون السلام. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : إذا سلّمت على الواحد فقل : السلام عليكم ، فإن معه الملائكة ، وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع. والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق قال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

فإن ردّ فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرّما ولا مكروها. ومن السنة تسليم الراكب على الماشي ، والقائم على القاعد ، والقليل على الكثير. هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويسلّم الصغير على الكبير». وأما تسليم الكبير على الصغير قال أكثر العلماء : التسليم عليهم أفضل من تركه ، وفيه تدريب للصغير وحضّ على تعليم السّنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه ، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال : كنت أمشي مع ثابت فمرّ بصبيان فسلم عليهم ، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم ، وحدّث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات ـ المتجالة الهرمة المسنة ـ والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء.

ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا : لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن ردّ السّلام فلم يسلّم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال : كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم؟ قال : كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة ـ قال ابن مسلمة : نخل بالمدينة ـ فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلّم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله ، ولا كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن. ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي ، وعندنا تكفي إذا كان على بعد وأما الكافر فحكم الردّ عليه أن يقال له : وعليكم. وقال عطاء : الآية في المؤمنين خاصة ، ومن سلّم من غيرهم قيل له : عليك ، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم : «عليك» بغير واو وهي الرواية الواضحة ، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر ، وعليها من العلماء أكثر. ولا يسلّم على المصلي فإن سلّم عليه فهو بالخيار ، إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يردّ. ولا ينبغي أن يسلّم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه.


قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) في سبب نزولها سبعة أقوال (١) :

(٣٢٢) أحدها : أنّ قوما أسلموا ، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها ، فخرجوا فاستقبلهم نفر من المسلمين ، فقالوا : ما لكم خرجتم؟ قالوا : أصابنا وباء بالمدينة ، واجتويناها (٢) ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.

(٣٢٣) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا خرج إلى أحد ، رجع ناس ممّن خرج معه ، فافترق فيهم أصحاب رسول الله ، ففرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا نقتلهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا في «الصّحيحين» من قول زيد بن ثابت.

(٣٢٤) والثالث : أنّ قوما كانوا بمكّة تكلّموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين ، فخرجوا من مكّة لحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين : اخرجوا إليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم. وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلّموا بمثل ما تكلّمنا به؟ فنزلت هذه الآية ، رواه عطيّة عن ابن عباس.

(٣٢٥) والرابع : أنّ قوما قدموا المدينة ، فأظهروا الإسلام ، ثم رجعوا إلى مكّة ، فأظهروا الشّرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، ومجاهد.

(٣٢٦) والخامس : أن قوما أعلنوا الإيمان بمكّة وامتنعوا من الهجرة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فنزلت هذه الآية ، وهذا قول الضّحّاك.

____________________________________

(٣٢٢) ضعيف. أخرجه أحمد ١ / ١٩٢ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٢ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه بنحوه ، وإسناده منقطع ، أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا. وله علة ثانية ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعن. وورد بنحوه عن السدي مرسلا أخرجه الطبري ١٠٠٦٤ ، وهو ضعيف. والصواب في ذلك ما رواه الشيخان ، وهو الآتي.

(٣٢٣) صحيح. أخرجه البخاري ١٨٨٤ و ٤٠٥٠ و ٤٥٨٩ ومسلم ١٣٨٤ و ٢٧٧٦ والترمذي ٣٠٢٨ والنسائي في «التفسير» ١٣٣ وأحمد ٥ / ١٨٤ و ١٨٧ و ١٨٨ والطبري ١٠٠٥٥ والواحدي ٣٤١ عن زيد بن ثابت.

(٣٢٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٠ عن عطية ، عن ابن عباس ، وإسناده واه لأجل عطية العوفي.

(٣٢٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٥٨ عن مجاهد مرسلا ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٢ م عن مجاهد بدون إسناد ، وهو ضعيف لكونه مرسلا ، والصحيح ما رواه الشيخان.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٢ / ١٩٠ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣٢٦) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٣ عن الضحاك ، مرسلا.

__________________

(١) قال أبو جعفر رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٩٦ : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.

وفي قول الله تعالى ذكره : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا) أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما فلم يكن عليه فرض هجرة.

(٢) في «اللسان» اجتويت البلد : أي استوخموها. ولم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا : وهو مشتق من الجوى ، وهو داء في الجوف.


(٣٢٧) والسادس : أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة ، فلعلّنا نخرج فنتماثل ، فإنّا كنّا أصحاب بادية ، فانطلقوا ، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. هذا قول السّدّيّ.

(٣٢٨) والسابع : أنها نزلت في شأن ابن أبيّ حين تكلّم في عائشة بما تكلّم ، وهذا قول ابن زيد. وقوله تعالى : (فَما لَكُمْ) خطاب للمؤمنين. والمعنى : أيّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و «الفئة» : الفرقة. وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال : أحدها : ردّهم ، رواه عطاء ، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة : ركست الشيء ، وأركسته : لغتان ، أي : نكسهم وردّهم في كفرهم ، وهذا قول الفرّاء ، والزجّاج. والثاني : أوقعهم ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والثالث : أهلكهم ، قاله قتادة. والرابع : أضلّهم ، قاله السّدّيّ.

فأما الذي كسبوا ، فهو كفرهم ، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إنما قال : أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، لأن قوما من المؤمنين قالوا : إخواننا ، وتكلّموا بكلمتنا.

قوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) فيه قولان : أحدهما : إلى الحجّة ، قاله الزجّاج. والثاني : إلى الهدى ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩))

قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) أخبر الله عزوجل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطّائفة ، لئلّا يحسنوا الظنّ بهم ، ولا يجادلوا عنهم ، وليعتقدوا عداوتهم.

قوله تعالى : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أي : لا توالوهم فإنهم أعداء لكم (حَتَّى يُهاجِرُوا) أي : يرجعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : فإن تولّوا عن الهجرة والتّوحيد ، (فَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحلّ والحرم.

فصل : قال القاضي أبو يعلى : كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكّة (١). وقال الحسن : فرض

____________________________________

(٣٢٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٤ عن السدي مرسلا.

(٣٢٨) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٠٠٦٥ عن ابن زيد مرسلا ، وابن زيد متروك ، ليس بشيء.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ١٤٩ ـ ١٥٢ : الهجرة : هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) الآيات. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا بريء من مسلم بين مشركين ، لا تراءى ناراهما». وحكم الهجرة باق ، لا ينقطع إلى يوم القيامة. في قول عامة أهل العلم. وقال قوم : قد انقطعت الهجرة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا هجرة بعد الفتح» وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم ، قيل له : لا دين لمن لم يهاجر. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما جاء بك أبا وهب؟» قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر. قال «ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقرّوا على مساكنكم ، قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية».


الهجرة باق ، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب : أحدها : من تجب عليه ، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب ، خوفا على نفسه ، وهو قادر على الهجرة ، فتجب عليه لقوله (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١). والثاني : من لا تجب عليه بل تستحب له ، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب. والثالث : من لا تستحب له وهو الضّعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه ، ولا على الحركة كالشّيخ الفاني ، والزّمن ، فلم تستحب له للحوق المشقّة.

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) هذا الاستثناء راجع إلى القتل ، لا إلى الموالاة وفي «يصلون» قولان : أحدهما : أنه بمعنى يتّصلون ويلجئون.

(٣٢٩) قال ابن عباس : كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ، فلهم من الجوار مثل ما لهلال.

والثاني : أنه بمعنى ينتسبون ، قاله ابن قتيبة ، وأنشد.

إذا اتّصلت قالت أبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم

يريد : إذا انتسبت ، قالت : أبكرا ، أي : يا آل بكر.

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال : أحدها : أنهم بنو بكر بن زيد مناة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم هلال بن عويمر الأسلميّ ، وسراقة بن مالك ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، قاله عكرمة. والثالث : أنهم بنو مدلج ، قاله الحسن. والرابع : خزاعة وبنو مدلج ، قاله مقاتل. قال ابن عباس : «والميثاق» : العهد.

قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : أو يصلون إلى قوم جاءوكم ، قاله الزجّاج في جماعة. والثاني : أنه يعود إلى المطلوبين للقتل. فتقديره : أو رجعوا فدخلوا فيكم ، وهو بمعنى قول السّدّيّ. قوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن فيه إضمار «قد». والثاني : أنه خبر بعد خبر ، فقوله (جاؤُكُمْ) : خبر قد تمّ ، وحصرت : خبر مستأنف ، حكاهما

____________________________________

(٣٢٩) عزاه السيوطي في «أسباب النزول» ٣٢٨ لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

__________________

روى ذلك كله سعيد. ولنا ، ما روى معاوية ، قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها». رواه أبو داود. وأما الأحاديث الأول ، فأراد بها ، لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح. وقوله لصفوان : «إن الهجرة قد انقطعت». يعني من مكة ، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ، فإذا فتح لم يبق بلدا لكفار ، فلا تبقى منه هجرة. وإذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب ـ وذكر الأوجه الثلاثة.

(١) سورة النساء : ٩٧.


الزجّاج. وقرأ الحسن ويعقوب والمفضّل ، عن عاصم : «حصرة صدورهم» على الحال. و «حصرت» : ضاقت ، ومعنى الكلام : ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم ، أو يقاتلوا قومهم ، يعني قريشا. قال مجاهد : هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم ، أو يقاتل قومه. قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) قال الزجّاج : أخبر أنه إنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم. وفي (السَّلَمَ) قولان : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله الحسن. والثاني : الصّلح ، قاله الرّبيع ، ومقاتل.

فصل : قال جماعة من المفسّرين : معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السّيف. قال القاضي أبو يعلى : لمّا أعزّ الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلّا الإسلام أو السّيف (١).

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(٣٣٠) أحدها : أنّها نزلت في أسد وغطفان ، كانوا قد تكلّموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ، ويأمنوا قومهم بكفرهم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

والثاني : أنّها نزلت في بني عبد الدّار ، رواه الضّحّاك ، عن ابن عباس.

(٣٣١) والثالث : أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، قاله قتادة.

(٣٣٢) والرابع : أنّها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ ، كان يأمن في المسلمين والمشركين ،

____________________________________

(٣٣٠) ضعيف جدا ، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي متروك متهم ، وأبو صالح روى عن ابن عباس مناكير.

(٣٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٨٧ عن قتادة مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٤٣ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣٣٢) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٨٨ عن السدي مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٤٣ وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

__________________

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨ : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني ، أو مجوسي ، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه. لأن الله تعالى أمر بقتالهم لهم حتى يعطوا الجزية ، أي يلتزموا أداءها ، فما لم يوجد ذلك ، يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم ، ومن سواهم ، فالإسلام أو القتل. هذا ظاهر مذهب أحمد. وروى عنه الحسن بن ثواب ، أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. لتغلظ كفرهم من وجهين ؛ دينهم وكونهم من رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو حنيفة : تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يقرّون على غير دينه. وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، وعن مالك : تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش ، لأنهم ارتدّوا.


فينقل الحديث بين النبيّ عليه‌السلام وبينهم ، ثم أسلم نعيم ، هذا قول السّدّيّ.

ومعنى الآية : ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ، ليأمنوا الفريقين ، كلما دعوا إلى الشّرك ، عادوا فيه ، فإن لم يعتزلوكم في القتال ، ويلقوا إليكم الصّلح ، ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، فخذوهم ، أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث أدركتموهم ، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجّة بيّنة في قتلهم.

فصل : قال أهل التفسير : والكفّ عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السّيف.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) في سبب نزولها قولان :

(٣٣٣) أحدهما : أنّ عيّاش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ خاف أن يظهر إسلامه لقومه ، فخرج إلى المدينة فقالت أمّه لابنيها أبي جهل ، والحارث ابني هشام ، وهما أخواه لأمّه : والله لا يظلّني سقف ، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه ، ومعهما الحارث بن زيد ، حتى أتوا عيّاشا وهو متحصّن في أطم (١) ، فقالوا له : انزل فإنّ أمّك لم يؤوها سقف ، ولم تذق طعاما ، ولا شرابا ، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك ، فنزل ، فأوثقوه ، وجلده كلّ واحد منهم مائة جلدة ، فقدموا به على أمّه ، فقالت : والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر ، فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا ، فقال له الحارث بن زيد : يا عيّاش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته ، وإن كان ضلالا لقد ركبته فغضب ، وقال : والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك ، ثم أفلت عيّاش بعد ذلك ؛ وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ثم أسلم الحارث بعده وهاجر ، ولم يعلم عيّاش ، فلقيه يوما فقتله ، فقيل له : إنه قد أسلم ، فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما كان ، وقال : لم أشعر بإسلامه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير ، والسّدّيّ ، والجمهور.

(٣٣٤) والثاني : أنّ أبا الدّرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السّرايا ، ثم أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

____________________________________

(٣٣٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر ٣٤٣ عن الكلبي بدون إسناد ، وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، وورد بمعناه ، أخرجه الطبري ١٠٠٩٨ عن السدي مرسلا و ١٠٠٩٧ عن عكرمة مرسلا و ١٠٠٩٥ و ١٠٠٩٦ عن مجاهد مرسلا. وورد مختصرا عند الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٣ والبيهقي ٨ / ٧٢ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، وهذا مرسل ، ولعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.

(٣٣٤) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٠٠٩٩ عن ابن زيد وهو معضل ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد ضعيف الحديث ليس بشيء إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟! وقد صح ذلك في أسامة بن زيد. انظر «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٤٧ بتخريجنا.

__________________

(١) الأطم : الحصن ، كما في الصحاح.


فذكر له ما صنع ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد.

قال الزجّاج : معنى الآية : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتّة. والاستثناء ليس من الأوّل ، وإنما المعنى : إلا أن يخطئ المؤمن. روى أبو عبيدة ، عن يونس : أنه سأل رؤبة عن هذه الآية ، فقال : ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ (١) ، ولكنّه أقام «إلا» مقام «الواو» قال الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

أراد : والفرقدان. وقال بعض أهل المعاني : تقدير الآية : لكن قد يقتله خطأ ، وليس ذلك فيما جعل الله له ، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة ، ولا النّهي. وقيل : إنما وقع الاستثناء على ما تضمّنته الآية من استحقاق الإثم ، وإيجاب القتل.

قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قال سعيد بن جبير : عتق الرّقبة واجب على القاتل في ماله ، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصّلاة والصّيام ، فروي عن أحمد جوازه ، وكذلك روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهذا قول عطاء ، ومجاهد. وروي عن أحمد : لا يجزئ إلا من صام وصلّى ، وهو قول ابن عباس في رواية ، والحسن ، والشّعبيّ ، وإبراهيم ، وقتادة. قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) قال القاضي أبو يعلى : ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدّية ، واتّفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين ، كلّ سنة ثلثها ، والعاقلة : العصبات من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شيء. وقال أبو حنيفة : هو كواحد من العاقلة (٣). وللنّفس ستة أبدال : من الذّهب ألف دينار ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقرة مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل روايتان عن أحمد. إحداهما : أنها أصل ، فتكون مائتا حلّة. فهذه دية الذّكر الحرّ المسلم ، ودية الحرّة المسلمة على النّصف من ذلك (٤). قوله

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٠٦ : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله عرّف عباده بهذه الآية على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله ، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان ، فالذي عنى الله تعالى بالآية : تعريف عباده ما ذكرناه ، وقد عرف من عقل عنه من عباده تنزيله ، وغير ضائرهم جهلهم بما نزلت فيه.

(٢) البيت لعمرو بن معديكرب كما في «الكامل» ٣ / ١٢٤٠ ، وفي «اللسان» الفرقدان : نجمان في السماء لا يغربان ، ولكنهما يطوفان بالجدي.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في المغني ١٢ / ٢١ : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة. قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع يديه وقال : «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، قال ابن إسحاق : وبعث عليا ، فودى قتلاهم ، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. وهذا يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.

(٤) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٦ ـ ١٢ : أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية ، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل. وهنا إحدى الروايتين عن أحمد ، رحمه‌الله. وقال القاضي : لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل ، والذهب ، والورق ، والبقر ، والغنم ، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها.


تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) قال سعيد بن جبير : إلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدّية على القاتل.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : وإن كان المقتول خطأ من قوم كفّار ، ففيه تحرير رقبة من غير دية ، لأنّ أهل ميراثه كفّار. والثاني : وإن كان مقيما بين قومه ، فقتله من لا يعلم بإيمانه ، فعليه تحرير رقبة ولا دية ، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفّار ، والقولان مرويّان عن ابن عباس ، وبالأول قال النّخعيّ ، وبالثاني سعيد بن جبير. وعلى الأول تكون «من» للتبعيض ، وعلى الثاني تكون بمعنى في.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الرجل من أهل الذّمّة يقتل خطأ ، فيجب على قاتله الدّية ، والكفّارة ، هذا قول ابن عباس ، والشّعبيّ ، وقتادة ، والزّهريّ. ولأبي حنيفة ، والشّافعيّ ، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدّية (١). والثاني : أنه المؤمن يقتل ، وقومه مشركون ، ولهم عقد ، فديته لقومه ، وميراثه للمسلمين ، هذا قول النّخعيّ.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) اختلفوا هل هذا الصّيام بدل من الرّقبة وحدها إذا عدمها ، أو بدل من الرّقبة والدّية؟ فقال الجمهور : عن الرّقبة وحدها ، وقال مسروق ، ومجاهد ، وابن سيرين : عنهما. واتّفق العلماء على أنه إذا تخلّل صوم الشهرين إفطار لغير عذر ، فعليه الابتداء ، فأمّا إذا تخلّلها المرض ، أو الحيض ، فعندنا لا ينقطع التّتابع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة : المرض يقطع! والحيض لا يقطع ، وفرّق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ، ولا يمكن ذلك في الحيض ، وعندنا أنها معذورة في الموضعين (٢).

__________________

ولنا ، قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن في قتيل عمد الخطأ ، قتيل السوط والعصا ، مائة من الإبل» ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها ، وخفف بعضها ، ولا يتحقق هذا في غير الإبل ، ولأنه بدل متلف حقا لآدمي ، فكان متعينا ، كعوض الأموال. فإن قلنا : هي خمسة أصول ، فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن البقر والحلل مائتان ، ومن الشاة ألفان ، ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ، ولا من سائرها ، إلا الورق. فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا : قدرها عشرة آلاف من الورق. وعلى هذا ، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول ، لزم الولي أخذه ، ولم يكن له المطالبة بغيره ، لأنها أصول في قضاء الواجب ، يجزئ واحد منها.

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٥١ ـ ٥٤ : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ، ونساؤهم ، على النصف من دياتهم. هذا ظاهر المذهب ، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك. وعن أحمد ، أنها ثلث دية المسلم. إلا أنه رجع عنها ، فإن صالحا روى عنه أنه قال : كنت أقول : إن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم ، وهذا صريح في الرجوع عنه.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١١ / ٨٨ ـ ٩٠ : فإن أفطر فيهما من عذر بنى ، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في الكفّارة ، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ، ثم قطعه لغير عذر ، وأفطر ، أن عليه استئناف الشهرين ، وإنما كان ذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به ، ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها ، فلا يفطر فيهما. ولم يفتقر التتابع إلى نية كالمتابعة بين الركعات ، وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا ، إذا حاضت قبل إتمامه ، تقضي إذا طهرت ، وتبني ، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس ، وفيه تغرير بالصوم ، والنفاس كالحيض ، في أنه لا يقطع التتابع ، في أحد الوجهين ، لأنه بمنزلة في أحكامه ، ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما ، والوجه الثاني : أن


قوله تعالى : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) قال الزجّاج : معناه : فعل الله ذلك توبة منه. قوله : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي : لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التّكليف (حَكِيماً) فيما يقضي بينهم ، ويدبّره في أمورهم.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً).

(٣٣٥) سبب نزولها : أنّ مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النّجّار ، وكان مسلما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من بني فهر ، فقال له : ايت بني النّجّار ، فأقرئهم مني السّلام ، وقل لهم : إنّ رسول الله يأمركم إن علمتم قاتل هشام ، فادفعوه إلى مقيس ، وإن لم تعلموا له قاتلا ، فادفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهريّ ذلك ، فقالوا : والله ما نعلم له قاتلا ، ولكنّا نعطي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة ، فأتى الشّيطان مقيس بن صبابة ، فقال : تقبل دية أخيك ، فيكون عليك سبّة ما بقيت. أقتل الذي معك مكان أخيك ، وأفضل بالدّية ، فرمى الفهريّ بصخرة ، فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيرا منها ، وساق بقيّتها راجعا إلى مكّة ، وهو يقول :

قتلت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بني النّجّار أرباب فارع

وأدركت ثأري واضطجعت موسّدا

وكنت إلى الأصنام أوّل راجع (١)

فنزلت هذه الآية ، ثم أهدر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه يوم الفتح ، فقتل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

وفي قوله تعالى : (مُتَعَمِّداً) قولان : أحدهما : متعمّدا لأجل أنه مؤمن ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : متعمّدا لقتله ، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قولان : أحدهما : أنها جزاؤه قطعا. والثاني : أنّها جزاؤه إن جازاه. واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمّدا توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أنّ له توبة ، وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له.

فصل : اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم : هي محكمة ،

____________________________________

(٣٣٥) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٤ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد. وهذا إسناد ساقط مع كونه معلقا ، الكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري ١٠٩١ مختصرا عن عكرمة مرسلا.

__________________

النفاس يقطع التتابع ، لأنه فطر أمكن التحرز منه ، لا يتكرر كل عام ، ولا يصح قياسه على الحيض ، لأنه أندر منه ، ويمكن التحرز عنه. وإن أفطر لمرض مخوّف ، لم ينقطع التتابع أيضا. وبه قال مالك ، والشافعي في القديم وقال في الجديد : ينقطع التتابع ، لأنه أفطر اختيارا ، فانقطع التتابع. وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر ، أو قطع التتابع بصوم نذر ، أو قضاء ، أو تطوّع لزمه استئناف الشهرين ، لأنه أخلّ بالتتابع المشترط ، ويقع صومه عمّا نواه.

(١) في «اللسان» العقل في كلام العرب : الدية. سراة : اسم للجمع ، والسّري : الرفيع في كلام العرب من سرا : السّرو : المروءة والشرف. الفارع : يقال فلان فارع : مرتفع طويل.


واحتجّوا بأنّها خبر ، والأخبار لا تحتمل النّسخ ، ثم افترق هؤلاء فرقتين ، إحداهما قالت : هي على ظاهرها ، وقاتل المؤمن مخلّد في النار ، والفرقة الثانية قالت : هي عامّة قد دخلها التّخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ، ثم أسلم الكافر ، انهدرت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص ، فأيّ دليل صلح للتّخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التّخصيص أن يكون قتله مستحلّا ، فيستحقّ الخلود لاستحلاله. وقال قوم : هي مخصوصة في حقّ من لم يتب ، واستدلّوا بقوله تعالى في «الفرقان» : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١). وقال آخرون : هي منسوخة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧٠.

(٢) سورة النساء : ٤٨. قال الشوكاني رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٧٦ : وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيه علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب : إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور : إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان ، فيكون معناهما : جزاؤه جهنم إلا من تاب ، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو القتل ـ والموجب ، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا : بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره : في الذي قتل مائة نفس ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي : إلى أن القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق : أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا ، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد ، من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٥٠ : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.

واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٣٣٦) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود ، فلمّا أتوا القوم ، وجدوهم قد تفرّقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فأهوى إليه المقداد بن الأسود فقتله. فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله؟! لأذكرنّ ذلك للنبي. فلما قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له : يا رسول الله إنّ رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال : ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد أقتلت رجلا قال : لا إله إلا الله ، فكيف لك ب «لا إله إلا الله غدا»! فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٣٣٧) والثاني : أنّ رجلا من بني سليم مرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه غنم ، فسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّم عليكم إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة ، عن ابن عباس.

(٣٣٨) والثالث : أنّ قوما من أهل مكّة سمعوا بسريّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها تريدهم فهربوا ، وأقام

____________________________________

(٣٣٦) حسن ، أخرجه البزار ٢٢٠٢ والطبراني في «الكبير» ١٢٣٧٩ وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٨ : رواه البزار ، وإسناده جيد. ويمكن الجمع بين هذا وما بعده بتعدد الحادثة ، والله أعلم.

(٣٣٧) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠٣٠ وأحمد ١ / ٢٢٩ و ٢٧٢ و ٣٢٤ والطبري ١٠٢٢٢ والطبراني ١١٧٣١ والحاكم ٢ / ٢٣٥ والبيهقي ٩ / ١١٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٦ من طرق عن عكرمة به. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حديث حسن اه. وأخرجه البخاري ٤٥٩١ ومسلم ٣٠٢٥ وأبو داود ٣٩٧٤ ، والطبري ١٠٢١٩ و ١٠٢٢٠ و ١٠٢٢١ والواحدي ٣٤٥ والبيهقي ٩ / ١١٥ من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس بنحوه.

(٣٣٨) ضعيف جدا بهذا اللفظ ، قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٥٢ : أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متهم بالكذب ، وخصوصا في روايته عن أبي صالح. وأخرجه الطبري ١٠٢٢٦ من رواية أسباط عن السدي مرسلا وليس فيه استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة ، وقوله : «أعتق رقبة».

ـ وأصل الخبر في الصحيحين البخاري ٤٢٦٩ ومسلم ٩٦ من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله فكفّ الأنصاري ، فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أسامة أقتلته

__________________

في العمد أولى وأصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبا لنا قد أوجب قال : «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار». والله أعلم.


رجل منهم كان قد أسلم ، يقال له : مرداس ، وكان على السّريّة رجل ، يقال له : غالب بن فضالة ، فلما رأى مرداس الخيل ، كبّر ، ونزل إليهم ، فسلّم عليهم ، فقتله أسامة بن زيد ، واستاق غنمه ، ورجعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّيّ : كان أسامة أمير السّريّة.

(٣٣٩) والرابع : أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلميّ ، وأبا قتادة ، ومحلّم بن جثّامة في سريّة إلى إضم (١) ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعيّ ، فحيّاهم بتحيّة الإسلام ، فحمل عليه محلّم بن جثّامة ، فقتله ، وسلبه بعيرا وسقاء. فلما قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبروه ، فقال : أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد ، عن أبيه.

فأما التفسير ، فقوله تعالى : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : سرتم وغزوتم. وقوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : (فَتَبَيَّنُوا) بالنون من التّبيين للأمر قبل الإقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائيّ وخلف «فتثّبتوا» بالثاء من الثّبات وترك الاستعجال ، وكذلك قرءوا في «الحجرات».

قوله تعالى : (لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص ، عن عاصم ، والكسائيّ : «السّلام» بالألف مع فتح السين. قال الزجّاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، وجبلة عن المفضّل عن عاصم : «السّلم» بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. و «السّلم» : الصّلح. وقرأ الجمهور : لست مؤمنا ، بكسر الميم ، وقرأ عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر : بفتح الميم من الأمان.

قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) و «عرضها» : ما فيها من مال ، قلّ أو كثر. قال المفسرون : والمراد به : ما غنموه من الرجل الذي قتلوه.

قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه ثواب الجنة ، قاله مقاتل. والثاني : أنها أبواب الرّزق في الدنيا ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة ، فلا تخيفوا من قالها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني :

____________________________________

بعد ما قال : لا إله إلا الله؟ قلت : كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» فهذا الذي صح في ذلك ، فعليك به ، والله الموفق.

(٣٣٩) حسن ، أخرجه أحمد ٦ / ١١ والطبري ٥ / ١٤٠ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ٣٠٥ والواحدي ٣٤٩ من حديث أبي حدرد عن أبيه ، وإسناده حسن. وانظر «تفسير الشوكاني» ٦٩٢ بتخريجنا.

__________________

(١) إضم : ماء بين مكة واليمامة عند السمينة ، وقيل : واد بجبال تهامة. وقال ابن السكيت : إضم واد يشق الحجاز حتى يفرع في البحر ـ انظر معجم البلدان ١ / ٢١٥.


كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكّة كما كان هذا يخفي إيمانه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث : كذلك كنتم من قبل مشركين ، قاله مسروق وقتادة وابن زيد.

قوله تعالى : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) في الذي منّ به أربعة أقوال : أحدها : الهجرة ، قاله ابن عباس. والثاني : إعلان الإيمان ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : الإسلام ، قاله قتادة ، ومسروق. والرابع : التّوبة على الذي قتل ذلك الرجل ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) تأكيد للأول.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥))

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود.

(٣٤٠) وقال زيد بن ثابت : إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ غشيته السّكينة ، ثم سرّي عنه ، فقال : «اكتب» (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ...) الآية ، فقام ابن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السّكينة ، ثم سرّي عنه ، فقال : اقرأ ، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فألحقتها.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) يعني عن الجهاد ، والمعنى : أنّ المجاهدين أفضل. قال ابن عباس : وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل : غزاة تبوك.

قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : «غير» برفع الرّاء ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وخلف ، والمفضّل : بنصبها. قال أبو عليّ : من رفع الراء ، جعل «غير» صفة للقاعدين ، ومن نصبها ، جعلها استثناء من القاعدين (١). وفي «الضّرر» قولان:

____________________________________

(٣٤٠) صحيح. أخرجه البخاري ٢٨٣٢ و ٤٥٩٢ والترمذي ٣٠٣٣ والنسائي ٦ / ٩ و ١٠ وأحمد ٥ / ١٨٤ وابن حبان ٤٧١٣ والطبري ١٠٢٤٤ وابن الجارود ١٠٣٤ والطبراني ٤٨١٤ و ٤٨١٥ و ٤٨٩٩ وأبو نعيم في «الدلائل» ١٧٥ كلهم عن سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد ، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره ...

ـ وورد بنحوه من حديث الفلتان بن عاصم أخرجه ابن حبان ٤٧١٢ والطبراني ١٨ / ٨٥٦ والبزار ٢٢٠٣ وأبو يعلى ١٥٨٣. وقال الهيثمي في «المجمع» ٩٤٤٤ : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

ويشهد له أيضا حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري ٤٥٩٣ و ٤٥٩٤ ومسلم ١٨٩٨ والترمذي ١٦٧٠ والنسائي ٦ / ١٠ والطبري ١٠٢٣٨ ـ ١٠٢٤٢ والبيهقي ٩ / ٢٣. وحديث زيد بن أرقم أخرجه الطبري ١٠٢٤٣ والطبراني ٥٠٥٣ وفي الباب أحاديث ، فهو حديث مشهور.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٦ ـ ١٠ : والجهاد فرض على الكفاية ، إذا قام به قوم سقط عن


أحدهما : أنه العجز بالزّمانة والمرض ، ونحوهما. قال ابن عباس : هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير ، وابن قتيبة : هم أولو الزّمانة. وقال الزجّاج : الضّرر : أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا. والثاني : أنه العذر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) في هؤلاء القاعدين قولان : أحدهما : أنهم القاعدون بالضّرر ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن جرير : والدّرجة : الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) قال ابن عباس : القاعدون هاهنا : غير أولي الضّرر ، وقال سعيد بن جبير : هم الذين لا عذر لهم.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) قال الزجّاج : درجات ، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) ، وهو مفسّر للأجر. وفي المراد بالدّرجات قولان (١) : أحدهما : أنها درجات الجنة ، قال ابن محيريز : الدّرجات : سبعون درجة ما بين كلّ درجتين حضر الفرس الجواد المضمّر (٢) سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب مقاتل. والثاني : أن معنى الدّرجات : الفضائل ، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة : كان

__________________

الباقين ، في قول عامة أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب ، أنه من فروض الأعيان ، لقول الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) التوبة : ٤١ ـ ثم قال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). وروى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من النفاق». رواه أبو داود. ولنا ، قول الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) الآية. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم ، وقال الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا) ، ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث السرايا ، ويقيم هو وسائر أصحابه. وأما الآية التي احتجوا بها ، فقد قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) رواه الأثرم وأبو داود. ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غزوة تبوك ، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ، ولذلك هجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلّفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك ، وكذلك يجب على من استنفره الإمام ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم ، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك ، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.

(١) قال الإمام القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٣٢٧ : قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وقد قال بعد هذا : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل : إن معنى درجة علوّ ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.

(٢) في «اللسان» الحضر : ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل : علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم تردّه إلى القوت ، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى المضمار.


يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن زيد : الدّرجات : هي السّبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ...) إلى قوله : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ...) (١). فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة ، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن الدّرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضّرر منزلة ، والدّرجات : تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضّرر منازل كثيرة ، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني : أن الدّرجة الأولى درجة المدح والتّعظيم ، والدّرجات : منازل الجنة ، ذكره القاضي أبو يعلى.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٤١) أحدها : أن أناسا كانوا بمكّة قد أقرّوا بالإسلام ، فلمّا خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم ، فقتل أولئك الذين أقرّوا بالإسلام ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٣٤٢) وقال قتادة : نزلت في أناس تكلّموا بالإسلام ، فخرجوا مع أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، واعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم.

(٣٤٣) والثاني : أن قوما نافقوا يوم بدر ، وارتابوا ، وقالوا : غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا ، فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٣٤٤) والثالث : أنها نزلت في قوم تخلّفوا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ ، ضربت الملائكة وجهه ودبره ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

وفي «التّوفّي» قولان : أحدهما : أنه قبض الأرواح بالموت ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : الحشر إلى النار ، قاله الحسن. قال مقاتل : والمراد بالملائكة ملك الموت وحده. وقال في موضع

____________________________________

(٣٤١) صحيح. أخرجه الطبري ١٠٢٦٥ من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بأتم منه. وورد من وجه آخر عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية. لفظ البخاري. أخرجه البخاري ٤٥٩٦ والنسائي في «الكبرى» ١١١٩ والطبري ١٠٢٦٦ و ١٠٢٦٧ والواحدي ٣٥٦ وانظر تفسير القرطبي بتخريجنا.

(٣٤٢) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٧٢ عن قتادة مرسلا ، وهو شاهد لما قبله.

(٣٤٣) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس.

(٣٤٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٢٦٨ برواية العوفي عن ابن عباس ، والعوفي وهو محمد بن سعد واه ، والصواب ما تقدم عن ابن عباس برواية البخاري.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٠ ـ ١٢١.


آخر : ملك الموت وأعوانه ، وهم ستة ، ثلاثة يلون أرواح المؤمنين ، وثلاثة يلون أرواح الكفّار. قال الزجّاج : «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال ، والمعنى : تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم ، والأصل. ظالمين ، لأن النون حذفت استخفافا. فأمّا ظلمهم لأنفسهم ، فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال : أحدها : أنه ترك الهجرة. والثاني : رجوعهم إلى الكفر. والثالث : الشّكّ بعد اليقين. والرابع : إعانة المشركين.

قوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ) قال الزجّاج : هو سؤال توبيخ ، والمعنى : كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل : كنا مقهورين في أرض مكّة ، لا نستطيع أن نذكر الإيمان ، قالت الملائكة : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) يعني المدينة (فَتُهاجِرُوا فِيها) يعني : إليها. وقول الملائكة لهم يدلّ على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.

(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ).

(٣٤٥) سبب نزولها : أنّ المسلمين قالوا في حقّ المستضعفين من المسلمين بمكّة : هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر ، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد.

قال الزجّاج : «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ). قال أبو سليمان : «المستضعفون» : ذوو الأسنان ، والنّساء ، والصّبيان.

قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي : لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكّة ، ولا على نفقة ، ولا قوّة. وفي قوله تعالى : (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) قولان : أحدهما : أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد. والثاني : أنهم لا يعرفون طريقا يتوجّهون إليه ، فإن خرجوا هلكوا ، قاله ابن زيد. وفي (عَسَى) قولان : أحدهما : أنها بمعنى الإيجاب ، قاله الحسن. والثاني : أنها بمعنى التّرجّي ، فالمعنى : أنهم يرجون العفو ، قاله الزجّاج.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

قوله تعالى : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً) قال سعيد بن جبير ، ومجاهد : متزحزحا عمّا يكره. وقال ابن قتيبة : المراغم والمهاجر : واحد ، يقال : راغمت وهاجرت ، وأصله : أن الرجل كان إذا أسلم ، خرج عن قومه ، مراغما ، أي : مغاضبا لهم ، ومهاجرا ، أي : مقاطعا من الهجران ، فقيل للمذهب : مراغم ، وللمصير إلى النبيّ عليه‌السلام هجرة ، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.

وفي السّعة قولان : أحدهما : أنها السّعة في الرّزق ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : التّمكّن

____________________________________

(٣٤٥) مرسل ، أخرجه الطبري ١٠٢٨١ عن مجاهد مرسلا ، وهو يتأيد بما تقدم عن ابن عباس.


من إظهار الدّين ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) اتّفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، واختلفوا فيه على ستة أقوال :

(٣٤٦) أحدها : أنه ضمرة بن العيص ، وكان ضريرا موسرا ، فقال : احملوني فحمل ، وهو مريض ، فمات عند التّنعيم ، فنزل فيه هذا الكلام ، رواه سعيد بن جبير.

(٣٤٧) والثاني : أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعيّ ، أمر أهله أن يحملوه على سريره ، فلمّا بلغ التّنعيم ، مات ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.

(٣٤٨) والثالث : أنه ابن ضمرة الجندعيّ ، مرض فقال لبنيه : أخرجوني من مكّة ، فقد قتلني غمّها ، فقالوا : أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فمات في الطريق ، فنزل فيه هذا ، ذكره ابن إسحاق. وقال مقاتل : هو جندب بن ضمرة.

(٣٤٩) والرابع : أن اسمه سبرة ، فلما نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) إلى قوله : (مُراغَماً كَثِيراً) قال لأهله وهو مريض : احملوني ، فإني موسر ، ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة ، فلما جاوز الحرم ، مات فنزل فيه هذا ، قاله قتادة.

(٣٥٠) والخامس : أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه ، فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا أقام في أهله حتى يدفن ، فنزل فيه هذا ، قاله ابن زيد.

(٣٥١) والسادس : أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام ، خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، ذكره الزّبير بن بكّار. وقوله تعالى : (وَقَعَ) معناه وجب.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

____________________________________

(٣٤٦) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٨٧ عن سعيد بن جبير ، مرسلا.

(٣٤٧) هو مرسل كسابقه.

(٣٤٨) علقه الواحدي في «أسباب النزول» ٣٥٧ عن ابن عباس من رواية عطاء. وورد مختصرا من حديث ابن عباس ، أخرجه أبو يعلى ٢٦٧٩ والطبراني في «الكبير» ١١٧٠٩ وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي ، وأشعث بن سوّار وكلاهما ضعيف. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» ١ / ٢٥١.

(٣٤٩) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٩١ عن قتادة مرسلا دون ذكر اسم الصحابي وإنما ذكر رجلا من المسلمين.

ـ الخلاصة : هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والاضطراب فقط في تعيين الرجل وأما أصل الخبر فصحيح.

(٣٥٠) ضعيف. أخرجه الطبري عن ابن زيد ، وهذا معضل.

(٣٥١) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٥٦ من حديث الزبير بن العوام ، وله قصة.

ـ وقال الحافظ ابن كثير : وهذا الأثر غريب جدا ، فإن القصّة مكية ، ونزول هذه الآية مدني.

ـ قلت : فيه عبد الرحمن بن عبد الملك ، وهو لين الحديث ، وفيه المنذر بن عبد الله الحزامي ، وهو مجهول.


(٣٥٢) روى مجاهد عن أبي عيّاش الزّرقيّ قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان (١) ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، قال : فصلّينا الظّهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرّة ، لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظّهر والعصر.

والضّرب في الأرض : السّفر ، والجناح : الإثم ، والقصر : النّقص ، والفتنة : القتل.

وفي القصر قولان : أحدهما : أنه القصر من عدد الركعات. والثاني : أنه القصر من حدودها. وظاهر الآية يدلّ على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر كذلك ، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدوّ. وقيل : إن قوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) كلام تام. وقوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) كلام مبتدأ ، ومعناه : وإن خفتم.

واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم : ليست مقصورة ، وإنما فرض المسافر ذلك ، وهو قول ابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، والسّدّيّ ، وأبي حنيفة ، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ، ولا يجوز ذلك إلا بوجود السّفر والخوف ، لأن عند هؤلاء أن الرّكعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر.

(٣٥٣) واحتجّوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بذي قرد (٢) ، فصفّ الناس خلفه صفّين ، صفّا خلفه ، وصفّا موازي العدوّ ، فصلّى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء ، إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة ، ولم يقضوا.

(٣٥٤) وعن ابن عباس أنه قال : فرض الله الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا ، وفي السّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة.

والثاني : أنها مقصورة ، وليست بأصل ، وهو قول مجاهد وطاوس ، وأحمد ، والشّافعيّ.

(٣٥٥) قال يعلى بن أميّة : قلت لعمر بن الخطّاب : عجبت من قصر الناس اليوم ، وقد أمنوا وإنما

____________________________________

(٣٥٢) جيد. أخرجه أبو داود ١٢٣٦ والنسائي ٣ / ١٧٦ و ١٧٧ و ١٧٨ وابن أبي شيبة ٢ / ٤٦٥ والطيالسي ١٣٤٧ وأحمد ٤ / ٥٩ و ٦٠ والدارقطني ٢ / ٥٩ و ٦٠ وابن حبان ٢٨٧٥ و ٢٨٧٦ والطبري ١٠٣٨٣ والحاكم ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٥٩ والبيهقي ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ والبغوي في «شرح السنة» ١٠٩١ من طرق عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش مطولا. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الدارقطني : صحيح. وكذا قال البيهقي ، وجوده الحافظ في الإصابة ٤ / ١٤٣.

(٣٥٣) صحيح. أخرجه النسائي ٣ / ١٦٩ وأحمد ١ / ٢٣٢ والحاكم ١ / ٣٣٥ وابن حبان ٢٨٧١ والطبري ١٠٣٣٩ و ١٠٣٤٠ والطحاوي ١ / ٣٠٩ والبيهقي ٣ / ٢٦٢. وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي! وإنما هو على شرط مسلم فقط ، لأن أبا بكر بن أبي الجهم لم يخرج له البخاري.

(٣٥٤) صحيح. أخرجه مسلم ٦٨٧ وأبو داود ١٢٤٧ والنسائي ٣ / ١٦٨ ـ ١٦٩ وابن ماجة ١٠٦٨ وابن خزيمة ٩٤٣ وأبو يعلى ٢٣٤٦ وأحمد ١ / ٢٣٧ و ٢٥٤ من حديث ابن عباس.

(٣٥٥) صحيح. أخرجه مسلم ٦٨٦ وأبو داود ١١٩٩ و ١٢٠٠ والترمذي ٣٠٣٤ وابن ماجة ٩٤٥ وأحمد ١ / ٢٥ و ٣٦

__________________

(١) عسفان : على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. انظر «معجم البلدان» ٤ / ١٢٢.

(٢) ذو قرد : ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. انظر «معجم البلدان» ٤ / ٣٢١.


قال الله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته.

فصل : وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا ، وبهذا قال مالك ، والشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة : يجوز له القصر في سفر المعصية. فأمّا مدّة الإقامة التي إذا نواها أتمّ الصّلاة ، وإن نوى أقلّ منها ، قصر ، فقال أصحابنا : إقامة اثنين وعشرين صلاة ، وقال أبو حنيفة : خمسة عشر يوما. وقال مالك ، والشّافعيّ : أربعة أيام (١).

____________________________________

والدارمي ١ / ٣٥٤ والطحاوي ١ / ٤١٥ والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص ١١٦ وابن خزيمة ٩٤٥ وابن حبان ٢٧٣٩ و ٢٧٤٠ و ٢٧٤١ والطبري ١٠٣١٥ و ١٠٣١٦ و ١٠٣١٧ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٤١٥ والبيهقي ٣ / ١٣٤ و ١٤٠ و ١٤١ من طرق عن يعلى بن أمية.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٣ / ١٠٤ : وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج ، أو عمرة ، أو جهاد ، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين. قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : في كم تقصر الصلاة؟ قال : في أربعة برد قيل له : مسيرة يوم تام؟ قال : لا ، أربعة برد ، ستة عشر فرسخا ، ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا. وقد قدّره ابن عباس ، فقال : من عسفان إلى مكة ، ومن الطائف إلى مكة ، ومن جدة إلى مكة. فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس ، وابن عمر ، وإليه ذهب مالك ، والليث ، والشافعي. وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر إلى مسيرة عشرة فراسخ وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، فإنه يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه.

ويروى عن ابن مسعود ، أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال أبو حنيفة. لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يمسح المسافر في ثلاثة أيام ولياليهن». وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك ، ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. وقال الأوزاعي : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وروي عن علي ، أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة ، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ، ثم رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير عن شرحبيل بن السمط. قال رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال : إنما فعلت كما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل. رواه مسلم. واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر ، قال ابن عباس : يا أهل مكة ، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة. وقال الخطابي : وهو أصح الروايتين عن ابن عمر. ولم يجز فيما دونها ، لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه. وإذا كان في سفينة في البحر ، فهو كالبر ، إن كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر ، أبيح له ، وإلا فلا ، سواء قطعها في زمن طويل أو قصير ، اعتبارا بالمسافة. وإن شك هل السفر مبيح للقصر أو لا؟ لم يبح له ، لأن الأصل وجوب الإتمام ، فلا يزول بالشك. وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته ، ولنا قول الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. وإن الرخص المختصة بالسفر ، من القصر ، والجمع ، والفطر ، والمسح ثلاثا ، والصلاة على الراحلة تطوعا ، يباح في السفر الواجب ـ حج أو جهاد والمندوب والمباح كالتجارة. وبه قال الأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق وأهل المدينة وعن ابن مسعود : لا يقصر إلا في حج أو جهاد ، لأن الواجب لا يترك إلا لواجب. ولا تباح هذه الرّخص في سفر المعصية كالإباق ، وقطع الطّريق ، والتجارة في الخمر والمحرمات. نصّ عليه أحمد. وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : له ذلك ، لأنه مسافر ، فأبيح له التّرخص كالمطيع. ولنا ، قول الله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). وفي سفر التنزه والتفرّج روايتان : إحداهما تبيح الرخص. وهذا ظاهر كلام الخرقي ، لأنه سفر مباح ، والثانية : لا يترخص فيه. قال أحمد : إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا ، وليس في طلب حديث ولا حج ولا


(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) سبب نزولها :

(٣٥٦) أنّ المشركين لمّا رأوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه قد صلّوا الظّهر ، ندموا إذ لم يكبّوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون العصر ، فإذا قاموا فشدّوا عليهم ، فلمّا قاموا إلى صلاة العصر ، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) خطاب للنبيّ عليه‌السلام ، ولا يدلّ على أن الحكم مقصور عليه ، فهول كقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (١) وقال أبو يوسف : لا تجوز صلاة الخوف بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والهاء والميم من «فيهم» تعود على الضّاربين في الأرض (٢).

____________________________________

(٣٥٦) ذكره البغوي برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا الإسناد مع كونه معلقا ، الكلبي متروك متهم ، وأبو صالح ليس بثقة عن ابن عباس ، وانظر الحديث المتقدم برقم ٣٥٢.

__________________

عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة والأول أولى. والمشهور عن أحمد ، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء أتم. وروي عنه أنه توقف ، وقال : أنا أحب العافية في هذه المسألة. وممن روي عنهم الإتمام في السفر : عثمان ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الشافعي والمشهور عن مالك. وقال حمّاد : ليس له الإتمام في السفر وهو قول الثوري ، وأبو حنيفة وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ولنا ، قول الله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهذا يدل على أن القصر رخصة مخيّر بين فعله وتركه ، كسائر الرّخص وقال يعلى بن أمية : قلت لعمر بن الخطاب : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ..) الآية ، فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم. وهذا يدل على أنها رخصة وليست بعزيمة ، وأنها مقصورة.

(١) سورة التوبة : ١٠٣.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٣ / ٢٩٦ : صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فقول الله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) الآية وأما السنة فثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي صلاة الخوف ، وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو يوسف : إنما كانت تختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ). وليس بصحيح ، فإن ما ثبت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبت في حقنا ، ما لم يقم دليل على اختصاصه به ، فإن الله تعالى أمر باتباعه بقوله : (فَاتَّبِعُوهُ*). وسئل عن القبلة للصائم ، فأجاب :

«بأنني أفعل ذلك» فقال السائل : لست مثلنا ، فغضب وقال : «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى ، وأعلمكم بما أتقي». وكان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتجّون بأفعال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرونها معارضة لقوله وناسخة له ، ولو لم


قوله تعالى : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي : ابتدأتها ، (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي : لتقف ، ومثله (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) (١). (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فيهم قولان : أحدهما : أنهم الباقون ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم المصلّون معه ، ذكره ابن جرير ، قال : وهذا السّلاح كالسّيف ، يتقلّده الإنسان ، والخنجر يشدّه إلى ذراعه.

قوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا) يعني المصلّين معه (فَلْيَكُونُوا) في المشار إليهم قولان :

أحدهما : أنهم الطّائفة التي لم تصلّ ، أمرت أن تحرس الطائفة المصلّية ، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني : أنهم المصلّون معه ، أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس.

واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السّجود ، فقال قوم : إذا أتمّوا مع الإمام ركعة أتمّوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلّموا وانصرفوا ، وقد تمّت صلاتهم ، وقال آخرون : ينصرفون عن ركعة ، واختلف هؤلاء ، فقال بعضهم : إذا صلّوا مع الإمام ركعة وسلّموا ، فهي تجزئهم. وقال آخرون منهم أبو حنيفة : بل ينصرفون عن تلك الرّكعة إلى الحرس وهم على صلاتهم ، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم تصلّ ، وتأتي تلك الطّائفة. واختلفوا في الطّائفة الأخرى ، فقال قوم : إذا صلّى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة ، ثم يسلّم بهم ، وقال آخرون : بل يسلّم هو عند فراغه من الصّلاة بهم ، فإذا سلّم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون : بلى يصلّي بالطّائفة الثانية ركعة ويسلّم هو ، ولا تسلّم هي ، بل ترجع إلى وجه العدو ، ثم تجيء الأولى ، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلّم ، وتمضي وتجيء الأخرى ، فتتمّ صلاتها ، وهذا مذهب أبي حنيفة (٢).

__________________

يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله على مانعي الزكاة قولهم : إن الله تعالى خصّ نبيه بأخذ الزكاة ، بقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) فإن قيل : فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخّر الصلاة يوم الخندق ، ولم يصل. قلنا : هذا ك. وأيضا فإن الصحابة أجمعوا على صلاة الخوف. فأما تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب ، فلا يوجب تخصيصه بالحكم ، لما ذكرناه. ولأن الصحابة ، رضي الله عنهم ، أنكروا ان قبل نزول صلاة الخوف ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون ناسخا لما قبله ، ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه ، إذ لا خلاف في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له أن يصلي صلاة الخوف ، وقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه. ويحتمل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخّر الصلاة نسيانا وروي أن عمر قال ما صليت العصر. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله ما صليتها» ولم يكن ثمّ قتال يمنعه من الصلاة.

(١) البقرة : ٢٠.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٣ / ٢٩٨ ـ ٣١٣ : وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر ، صلى بطائفة ركعة ، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ، ثم ذهبت تحرس ، وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو ، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ، ويسلم بهم. وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا ، فإذا كان سفر يبيح القصر ، صلى بهم ركعتين ، بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة. وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز ، نصّ عليه أحمد. ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن. ولا تجب التسوية بين الطائفتين ، لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس. ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها ، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى. فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه ، ويبنوا على ما مضى من صلاتهم. وإن خاف وهو مقيم ، صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة ، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق ، فروي أنه أول صلاته ، وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب وروي عن أحمد أن ما


قوله تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) قال ابن عباس : يريد الذين صلّوا أوّلا. وقال الزجّاج : يجوز أن يريد به الذين وجاه العدوّ ، لأن المصلّي غير مقاتل ، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السّلاح ، لأنه أرهب للعدوّ ، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و «الجناح» الإثم ، وهو من : جنحت : إذا عدلت عن المكان ، وأخذت جانبا عن القصد. فالمعنى : أنكم إذا وضعتم أسلحتكم ، لم تعدلوا عن الحقّ.

قوله تعالى : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) قال ابن عباس : رخّص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر ، وقال : وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) يعني صلاة الخوف ، و (قَضَيْتُمُ) بمعنى : فرغتم.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ) في هذا الذّكر قولان : أحدهما : أنه الذّكر لله في غير الصّلاة ، وهذا قول ابن عباس ، والجمهور قالوا : وهو التّسبيح ، والتّكبير ، والدّعاء ، والشّكر. والثاني : أنّه الصلاة ، فيكون المعنى : فصلّوا قياما ، فإن لم تستطيعوا فقعودا ، فإن لم تستطيعوا فعلى جنوبكم ، هذا قول ابن مسعود. وفي المراد بالطّمأنينة قولان : أحدهما : أنه الرجوع إلى الوطن عن السّفر ، وهو قول الحسن ، ومجاهد وقتادة. والثاني : أنه الأمن بعد الخوف ، وهو قول السّدّيّ ، والزجّاج ، وأبي سليمان الدّمشقيّ. وفي إقامة الصّلاة قولان : أحدهما : إتمامها ، قاله مجاهد وقتادة والزجّاج وابن قتيبة. والثاني : أنه إقامة ركوعها وسجودها ، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف ، هذا قول السّدّيّ.

__________________

يقضيه آخر صلاته. ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف. ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال : ستة أوجه أو سبعة يروى فيها ، كلها جائز. وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه ، أو تختار واحدا منها ، قال : أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن ، وأما حديث سهل فأنا أختاره.

والحديث الذي اختاره الإمام أحمد رواه. ولفظه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بأصحابه في الخوف ، فصفهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة ، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ، ثم سلم. ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف ، فصلاته وصلاتهم فاسدة. وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة ، صلوا رجالا وركبانا ، إلى القبلة وإلى غيرها ، يومئون إيماء ، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا ، أو إلى غيرها. إن لم يمكنهم ، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة : لا يصلي مع المسايفة ، ولا مع المشي ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ يوم الخندق ـ قد ورد الرد على هذا القول قبل قليل : انظر التعليق السابق ـ وأخّر صلاته. وقال الشافعي : يصلي ، ولكن إن تابع الطعن ، أو الضرب ، أو فعل ما يطول ، بطلت صلاته. ولنا قول الله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بأصحابه من غير شدة خوف ، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو ، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم ، فمع الخوف الشديد أولى. والله أعلم.


قوله تعالى : (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي : فرضا. وفي «الموقوتا» قولان :

أحدهما : أنه بمعنى المفروض ، قاله ابن عباس. ومجاهد ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : أنه الموقّت في أوقات معلومة ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) قال أهل التفسير :

(٣٥٧) سبب نزولها : أنّ النبيّ عليه‌السلام أمر أصحابه لمّا انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه ، فشكوا ما بهم من الجراحات ، فنزلت هذه الآية.

قال الزجّاج : ومعنى «تهنوا» : تضعفوا ، يقال : وهن يهن : إذا ضعف ، وكلّ ضعف فهو وهن. وابتغى القوم : طلبهم بالحرب. و «القوم» هاهنا : الكفّار (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) أي : توجعون ، فإنهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتّعب ، كما تجدون ، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا يرجون. وفي هذا الرّجاء قولان : أحدهما : أنه الأمل ، قاله مقاتل. قال الزجّاج : وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم. والثاني : أنه الخوف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفرّاء : ولم نجد الخوف بمعنى الرّجاء إلا ومعه جحد ، فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف ، وكان الرجاء كذلك ، كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١) وقوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (٢) قال الشاعر :

لا ترتجي حين تلاقي الذّائدا

أسبعة لاقت معا أم واحدا (٣)

وقال الهذليّ :

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل (٤)

ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك. قال الزجّاج : وإنما اشتمل الرّجاء على معنى الخوف ، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتمّ ، فعلى القول الأول يكون المعنى : ترجون

____________________________________

(٣٥٧) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٧٦ بدون إسناد. وأخرجه الطبري ١٠٤١٢ عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان قتال أحد ، وأصاب المسلمين ما أصاب ، صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال : «يا محمد ، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال ، يوم لنا ويوم لكم». فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أجيبوه». فقالوا : لا سواء ، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان : «أعل هبل» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا له : الله أعلى وأجل» فقال أبو سفيان : «موعدنا وموعدكم بدر الصغرى» ونام المسلمون وبهم الكلوم. وقال عكرمة وفيها نزلت الآية (آل عمران : ١٤٠) وهذه الآية (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) ولم يذكر الطبري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث طائفة في آثارهم وأنهم شكوا ألم الجراحات.

__________________

(١) سورة نوح : ١٣.

(٢) سورة الجاثية : ١٤.

(٣) البيت في «اللسان» دون نسبة لقائل ، والذائد ، من ذاد الإبل : إذا طردها وساقها ودفعها.

(٤) في «اللسان» : النوب : جمع نائب : وهو صفة للنحل ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتصنع عسلها ، تجيء وتذهب ، والعوامل : التي تعمل العسل.


النّصر وإظهار دينكم والجنّة. وعلى الثاني : تخافون من عذاب الله ما لا يخافون.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥))

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٥٨) أحدها : أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النّعمان ، وكان الدّرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب ، حتى انتهى إلى الدّار ، ثم خبّأها عند رجل من اليهود ، فالتمست الدّرع عند طعمة ، فلم توجد عنده ، وحلف : ما لي بها علم ، فقال أصحابها : بلى والله ، لقد دخل علينا فأخذها ، وطلبنا أثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدّقيق ، فلمّا حلف تركوه ، واتّبعوا أثر الدّقيق حتى انتهوا إلى منزلي اليهوديّ فأخذوه ، فقال : دفعها إليّ طعمة ، فقال قوم طعمة : انطلقوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء ، فأتوه فكلّموه في ذلك ، فهمّ أن يفعل ، وأن يعاقب اليهوديّ ، فنزلت هذه الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٣٥٩) والثاني : أنّ رجلا من اليهود ، استودع طعمة بن أبيرق درعا ، فخانها ، فلما خاف اطّلاعهم عليها ، ألقاها في دار أبي مليل الأنصاريّ ، فجادل قوم طعمة عنه ، وأتوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه أن يبرّئه ، ويكذّب اليهوديّ ، فنزلت الآيات. هذا قول السّدّيّ ، ومقاتل.

(٣٦٠) والثالث : أن مشربة (١) رفاعة بن زيد نقبت ، وأخذ طعامه وسلاحه ، فاتّهم به بنو أبيرق ، وكانوا ثلاثة : بشير ، ومبشّر ، وبشر ، فذهب قتادة بن النّعمان إلى النبيّ عليه‌السلام فقال : يا رسول الله إنّ أهل بيت منّا فيهم جفاء (٢) نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد ، وأخذوا سلاحه ، وطعامه ، فقال : أنظر في ذلك ، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ قتادة بن النّعمان ، وعمّه عمدوا إلى

____________________________________

(٣٥٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٦١ بدون إسناد ، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٦١ : ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وانظر «أسباب النزول» ٣٧٣ و ٣٧٤ للسيوطي.

وأخرجه الطبري ١٠٤١٧ من رواية سعيد عن قتادة مرسلا مع اختلاف يسير. ويشهد لهذا الخبر الحديث الآتي برقم ٣٦٠.

(٣٥٩) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٤٢٠ عن السدي مرسلا ، ويشهد لأصله ما بعده.

(٣٦٠) حسن. أخرجه الترمذي ٣٠٣٦ والحاكم ٤ / ٣٨٥ والطبري ١٠٤١٦ من حديث قتادة بن النعمان ، وفيه ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعن. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وورد مختصرا عن قتادة مرسلا أخرجه الطبري ١٠٤١٧ ، وورد موصولا عن ابن عباس أخرجه الطبري ١٠٤١٨ وفيه عطية العوفي ، واه. وكرره ١٠٤١٩ عن ابن زيد ، وهو عبد الرحمن ، مرسلا و ١٠٤٢٠ عن السدي مرسلا و ١٠٤٢١ عن عكرمة مرسلا و ١٠٤٢٢ عن الضحاك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، فالحديث حسن في أقل تقدير ، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٠٧ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» المشربة والمشربة ، بالفتح والضم : الغرفة ؛ والمشارب : العلاليّ. وفي الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مشربة له أي كان في غرفة.

(٢) في «اللسان» : الجفاء يكون في الخلقة والخلق ، يقال : رجل جافي الخلقة إذا كان كزّا غليظ العشرة والخرق في المعاملة والتحامل عند الغضب والسورة على الجليس.


أهل بيت منّا يرمونهم بالسّرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح ، فقال النبيّ لقتادة : رميتهم بالسّرقة على غير بيّنة! فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النّعمان.

والكتاب : القرآن. والحقّ : الحكم بالعدل. (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) : أي لتقضي بينهم. وفي قوله تعالى : (بِما أَراكَ اللهُ) قولان (١) : أحدهما : أنه الذي علّمه ، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان. والثاني : أنه ما يؤدّي إليه اجتهاده ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) قال الزجّاج : لا تكن مخاصما ، ولا دافعا عن خائن. واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه قام خطيبا فعذره. رواه العوفيّ عن ابن عباس (٢). والثاني : أنه همّ بذلك ، ولم يفعله ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة (٣).

قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدلّ على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه ، وهو غير عالم بحقيقة أمره ، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))

قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) في الذي أمر بالاستغفار منه قولان (٤) :

أحدهما : أنه القيام بعذر. والثاني : أنه العزم على ذلك.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٦٣ : وقوله (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها». وروى الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما. ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما ، ثم ليحلل كل منكما صاحبه».

(٢) واه. أخرجه الطبري ١٠٤١٨ عن ابن عباس من رواية عطية العوفي ، واه.

(٣) هذا ضعيف بل منكر ، والصواب ما تقدم من وجوه ، وأن السرقة وقعت.

(٤) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٣٥٩ : ذهب الطبري إلى أن المعنى. استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين ، فأمره بالاستغفار لما همّ بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوّز الصغائر على الأنبياء. صلوات الله عليهم وسلامه. قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى : استغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل ، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع ، وتستغفر للمذنب. وقيل : هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح ، كالرجل يقول : أستغفر الله على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بنو أبيرق.


(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨))

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي : يخوّنون أنفسهم ، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة. قال عكرمة : والمراد بهم : طعمة بن أبيرق ، وقومه الذين جادلوا عنه.

(٣٦١) وفي حديث العوفيّ عن ابن عباس قال : انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ صاحبنا بريء.

و «الاستخفاء» : الاستتار ، والمعنى : يستترون من النّاس لئلّا يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم ، ولا يستترون من الله ، وهو معهم بالعلم. وكل ما فكّر فيه ، أو خيض فيه بليل ، فقد بيّت. وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتّبييت ، قوم طعمة. والذي بيّتوا : احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب. وقال الزجّاج : هو السّارق نفسه ، والذي بيّت أنه قال : أرمي اليهوديّ بأنّه سارق الدّرع ، وأحلف أني لم أسرقها ، فتقبل يميني ، ولا تقبل يمين اليهوديّ.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) قال الزجّاج : «ها» للتنبيه ، وأعيدت في أوّله. والمعنى : ها أنتم الذين جادلتم. و «المجادلة ، والجدال» : شدّة المخاصمة ، و «الجدل» : شدة الفتل. والكلام يعود إلى من احتجّ عن السّارق. فأما قوله : «عنهم» فإنه عائد إلى السّارق. و «عليهم» بمعنى «لهم». والوكيل : القائم بأمر من وكّله. فكأنه قال : من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربّهم؟!

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها نزلت خطابا للسّارق ، وعرضا للتّوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل. والثاني : أنها للذين جادلوا عنه من قومه ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنه عنى بها كلّ مسيء ومذنب. ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب. وفي هذا السّوء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه السّرقة. والثاني : الشّرك. والثالث : أنه كلّ ما يأثم به. وفي هذا الظّلم قولان : أحدهما : أنه رمي البريء بالتّهمة. والثاني : ما دون الشّرك.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) أي : ومن يعمل ذنبا (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) يقول : إنّما يعود

____________________________________

(٣٦١) هو بعض المتقدم.


وباله عليه. قاله مقاتل. وهذه في طعمة أيضا.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) جمهور العلماء على أنها نزلت متعلّقة بقصّة طعمة بن أبيرق.

(٣٦٢) وقد روى الضّحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها‌السلام بالإفك.

وفي قوله تعالى : (خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) أربعة أقوال (١) : أحدها : أنّ «الخطيئة» يمين السّارق الكاذبة ، و «الإثم» : سرقته الدّرع ، ورميه اليهوديّ ، قاله ابن السّائب. والثاني : أن «الخطيئة» ما يتعلّق به من الذّنب ، و «الإثم» : قذفه البريء ، قاله مقاتل. والثالث : أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد ، وقد تقع عن خطأ ، و «الإثم» : يختصّ العمد. قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدّمشقيّ. وذكر الزجّاج أنّ الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم. والرابع : أنه لمّا سمّى الله عزوجل بعض المعاصي خطيئة ، وبعضها إثما ، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين ، ثم قذف به بريئا ، فقد احتمل بهتانا ، ذكره الزجّاج أيضا.

فأمّا قوله تعالى : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) أي : يقذف بما جناه بريئا منه.

فإن قيل : الخطيئة والإثم اثنان ، فكيف قال : به ، فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنه أراد : ثم يرم بهما ، فاكتفى بإعادة الذّكر على الإثم من إعادته على الخطيئة ، كقوله تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) (٢) فخصّ التّجارة ، والمعنى للتّجارة واللهو. والثاني : أنّ الهاء تعود على الكسب ، فلمّا دلّ ب «يكسب» على الكسب ، كنّى عنه. والثالث : أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم ، كأنه قال : ومن يكسب ذنبا ، ثم يرم به. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. والرابع : أنّ الهاء تعود على الإثم خاصّة ، قاله ابن جرير الطّبريّ.

وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السّارق قولان : أحدهما : أنه كان يهوديّا ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وابن سيرين وقتادة وابن زيد ، وسمّاه عكرمة ، وقتادة : زيد بن السمين (٣). والثاني : أنه كان مسلما ، روي عن ابن عباس ، وقتادة بن النّعمان ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، واختلفوا في ذلك المسلم ، فقال

____________________________________

(٣٦٢) منكر جدا ، ذكره المصنف عن الضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، وهو متروك. والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٦٦ : الآية ، يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هذا التقريع والتوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم.

(٢) الجمعة : ١١.

(٣) في المطبوع : «السّمير» والتصويب من الطبري ١٠٤٢١ وابن كثير ١ / ٥٦٦.


الضّحّاك عن ابن عباس : هو عائشة لمّا قذفها ابن أبيّ ، وقال قتادة بن النّعمان : هو لبيد بن سهل ، وقال السّدّيّ ، ومقاتل : هو أبو مليل الأنصاريّ.

فأمّا البهتان : فهو الكذب الذي يحيّر من عظمه ، يقال : بهت الرّجل : إذا تحيّر. قال ابن السّائب : فقد احتمل بهتانا برميه البريء ، وإثما مبينا بيمينه الكاذبة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) في سبب نزولها قولان :

أحدهما : أنها متعلّقة بقصّة طعمة وقومه ، حيث لبّسوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر صاحبهم ، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السّائب (١).

(٣٦٣) والثاني : أنّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر ، وعلى أن تمتّعنا بالعزّى سنة ، فلم يجبهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس في رواية الضّحّاك.

وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان : أحدهما : النّبوّة والعصمة. والثاني : الإسلام والقرآن ، رويا عن ابن عباس. قال مقاتل : لو لا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائن ؛ لهمّت طائفة منهم أن يضلّوك. قال الفرّاء : والمعنى لقد همّت. فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ) وقد همّت بإضلاله؟ فالجواب : أنه لو لا فضل الله ، لظهر تأثير ما همّوا به. فأمّا الطّائفة ، فعلى رواية ابن السّائب عن ابن عباس : قوم طعمة ، وعلى رواية الضّحّاك : وفد ثقيف.

وفي الإضلال قولان (٢) : أحدهما : التّخطئة في الحكم : والثاني : الاستزلال عن الحقّ. قال

____________________________________

(٣٦٣) لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، وهو متروك ، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، وانظر المقدمة.

ـ وخبر وفد ثقيف ورد بسياق آخر مطول ، وليس فيه نزول الآية. انظر «طبقات» ابن سعد ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

__________________

(١) هذا واه ، ابن السائب هو الكلبي كذبه غير واحد.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٦٦ ـ ٥٦٧ : عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل الله (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعني أسيد بن عروة وأصحابه ، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة وهي السنة (عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي قبل نزول ذلك عليك كقوله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) إلى آخر السورة. وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ولهذا قال (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).


الزجّاج : وما يضلّون إلا أنفسهم ، لأنهم يعملون عمل الضّالّين ، فيرجع الضّلال إليهم.

فأما «الكتاب» ، فهو القرآن. وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال : أحدها : القضاء بالوحي ، قاله ابن عباس. والثاني : الحلال والحرام ، قاله مقاتل. والثالث : بيان ما في الكتاب ، وإلهام الصّواب ، وإلقاء صحّة الجواب في الرّوع ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي قوله تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الشّرع ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : أخبار الأوّلين والآخرين ، قاله أبو سليمان. والثالث : الكتاب والحكمة ، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه المنّة بالإيمان. والثاني : المنّة بالنّبوّة ، هذان عن ابن عباس.

والثالث : أنه عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به ، قاله أبو سليمان.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤))

قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) قال ابن عباس : هم قوم طعمة ، وقال مقاتل : وكلّهم يهود تناجوا في أمر طعمة ، وقال مجاهد : هو عامّ في نجوى جميع الناس. قال الزجّاج : ومعنى النّجوى : ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان ، سرّا كان أو ظاهرا. ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة. خلّصته وألقيته ، يقال : نجوت الجلد : إذا ألقيته عن البعير وغيره. قال الشاعر :

فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنّه

سيرضيكما منها سنام وغاربه (١)

وقد نجوت فلانا : إذا استنكهته ، قال الشاعر :

نجوت مجالدا فوجدت منه

كريح الكلب مات قديم عهد (٢)

وأصله كلّه من النّجوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، قال الشاعر يصف سيلا :

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكنّ كمن يمشي بقرواح (٣)

والمراد بنجواهم : ما يدبّرونه بينهم من الكلام.

فأمّا قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فيجوز أن يكون بمعنى : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأوّل ، فيكون بمعنى : لكن من أمر بصدقة ، ففي نجواهم خير. وأمّا قوله تعالى : (أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فالمعنى : حثّ عليها. وأما المعروف ، ففيه قولان :

أحدهما : أنه الفرض ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنه عامّ في جميع أفعال البرّ ، وهو

__________________

(١) البيت لأبي الغمر الكلابي كما في «الخزانة» ٢ / ٢٢٧ ونسب أيضا إلى عبد الرحمن بن ثابت وقال ابن السيرافي في «إصلاح المنطق» ٩٤ : يريد قشّر عنها لحمها وشحمها ، كما يقشر الجلد فإنها سمينة. وغاربها : ما بين السنام والعنق.

(٢) البيت في «الحيوان» للحكم بن عبدل الأسدي.

(٣) البيت لأوس بن حجر في «ديوانه» ١٦. وهو في «اللسان» لعبيد بن الأبرص وفي «ديوانه» ٥٣ ، والعقوة : الساحة وما حول الدار والمحلة ، والقرواح : البارز الذي ليس يستره من السماء شيء. وقيل : الناقة الطويلة.

وكذلك النخلة الطويلة يقال لها : قرواح.


اختيار القاضي أبي يعلى ، وأبي سليمان الدّمشقيّ.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) في سبب نزولها قولان :

(٣٦٤) أحدهما : أنه لمّا نزل القرآن بتكذيب طعمة ، وبيان ظلمه ، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة ، هرب إلى مكّة ، فلحق بأهل الشّرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والسّدّيّ.

(٣٦٥) وقال مقاتل : لمّا قدم مكّة نزل على الحجّاج بن علاط السّلميّ فأحسن نزله ، فبلغه أنّ في بيته ذهبا ، فخرج في الليل فنقب حائط البيت ، فعلموا به فأحاطوا بالبيت ، فلما رأوه ، أرادوا أن يرجموه ، فاستحيا الحجّاج ، لأنه ضيفه ، فتركوه ، فخرج ، فلحق بحرّة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشّرك ، فنزل فيه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). وقال غيره : بل خرج مع تجّار فسرق منهم شيئا ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، وقيل : ركب سفينة ، فسرق فيها مالا ، فعلم به ، فألقي في البحر.

والقول الثاني : أنّ قوما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا ، ثم ارتدّوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، روي عن ابن عباس.

ومعنى الآية : ومن يخالف الرسول في التّوحيد ، والحدود ، من بعد ما تبيّن له التّوحيد والحكم ، ويتّبع غير دين المسلمين ، نولّه ما تولّى ، أي : نكله إلى ما اختار لنفسه ، ونصله جهنّم : ندخله إيّاها. قال ابن فارس : تقول صليت اللحم أصليه : إذا شويته ، فإن أردت أنك أحرقته ، قلت : أصليته. وساءت مصيرا ، أي : مرجعا يصار إليه (١).

____________________________________

(٣٦٤) انظر الأحاديث المتقدمة (عند الآية ١٠٥).

(٣٦٥) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان ، وقد كذبه غير واحد ، فخبره لا شيء.

وذكره البغوي في «تفسيره» ١ / ٤٨٠ بدون إسناد ، ومن غير عزو لأحد.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٦٨ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار في شق والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له وقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك ، وقد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب «أحاديث الأصول» ومن العلماء من ادّعى تواتر معناها ، والذي عوّل عليه الشافعي رحمه‌الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ


(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) في سبب نزولها قولان :

أحدهما : أنها نزلت في حقّ طعمة بن أبيرق لمّا هرب من مكّة ، ومات على الشّرك ، وهذا قول الجمهور ، منهم سعيد بن جبير.

(٣٦٦) والثاني : أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني منهمك في الذّنوب ، إلا أنّي لم أشرك بالله منذ عرفته ، وإني لنادم مستغفر ، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية ، روي عن ابن عباس. فأمّا تفسيرها ، فقد تقدّم.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨))

قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) ، «إن» بمعنى : «ما» و (يَدْعُونَ) بمعنى : يعبدون. والهاء في (دُونِهِ) ترجع إلى الله عزوجل. والقراءة المشهورة (إِناثاً). وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «إلا وثنا» ، بفتح الواو ، والثاء من غير ألف. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين : «أنثا» ، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية ، ومعاذ القارئ ، وأبو نهيك : (إناثا) ، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، والجونيّ : «إلا أنثى» ، على وزن «فعلى». وقرأ أيوب السّختيانيّ : «إلا وثنا» ، برفع الواو والثاء من غير ألف. وقرأ مورّق العجليّ : (أثنا) ، برفع الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجّاج : فمن قال : إناثا ، فهو جمع أنثى وإناث ، ومن قال : أنثا ، فهو جمع إناث ، ومن قال : أثنا ، فهو جمع وثن ، والأصل : وثن ، إلا أن الواو إذا انضمّت جاز إبدالها همزة ، كقوله تعالى : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١) الأصل : وقّتت. وجائز أن يكون أثن أصلها : أثن ، فأتبعت الضّمّة الضّمّة ، وجائز أن يكون أثن ، مثل أسد وأسد.

____________________________________

(٣٦٦) واه بمرة. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» ١ / ٥٩٥ للثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس ، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٦٦ : هو منقطع اه.

قلت : والثعلبي يروي الموضوعات. والضحاك لم يلق ابن عباس ، وعامة روايات الضحاك إنما هي من طريق جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، ويجتنب أهل التفسير ذكره بسبب وضوح حاله ، فالخبر واه بمرة.

__________________

يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم : ٤٤] وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٣] وقال تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣].

(١) سورة المرسلات : ١١.


فأما المفسّرون ، فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال (١) : أحدها : أن الإناث بمعنى الأموات ، قاله ابن عباس : والحسن في رواية ، وقتادة. وقال الحسن : كلّ شيء لا روح فيه ، كالحجر ، والخشبة ، فهو إناث. قال الزجّاج : والموات كلّها يخبر عنها ، كما يخبر عن المؤنّث ، تقول من ذلك : الأحجار تعجبني ، والدّراهم تنفعني. والثاني : أن الإناث. الأوثان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد. والثالث : أن الإناث اللّات والعزّى ومناة ، كلّهن مؤنّث ، وهذا قول أبي مالك ، وابن زيد والسّدّيّ. وروى أبو رجاء عن الحسن قال : لم يكن حيّ من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يسمّونه : أنثى بني فلان ، فنزلت هذه الآية. قال الزجّاج : والمعنى : ما يدعون إلا ما يسمّونه باسم الإناث. والرابع : أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله ، قاله الضّحّاك.

وفي المراد بالشّيطان ثلاثة أقوال : أحدها : شيطان يكون في الصّنم. قال ابن عباس : في كل صنم شيطان يتراءى للسّدنة فيكلّمهم. وقال أبيّ بن كعب : مع كل صنم جنّيّة. والثاني : أنه إبليس ، وعبادته : طاعته فيما سوّل لهم ، هذا قول مقاتل ، والزجّاج. والثالث : أنه أصنامهم التي عبدوا ، ذكره الماورديّ. فأما «المريد» فقال الزجّاج : «المريد» : المارد ، وهو الخارج عن الطّاعة ، ومعناه : أنه قد مرد في الشّر ، يقال : مرد الرجل يمرد مرودا : إذا عتا ، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود : أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصّنف ، وأصله في اللغة : املساس الشيء ، ومنه قيل للإنسان : أمرد : إذا لم يكن في وجهه شعر ، وكذلك يقال : شجرة مرداء : إذا تناثر ورقها ، وصخرة مرداء : إذا كانت ملساء.

وفي قوله تعالى : (لَعَنَهُ اللهُ) قولان : أحدهما : أنه ابتداء دعاء عليه باللعن ، وهو قول من قال : هو الأوثان. والثاني : أنه إخبار عن لعن متقدّم ، وهو قول من قال : هو إبليس.

قال ابن جرير : المعنى : قد لعنه الله. قال ابن عباس : معنى الكلام : دحره الله ، وأخرجه من الجنة. (وَقالَ) يعني إبليس : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). قال ابن قتيبة : أي حظّا افترضته لنفسي منهم ، فأضلّهم. وقال مقاتل : النّصيب المفروض في اللغة : القطع أنّ من كل ألف إنسان واحد في الجنة ، وسائرهم في النار. قال الزّجاج : «الفرض» في اللغة : القطع ، و «الفرضة» : الثّلمة تكون في النهر. و «الفرض» في القوس : الحزّ الذي يشدّ فيه الوتر ، والفرض فيما ألزمه الله العباد : جعله حتما عليهم قاطعا.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩))

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٧٩ : وأولى التأويلات من قال : عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء ، كاللات والعزّى ونائلة ومناة. وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية ، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرّف بالتأنيث دون غيره. يقول جل ثناؤه :

حسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد ، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة أربابا. والإناث من كل شيء أخسّه ، فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.


قوله تعالى : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) قال ابن عباس : عن سبيل الهدى ، وقال غيره : ليس له من الضلال سوى الدّعاء إليه. وفي قوله تعالى : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أربعة أقوال : أحدها : أنه الكذب الذي يخبرهم به ، قال ابن عباس : يقول لهم : لا جنّة ، ولا نار ، ولا بعث. والثاني : أنه التّسويف بالتّوبة ، روي عن ابن عباس. والثالث : أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظّا ، قاله الزجّاج. والرابع : أنه تزيين الأماني لهم ، قاله أبو سليمان.

قوله تعالى : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) قال قتادة ، وعكرمة ، والسّدّيّ : هو شقّ أذن البحيرة ، قال الزجّاج : ومعنى «يبتّكن» يشقّقن ، يقال : بتكت الشيء أبتكه بتكا : إذا قطعته ، وبتكه وبتك ، مثل قطعه وقطع. وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن ، وكان الخامس ذكرا ، شقّوا أذن النّاقة ، وامتنعوا من الانتفاع بها ، ولم تطرد عن ماء ، ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيي ، لم يركبها. سوّل لهم إبليس أنّ هذا قربة إلى الله تعالى.

وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال (١) : أحدها : أنه تغيير دين الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن في رواية ، وسعيد بن المسيب وابن جبير والنّخعيّ والضّحّاك والسّدّيّ وابن زيد ومقاتل. وقيل : معنى تغيير الدّين : تحليل الحرام وتحريم الحلال. والثاني : أنه تغيير الخلق بالخصاء ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو مرويّ عن أنس بن مالك ، وعن مجاهد وقتادة وعكرمة ، كالقولين. والثالث : أنه التغيير بالوشم ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن في رواية. والرابع : أنه تغيير أمر الله ، رواه أبو شيبة عن عطاء. والخامس : أنه عبادة الشّمس والقمر والحجارة ، وتحريم ما حرّموا من الأنعام ، وإنما خلق ذلك للانتفاع به ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) في المراد بالوليّ قولان : أحدهما : أنه بمعنى الرّبّ ، قاله مقاتل. والثاني : من الموالاة ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

فإن قال قائل : من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال : ولأضلّنّهم. وقال في سورة الأعراف (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢). وقال في سورة بني إسرائيل (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٣) ، فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها : أنه ظنّ ذلك ، فتحقّق ظنّه ، وذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٤) قاله الحسن ، وابن زيد. وفي سبب ذلك الظّنّ قولان : أحدهما : أنه لمّا قال الله تعالى له : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٨٥ : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معناه (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) قال : دين الله ، وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه ، وهي قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

وقال ابن كثير رحمه‌الله في تفسيره ١ / ٥٦٩ : على قول من جعل ذلك أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء». وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم».

(٢) سورة الأعراف : ١٧.

(٣) سورة الإسراء : ٦٢.

(٤) سورة سبأ : ٢٠.


وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) علم أنه ينال ما يريد. والثاني : أنه لما استزلّ آدم ، قال : ذرّيّة هذا أضعف منه. والثاني : أن المعنى : لأحرّضنّ ولأجتهدنّ في ذلك ، لا أنه كان يعلم الغيب ، قاله ابن الأنباريّ. والثالث : أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون ، ذكره الماورديّ.

فإن قيل : فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٢) وقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) وقال : (إِلَّا قَلِيلاً*) ؛ فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها : أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة ، كما بيّنّا. والثاني : أنه لما لم ينل من آدم كلّ ما يريد ، طمع في بعض أولاده ، وأيس من بعض. والثالث : أنه لما عاين الجنّة والنار ، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما ، فأشار بالنّصيب المفروض إلى ساكني النار.

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

قوله تعالى : (يَعِدُهُمْ) يعني : الشيطان يعد أولياءه. وفيما يعدهم به قولان : أحدهما : أنه لا بعث لهم ، قاله مقاتل. والثاني : النّصرة لهم ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ ، وفيما يمنّيهم قولان : أحدهما : الغرور والأماني ، مثل أن يقول : سيطول عمرك ، وتنال من الدنيا مرادك : والثاني : الظّفر بأولياء الله.

قوله تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي : باطلا يغرّهم به. فأما المحيص ، فقال الزجّاج : هو المعدل والملجأ ، يقال : حصت عن الرجل أحيص ، ورووا : جضت أجيض بالجيم والضاد ، بمعنى : حصت ، ولا يجوز ذلك في القرآن ، وإن كان المعنى واحدا ، لأن القراءة سنّة ، والذي في القرآن أفصح مما يجوز ، ويقال : حصت أحوص حوصا وحياصة : إذا خطت ، قال الأصمعيّ : يقال : حصّ عين صقرك ، أي : خط عينه ، والحوص في العين : ضيق مؤخّرها ، ويقال : وقع في حيص بيص ، وحاص باص : إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣))

قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٦٧) أحدها : أنّ أهل الأديان اختصموا ، فقال أهل التّوراة : كتابنا خير الكتاب ، ونبيّنا خير

____________________________________

(٣٦٧) أخرجه الطبري ١٠٥٠١ عن ابن عباس برواية العوفي ، وهو واه. وورد مرسلا ، أخرجه الطبري ١٠٤٩٥ و ١٠٤٩٦ عن مسروق و ١٠٤٩٩ عن السدي ، و ١٠٥٠٠ عن الضحاك ، و ١٠٥٠٢ عن أبي صالح.

__________________

(١) سورة ص : ٨٥.

(٢) سورة النساء : ١١٨.


الأنبياء ، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال المسلمون : كتابنا نسخ كلّ كتاب ، ونبيّنا خاتم الأنبياء ، فنزلت هذه الآية ، ثم خيّر بين الأديان بقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ). رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وإلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسّدّيّ.

(٣٦٨) والثاني : أن العرب قالت : لا نبعث ، ولا نعذّب ، ولا نحاسب ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مجاهد.

(٣٦٩) والثالث : أن اليهود والنّصارى قالوا : لا يدخل الجنّة غيرنا ، وقالت قريش : لا نبعث ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة.

قال الزجّاج : اسم «ليس» مضمر ، والمعنى : ليس ثواب الله عزوجل بأمانيّكم ، وقد جرى ما يدلّ على الثّواب ، وهو قوله تعالى : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

وفي المشار إليهم بقوله «أمانيّكم» قولان (١) : أحدهما : أنهم المسلمون على قول الأكثرين. والثاني : المشركون على قول مجاهد. فأمّا أمانيّ المسلمين ، فما نقل من قولهم : كتابنا ناسخ للكتب ، ونبيّنا خاتم الأنبياء ، وأمانيّ المشركين قولهم : لا نبعث ، وأمانيّ أهل الكتاب قولهم : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، وأن النار لا تمسّنا إلا أياما معدودة ، وأنّ كتابنا خير الكتاب ، ونبيّنا خير الأنبياء ، فأخبر الله عزوجل أن دخول الجنة والجزاء ، بالأعمال لا بالأمانيّ.

وفي المراد «بالسّوء» قولان (٢) : أحدهما : أنه المعاصي.

____________________________________

(٣٦٨) ضعيف ، أخرجه الطبري ١٠٥٠٧ عن مجاهد مرسلا.

(٣٦٩) هو مرسل ، فهو واه ، والمتن غريب.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٩٠ : وأولى التأولين بالصواب ما قاله مجاهد : من أنه عنى بقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) وإنما جرى ذكر أماني الشيطان المفروض ، وذلك في قوله (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) وقوله : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) ، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) بما قد جرى ذكره قبل ، أحقّ وأولى من ادعاء تأويل فيه ، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا أثر عن الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إجماع أهل التأويل. فتأويل الآية إذا : ليس الأمر بأمانيكم ، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه ، التي يمنيكموها وليّكم عدو الله ، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [سورة البقرة : ٨٠]. فإن الله مجاز كل عامل منكم جزاء عمله ، من يعمل منكم سوءا ، ومن غيركم ، يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. ولم يرجح ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٧٠ بين هذه الأقوال وإنما قال بعد ذكر الأقوال : والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان ، والعبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام ، ولهذا قال بعده : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ).

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٩٢ : وأولى التأويلات هو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر ، جوزي به ، وذلك لعموم الآية كل عامل سوء ، من غير أن يخصّ أو يستثنى منهم أحد فهي على عمومها. وبنحو ما قلنا تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


(٣٧٠) ومنه حديث أبي بكر الصّدّيق أنه قال : يا رسول الله كيف الصّلاح بعد هذه الآية : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فإذا عملنا سوءا جزينا به ، فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء (١)؟ فذلك ما تجزون به.

والثاني : أنه الشّرك ، قاله ابن عباس ، ويحيى بن أبي كثير.

وفي هذا الجزاء قولان : أحدهما : أنه عامّ في كلّ من عمل سوءا فإنه يجازى به ، وهو معنى قول أبيّ بن كعب ، وعائشة ، واختاره ابن جرير ، واستدلّ عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه. والثاني : أنه خاصّ في الكفّار يجازون بكل ما فعلوا ، فأما المؤمن فلا يجازى بكلّ ما جنى ، قاله الحسن البصريّ. وقال ابن زيد : وعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد المشركين.

قوله تعالى : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) قال أبو سليمان : لا يجد من أراد الله أن يجزيه بشيء من عمله وليّا ، وهو القريب ، ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

____________________________________

(٣٧٠) حسن. أخرجه أحمد ١ / ١١ ، والطبري ١٠٥٢٨ و ١٠٥٢٩ و ١٠٥٣١ و ١٠٥٣٢ و ١٠٥٣٣ والمروزي في «مسند أبي بكر» ١١١ و ١١٢ ، وأبو يعلى ٩٨ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ وابن حبان ٢٩١٠ والحاكم ٣ / ٧٤ ـ ٧٥ والبيهقي ٣ / ٣٧٣ من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبي بكر الصديق.

وإسناده ضعيف لانقطاعه : أبو بكر بن زهير لم يدرك الصديق. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وأخرجه أبو يعلى ٩٩ من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر الصديق. وأخرجه الطبري ١٠٥٢٦ عن عائشة عن أبي بكر بنحوه. وأخرجه الطبري ١٠٥٣٤ عن مسلم بن صبيح قال : قال أبو بكر.

وأورده ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٥٧٢ عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر. وأخرجه المروزي ٢٢ وأبو يعلى ١٨ والطبري ١٠٥٢٧ والحاكم ٣ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣ من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن أبي بكر. وزياد وعلي بن زيد ضعيفان.

وأخرجه الترمذي ٣٠٣٩ وأبو يعلى ٢١ عن روح بن عبادة ، عن موسى بن عبيدة ، عن مولى ابن سبّاع ، عن ابن عمر يحدث عن أبي بكر. وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، وفي إسناده مقال. وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد ، وأحمد بن حنبل ومولى ابن سبّاع مجهول. ويشهد له حديث عائشة أخرجه الترمذي ٢٩٩١ وأحمد ٦ / ٢١٨ والطبري ١٠٥٣٦ كلهم من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية ابنة عبد الله أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وعن قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيفزع لها حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة ، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٠٨ من طريق آخر موقوفا عليها.

وصححه ووافقه الذهبي وانظر ما أخرجه ابن حبان ٢٩٢٣. ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة أخرجه مسلم ٢٥٧٤ والترمذي ٣٠٣٨ وأحمد ٢ / ٢٤٩ ، والطبري ١٠٥٢٥ ، وابن حبان ٢٩٢٦ والبيهقي ٣ / ٣٧٣. وانظر «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٧١ و «تفسير القرطبي» ٢٤٧٣ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : اللأي المشقة والجهد ، واللأواء : الشدة وضيق العيش.


قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

(٣٧١) قال مسروق : لما نزلت (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) ، وهذه تدلّ على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح ، فلا يقبل أحدهما إلّا بوجود الآخر ، وقد سبق ذكر «النّقير».

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) قال ابن عباس : خيّر الله بين الأديان بهذه الآية. و (أَسْلَمَ) بمعنى : أخلص. وفي «الوجه» قولان : أحدهما : أنه الدّين. والثاني : العمل. وفي الإحسان قولان : أحدهما : أنه التّوحيد ، قاله ابن عباس. والثاني : القيام لله بما فرض الله ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي اتّباع ملّة إبراهيم قولان : أحدهما : اتّباعه على التّوحيد والطّاعة. والثاني : اتّباع شريعته ، اختاره القاضي أبو يعلى.

فأمّا الخليل ، فقال ابن عباس : الخليل الصّفيّ ، وقال غيره : المصافي ، وقال الزجّاج : هو المحبّ الذي ليس في محبّته خلل. قال : وقيل : الخليل : الفقير ، فجائز أن يكون إبراهيم سمّي خليل الله بأنه أحبّه محبّة كاملة ، وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلّا إليه ، و «الخلّة» : الصّداقة ، لأن كلّ واحد يسدّ خلل صاحبه ، و «الخلّة» بفتح الخاء : الحاجة : سمّيت خلّة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه ، وسمّي الخلّ الذي يؤكل خلّا ، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة. وقال ابن الأنباريّ : الخليل : فعيل من الخلّة ، والخلّة : المودّة. وقال بعض أهل اللغة : الخليل ، المحبّ ، والمحبّ الذي ليس في محبّته نقص ولا خلل ، والمعنى : أنه كان يحبّ الله ، ويحبّه الله محبّة لا نقص فيها ، ولا خلل ، ويقال : الخليل : الفقير ، فالمعنى : اتّخذه فقيرا ينزل فقره وفاقته به ، لا بغيره. وفي سبب اتّخاذ الله له خليلا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام.

(٣٧٢) روى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا جبريل ، لم اتّخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال : لإطعامه الطّعام».

(٣٧٣) والثاني : أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام ، وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة ، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه ، فلم يعطهم شيئا ، فقالوا : لو احتملنا

____________________________________

(٣٧١) أخرجه الطبري ١٠٤٩٥ عن مسروق.

(٣٧٢) ضعيف. أخرجه البيهقي ٩٦١٦ من حديث عبد الله بن عمرو ، وفيه ابن لهيعة والراوي عنه ليس من العبادلة ، فالحديث ضعيف ؛ والمتن منكر ، فإن الأمر أعم من ذلك. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٤٧٨.

(٣٧٣) لا أصل له في المرفوع. عزاه المصنف لرواية أبي صالح عن ابن عباس وهو في «تفسير البغوي» برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط ، الكلبي متروك ، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس ، والكلبي وأبو صالح أقرّا أنهما كانا يكذبان على ابن عباس. راجع ترجمتهما في «الميزان».

وذكر هذا الخبر الطبري بدون إسناد في «تفسيره» ٤ / ٢٩٧ ، ونقله عنه ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٥٧٣ ، وقال : وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب.


من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة ، فملؤوا الغرائر (١) رملا ، ثم أتوا إبراهيم عليه‌السلام ، فأعلموه ، فاهتمّ إبراهيم لأجل الخلق. فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ، ففتحت الغرائر ، فإذا دقيق حواريّ ، فأمرت الخبّازين فخبزوا ، وأطعموا الناس ، فاستيقظ إبراهيم ، فقال : من أين هذا الطعام؟ فقالت : من عند خليلك المصريّ ، فقال : بل من عند خليلي الله عزوجل ، فيومئذ اتّخذه الله خليلا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث : أنه اتّخذه خليلا لكسره الأصنام ، وجداله قومه ، قاله مقاتل.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) أي : أحاط علمه بكل شيء.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧))

قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٣٧٤) أحدها : أنهم كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال ، فلما فرض الله المواريث في هذه السّورة ، شقّ ذلك عليهم ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.

(٣٧٥) والثاني : أن وليّ اليتيمة كان يتزوّجها إذا كانت جميلة وهويها ، فيأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٣٧٦) والثالث : أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهنّ ، ويتملّك ذلك أولياؤهنّ ، فلما نزل قوله

____________________________________

(٣٧٤) حسن صحيح ، أخرجه الطبري ١٠٥٤٤ و ١٠٥٤٦ عن ابن عباس ، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط. وورد من مرسل مجاهد ، أخرجه الطبري ١٠٥٥٢ و ١٠٥٥٣ ومن مرسل سعيد بن جبير ، أخرجه برقم ١٠٥٥٨ ومن مرسل ابن زيد ، برقم ١٠٥٦٢. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

(٣٧٥) أخرجه الطبري ١٠٥٧٦ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرجه الطبري ١٠٥٥٤ عن عطية العوفي عن ابن عباس قال : كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيرغب أن ينكحها أو يجامعها ، ولا يعطيها مالها ، رجاء أن تموت فيرثها. وأخرجه الطبري ١٠٥٤٩ و ١٠٥٥٠ عن إبراهيم النّخعي مرسلا. وأخرجه برقم ١٠٥٥١ عن أبي مالك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

(٣٧٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٠٠ ومسلم ٣٠١٨ وأبو داود ٢٠٦٨ والنسائي في «التفسير» ١٤٤ والواحدي ٣٦٨ في «أسباب النزول» والبيهقي ٧ / ١٤١ ـ ١٤٢ والطبري ١٠٥٥٩ كلهم عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) إلى قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) قالت عائشة : هو

__________________

(١) في «اللسان» : الغرائر : جمع غرارة : وهي الجوالق التي يوضع فيها التبن والقمح وغيرهما.


تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة عليها‌السلام.

(٣٧٧) والرابع : أن رجلا كانت له امرأة كبيرة ، وله منها أولاد ، فأراد طلاقها ، فقالت : لا تفعل ، واقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر فقال : لئن كان هذا يصلح ، فهو أحبّ إليّ ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر له ذلك ، فقال : «قد سمع الله ما تقول ، فإن شاء أجابك» ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.

والخامس : أنّ وليّ اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها ، فنزلت هذه الآية ، ونهوا أن ينكحوهنّ ، أو يبلغوا بهنّ سنتهنّ من الصّداق ، ذكره القاضي أبو يعلى.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ) أي : يطلبون منك الفتوى ، وهي تبيين المشكل من الأحكام. وقيل : الاستفتاء : الاستخبار. قال المفسّرون : والذي استفتوه فيه ، ميراث النّساء ، وذلك أنهم قالوا : كيف ترث المرأة والصّبيّ الصّغير؟

قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قال الزجّاج : موضع «ما» رفع ، المعنى : الله يفتيكم فيهنّ ، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهنّ. وهو قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الآية. والذي تلي عليهم في التّزويج قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١). وفي يتامى النّساء قولان : أحدهما : أنهنّ النّساء اليتامى ، فأضيفت الصّفة إلى الاسم ، كما تقول : يوم الجمعة. والثاني : أنهنّ أمّهات اليتامى ، فأضيف إليهنّ أولادهنّ اليتامى.

وفي الذي كتب لهنّ قولان : أحدهما : أنه الميراث ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين. والثاني : أنه الصّداق. ثم في المخاطب بهذا قولان : أحدهما : أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها. والثاني : وليّ اليتيمة ، كان إذا تزوّجها لم يعدل في صداقها.

وفي قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) قولان : أحدهما : وترغبون في نكاحهنّ رغبة في جمالهنّ ، وأموالهنّ ، هذا قول عائشة ، وعبيدة. والثاني : وترغبون عن نكاحهنّ لقبحهنّ ، فتمسكوهنّ رغبة في أموالهنّ ، وهذا قول الحسن.

قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) قال الزجّاج : موضع «المستضعفين» خفض على قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) المعنى : وفي الولدان. قال ابن عباس : يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيرا من الغلمان والجواري ، فنهاهم الله عن ذلك ، وبيّن لكلّ ذي سهم

____________________________________

الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته ، فيعضلها فنزلت هذه الآية.

وقوله «فيعضلها» : أي لم يعاملها معاملة الأزواج لنسائهم ، ولم يتركها تتصرف في نفسها ، فكأنه قد منعها.

(٣٧٧) لم أر من أسنده عن سعيد ، وهو مرسل ، والمرسل من قسم الضعيف ، وتقدم روايات كثيرة ، ليس فيها ما هو مرفوع لفظي ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة النساء : ٣.


سهمه. قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) قال الزجّاج : موضع «أن» خفض ، فالمعنى : في يتامى النّساء ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس : يريد العدل في مهورهنّ ومواريثهنّ.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨))

قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٧٨) أحدها : أن سودة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله لا تطلّقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٣٧٩) والثاني : أن بنت محمّد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج ، فكره منها أمرا ، إما كبرا ، وإمّا غيره ، فأراد طلاقها ، فقالت : لا تطلّقني ، واقسم لي ما شئت ، فنزلت هذه الآية ، رواه الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب ، وقال مقاتل : واسمها خويلة (١).

والثالث : قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها.

(٣٨٠) وقالت عائشة : نزلت في المرأة تكون عند الرجل ، فلا يستكثر منها ، ويريد فراقها ، ولعلها تكون له محبّة أو يكون لها ولد فتكره فراقه ، فتقول له : لا تطلّقني وأمسكني ، وأنت في حلّ من شأني. رواه البخاريّ ، ومسلم.

وفي خوف النّشوز قولان : أحدهما : أنه العلم به عند ظهوره. والثاني : الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجّاج : والنّشوز من بعل المرأة : أن يسيء عشرتها ، وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو

____________________________________

(٣٧٨) أخرجه الترمذي ٣٠٤٠ والطبري ١٠٦١٣ من حديث ابن عباس بهذا اللفظ ، وقال الترمذي : حسن غريب.

ـ قلت : إسناده غير قوي لأنه من رواية سماك عن عكرمة ، وهي مضطربة ، ولكن ورد من وجه آخر بنحوه.

أخرجه أبو داود ٢١٣٥ والحاكم ٢ / ١٨٦ من حديث عائشة وصححه ، ووافقه الذهبي ، وإسناده حسن لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد. وخبر سودة دون ذكر نزول الآية ، أخرجه مسلم ١٤٦٣ وابن حبان ٤٢١١ من حديث عائشة قالت : ما رأيت امرأة أحب إليّ أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة ، من امرأة فيها حدة.

قالت : فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة. قالت : يا رسول الله : قد جعلت يومي منك لعائشة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة يومين ، يومها ويوم سودة. أخرجه البخاري ٥٢١٢ ومسلم ١٤٦٣ والنسائي في «الكبرى» ٧٩٣٤ وابن ماجة ١٩٧٢ مختصرا والبيهقي ٧ / ٧٤ ـ ٧٥ من حديث عائشة مطولا وليس فيه سبب نزول الآية. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٤٨١ بتخريجنا.

(٣٧٩) مرسل. أخرجه الشافعي ١ / ٢٥٠ والواحدي ٣٧٠ والبيهقي ٧ / ٢٩٦ عن ابن المسيب مرسلا.

ـ وورد من حديث رافع بن خديج. أخرجه مالك ٢ / ٥٤٨ ـ ٥٤٩ ، والحاكم ٢ / ٣٠٨ ، ولكن ليس فيه نزول الآية. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٣٨٠) صحيح. أخرجه البخاري ٢٤٥٠ و ٢٦٩٤ و ٤٦٠١ ومسلم ٣٠٢١ والبيهقي ٧ / ٢٩٦ والواحدي ٣٦٩ والطبري ١٠٥٨٩ و ١٠٥٩٠ و ١٠٥٩١ عن عائشة به. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٤٨٣.

__________________

(١) ورد اسمها في «تفسير القرطبي» ٥ / ٣٨٤ و «تفسير البغوي» ١ / ٤٨٦ خولة بنت محمد بن مسلمة ، وفي بقية كتب التفاسير ابنة محمد بن مسلمة ، ولم تسمّ.


سليمان : نشوزا ، أي : نبوّا عنها إلى غيرها ، أو إعراضا عنها ، واشتغالا بغيرها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يصّالحا» بفتح الياء والتشديد. والأصل : «يتصالحا» ، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «يصلحا» بضم الياء والتخفيف. قال المفسّرون : والمعنى : أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به ، وتدوم بينهما الصّحبة ، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن عليّ ، وابن عباس : أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها ، أو بعض أيامها ، بأن يجعله لغيرها.

وفي قوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قولان (١) : أحدهما : خير من الفرقة ، قاله مقاتل ، والزجّاج. والثاني : خير من النّشوز والإعراض ، ذكره الماورديّ. قال قتادة : متى ما رضيت بدون ما كان لها ، واصطلحا عليه ، جاز ، فإن أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف.

قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) «أحضرت» بمعنى : ألزمت. و «الشّح» : الإفراط في الحرص على الشّيء. وقال ابن فارس : «الشّح» : البخل مع الحرص ، وتشاحّ الرجلان على الأمر : لا يريدان أن يفوتهما ، وفيمن يعود إليه هذا الشّح من الزوجين قولان : أحدهما : المرأة ، فتقديره : وأحضرت نفس المرأة الشّح بحقّها من زوجها ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير. والثاني : الزّوجان جميعا ، فالمرأة تشحّ على مكانها من زوجها ، والرجل يشحّ عليها بنفسه إذا كان غيرها أحبّ إليه ، هذا قول الزجّاج. وقال ابن زيد : لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلّله ، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها ، فتعطّفه عليها.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) فيه قولان : أحدهما : بالصّبر على التي يكرها. والثاني : بالإحسان إليها في عشرتها. قوله تعالى : (وَتَتَّقُوا) يعني الجور عليها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم عليه.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩))

قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) قال أهل التفسير : لن تطيقوا أن تسووا بينهنّ في المحبة التي هي ميل الطّباع ، لأن ذلك ليس من كسبكم (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على ذلك (فَلا تَمِيلُوا) إلى التي تحبّون في النّفقة والقسم. وقال مجاهد : لا تتعمّدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلّقة قال ابن عباس : المعلّقة : التي لا هي أيّم ، ولا ذات بعل. وقال قتادة : المعلّقة : المسجونة. قوله تعالى : (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أي : بالعدل في القسمة (وَتَتَّقُوا) الجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لميل القلوب.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ : وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها ، لرغبته عنها ، إما لمرض بها أو كبر أو دمامة ، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك ، لقول الله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ...) الآية. ومتى صالحته على ترك شيء من قسمها أو نفقتها أو على ذلك كله ، جاز ، فإن رجعت ، فلها ذلك. قال أحمد ، في الرجل يغيب عن امرأته ، فيقول لها : إن رضيت على هذا وإلا فأنت أعلم. فتقول : قد رضيت. فهو جائز ، فإن شاءت رجعت.


(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) يقول : وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إليها ، واختارت الفرقة ، فإنّ الله يغني كلّ واحد من سعته. قال ابن السّائب : يغني المرأة برجل ، والرجل بامرأة. ثم ذكر ما يوجب الرّغبة إليه في طلب الخير ، فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني : أهل التّوراة ، والإنجيل ، وسائر الكتاب (وَإِيَّاكُمْ) يا أهل القرآن (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) قيل : وحّدوه (وَإِنْ تَكْفُرُوا) بما أوصاكم به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يضرّه خلافكم. وقيل : له ما في السماوات ، وما في الأرض من الملائكة ، فهم أطوع له منكم. وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى «الغنيّ الحميد» (١) ، وفي آل عمران معنى «الوكيل» (٢).

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣))

قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) قال ابن عباس : يريد المشركين والمنافقين (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أطوع له منكم. وقال أبو سليمان : هذا تهدّد للكفّار ، يقول : إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به ، وكذّبوا رسله.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) قيل : إنّ هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدّقون بالقيامة ، وإنما يطلبون عاجل الدنيا ، ذكره أبو سليمان. وقال الزجّاج : كان مشركو العرب يتقرّبون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ، ويصرف عنهم شرّها ، ولا يؤمنون بالبعث ، فأعلم الله عزوجل أن خير الدنيا والآخرة عنده. وذكر الماورديّ أن المراد بثواب الدنيا : الغنيمة في الجهاد ، وثواب الآخرة : الجنّة. قال : والمراد بالآية : حثّ المجاهد على قصد ثواب الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) في سبب نزولها قولان :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٧.

(٢) سورة آل عمران : ١٧٣.


(٣٨١) أحدهما : أن فقيرا وغنيّا اختصما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان صغوه (١) مع الفقير يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنيّ ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السّدّيّ. والثاني : أنها متعلّقة بقصّة ابن أبيرق ، فهي خطاب للذين جادلوا عنه ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ (٢).

و «القوّام» : مبالغة من قائم. و «القسط» : العدل. قال ابن عباس : كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ولو على أنفسكم. وقال الزجّاج : معنى الكلام : قوموا بالعدل ، واشهدوا لله بالحقّ ، وإن كان الحقّ على الشّاهد ، أو على والديه ، أو قريبه (٣) ، (إِنْ يَكُنْ) المشهود له (غَنِيًّا) فالله أولى به ، وإن يكن فقيرا فالله أولى به. فأما الشهادة على النفس ، فهي إقرار الإنسان بما عليه من حقّ. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه ، ولا إلى غناه ، فإنّ الله تعالى أولى بالنّظر إليهما. قال عطاء : لا تحيفوا على الفقير ، ولا تعظّموا الغنيّ ، فتمسكوا عن القول فيه. وممّن قال : إن الآية نزلت في الشّهادات ، ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والزّهريّ ، وقتادة ، والضّحّاك. قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن معناه : فلا تتّبعوا الهوى ، واتّقوا الله أن تعدلوا عن الحقّ ، قاله مقاتل. والثاني : ولا تتّبعوا الهوى لتعدلوا ، قاله الزجّاج. والثالث : فلا تتّبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحقّ. والرابع : فلا تتّبعوا الهوى فتعدلوا ، ذكرهما الماورديّ. قوله

____________________________________

(٣٨١) ضعيف ، أخرجه الطبري ١٠٦٨٣ عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» ٣٧١ ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «أسباب النزول» للسيوطي.

ـ وفي الطبري والواحدي وكان ـ ضلعه ـ بدلا من وكان ـ صغوه ـ.

__________________

(١) في «اللسان» : صغا : مال ويقال صغوه معك : أي ميله معك.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٢٠ : وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا ، وخيانتهم ما خانوا ممن ذكر قيل ، عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٤ / ١٣٧ : من لزمته الشهادة ، فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك. وجملته أن أداء الشهادة من فروض الكفايات ، فإن تعينت عليه ، بأن لا يتحملها من يكفي فيها سواه ، لزمه القيام بها. وإن قام بها اثنان غيره ، سقط عنه أداؤها إذا قبل الحاكم. فإن كان تحمّلها جماعة ، فأداؤها واجب على الكل ، إذا امتنعوا أثموا كلهم ، كسائر فروض الكفاية. ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا ، للولد وإن سفل ، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا ، وبه قال شريح ، والحسن ، ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي.

وروي عن أحمد رواية ثانية ، تقبل شهادة الابن لأبيه ، ولا تقبل شهادة الأب له ، لأن مال الابن في حكم مال الأب ، له أن يتملكه إذا شاء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك». وأما شهادة أحدهما على صاحبه ، فتقبل. نصّ عليه أحمد. وهذا قول عامة أهل العلم ، ولم أجد في «الجامع» فيه خلافا ، وذلك لقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). فأمر بالشهادة عليهم ، ولو لم تقبل لما أمر بها ، ولأنها ردّت للتهمة في إيصال النفع ، ولا تهمة في شهادته عليه ، فوجب أن تقبل ، كشهادة الأجنبي ، بل أولى.

وقال بعض الشافعية : لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ، ولا حدّ قذف ، لأنه لا يقتل بقتله ، ولا يحدّ بقذفه ، فلا يلزمه ذلك. والمذهب الأوّل ، لأنه يتهم له ولا يتهم عليه ، فشهادته عليه أبلغ في الصّدق ، كإقراره على نفسه.


تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، والكسائيّ ، تلووا ، بواوين ، الأولى مضمومة ، واللام ساكنة. وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال : أحدها : أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحقّ. قال ابن عباس : يلوي لسانه بغير الحقّ ، ولا يقيم الشهادة على وجهها ، أو يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم ، أو يعرض عن بعضهم ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه. ويكون : «أو تعرضوا» بمعنى : وتعرضوا ، ذكره الماورديّ. وقرأ الأعمش ، وحمزة ، وابن عامر : «تلوا» بواو واحدة ، واللّام مضمومة. والمعنى : أن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا ، فيكون الخطاب للحكّام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في سبب نزولها قولان :

(٣٨٢) أحدهما : أن عبد الله بن سلّام ، وأسدا ، وأسيدا ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلّاما ، وسلمة ، ويامين. وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، والتّوراة ، وعزير ، ونكفر بما سوى ذلك من الكتاب والرّسل ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لمّا أسلموا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل (١).

وفي المشار إليهم بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنهم المسلمون ، قاله الحسن ، فيكون المعنى : يا أيّها الذين آمنوا بمحمّد والقرآن اثبتوا على إيمانكم. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله الضّحّاك ، فيكون المعنى : يا أيّها الذين آمنوا بموسى ، والتّوراة ، وبعيسى ، والإنجيل : آمنوا بمحمّد والقرآن. والثالث : المنافقون ، قاله مجاهد ، فيكون المعنى : يا أيّها الذين آمنوا في الظّاهر بألسنتهم ، آمنوا بقلوبكم.

____________________________________

(٣٨٢) باطل. ذكره البغوي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط : الكلبي متروك كذاب ، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس. وانظر ترجمتهما في «الميزان». وذكره الواحدي في أسباب النزول ٣٧٢ عن الكلبي بدون إسناد ، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٧٦ : ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

__________________

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان عند الإطلاق ، وهو متهم بالوضع ، فخبره لا شيء.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٢٤ : يعني الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل ، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله ، يعني بما هم مؤمنون من الكتاب والرسل ، (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله ، تجدون صفته في كتبكم ، ذلك بأنهم كانوا صنفين : أهل التوراة مصادقين بها وبمن جاء بها ، وهم مكذبون بالإنجيل وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما ، وصنف أهل الإنجيل ، وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتاب ، مكذبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفرقان.


قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «نزّل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل» مضمومتين. وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : نزل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل مفتوحتين. والمراد بالكتاب : الذي نزل على رسوله القرآن ، والكتاب الذي أنزل من قبل : كلّ كتاب أنزل قبل القرآن ، فيكون «الكتاب» ها هنا اسم جنس.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها في اليهود آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعد موسى ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد عليه‌السلام ، هذا قول ابن عباس. وروي عن قتادة قال : آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعبادة العجل ، ثم آمنوا به بعد عوده ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد. والثاني : أنها في اليهود والنّصارى ، آمن اليهود بالتّوراة ، وكفروا بالإنجيل ، وآمن النّصارى بالإنجيل. ثم تركوه فكفروا به ، ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمّد ، رواه شيبان عن قتادة. وروي عن الحسن قال : هم قوم من أهل الكتاب ، قصدوا تشكيك المؤمنين ، فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر ، ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل : آمنوا بالتّوراة وموسى ، ثم كفروا من بعد موسى ، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل ، ثم كفروا من بعده ، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد والقرآن. والثالث : أنها في المنافقين آمنوا ، ثم ارتدّوا ، ثم ماتوا على كفرهم ، قاله مجاهد. وروى ابن جريج عن مجاهد (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال : ثبتوا عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ما أقاموا على ذلك (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أي : لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قال : وإنما علّق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر ، لأنّ المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره ، فإذا ارتدّ طولب بالكفر الأوّل (٢).

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٢٦ : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة ، ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذّب به بخلافه إياه ، ثم كذّب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفرقان ، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٢٦٤ : ومن ارتد عن الإسلام من الرّجال والنساء ، وكان بالغا عاقلا ، دعي إليه ثلاثة أيام ، وضيّق عليه ، فإن رجع ، وإلا قتل. فإنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا. هذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن أحمد ، رواية أخرى ، أنه لا تجب استتابته ، ولكن تستحب. وهذا القول الثاني للشافعي ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم يذكر استتابته. وإن مفهوم كلام الخرقي ، أنه إذا تاب قبلت توبته ، ولم يقتل أي كفر كان ، وهذا مذهب الشافعي. وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال ، وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله. والرواية الأخرى لا تقبل توبة الزنديق ، ومن تكررت ردته.

وهو قول مالك ، والليث وإسحاق ، وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين. فأما من تكررت ردّته فقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً). وقد روي عن ظبيان بن عمارة ، أن رجلا من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة ، فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة ، فرجع إلى ابن مسعود ، فذكر له ذلك ، فبعث إليهم ، فأتي بهم فاستتابهم فتابوا ، فخلّى سبيلهم ، إلا رجلا منهم يقال له ابن النّوّاحة. قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت ، وأراك عدت. فقتله.


(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨))

قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة الفتح للنبيّ والمؤمنين قال عبد الله بن أبيّ ونفر معه : فما لنا؟ فنزلت هذه الآية (١). وقال غيره : كان المنافقون يتولّون اليهود ، فألحقوا بهم في التّبشير بالعذاب. وقال الزجّاج : معنى الآية : اجعل موضع بشارتهم العذاب. والعرب تقول : تحيّتك الضّرب ، أي : هذا بدل لك من التّحيّة. قال الشاعر :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) قال ابن عباس : يتّخذون اليهود أولياء في العون والنّصرة. قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي : القوّة بالظّهور على محمّد وأصحابه ، والمعنى : أيتّقون بهم؟ قال مقاتل : وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزجّاج : أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزّة. و «العزّة» : المنعة ، وشدّة الغلبة ، وهو مأخوذ من قولهم : أرض عزاز. قال الأصمعيّ : العزاز : الأرض التي لا تنبت. فتأويل العزّة : الغلبة والشّدة التي لا يتعلّق بها إذلال. قالت الخنساء :

كأن لم يكونوا حمى يتقى

إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا

أي : من قوي وغلب سلب. ويقال : قد استعزّ على المريض ، أي : اشتدّ وجعه. وكذلك قول الناس : يعزّ عليّ أن يفعل ، أي : يشتدّ ، وقولهم : قد عزّ الشيء : إذا لم يوجد ، معناه : صعب أن يوجد ، والباب واحد.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠))

قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) وقرأ عاصم ، ويعقوب : «نزل» بفتح النون والزّاي. قال المفسّرون : الذي نزّل عليهم في النّهي عن مجالستهم ، قوله في الأنعام (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٣) وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ويكذّبون به ، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وآيات الله : هي القرآن. والمعنى : إذا سمعتم الكفر بآيات الله ، والاستهزاء بها ، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر ، والاستهزاء. (إِنَّكُمْ) إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك ، فأنتم (مِثْلُهُمْ) ، وفي ما ذا تقع المماثلة فيه ، قولان : أحدهما :

__________________

(١) باطل. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم بالوضع ، كما تقدم ، وخبره لا شيء ، ليس له أصل.

(٢) في «الخزانة» ٤ / ٥٣ قال البغدادي : وهذا البيت نسبه شراح أبيات «الكتاب» وغيرهم إلى عمرو بن معديكرب الصحابي ولم أره في شعره. وفي «اللسان» : دلف : الدّليف : المشي الرّويد. ودلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب تقدمت. وجيع أي موجع.

(٣) سورة الأنعام : ٦٨.


في العصيان. والثاني : في الرّضى بحالهم ، لأنّ مجالس الكافر غير كافر. وقد نبّهت الآية على التّحذير من مجالسة العصاة. قال إبراهيم النّخعيّ : إنّ الرجل ليجلس فيتكلّم بالكلمة ، فيرضي الله بها ، فتصيبه الرّحمة فتعمّ من حوله ، وإنّ الرجل ليجلس في المجلس ، فيتكلّم بالكلمة ، فيسخط الله بها ، فيصيبه السّخط ، فيعمّ من حوله.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) قال أبو سليمان : هذه الآية نزلت في المنافقين خاصّة. قال مقاتل : كان المنافقون يتربّصون بالمؤمنين الدّوائر ، فإن كان الفتح ، (قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)؟ فأعطونا من الغنيمة. (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) ، أي دولة على المؤمنين ، قالوا للكفّار : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ)؟ قال المبرّد : ومعنى : ألم نستحوذ عليكم : ألم نغلبكم على رأيكم. وقال الزجّاج : ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. و «نستحوذ» في اللغة ، بمعنى : نستولي ، يقال : حذت الإبل ، وحزتها : إذا استوليت عليها وجمعتها. وقال غيره : ألم نستول عليكم بالمعونة والنّصرة؟ وقال ابن جريج : ألم نبيّن لكم أنّا على دينكم؟ وفي قوله تعالى : (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم. والثاني : بما نعلمكم من أخبارهم. والثالث : بصرفنا إيّاكم عن الدخول عن الإيمان. ومراد الكلام : إظهار المنّة من المنافقين على الكفّار ، أي : فاعرفوا لنا هذا الحقّ عليكم.

قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس : يريد أنه أخّر عقاب المنافقين. قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة ، روى يسيع الحضرميّ عن عليّ بن أبي طالب أن رجلا جاءه ، فقال : أرأيت قول الله عزوجل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ، فقال : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ) يوم القيامة (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). هذا مرويّ عن ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أن المراد بالسبيل : الظّهور عليهم ، يعني : أن المؤمنين هم الظّاهرون ، والعاقبة لهم ، وهذا المعنى في رواية عكرمة ، عن ابن عباس. والثالث : أن السّبيل : الحجّة. قال السّدّيّ : لم يجعل الله عليهم حجّة ، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الدّيار. قال ابن جرير : لمّا وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنّة ، ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجّة بأن يقولوا لهم : أنتم كنتم أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) أي : يعملون عمل المخادع. وقيل : يخادعون نبيّه ،


وهو خادعهم ، أي : مجازيهم على خداعهم. وقال الزجّاج : لمّا أمر بقبول ما أظهروا ، كان خادعا لهم بذلك. وقيل : خداعه إياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم ، وقد شرحنا طرفا من هذا في (البقرة). قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي : متثاقلين. و (كُسالى) : جمع كسلان ، و «الكسل» : التّثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجونيّ : «كسالى» بفتح الكاف ، وقرأ ابن السّميقع : «كسلى» ، بفتح الكاف من غير ألف. وإنما كانوا هكذا ، لأنهم يصلون حذرا على دمائهم ، لا يرجون بفعلها ثوابا ، ولا يخافون بتركها عقابا. قوله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي : يصلّون ليراهم النّاس. قال قتادة : والله لو لا الناس ما صلّى المنافق. وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال : أحدها : أنه سمّي قليلا ، لأنه غير مقبول ، قاله عليّ رضي الله عنه ، وقتادة. والثاني : لأنه رياء ، ولو كان لله لكان كثيرا ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثالث : أنه قليل في نفسه ، لأنهم يقتصرون على ما يظهر ، دون ما يخفى من القراءة والتّسبيح ، ذكره الماورديّ.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

قوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) المذبذب : المتردّد بين أمرين ، وأصل التّذبذب : التّحرّك ، والاضطراب ، وهذه صفة المنافق ، لأنه محيّر في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح. قال قتادة : ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشّرك ، ولا بالمؤمنين المخلصين. قال ابن زيد : ومعنى (بَيْنَ ذلِكَ) : بين الإسلام والكفر ، لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفّار ، ولم يصدقوا الإيمان ، فيكونوا إلى المؤمنين. قال ابن عباس : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى.

(٣٨٣) وقد روى ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثل المنافق : مثل الشّاة العائرة (١) بين الغنمين تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، ولا تدري أيّها تتبّع».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤))

قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) في المراد بالكافرين قولان :

أحدهما : اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : المنافقون ، قال الزجّاج : ومعنى الآية : لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم. والسّلطان : الحجّة الظّاهرة ، وإنما قيل للأمير : سلطان ، لأنه حجّة الله في أرضه ، واشتقاق السّلطان : من السّليط. والسّليط : ما يستضاء به ، ومن هذا قيل للزّيت : السّليط. والعرب تؤنّث السّلطان وتذكّره ، تقول : قضت عليك السّلطان ، وأمرتك السّلطان ، والتّذكير أكثر ، وبه جاء القرآن ، فمن أنّث ، ذهب إلى معنى الحجّة ، ومن ذكّر ، أراد صاحب السّلطان. قال ابن الأنباريّ : تقدير

____________________________________

(٣٨٣) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٨٤ والنسائي ٨ / ١٢٤ وأحمد ٢ / ١٠٢ و ١٤٣ والرامهرمزي في «الأمثال» ص ٨٦ من طرق عن عبد الله بن عمر.

__________________

(١) العائرة : المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع.


الآية : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجّة بيّنة تلزمكم عذابه ، وتكسبكم غضبه؟

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : بفتح الراء ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف : بتسكين الراء. قال الفرّاء : وهي لغتان. قال أبو عبيدة : جهنّم أدراك ، أي : منازل ، وأطباق. فكلّ منزل منها : درك. وحكى ابن الأنباريّ عن بعض العلماء أنه قال : الدّركات : مراق ، بعضها تحت بعض. وقال الضّحّاك : الدّرج : إذا كان بعضها فوق بعضها ، والدّرك : إذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال ابن فارس : الجنة درجات ، والنار دركات. وقال ابن مسعود في هذه الآية : هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم. قال ابن الأنباريّ : المبهمة : التي لا أقفال عليها ، يقال : أمر مبهم : إذا كان ملتبسا ولا يعرف معناه ، ولا بابه.

قوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) قال ابن عباس : مانعا من عذاب الله.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قال مقاتل : سبب نزولها : أنّ قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين : فقد كان فلان وفلان منافقين ، فتابوا ، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية (١). ومعنى الآية : إلّا الذين تابوا من النّفاق (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بعد التّوبة (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أي : استمسكوا بدينه. (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) فيه قولان :

أحدهما : أنه الإسلام ، وإخلاصه : رفع الشّرك عنه ، قاله مقاتل.

والثاني : أنه العمل ، وإخلاصه : رفع شوائب النّفاق والرّياء منه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) في «مع» قولان :

أحدهما : أنها على أصلها ، وهو الاقتران. وفي ما ذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان :

أحدهما : في الولاية ، قاله مقاتل. والثاني : في الدّين والثّواب. قاله أبو سليمان.

والثاني : أنها بمعنى «من» فتقديره : فأولئك من المؤمنين ، قاله الفرّاء.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) «ما» حرف استفهام ، ومعناه : التّقرير ، أي : إنّ الله لا يعذّب الشاكر المؤمن ، ومعنى الآية : ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه ، وآمنتم به وبرسوله. والإيمان مقدّم في المعنى وإن أخّر في اللفظ. وروي عن ابن عباس أنّ المراد بالشّكر : التّوحيد. قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي : للقليل من أعمالكم ، عليما بنيّاتكم ، وقيل : شاكرا ، أي : قابلا.

__________________

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط ، وتقدم.


(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨))

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) في سبب نزولها قولان :

(٣٨٤) أحدهما : أنّ ضيفا تضيّف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم ، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا ، قاله مجاهد.

(٣٨٥) والثاني : أنّ رجلا نال من أبي بكر الصّدّيق والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مرارا ، ثم ردّ عليه ، فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا ، حتى إذا رددت عليه قمت؟! فقال : «إنّ ملكا كان يجيب عنك ، فلمّا رددت عليه ، ذهب الملك ، وجاء الشّيطان» فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل.

واختلف القرّاء في قراءة (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فقرأ الجمهور بضم الظاء ، وكسر اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو ، والحسن ، وابن المسيّب ، وأبو رجاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك ، وزيد بن أسلم ، بفتحهما. فعلى قراءة الجمهور ، في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : إلا أن يدعو المظلوم على من ظلمه ، فإنّ الله قد أرخص له ، قاله ابن عبّاس. والثاني : إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه ، قاله الحسن ، والسّدّي. والثالث : إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى ابن جريج عنه قال : إلا أن يجهر الضّيف بذمّ من لم يضيّفه. فأمّا قراءة من فتح الظاء ، فقال ثعلب : هي مردودة على قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) إلّا من ظلم. وذكر الزجّاج فيها قولين : أحدهما : أنّ المعنى : إلّا أن الظّالم يجهر بالسّوء ظلما. والثاني : إلّا أن تجهروا بالسّوء للظّالم. فعلى هذا تكون «إلّا» في هذا المكان استثناء منقطعا ، ومعناها : لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء. ولكنّ الظّالم قد يجهر بالسوء. واجهروا له بالسوء. وقال ابن زيد : إلّا من ظلم ، أي : أقام على النّفاق ، فيجهر له بالسوء حتى ينزع.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) أي : لما تجهرون به من سوء القول (عَلِيماً) بما تخفون. وقيل : سميعا لقول المظلوم ، عليما بما في قلبه ، فليتّق الله ، ولا يقل الّا الحقّ. وقال الحسن : من ظلم ، فقد رخّص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي ، مثل أن يقول : اللهمّ أعنّي عليه ، اللهمّ استخرج لي حقّي ، اللهمّ حل بينه وبين ما يريد.

____________________________________

(٣٨٤) ضعيف ، أخرجه عبد الرزاق ٦٥٤ والطبري ١٠٧٥٨ عن مجاهد مرسلا ، فهو ضعيف.

وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٧٣ بدون إسناد والبغوي في «التفسير» ١ / ٤٩٤ عن مجاهد.

(٣٨٥) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو واه. وورد دون ذكر الآية ونزولها. أخرجه أبو داود ٤٨٩٦ عن سعيد بن المسيب مرسلا. وأخرجه برقم ٤٨٩٧ من طريق ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه متصلا ، وإسناده حسن لأجل محمد بن عجلان. وقال المنذري في «الترغيب» ٤٠٥١ رواه أبو داود هكذا مرسلا ومتصلا من طريق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه ، وذكر البخاري في تاريخه أن المرسل أصح. ولفظ مرسل سعيد بن المسيب : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه ، فصمت عنه أبو بكر ، ثم آذاه الثانية ، فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة ، فانتصر منه أبو بكر ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انتصر أبو بكر ، فقال أبو بكر : أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك ، فلما انتصرت وقع الشيطان ، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان».


(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) قال ابن عباس : يريد من أعمال البرّ كالصّيام والصّدقة. وقال بعضهم : إن تبدوا خيرا بدلا من السوء. وأكثرهم على أن «الهاء» في (تُخْفُوهُ) تعود إلى الخير. وقال بعضهم : تعود إلى السوء. قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) قال أبو سليمان : أي : لم يزل ذا عفو مع قدرته ، فاعفوا أنتم مع القدرة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، كانوا يؤمنون بموسى ، وعزير ، والتّوراة ، ويكافرون بعيسى ، والإنجيل ، ومحمّد ، والقرآن ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم اليهود والنّصارى ، آمن اليهود بالتّوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى ، وآمن النّصارى بالإنجيل وعيسى ، وكفروا بمحمّد والقرآن ، قاله قتادة.

ومعنى قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي : يريدون أن يفرّقوا بين الإيمان بالله ، والإيمان برسله ، ولا يصحّ الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي : بين إيمانهم ببعض الرّسل ، وتكذيبهم ببعض (سَبِيلاً) أي : مذهبا يذهبون إليه ، وقال ابن جريج : دينا يدينون به.

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) ذكر «الحقّ» هاهنا توكيا لكفرهم إزالة لتوهّم من يتوهّم أنّ إيمانهم ببعض الرّسل يزيل عنهم اسم الكفر.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣))

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال (١) :

أحدها : أنهم سألوه أن ينزّل كتابا عليهم خاصّة ، هذا قول الحسن ، وقتادة.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٤٦ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق ، آمرة لهم باتباعه.


(٣٨٦) والثاني : أن اليهود والنّصارى أتوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنّك رسول الله ، وإلى فلان بكتاب أنّك رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن جريج.

(٣٨٧) والثالث : أن اليهود سألوا النبيّ عليه‌السلام أن ينزّل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما نزلت التّوراة على موسى ، هذا قول القرظيّ ، والسّدّي.

وفي المراد بأهل الكتاب قولان : أحدهما : اليهود والنّصارى. والثاني : اليهود. وفي المراد بالكتاب المنزّل من السماء قولان : أحدهما : كتاب مكتوب غير القرآن. والثاني : كتاب بتصديقه في رسالته. وقد بيّنا في البقرة معنى سؤالهم رؤية الله جهرة ، واتّخاذهم العجل. و (الْبَيِّناتُ) الآيات التي جاء بها موسى. فإن قيل : كيف قال : ثم اتّخذوا العجل ، و «ثم» تقتضي التّراخي ، والتّأخّر ، أفكان اتّخاذ العجل بعد قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)؟ فعنه أربعة أجوبة : ذكرهنّ ابن الأنباريّ. أحدهن : أن تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم ، والمعنى : وإذ وعدنا موسى أربعين فخالفوا أيضا ، ثم اتّخذوا العجل. والثاني : أن تكون مقدّمة في المعنى ، مؤخّرة في اللفظ ، والتقدير : فقد اتّخذوا العجل ، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك ، ومثله (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (١) المعنى : فألقه إليهم ، ثم انظر ما ذا يرجعون ، ثم تولّ عنهم. والثالث : أن المعنى ، ثم كانوا اتّخذوا العجل ، فأضمر الكون. والرابع : أن ثم معناها التّأخير في الإخبار ، والتّقديم في الفعل ، كما يقول القائل : شربت الماء ، ثم أكلت الخبز ، يريد : شربت الماء ، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء.

قوله تعالى : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي : لم نستأصل عبدة العجل. و «السّلطان المبين» : الحجّة البيّنة. قال ابن عباس : اليد والعصا. وقال غيره : الآيات التّسع.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤))

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) أي : بما أعطوا الله من العهد والميثاق : ليعملنّ بما في التّوراة. قوله تعالى : (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) قرأ نافع : «لا تعدّوا» بتسكين العين وتشديد الدّال ، وروى عنه ورش «تعدّوا» بفتح العين وتشديد الدال ، وقرأ الباقون «تعدوا» خفيفة ، وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة. و «الميثاق الغليظ» : العهد المؤكّد.

____________________________________

(٣٨٦) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٠٧٧٦ عن ابن جريج ، وهذا معضل ، وما يرسله ابن جريج واه ، ليس بشيء.

قال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٦٥٩ : قال الإمام أحمد : بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة.

(٣٨٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٧٧٣ عن السدي مرسلا. وبرقم ١٠٧٧٤ عن كعب القرظي.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٨.


(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥))

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) «ما» صلة مؤكّدة. قال الزجّاج : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، وهو أنّ الله أخذ عليهم الميثاق أن يبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره. والجالب للباء العامل فيها ، وقوله تعالى : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) (١) أي : بنقضهم ميثاقهم ، والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم. وقوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) (٢) بدل من قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ). وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس : الطّبع : الختم ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور فلم يوفق لخير ، والطابع : الخاتم يختم به. قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) فيه قولان : أحدهما : فلا يؤمن منهم إلّا القليل ، وهم عبد الله بن سلّام ، وأصحابه ، قاله ابن عباس. والثاني : المعنى : إيمانهم قليل ، وهو قولهم : ربّنا الله ، قاله مجاهد.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦))

قوله تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ) في إعادة ذكر الكفر فائدة وفيها قولان : أحدهما : أنه أراد : وبكفرهم بمحمّد والقرآن ، قاله ابن عباس. والثاني : وبكفرهم بالمسيح ، وقد بشّروا به ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة : قذفهم مريم بالزّنى.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨))

قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) قال الزجّاج : أي باعترافهم بقتلهم إيّاه ، وما قتلوه ، يعذّبون عذاب من قتل ، لأنّهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي.

وفي قوله تعالى : (رَسُولَ اللهِ) قولان : أحدهما : أنه من قول اليهود ، فيكون المعنى : أنه رسول الله على زعمه. والثاني : أنه من قول الله ، لا على وجه الحكاية عنهم.

قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي : ألقي شبهه على غيره. وفيمن ألقي عليه شبهه قولان : أحدهما : أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن عباس : أنّ اليهود لمّا اجتمعت على قتل عيسى ، أدخله جبريل خوخة لها روزنة (٣) ، ودخل وراءه رجل منهم ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلمّا خرج على أصحابه ، قتلوه يظنّونه عيسى ، ثم صلبوه ، وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان. والثاني : أنه رجل من أصحاب عيسى ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنّ عيسى خرج على أصحابه لمّا أراد الله رفعه ، فقال : أيّكم يلقى عليه شبهي ، فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ ، فقال :

__________________

(١) سورة النساء : ١٦٠.

(٢) سورة النساء : ١٦٠.

(٣) الروزنة : الكوّة ، وقيل : الخرق في أعلى السقف ، ويقال للكوّة النافذة : الرّوزن.


أنا ، فقال : اجلس ، ثم أعاد القول ، فقام الشابّ ، فقال عيسى : اجلس ، ثم أعاد ، فقال الشابّ : أنا ، فقال : نعم أنت ذاك ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى ، وجاء اليهود ، فأخذوا الرجل ، فقتلوه ، ثم صلبوه (١). وبهذا القول قال وهب بن منبه ، وقتادة ، والسّدّي.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) في المختلفين قولان :

أحدهما : أنهم اليهود ، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان : أحدهما : أنها كناية عن قتله ، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان : أحدهما : أنهم لمّا قتلوا الشخص المشبّه كان الشّبه قد ألقي على وجهه دون جسده ، فقالوا : الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره ، ذكره ابن السّائب. والثاني : أنهم قالوا : إن كان هذا عيسى ، فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا ، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه ، هذا قول السّدّي. والثاني : أنّ «الهاء» كناية عن عيسى ، واختلافهم فيه قول بعضهم : هو ولد زنى ، وقول بعضهم ، هو ساحر.

والثاني : أنّ المختلفين النّصارى ، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى قتله ، هل قتل أم لا؟ والثاني : أنها ترجع إليه ، هل هو إله أم لا؟

وفي هاء «منه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى قتله. والثاني : إلى نفسه ، هل هو إله ، أم لغير رشدة (٢) ، أم هو ساحر؟

قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) قال الزجّاج : «اتّباع» منصوب بالاستثناء ، وهو استثناء ليس من الأوّل. والمعنى : ما لهم به من علم إلّا أنّهم يتّبعون الظّنّ ، وإن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتّباع الظّنّ ، كما تقول العرب : تحيّتك الضّرب.

قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ) في «الهاء» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها ترجع إلى الظّنّ فيكون المعنى : وما قتلوا ظنّهم يقينا ، هذا قول ابن عباس.

والثاني : أنها ترجع إلى العلم ، أي : ما قتلوا العلم به يقينا ، تقول : قتلته يقينا ، وقتلته علما للرأي والحديث. هذا قول الفرّاء ، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة : وأصل هذا : أنّ القتل للشّيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة ، يقول : فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به ، إنّما كان ظنّا.

والثالث : أنها ترجع إلى عيسى ، فيكون المعنى : وما قتلوا عيسى حقّا ، هذا قول الحسن ، وقال ابن الأنباريّ : اليقين مؤخّر في المعنى ، فالتّقدير : وما قتلوه ، بل رفعه الله إليه يقينا.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) قال الزجّاج : المعنى : وما منهم أحد إلّا ليؤمننّ

__________________

(١) ذكره ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٥٨٧ وقال : وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وغضبه وسخطه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم ... وذكر القصة. وأخرجه الطبري ١٠٧٨٤ و ١٠٧٨٥ عن وهب بن المنبه. وبرقم ١٠٧٨٦ و ١٠٧٨٧ عن قتادة. وبرقم ١٠٧٨٨ عن السدي ، وليس فيهم رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.

فهذه روايات عن أهل الكتاب يستأنس بها ، ولا يحتجّ ، فالله أعلم.

(٢) في «اللسان» : وهو لرشدة ، وهو نقيض زنية. هذا ولد رشدة : إذا كان لنكاح صحيح.


به ، ومثله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١). وفي أهل الكتاب قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله الحسن ، وعكرمة. وفي هاء «به» قولان : أحدهما : أنها راجعة إلى عيسى ، قاله ابن عباس : والجمهور. والثاني : أنها راجعة إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عكرمة. وفي هاء «موته» قولان (٢) :

أحدهما : أنها ترجع إلى المؤمن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى ، فقيل لابن عباس : إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلّم به في الهويّ (٣). قال : وهي في قراءة أبيّ : «قبل موتهم» ، وهذا قول مجاهد ، وسعيد بن جبير. وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : يؤمن اليهوديّ قبل أن يموت ، ولا تخرج روح النّصرانيّ حتى يشهد أنّ عيسى عبد. وقال عكرمة : لا تخرج روج اليهوديّ والنّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنها تعود إلى عيسى ، روى عطاء عن ابن عباس قال : إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهوديّ ولا نصرانيّ ، ولا أحد يعبد غير الله إلا اتّبعه ، وصدّقه ، وشهد أنه روح الله ، وكلمته ، وعبده

__________________

(١) سورة مريم : ٧١.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٦٠ : وأولى الأقوال بالصواب والصحة ، قول من قال : تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٩٠ : لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ، فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ولهذا قال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي موت عيسى عليه‌السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي بأعمالهم التي شاهدها قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض.

فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام ، فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل واحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال الله تعالى في أول هذه السورة : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) الآية وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) الآيتين ، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في ردّ هذا القول حيث قال : ولو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما حينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته ، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس : ولو تردّى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه سبع فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى فالإيمان به في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم. ومن تأمل هذا جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه‌السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق.

(٣) في «اللسان» : هوى ، يهوي هويّا : إذا سقط من فوق إلى أسفل.


ونبيّه. وهذا قول قتادة ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، واختاره ابن جرير ، وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج : هذا بعيد ، لعموم قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) والذين يبقون حينئذ شرذمة منهم ، إلّا أن يكون المعنى : أنهم كلّهم يقولون : إنّ عيسى الذي ينزل لقتل الدّجّال نؤمن به.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) قال قتادة : يكون عليهم شهيدا أنه قد بلّغ رسالات ربّه ، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠))

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال مقاتل : حرّم الله على أهل التّوراة الرّبا ، وأن يأكلوا أموال الناس ظلما ، ففعلوا ، وصدّوا عن دين الله ، وعن الإيمان بمحمّد عليه‌السلام ، فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (١) عقوبة لهم. قال أبو سليمان :

وظلمهم : نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وما ذكر في الآيات قبلها. وقال مجاهد : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحقّ. قال ابن عباس : صدّهم عن سبيل الله ، يعني الإسلام ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، أي : بالكذب على دين الله ، وأخذ الرّشى على حكم الله ، وتبديل الكتاب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل.

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١))

قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا) أي : أعددنا للكافرين ، يعني اليهود ، وقيل : إنّما قال «منهم» ، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون ، فيأمنون العذاب.

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قال ابن عباس : هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب ، فأمّا الرّاسخون ، فهم الثّابتون في العلم. قال أبو سليمان : وهم عبد الله بن سلّام ، ومن آمن معه ، والّذين آمنوا من أهل الإنجيل ممّن قدم مع جعفر من الحبشة ، والمؤمنون ، يعني أصحاب رسول الله. فأمّا قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) فهم القائمون بأدائها كما أمروا.

وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال : أحدها : أنه خطأ من الكاتب ، وهذا قول عائشة (٢) ، وروي عن عثمان بن عفّان أنه قال : إنّ في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها (٣). وقد قرأ ابن مسعود ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٦.

(٢) خبر عائشة ، أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص ١٦٠ ـ ١٦١ والطبري ١٠٨٤٣ من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها ، وهذا إسناد رجاله ثقات ، لكن في رواية أبي معاوية عن هشام اضطراب إلى عائشة ، أبو معاوية هو محمد بن حازم ، ويحمل هذا على اجتهاد من عائشة رضي الله عنها ، والجمهور على خلافه ، وهذا إن ثبت عنها ذلك.

(٣) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص ١٥٩ ـ ١٦٠


وأبيّ ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والجحدريّ : «والمقيمون الصّلاة» بالواو. وقال الزجّاج : قول من قال إنه خطأ ، بعيد جدا ، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة ، والقدوة ، فكيف يتركون في كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم؟! فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. وقال الأنباريّ : حديث عثمان لا يصحّ ، لأنه غير متّصل ، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئا فاسدا ، ليصلحه من بعده. والثاني : أنه نسق على «ما» والمعنى ؛ يؤمنون بما أنزل إليك ، وبالمقيمين الصّلاة ، فقيل : هم الملائكة ، وقيل : الأنبياء. والثالث : أنه نسق على الهاء والميم من قوله (مِنْهُمْ) فالمعنى : لكن الرّاسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصّلاة يؤمنون بما أنزل إليك. قال الزجّاج : وهذا رديء عند النّحويين ، لا ينسق بالظّاهر المجرور على المضمر المجرور إلّا في الشّعر. والرابع : أنه منصوب على المدح ، فالمعنى : أذكر المقيمين الصّلاة ، وهم المؤتون الزّكاة. وأنشدوا :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر (١)

وهذا على معنى : أذكر النّازلين ، وهم الطّيّبون ، ومن هذا قولك : مررت بزيد الكريم ، إن أردت أن تخلصه من غيره. فالخفض هو الكلام ، وإن أردت المدح والثّناء ، فإن شئت نصبت ، فقلت : بزيد الكريم ، كأنك قلت : اذكر الكريم ، وإن شئت رفعت على معنى : هو الكريم. وتقول : جاءني قومك المطعمين في المحل ، والمغيثون في الشّدائد على معنى : أذكر المطعمين ، وهم المغيثون ، وهذا القول اختيار الخليل ، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجّاج ، واختار هذا القول.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣))

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال ابن عباس : قال عديّ بن زيد ، وسكين : يا محمّد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي ، وذكرنا نوحا هنالك. وإسحاق : أعجميّ ، وإن وافق لفظ العربي ، يقال : أسحقه الله يسحقه إسحاقا ، ويعقوب : أعجميّ. فأما اليعقوب ، وهو ذكر الحجل وهي القبج (٢) فعربيّ ، كذلك قرأته على شيخنا أبي

__________________

ح ٢٠ / ٤٩ وابن أبي داود في «المصاحف» ص ٤٢ كلاهما عن الزبير بن خرّيت عن عكرمة ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي داود ص ٤١ عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي ، وهذا معضل مع جهالة القرشي هذا ، وكرره من وجه آخر عن قتادة ، وهو مرسل ومع إرساله فيه من لم يسمّ ، وكرره ص ٤١ ـ ٤٢ من وجه آخر عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن خطيم عن يحيى بن يعمر عن عثمان به ، وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن خطيم هذا ، وهذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة.

(١) البيتان للخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي وابنها علقمة ، وأخويها حسان وشرحبيل ، ومن قتل معه من قومه. كما في «الخزانة» ٢ / ٣٠١. والآفة : العلّة. والجزر : جمع جزور ، وهي الناقة التي تنحر. والطيبون معاقد الأزر : من عادة العرب إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج.

(٢) في «اللسان» : القبج : الكروان ، معرّب ، وهو بالفارسية كبج ، والقاف والجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.


منصور اللغويّ ، وأيّوب : أعجميّ ، ويونس : اسم أعجميّ. قال أبو عبيدة ، يقال : يونس ويونس بضم النون وكسرها ، وحكى أبو زيد الأنصاريّ عن العرب همزه مع الكسرة والضمّة والفتحة. وقال الفرّاء : يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز ، وبعض بني أسد يقول : يؤنس بالهمز ، وبعض بني عقيل يقول : يونس بفتح النون من غير همز. والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز. وقد قرأ ابن مسعود ، وقتادة ، ويحيى بن يعمر ، وطلحة : يؤنس بكسر النون مهموزا. وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري : يونس بفتح النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل : يؤنس بفتح النون مهموزا. وقرأ أبو السمّاك العدوي : يونس بكسر النون من غير همز. وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا. وهارون : اسم أعجميّ ، وباقى الأنبياء قد تقدّم ذكرهم. فأما الزّبور ، فأكثر القرّاء على فتح الزاي ، وقرأ أبو رزين ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وحمزة بضمّ الزاي. قال الزجّاج : فمن فتح الزاي ، أراد : كتابا ، ومن ضمّ ، أراد : كتبا. ومعنى ذكر «داود» أي : لا تنكروا تفضيل محمّد بالقرآن ، فقد أعطى الله داود الزّبور. وقال أبو عليّ : كأنّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء ، وجعل كلّ نحو زبرا ، ثم جمع ، فقال : زبورا. وقال ابن قتيبة : الزّبور فعول بمعنى مفعول ، كما تقول : حلوب وركوب بمعنى : محلوب ومركوب ، وهو من قولك : زبرت الكتاب أزبره زبرا : إذا كتبته ، قال : وفيه لغة أخرى : الزّبور بضمّ الزاي ، كأنّه جمع.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤))

قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) تأكيد كلّم بالمصدر يدلّ على أنه سمع كلام الله حقيقة. روى أبو سليمان الدّمشقيّ ، قال : سمعت إسماعيل بن محمّد الصّفّار يقول : سمعت ثعلبا يقول : لو لا أنّ الله تعالى أكّد الفعل بالمصدر ، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر : قد كلّمت لك فلانا ، بمعنى : كتبت إليه رقعة ، أو بعثت إليه رسولا ، فلمّا قال : تكليما ، لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) أي : لئلّا يحتجّوا في ترك التّوحيد والطّاعة بعدم الرّسل ، لأنّ هذه الأشياء إنّما تجب بالرّسل.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) في سبب نزولها قولان :

(٣٨٨) أحدهما : أنّ النبيّ عليه‌السلام دخل على جماعة من اليهود ، فقال : «إنّي والله أعلم أنّكم لتعلمون أنّي رسول الله» ، فقالوا : ما نعلم ذلك. فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس.

(٣٨٩) والثاني : أنّ رؤساء أهل مكّة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : سألنا عنك اليهود ، فزعموا أنّهم

____________________________________

(٣٨٨) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٨٥٤ عن ابن عباس به بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق.

(٣٨٩) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٧٥ عن الكلبي بدون إسناد ، والكلبي متهم بالوضع ، فخبره لا شيء ، بل هو باطل ، فإن سورة النساء مدنية ؛ وسؤالات أهل مكة ومجادلاتهم مكية.


لا يعرفونك ، فائتنا بمن يشهد لك أنّ الله بعثك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن السّائب.

قال الزجّاج : الشّاهد : المبيّن لما يشهد به ، فالله عزوجل بيّن ذلك ، ويعلم مع إبانته أنه حقّ. وفي معنى (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنزله وفيه علمه ، قاله الزجّاج. والثاني : أنزله من علمه ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. والثالث : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه ، قاله ابن جرير. قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) ، فيه قولان : أحدهما : يشهدون أنّ الله أنزله. والثاني : يشهدون بصدقك. قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) قال الزجّاج : «الباء» دخلت مؤكّدة. والمعنى : اكتفوا بالله في شهادته.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال مقاتل وغيره : هم اليهود كفروا بمحمّد ، وصدّوا الناس عن الإسلام. قال أبو سليمان : وكان صدّهم عن الإسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم : ما نجد صفة محمّد في كتابنا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) قال مقاتل وغيره : هم اليهود أيضا كفروا بمحمّد والقرآن. وفي الظّلم المذكور هاهنا قولان : أحدهما : أنه الشّرك ، قاله مقاتل. والثاني : أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم. قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان : لم يكن الله ليستر عليهم قبيح فعالهم ، بل يفضحهم في الدنيا ، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسّبي ، وفي الآخرة بالنار (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) ينجون فيه. وقال مقاتل : طريقا إلى الهدى (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) يعني كان عذابهم على الله هيّنا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الكلام عامّ ، وروي عن ابن عباس أنه قال : أراد المشركين. (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ) أي : بالهدى ، والصّدق. قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) قال الزجّاج عن الخليل وجميع البصريين : إنّه منصوب بالحمل على معناه ، لأنّك إذا قلت : انته خيرا لك ، وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره ، كان المعنى : انته وأت خيرا لك ، وادخل في ما هو خير لك. وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما أسهلا (١)

__________________

(١) في «اللسان» : السّرح : شجر كبار عظام طوال ، لا يرعى وإنما يستظل فيه وهو كل شجر لا شوك فيه.

وقال أبو حنيفة : السرحة : دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبتنون تحتها البيوت.


كأنّه قال : ائتي مكانا أسهل.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : هو غنيّ عنكم. وعن إيمانكم. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما يكون من إيمان أو كفر (حَكِيماً) في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) قال مقاتل : نزلت في نصارى نجران : السّيّد والعاقب ومن معهما (١). والجمهور على أنّ المراد بهذه الآية : النّصارى. وقال الحسن : نزلت في اليهود والنّصارى. والغلو : الإفراط ومجاوزة الحدّ ، ومنه غلا السّعر. وقال الزجّاج : الغلو : مجاوزة القدر في الظّلم. وغلوّ النّصارى في عيسى : قول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو ابن الله ، وقول بعضهم : هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلوّ اليهود فيه قولهم : إنه لغير رشدة (٢). وقال بعض العلماء : لا تغلوا في دينكم بالزّيادة في التّشدّد فيه.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي : لا تقولوا : إنّ الله له شريك أو ابن أو زوجة. وقد ذكرنا معنى «المسيح» والكلمة في (آل عمران). وفي معنى (وَرُوحٌ مِنْهُ) سبعة أقوال : أحدها : أنه روح من أرواح الأبدان. قال أبيّ بن كعب : لمّا أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح ، فأرسله إلى مريم ، فحملت به. والثاني : أنّ الرّوح النّفخ ، فسمّي روحا ، لأنّه حدث عن نفخة جبريل في درع (٣) مريم. ومنه قول ذي الرّمّة :

وقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا (٤)

__________________

(١) ذكره الواحدي بدون سند ولا عزو لأحد في «أسباب النزول» ٣٧٦ ولم يذكر فيه أسماء ، وعزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٦٠٣ : ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا ، أو ضلالا أو رشادا ، أو صحيحا أو كذبا ، ولهذا قال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وروى أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله» وقال الحافظ ابن حجر : وقوله : «لا تطروني» ، والإطراء : المدح بالباطل ، تقول : أطريت فلانا ، مدحته فأفرطت في مدحه ، وقوله : «كما أطرت النصارى ابن مريم» أي : في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك.

(٣) في «اللسان» درع المرأة : قميصها.

(٤) يأمره بالرفق والنفخ القليل شيئا فشيئا ، كأنه جعل النفخ قوتا لهذه النار ، يقدر لها تقديرا شيئا بعد شيء حتى تكتمل. وقالوا : «أحيها بروحك» أي أحيها بنفخك.


هذا قول أبي روق. والثالث : أن معنى (وَرُوحٌ مِنْهُ) إنسان حيّ بإحياء الله له. والرابع : أن الرّوح : الرّحمة ، فمعناه : ورحمة منه ، ومثله (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١). والخامس : أن الرّوح هاهنا جبريل. فالمعنى ألقاها الله إلى مريم ، والذي ألقاها روح منه ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدّمشقيّ. والسادس : أنه سمّاه روحا ، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح ، ولهذا المعنى سمّي القرآن روحا ، ذكره القاضي أبو يعلى. والسابع : أن الرّوح : الوحي أوحى إلى مريم يبشّرها به ، وأوحى إلى جبريل بالنّفخ في درعها ، وأوحى إلى ذات عيسى أن : كن فكان. ومثله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) (٢) أي. بالوحي ، ذكره الثّعلبيّ.

فأمّا قوله «منه» فإنه إضافة تشريف ، كما تقول : بيت الله ، والمعنى من أمره ، ومما يقاربها قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) قال الزجّاج : رفعه بإضمار : لا تقولوا آلهتنا ثلاثة (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : ما هو إلّا إله واحد (سُبْحانَهُ) ومعنى «سبحانه» : تبرئته من أن يكون له ولد. قاله أبو سليمان : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : قيّما على خلقه ، مدبّرا لهم.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢))

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ).

(٣٩٠) سبب نزولها : أنّ وفد نجران وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمّد لم تذكر صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى ، قال : وأيّ شيء أقول له؟ هو عبد الله ، قالوا : بل هو الله ، فقال : إنه ليس بعار عليه أن يكون عبد الله ، قالوا : بلى ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قال الزجّاج : معنى يستنكف : يأنف ، وأصله في اللغة من نكفت الدّمع : إذا نحّيته بإصبعك من خدّك. قال الشاعر :

فبانوا فلولا ما تذكّر منهم

من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع (٤)

قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) قال ابن عباس : هم حملة العرش.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) مضاعفة الحسنات.

____________________________________

(٣٩٠) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٧٧ عن الكلبي بلا سند ، والكلبي متهم.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

(٢) سورة النحل : ٢.

(٣) سورة الجاثية : ١٣.

(٤) لم ينسب إلى قائل كما في «اللسان» مادة ـ نكف ـ.


(٣٩١) وروى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) قال : يدخلون الجنة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشّفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليهم المعروف في الدّنيا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤))

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في البرهان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحجّة ، قاله مجاهد ، والسّدّي. والثاني : القرآن ، قاله قتادة. والثالث : أنه النبيّ محمّد عليه‌السلام ، قاله سفيان الثّوريّ. فأمّا النّور المبين ، فهو القرآن ، قاله قتادة ، وإنّما سمّاه نورا ، لأنّ الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنّور.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

قوله تعالى : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : استمسكوا. وفي «هاء» به قولان : أحدهما : أنها تعود إلى النّور وهو القرآن ، قاله ابن جريج. والثاني : تعود إلى الله تعالى ، قاله مقاتل. وفي «الرّحمة» قولان : أحدهما : أنها الجنة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنها نفس الرّحمة ، والمعنى : سيرحمهم ، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل» قولان : أحدهما : أنه الرّزق في الجنة ، قاله مقاتل. والثاني : أنه الإحسان ، قاله أبو سليمان.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يوفّقهم لإصابة الطّريق المستقيم. وقال ابن الحنفيّة : الصّراط المستقيم : دين الله.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ) في سبب نزولها قولان :

(٣٩٢) أحدهما : أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزّبير عن جابر قال : مرضت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ ، فتوضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صبّ عليّ من وضوئه ، فأفقت ، وقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم

____________________________________

(٣٩١) ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٦ والطبراني ١٠٤٦٢ من حديث ابن مسعود ، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي ، وهو ضعيف وقال الذهبي في «الميزان» أتى بخبر منكر. وقال ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٦٠٥ : لا يثبت. وصوب الوقف فيه. والمرفوع ضعفه أيضا السيوطي في «الدر» ٢ / ٤٤٠ ووافقه الشوكاني وهو كما قالوا. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٣٥ بتخريجنا.

(٣٩٢) صحيح. أخرجه البخاري ١٩٤ ومسلم ١٦١٦ وأبو داود ٢٨٨٦ والترمذي ٢٠٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٣١ وأحمد ٣ / ٢٩٨ وأبو يعلى ٢٠١٨ والطيالسي ١٩٤٥ والطبري ١٠٨٧٣ والواحدي ٣٧٨ من حديث جابر.


يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء ، ثمّ خرج وتركني ، ثم رجع إليّ وقال : يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا ، وإنّ الله عزوجل قد أنزل في أخواتك ، وجعل لهنّ الثّلثين ، فقرأ عليّ هذه الآية : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) فكان جابر يقول : أنزلت هذه الآية فيّ. والثاني : أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبيّ الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة (١).

(٣٩٣) وقال سعيد بن المسيّب : سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نورّث الكلالة؟ فقال : «أو ليس قد بين الله ذلك ، ثم قرأ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) فأنزل الله عزوجل (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي : مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يريد : ولا والد : فاكتفى بذكر أحدهما ، ويدلّ على المحذوف أنّ الفتيا في الكلالة ، وهي من ليس له ولد ولا والد (٢).

قوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ) يريد من أبيه وأمّه (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) عند انفرادها (وَهُوَ يَرِثُها) أي : يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد ، وهذا هو الأخ من الأب والأمّ ، أو من الأب (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) يعني : أختين. وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» و (كانَتَا) لا يفسّر إلا باثنتين؟ فقال : أفادت العدد العاري عن الصّفة ، لأنه يجوز في (كانَتَا) صغيرتين ، أو حرّتين ، أو صالحتين ، أو طالحتين ، فلمّا قال : (اثْنَتَيْنِ) فإذا إطلاق العدد على أيّ وصف كانتا عليه. (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) من تركة أخيهما الميت (وَإِنْ كانُوا) يعني المخلّفين.

قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قال ابن قتيبة : لئلّا تضلّوا. وقال الزجّاج : فيه قولان : أحدهما : أن لا تضلّوا ، فأضمرت لا. والثاني : كراهية أن تضلّوا ، وهو قول البصريين. قال ابن جريج : أن تضلّوا في شأن المواريث.

____________________________________

(٣٩٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٨٧٠ عن ابن المسيب مرسلا ، ولا يصح كونها نزلت بسبب سؤال عمر ، فقد أخرج مسلم ١٦١٧ ما يعارضه.

__________________

(١) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٨٦٩ عن قتادة مرسلا.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٩ / ٦ : أجمع أهل العلم أنه لا يرث أخ ، ولا أخت لأب وأم أو لأب ، مع ابن ، ولا مع ابن ابن وإن سفل ولا مع أب. والأصل في هذا قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...). وانظر «المغني» ٩ / ٩ ـ ٦٣ لمزيد من البحث في مسائل الفرائض.


سورة المائدة

قال ابن عباس ، والضّحّاك : هي مدنيّة. وقال مقاتل : نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : فيها من المكّي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قال : وقيل : فيها من المكّيّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) والصّحيح أنّ قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نزلت بعرفة يوم عرفة ، فلهذا نسبت إلى مكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين : أحدهما : أنهم المؤمنون من أمّتنا ، وهذا قول الجمهور. والثاني : أنهم أهل الكتاب ، قاله ابن جريج.

و (بِالْعُقُودِ) : العهود ، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضّحّاك والسّدّي والجماعة وقال الزجّاج : «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال (١) : أحدها : أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني : أنها عهود الدّين كلّها ، قاله الحسن. والثالث : أنها عهود الجاهليّة ، وهي الحلف الذي كان بينهم ، قاله قتادة. والرابع : أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن جريج ، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس : أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح ، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر أو يمين ، وهذا قول ابن زيد (٢).

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٨ : وأولى الأقوال عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا ، يا أيها الذين آمنوا ، بعقود الله التي أوجبها عليكم ، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم ، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥ : ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم ، كان حلّها محرّما ؛ لأن حلها بفعل المحرّم ، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب ، أو ترك مكروه.

وإن كانت على فعل مباح ، فحلّها مباح. فإن قيل : فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)؟ قلنا : هذا في الأيمان في العهود والمواثيق ، بدليل قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) ، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين ، فمع اليمين أولى ، فإن الله تعالى.

قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وإن كانت على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فحلّها مندوب إليه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم ، أو ترك واجب فحلّها واجب ، لأن حلّها بفعل الواجب ، وفعل الواجب واجب.


قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمّهاتها إذا ذبحت الأمّهات ، قاله ابن عمر ، وابن عباس. والثاني : أنها الإبل ، والبقر ، والغنم ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسّدّي. وقال الرّبيع : هي الأنعام كلّها. وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقر ، والغنم ، والوحوش كلّها. والثالث : أنها وحش الأنعام كالظّباء ، وبقر الوحش ، روي عن ابن عباس ، وأبي صالح. وقال الفرّاء : بهيمة الأنعام : بقر الوحش ، والظّباء ، والحمر الوحشيّة. قال الزجّاج : وإنّما قيل لها بهيمة ، لأنها أبهمت عن أن تميّز ، وكلّ حيّ لا يميّز فهو بهيمة.

قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، روي عن ابن عباس أنه قال : هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباريّ : المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) قال أبو الحسن الأخفش : أوفوا بالعقود غير محلّي الصّيد ، فانتصب على الحال. وقال غيره : المعنى : أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلّي اصطيادها ، وأنتم حرم ، قال الزجّاج : الحرم : المحرمون ، وواحد الحرم : حرام ، يقال : رجل حرام ، وقوم حرم. قال الشاعر :

فقلت لها فيئي إليك فإنّني

حرام وإنّي بعد ذاك لبيب (٢)

أي : ملبّ. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) أي : الخلق له يحلّ ما يشاء لمن يشاء ، ويحرّم ما يريد على من يريد.

__________________

(١) فائدة : قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٣٠٨ ـ ٣١٠ : ما ملخصه : إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها ، أو وجد ميتا في بطنها ، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح ، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر : ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث ، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة : لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان ، فقال : لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين ، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم ، فلا يعول على ما خالفه ، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه ، يتغذى بغذائها ، فتكون ذكاته ذكاتها ، كأعضائها ، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة ، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية ، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه ، فيكون ذكاة له. فصل : واستحب أبو عبد الله ـ الإمام أحمد بن حنبل ـ أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل : فإن خرج حيا حياة مستقرة ، يمكن أن يذكى ، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد : إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت : وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور ، راجع «الهداية» ٩ / ٥٠٨ بتخريجي.

(٢) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» ١ / ١٤٥ و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي ٤١١.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) في سبب نزولها قولان.

(٣٩٤) أحدهما : أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة ، فدخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إلام تدعو؟ فقال : «إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله» ، فقال : إنّ لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ، ثم خرج ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ، وما الرّجل بمسلم» ، فمرّ شريح بسرح لأهل المدينة ، فاستاقه ، فلمّا كان عام الحديبية ، خرج شريح إلى مكّة معتمرا ، ومعه تجارة ، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم ، فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي : اسمه الحطم بن هند البكريّ. قال : ولمّا ساق السّرح جعل يرتجز :

قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج السّاقين ممسوح القدم (١)

(٣٩٥) والثاني : أنّ ناسا من المشركين جاءوا يؤمّون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة ، فقال المسلمون : لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم ، فنزل قوله تعالى (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

قال ابن قتيبة : وشعائر الله : ما جعله الله علما لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال (٢) : أحدها : أنها مناسك الحجّ ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء : كان عامّة العرب لا يرون الصّفا

____________________________________

(٣٩٤) أخرجه الطبري ١٠٩٦١ عن السدي ، وهذا مرسل ، وكرره ١٠٩٦٢ عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي ٣٧٩ لابن عباس بدون سند ، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها ، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٦١٠ بتخريجنا.

(٣٩٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٩٦٣ عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.

__________________

(١) الرجز في «الأغاني» ١٤ / ٤٤ و «حماسة أبي تمام» ١ / ٣٥٤ وقد اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافا كثيرا ، ونسبه في : «الحماسة» لرشيد بن رميض العنزي ، ونسب أيضا للأغلب العجلي ، وللأخنس بن شهاب ، ولجابر بن حني التغلبي ولعل الحطم أنشده مدحا لنفسه فيما فعل وقبل هذا الرجز :

هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم

والسّرح : المال السائم. وفي «اللسان» : الوضم : كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو بارية يوقى به من الأرض. وقد ذكره في «اللسان» ونسبه إلى رشيد بن رميض العنزي. وقيل أبو زغبة الخزرجي. والزلم : القدح كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وخدلّج الساقين : عظيمهما.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٣ : وأولى التأويلات بقوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، قول عطاء : من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه.


والمروة من الشّعائر ، ولا يطوفون بينهما ، فقال الله تعالى : لا تستحلّوا ترك ذلك. والثاني : أنها ما حرّم الله تعالى في حال الإحرام ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : دين الله كلّه ، قاله الحسن. والرابع : حدود الله ، قاله عكرمة وعطاء. والخامس : حرم الله ، قاله السّدّي. والسادس : الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام ، قاله أبو عبيدة والزجّاج. والسابع : أنها أعلام الحرم ، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكّة ، ذكره الماورديّ ، والقاضي أبو يعلى.

قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) قال ابن عباس : لا تحلّوا القتال فيه. وفي المراد بالشّهر الحرام ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ذو القعدة ، قاله عكرمة ، وقتادة. والثاني : أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلّ سنة فيقول : ألا إني قد أحللت كذا ، وحرّمت كذا. والثالث : أنه رجب ، ذكره ابن جرير الطّبريّ. والهدي : كلّ ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء. وفي (الْقَلائِدَ) قولان : أحدهما : أنها المقلّدات من الهدي ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها ما كان المشركون يقلّدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهليّة ، ليأمنوا به عدوّهم ، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلّا في الأشهر الحرم ، فمن لقوه مقلّدا نفسه ، أو بعيره ، أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرّض له. قال ابن عباس : كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم ، قلّد بعيره من الشّعر والوبر ، فيأمن حيث ذهب.

(٣٩٦) وروى مالك بن مغول عن عطاء قال : كانوا يتقلّدون من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ تقلّد من السّمر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلّد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد. وقال الفرّاء : كان أهل مكّة يقلّدون بلحاء الشّجر ، وسائر العرب يقلّدون بالوبر والشّعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : لا تستحلّوا المقلّدات من الهدي. والثاني : لا تستحلّوا أصحاب القلائد. والثالث : أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم ، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم ، رواه عبد الملك عن عطاء ، وبه قال مطرّف ، والرّبيع بن أنس.

قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) «الآمّ» : القاصد ، و «البيت الحرام» : الكعبة ، والفضل : الرّبح في التّجارة ، والرّضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي) (٢) ، وقيل : ابتغاء الفضل عامّ ، وابتغاء الرّضوان للمؤمنين خاصّة.

__________________

(٣٩٦) أخرجه الطبري ١٠٩٥٤ عن عطاء مرسلا ، وكرره ١٠٩٥٣ من مرسل قتادة.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٦ : والذي هو أولى بتأويل قوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) إذ كانت معطوفة على أول الكلام ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله ، ولا أنه عنى بها النهي عن التقليد أو اتخاذ القلائد من شيء ، أن يكون معناه : ولا تحلّوا القلائد. ونهي من الله عزوجل عن استحلال حرمة المقلّد ، هديا كان ذلك أو إنسانا ، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره ، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلّد.

(٢) سورة طه : ٩٧.


قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الإباحة ، نظيره (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (١) وهو يدلّ على إحرام متقدّم.

قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنكم» بسكون النون ، وتخفيفها. قال ابن عباس : لا يحملنّكم ، قال غيره : لا يدخلنّكم في الجرم ، كما تقول : آثمته ؛ أي : أدخلته في الإثم ، وقال ابن قتيبة : لا يكسبنّكم يقال : فلان جارم أهله ، أي : كاسبهم ، وكذلك جريمتهم. وقال الهذليّ : ووصف عقابا :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا (٢)

والنّاهض : فرخها ، يقول : هي تكسب له ، وتأتيه بقوته. و «الشّنآن» البغض ، يقال : شنئته أشنؤه : إذا أبغضته. وقال ابن الأنباريّ : «الشّنآن» : البغض ، و «الشّنآن» بتسكين النون : البغيض. واختلف القرّاء في نون الشّنآن ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بتحريكها ، وأسكنها ابن عامر ، وروى حفص عن عاصم تحريكها ، وأبو بكر عنه تسكينها ، وكذلك اختلف عن نافع. قال أبو عليّ : «الشّنآن» ، قد جاء وصفا ، وقد جاء اسما ، فمن حرّك ، فلأنّه مصدر ، والمصدر يكثر على فعلان ، نحو النّزوان ، ومن سكّن. قال : هو مصدر ، وقد جاء المصدر على فعلان ، تقول : لويته دينه ليّانا ، فالمعنى في القراءتين واحد ، وإن اختلف اللفظان.

واختلفوا في قوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالكسر ، وقرأ الباقون بالفتح ، فمن فتح جعل الصّدّ ماضيا ، فيكون المعنى من أجل أن صدّوكم ، ومن كسرها ، جعلها للشّرط ، فيكون الصّدّ مترقّبا. قال أبو الحسن الأخفش : وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر ، كقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (٣) وقد كانت السّرقة عندهم قد وقعت ، وأنشد أبو عليّ الفارسيّ :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّا

فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء ، والجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة.

قال ابن جرير : وقراءة من فتح الألف أبين ، لأنّ هذه السّورة نزلت بعد الحديبية ، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان : أحدهما : ولا يحملنّكم بغض أهل مكّة أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه ، فتقاتلوهم ، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : لا يحملنّكم بغض أهل مكّة ، وصدّهم إيّاكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحلّ لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين ، على ما سبق في نزول الآية.

قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) قال الفرّاء : ليعن بعضكم بعضا. قال ابن عباس : البرّ ما

__________________

(١) سورة الجمعة : ١٠.

(٢) الصليب : الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس : يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» ٦ / ٤٤.

(٣) سورة يوسف : ٧٧.


أمرت به ، و «التّقوى» : ترك ما نهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان : التّعدّي في حدود الله ، قاله عطاء.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها محكمة ، روي عن الحسن أنه قال : ما نسخ من المائدة شيء ، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا : ولا يجوز استحلال الشّعائر ، ولا الهدي قبل أوان ذبحه ، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم : يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون : كانت الجاهلية تقلّد من شجر الحرم ، فقيل لهم : لا تستحلّوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدّوا القاصدين إلى البيت.

والثاني : أنها منسوخة ، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال : أحدها : أنّ جميعها منسوخ ، وهو قول الشّعبيّ. والثاني : أنها وردت في حقّ المشركين كانوا يقلّدون هداياهم ، ويظهرون شعائر الحجّ من الإحرام والتّلبية ، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التّعرّض لهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) وهذا قول الأكثرين. والثالث : أن الذي نسخ قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) نسخه قوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٢) روي عن ابن عباس ، وقتادة. والرابع : أن المنسوخ منها : تحريم الشّهر الحرام ، وآمّون البيت الحرام : إذا كانوا مشركين ، وهدي المشركين. إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) مفسّر في «البقرة» ، فأمّا (وَالْمُنْخَنِقَةُ) فقال ابن عباس : هي التي تختنق فتموت ، وقال الحسن ، وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصّائد وغيره. قلت : والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك ، قال ابن قتيبة : (وَالْمَوْقُوذَةُ) : التي تضرب حتى توقذ ، أي : تشرف على الموت ، ثم تترك حتى تموت ، وتؤكل بغير ذكاة ، ومنه يقال : فلان وقيذ ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط ، أو في بئر ، يقال : تردّى : إذا سقط. (وَالنَّطِيحَةُ) : التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة ، «فعيلة» في معنى «مفعولة» (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وابن أبي ليلى : السّبع : بسكون الباء. والمراد : ما افترسه فأكل بعضه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي : إلا ما لحقتم من هذا كلّه وبه حياة ، فذبحتموه (٣). فأمّا الاستثناء ، ففيه قولان : أحدهما : أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله تعالى :

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

(٢) سورة التوبة : ٣٨.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٢٩١ : «مسألة : وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل». قال : وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته ، فجرحه في أي موضع قدر عليه ، فقتله أكل ، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل ، لأن الماء يعين على قتله ، هذا قول أكثر الفقهاء ،


(وَالْمُنْخَنِقَةُ). والثاني : أنه يرجع إلى ما أكل السّبع خاصة ، والعلماء على الأوّل.

فصل في الذّكاة : قال الزجّاج : أصل الذّكاة في اللغة : تمام الشّيء ، فمنه الذّكاء في السّن ، وهو تمام السّن. قال الخليل : الذّكاء : أن تأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استكمال القوّة ، ومنه الذّكاء في الفهم ، وهو أن يكون فهما تامّا ، سريع القبول. وذكّيت النار ، أي : أتممت إشعالها. وقد روي عن عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف ؛ أو ذنب يتحرّك ، فأكله حلال. قال القاضي أبو يعلى : ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به ، حلّ بالذّبح ، فإن كان لا يعيش مع ما به ، نظرت ، فإن لم تكن حياته مستقرّة ، وإنما حركته حركة المذبوح ، مثل أن شقّ جوفه ، وأبينت حشوته ، فانفصلت عنه ، لم يحلّ أكله ، وإن كانت حياته مستقرّة يعيش اليوم واليومين ، مثل أن يشقّ جوفه ، ولم تقطع الأمعاء ، حلّ أكله. ومن الناس من يقول : إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذّكاة ، والصحيح ما ذكرنا ، لأنه إذا لم تكن فيه حياة مستقرّة ، فهو في حكم الميت. ألا ترى أنّ رجلا لو قطع حشوة آدميّ ، ثم ضرب عنقه آخر ، فالأوّل هو القاتل ، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.

وفي ما يجب قطعه في الذّكاة روايتان (١) : إحداهما : أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء ، فإن نقص من ذلك شيئا لم يؤكل ، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله. والثانية : يجزئ قطع الحلقوم والمريء ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل ، وبه قال الشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة : يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك : يجزئ قطع الأوداج ، وإن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجّاج : الحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النّفس ، وفيه شعب تتشعّب منه في الرّئة.

__________________

روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة ، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك : لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد : لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٣٠٣ ـ ٣٠٨ : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي ، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة : الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه ، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل ، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء ، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين : لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء ، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت ، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح ، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها ، وهو مخطئ ، فأتت السكين على موضع ذبحها ، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي : معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه ، فتأتي السكين على القفا ، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها ، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال : سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال : عامدا أو غير عامد؟ قلت : عامدا. قال : لا تؤكل ، فإذا كان غير عامد ، كأنه التوى عليه ، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي : إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء ، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.


والمريء : مجرى الطّعام ، والودجان : عرقان يقطعهما الذّابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذّكاة ، فهي كل ما أنهر الدّم ، وفرى الأوداج سوى السّنّ والظفر ، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذّكاة بالمنزوعين. فأما البعير إذا توحّش أو تردّى في بئر ، فهو بمنزلة الصّيد ذكاته عقره. وقال مالك : ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيدا فأبان بعضه وفيه حياة مستقرّة فذكاه ، أو تركه حتى مات جاز أكله ، وفي أكل ما بان منه روايتان.

قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) في النّصب قولان : أحدهما : أنها أصنام تنصب ، فتعبد من دون الله ، قاله ابن عباس ، والفرّاء ، والزجّاج ، فعلى هذا القول يكون المعنى ، وما ذبح على اسم النّصب ، وقيل لأجلها ، فتكون «على» بمعنى «اللام» ، وهما يتعاقبان في الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ) (١) أي : عليك ، وقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٢). والثاني : أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ، ويشرّحون اللحم عليها ويعظّمونها ، وهو قول ابن جريج.

وقرأ الحسن ، وخارجة عن أبي عمرو : على النّصب ، بفتح النون ، وسكون الصاد ، قال ابن قتيبة ، يقال : نصب ونصب ونصب ، وجمعه أنصاب.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) قال ابن جرير : أي : وأن تطلبوا علم ما قسم لكم ، أو لم يقسم بالأزلام ، واستفعلت من القسم ، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة : الأزلام : القداح ، واحدها : زلم وزلم. والاستقسام بها : أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي ، فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم ، فأحبّوا أن يعرفوا قسم كلّ امرئ تعرفوا ذلك منها ، فأخذ الاستقسام من القسم وهو النّصيب. قال سعيد بن جبير : الأزلام : حصىّ بيض ، كانوا إذا أرادوا غدوّا ، أو رواحا ، كتبوا في قدحين ، في أحدهما : أمرني ربّي ، وفي الآخر : نهاني ربّي ، ثم يضربون بهما ، فأيّهما خرج ، عملوا به. وقال مجاهد : الأزلام : سهام العرب ، وكعاب (٣) فارس التي يتقامرون بها. وقال السّدّي : كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل : في بيت الأصنام. وقال قوم : كانت عند سدنة الكعبة. قال الزجّاج : ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجّمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ، أو أخرج من أجل نجم كذا.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) في المشار إليه بذلكم قولان : أحدهما : أنه جميع ما ذكر في الآية ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : أنه الاستقسام بالأزلام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق : الخروج عن طاعة الله إلى معصيته.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكّة في حجّة الوداع ، قاله أبو صالح عن ابن عباس (٤). وقال ابن السّائب : نزلت ذلك اليوم. والثاني : أنه يوم عرفة ، قاله مجاهد ، وابن زيد.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩١.

(٢) سورة الإسراء : ٧.

(٣) في اللسان الكعاب : فصوص النّرد. واللعب بها حرام.

(٤) لا يصح عن ابن عباس ، فهو من رواية أبي صالح ، وهو غير ثقة في ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث.


والثالث : أنه لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : العرب توقع اليوم على الزّمان الذي يشتمل على السّاعات والليالي ، فيقولون : قد كنت في غفلة ، فاليوم استيقظت ، يريدون : فالآن ، ويقولون : كان فلان يزورنا ، وهو اليوم يجفونا ، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر (١)

أراد : فزمان لنا ، وزمان علينا ، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضمّ إليه غيره.

وفي معنى يأسهم قولان : أحدهما : أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين ، قاله ابن عباس والسّدّي. والثاني : يئسوا من بطلان الإسلام ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : وإنّما يئسوا من إبطال دينهم لمّا نقل الله خوف المسلمين إليهم. وأمّنهم إلى المسلمين ، فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم ، ولا على استئصالهم ، وإنّما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) قال ابن جريج : لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، وقال ابن السّائب : لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم ، واخشوني في مخالفة أمري.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

(٣٩٧) روى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إنّكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأيّ آية هي؟ قال : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ، والساعة التي نزلت فيها ، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير : عاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما (٢).

فأمّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ) ففيه قولان : أحدهما : أنه يوم عرفة ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه ليس بيوم معيّن ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وقد ذكرنا هذا آنفا.

وفي معنى إكمال الدّين خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه إكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه

____________________________________

(٣٩٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥ و ٤٤٠٧ و ٤٦٠٦ و ٧٢٦٨ ومسلم ٣٠١٧ والترمذي ٣٠٤٣ والنسائي ٨ / ١١٤ وأحمد ١ / ٢٨ والطبري ١١٠٩٨ و ١١٠٩٩ عن طارق بن شهاب عن عمر به.

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني ١ / ٥٦٥.

(٢) هو مرسل ، وتقدم في أواخر سورة البقرة.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤١٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزوجل أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) النساء : ١٧٦ آخرها نزولا ، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.


الآية تحليل ولا تحريم ، قاله ابن عباس ، والسّدّي ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم شرائع دينكم. والثاني : أنه بنفي المشركين عن البيت ، فلم يحجّ معهم مشرك عامئذ ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة. وقال الشّعبيّ : كمال الدّين هاهنا : عزّه وظهوره ، وذلّ الشّرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسّنن ، لأنّها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث : أنه رفع النّسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض ، روي عن ابن جبير أيضا. والرابع : أنه زوال الخوف من العدوّ ، والظّهور عليهم ، قاله الزجّاج. والخامس : أنه أمن هذه الشّريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها ، كما نسخ بها ما تقدّمها. وفي إتمام النّعمة ثلاثة أقوال : أحدها : منع المشركين من الحجّ معهم ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة. والثاني : الهداية إلى الإيمان ، قاله ابن زيد. والثالث : الإظهار على العدو ، قاله السّدّي.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : دعته الضرورة إلى أكل ما حرّم عليه. (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة ، والخمص : الجوع. قال الشاعر يذمّ رجلا :

يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة

يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما (١)

وهذا الكلام يرجع إلى المحرّمات المتقدّمة من الميتة والدّم ، وما ذكر معهما.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) قال ابن قتيبة : غير مائل إلى ذلك ، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : غير متعمّد لإثم. وفي معنى «تجانف الإثم» قولان :

أحدهما : أن يتناول منه بعد زوال الضّرورة ، روي عن ابن عباس في آخرين.

والثاني : أن يتعرّض لمعصية في مقصده ، قاله قتادة. وقال مجاهد : من بغى وخرج في معصية ، حرّم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى : وهذا أصحّ من القول الأول ، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الإثم مع الاضطرار ، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي ، ولا يصحّ حمله على تناول الزّيادة على سدّ الرّمق ، لأنّ الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان : ومعنى الآية : فمن اضطرّ فأكله غير متجانف لإثم ، فإن الله غفور ، أي : متجاوز عنه ، رحيم إذ أحلّ ذلك للمضطرّ.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) في سبب نزولها قولان :

(٣٩٨) أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أمر بقتل الكلاب ، قال الناس : يا رسول الله ما ذا أحلّ لنا من

____________________________________

(٣٩٨) ضعيف ، أخرجه الحاكم ٢ / ٣١١ والطبري ١١١٣٧ والطبراني ٩٧١ و ٩٧٢ والواحدي في «الأسباب» ٣٨٣ من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي ، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ٦٠٩٦ والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه‌السلام ، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية ، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع ، ورجاله ثقات لكن

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي كما في «الأغاني» ١٦ / ١٢٢.


هذه الأمّة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣٩٩) وكان السبب في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلها أنّ جبريل عليه‌السلام استأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن له ، فلم يدخل وقال : «إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.

(٤٠٠) والثاني : أنّ عديّ بن حاتم ، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله : زيد الخير ، قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة (١) ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما لا ندرك ذكاته ، وقد حرّم الله الميتة ، فما ذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير.

قال الزجّاج : ومعنى الكلام : يسألونك أيّ شيء أحلّ لهم؟ قل : أحلّ لكم الطّيبات ، وأحلّ لكم صيد ما علّمتم من الجوارح ، والتّأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علّمتم ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. وفي الطّيبات قولان : أحدهما : أنها المباح من الذّبائح. والثاني : أنها ما استطابته العرب مما لم يحرّم. فأمّا (الْجَوارِحِ) فهي ما صيد به من سباع البهائم والطّير ، كالكلب ، والفهد ، والصّقر والبازي ، ونحو ذلك مما يقبل التّعليم (٢). قال ابن عباس : كلّ شيء صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان : أحدهما : لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة : أصل الاجتراح : الاكتساب ، يقال : امرأة لا جارح لها ، أي : لا كاسب. والثاني : لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ، ذكره الماورديّ. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وعلامة التّعليم أنك إذا دعوته أجاب ، وإذا أسّدته على الصيد استأسد ، ومضى في طلبه ، وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إمساكه عليك : أن لا يأكل منه شيئا ، هذا في السّباع والكلاب (٣) ، فأمّا تعليم جوارح الطّير فبخلاف السّباع ، لأنّ الطائر إنما يعلّم الصيد بالأكل ،

____________________________________

فيه عنعنة ابن إسحاق ، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري ١١١٣٨ ومن مرسل محمد بن كعب برقم ١١١٣٩ ، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم ٢١٠٥ ، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب ، وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٦٩ و «أحكام القرآن» ٦٢١ بتخريجي.

(٣٩٩) هو بعض المتقدم ، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر ، متفق عليه ، وسيأتي.

(٤٠٠) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير ٢ / ٢٢ ، وهو مرسل ، ومع إرساله ، فيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه ٣٨٤ بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل ، أخرجه الطبري ٤٢٢٧ من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار ، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق ٢٦٥٦ بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٧٠ و ٧٧١ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : الباز : لغة في البازي ، وجمع البازي بزاة.

(٢) وقال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ : فصل : وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم : كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده ، وبمعنى هذا قال ابن عباس وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور. وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب اه باختصار.

(٣) قال الإمام البغوي في «تفسيره» عقب الحديث ٧٥٣ : واختلفوا فيما أخذت الصيد وأكلت منه شيئا ،


والفهد ، والكلب ، وما أشبههما يعلّمون بترك الأكل ، فهذا فرق ما بينهما.

وفي قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أصحاب الكلاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضّحّاك ، والسّدّي ، والفرّاء ، والزجّاج ، وابن قتيبة. قال الزجّاج : يقال : رجل مكلّب وكلّابي ، أي : صاحب صيد بالكلاب. والثاني : أن معنى (مُكَلِّبِينَ) : مصرّين على الصّيد ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد. والثالث : أن (مُكَلِّبِينَ) بمعنى : معلّمين. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وإنّما قيل لهم : مكلّبين ، لأنّ الغالب من صيدهم إنّما يكون بالكلاب. قال ثعلب : وقرأ الحسن ، وأبو رزين : مكلبين ، بسكون الكاف ، يقال : أكلب الرجل : إذا كثرت كلابه ، وأمشى : إذا كثرت ماشيته ، والعرب تدعو الصّائد مكلّبا.

قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) قال سعيد بن جبير : تؤدّبونهنّ لطلب الصّيد. وقال الفرّاء : تؤدّبونهنّ أن لا يأكلن صيدهنّ. واختلفوا هل إمساك الصّائد عن الأكل شرط في صحة التّعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه شرط في كلّ الجوارح ، فإن أكلت ، لم يؤكل ، روي عن ابن عباس ، وعطاء. والثاني : أنه ليس بشرط في الكلّ ، ويؤكل وإن أكلت ، روي عن سعد بن أبي وقّاص ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وسلمان الفارسيّ. والثالث : أنه شرط في جوارح البهائم ، وليس بشرط في جوارح الطّير ، وبه قال الشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والسّدّيّ ، وهو أصحّ لما بيّنّا أنّ جارح الطّير يعلّم على الأكل ، فأبيح ما أكل منه ، وسباع البهائم تعلّم على ترك الأكل ، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصّيد ، لم يبح أكله. فأمّا ما أكل منه الصّقر والبازي ، فمباح ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال مالك : يباح أكل ما أكل منه الكلب ، والفهد ، والصّقر ، فإن قتل الكلب ، ولم يأكل ، أبيح. وقال أبو حنيفة : لا يباح ، فإن أدرك الصّيد ، وفيه حياة ، فمات قبل أن يذكّيه ، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح ، وإن أمكنه فلم يذكّه ، لم يبح ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : لا يباح في الموضعين. فأما الصّيد بكلب المجوسيّ ، فروي عن أحمد أنه لا يكره ، وهو قول الأكثرين ، وروي عنه الكراهة ، وهو قول الثّوريّ لقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) وهذا خطاب للمؤمنين (١). قال القاضي أبو يعلى : ومنع أصحابنا الصّيد بالكلب الأسود ، وإن كان معلّما ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتله ،

__________________

فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي ، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي ، ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص ، وبه قال مالك.

وانظر «المغني» ١٣ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣. و «الأحكام للجصاص» ٣ / ٣١٢ ـ ٣١٣.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٧٢ : وإن صاد المسلم ، بكلب مجوسيّ فقتل ، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب ، والحكم ، ومالك والشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد : لا يباح. وكرهه جابر والحسن ، ومجاهد ، والنخعي ، والثوري لقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ). وهذا لم يعلّمه. ولنا ، أنه آلة صاد بها المسلم ، فحلّ صيده ، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب : هو بمنزلة شفرته.

والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا ، فهو في معناه ، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه ، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة ، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم ، وقد وجد هاهنا.


والأمر بالقتل : يمنع ثبوت اليد ، ويبطل حكم الفعل ، فيصير وجوده كالعدم ، فلا يباح صيده (١).

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) قال الأخفس : «من» زائدة كقوله تعالى : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٢). قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الإرسال ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وعندنا أن التّسمية شرط في إباحة الصّيد (٣). والثاني : ترجع إلى الأكل فتكون التّسمية مستحبّة.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) قال سعيد بن جبير : لا تستحلّوا ما لم يذكر اسم الله عليه.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) قال القاضي أبو يعلى : يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدّم ذكره في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، وفي قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وقيل : ليس بيوم معيّن ، وقد سبق الكلام في «الطّيّبات» وإنما كرّر إحلالها تأكيدا. فأمّا أهل الكتاب ، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم : ذبائحهم ،

__________________

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٦٧ : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود ، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد : الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وإسحاق. قال أحمد : ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي ، لعموم الآية والخبر ، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا ، أنه كلب يحرم اقتناؤه ، ويجب قتله ، فلم يبح صيده كغير المعلّم ، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل ، قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب ، ثم نهى عن قتلها ، فقال : «عليكم بالأسود البهيم ، ذي النكتتين ، فإنه شيطان». فالنبي سماه شيطانا ، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة ، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص.

(٢) سورة النور : ٤٣.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٢٥٧ ـ ٢٦٥ : مسألة ، قال أبو القاسم ، رحمه‌الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم ، واصطاد ، وقتل ، ولم يأكل منه ، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح ، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور ، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان ، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان». وقال الشافعي : يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم يذبح على اسم الله ، سمّى أو لم يسمّ». وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك ، وسمّيت ، فكل» ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال : «لا تأكل ، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه.

وحديث أبي ثعلبة ، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي ، وإن صحت فهي في الذبيحة ، ولا يصح قياس الصيد عليها ، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ذبح قال : «بسم الله والله أكبر». وجاء في تفسير قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) لا أذكر إلا ذكرت معي.

ولنا ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موطنان لا أذكر فيهما ، عند الذبيحة ، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.


هذا قول ابن عباس ، والجماعة. وإنما أريد بها الذّبائح خاصّة ، لأنّ سائر طعامهم لا يختلف بمن تولّاه من مجوسيّ وكتابيّ ، وإنما الذّكاة تختلف ، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك ، دلّ على أن المراد الذّبائح ، فأمّا ذبائح المجوس ، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهوديّة والنّصرانيّة من عبدة الأوثان (١) ، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا بأس بها ، وتلا قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وهذا قول الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، وقتادة ، والزّهريّ ، والحكم ، وحمّاد. وقد روي عن عليّ ، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحلّ. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إحداهما : تباح ذبائحهم ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك. والثانية : لا تباح. وقال الشّافعيّ : من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، لم يبح أكل ذبيحته.

قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي : وذبائحكم لهم حلال ، فإذا اشتروا منّا شيئا كان الثّمن لنا حلالا ، واللحم لهم حلالا. قال الزجّاج. والمعنى : أحلّ لكم أن تطعموهم.

فصل : وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله عليها ، فكان هذا ناسخا لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) والصّحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم ، لأنّ الأصل أنهم يذكرون الله فيحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ ، وإلى هذا الذي قلته ذهب عليّ ، وابن عمر ، وعبادة ، وأبو الدّرداء ، والحسن في جماعة.

__________________

(١) فائدة : قال الإمام الخرقي في «المختصر» ؛ مسألة : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا ، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة ، بالغا أو صبيا ، حرا أو عبدا ، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا ، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل ، لم يصح منه الذبح ، وبهذا قال مالك ، وقال الشافعي : لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد ، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له ، لا يصح منه القصد ، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال : والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا ، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد ، أو ذكر اسم غير الله ، لم تحل ذبيحته ، روي ذلك عن علي ، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول : إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته ، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا ١٣ ، ٣١١ ـ ٣١٢.

وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط ، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة ، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل ، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد ، والأقلف والمختون سواء ، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم : الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم ، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم ، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل ، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي : أكل في الوجهين. وقال مالك : لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» ٩ / ٤٩٧ ـ ٤٩٩ بتخريجي.

(٢) سورة الأنعام : ١٢١.


قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) فيهنّ قولان : أحدهما : العفائف ، قاله ابن عباس. والثاني : الحرائر ، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قولان : أحدهما : الحرائر أيضا ، قاله ابن عباس. والثاني : العفائف ، قاله الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والضّحّاك والسّدّيّ ، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهنّ والأمة.

فصل : وهذه الآية أباحت نكاح الكتابيّة. وقد روي عن عثمان أنه تزوّج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانيّة. وعن طلحة بن عبيد الله : أنّه تزوّج يهوديّة. وقد روي عن عمر ، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابيّة الحربيّة ، فقال ابن عباس : لا تحلّ ، والجمهور على خلافه ، وإنما كرهوا ذلك ، لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) ، والنّكاح يوجب الودّ. واختلفوا في نكاح نساء تغلب ، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر ، وبه قال جابر بن زيد ، والنّخعيّ ، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب ، فروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أنه لا يجوز نكاحهنّ ، وبه قال الأوزاعيّ ، ومالك ، والليث بن سعد ، والشّافعيّ ، وأصحابنا ، وروي عن الشّعبيّ ، وأبي ميسرة جواز ذلك ، وبه قال أبو حنيفة. فأمّا المجوس ، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقد شذّ من قال : إنهم أهل كتاب.

(٤٠١) ويبطل قولهم قوله عليه‌السلام : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب».

فأمّا «الأجور» ، و «الإحصان» ، و «السّفاح» ، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النّساء.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

(٤٠٢) سبب نزول هذا الكلام : أنّ الله تعالى لمّا رخّص في نكاح الكتابيّات قلن بينهنّ : لو لا أنّ الله تعالى قد رضي علينا ، لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، وقال المسلمون : كيف يتزوّج الرجل منّا الكتابيّة ، وليست على ديننا ، فنزلت : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل بن حيّان : نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب ، يقول : ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر. وروى ليث عن مجاهد : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) قال : الإيمان بالله تعالى ، وقال الزجّاج : معنى الآية : من أحلّ ما حرّم الله ، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر. وقال أبو سليمان : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان ، وعرّفه من الحلال والحرام ، فقد حبط

____________________________________

(٤٠١) صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف.

لكن أخرجه البخاري ٣١٥٧ وأبو داود ٣٠٤٣ والترمذي ١٥٨٧ والدارمي ٢٤٠٦ وابن الجارود ١١٠٥ والبيهقي ٩ / ١٨٩ وأحمد ١ / ١٩٠ ، ٩٤ كلهم عن بجالة بن عبدة قال : «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل.

(٤٠٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس ، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.


عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول : إنّما أباح الله عزوجل الكتابيّات ، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهنّ ، فحذّر ناكحهنّ من الميل إلى دينهنّ بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قال الزجّاج : المعنى : إذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (١) قال ابن الأنباريّ : وهذا كما تقول : إذا آخيت فآخ أهل الحسب ، وإذا اتّجرت فاتّجر في البز (٢). قال : ويجوز أن يكون الكلام مقدّما ومؤخّرا ، تقديره : إذا غسلتم وجوهكم ، واستوفيتم الطّهور ، فقوموا إلى الصّلاة. وللعلماء في المراد بالآية قولان (٣). أحدهما : إذا قمتم إلى الصّلاة محدثين ، فاغسلوا ، فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء ، وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ، وأبي موسى الأشعريّ ، وابن عباس ، والفقهاء. والثاني : أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار ، فيجب الوضوء على كلّ من يريد الصلاة ، محدثا كان ، أو غير محدث ، وهذا مرويّ عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة ، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ، ونقل عن جماعة من العلماء أنّ ذلك كان واجبا ، ثم نسخ بالسّنّة.

(٤٠٣) وهو ما روى بريدة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال : «عمدا فعلته يا عمر».

____________________________________

(٤٠٣) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٧ وأبو داود ١٧٢ والترمذي ٦١ والنسائي ١ / ١٦ والدارمي ١ / ١٦٩ وأحمد ٥ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ـ ٣٥٨ وأبو عوانة ١ / ٢٣٧ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٤١ وابن حبان ١٧٠٦ و ١٧٠٧ و ١٧٠٨ والبيهقي ١ / ١٦٢ من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

__________________

(١) سورة النحل : ٩٨.

(٢) في «اللسان» : البزّ : الثياب ، وقيل البزّ من الثياب أمتعة البزاز والبزاز بائع البزّ وحرفته البزازة.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٥٤ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : إن الله عني بقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) ، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة ، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته ، بعد حدث كان منه ناقض طهارته ، وقبل إحداث الوضوء منه ، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه ، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته لذلك كان عليه‌السلام يتوضأ لكلّ صلاة قبل فتح مكة ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد ، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله عليه‌السلام من تجديد الطهر لكل صلاة ، إنما كان منه أخذا بالفضل ، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله ، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربّه ، لا على أن ذلك كان عليه فرضا واجبا.


وقال قوم : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناها : إذا قمتم إلى الصّلاة من النّوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء ، فاغسلوا وجوهكم (١).

قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) «إلى» حرف موضوع للغاية ، وقد تدخل الغاية فيها تارة ، وقد لا تدخل ، فلما كان الحديث يقينا ، لم يرتفع إلا بيقين مثله ، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه (٢) ، وهو قول مالك ، وروي عنه : يجب مسح أكثره ، وروي عن أبي حنيفة روايتان : إحداهما : أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية : بمقدار ثلاث أصابع.

قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر اللام عطفا على مسح الرّأس ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : بفتح اللام عطفا على الغسل ، فيكون من المقدّم والمؤخّر. قال الزجّاج : الرّجل من أصل الفخذ إلى القدم ، فلما حدّ الكعبين ، علم أن الغسل ينتهي إليهما ، ويدلّ على وجوب الغسل التّحديد بالكعبين ، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض ، لأن التّحديد بالكعبين يدلّ على الغسل ، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر :

__________________

(١) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» ٢ / ٤٨ : قال زيد بن أسلم : معناه (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) من النوم ، وبين هذا أن النوم حدث ، وبه قال جملة الأمة.

وقال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٧ ما ملخصه. فصل : والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : نوم المضطجع ، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني : نوم القاعد ، إن كان كثيرا نقض ، رواية واحدة ، وإن كان يسيرا لم ينقض ، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : لا ينقض وإن كثر ، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث : نوم القائم والراكع والساجد ، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان : إحداهما : ينقض ، وهو قول الشافعي ، والثانية : لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر.

لأنه حال من أحوال الصلاة ، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس.

واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه : لا ينقض يسيره. قال أبو داود : سمعت أحمد قيل له : الوضوء من النوم؟ قال : إذا طال. قيل : فالمحتبي؟ قال : يتوضأ. قيل : فالمتكئ؟ قال : الاتكاء شديد ، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء ، ورأى منها كلها الوضوء ، إلا أن يغفو قليلا ، وعنه : ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء ، فهو كالمضطجع ، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» ١ / ٩ ـ ١٠ و «تفسير القرطبي» ٥ / ٢٢٢.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ١٧٥ ـ ١٧٦ : لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب ، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد ، وهو مذهب مالك. وعن أحمد : يجزئ مسح بعضه ، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب ، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا.

وقال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١ / ١٨٣ ـ ١٨٤ ما ملخصه : فصل : والأذنان من الرأس ، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال : كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه ، وذلك لأنهما تبع للرأس ، والأولى مسحهما معه ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسحهما مع رأسه.

ـ وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين ، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.


يا ليت بعلك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

والمعنى : وحاملا رمحا. وقال الآخر.

علفتها تبنا وماء باردا (٢)

والمعنى : وسقيتها ماء باردا. وقال أبو الحسن الأخفش : يجوز الجرّ على الإتباع ، والمعنى : الغسل ، نحو قولهم : جحر ضبّ خرب. وقال ابن الأنباريّ : لما تأخّرت الأرجل بعد الرّؤوس ، نسقت عليها للقرب والجوار ، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم : جحر ضبّ خرب ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها ، لأنّ العرب تسمّي الغسل مسحا ، لأن الغسل لا يكون إلا بمسح. وقال أبو عليّ : من جرّ فحجّته أنه وجد في الكلام عاملين : أحدهما : الغسل ، والآخر : الباء الجارّة ، ووجه العاملين إذا اجتمعا : أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد ، وهو «الباء» هاهنا ، وقد قامت الدّلالة على أنّ المراد بالمسح : الغسل من وجهين (٣) :

__________________

(١) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : ١٦٥ و «الكامل» ١ / ٢٨٩ و «اللسان» مادة : قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» ١٨٩ لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر : احتمله.

(٢) هو صدر بيت وعجزه : حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» ١ / ٤٩٩ وشرح «شواهد المغني» ٣١٤.

قال العيني : ٤ / ١٨١ أنشده الأصمعي وغيره ، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٣٥ : ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ١ / ٧٥ عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضلته ، وهو قائم ، ثم قال : إن أناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع كما صنعت ، وقال : «هذا وضوء من لم يحدث». والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : «أسبغوا الوضوء ، وبل للأعقاب من النار». وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم ، فأبصره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير : وإسناده جيد قوي صحيح.

وقال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم ، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه ، وحكي عن ابن عباس أنه قال : ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال : الوضوء مغسولان وممسوحان ، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال : هو مخيّر بين المسح والغسل ، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد ، وعثمان ، حكيا وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالا : فغسل قدميه. وفي حديث عثمان : ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل : فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا : قد افترقا من وجوه : أحدها : أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله ، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني : أنهما محدودان بحد ينتهي إليه ، فأشبها اليدين. والثالث : أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس ، ولذلك قال : أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه ، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.


أحدهما : أنّ أبا زيد قال : المسح خفيف الغسل ، قالوا : تمسّحت للصّلاة ، وقال أبو عبيدة : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) (١) ، أي ضربا ، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل : فالمستحبّ التّكرار ثلاثا؟ قيل : إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.

والوجه الثاني : أن التّحديد والتّوقيت إنّما جاء في المغسول دون الممسوح ، فلما وقع التّحديد مع المسح ، علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التّحديد ، وحجّة من نصب أنه حمل ذلك على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل.

قوله تعالى : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) «إلى» بمعنى «مع» ، والكعبان : العظمان النّاتئان من جانبي القدم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أي : فتطهّروا ، فأدغمت التاء في الطاء ، لأنهما من مكان واحد ، وقد بيّن الله عزوجل طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (٢) وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) و «الحرج» : الضّيق ، فجعل الله الدّين واسعا حين رخّص في التّيمّم.

قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي : يريد أن يطهّركم. قال مقاتل : من الأحداث والجنابة ، وقال غيره : من الذّنوب والخطايا ، لأنّ الوضوء يكفّر الذّنوب.

قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في الذي يتمّ به النّعمة أربعة أقوال :

أحدها : بغفران الذنوب.

(٤٠٤) قال محمّد بن كعب القرظيّ : حدّثني عبد الله بن دارة ، عن حمران قال : مررت على عثمان بفخّارة من ماء ، فدعا بها فتوضّأ ، فأحسن الوضوء ثم قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ما حدّثتكم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما توضّأ عبد فأحسن الوضوء ، ثمّ قام إلى الصّلاة ، إلّا غفر له ما بينه وبين الصّلاة الأخرى» قال محمّد بن كعب : وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (٣) فعلمت أنّ الله لم يتمّ النّعمة عليه حتى غفر له ذنوبه ، ثم قرأت الآية التي في المائدة : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلى قوله (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فعلمت أنه لم يتمّ النّعمة عليهم حتى غفر لهم.

____________________________________

(٤٠٤) ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» ٢٧٢٨ من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر ، واسمه عيسى بن أبي عيسى.

ـ والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري ١٥٩ و ١٩٣٤ و ٦٤٣٣ ومسلم ٢٢٦ وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كل رجل ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال : «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه».

__________________

(١) سورة ص : ٣٣.

(٢) سورة النساء : ٤٣.

(٣) سورة الفتح : ١ ـ ٢.


والثاني : بالهداية إلى الإيمان ، وإكمال الدّين ، وهذا قول ابن زيد. والثالث : بالرّخصة في التّيمّم ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان. والرابع : ببيان الشّرائع ، ذكره بعض المفسّرين.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يعني النّعم كلّها. وفي هذا حثّ على الشّكر.

وفي الميثاق أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه إقرار كلّ مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس : لمّا أنزل الله الكتاب ، وبعث الرسول ، فقالوا : آمنّا ، ذكّرهم ميثاقه الذي أقرّوا به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء. والثاني : أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد. والثالث : أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيّه عليه‌السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإيمان. روى هذا المعنى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع : أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السّمع والطّاعة في بيعة العقبة ، وبيعة الرّضوان ، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) قال مقاتل : اتّقوه في نقض الميثاق (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها من إيمان وشكّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها نزلت من أجل كفّار قريش أيضا ، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ؛ روى نحو هذا أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل.

(٤٠٥) والثاني : أنّ قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، ونزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول الحسن.

(٤٠٦) والثالث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلى يهود بني النّضير يستعينهم في دية ، فهمّوا بقتله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وقتادة.

ومعنى الآية : كونوا قوّامين لله بالحقّ ، ولا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل (اعْدِلُوا) في

____________________________________

(٤٠٥) هو الآتي بعد حديث.

(٤٠٦) هو الآتي بعد حديث جابر.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٨١ : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول ابن عباس ، وهو أن معناه : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) يعني وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر.


الوليّ والعدوّ (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي : إلى التّقوى. والمعنى : أقرب إلى أن تكونوا متّقين ، وقيل : هو أقرب إلى اتّقاء النّار.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) في معناها قولان :

أحدهما : أن المعنى : وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.

والثاني : أن المعنى : وعدهم فقال : لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

في سبب نزولها أربعة أقوال (٢) :

(٤٠٧) أحدها : أن رجلا من محارب قال لقومه : ألا أقتل لكم محمّدا ، فقالوا : وكيف تقتله؟ فقال : أفتك به ، فأقبل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيفه في حجره ، فأخذه ، وجعل يهزّه ، ويهمّ به ، فيكبته الله ، ثم قال : يا محمّد ما تخافني؟ قال : لا ، قال : لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال : يمنعني الله منك ، فأغمد السّيف ، فنزلت هذه الآية ، رواه الحسن البصريّ عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ : فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر : فما قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ولا عاقبه. واسم هذا الرجل : غورث بن الحارث من محارب خصفة.

____________________________________

(٤٠٧) ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي ٣٨٥ من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به ، وإسناده ضعيف ، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس ، وفيه عمرو بن عبيد ، وهو ضعيف ، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية ، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري ٤١٣٥ و ٤١٣٦ ومسلم ٨٤٣ والواحدي ٣٨٦ والبيهقي ٦ / ٣١٩ والطبري ١١٥٦٩ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت سمرة ، فعلّق بها سيفه ، قال جابر ، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعونا فجئناه ، فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي : من يمنعك مني؟ قلت له : الله ، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس فيه سبب نزول الآية.

والقائلة : شدة الحر. والعضاه : شجر له شوك. واختراط السيف : سله. صلتا : مجردا من غمده.

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٩.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٤٨٧ : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك : عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية ، نعمته على المؤمنين به وبرسوله ، في استنقاذه نبيهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كانت اليهود همت به في قتله ومن معه ، يوم سار إليهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدية التي كان تحمّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.


(٤٠٨) والثاني : أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفاه الله شرّهم ، قال ابن عباس : صنعوا له طعاما ، فأوحي إليه بشأنهم ، فلم يأت.

(٤٠٩) وقال مجاهد ، وعكرمة : خرج إليهم يستعينهم في دية ، فقالوا : اجلس حتى نعطيك ، فجلس هو وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا : لن تجدوا محمّدا أقرب منه الآن ، فمن يظهر على هذا البيت ، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحاش : أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، وجاء جبريل ، فأخبره ، وخرج ، ونزلت هذه الآية.

(٤١٠) والثالث : أن بني ثعلبة ، وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأصحابه ، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السّابعة ، فقالوا : إنّ لهم صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأمّهاتهم ، فإذا سجدوا وقعنا بهم ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، وأنزل صلاة الخوف ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة.

والرابع : أنها نزلت في حقّ اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا قول ابن زيد.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال أبو العالية : أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة ، ولا يعبدوا غيره. وقال مقاتل : أن يعملوا بما في التّوراة.

وفي معنى النّقيب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الضّمين ، قاله الحسن ، ومعناه : أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده ، ولا يجوز أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء ، لأنّ ذلك لا يصحّ ضمانه. وقال ابن قتيبة : هو الكفيل على القوم. والنّقابة شبيهة بالعرافة. والثاني : أنه الشّاهد ، قاله قتادة. وقال ابن فارس : النّقيب : شاهد القوم ، وضمينهم. والثالث : الأمين ، قاله الرّبيع بن أنس ، واليزيديّ ، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجّاج : النّقيب في اللغة ، كالأمين والكفيل ، يقال : نقّب الرجل على القوم ينقّب : إذا صار نقيبا عليهم ، وصناعته النّقابة ، وكذلك عرّف عليهم : إذا صار عريفا ، ويقال لأول ما يبدو من الجرب : النّقبة ، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر :

____________________________________

(٤٠٨) أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٢ / ٤٨٩ ـ ٤٩٠ من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا ، ومقاتل متهم ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وأخرجه الطبري ١١٥٦٧ بسند فيه مجاهيل.

وانظر ما بعده ، (٤٠٩) أخرجه الطبري برقم ١١٥٦١ و ١١٥٦٢ عن مجاهد ، وبرقم ١١٥٦٥ عن عكرمة ، وكلاهما مرسل.

(٤١٠) مرسل. أخرجه الطبري ١١٥٦٨ عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها ، وإن اختلفت ألفاظها ، والله أعلم ، فإن المعنى متحد ، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


متبذّلا تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النّقب (١)

ويقال : في فلان مناقب جميلة ، وكل الباب معناه : التّأثير الذي له عمق ودخول ، ومن ذلك نقبت الحائط ، أي : بلغت في النّقب آخره ، والنّقبة من الجرب : داء شديد الدّخول. وإنما قيل : نقيب ، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ، ويعرف مناقبهم ، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. ونقل أنّ الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدّسة ، وكان يسكنها الجبّارون ، فقال تعالى : يا موسى أخرج إليها وجاهد من فيها من العدو ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا ، من كلّ سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به ، فاختاروا النّقباء. وفيما بعثوا له قولان :

أحدهما : أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس ، ليأتوه بخبر الجبّارين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّديّ. والثاني : أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم ، قاله الحسن ، وابن إسحاق. وفي نبوّتهم قولان : أصحّهما : أنهم ليسوا بأنبياء.

قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ) في الكلام محذوف. تقديره : وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان : أحدهما : أنهم بنو إسرائيل ، قاله الجمهور. والثاني : أنهم النّقباء ، قاله الرّبيع ، ومقاتل. ومعنى (إِنِّي مَعَكُمْ) ؛ أي : بالعون والنّصرة ، وفي معنى : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) قولان : أحدهما : أنه الإعانة والنّصر ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد وقتادة والسّدّيّ. والثاني : أنه التّعظيم والتّوقير ، قاله عطاء واليزيديّ ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) في هذا الإقراض قولان : أحدهما : أنه الزّكاة الواجبة. والثاني : صدقة التّطوّع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.

قوله تعالى : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) يشير إلى الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : أخطأ قصد الطريق.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣))

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) في الكلام محذوف ، تقديره : فنقضوا ، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها التّعذيب بالجزية ، قاله ابن عباس. والثاني : التّعذيب بالمسخ ، قاله الحسن ، ومقاتل. والثالث : الإبعاد من الرّحمة ، قاله عطاء ، والزجّاج.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : (قاسِيَةً) بالألف ، يقال : قست ، فهي قاسية ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، والمفضّل ، عن عاصم : «قسيّة» بغير ألف مع تشديد الياء ، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل ، مثل شاهد وشهيد ، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللين والرّقّة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة).

__________________

(١) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة ـ نقب.


وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال : أحدها : تغيير حدود التّوراة ، قاله ابن عباس. والثاني : تغيير صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مقاتل. والثالث : تفسيره على غير ما أنزل ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (عَنْ مَواضِعِهِ) مبيّن في (سورة النّساء).

قوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) النّسيان هاهنا : التّرك عن عمد. والحظّ : النّصيب. قال مجاهد : نسوا كتاب الله الذي أنزل عليهم ، وقال غيره : تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. وفي معنى (ذُكِّرُوا بِهِ) قولان : أحدهما : أمروا. والثاني : أوصوا.

قوله تعالى : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة : الخائنة : الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائن ، كما يقال : رجل طاغية ، وراوية للحديث. قال ابن عباس : وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل مكّة للتّحريض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لم ينقضوا العهد ، وهم عبد الله بن سلّام وأصحابه. وقيل : بل القليل ممّن لم يؤمن.

قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) واختلفوا في نسخها على قولين :

أحدهما : أنها منسوخة ، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها آية السّيف. والثاني : قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) (١). والثالث : قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ...) (٢).

(٤١١) والثاني : أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فغدروا ، وأرادوا قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأظهره الله عليهم ، ثم أنزل الله هذه الآية ، ولم تنسخ.

قال ابن جرير : يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها ، ما لم ينصبوا حربا ، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار ، فلا يتوجّه النّسخ.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) قال الحسن : إنما قال : قالوا : إنّا نصارى ، ولم يقل : من النّصارى ، ليدلّ على أنهم ليسوا على منهاج النّصارى حقيقة ، هم الذين اتّبعوا المسيح. وقال قتادة : كانوا بقرية ، يقال لها : ناصرة ، فسمّوا بهذا الاسم ، قال مقاتل : أخذ عليهم الميثاق ، كما أخذ على أهل التّوراة أن يؤمنوا بمحمّد ، فتركوا ما أمروا به.

قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) قال النّصر : هيّجنا ، وقال المؤرّج : حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجّاج : ألصقنا بهم ذلك ، يقال : غريت بالرّجل غرى مقصورا : إذا لصقت به ، هذا قول الأصمعيّ.

____________________________________

(٤١١) تقدم آنفا ، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» ٤ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٩.

(٢) سورة الأنفال : ٥٨.


وقال غير الأصمعيّ : غريت به غراء ممدود ، وهذا الغراء الذي يغرى به إنّما يلصق به الأشياء ، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء : أنهم صاروا فرقا يكفّر بعضهم بعضا. وفي الهاء والميم من قوله (بَيْنَهُمُ) قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى اليهود والنصارى ، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني : أنها ترجع إلى النّصارى خاصّة ، قاله الرّبيع. وقال الزجّاج : هم النّصارى ، منهم النّسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة ، وكلّ فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥))

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود. والثاني : اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) قال ابن عباس : أخفوا آية الرّجم (١) ، وأمر محمّد عليه‌السلام وصفته (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) يتجاوز ، فلا يخبرهم بكتمانه. فإن قيل : كيف كان له أن يمسك عن حقّ كتموه فلا يبينه؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه كان متلقّيا ما يؤمر به ، فإذا أمر بإظهار شيء من أمرهم ، أظهره ، وأخذهم به ، وإلّا سكت. والثاني : أن عقد الذّمّة إنما كان على أن يقرّوا على دينهم ، فلما كتموا كثيرا مما أمروا به ، واتّخذوا غيره دينا ، أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوّته ، لتتحقّق معجزته عندهم ، واحتكموا إليه في الرّجم ، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته ، وسكت عن أشياء ليتحقّق إقرارهم على دينهم. قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) قال قتادة : يعني بالنّور : النبيّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال غيره : هو الإسلام ، فأما الكتاب المبين ، فهو القرآن.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))

قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) يعني : بالكتاب. ورضوانه : ما رضيه الله تعالى. و «السّبل» ، جمع سبيل ، قال ابن عباس : سبل السّلام : دين الإسلام. وقال السّدّيّ : «السلام» : هو الله ، و «سبله» : دينه الذي شرعه. قال الزجّاج : وجائز أن يكون «سبل السّلام» طريق السّلامة التي من سلكها سلم في دينه ، وجائز أن يكون «السّلام» اسم الله عزوجل ، فيكون المعنى : طرق الله عزوجل. قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) قال ابن عباس : يعني الكفر (إِلَى النُّورِ) يعني : الإيمان (بِإِذْنِهِ) أي : بأمره (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام. وقال الحسن : طريق الحقّ.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

__________________

(١) أخرجه الطبري ١١٦١٢ بسند حسن عن ابن عباس.


قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قال ابن عباس : هؤلاء نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم اتّخذوه إلها (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئا (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي : فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يردّ أمر الله إذا جاءه بإهلاكه أو إهلاك أمّه ، ولما نزل أمر الله بأمّه ، لم يقدر أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ردّ عليهم حيث قالوا للنبيّ : فهات مثله من غير أب (١). فإن قيل : فلم قال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ولم يقل : وما بينهنّ؟ فالجواب أن المعنى : وما بين هذين النّوعين من الأشياء ، قاله ابن جرير.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨))

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) قال مقاتل : هم يهود المدينة ، ونصارى نجران. وقال السّدّيّ : قالوا : إنّ الله تعالى أوحى إلى إسرائيل : إنّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النّار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهّرهم ، وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أخرجوا كلّ مختون من بني إسرائيل. وقيل : إنهم لما قالوا : المسيح ابن الله ، كان معنى قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) أي : منّا ابن الله. وفي قوله : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) إبطال لدعواهم ، لأنّ الأب لا يعذّب ولده ، والحبيب لا يعذّب حبيبه وهم يقولون : إنّ الله يعذبنا أربعين يوما بالنار. وقيل : معنى الكلام : فلم عذّب منكم من مسخه قردة وخنازير؟ وهم أصحاب السّبت والمائدة.

قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي : أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة. قال عطاء : يغفر لمن يشاء ، وهم الموحّدون ، ويعذّب من يشاء ، وهم المشركون.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا).

(٤١٢) سبب نزولها : أن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب ، قالوا : يا معشر اليهود اتّقوا الله ، والله إنّكم لتعلمون أنه رسول الله ، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا ، ورافع : ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب ، ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا بعده ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

فأما «الفترة» فأصلها السّكون ، يقال : فتر الشيء يفتر فتورا : إذا سكنت حدّته ، وانقطع عمّا كان

____________________________________

(٤١٢) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٦١٩ من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب ، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.

__________________

(١) تقدم في آل عمران.


عليه ، والطّرف الفاتر : الذي ليس بحديد. والفتور : الضّعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمّد عليهما‌السلام أربعة أقوال : أحدها : أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما‌السلام ستمائة سنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سلمان الفارسيّ ، ومقاتل. والثاني : خمسمائة سنة وستون سنة ، قاله قتادة. والثالث : أربع مائة وبضع وثلاثون سنة ، قاله الضّحّاك. والرابع : خمسمائة سنة وأربعون سنة ، قاله ابن السّائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي : انقطاع منهم ، قال : وكان بين ميلاد عيسى ، وميلاد محمّد عليهما‌السلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة ، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرّسل ، فذلك قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (١). قال : والرّابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة ، وأربع وثلاثون نبوّة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدّمشقي : والرابع ، والله أعلم : خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٤١٣) «نبيّ ضيّعه قومه».

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا) قال الفرّاء : كي لا تقولوا : مثل قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٢). وقال غيره : لئلّا تقولوا ، وقيل : كراهة أن تقولوا.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠))

قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فيهم قولان : أحدهما : أنهم السّبعون الذين اختارهم موسى ، وانطلقوا معه إلى الجبل ، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون ، وهذا قول ابن السّائب ومقاتل. والثاني : أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى ، ذكره الماورديّ.

وبما ذا جعلهم ملوكا؟ فيه ثمانية أقوال : أحدها : بالمنّ والسّلوى والحجر. والثاني : بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما. والثالث : بالزّوجة والخادم والبيت ، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس ، وهذا الثالث اختيار الحسن ، ومجاهد. والرابع : بالخادم والبيت ، قال عكرمة. والخامس : بتمليكهم الخدم. وكانوا أوّل من ملك الخدم ، ومن اتّخذ خادما فهو ملك ، قاله قتادة. والسادس : بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله ، قاله السّدّيّ. والسابع : بالمنازل الواسعة ، فيها المياه الجارية ، قاله الضّحّاك. والثامن : بأن جعل لهم الملك والسّلطان ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين : أحدهما : أنهم قوم موسى ، وهذا مذهب ابن عباس ، ومجاهد. قال ابن عباس : ويعني بالعالمين : الذين

____________________________________

(٤١٣) ضعيف منكر. أخرجه البزار ٢٣٦١ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع.

وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى ، الأنبياء أبناء علات ، وليس بيني وبين عيسى نبي».

ـ أخرجه البخاري ٣٤٤٣ ومسلم ٢٣٦٥ وأحمد ٢ / ٣١٩ وغيرهم من حديث أبي هريرة.

ـ فهذا يرد الحديث المتقدم ، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.

__________________

(١) سورة يس : ١٤.

(٢) سورة النساء : ١٧٦.


هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال : أحدها : المنّ والسّلوى والحجر والغمام ، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني : أنه الدّار والخادم والزّوجة ، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير : ما أوتي أحد من النّعم في زمان قوم موسى ما أوتوا. والثالث : كثرة الأنبياء فيهم ، ذكره الماورديّ. والثاني : أن الخطاب لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١))

قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا) وقرأ ابن محيصن : «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم ، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» (١). وفي معنى (الْمُقَدَّسَةَ) قولان :

أحدهما : المطهّرة ، قاله ابن عباس ، والزجّاج. قال : وقيل للسّطل : القدس ، لأنه يتطهّر منه ، وسمّي بيت المقدس ، لأنه يتطهّر فيه من الذنوب. وقيل : سمّاها مقدّسة ، لأنها طهّرت من الشّرك ، وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين. والثاني : أن المقدّسة : المباركة ، قاله مجاهد.

وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال : أحدها : أنها أريحا : رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، وابن زيد. قال السدي : أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضّحّاك أنه قال : المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة : وقرأت في مناجاة موسى أنه قال : اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ، ومن الطير الحمامة ، ومن البيوت بكة وإيلياء ومن إيلياء بيت المقدس ، فهذا يدلّ على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ أن إيلياء بيت المقدس ، وهو معرّب. قال الفرزدق :

وبيتان بيت الله نحن ولاته

وبيت بأعلى إيلياء مشرّف

والثاني : أنها الطّور وما حوله ، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث : أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أنها الشّام كلّها ، قاله قتادة.

وفي قوله تعالى : (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى أمركم وفرض عليكم دخولها ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنه بمعنى : وهبها الله لكم ، قاله محمّد بن إسحاق. وقال ابن قتيبة : جعلها لكم. والثالث : كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.

فإن قيل : كيف قال : فإنّها محرّمة عليهم ، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنه إنّما جعلها لهم بشرط الطّاعة ، فلما عصوا حرّمها عليهم.

والثاني : أنه كتبها لبني إسرائيل ، وإليهم صارت ، ولم يعن موسى أن الله كتبها للذين أمروا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير : ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم ، وأريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم ، وقد دخلها يوشع ، وكالب.

قوله تعالى : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) فيه قولان :

أحدهما : لا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته. والثاني : لا ترجعوا إلى الشّرك به.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٥٩.


(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) قال الزجّاج : الجبّار من الآدميّين : الذي يجبر الناس على ما يريد ، يقال : جبّار : بين الجبريّة ، والجبريّة بكسر الجيم والباء ، والجبروّة والجبّورة والتّجبار والجبروت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبّارين ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم كانوا ذوي قوّة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام ، قاله قتادة. والثالث : أنهم كانوا قتالين ، قاله مقاتل.

(الإشارة إلى القصة)

قال ابن عباس : لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبّارين ، بعث اثني عشر رجلا ، ليأتوه بخبرهم ، فلقيهم رجل من الجبّارين ، فجعلهم في كسائه ، فأتى بهم المدينة ، ونادى في قومه ، فاجتمعوا ، فقالوا لهم : من أين أنتم؟ فقالوا : نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبّة من عنب توقر (١) الرجل ، وقالوا لهم ، قولوا لموسى وقومه : اقدروا قدر فاكههم ، فلمّا رجعوا ، قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبّارين. وقال السّدّيّ : كان الذي لقيهم ، يقال له : عاج ، يعني : عوج بن عناق ، فأخذ الاثني عشر ، فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب ، وانطلق بهم إلى امرأته ، فقال : أنظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا ، فطرحهم بين يديها ، قال : ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : لا ، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلمّا خرجوا قالوا : يا قوم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ، ارتدّوا عن نبيّ الله ، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك ، فنكث عشرة ، وكتم رجلان ، وقال مجاهد : لمّا رأى النّقباء الجبّارين ، وجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة ، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة ، فرجع النّقباء كلّهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع ، وابن يوقنّا (٢).

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣))

قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) في الرّجلين ثلاثة أقوال : أحدها : أنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنّة ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : ابن يوقنّا ، وهما من النّقباء. والثاني : أنهما كانا من الجبّارين فأسلما ، روي عن ابن عباس. والثالث : أنهما كانا في مدينة الجبّارين ، وهما على دين موسى ، قاله الضّحّاك. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء ، وأيّوب : «يخافون» بضم الياء ، على معنى أنهما كانا من العدوّ ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم خافوا الله وحده. والثاني : خافوا الجبّارين ، ولم يمنعهم خوفهم قول الحقّ. والثالث : يخاف منهم ، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال : أحدها : الإسلام ، قاله ابن عباس.

__________________

(١) في «اللسان» : الوقر : الحمل الثقيل.

(٢) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم ، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.


والثاني : الصّلاح والفضل واليقين ، قاله عطاء. والثالث : الهدى ، قاله الضّحّاك. والرابع : الخوف ، ذكره ابن جرير عن بعض السّلف. قوله تعالى : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) قال ابن عباس : قال الرّجلان : ادخلوا عليهم باب القرية فإنهم قد ملئوا منّا رعبا وفرقا.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) قال ابن زيد : قالوا له : أنظر كما صنع ربّك بفرعون وقومه ، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل : فاذهب أنت وسل ربّك النّصر. وقال غيرهما : اذهب أنت وليعنك ربّك.

(٤١٤) قال ابن مسعود : لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحبّ إليّ ممّا عدل به ، أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرق لذلك وجهه وسرّ به.

(٤١٥) وقال أنس : استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم خرج إلى بدر ، فأشار عليه أبو بكر ، ثم استشارهم ، فأشار عليه عمر فسكت ، فقال رجل من الأنصار : إنما يريدكم ، فقالوا : يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب وأنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) فيه قولان : أحدهما : لا أملك إلا نفسي ، وأخي لا يملك إلا نفسه. والثاني : لا أملك إلّا نفسي وإلّا أخي ، أي : وأملك طاعة أخي ، لأنّ أخاه إذا أطاعه فهو كالملك له ، وهذا على وجه المجاز ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال :

(٤١٦) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر ، وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ، يعني : أنّي متصرّف حيث صرّفتني ، وأمرك جائز في مالي.

قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) قال ابن عباس : اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة : باعد ، وافصل ، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال : أحدها : العاصون ، قاله ابن عباس.

____________________________________

(٤١٤) صحيح. أخرجه البخاري ٣٩٥٢ و ٤٦٠٩ والنسائي في «التفسير» ١٦٠ من حديث ابن مسعود.

(٤١٥) صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ١٦١ وأحمد ٣ / ١٠٥ و ١٨٨ وأبو يعلى ٣٧٦٦ و ٣٨٠٣ وابن حبان ٤٧٢١ من حديث حميد الطويل عن أنس ، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم ١٧٧٩ وأبو داود ٢٦٨١ وأحمد ٣ / ٢١٩ ـ ٢٢٠ وابن حبان ٤٧٢٢ من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه.

(٤١٦) صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» ٩ وابن ماجة ٩٤ وابن أبي شيبة ١٢ / ٦ ـ ٧ وأحمد ٢ / ٢٥٣ ـ ٣٦٦. وابن حبان ٦٨٥٨ ، وهو حديث صحيح ، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي ٣٦٦١ وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.


والثاني : الكاذبون ، قاله ابن زيد. والثالث : الكافرون ، قاله أبو عبيدة ، قال السّدّيّ : غضب موسى حين قالوا له : اذهب أنت وربّك ، فدعا عليهم ، وكانت عجلة من موسى عجلها.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) الإشارة إلى الأرض المقدّسة. ومعنى تحريمها عليهم : منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين» ، فقال الفرّاء : هو منصوب بالتّحريم ، وجائز أن يكون منصوبا ب «يتيهون». وقال الزجّاج : لا يجوز أن ينتصب بالتّحريم ، لأن التفسير جاء أنها محرّمة عليهم أبدا ، قلت : وقد اختلف المفسّرون في ذلك ، فذهب الأكثرون ، منهم عكرمة ، وقتادة ، إلى ما قال الزجّاج ، وأنها حرّمت عليهم أبدا ، قال عكرمة : فإنها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وذهب قوم ، منهم الرّبيع بن أنس ، إلى أنها حرّمت عليهم أربعين سنة ، ثم أمروا بالسّير إليها ، وهذا اختيار ابن جرير. قال : إنما نصبت بالتّحريم ، والتّحريم كان عامّا في حقّ الكلّ ، ولم يدخلها في هذه المدّة منهم أحد ، فلمّا انقضت ، أذن لمن بقي منهم بالدّخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة : ومعنى : يتيهون : يحورون ويضلّون.

الإشارة إلى قصّتهم

قال ابن عباس : حرّم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس ، فلبثوا في تيههم أربعين سنة ، وماتوا في التّيه ، ومات موسى وهارون ، ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء القوم ، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبّارين فافتتحها. وقال مجاهد : تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السّدّيّ : لمّا ضرب الله عليهم التّيه ، ندم موسى على دعائه عليهم ، وقالوا له : ما صنعت بنا ، أين الطّعام؟ فأنزل الله المنّ. قالوا : فأين الشّراب؟ فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا : فأين الظّلّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا : فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصّبيان ، ولا يتخرّق لهم ثوب ، وقبض موسى ولم يبق أحد ممّن أبى دخول قرية الجبّارين إلّا مات ، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنّه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التّيه ، وقال لهم : ادخلوا هذه القرية ، فكلوا منها حيث شئتم رغدا ، وادخلوا الباب سجّدا ، وقولوا حطّة ... إلى آخر القصّة. وهذا قول الرّبيع بن أنس ، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطّبريّ ، وأبو سليمان الدّمشقيّ : وهذا الصّحيح ، وأنّ موسى هو الذي فتح مدينة الجبّارين مع الصّالحين من بني إسرائيل ، لأن أهل السّيرة أجمعوا على أنّ موسى هو قاتل عوج ، وكان عوج ملكهم ، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله ، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب ، وإنما حرّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التّيه قولان : أحدهما : تسعة فراسخ ، قاله ابن عباس. قال مقاتل : هذا عرضها ، وطولها ثلاثون فرسخا. والثاني : ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا ، حكاه مقاتل أيضا.

قوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) قال الزجّاج : لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي ، ومخالفة الرّسل. وقال ابن قتيبة : يقال أسيت على كذا ، أي : حزنت ، فأنا آسى أسى.


(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) النّبأ : الخبر. وفي ابني آدم قولان :

أحدهما : أنّهما ابناه لصلبه ، وهما قابيل وهابيل ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنهما أخوان من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وهذا قول الحسن ، والعلماء على الأوّل ، وهو أصحّ لقوله تعالى : (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) (١) ولو كان من بني إسرائيل ، لكان قد عرف الدّفن.

(٤١٧) ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عنه : «إنه أوّل من سنّ القتل».

وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) أي : كما كان. والقربان : فعلان من القرب ، وقد ذكرناه في آل عمران. وفي السّبب الذي قرّبا لأجله قولان : أحدهما : أنّ آدم عليه‌السلام كان قد نهي أن ينكح المرأة أخاها الذي هو توأمها ، وأجيز له أن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد له في كلّ بطن ذكر وأنثى ، فولدت له ابنة وسيمة ، وأخرى دميمة ، فقال أخو الدّميمة لأخي الوسيمة : أنكحني أختك ، وأنكحك أختي ، فقال أخو الوسيمة : أنا أحقّ بأختي ، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث ، وأخو الدّميمة صاحب غنم ، فقال : هلمّ فلنقرّب قربانا ، فأيّنا تقبّل قربانه فهو أحقّ بها ، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن ، وجاء صاحب الحرث بصبرة (٢) من طعام ، فتقبّل الكبش ، فخزنة الله في الجنّة أربعين خريفا ، فهو الذي ذبحه إبراهيم ، فقتله صاحب الحرث ، فولد آدم كلّهم من ذلك الكافر ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفيّ عن ابن عباس أن ابني آدم كانا قاعدين يوما ، فقالا : لو قرّبنا قربانا ، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها ، وجاء الآخر ببعض زرعه ، فنزلت النّار ، فأكلت الشّاة ، وتركت الزّرع ، فقال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنّ قربانك تقبّل ، وأنك خير منّي لأقتلنّك.

واختلفوا هل قابيل وأخته ولدا قبل هابيل وأخته ، أم بعدهما؟ على قولين ، وهل كان قابيل كافرا أو فاسقا غير كافر؟ فيه قولان : وفي سبب قبول قربان هابيل قولان : أحدهما : أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني : أنه تقرّب بخيار ماله ، وتقرّب قابيل بشرّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم ، أم من قبل أنفسهما؟ فيه قولان : أحدهما : أنه كان وآدم قد ذهب إلى زيارة البيت. والثاني : أن آدم أمرهما بذلك.

____________________________________

(٤١٧) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٣٥ و ٦٨٦٧ و ٧٣٢١ ومسلم ١٦٧٧ والترمذي ٢٦٧٣ والنسائي ٧ / ٨١ ـ ٨٢ في «التفسير» ١٦٢ وعبد الرزاق ١٩٧١٨ وابن ماجة ٢٦١٦ وأحمد ١ / ٣٨٣ وابن أبي شيبة ٩ / ٣٦٤ وابن حبان ٥٩٨٣ والطحاوي في «المشكل» ١ / ٤٨٣ من حديث ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل؟». وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٩٤ و «أحكام القرآن» ٦٩٠ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣١.

(٢) في «اللسان» : الصّبرة : ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. كالكومة.


وهل قتل هابيل بعد تزويج أخت قابيل ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه قتله قبل ذلك لئلّا يصل إليها. والثاني : أنه قتله بعد نكاحها.

قوله تعالى : (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) وروى زيد عن يعقوب : «لأقتلنّك» بسكون النون وتخفيفها. والقائل : هو الذي لم يتقبّل منه. قال الفرّاء : إنما حذف ذكره ، لأنّ المعنى يدلّ عليه ، ومثل ذلك في الكلام أن تقول : إذا رأيت الظّالم والمظلوم أعنت ، وإذا اجتمع السّفيه والحليم حمد ، وإنما كان ذلك ، لأن المعنى لا يشكل ، فلو قلت : مرّ بي رجل وامرأة ، فأعنت ، وأنت تريد أحدهما ، لم يجز ، لأنه ليس هناك علامة تدلّ على مرادك. وفي المراد بالمتّقين قولان : أحدهما : أنهم الذين يتّقون المعاصي ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الذين يتّقون الشّرك ، قاله الضّحّاك.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨))

قوله تعالى : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) فيه قولان : أحدهما : أما أنا بمنتصر لنفسي ، قاله ابن عباس. والثاني : ما كنت لأبتدئك ، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان : أحدهما : أنه منعه التّحرّج مع قدرته على الدّفع وجوازه له ، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني : أنّ دفع الإنسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا ، قاله الحسن ومجاهد.

وقال ابن جرير : ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزم القاتل على قتله ، ثمّ ترك الدّفع عن نفسه ، وقد ذكر أنه قتله غيلة ، فلا يدّعى ما ليس في الآية إلا بدليل.

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) فيه قولان :

أحدهما : إني أريد أن ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي في عنقك ، هذا قول ابن مسعود ، وابن عباس. ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أن تبوء بإثمي في خطاياي ، وإثمك في قتلك لي ، وهو مرويّ عن مجاهد أيضا. قال ابن جرير : والصّحيح عن مجاهد القول الأول.

(٤١٨) وقد روى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ، لأنه كان أول من سنّ القتل».

فإن قيل : كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإثم وهو معصية ، والمؤمن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة (١) : أحدها : أنه ما أراد لأخيه الخطيئة ، وإنما أراد : إن قتلتني أردت أن تبوء بالإثم ، وإلى هذا المعنى ذهب الزجّاج. والثاني : أن في الكلام محذوفا ، وتقديره : إني

____________________________________

(٤١٨) هو الحديث المتقدم.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٣٤ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) وأما معنى : (وَإِثْمِكَ) فهو إثمه بغير قتله وذلك معصيته لله جل ثناؤه في أعمال سواه ، وأجمع أهل التأويل عليه.


أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك ، فحذف «لا» كقوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ*) أي : أن لا تميد بكم ، ومنه قول امرئ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي (١)

أراد : لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث : أن المعنى : أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك ، وبطلان أن تبوء بإثمي وإثمك. فحذف ذلك ، وقامت «أن» مقامه ، كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٢) أي : حبّ العجل ، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الإشارة إلى مصاحبة النّار.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠))

قوله تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فيه خمسة أقوال : أحدها : تابعته على قتل أخيه ، قاله ابن عباس. والثاني : شجّعته ، قاله مجاهد. والثالث : زيّنت له ، قاله قتادة. والرابع : رخّصت له ، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس : أنّ «طوّعت» فعّلت من «الطّوع» والعرب تقول : طاع لهذه الظّبية أصول هذا الشّجر ، وطاع له كذا ، أي : أتاه طوعا ، حكاه الزجّاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة : شايعته وانقادت له ، يقال : لساني لا يطوع بكذا ، أي : لا ينقاد ، وهذه المعاني تتقارب.

وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال : أحدها : أنه رماه بالحجارة حتى قتله ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : ضرب رأسه بصخرة وهو نائم ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، والسّدّيّ عن أشياخه. والثالث : رضخ رأسه بين حجرين ، قال ابن جريج : لم يدر كيف يقتله ، فتمثّل له إبليس ، وأخذ طائرا فوضع رأسه على حجر ، ثم شدخه بحجر آخر ، ففعل به هكذا ، وكان ل «هابيل» يومئذ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال : أحدها : على جبل ثور ، قاله ابن عباس. والثاني : بالبصرة ، قاله جعفر الصّادق. والثالث : عند عقبة حراء ، حكاه ابن جرير الطّبريّ.

وفي قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : من الخاسرين الدّنيا والآخرة ، فخسرانه الدّنيا : أنه أسخط والديه ، وبقي بلا أخ ، وخسرانه الآخرة : أنه أسخط ربّه ، وصار إلى النار ، قاله ابن عباس. والثاني ؛ أنه أصبح من الخاسرين الحسنات ، قاله الزجّاج. والثالث : من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها ، قاله القاضي أبو يعلى.

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ) قال ابن عباس : حمله على عاتقه ، فكان إذا مشى تخطّ يداه ورجلاه في الأرض ، وإذا قعد وضعه إلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، ثم بحث

__________________

(١) في «اللسان» : الوصل : كل عظم على حدة لا يكسر ، ولا يخلط بغيره ، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال : مجتمع العظام.

(٢) سورة البقرة : ٩٣.


له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد : حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطيّة : حمله حتى أروح (١). وقال مقاتل : حمله ثلاثة أيام.

وفي المراد بسوأة أخيه قولان : أحدهما : عورة أخيه. والثاني : جيفة أخيه.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ، فإن قيل : أليس النّدم توبة ، فلم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنه يجوز أن لا يكون النّدم توبة لمن تقدّمنا ، ويكون توبة لهذه الأمّة ، لأنها خصّت بخصائص لم تشارك فيها ، قاله الحسن بن الفضل. والثاني : أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث : أنه ندم إذ لم يواره حين قتله. والرابع : أنه ندم على فوات أخيه ، لا على ركوب الذّنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد ، لأنه الذي أهلك قابيل.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) قال الضّحّاك : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما ، وقال أبو عبيدة : من جناية ذلك ، ومن جري ذلك. قال الشاعر :

وأهل خباء صالح ذات بينهم

قد احتربوا في عاجل أنا آجله (٢)

أي : جانيه وجار ذلك عليهم. وقال قوم : الكلام متعلّق بما قبله ، والمعنى : فأصبح من النّادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يحسن الوقف هاهنا ، وعلى الأوّل لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ. و (كَتَبْنا) بمعنى : فرضنا. ومعنى (قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي : قتلها ظلما ولم تقتل نفسا. (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) «فساد» منسوق على (نَفْسٍ) ، المعنى : أو بغير فساد تستحقّ به القتل. وقيل : أراد بالفساد هاهنا : الشّرك.

وفي معنى قوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) خمسة أقوال : أحدها : أنّ عليه إثم من قتل الناس جميعا ، قاله الحسن ، والزجّاج. والثاني : أنه يصلى النار بقتل المسلم ، كما لو قتل النّاس جميعا ، قاله مجاهد ، وعطاء. وقال ابن قتيبة : يعذّب كما يعذب قاتل النّاس جميعا. والثالث : أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعا ، قاله ابن زيد. والرابع : أن معنى الكلام : ينبغي لجميع الناس أن يعينوا وليّ المقتول حتى يقيدوه منه ، كما لو قتل أولياءهم جميعا ، ذكره القاضي أبو يعلى. والخامس : أن المعنى : من قتل نبيّا أو إماما عادلا ، فكأنما قتل الناس جميعا ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصحّ.

فإن قيل : إذا كان إثم قاتل الواحد كإثم من قتل الناس جميعا ، دلّ هذا على أنه لا إثم عليه في

__________________

(١) في «اللسان» أروح اللحم : تغيّرت رائحته.

(٢) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.


قتل من يقتله بعد قتل الواحد إلى أن يفنى الناس؟ فالجواب : أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعا معلوم عند الله محدود ، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإثم المعلوم ، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه ، وكلّما زاد قتلا زاده الله إثما ، ومثل هذا قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها ، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إن قال : إذا كان من أحيا نفسا فله ثواب من أحيا الناس ، فما ثواب من أحيا الناس كلّهم؟ هذا كله منقول عن المفسّرين. والذي أراه أن التّشبيه بالشّيء تقريب منه ، لأنه لا يجوز أن يكون إثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص ، وإنما وقع التّشبيه ب «كأنّما» ، لأنّ جميع الخلائق من شخص واحد ، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلّهم.

وفي قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها) خمسة أقوال : أحدها : استنقذها من هلكة ، روي عن ابن مسعود ، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس : من شدّ عضد نبيّ أو إمام عادل ، فكأنّما أحيا الناس جميعا. والثاني : ترك قتل النّفس المحرّمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث : أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص ، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع : أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس : أن يعين الوليّ على استيفاء القصاص لأنّ في القصاص حياة ، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى : (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قولان : أحدهما : فله أجر من أحيا الناس جميعا ، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني : فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم ، ذكره الماورديّ. قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) يعني : بني إسرائيل الذين جرى ذكرهم.

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣))

قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٤١٩) أحدها : أنها نزلت في ناس من عرينة قدموا المدينة ، فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في

____________________________________

(٤١٩) حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري ٤١٩٣ ومسلم ١٦٧١ وأبو داود ٤٣٦٦ والترمذي ٧٢ و ١٨٤٥ و ٢٠٤٢ والنسائي ٧ / ٩٧ و ١٦٠ وابن أبي شيبة ٧ / ٧٥ وأحمد ٣ / ١٨٦ ـ ١٩٨ وابن حبان ١٣٧٦ والبغوي في «التفسير» ٧٨٢ من طرق كلهم من حديث أنس ، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد ، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية ، وإنما ورد من طريق قتادة وحده ، وليس في الصحيح.

وورد نزول الآية من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ١١٨١٢ ، وورد من مرسل سعيد بن جبير ، أخرجه الطبري ١١٨١٤ ، وورد موصولا من حديث جرير البجلي ، أخرجه الطبري ١١٨١٥ لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي ، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس ، أخرجه الطبري ١١٨١٩ ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا ، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري ١١٨٢٠ وفيه ابن لهيعة ، وهو

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٦٠.


إبل الصّدقة ، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا ، فصحّوا ، وارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الرّاعي ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمّر أعينهم ، وألقاهم بالحرّة حتى ماتوا ، ونزلت هذه الآية ، رواه قتادة عن أنس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسّدّيّ.

(٤٢٠) والثاني : أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فخيّر الله رسوله بهذه الآية : إن شاء أن يقتلهم ، وإن شاء أن يقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك.

(٤٢١) والثالث : أنّ أصحاب أبي بردة الأسلميّ قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٤٢٢) وقال ابن السّائب : كان أبو بردة ، واسمه هلال بن عويمر ، وادع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن أتاه من المسلمين لم يهج ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يهج ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ، فنهدوا إليهم ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، ولم يكن هلال حاضرا ، فنزلت هذه الآية.

والرابع : أنها نزلت في المشركين ، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن (١).

واعلم أنّ ذكر «المحاربة» لله عزوجل في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان : أحدهما : أنه سمّاهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة ، لأن المخالف محارب ، وإن لم يحارب. فيكون المعنى :

____________________________________

ضعيف ، وورد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ١١٨٢١. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية ، فالله أعلم.

(٤٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٨٠٧ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به ، وفيه إرسال ، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا ، أخرجه الطبري ١١٨٠٨ وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.

(٤٢١) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو متهم بالوضع ، فحديثه لا شيء.

(٤٢٢) عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي ، واسمه محمد ، وهو ساقط متهم ، فخبره باطل.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٤٩ : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرنيين ما فعل.

وقال الإمام ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٢ / ٩٣ : من قال : إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا ، ولكن يبعد ، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). وقد قال في المحاربين : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة ، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب ، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.


يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني : أنّ المراد : يحاربون أولياء الله ، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير : أراد بالمحاربة لله ورسوله ، الكفر بعد الإسلام. وقال مقاتل : أراد بها الشّرك (١). فأمّا «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال ، وإخافة السّبيل.

قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب ، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على التّرتيب (٢) ، وأنهم إذا قتلوا ، وأخذوا المال ، أو قتلوا ولم يأخذوا ، قتلوا وصلّبوا ، وإن أخذوا المال ، ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن لم يأخذوا المال ، نفوا. قال ابن الأنباريّ : فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة ، فالمعنى : بعضهم يفعل به كذا ، وبعضهم كذا ، ومثله قوله تعالى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٣) المعنى : قال بعضهم هذا ، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشّافعيّ : إذا قتلوا وأخذوا المال ، قتلوا وصلّبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال ، قتلوا ولم يصلّبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك : الإمام مخيّر في إقامة أيّ الحدود شاء ، سواء قتلوا أو لم يقتلوا ، أخذوا المال أو لم يأخذوا ، والصّلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة ، ومالك : يصلب ويبعج برمح حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه. واختلف أصحاب الشّافعيّ ، فقال بعضهم : ثلاثة أيام ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال بعضهم : يترك حتى يسيل صديده.

قال أبو عبيدة : معنى «من خلاف» أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، يخالف بين قطعهما. فأمّا «النفي» فأصله الطّرد والإبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال : أحدها : إبعادهم من بلاد الإسلام إلى دار الحرب ، قاله أنس بن مالك ، والحسن ، وقتادة ، وهذا إنما يكون في حقّ المحارب المشرك ، فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطرّ إلى ذلك. والثاني : أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود ، فيبعدوا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثالث : إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى ، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك : ينفى إلى بلد غير بلده ، فيحبس هناك. والرابع : أنه الحبس ، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا : صفة النّفي : أن يشرّد ولا يترك يأوي في بلد ، فكلّما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره. وفي «الخزي»

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٥٢ : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.

(٢) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢ / ٤٧٥ : مسألة : «فمن قتل منهم وأخذ المال ، قتل وإن عفا صاحب المال ، وصلب حتى يشتهر ، ودفع إلى أهله ، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، في مقام واحد ، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه : روينا نحو هذا عن ابن عباس ، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق : وعن أحمد : أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع ، كما لو زنى وسرق ، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب ، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير ، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود ، وقال أصحاب الرأي : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطع ، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه ، وبين قتله وقطعه ، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٥٠.

(٣) سورة البقرة : ١٣٥.


قولان : أحدهما : أنه العقاب. والثاني : الفضيحة.

وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر ، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشّافعيّ ، وأبو يوسف : المصر والصّحارى سواء (١) ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب ، كما يعتبر في حقّ السّارق ، خلافا لمالك.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قال أكثر المفسّرين : هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم ، وآمنوا قبل القدرة عليهم ، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون ، فاختلفوا فيهم ، ومذهب أصحابنا : أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصّلب والقطع والنّفي. فأمّا حقوق الآدميين من الجراح والأموال ، فلا تسقطها التوبة ، وهذا قول الشّافعيّ (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) في «الوسيلة» قولان :

أحدهما : أنها القربة ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، والفرّاء. وقال قتادة : تقرّبوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة : يقال : توسّلت إليه ، أي : تقرّبت إليه. وأنشد :

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٧٤ : والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء ، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة ، تعتبر لهم شروط ثلاث :

أحدها : أن يكون ذلك في الصحراء ، فإن كان منهم في القرى والأمصار ، فقد توقف أحمد رحمه‌الله فيهم ، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي ، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب ، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا ، وأكثر ضررا ، فكان بذلك أولى.

(٢) جاء في «المغني» ١٢ / ٤٨٣ : مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم ، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين ، من الأنفس والجراح والأموال ، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق : لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور ، والأصل فيه قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...) فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي ، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح ، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه ، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة : كالزنى ، والقذف ، وشرب الخمر ، والسرقة ، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة ، لأنها حدود الله تعالى ، إلا حد القذف ، لأنه حق آدمي ، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.


إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التّصافي بيننا والوسائل (١)

والثاني : المحبّة ، يقول : تحبّبوا إلى الله ، هذا قول ابن زيد.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨))

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) قال ابن السّائب : نزلت في طعمة بن أبيرق (٢) ، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. و (وَالسَّارِقُ) : إنما سمّي سارقا ، لأنه يأخذ الشّيء في خفاء ، واسترق السّمع : إذا تسمّع مستخفيا. قال المبرّد : والسّارق هاهنا مرفوع بالابتداء ، لأنه ليس القصد منه واحدا بعينه ، وإنّما هو ، كقولك : من سرق فاقطع يده. وقال ابن الأنباريّ : وإنّما دخلت الفاء ، لأنّ في الكلام معنى الشّرط ، تقديره : من سرق فاقطعوا يده ، قال الفرّاء : وإنّما قال : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لأنّ كلّ شيء موحّد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا ، جمع ، تقول : قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ، ومثله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣) وإنّما اختير الجمع على التّثنية ، لأنّ أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الإنسان : اليدين ، والرّجلين ، والعينين ، فلمّا جرى أكثره على هذا ، ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التّثنية ، وقد يجوز تثنيتهما.

قال أبو ذؤيب.

فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط التي لا ترقع (٤)

فصل : وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلّ سارق (٥) ، وبيّنت السنّة أنّ المراد به السّارق لنصاب من حرز مثله ، كما قال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٦).

(٤٢٣) ونهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النّساء ، والصّبيان ، وأهل الصّوامع. واختلف في مقدار النّصاب ، فمذهب أصحابنا : أنّ للسّرقة نصابين : أحدهما : من الذّهب ربع دينار ، ومن الورق ثلاثة دراهم ، أو

____________________________________

(٤٢٣) متفق عليه ، وتقدم.

__________________

(١) في «تفسير القرطبي» ٦ / ١٥١ وفي «مجاز القرآن» ١ / ١٦٤ لم يعرف قائله.

(٢) ابن السائب هو الكلبي ، وهو متهم بالوضع ، فخبره باطل ، لا أصل له.

(٣) سورة التحريم : ٤.

(٤) تخالسا : جعل كل واحد منهما يختلس نفس صاحبه بالطعن. النوافذ : جمع نافذة وهي الطعن تنفذ حتى يكون لها رأسان. عبط : جمع عبيط ، وأصل العبط : شق الجلد الصحيح.

(٥) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٥٩ في شرح المسألة ١٥٨٩ : وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده ، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم ، والابن والبنت ، والجد والجدة ، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم : مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ، وقال أبو ثور وابن المنذر : القطع على كل سارق بظاهر الكتاب.

قال الإمام الموفق : والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا ، ووافقهم أبو ثور ، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا ، وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٨٠ ـ ٨١ و «تفسير القرطبي».

(٦) سورة التوبة : ٥.


قيمة ثلاثة دراهم من العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة : لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشّافعيّ : الاعتبار في ذلك بربع دينار ، وغيره مقوّم به ، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار ، قطع ، فإن سرق نصابا من التّبر ، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة : لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا ، فإن سرق منديلا لا يساوي نصابا ، في طرفه دينار ، وهو لا يعلم ، لا يقطع. وقال الشّافعيّ : يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة ، قطع ، خلافا لأبي حنيفة. فإن سرق صبيا صغيرا حرّا ، لم يقطع ، وإن كان على الصّغير حليّ. وقال مالك : يقطع بكلّ حال. وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب ، قطعوا (١) ، وبه قال مالك ، إلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه. وقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : لا قطع عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، والليث بن سعد ، خلافا لأكثر الفقهاء.

فصل : فأمّا الحرز ، فهو ما جعل للسّكنى ، وحفظ الأموال ، كالدّور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ، ويحفظون أمتعتهم بها ، فكلّ ذلك حرز ، وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده ، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب ، أو لا باب له إلا أنه محجّر بالبناء. فأمّا ما كان في غير بناء ولا خيمة ، فإنه ليس في حرز إلّا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميمونيّ عن أحمد : إذا كان المكان مشتركا في الدّخول إليه ، كالحمّام والخيمة لم يقطع السّارق منه ، ولم يعتبر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور : لا يقطع سارق الحمّام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ. فأمّا النّبّاش ، فقال أحمد في رواية أبي طالب :

يقطع ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ ، وابن أبي ليلى. وقال الثّوريّ ، والأوزاعيّ ، وأبو حنيفة : لا يقطع.

فصل : فأمّا موضع قطع السّارق (٢) ، فمن مفصل الكفّ ، ومن مفصل الرّجل. فأمّا اليد اليسرى

__________________

(١) جاء في «المغني» ١٢ / ٤٦٨ : «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق :

وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق : لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٤٦. وجاء في «المغني» ١٣ / ١٧٢ ـ ١٧٣ : «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة ، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب ، لم يقم عليه حتى يقفل ، فيقام عليه حده ، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق : وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر : يقام الحد في كل موضع ، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان ، إلا أن الشافعي قال : إذا لم يكن أمير الجيش الإمام ، أو أمير إقليم ، فليس له إقامة الحد ، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه ، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود ، أو قوة به ، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة : لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧١ بتخريجي.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٤٠ : لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف ، وهو الكوع ، لأنها آلة السرقة ، فناسب عقوبته بإعدام آلتها ، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى ، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى ، وروي عن داود وربيعة ، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر ، من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم ، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا ، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى : (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم ، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم ، من معقد الشراك ،


والرّجل اليمنى ، فروي عن أحمد : لا تقطع ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وأبي حنيفة ، وروي عنه : أنها تقطع ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ. ولا يثبت القطع إلا بإقراره مرتين ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ : يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسرا كان أو معسرا. وقال أبو حنيفة : لا يجتمعان ، فإن كانت العين باقية أخذها ربّها ، وإن كانت مستهلكة ، فلا ضمان. وقال مالك : يضمنها إن كان موسرا ، ولا شيء عليه إن كان معسرا (١).

قوله تعالى : (نَكالاً مِنَ اللهِ) قد ذكرنا «النّكال» في البقرة. قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال سعيد بن جبير : شديد في انتقامه ، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعيّ : قرأت هذه الآية ، وإلى جنبي أعرابيّ ، فقلت : والله غفور رحيم ، سهوا ، فقال الأعرابيّ : كلام من هذا؟ قلت : كلام الله. قال : أعد فأعدت : والله غفور رحيم ، فقال : ليس هذا كلام الله ، فتنبّهت ، فقلت : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). فقال : أصبت ، هذا كلام الله. فقلت له : أتقرأ القرآن؟ قال : لا. قلت : فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال : يا هذا عزّ فحكم فقطع ، ولو غفر ورحم لما قطع.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ). سبب نزولها :

__________________

ويدع له عقبا يمشي عليها ، وهو قول أبي ثور.

ـ قال : وإذا قطع حسم ، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه ، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٦٩ ـ ٧٤ ، و «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧١ ـ ١٧٢.

وجاء في «المغني» ١٢ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ما ملخصه : مسألة : «فإن عاد حبس ، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله ، لم يقطع منه شيء آخر وحبس ، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي ، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى ، وفي الرابعة رجله اليمنى ، وفي الخامسة يعزر ويحبس ، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل ، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر ، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز ، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة ، والرجل اليمنى في الرابعة ، ويقتل في الخامسة لحديث جابر : «جيء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسارق فقال : اقتلوه .....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال : حضرت عليّ بن أبي طالب ، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق ، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين. قال : قتلته إذا ، وما عليه القتل ، بأي شيء يأكل الطعام ، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل ، بأي شيء يقوم على حاجته ، فرده إلى السجن ، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا.

وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧٢ و «أحكام الجصاص» ٤ / ٧٢ ـ ٧٣.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢ / ٤٥٤ ما ملخصه : لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية ، فأما إن كانت تالفة ، فعلى السارق رد قيمتها ، أو مثلها إن كانت مثلية ، قطع أو لم يقطع ، موسرا كان أو معسرا ، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، وقال الثوري وأبو حنيفة : لا يجتمع الغرم والقطع ، إن غرمها قبل القطع سقط القطع ، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم ، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول : لا غرم على السارق إذا قطع ، ووافقهم مالك في المعسر ، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٨٣ ـ ٨٤.


(٤٢٤) أن امرأة كانت قد سرقت ، فقالت : يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير : فمن تاب من بعد ظلمه ، أي : سرقته ، وأصلح العمل ، فإنّ الله يتجاوز عنه ، إنّ الله غفور لما كان منه قبل التّوبة ، رحيم لمن تاب.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال (١) :

(٤٢٥) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بيهوديّ وقد حمّموه (٢) وجلدوه ، فقال : أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم ، فقال : أنشدك الله الذي أنزل التّوراة على موسى ، هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قال : لا ، ولكنّه كثر في أشرافنا ، فكنّا نترك الشّريف ، ونقيمه على الوضيع ، فقلنا : تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع ، فاجتمعنا على التّحميم والجلد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم ، ونزلت هذه الآية ، رواه البراء بن عازب.

____________________________________

(٤٢٤) أخرجه أحمد ٢ / ١٧٧ والطبري ١١٩٢٢ من حديث عبد الله بن عمرو قال : «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقطعوا يدها ، فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عزوجل : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) إلى آخر الآية.

وفيه عبد الله بن لهيعة ، وهو ضعيف الحديث ، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية ، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية ، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٠٣ بتخريجنا.

(٤٢٥) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٠٠ وأبو داود ٤٤٤٧ و ٤٤٤٨ وأحمد ٤ / ٢٨٦ وابن ماجة ٢٥٥٨ والبيهقي ٨ / ٢٤٦ والطبري ١٢٠٣٩ من حديث البراء بن عازب.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : عني بقوله : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ...) الآية ، قوم من المنافقين. وجائز أن يكون ممن دخل هذه الآية ابن صوريا ، وجائز أن يكون أبو لبابة ، وجائز أن يكون غيرهما ، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ما روي عن البراء بن عازب وأبي هريرة لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان الصحيح من القول فيه أن يقال : عني به عبد الله بن صوريا.

(٢) في «اللسان» : حمّم الرجل : سخّم وجهه بالحمم ، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمّم مجلود أي مسود الوجه.


(٤٢٦) والثاني : أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر ، وهذا المعنى مرويّ عن أبي هريرة.

(٤٢٧) والثالث : أنها نزلت في يهوديّ قتل يهوديّا ، ثم قال : سلوا محمّدا فإن كان بعث بالدّية ، اختصمنا إليه ، وإن كان بعث بالقتل ، لم نأته ، قاله الشّعبيّ.

والرابع : أنها نزلت في المنافقين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد (١).

(٤٢٨) والخامس : أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم : على ما ذا ننزل؟ فأشار إليهم : أنه الذّبح ، قاله السّديّ.

(٤٢٩) قال مقاتل : هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، قالت له قريظة : أننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده : أنه الذّبح ، وكان حليفا لهم. قال أبو لبابة : فعلمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية.

ومعنى الكلام : لا يحزنك مسارعة الذي يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون ، ومن الذين هادوا وهم اليهود. (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش : ويجوز أن يكون رفعه على معنى : ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال : أحدها : سمّاعون منك ليكذبوا عليك. والثاني : سمّاعون للكذب ، أي : قائلون له. والثالث : سمّاعون للكذب الذي بدّلوه في توراتهم. والرابع : سمّاعون للكذب ، أي قابلون له ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» أي : قبل.

وفي قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قولان : أحدهما : يسمعون لأولئك ، فهم عيون لهم. والثاني : سمّاعون من قوم آخرين ، وهم رؤساؤهم المبدّلون التّوراة. وفي السّمّاعين للكذب ، وللقوم الآخرين قولان : أحدهما : أن «السّمّاعين للكذب» يهود المدينة ، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود فدك. والثاني : بالعكس من هذا.

وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال : أحدها : أنه تغيير حدود الله في التّوراة ، وذلك أنهم غيّروا الرّجم ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب عليه ، قاله الحسن. والثالث : إخفاء صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والرابع : إسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس : سوء التّأويل. وقال ابن جرير : المعنى يحرّفون حكم الكلم ، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السّامعين بذلك.

____________________________________

(٤٢٦) أخرجه الطبري ١١٩٢٦ و ١١٩٢٨ و ١١٩٢٩ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، وإسناد ضعيف ، فيه راو لم يسمّ ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود ٤٤٥٠ و ٤٤٥١ والطبري ١٢٠١٣ والواحدي ٣٩٢ من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا.

(٤٢٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٢٤ و ١١٩٢٥ عن الشعبي مرسلا ، وهو معارض بحديث البراء ، وذاك أصح.

(٤٢٨) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١١٩٢٣ عن السدي مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، والمتن منكر ، معارض بما تقدم عن البراء ، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» ٧١٧ بتخريجنا.

(٤٢٩) مقاتل متروك ، وكذبه غير واحد ، فخبره لا شيء ، والصواب ما رواه البراء.

__________________

(١) أخرجه الطبري ١١٩٣٠ عن عبد الله بن كثير مرسلا. وكرره ١١٩٣١ عن مجاهد مرسلا أيضا ، ولم أره عن ابن عباس ، والخبر ضعيف بكل حال.


قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) قال الزجّاج : أي من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) في القائلين لهذا قولان :

(٤٣٠) أحدهما : أنهم اليهود ، وذلك أنّ رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا ، فكان حدّهما الرّجم ، فكرهت اليهود رجمهما ، فبعثوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إذا أحصنا ، وقالوا : إن أفتاكم بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به ، هذا قول الجمهور.

(٤٣١) والثاني : أنهم المنافقون. قال قتادة : وذلك أن بني النّضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم ، وإنما يعطونهم الدّية ، فإذا قتلت قريظة من النّضير لم يرضوا إلا بالقود تعزّزا عليهم ، فقتل بنو النّضير رجلا من قريظة عمدا ، فأرادوا رفع ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رجل من المنافقين : إنّ قتيلكم قتيل عمد ، ومتى ترفعوا ذلك إلى محمّد خشيت عليكم القود ، فإن قبلت منكم الدّية فأعطوا ، وإلا فكونوا منه على حذر.

وفي معنى (فَاحْذَرُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : فاحذروا أن تعملوا بقوله الشّديد. والثاني : فاحذروا أن تطلعوه على ما في التّوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث : فاحذروا أن تسألوه بعدها.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) في «الفتنة» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى الضّلالة ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني : العذاب ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : الفضيحة ، ذكره الزجّاج. قوله تعالى : (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لا تغني عنه ، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.

قوله تعالى : (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) قال السّدّيّ : يعني المنافقين واليهود ، لم يرد أن يطهّر قلوبهم من دنس الكفر ، ووسخ الشّرك بطهارة الإيمان والإسلام.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما خزي المنافقين ، فبهتك ستره وإطلاع النبيّ على كفرهم ، وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرّجم ، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل : وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي النّضير بإجلائهم.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قال الحسن : يعني حكّام اليهود يسمعون الكذب ممّن يكذب عندهم في دعواه ، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان : هم اليهود يسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمّد كاذب ، وليس بنبيّ ، وليس في التّوراة رجم ، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى :

____________________________________

(٤٣٠) أخرجه الطبري ١١٩٤١ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما ، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء.

(٤٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٤٤ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف.


(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو جعفر «السّحت» مضمومة الحاء مثقّلة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «السّحت» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسّحت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو عليّ : السّحت والسّحت لغتان ، وهما اسمان للشيء المسحوت ، وليسا بالمصدر ، فأمّا من فتح السين ، فهو مصدر سحت ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت ، كما أوقع الضّرب على المضروب في قولهم : هذا الدّرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسّحت ثلاثة أقوال : أحدها : الرّشوة في الحكم. والثاني : الرّشوة في الدّين ، والقولان عن ابن مسعود. والثالث : أنه كلّ كسب لا يحلّ ، قاله الأخفش.

قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فيمن أريد بهذا الكلام قولان :

أحدهما : اليهوديّان اللذان زنيا ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : رجلان من قريظة والنّضير قتل أحدهما الآخر ، قاله قتادة. وقال ابن زيد : كان حييّ بن أخطب قد جعل للنّضيريّ ديتين ، والقرظيّ دية ، لأنه كان من النّضير ، فقالت قريظة : لا نرضى بحكم حييّ ، ونتحاكم إلى محمّد ، فقال الله تعالى لنبيّه : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) الآية.

فصل : اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها منسوخة ، وذلك أنّ أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيّرا ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) فلزمه الحكم ، وزال التّخيير ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ. والثاني : أنها محكمة ، وأن الإمام ونوّابه في الحكم مخيّرون إذا ترافعوا إليهم ، إن شاؤوا حكموا بينهم ، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم ، وهذا مرويّ عن الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو الصّحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين ، لأنّ إحداهما : خيّرت بين الحكم وتركه. والثانية : بيّنت كيفية الحكم إذا كان.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) قال المفسّرون : هذا تعجيب من الله عزوجل لنبيّه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التّوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه ، وتقريع لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوّته ، ويتركون حكم التّوراة التي يعتقدون صحّتها.

قوله تعالى : (فِيها حُكْمُ اللهِ) فيه قولان : أحدهما : حكم الله بالرّجم ، وفيه تحاكموا ، قاله الحسن. والثاني : حكمه بالقود ، وفيه تحاكموا ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) فيه قولان : أحدهما : من بعد حكم الله في التّوراة. والثاني : من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) قولان : أحدهما : ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التّوراة. والثاني : ليسوا بمؤمنين أنّ حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.


(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) قال المفسّرون : سبب نزول هذه الآية : استفتاء اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الزّانيين ، وقد سبق (١). و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومبيّنة ما تحاكموا فيه إليه. و «النّور» : الضّياء الكاشف للشّبهات ، والموضح للمشكلات. وفي «النّبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى ، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال : أحدها : سلّموا لحكم الله ، ورضوا بقضائه. والثاني : انقادوا لحكم الله ، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث : أسلموا أنفسهم إلى الله عزوجل. والرابع : أسلموا لما في التّوراة ودانوا بها ، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكلّ ما فيها كعيسى عليه‌السلام. قال ابن الأنباريّ : وفي «المسلم» قولان : أحدهما : أنه سمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربّه. والثاني : لإخلاصه لربّه ، من قوله تعالى : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) (٢) أي : خالصا له.

والثاني : أنّ المراد بالنّبيين نبيّا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الحسن ، والسّدّيّ. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم ، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣). وفي الذي حكم به منها قولان : أحدهما : الرّجم والقود. والثاني : الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.

والثالث : النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم ، قاله عكرمة.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هادُوا) قال ابن عباس : تابوا من الكفر. قال الحسن : هم اليهود. قال الزجّاج : ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى : إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا. فأمّا «الرّبّانيّون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران). وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حبر وحبر ، والجمع أحبار وحبور. وقال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار : حبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه من الحبار وهو الأثر الحسن ، قاله الخليل. والثاني : أنه من الحبر الذي يكتب به ، قاله الكسائيّ. والثالث : أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء.

(٤٣٢) وفي الحديث «يخرج رجل من النّار قد ذهب حبره وسبره» أي : جماله وبهاؤه. فالعالم

____________________________________

(٤٣٢) لم أره مسندا ، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» ١ / ٨٥ وابن الجوزي في «غريب الحديث» ١ / ١٨٦ بدون إسناد ، ومن غير عزو ، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.

__________________

(١) انظر الأحاديث المتقدمة عند الآية : ٤١.

(٢) سورة الزمر : ٢٩.

(٣) سورة النساء : ٥٤.


بهيّ بجمال العلم ، وهذا قول قطرب.

وهل بين الرّبّانيين والأحبار فرق أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : لا فرق ، والكلّ العلماء ، هذا قول الأكثرين ، منهم ابن قتيبة ، والزجّاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال : الرّبّانيون : الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار. وقال السّدّيّ : الرّبّانيون العلماء ، والأحبار القرّاء. وقال ابن زيد : الرّبّانيون : الولاة ، والأحبار : العلماء ، وقيل : الرّبّانيون : علماء النّصارى ، والأحبار : علماء اليهود.

قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) قال ابن عباس : بما استودعوا من كتاب الله وهو التّوراة. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني : العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير : «الباء» في قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) من صلة الأحبار.

وفي قوله تعالى : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) قولان :

أحدهما : وكانوا على ما في التّوراة من الرّجم شهداء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : وكانوا شهداء لمحمّد عليه‌السلام بما قال أنه حقّ. رواه العوفيّ عن ابن عباس.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والكسائيّ «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل ، وبغير ياء في الوقف ، وكلاهما حسن. وقد أشرنا إلى هذا في سورة آل عمران (١). ثم في المخاطبين بهذا قولان. أحدهما : أنهم رؤساء اليهود ، قيل لهم : فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمّد ، والعمل بالرّجم ، واخشوني في كتمان ذلك ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة ، قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم ، ونعت محمّد ، واخشوني في كتمانه. والثاني : أنهم المسلمون ، قيل لهم : لا تخشوا الناس ، كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحقّ ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) في المراد بالآيات قولان : أحدهما : أنها صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. والثاني : الأحكام والفرائض. والثّمن القليل مذكور في البقرة.

فأمّا قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). وقوله تعالى بعدها : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنها نزلت في اليهود خاصّة ، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثاني : أنها نزلت في المسلمين ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث : أنها عامّة في

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٧٣.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٩٧ : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبرا عنهم أولى قلت : ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به ، بل ليهتدى به ، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.


اليهود ، وفي هذه الأمّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، والنّخعيّ ، والسّدّيّ. والرابع : أنها نزلت في اليهود والنّصارى ، قاله أبو مجلز. والخامس : أنّ الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النّصارى ، قاله الشّعبيّ.

وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان : أحدهما : أنه الكفر بالله تعالى. والثاني : أنه الكفر بذلك الحكم ، وليس بكفر ينقل عن الملّة.

وفصل الخطاب : أنّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له ، وهو يعلم أنّ الله أنزله ، كما فعلت اليهود ، فهو كافر ، ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود ، فهو ظالم وفاسق. وقد روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا) أي : فرضنا (عَلَيْهِمْ) أي : على اليهود (فِيها) أي : في التّوراة. قال ابن عباس : وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنفس ، فما بالهم يخالفون ، فيقتلون النّفسين بالنّفس ، ويفقئون العينين بالعين؟ وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو ، وليس بينهم دية في نفس ولا جرح ، فخفّف الله عن أمّة محمّد بالدّية. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : النّفس بالنّفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسّنّ بالسّنّ ، ينصبون ذلك كلّه ، ويرفعون «والجروح». وكان نافع ، وعاصم ، وحمزة ينصبون ذلك كلّه ، وكان الكسائيّ يقرأ : «أن النّفس بالنّفس» نصبا ، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو عليّ : وحجّته أن الواو لعطف الجمل ، لا للاشتراك في العامل ، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى ، لأن معنى : وكتبنا عليهم : قلنا لهم : النّفس بالنّفس ، فحمل العين على هذا ، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفا ، لا أنه ممّا كتب على القوم ، وإنما هو ابتداء إيجاب. قال القاضي أبو يعلى : وقوله تعالى : العين بالعين ، ليس المراد قلع العين بالعين ، لتعذّر استيفاء المماثلة ، لأنّا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه ، وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة ، وصفة ذلك أن تشدّ عين القالع ، وتحمى مرآة ، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن ، وهو ما لان منه ، وتركت قصبته ، ففيه القصاص ، وأما إذا قطع من أصله ، فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص ، كما لو قطع يده من نصف السّاعد. وقال أبو يوسف ، ومحمّد : فيه القصاص إذا استوعب. وأما الأذن ، فيجب القصاص إذا استوعبت ، وعرف المقدار. وليس في عظم قصاص إلا في السّنّ ، فإن قلعت قلع مثلها ، وإن كسر بعضها ، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) يشير إلى القصاص. (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) في هاء «له» قولان :


أحدهما : أنها إشارة إلى المجروح ، فإذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه ، وهو قول ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والحسن ، والشّعبيّ. والثاني : إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح ، كفّر عنه ما جنى ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل ، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته ، لأنه إذا كان مصرّا فعقوبة الإصرار باقية.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي : وأتبعنا على آثار النّبيّين الذين أسلموا (بِعِيسَى) فجعلناه يقفو آثارهم (مُصَدِّقاً) أي : بعثناه مصدّقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً) ليس هذا تكرار للأوّل ، لأنّ الأوّل لعيسى ، والثّاني للإنجيل ، لأنّ عيسى كان يدعو إلى التّصديق بالتّوراة ، والإنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر ، تقديره : وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش ، وحمزة بكسر اللام ، وفتح الميم على معنى «كي» ، فكأنه قال : وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) أي : بالصّدق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) قال ابن عباس : يريد كلّ كتاب أنزله الله تعالى.

وفي «المهيمن» أربعة أقوال : أحدها : أنه المؤيمن ، رواه التّميميّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة ، وعطاء ، والضّحّاك. وقال المبرّد : «مهيمن» في معنى : «مؤيمن» إلا أنّ الهاء بدل من الهمزة ، كما قالوا : أرقت الماء ، وهرقت ، وإيّاك وهيّاك. وأرباب هذا القول يقولون : المعنى : أنّ القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إلا أنّ ابن أبي نجيح روى عن مجاهد : ومهيمنا عليه. قال : محمّد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله ، في الكلام محذوف ، كأنّه قال : وجعلناك يا محمّد مهيمنا عليه ، فتكون هاء «عليه» راجعة إلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني : أنه الشّاهد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثالث : أنه المصدق على ما أخبر عن الكتاب ، وهذا قول ابن زيد ، وهو قريب من القول الأوّل. والرابع : أنه الرّقيب الحافظ ، قاله الخليل.


قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) يشير إلى اليهود (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك في القرآن (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ). قاله أبو سليمان : المعنى : فترجع عما جاءك. قال ابن عباس : لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن.

قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال مجاهد : الشّرعة : السّنّة ، والمنهاج : الطّريق. وقال ابن قتيبة : الشّرعة والشّريعة واحد ، والمنهاج : الطّريق الواضح. فإن قيل : كيف نسق «المنهاج» على «الشّرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن بينهما فرقا من وجهين : أحدهما : أن «الشّرعة» ابتداء الطّريق ، والمنهاج : الطّريق المستمر ، قاله المبرّد. والثاني : أن «الشّرعة» الطّريق الذي ربّما كان واضحا ، وربّما كان غير واضح ، والمنهاج : الطّريق الذي لا يكون إلا واضحا ، ذكره ابن الأنباريّ. فلمّا وقع الاختلاف بين الشّرعة والمنهاج ، حسن نسق أحدهما على الآخر. والثاني : أنّ الشّرعة والمنهاج بمعنى واحد ، وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة :

ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النّأي والبعد

فنسق البعد على النّأي لمّا خالفه في اللفظ ، وإن كان موافقا له في المعنى ، ذكره ابن الأنباريّ. وأجاب عنه أرباب القول الأوّل ، فقالوا : «النّأي» كلّ ما قلّ بعده أو كثر كأنّه المفارقة ، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.

وللمفسّرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكلّ ملّة جعلنا شرعة ومنهاجا ، فلأهل التّوراة شريعة ، ولأهل الإنجيل شريعة ، ولأهل القرآن شريعة ، هذا قول الأكثرين. قال قتادة : الخطاب للأمم الثّلاث : أمّة موسى ، وعيسى ، وأمّة محمّد ، فللتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللفرقان شريعة ، يحلّ الله فيها ما يشاء ، ويحرّم ما يشاء بلاء ، ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه ، ولكن الدّين الواحد الذي لا يقبل غيره ، التّوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرّسل. والثاني : أنّ المعنى : لكلّ من دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا ، هذا قول مجاهد.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فيه قولان : أحدهما : لجمعكم على الحقّ. والثاني : لجعلكم على ملّة واحدة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) من الكتاب ، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل : إذا كان المعنى بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) : نبيّنا محمّدا مع سائر الأنبياء قبله ، فمن المخاطب بقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ)؟ فالجواب : أنه خطاب لنبيّنا ، والمراد به سائر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير : والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا ، فأرادت الخبر عنه أن تغلّب المخاطب ، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.

قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) قال ابن عباس ، والضّحّاك : هو خطاب لأمّة محمّد عليه‌السلام. قال مقاتل : و «الخيرات» : الأعمال الصّالحة : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الدّين. قال ابن جرير : قد بيّن ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج ، وغدا بيبّنه بالمجازاة.


(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) سبب نزولها :

(٤٣٣) أنّ جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد (١) ، وعبد الله بن صوريا ، وشأس بن قيس ، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمّد ، لعلّنا نفتنه عن دينه ، فأتوه ، فقالوا : يا محمّد ، قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم ، وأنّا إن تبعناك ، اتّبعك اليهود ، وإنّ بيننا وبين قوم خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل : أنّ جماعة من بني النّضير قالوا له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدّماء ، كما كنّا عليه من قبل ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكرارا لما تقدّم ، وإنما نزلتا في شيئين مختلفين : أحدهما : في شأن الرّجم. والآخر : في التّسوية في الدّيات حتى تحاكموا إليه في الأمرين.

قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي : يصرفوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وفيه قولان : أحدهما : أنه الرّجم ، قاله ابن عباس. والثاني : شأن القصاص والدّماء ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه قولان : أحدهما : عن حكمك. والثاني : عن الإيمان ، فاعلم أنّ إعراضهم من أجل أنّ الله يريد أن يعذّبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان : أحدهما : أنه على حقيقته ، وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقّونه. والثاني : أنّ المراد به الكلّ ، كما يذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٢) والمراد : جميع المسلمين. وقال الحسن : أراد ما عجّله من إجلاء بني النّضير وقتل بني قريظة.

قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) قال المفسّرون : أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : الكفر ، قاله ابن عباس. والثاني : الكذب ، قاله ابن زيد. والثالث : المعاصي ، قاله مقاتل.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قرأ الجمهور «يبغون» بالياء ، لأن قبله غيبة ، وهي قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ). وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء ، على معنى : قل لهم.

(٤٣٤) وسبب نزولها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا حكم بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير ،

____________________________________

(٤٣٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٥٦ من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

(٤٣٤) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس.

__________________

(١) وقع في الأصل «أسيد» ، والتصويب من كتب التفسير ، والحديث.

(٢) سورة الطلاق : ١.


وقالوا : يا محمّد هؤلاء إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا أربعين ومائة وسق ، وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين ، وإن قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا ، فاقض بيننا بالعدل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لبني النّضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النّضير : والله لا نرضى بقضائك ، ولا نطيع أمرك ، ولنأخذنّ بأمرنا الأوّل ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قال الزجّاج : ومعنى الآية : أتطلب اليهود حكما لم يأمر الله به ، وهم أهل كتاب الله ، كما تفعل الجاهليّة؟!

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) قال ابن عباس : ومن أعدل؟!

وفي قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قولان : أحدهما : يوقنون بالقرآن ، قاله ابن عباس. والثاني : يوقنون بالله ، قاله مقاتل. وقال الزجّاج : من أيقن تبيّن عدل الله في حكمه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٤٣٥) أحدها : أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذ رضوا بحكم سعد : إنه الذّبح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة.

(٤٣٦) والثاني : أن عبادة بن الصّامت قال : يا رسول الله إنّ لي موالي من اليهود ، وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود ، فقال عبد الله بن أبيّ : إنّي رجل أخاف الدّوائر ، ولا أبرأ إلى الله من ولاية يهود ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطيّة العوفيّ.

____________________________________

وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي ٨ / ١٨ ـ ١٩ والدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر ، فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله ، فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوه فنزلت (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ). وهو حديث حسن. رجاله ثقات ، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ المرفوع.

وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة ، وورد من وجه آخر ، أخرجه أحمد ٢٢١٢ والطبراني ١٠٧٣٢ وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد ، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.

(٤٣٥) أخرجه الطبري ١٢١٦٦ عن عكرمة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.

ـ وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة كما تقدّم مرارا.

(٤٣٦) أخرجه الطبري ١٢١٦٢ عن عطية العوفي مرسلا ، ومع إرساله ، عطية واه. وورد من مرسل الزهري ، أخرجه الطبري ١٢١٦٣ ، ومراسيل الزهري واهية. وله شاهد موصول ، أخرجه الطبري ١٢١٦٤ عن عبادة بن الوليد ، وهذا مرسل حسن ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٧٢٩ بتخريجنا.


(٤٣٧) والثالث : أنه لمّا كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفّار ، فقال رجل لصاحبه : أمّا أنا فألحق بفلان اليهوديّ ، فآخذ منه أمانا ، أو أتهوّد معه ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل.

قال الزجّاج : لا تتولّوهم في الدّين. وقال غيره : لا تستنصروا بهم ، ولا تستعينوا ، (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في العون والنّصرة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : من يتولّهم في الدّين ، فإنه منهم في الكفر. والثاني : من يتولّهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) قال المفسّرون : نزلت في المنافقين ، ثمّ لهم في ذلك قولان :

(٤٣٨) أحدهما : أنّ اليهود والنّصارى كانوا يميرون (١) المنافقين ويقرضونهم فيوادّونهم ، فلمّا نزلت (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) قال المنافقون : كيف نقطع مودّة قوم إن أصابتنا سنة وسّعوا علينا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممّن قال : نزلت في المنافقين ، ولم يعيّن : مجاهد ، وقتادة.

والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ ، قاله عطيّة العوفيّ (٢).

وفي المراد بالمرض قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله مقاتل. والثاني : النّفاق ، قاله الزجّاج. وفي قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثاني : في رضاهم ، قاله ابن قتيبة. والثالث : في معاونتهم على المسلمين ، قاله الزجّاج. وفي المراد «بالدّائرة» قولان : أحدهما : الجدب والمجاعة ، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة : نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه ، يعنون الجدب ، فلا يبايعوننا ، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني : انقلاب الدّولة لليهود على المسلمين ، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال : أحدها : فتح مكّة ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : فتح قرى اليهود ، قاله الضّحّاك. والثالث : نصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من خالفه ، قاله قتادة ، والزجّاج. والرابع : الفرج ، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال : أحدها : إجلاء

____________________________________

(٤٣٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٦٥ عن السدي ، مرسلا ، فهو ضعيف.

(٤٣٨) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا.

__________________

(١) في «اللسان» : الميرة : الطعام يمتاره الإنسان ، وفي التهذيب : جلب الطعام للبيع وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا.

(٢) عطية هو ابن سعد العوفي ، وهو ضعيف ، لا يحتج به ، إلا أن ابن أبي هو المراد في أكثر الآيات التي تذكر المنافقين ، فإنه رأس النفاق.


بني النّضير وأخذ أموالهم ، وقتل قريظة ، وسبي ذراريهم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثاني : الجزية ، قاله السّدّيّ. والثالث : الخصب ، قاله ابن قتيبة. والرابع : أن يؤمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار أمر المنافقين وقتلهم ، قاله الزجّاج. وفيما أسرّوا قولان : أحدهما : موالاتهم. والثاني : قولهم : لعلّ محمّدا لا ينصر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ أبو عمرو ، بنصب اللام على معنى : وعسى أن يقول. ورفعه الباقون ، فجعلوا الكلام مستأنفا. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «يقول» ، بغير واو ، مع رفع اللام ، وكذلك في مصاحف أهل مكّة والمدينة.

قال المفسّرون : لمّا أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النّضير ، اشتدّ ذلك على المنافقين ، وجعلوا يتأسّفون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادّا في معاداة اليهود : أهذا جزاؤهم منك ، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلمّا قتلت قريظة ، لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة ، فلمّا رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين ، قالوا : (أَهؤُلاءِ) يعنون المنافقين (الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال ابن عباس : أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) القسم بالله. وقال الزجّاج : اجتهدوا في المبالغة في اليمين (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) على عدوّكم (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بنفاقهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

قوله تعالى : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : يرتدّ ، بإدغام الدّال الأولى في الأخرى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : يرتدد ، بدالين. قال الزجّاج : «يرتدد» هو الأصل ، لأنّ الثاني إذا سكّن من المضاعف ، ظهر التّضعيف. فأما «يرتدّ» فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وحرّكت الثانية بالفتح ، لالتقاء السّاكنين. قال الحسن : علم الله أنّ قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم عليه‌السلام ، فأخبرهم أنه سيأتي (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال (١) : أحدها : أبو بكر الصّدّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرّدّة ، قاله عليّ بن أبي طالب ، والحسن عليهما‌السلام ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن جريج. قال أنس بن مالك : كرهت الصحابة قتال مانعي الزّكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فتقلّد أبو بكر سيفه ، وخرج وحده ، فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره. والثاني : أبو بكر ، وعمر ، روي عن الحسن ، أيضا. والثالث : أنهم قوم أبي موسى الأشعريّ.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٦٢٦ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما روي به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم أهل اليمن ، قوم أبي موسى الأشعري.


(٤٣٩) روى عياض الأشعريّ أنه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم قوم هذا» يعني : أبا موسى.

والرابع : أنهم أهل اليمن ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والخامس : أنهم الأنصار ، قاله السّدّيّ. والسادس : المهاجرون والأنصار ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن جرير : وقد أنجز الله ما وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممّن ارتدّ.

قوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أهل رقّة على أهل دينهم ، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال الزجّاج : معنى «أذلّة» : جانبهم لين على المؤمنين ، لا أنّهم أذلّاء. (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) لأنّ المنافقين يراقبون الكفّار ، ويظاهرونهم ، ويخافون لومهم ، فأعلم الله عزوجل أنّ الصّحيح الإيمان لا يخاف في الله لومة لائم ، ثم أعلمك أنّ ذلك لا يكون إلا بتوفيقه ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني : محبّتهم لله ، ولين جانبهم للمسلمين ، وشدّتهم على الكافرين.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(٤٤٠) أحدها : أنّ عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنّ قوما قد أظهروا لنا العداوة ، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقالوا : رضينا

____________________________________

(٤٣٩) حسن. أخرجه الحاكم ٢ / ٣١٣ والطبري ١٢١٩٣ والطبراني ١٧ / ٣٧١ وابن سعد ٤ / ٨٠ من حديث عياض الأشعري ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٧٦ : رجال الطبراني رجال الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥ / ٣٥٢ من حديث أبي موسى ، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» ١٤١٤ من حديث جابر وقال الهيثمي ١٩٧٧ : إسناده حسن اه.

(٤٤٠) إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي ٣٩٧ بهذا اللفظ ، وأتم ، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير متروك متهم بالكذب ، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه بالكذب ، راجع الميزان ، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن عباس ، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة الكذب.

وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٩٢ ـ ٩٣ عن ابن عباس بنحوه. باطل ، قال ابن كثير : فيه عبد الوهاب بن مجاهد ، لا يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٦٨٢ : قال يحيى : ليس يكتب حديثه وقال أحمد : ليس بشيء. وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال البخاري : يقولون : لم يسمع من أبيه اه. والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد. وأخرجه الطبري ١٢٢١٩ عن مجاهد مرسلا ، وفيه غالب بن عبيد الله متروك. وكرره ١٢٢١٦ عن أبي جعفر بلاغا ، ومع ذلك هو معضل. وورد من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٩٣ وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١٠٩٧٨. وقال الهيثمي : فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير : وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها ، وجهالة رجالها وانظر «تفسير الشوكاني» ٨١٥ و ٨١٦ بتخريجنا.


بالله وبرسوله وبالمؤمنين ، وأذّن بلال بالصّلاة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا مساكين يسأل الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل أعطاك أحد شيئا»؟ قال : نعم. قال : «ما ذا»؟ قال : خاتم فضّة. قال : «من أعطاكه»؟ قال : ذاك القائم ، فإذا هو عليّ بن أبي طالب ، أعطانيه وهو راكع ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، تصدّق وهو راكع (١).

والثاني : أنّ عبادة بن الصّامت لمّا تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقّه (٢) ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق ، قاله عكرمة. والرابع : أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم ، قاله الحسن.

قوله تعالى : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم ، وهو تصدّق عليّ عليه‌السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني : أن من شأنهم إيتاء الزّكاة وفعل الرّكوع. وفي المراد بالرّكوع ثلاثة أقوال : أحدها : أنه نفس الرّكوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل : إنّ الآية نزلت وهم في الرّكوع. والثاني : أنه صلاة التّطوّع بالليل والنّهار ، وإنما أفرد الرّكوع بالذّكر تشريفا له ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنه الخضوع والخشوع ، وأنشدوا (٣) :

لا تذلّ الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه

ذكره الماورديّ. فأمّا (حِزْبَ اللهِ) فقال الحسن : هم جند الله. وقال أبو عبيدة : أنصار الله. ثم فيهم قولان : أحدهما : أنهم المهاجرون والأنصار ، قاله ابن عباس. والثاني : الأنصار ، ذكره أبو سليمان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧))

قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) سبب نزولها :

(٤٤١) أنّ رفاعة بن زيد بن التّابوت ، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام ، ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

____________________________________

(٤٤١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٢١ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

__________________

(١) انظر الحديث المتقدم. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٧٣ ـ ٧٤ ما ملخصه : وأما قوله تعالى (وَهُمْ راكِعُونَ) فقد توهم بعض الناس أن الجملة في موضع حال من قوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي في حال ركوعهم ، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة حال الركوع أفضل من غيره ، ولم يقل به أحد من أئمة الفتوى اه. وذكره ابن تيمية رحمه‌الله في «المقدمة في أصول التفسير» ، وقال : إنه من وضع الرافضة اه والظاهر أنه من وضع الكلبي ، وسرقه منه بعض الضعفاء.

(٢) تقدم.

(٣) الشاعر هو : الأضبط بن قريع. وقوله لا تذلّ الفقير : لا تعادي ولا تهين.


فأمّا اتّخاذهم الدّين هزوا ولعبا ، فهو إظهارهم الإسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدّين. والذين أوتوا الكتاب : اليهود والنّصارى ، والكفّار : عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة : (وَالْكُفَّارَ) بالنّصب على معنى : لا تتّخذوا الكفّار أولياء. وقرأ أبو عمرو والكسائيّ : «والكفار» خفضا ، لقرب الكلام من العامل الجارّ ، وأمال أبو عمرو الألف. (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تولّوهم.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) في سبب نزولها قولان :

(٤٤٢) أحدهما : أنّ منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نادى إلى الصّلاة ، وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قاموا لا قاموا ، صلّوا لا صلّوا ، على سبيل الاستهزاء والضّحك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب.

(٤٤٣) والثاني : أنّ الكفّار لمّا سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين على ذلك ، وقالوا : يا محمّد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية ، فإن كنت تدّعي النّبوّة ، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك ، فما أقبح هذا الصّوت ، وأسمج هذا الأمر ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسّرين.

(٤٤٤) وقال السّدّيّ : كان رجل من النّصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمّدا رسول الله ، قال : حرق الكاذب ، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم ، وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله.

والمناداة : هي الأذان ، واتّخاذهم إيّاها هزوا : تضاحكهم وتغامزهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما لهم في إجابة الصّلاة ، وما عليهم في استهزائهم بها.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا).

(٤٤٥) سبب نزولها : أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ، فذكر جميع الأنبياء ، فلمّا ذكر عيسى ، جحدوا نبوّته ، وقالوا : والله ما نعلم دينا شرّا من دينكم ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله ابن عباس.

وقرأ الحسن ، والأعمش : «تنقمون» بفتح القاف. قال الزجّاج : يقال : نقمت على الرجل أنقم ،

____________________________________

(٤٤٢) عزاه المصنف لابن السائب ، وهو الكلبي ، وتقدم مرارا أنه يضع الحديث.

(٤٤٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٠٠ م ، بدون إسناد ، ومن غير عزو لقائل ، فهو لا شيء.

(٤٤٤) ضعيف أخرجه الطبري ١٢٢٢٣ عن السدي مرسلا ، فهو ضعيف.

(٤٤٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٢٤ عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به ، ومداره على محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول كما في «التقريب» ، و «الميزان». وانظر «تفسير الشوكاني» ٨١٨ بتخريجنا.


ونقمت عليه أنقم ، والأوّل أجود. ومعنى «نقمت» : بالغت في كراهة الشّيء ، والمعنى : هل تكرهون منّا إلا إيماننا ، وفسقكم ، لأنّكم علمتم أنّنا على حقّ ، وأنكم فسقتم.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) قال المفسّرون : سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين : والله ما علمنا أهل دين أقلّ حظّا منكم في الدّنيا والآخرة ، ولا دينا شرّا من دينكم. وفي قوله تعالى : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) قولان : أحدهما : بشرّ من المؤمنين ، قاله ابن عباس. والثاني : بشرّ ممّا نقمتم من إيماننا ، قاله الزجّاج. فأما «المثوبة» فهي الثّواب.

قال الزجّاج : وموضع «من» في قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إن شئت كان رفعا ، وإن شئت كان خفضا ، فمن خفض جعله بدلا من «شرّ» فيكون المعنى : أنبّئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فبإضمار «هو» كأنّ قائلا قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لعنة الله. قال أبو صالح عن ابن عباس : من لعنه الله بالجزية ، وغضب عليه بعبادة العجل ، فهم شرّ مثوبة عند الله.

وروي عن ابن عباس أنّ المسخين من أصحاب السّبت : مسخ شبابهم قردة ، ومشايخهم خنازير. وقال غيره : القردة : أصحاب السّبت ، والخنازير : كفّار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول : أنا أظنّ أنّ هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال : واستدللت بقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) فدخول الألف واللام يدلّ على المعرفة ، وعلى أنّها القردة التي تعاين ، ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى ، لقال : وجعل منهم قردة وخنازير ، إلا أن يصحّ حديث أمّ حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه‌السلام. قلت أنا :

(٤٤٦) وحديث أمّ حبيبة في «الصّحيح» انفرد بإخراجه مسلم ، وهو أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، القردة والخنازير هي ممّا مسخ؟ فقال النبيّ عليه‌السلام : «إن الله لم يمسخ قوما أو يهلك قوما ، فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة ، وإنّ القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك ، فلا يلتفت إلى ظنّ ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع ، والكسائيّ : «وعبد» بفتح العين والباء والدال ، ونصب تاء «الطّاغوت». وفيها وجهان : أحدهما : أنّ المعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطّاغوت. والثاني : أنّ المعنى : من لعنه الله وعبد الطّاغوت. وقرأ حمزة : «وعبد الطاغوت» بفتح العين والدال ، وضم الباء ، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب : ليس لها وجه إلّا أن يجمع فعل على فعل. وقال الزجّاج : وجهها أنّ الاسم بني على «فعل» كما تقول : علم زيد ، ورجل حذر ، أي : مبالغ في الحذر. فالمعنى : جعل منهم خدمة

____________________________________

(٤٤٦) صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٦٣ والحميدي ١٢٥ وأحمد ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ـ ٤٢٢ وأبو يعلى ٥٣١٣ من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.


الطّاغوت ومن بلغ في طاعة الطّاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، «وعبدوا» ، بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع «الطاغوت» بالنّصب. وقرأ ابن عباس ، وابن أبي عبلة : «وعبد» بفتح العين والباء والدال ، إلا أنهما كسرا تاء «الطّاغوت». قال الفرّاء : أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك : «وعبيد» بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطّاغوت». وقرأ أيوب ، والأعمش : «وعبّد» ، برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء ، وكسر تاء «الطّاغوت». وقرأ أبو هريرة ، وأبو رجاء ، وابن السّميفع ، «وعابد» بألف ، مكسورة الباء مفتوحة الدال ، مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ أبو العالية ، ويحيى بن وثّاب : «وعبد» برفع العين والباء وفتح الدال ، مع كسر تاء الطّاغوت. قال الزجّاج : هو جمع عبيد ، وعبد مثل رغيف ، ورغف ، وسرير ، وسرر ، والمعنى : وجعل منهم عبيد الطّاغوت. وقرأ أبو عمران الجونيّ ، ومورّق العجليّ ، والنّخعيّ : «وعبد» برفع العين وكسر الباء مخففة ، وفتح الدال مع ضمّ تاء «الطّاغوت». وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وعكرمة : «وعبّد» بفتح العين والدال وتشديد الباء ، مع نصب تاء الطّاغوت. وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو نهيك : «وعبد» بفتح العين والدال ، وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ قتادة ، وهذيل بن شرحبيل : «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطّواغيت» بألف وواو وياء بعد الغين على الجمع. وقرأ الضّحّاك ، وعمرو بن دينار : «وعبد» برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء ، وكسر تاء «الطّاغوت». وقرأ سعيد بن جبير ، والشّعبيّ : «وعبدة» مثل حمزة ، إلا أنهما رفعا تاء «الطّاغوت». وقرأ يحيى بن يعمر ، والجحدريّ : «وعبد» بفتح العين ورفع الباء مع كسر تاء «الطّاغوت». وقرأ أبو الأشهب العطارديّ : «وعبد» برفع العين وتسكين الباء ، ونصب الدال ، مع كسر تاء «الطّاغوت». وقرأ أبو السّمّال : «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت». وقرأ معاذ القارئ : «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم الدال. وقرأ أبو حياة : «وعبّاد» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين ، وفتح الدال. وقرأ ابن حذلم ، وعمرو بن فائد : «وعبّاد» مثل أبي حياة إلا أنّ العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر «الطّاغوت» في سورة البقرة. وفي المراد به هاهنا قولان : أحدهما : الأصنام. والثاني : الشّيطان.

قوله تعالى : (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي : هؤلاء الذين وصفناهم شرّ مكانا من المؤمنين ، ولا شرّ في مكان المؤمنين ، ولكنّ الكلام مبنيّ على كلام الخصم ، حين قالوا للمؤمنين : لا نعرف شرّا منكم ، فقيل : من كان بهذه الصّفة ، فهو شرّ منهم.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١))

قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا).

(٤٤٧) قال قتادة : هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به ، وهم متمسّكون بضلالتهم.

____________________________________

(٤٤٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٣٤ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف.


قوله تعالى : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) أي : دخلوا كافرين ، وخرجوا كافرين ، فالكفر معهم في حالتيهم ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) من الكفر والنّفاق.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢))

قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) يعني : اليهود (يُسارِعُونَ) ، أي : يبادرون (فِي الْإِثْمِ) وفيه قولان : أحدهما : أنه المعاصي ، قاله ابن عباس. والثاني : الكفر ، قاله السّدّيّ.

فأمّا العدوان فهو الظّلم. وفي «السّحت» ثلاثة أقوال : أحدها : الرّشوة في الحكم. والثاني : الرّشوة في الدّين. والثالث : الرّبا.

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) «لو لا» بمعنى : «هلّا» ، و «الربّانيون» مذكورون في آل عمران ، و (وَالْأَحْبارُ) قد تقدّم ذكرهم في هذه السّورة. وهذه الآية من أشدّ الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لأنّ الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإنكار في الذّمّ. قال ابن عباس : ما في القرآن آية أشدّ توبيخا من هذه الآية.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤))

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في فنحاص اليهوديّ وأصحابه ، قالوا : يد الله مغلولة. وقال مقاتل : فنحاص وابن صلوبا (١) ، وعازر بن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الله تعالى كان قد بسط لهم الرّزق ، فلمّا عصوا الله تعالى في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفروا به كفّ عنهم بعض ما كان بسط لهم ، فقالوا : يد الله مغلولة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والثاني : أن الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمّة ، فقالوا : إنّ الله بخيل ، ويده مغلولة فهو يستقرضنا ، قاله قتادة. والثالث : أن النّصارى لمّا أعانوا بختنصّر المجوسيّ على تخريب بيت المقدس ، قالت اليهود : لو كان الله صحيحا لمنعنا منه ، فيده مغلولة ، ذكره قتادة أيضا.

والمغلولة : الممسكة المنقبضة. وعن ما ذا عنوا أنها ممسكة ، فيه قولان :

أحدهما : عن العطاء ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج.

والثاني : ممسكة من عذابنا ، فلا يعذّبنا إلا تحلّة القسم بقدر عبادتنا العجل ، قاله الحسن.

وفي قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : غلّت في جهنّم ، قاله الحسن. والثاني : أمسكت عن الخير ، قاله مقاتل. والثالث : جعلوا بخلاء ، فهم أبخل قوم ، قاله الزجّاج. قال ابن

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي بعض كتب التفسير «صوريا».


الأنباريّ : وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أنّ هذا قد نزل بهم ، وموضعه نصب على معنى الحال. تقديره : قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغلّ أيديهم ، ولعنته إيّاهم ، ويجوز أن يكون المعنى : فغلّت أيديهم ، ويجوز أن يكون دعاء ، معناه : تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم ، كقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١) وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٢).

وفي قوله تعالى : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : أبعدوا من رحمة الله. والثاني : عذّبوا قردة بالجزية ، وفي الآخرة بالنّار. الثالث : مسخوا قردة وخنازير.

(٤٤٨) وروى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إيّاهم».

قال الزجّاج : وقد ذهب قوم إلى أن معنى «يد الله» : نعمته ، وهذا خطأ ينقضه (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فيكون المعنى على قولهم : نعمتاه ، ونعم الله أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله : بل (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) : أنه جواد ينفق كيف يشاء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباريّ. قال ابن عباس : إن شاء وسّع في الرّزق ، وإن شاء قتّر.

قوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) قال الزجّاج : كلّما أنزل عليك شيء كفروا به ، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا : الغلوّ في الكفر. وقال مقاتل : وليزيدنّ بني النّضير ما أنزل إليك من ربّك من أمر الرّجم والدّماء طغيانا وكفرا.

قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فيمن عني بهذا قولان : أحدهما : اليهود والنّصارى ، قاله ابن عباس : ومجاهد ، ومقاتل. فإن قيل : فأين ذكر النّصارى؟ فالجواب : أنه قد تقدّم في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ). والثاني : أنهم اليهود ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ذكر إيقاد النّار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، وقيل : إنّ الأصل في استعارة اسم النّار للحرب أنّ القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النّار على رؤوس الجبال ، والمواضع المرتفعة ، ليعلم استعدادهم للحرب ، فيتأهّب من يريد إعانتهم. وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم ، أوقدوا نارا ، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان : أحدهما : كلّما جمعوا لحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرّقهم الله. والثاني : كلّما مكروا مكرا ردّه الله. قوله

____________________________________

(٤٤٨) لا أصل له في المرفوع ، وقد صح ما يعارضه ، وهو ما أخرجه أبو داود ٤٩٠٨ والترمذي ١٩٧٨ وابن حبان ٥٧٤٥ والطبراني ١٢٧٥٧ عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلعن الريح ، فإنها مأمورة ، وليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة». رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن فيه عنعنة قتادة. وله شاهد من حديث ابن مسعود ، أخرجه أحمد ١ / ٤٠٨ وجوده المنذري في «الترغيب» ٤١٠٨. وله شاهد من حديث أبي الدرداء ، أخرجه أبو داود ٤٩٠٥ بإسناد ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، فهو خبر صحيح. وهو يعارض حديث المصنف ، لأن في هذه الأحاديث عود اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها ، في حين سياق المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.

__________________

(١) سورة المسد : ١.

(٢) سورة الفتح : ٢٧.


تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) فيه أربعة أقوال : أحدها : بالمعاصي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : بمحو ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كتبهم ، ودفع الإسلام ، قاله الزجّاج. والثالث : بالكفر. والرابع : بالظّلم ، ذكرهما الماورديّ.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) يعني : اليهود والنّصارى (آمَنُوا) بالله وبرسله (وَاتَّقَوْا) الشّرك (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي سلفت.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) قال ابن عباس : عملوا بما فيها. وفيما أنزل إليهم من ربّهم قولان : أحدهما : كتب أنبياء بني إسرائيل. والثاني : القرآن ، لأنهم لما خوطبوا به ، كان نازلا إليهم. قوله تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فيه قولان :

أحدهما : لأكلوا بقطر السّماء ، ونبات الأرض ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة.

والثاني : أن المعنى : لوسع عليهم ، كما يقال : فلان في خير من قرنه إلى قدمه ، ذكره الفرّاء ، والزجّاج. وقد أعلم الله تعالى بهذا أنّ التّقوى سبب في توسعة الرّزق كما قال : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) وقال : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٢).

قوله تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) يعني : من أهل الكتاب ، وهم الذين أسلموا منهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. وقال القرظيّ : هم الذين قالوا : المسيح عبد الله ورسوله. و «الاقتصاد» الاعتدال في القول والعمل من غير غلوّ ولا تقصير.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت على أسباب : روى الحسن أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(٤٤٩) «لمّا بعثني الله برسالته ، ضقت بها ذرعا ، وعرفت أنّ من النّاس من يكذّبني» ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يهاب قريشا واليهود والنّصارى ، فأنزل الله هذه الآية.

____________________________________

(٤٤٩) ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٤٣٨. وهو مرسل. ومراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٢٥ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٩٦.

(٢) سورة الطلاق : ٣.


(٤٥٠) وقال مجاهد : لمّا نزلت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال : «يا ربّ كيف أصنع؟ إنّما أنا وحدي يجتمع عليّ النّاس» ، فأنزل الله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

(٤٥١) وقال مقاتل : لمّا دعا اليهود ، وأكثر عليهم ، جعلوا يستهزئون به ، فسكت عنهم ، فحرّض بهذه الآية.

(٤٥٢) وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس فيرسل معه أبو طالب كلّ يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية ، فقال : «يا عمّاه إنّ الله قد عصمني من الجنّ والإنس».

(٤٥٣) وقال أبو هريرة : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم تحت شجرة وعلّق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه ، فقال : يا محمّد من يمنعني منك؟ فقال : «الله» ، فنزل قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

(٤٥٤) وقالت عائشة : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ، فقلت : ما شأنك؟ قال : ألا رجل صالح يحرسني الليلة ، فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت السّلاح ، فقال : «من هذا»؟ فقال : سعد وحذيفة جئنا نحرسك ، فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمعت غطيطه (١) ، فنزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من قبّة أدم (٢) وقال «انصرفوا أيّها النّاس ، فقد عصمني الله تعالى».

____________________________________

(٤٥٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٧٥ عن مجاهد مرسلا ، فهو ضعيف.

(٤٥١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان إذا أطلق ، وخبره معضل ، وهو متروك متهم إذا وصل الحديث ، فكيف إذا أرسله؟!

(٤٥٢) باطل. أخرجه الطبراني ١٦٦٣ وابن عدي ٧ / ٢٢ / ١٩٦٠ من حديث ابن عباس ، وأعلّه ابن عدي بالنضر بن عبد الرحمن الخزّاز ونقل عن البخاري قوله : منكر الحديث. وقال النسائي متروك. وكذا ضعفه الهيثمي به في «المجمع» ١٠٩٨١ وله علة ثانية عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمّاني وثقه ابن معين وفي رواية : ضعفه. وكذا ضعفه أحمد وابن سعد وقال النسائي : ليس بالقوي. والآية مدنية كما ذكر المصنف فالمتن منكر جدا ، بل هو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٧٥١ و «ابن كثير» ٢ / ١٠٢ بتخريجنا.

(٤٥٣) أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ١٠٣ من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وإسناده حسن ، رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو ، وهو حسن الحديث.

(٤٥٤) أخرجه الترمذي ٣٠٤٦ والحاكم ٢ / ٣١٣ والطبري ١٢٢٧٩ والواحدي ٤٠٤ من حديث عائشة. صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حديث غريب ورواه بعضهم مرسلا بدون ذكر عائشة اه. والمرسل أخرجه الطبري ١٢٢٧٧ ، وإسناده أصح من الموصول. وورد بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» ٤١٨ والأوسط كما في «المجمع» ١٠٩٨٠ وأعله الهيثمي بعطية العوفي ، وقال ضعيف. وأصله عند البخاري ٢٨٨٥ ومسلم ٢٤١٠ دون ذكر الآية وسبب النزول فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهر ، فلما قدم المدينة قال : «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» إذ سمعنا صوت السلاح ، فقال «من هذا؟» فقال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. «فنام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لفظ البخاري. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٢٩ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : الغطيط : هو صوت النائم المرتفع.

(٢) الأدم : الأديم : الجلد ما كان ، وقيل : الأحمر وقيل : هو المدبوغ ـ والجمع الأدم.


قال الزجّاج : قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) معناه : بلّغ جميع ما أنزل إليك ، ولا تراقبنّ أحدا ، ولا تتركنّ شيئا منه مخافة أن ينالك مكروه ، فإن تركت منه شيئا ، فما بلّغت. قال ابن قتيبة : يدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ). وقال ابن عباس : إن كتمت آية فما بلّغت رسالتي. وقال غيره : المعنى : بلّغ جميع ما أنزل إليك جهرا ، فإن أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك ، فكأنّك ما بلّغت شيئا. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «رسالته» على التّوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على الجمع.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال ابن قتيبة : أي يمنعك منهم. وعصمة الله : منعه للعبد من المعاصي ، ويقال : طعام لا يعصم ، أي : لا يمنع من الجوع. فإن قيل : فأين ضمان العصمة وقد شجّ جبينه ، وكسرت رباعيّته ، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه عصمة من القتل والأسر وتلف الجملة ، فأمّا عوارض الأذى ، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني : أن هذه الآية نزلت بعد ما جرى عليه ذلك ، لأنّ «المائدة» من أواخر ما نزل.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فيه قولان : أحدهما : لا يهديهم إلى الجنّة. والثاني : لا يعينهم على بلوغ غرضهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) سبب نزولها :

(٤٥٥) أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تؤمن بما عندنا من التّوراة ، وتشهد أنها حقّ؟ قال : بلى ، ولكنّكم أحدثتم وجحدتم ما فيها ، فأنا بريء من إحداثكم. فقالوا : نحن على الهدى ، ونأخذ بما في أيدينا ، ولا نؤمن بك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

فأمّا أهل الكتاب ، فالمراد بهم اليهود والنّصارى. وقوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي : لستم على شيء من الدّين الحقّ حتى تقيموا التّوراة والإنجيل ، وإقامتهما : العمل بما فيهما ، ومن ذلك الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الذي أنزل إليهم من ربّهم قولان قد سبقا ، وكذلك باقي الآية.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) قد ذكرنا تفسيرها في البقرة. وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بيّنّا هناك. فأمّا رفع «الصّابئين» فذكر الزجّاج عن البصريين ، منهم الخليل ، وسيبويه أنّ قوله : «والصابئون» محمول على التّأخير ، ومرفوع بالابتداء. والمعنى : إنّ الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

____________________________________

(٤٥٥) إسناده ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٨٧ من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به ، ومحمد هذا مجهول كما تقدم مرارا. وانظر «تفسير الشوكاني» بتخريجنا.


والصّابئون والنّصارى كذلك أيضا ، وأنشدوا :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

المعنى : فاعلموا أنّا بغاة ما بقينا في شقاق ، وأنتم أيضا كذلك.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال مقاتل : أخذ ميثاقهم في التّوراة بأن يعملوا بما فيها. قال ابن عباس : كان فيمن كذّبوا. محمّد وعيسى ، وفيمن قتلوا : زكريّا ويحيى. قال الزجّاج : فأمّا التّكذيب ، فاليهود والنّصارى يشتركون فيه. وأمّا القتل فيختصّ اليهود.

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : (تَكُونَ) بالنّصب ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «تكون» بالرّفع ، ولم يختلفوا في رفع «فتنة». قال مكّيّ بن أبي طالب : من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثّقيلة ، وأضمر معها «الهاء» ، وجعل «حسبوا» بمعنى : أيقنوا ، لأنّ «أن» للتأكيد ، والتّأكيد لا يجوز إلّا مع اليقين. والتّقدير : أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي النّاصبة للفعل ، وجعل «حسبوا» بمعنى : ظنّوا. ولو كان قبل «أن» فعل لا يصلح للشّكّ ، لم يجز أن تكون إلا مخفّفة من الثّقيلة ، ولم يجز نصب الفعل بها ، كقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) (٢) و (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) (٣). وقال أبو عليّ : الأفعال ثلاثة : فعل يدلّ على ثبات الشّيء واستقراره ، نحو العلم والتّيقّن ، وفعل يدلّ على خلاف الثّبات والاستقرار ، وفعل يجذب إلى هذا مرة ، وإلى هذا أخرى ، فما كان معناه العلم ، وقعت بعده «أنّ» الثّقيلة ، لأن معناها ثبوت الشّيء واستقراره ، كقوله تعالى : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٤) (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (٥) ، وما كان على غير وجه الثّبات والاستقرار نحو : أطمع وأخاف وأرجو ، وقعت بعده «أن» الخفيفة ، كقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٦) (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ) (٧) (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) (٨) (أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) (٩) ، وما كان متردّدا بين الحالين مثل حسبت وظننت ، فإنه يجعل تارة بمنزلة العلم ، وتارة بمنزلة أرجو وأطمع ، وكلتا القراءتين في (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قد جاء بها التّنزيل. فمثل مذهب من نصب : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ) (١٠) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) (١١) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ

__________________

(١) البيت لبشر بن أبي خازم كما في «شواهد المعيني» ٢ / ٢٧١.

(٢) سورة طه : ٨٩.

(٣) سورة المزمل : ٢٠.

(٤) سورة النور : ٢٥.

(٥) سورة العلق : ١٤.

(٦) سورة البقرة : ٢٢٩.

(٧) سورة الأنفال : ٢٦.

(٨) سورة الكهف : ٨٠.

(٩) سورة الشعراء : ٨٢.

(١٠) سورة الجاثية : ٢١.

(١١) سورة العنكبوت : ٤.


يُتْرَكُوا) (١) ، ومثل مذهب من رفع : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ) (٢) (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) (٣). قال ابن عباس : ظنّوا أنّ الله لا يعذّبهم ، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء ، وتكذيبهم الرّسل.

قوله تعالى : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) قال الزجّاج : هذا مثل تأويله : أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات ، فصاروا كالعمي الصّمّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فيه قولان : أحدهما : رفع عنهم البلاء ، قاله مقاتل. وقال غيره : هو ظفرهم بالأعداء ، وذلك مذكور في قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ). والثاني : أنّ معنى «تاب عليهم» : أرسل إليهم محمّدا يعلمهم أنّ الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدّقوا ، قاله الزجّاج. وفي قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) قولان : أحدهما : لم يتوبوا بعد رفع البلاء ، قاله مقاتل. والثاني : لم يؤمنوا بعد بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي : عمي وصمّ كثير منهم ، كما تقول : جاءني قومك أكثرهم. قال ابن الأنباريّ : هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بعث كذّبوه بغيا وحسدا ، وقدّروا أنّ هذا الفعل لا يكون موبقا لهم ، وجانيا عليهم ، فقال الله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : ظنّوا ألّا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر ، فعموا وصمّوا بمجانبة الحقّ. (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : عرّضهم للتّوبة بأن أرسل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يتوبوا ، ثم عموا وصمّوا بعد بيان الحقّ بمحمّد ، كثير منهم ، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير ، لأنهم لم يجتمعوا كلّهم على خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢))

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قال مقاتل : نزلت في نصارى نجران ، قالوا ذلك. قوله تعالى : (وَقالَ الْمَسِيحُ) أي : وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم : إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣))

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) قال مجاهد : هم النّصارى. قال وهب بن منبه : لمّا ولد عيسى لم يبق صنم إلّا خرّ لوجهه ، فاجتمعت الشّياطين إلى إبليس ، فأخبروه ، فذهب فطاف أقطار الأرض ، ثمّ رجع ، فقال : هذا المولود الذي ولد من غير ذكر ، أردت أن أنظر إليه ، فوجدت الملائكة قد حفّت بأمّه ، فليتخلّف عندي اثنان من مردتكم ، فلمّا أصبح. خرج بهما في

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢.

(٢) سورة المؤمنون : ٩٥.

(٣) سورة الزخرف : ٨٠.


صورة الرّجال ، فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدّثون بأمر عيسى ، ويقولون : مولود من غير أب. فقال إبليس : ما هذا ببشر ، ولكنّ الله أحبّ أن يتمثّل في امرأة ليختبر العباد ، فقال أحد صاحبيه : ما أعظم ما قلت ، ولكنّ الله أحبّ أن يتّخذ ولدا. وقال الثالث : ما أعظم ما قلت ، ولكنّ الله أراد أن يجعل إلها في الأرض ، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس ، ثم تفرّقوا ، فتكلّم به الناس. وقال محمّد بن كعب : لمّا رفع عيسى اجتمع مائة من علماء بني إسرائيل ، وانتخبوا منهم أربعة ، فقال أحدهم : عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له ، ثمّ صعد إلى السماء ، لأنه لا يحيى الموتى ولا يبرئ الأكمة والأبرص إلا الله. وقال الثاني : ليس كذلك ، لأنّا قد عرفنا عيسى ، وعرفنا أمّه ، ولكنّه ابن الله. وقال الثالث : لا أقول كما قلتما ، ولكن جاءت به أمّه من عمل غير صالح. فقال الرابع : لقد قلتم قبيحا ، ولكنّه عبد الله ورسوله ، وكلمته ، فخرجوا ، فاتّبع كلّ رجل منهم عنق (١) من الناس. قال المفسّرون : ومعنى الآية : أنّ النّصارى قالت : الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم ، وكلّ واحد منهم إله. وفي الآية إضمار ، فالمعنى : ثالث ثلاثة آلهة ، فحذف ذكر الآلهة ، لأنّ المعنى مفهوم ، لأنه لا يكفر من قال : هو ثالث ثلاثة ، ولم يرد الآلهة ، لأنه ما من اثنين إلّا وهو ثالثهما ، وقد دلّ على المحذوف قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ). قال الزجّاج : ومعنى ثالث ثلاثة : أنه أحد ثلاثة. ودخلت «من» في قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ) للتّوكيد. والذين كفروا منهم ، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير : المعنى : ليمسّنّ الذين يقولون : المسيح هو الله ، والذين يقولون : إنّ الله ثالث ثلاثة ، وكلّ كافر يسلك سبيلهم ، عذاب أليم.

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤))

قوله تعالى : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) قال الفرّاء : لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الأمر ، كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) فيه ردّ على اليهود في تكذيبهم رسالته ، وعلى النّصارى في ادّعائهم إلهيّته. والمعنى : أنه ليس بإله ، وإنّما حكمه حكم من سبقه من الرّسل. وفي قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ردّ على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة. قال الزجّاج : والصّدّيقة : المبالغة في الصّدق ، وصدّيق «فعّيل» من أبنية المبالغة ، كما تقول : فلان سكّيت ، أي : مبالغ في السّكوت. وفي قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) قولان : أحدهما : أنه بيّن أنّهما يعيشان بالغذاء ، ومن لا يقيمه إلّا أكل الطعام فليس بإله ، قاله الزجّاج. والثاني : أنه نبّه بأكل الطعام على عاقبته ، وهو الحدث ، إذ لا بدّ لآكل الطعام من الحدث ، قاله ابن قتيبة. قال : وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) من ألطف ما يكون من الكناية. و «يؤفكون» : يصرفون عن الحق ويعدلون ، يقال : أفك الرجل عن كذا :

__________________

(١) في «اللسان» العنق : الجماعة الكثيرة من الناس.


إذا عدل عنه ، وأرض مأفوكة : محرومة المطر والنّبات ، كأنّ ذلك صرف عنها وعدل.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))

قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال مقاتل : قل لنصارى نجران : أتعبدون من دون الله ، يعني عيسى ما لا يملك لكم ضرّا في الدنيا ، ولا نفعا في الآخرة. والله هو السّميع لقولهم : المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، العليم بمقالتهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) قال مقاتل : هم نصارى نجران. والمعنى : لا تغلوا في دينكم ، فتقولوا غير الحقّ في عيسى. وقد بيّنّا معنى «الغلو» في آخر سورة (النّساء). قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) قال أبو سليمان : من قبل أن تضلّوا. وفيهم قولان : أحدهما : أنهم رؤساء الضّلالة من اليهود. والثاني : رؤساء اليهود والنّصارى ، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهوا أن يتّبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨))

قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) في لعنهم قولان :

أحدهما : أنه نفس اللعن ، ومعناه المباعدة من الرّحمة. قال ابن عباس : لعنوا على لسان داود ، فصاروا قردة ، ولعنوا على لسان عيسى في الإنجيل. قال الزجّاج : وجائز أن يكون داود وعيسى أعلما أنّ محمّدا نبيّ ، ولعنا من كفر به. والثاني : أنه المسخ ، قاله مجاهد ، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، وعلى لسان عيسى ، فصاروا خنازير. وقال الحسن ، وقتادة : لعن أصحاب السّبت على لسان داود ، فإنهم لمّا اعتدوا ، قال داود : اللهمّ العنهم ، واجعلهم آية ، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى ، فإنّهم لمّا أكلوا منها ولم يؤمنوا ؛ قال عيسى : اللهمّ العنهم كما لعنت أصحاب السّبت ، فجعلوا خنازير.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أي : ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه ، وباعتدائهم في مجاوزة ما حدّه لهم.

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) التّناهي : تفاعل من النّهي ، أي : كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر. وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال : أحدها : صيد السّمك يوم السّبت. والثاني : أخذ الرّشوة في الحكم. والثالث : أكل الرّبا ، وأثمان الشّحوم. وذكر المنكر منكّرا يدلّ على الإطلاق ، ويمنع هذا الحصر ، ويدلّ على ما قلنا :


(٤٥٦) ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذّنب نهاه عنه تعذيرا ، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه ، فلمّا رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم».

قوله تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) قال الزجّاج : اللّام دخلت للقسم والتّوكيد ، والمعنى : لبئس شيئا فعلهم.

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم المنافقون ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد. والثاني : أنهم اليهود ، قاله مقاتل في آخرين ، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر ، وعلى الأوّل يرجع الكلام إلى قوله تعالى (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ). وفي الذين كفروا قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله أرباب القول الأوّل. والثاني : أنهم مشركو العرب ، قاله أرباب هذا القول الثاني.

قوله تعالى : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي : بئسما قدّموا لمعادهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قال الزجّاج : يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إضمار هو ، كأنه قيل : هو أن سخط الله عليهم.

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣))

قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) قال المفسّرون : نزلت هذه الآية وما بعدها ممّا يتعلّق بها في النّجاشيّ وأصحابه. قال سعيد بن جبير : بعث النّجاشيّ قوما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلموا ، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها ، وسنذكر قصّتهم فيما بعد. قال الزجّاج : واللام في «لتجدنّ» لام القسم ، والنّون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال ، و «عداوة» منصوب على التّمييز ، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبيّ عليه‌السلام.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني : عبدة الأوثان. فأمّا الذين قالوا إنّا نصارى ، فهل هذا عام

____________________________________

(٤٥٦) أخرجه أبو داود ٤٣٣٦ و ٤٣٣٧ والترمذي ٣٠٥٠ وابن ماجة ٤٠٠٦ وأحمد ١ / ٣٩١ من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود ، وفيه إرسال بينهما. وله شاهد من حديث أبي موسى ، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١٢١٥٣ وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح اه. وفي الباب أحاديث يحسن بها ، وقد وهم من حكم بضعفه.


في كلّ النّصارى أم خاصّ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه خاص ، ثم فيه قولان : أحدهما : أنه أراد النّجاشيّ وأصحابه لمّا أسلموا ، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني : أنهم قوم من النّصارى كانوا متمسّكين بشريعة عيسى ، فلمّا جاء محمّد عليه‌السلام أسلموا ، قاله قتادة. والقول الثاني : أنه عامّ. قال الزجّاج : يجوز أن يراد به النّصارى لأنهم كانوا أقلّ مظاهرة للمشركين من اليهود.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) قال الزجاج : «القس» و «القسيس» من رؤساء النصارى. وقال قطرب : القسيس : العالم بلغة الروم ، فأما الرهبان : فهم العبّاد أرباب الصوامع. قال ابن فارس : الترهب : التعبد ، فإن قيل : كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمر شريعتنا؟ فالجواب : أنه مدحهم بالتّمسّك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمّد ما أخذ عليهم في كتابهم ، وقد كانت الرّهبانيّة مستحسنة في دينهم. والمعنى : بأنّ فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال القاضي أبو يعلى : وربّما ظنّ جاهل أنّ في هذه الآية مدح النّصارى ، وليس كذلك ، لأنه إنّما مدح من آمن منهم ، ويدلّ عليه ما بعد ذلك ، ولا شكّ أنّ مقالة النّصارى أقبح من مقالة اليهود.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ، أي : لا يتكبّرون عن اتّباع الحقّ.

قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ).

(٤٥٧) قال ابن عباس : لمّا حضر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يدي النّجاشيّ ، وقرءوا القرآن ، سمع ذلك القسّيسون والرّهبان ، فانحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ ، فقال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) إلى قوله تعالى : (الشَّاهِدِينَ).

(٤٥٨) وقال سعيد بن جبير : بعث النّجاشيّ من خيار أصحابه ثلاثين رجلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم القرآن ، فبكوا ورقّوا ، وقالوا : نعرف والله ، وأسلموا ، وذهبوا إلى النّجاشيّ فأخبروه فأسلم ، فأنزل الله فيهم (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ...) الآية.

(٤٥٩) وقال السّدّيّ : كانوا اثني عشر رجلا ؛ سبعة من القسّيسين ، وخمسة من الرّهبان ، فلمّا قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، بكوا وآمنوا ، فنزلت هذه الآية فيهم (١).

____________________________________

(٤٥٧) حسن. أخرجه الطبري ١٢٣٢٠ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بأتم منه ، ورجاله ثقات ، لكن فيه إرسال بين علي وابن عباس. وله شاهد عن عبد الله بن الزبير ، أخرجه النسائي في «التفسير» ١٦٨ والطبري ١٢٣٣٠ ، وله شاهد من مرسل عطاء ، أخرجه الطبري ١٢٣٢٢.

(٤٥٨) مرسل. أخرجه الطبري ١٢٣١٨ عن خصيف الجزري عن سعيد بن جبير مرسلا.

ـ وكرره برقم ١٢٣٢٨ عن سالم الأفطس عن سعيد به.

(٤٥٩) مرسل. أخرجه الطبري ١٢٣٢١ بأتم منه عن السدي مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وله شاهد عن أبي صالح ، أخرجه الطبري ١٢٣٢٦ وهو مرسل ، وفيه راو لم يسمّ. الخلاصة : هذه الروايات جميعا تتأيد بمجموعها ، فيكون النجاشي وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هؤلاء ، ويدخل في ذلك كل من اتصف بذلك من أهل الكتاب ، وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير وابن عباس. وانظر التعليق الآتي.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «جامع البيان» ٥ / ٥ : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة


قوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، أي : مع من يشهد بالحقّ. وللمفسّرين في المراد بالشّاهدين هاهنا أربعة أقوال : أحدها : محمّد وأمّته ، رواه عليّ بن أبي طلحة ، وعكرمة عن ابن عباس. والثاني : أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : الذين يشهدون بالإيمان ، قاله الحسن. والرابع : الأنبياء والمؤمنون ، قاله الزجّاج.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

قوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) قال ابن عباس : لامهم قومهم على الإيمان ، فقالوا هذا ، وفي القوم الصّالحين ثلاثة أقوال : أحدها : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قاله ابن زيد. والثالث : المهاجرون الأوّلون ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس : ثواب المؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٤٦٠) أحدها : أنّ رجالا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم عثمان بن مظعون ، حرّموا اللحم والنّساء على أنفسهم ، وأرادوا جبّ أنفسهم ليتفرّغوا للعبادة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أومر بذلك» ، ونزلت هذه الآية ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

____________________________________

(٤٦٠) حسن. أخرجه الطبري ١٢٣٥٠ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس وكرره ١٢٣٥١ من وجه آخر عنه ، وفيه عطية العوفي واه ، وورد مرسلا عن عكرمة أخرجه الطبري وهذا ضعيف لإرساله ومن مرسل قتادة أخرجه الطبري ١٢٣٤٨ مطولا ، ومن مرسل السدي أخرجه ١٢٣٤٩ وكرره ١٢٣٤٠ من مرسل أبي مالك و ١٢٣٤٥ من مرسل أبي قلابة. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٤١١ بقوله : قال المفسرون اه. رووه بألفاظ متقاربة ، والمعنى متحد ، وهذه الروايات المرسلة والموصولة تتأيد بمجموعها ، فالحديث حسن.

ـ وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التبتل دون ذكر الآية وهو عند البخاري ٥٠٧٣ و ٥٠٧٤ ، ومسلم ١٤٠٢ والترمذي ١٠٨٣ والنسائي ٦ / ٥٨ وابن ماجة ١٨٤٨ وأحمد ١ / ١٧٥ ـ ١٨٣ والدارمي ٢ / ١٣٣ وابن حبان ٤٠٢٧ والبغوي ٢٢٣٧ والبيهقي ٧ / ٩٧ من حديث سعد بن أبي وقاص قال : ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. وانظر «أحكام القرآن» ٧٣٧.

__________________

قوم قالوا : (إِنَّا نَصارى) ، أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسمّ لنا أسماءهم ، وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ، ويجوز أن يكونوا قوما كانوا على شريعة عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه.


(٤٦١) وروى أبو صالح عن ابن عباس ، قال : كانوا عشرة : أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون ، والمقداد بن الأسود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وسلمان الفارسيّ ، وأبو ذرّ ، وعمّار بن ياسر ، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون ، فتواثقوا على ذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من رغب عن سنّتي فليس منّي» ونزلت هذه الآية.

(٤٦٢) قال السّدّيّ : كان سبب عزمهم على ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوما ، فلم يزدهم على التّخويف ، فرقّ الناس ، وبكوا ، فعزم هؤلاء على ذلك ، وحلفوا على ما عزموا عليه.

(٤٦٣) وقال عكرمة : إنّ عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون ، والمقداد ، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه ، تبتّلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح (١) ، وحرّموا طيّبات الطعام واللباس ، إلّا ما يأكل ويلبس أهل السّياحة من بني إسرائيل ، وهمّوا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النّهار ، فنزلت هذه الآية.

(٤٦٤) والثاني : أنّ رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إنّي إذا أكلت من هذا اللحم ، أقبلت على النّساء ، وإنّي حرّمته عليّ ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٤٦٥) والثالث : أنّ ضيفا نزل بعبد الله بن رواحة ، ولم يكن حاضرا ، فلمّا جاء ، قال لزوجته : هل أكل الضّيف؟ فقالت : انتظرتك. فقال : حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك عليّ حرام. فقالت : وهو عليّ حرام إن لم تأكله ، فقال الضّيف : وهو عليّ حرام إن لم تأكلوه ، فلمّا رأى ذلك ابن رواحة قال : قرّبي طعامك ، كلوا بسم الله ، ثمّ غدا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره بذلك فقال : أحسنت ، ونزلت هذه الآية ، وقرأ حتى بلغ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ، رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.

فأمّا «الطّيّبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النّفوس ممّا أبيح ، وفي قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) خمسة أقوال : أحدها : لا تجبّوا أنفسكم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم. والثاني : لا

____________________________________

(٤٦١) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس ، وراويته هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا.

(٤٦٢) أخرجه الطبري ١٢٣٤٩ عن السدي مرسلا مطولا ، وهذا المتن أصله محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة.

(٤٦٣) هو مرسل ، وانظر ما تقدم.

(٤٦٤) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٠٥٤ والطبري ٢٣٥٤ وابن عدي ٥ / ١٠٧٠ والواحدي ٤١٠ من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف عثمان بن سعد الكاتب ، وبه أعله ابن عدي. وأما الترمذي فقال : حسن غريب ، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا ، ليس فيه عن ابن عباس ، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا اه. قلت : هو خبر ضعيف ، والصواب ما ذكره أئمة التفسير ومنهم ابن عباس ، انظر الحديث المتقدم. انظر «أحكام القرآن» ٧٤٠ بتخريجنا.

(٤٦٥) ضعيف جدا ، أخرجه الطبري ١٢٣٥٣ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا ، ومع إرساله عبد الرحمن متروك الحديث. والصحيح في سبب النزول ما قبله. وحديث ابن رواحة في الصحيح ، وليس فيه ذكر نزول الآية راجع البخاري ٣٥٨١ وصحيح مسلم ٢٠٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ٧٣٨ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : المسوح : جمع مسح : وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان.


تأتوا ما نهى الله عنه ، قاله الحسن. والثالث : لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء ، وإدامة الصّيام ، والقيام ، قاله عكرمة. والرابع : لا تحرّموا الحلال ، قاله مقاتل. والخامس : لا تغصبوا الأموال المحرّمة ، ذكره الماورديّ.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) سبب نزولها :

(٤٦٦) أنه لمّا نزل قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قال القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقد سبق ذكر «اللغو» في سورة البقرة.

قوله تعالى : (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «عقّدتم» بغير ألف ، مشددة القاف. قال أبو عمرو : معناها : وكّدتم ، وقرأ أبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : «عقدتم» خفيفة بغير ألف ، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير : معناها : أوجبتموها على أنفسكم (١). وقرأ ابن عامر : «عاقدتم» بألف ، مثل «عاهدتم». قال القاضي أبو يعلى : وهذه القراءة المشدّدة لا تحتمل إلا عقد قول. فأمّا المخفّفة ، فتحتمل عقد القلب ، وعقد القول. وذكر المفسّرون في

____________________________________

(٤٦٦) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٣٦٠ عن عطية بن سعد العوفي عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف عطية.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٤٦٩ ـ ٤٧١ ما ملخصه : فصل : فإن قال : أقسمت ، أو آليت ، أو حلفت ، أو شهدت لأفعلنّ ، ولم يذكر بالله. فعن أحمد روايتان ، إحداهما : أنها يمين ، سواء نوى اليمين أو أطلق ، وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وعن أحمد : إن نوى اليمين بالله كان يمينا ، وإلا فلا ، وهو قول مالك وإسحاق وابن المنذر ، لأنه يحتمل القسم بالله تعالى وبغيره ، فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة ، وقال الشافعي : ليس بيمين وإن نوى ، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا. ولنا أنه ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال : أقسمت عليك يا رسول الله ، لتخبرني بما أصبت مما أخطأت ، فقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقسم يا أبا بكر» رواه أبو داود. وقال العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنّه ، فبايعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «أبررت قسم عمي ، ولا هجرة». وفي كتاب الله (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ) إلى (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) فسماها يمينا.

ـ فصل : وإن قال : أعزم ، أو عزمت لم يكن قسما ، نوى به القسم أو لم ينو ، لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع ولا استعمال ، ولا هو موضوع للقسم ، ولا فيه دلالة عليه.

ـ مسألة : أو بأمانة الله قال القاضي : لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة ، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي : لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى.

ـ فصل : فإن قال : والأمانة لا فعلت. ونوى الحلف بأمانة الله فهي يمين مكفّرة. وإن أطلق فعلى روايتين :

إحداهما : يكون يمينا ، والثانية : لا يكون يمينا ، لأنه لم يضفها إلى الله تعالى.


معنى الكلام قولين : أحدهما : ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم عليه قلوبكم في التّعمد لليمين ، قاله مجاهد. والثاني : بما عقّدتم عليه قلوبكم أنه كذب ، قاله سعيد بن جبير.

قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ) (١) قال ابن جرير : الهاء عائدة على «ما» في قوله : «بما عقّدتم».

فصل : فأمّا إطعام المساكين (٢) ، فروي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والحسن في آخرين : أنّ لكلّ مساكين مدّ برّ ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ. وروي عن عمر ، وعليّ ، وعائشة في آخرين : لكلّ مساكين نصف صاع من برّ ، قال عمر ، وعائشة : أو صاعا من تمر ، وبه قال أبو حنيفة. ومذهب أصحابنا في جميع الكفّارات التي فيها إطعام ، مثل كفّارة اليمين ، والظّهار ، وفدية الأذى ، والمفرّطة في قضاء رمضان ، مدّ برّ ، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومن شرط صحّة الكفّارة ، تمليك الطّعام للفقراء ، فإن غدّاهم وعشّاهم ، لم يجزئه ، وبه قال سعيد بن جبير ، والحكم ، والشّافعيّ. وقال الثّوريّ ، والأوزاعيّ : يجزئه ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك (٣). ولا يجوز صرف مدّين إلى مساكين واحد (٤) ، ولا إخراج القيامة في الكفّارة ، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يجوز. قال الزجّاج : وإنما وقع لفظ التّذكير في المساكين ، ولو كانوا إناثا لأجزأ ، لأنّ المغلّب في كلام العرب التّذكير. وفي قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قولان :

أحدهما : من أوسطه في القدر ، قاله عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، ومجاهد.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٤٨١ ـ ٤٨٢ : كفارة سائر الأيمان تجوز قبل الحنث وبعده ، صوما كانت أو غيره ، في قول أكثر أهل العلم ، وبه قال مالك ، وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد ، وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود ، وقال أصحاب الرأي : لا تجزئ الكفارة قبل الحنث ، لأنه تكفير قبل وجود سببه ، وقال الشافعي كقولنا ، في الإعتاق والإطعام والكسوة. وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية.

قلت : ويخطئ أكثر العامة حيث يظنون أن المتعين هو صيام ثلاثة أيام. ولا يعرفون غير ذلك؟!!

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٥١١ : لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام ، ولا الكسوة ، في قول إمامنا ومالك والشافعي وابن المنذر ، وهو الظاهر من قول عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي. وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي اه ملخصا. وانظر القرطبي ٦ / ٢٨٠.

(٣) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» ٦ / ٢٧٧ : قال مالك : إن غدّى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي : لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة ، لأنهم يختلفون في الأكل ، ولكن يعطي كل مساكين مدا. وروي عن علي : لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة. يعني غداء دون عشاء ، أو عشاء دون غداء حتى يغدّيهم ويعشيهم. قال أبو عمر : وهو قول أئمة أهل الفتوى بالأمصار. وانظر ما ذكره ٦ / ٢٧٦.

(٤) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٥١٣ : المكفّر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم ، أو لا يجدهم ، فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين ، ولا أقل من ستين في كفارة الظهار ، وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد. وقال أبو عبيد : إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز. وقال أصحاب الرأي : يجوز أن يرددها على مساكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين ، أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا. ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد. وحكاه أبو الخطاب عن أحمد اه ملخصا. وانظر القرطبي ٦ / ٢٧٨.


والثاني : من أوسط أجناس الطّعام ، قاله ابن عمر ، والأسود ، وعبيدة ، والحسن ، وابن سيرين. وروي عن ابن عباس قال : كان أهل المدينة يقرون للحرّ من القوت أكثر ما للمملوك ، وللكبير أكثر ما للصّغير ، فنزلت (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ليس بأفضله ولا بأخسّه.

وفي كسوتهم خمسة أقوال : أحدها : أنّها ثوب واحد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، وعطاء ، والشّافعيّ. والثاني : ثوبان ، قاله أبو موسى الأشعريّ ، وابن المسيّب ، والحسن ، وابن سيرين ، والضّحّاك. والثالث : إزار ورداء وقميص ، قاله ابن عمر. والرابع : ثوب جامع كالملحفة ، قاله إبراهيم النّخعيّ. والخامس : كسوة تجزئ فيها الصّلاة ، قاله مالك. ومذهب أصحابنا : أنه إن كسا الرجل ، كساه ثوبا ، والمرأة ثوبين ، درعا وخمارا ، وهو أدنى ما تجزئ فيه الصّلاة.

وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلميّ وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر : «أو كسوتهم» بضمّ الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ : «أو كإسوتهم» بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السّميفع وأبو عمران الجوني مثله ، إلا أنهما فتحا الهمزة. قال المصنّف : ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلا من أصول الكفّارة.

قوله تعالى : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) تحريرها : عتقها ، والمراد بالرّقبة : جملة الشّخص. واتّفقوا على اشتراط إيمان الرّقبة في كفّارة القتل لموضع النّص. واختلفوا في إيمان الرّقبة المذكورة في هذه الكفّارة على قولين : أحدهما : أنه شرط ، وبه قال الشّافعيّ ، لأنّ الله تعالى قيّد بذكر الإيمان في كفّارة القتل ، فوجب حمل المطلق على المقيّد. والثاني : ليس بشرط ، وبه قال أبو حنيفة ، وعن أحمد رضي الله عنه في إيمان الرّقبة المعتقة في كفّارة اليمين ، وكفّارة الظّهار ، وكفّارة الجماع ، والمنذورة ، روايتان. قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) اختلفوا فيما إذا لم يجده ، صام ، على خمسة أقوال : أحدها : أنه إذا لم يجد درهمين صام ، قاله الحسن. والثاني : ثلاثة دراهم ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : إذا لم يجد إلّا قدر ما يكفّر به ، صام ، قاله قتادة. والرابع : مائتي درهم ، قاله أبو حنيفة. والخامس : إذا لم يكن له إلّا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته (١) ، قاله أحمد ، والشّافعيّ. وفي تتابع الثّلاثة أيام (٢) ، قولان : أحدهما : أنه

__________________

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٥٣٣ : ويكفّر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، مقدار ما يكفر به وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا ، فيتخير بين الخصال الثلاث ، ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفّر به ، وهذا قول إسحاق ، وأبو عبيد وقال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره ، أجزأه الصيام ، لأنه فقير. وقال سعيد بن جبير ، إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم ، كفّر بها. وقال الحسن : درهمين. وهذان القولان نحو قولنا ، ووجه ذلك أن الله اشترط للصيام ، أن لا يجد. فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله ، يومه وليلته ، كصدقة الفطر.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٥٢٨ : ظاهر المذهب اشتراط التتابع في الصوم كذلك قال النخعي ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ، وبه قال عطاء ومجاهد ، وعكرمة.

وعن أحمد رواية أخرى ، أنه يجوز تفريقها. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق ، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. وفي قراءة ابن مسعود : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» كذلك ذكره أحمد : إن كان قرآنا فهو حجة ، وإن لم يكن قرآنا ، فهو رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا هو حجة فوجب التتابع.


شرط ، وكان أبيّ ، وابن مسعود يقرآن : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، وعطاء ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وهو قول أصحابنا. والثاني : ليس بشرط ، ويجوز التّفريق ، وبه قال الحسن ، ومالك. وللشّافعيّ فيه قولان.

قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) فيه إضمار تقديره : إذا حلفتم وحنثتم.

وفي قوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : أقلّوا منها ، ويشهد له قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ، وأنشدوا :

قليل الألايا حافظ ليمينه (١)

والثاني : احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث : راعوها لكي تؤدّوا الكفّارة عند الحنث فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٤٦٧) أحدها : أن سعد بن أبي وقّاص أتى نفرا من المهاجرين والأنصار ، فأكل عندهم ، وشرب الخمر قبل أن تحرّم ، فقال : المهاجرون خير من الأنصار ، فأخذ رجل لحي جمل فضربه ، فجدع أنفه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.

(٤٦٨) وقال سعيد بن جبير : صنع رجل من الأنصار صنيعا ، فدعا سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبّوا ، فقام الأنصاريّ إلى لحي بعير ، فضرب به رأس سعد ، فإذا الدّم على وجهه ، فذهب سعد يشكو إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل تحريم الخمر في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله تعالى : (تُفْلِحُونَ).

(٤٦٩) والثاني : أنّ عمر بن الخطّاب قال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في «البقرة» فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو ميسرة عن عمر.

(٤٧٠) والثالث : أنّ أناسا من المسلمين شربوها ، فقاتل بعضهم بعضا ، وتكلّموا بما لا يرضاه الله من القول ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

____________________________________

(٤٦٧) صحيح. أخرجه مسلم ٤ / ١٨٧٧ ح ١٧٤٨ والواحدي ٤١٢ وأحمد ١ / ١٨١ ـ ١٨٥ والبيهقي ٨ / ٢٨٥ والطبري ١٢٥٢٢ و ١٢٥٢٣ من حديث سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٥١ بتخريجنا.

(٤٦٨) هو مرسل ، لكن يشهد له ما قبله.

(٤٦٩) مضى في سورة البقرة ، وهو حديث حسن.

(٤٧٠) فيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس ، لكن يشهد له ما تقدم.

__________________

(١) هو صدر بيت لكثير عزة وتمامه : وإن سبقت منه الألية برّت.


(٤٧١) والرابع : أنّ قبيلتين من الأنصار شربوا ، فلمّا ثملوا عبث بعضهم ببعض ، فلمّا صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته ، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفا ما صنع بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضّغائن ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة (١) وذكرنا في «النّصب» في أوّل هذه السّورة (٢) قولين ، وهما اللذان ذكرهما المفسّرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام». فأمّا الرّجس ، فقال الزجّاج : هو اسم لكلّ ما استقذر من عمل ، يقال : رجس الرّجل يرجس ، ورجس يرجس : إذا عمل عملا قبيحا ، والرّجس بفتح الرّاء : شدّة الصّوت ، فكأنّ الرّجس ، العمل الذي يقبح ذكره ، ويرتفع في القبح ، ويقال : رعد رجّاس : إذا كان شديد الصّوت.

قوله تعالى : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) قال ابن عباس : من تزيين الشّيطان. فإن قيل : كيف نسب إليه ، وليس من فعله؟ فالجواب : أنّ نسبته إليه مجاز ، وإنما نسب إليه ، لأنه هو الدّاعي إليه ، المزيّن له ، ألا ترى أنّ رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل ، لجاز أن يقال له : هذا من عملك.

قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) قال الزجّاج : اتركوه. واشتقاقه في اللغة : كونوا جانبا منه. فإن قيل : كيف ذكر في هذه الآية أشياء ، ثمّ قال : فاجتنبوه؟ فالجواب : أنّ الهاء عائدة على الرّجس ، والرّجس واقع على الخمر ، والميسر ، والأنصاب ، والأزلام ، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه ، ومنبئ عنه ، ذكره ابن الأنباريّ.

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أمّا «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأمّا الميسر ، فقال قتادة : كان الرجل يقامر على أهله وماله ، فيقمر ويبقى حزينا سليبا ، فينظر إلى ماله في يد غيره ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.

قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه لفظ استفهام ، ومعناه الأمر. تقديره : انتهوا. قال الفرّاء : ردّد عليّ أعرابي : هل أنت ساكت ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد : اسكت ، اسكت. والثاني : أنه استفهام ، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا عليّ بن عبيد الله أنّ جماعة كانوا يشربون الخمر بعد

____________________________________

(٤٧١) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ١٧١ والطبري ١٢٥٢٦ والحاكم ٤ / ١٤١ والبيهقي ٨ / ٢٨٥ والطبراني ١٢٤٥٩ ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وسكت عنه الحاكم ، وصححه الذهبي على شرط مسلم ، وهو كما قال ، ويشهد له ما قبله ، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في جميع ذلك.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٩.

(٢) سورة المائدة : ٣.


هذه الآية ، ويقولون : لم يحرّمها ، إنما قال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، فقال بعضنا : انتهينا ، وقال بعضنا : لم ننته ، فلمّا نزلت (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) حرّمت ، لأنّ «الإثم» اسم للخمر. وهذا القول ليس بشيء ، والأوّل أصحّ.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمراكم ، واحذروا خلافهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم ، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين ؛ وهذا وعيد لهم ، كأنه قال فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) سبب نزولها :

(٤٧٢) أنّ ناسا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر ، إذ كانت مباحة ، فلمّا حرّمت قال ناس : كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية ، قاله البراء بن عازب.

و «الجناح» : الإثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال : أحدها : ما شربوا من الخمر قبل تحريمها ، قاله ابن عباس ، قال ابن قتيبة : يقال : لم أطعم خبزا وأدما ولا ماء ولا نوما. قال الشاعر :

فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)

النّقاخ : الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده ، والبرد : النّوم.

والثاني : ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث : ما طعموا من المباحات.

وفي قوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا) ثلاثة أقوال : أحدها : اتّقوا بعد التّحريم ، قاله ابن عباس. والثاني : اتّقوا المعاصي والشّرك. والثالث : اتّقوا مخالفة الله في أمره. وفي قوله تعالى : (وَآمَنُوا) قولان : أحدهما : آمنوا بالله ورسوله. والثاني : آمنوا بتحريمها.

قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال مقاتل : أقاموا على الفرائض.

__________________

(٤٧٢) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠٥٠ و ٣٠٥١ والطيالسي ٧١٥ وأبو يعلى ١٧١٩ و ١٧٢٠ وابن حبان ٥٣٥٠ والطبري ١٢٥٣٣ من حديث البراء ، وإسناده صحيح على شرطهما ، لكن فيه عنعنة أبي إسحاق ، وهو مدلس ، وجاء في رواية أبي يعلى : قال شعبة : قلت لأبي إسحاق : أسمعته من البراء ، قال : لا اه.

ومع ذلك يعتضد بحديث أنس : قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت قال : فخرجت ، قال : فجرت في سكك المدينة قال : وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ ، فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم قال : فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا). أخرجه البخاري ٤٦٢٠ ومسلم ١٩٨٠ والحميدي ١٢١٠ وأحمد ٣ / ١٨٣ والنسائي ٨ / ٢٨٧ وابن حبان ٥٣٥٢ و ٥٣٦٣ و ٥٣٦٤ والبيهقي ٨ / ٢٨٦ والبغوي ٢٠٤٣ من طرق عن أنس ، رووه بألفاظ متقاربة ، واللفظ للبخاري.

__________________

(١) البيت للعرجي وهو في ديوانه : ١٠٩ و «اللسان» مادة : نقخ.


قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّقَوْا) في هذه التّقوى المعادة أربعة أقوال : أحدها : أنّ المراد خوف الله عزوجل. والثاني : أنها تقوى الخمر والميسر بعد التّحريم. والثالث : أنها الدّوام على التّقوى. والرابع : أنّ التّقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التّحريم ، والثّانية لمن شربها بعد التّحريم.

قوله تعالى : (وَآمَنُوا) في هذا الإيمان المعاد قولان : أحدهما : صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : آمنوا بما يجيء من النّاسخ والمنسوخ.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) في هذه التّقوى الثّالثة أربعة أقوال : أحدها : اجتنبوا العود إلى الخمر بعد تحريمها ، قاله ابن عباس : والثاني : اتّقوا ظلم العباد. والثالث : توقّوا الشّبهات. والرابع : اتّقوا جميع المحرّمات. وفي الإحسان قولان : أحدهما : أحسنوا العمل بترك شربها بعد التّحريم ، قاله ابن عباس. والثاني : أحسنوا العمل بعد تحريمها ، قاله مقاتل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ).

(٤٧٣) قال المفسّرون : لمّا كان عام الحديبية ، وأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّنعيم ، كانت الوحوش والطّير تغشاهم في رحالهم ، وهم محرمون ، فنزلت هذه الآية ، ونهوا عنها ابتلاء.

قال الزجّاج : اللام في «ليبلونّكم» لام القسم ، ومعناه : لنختبرنّ طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه عنى صيد البرّ دون صيد البحر.

والثاني : أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام كأنّ ذلك بعض الصّيد. والثاني : أنها لبيان الجنس ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) قال مجاهد : الذي تناله اليد : الفراخ والبيض ، وصغار الصّيد ، والذي تناله الرّماح : كبار الصّيد.

قوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ) قال مقاتل : ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يره ، فلا يتناول الصيد وهو محرم (فَمَنِ اعْتَدى) فأخذ الصّيد عمدا بعد النّهي للمحرم عن قتل الصّيد (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عباس : يوسع بطنه وظهره جلدا ، وتسلب ثيابه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥))

____________________________________

(٤٧٣) ورد ذلك عن مقاتل بن حيان ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٢ / ٥٧٦ ، وهذا معضل ، ومقاتل له مناكير كثيرة ، وتفرده بهذا يدل على وهنه بل وبطلانه أيضا ، حيث لم أجده عن غيره ، والله أعلم.

وانظر «أحكام القرآن» ٢ / ١٧٠ بتخريجنا.


قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) بيّن الله عزوجل بهذه الآية من أيّ وجه تقع البلوى ، وفي أيّ زمان ، وما على من قتله بعد النّهي؟. وفي قوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثلاثة أقوال :

أحدها : وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة ، قاله الأكثرون. والثاني : وأنتم في الحرم ، يقال : أحرم : إذا دخل في الحرم ، وأنجد : إذا أتى نجدا. والثالث : الجمع بين القولين.

قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فيه قولان : أحدهما : أن يتعمّد قتله ذاكرا لإحرامه ، قاله ابن عباس ، وعطاء. والثاني : أن يتعمّد قتله ناسيا لإحرامه ، قاله مجاهد. فأمّا قتله خطأ ، ففيه قولان : أحدهما : أنه كالعمد ، قاله عمر ، وعثمان ، والجمهور. قال الزّهريّ : نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنّة في الخطأ ، يعني : ألحقت المخطئ بالمتعمّد في وجوب الجزاء.

(٤٧٤) وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الضّبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم».

وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى : أفاد تخصيص العمد بالذّكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد ، وإنّما يختصّ ذلك بالعامد. والثاني : أنه لا شيء فيه ، قاله ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان ، أصحّهما الوجوب.

قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل». وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «فجزاء» منوّن «مثل» مرفوع. قال أبو عليّ : من أضاف ، فقوله تعالى : (مِنَ النَّعَمِ) يكون صفة للجزاء ، وإنّما قال : مثل ما قتل ، وإنّما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله ، لأنّهم يقولون : أنا أكرم مثلك ، يريدون : أنا أكرمك ، فالمعنى : جزاء ما قتل. ومن رفع «المثل» ، فالمعنى : فعليه جزاء من النّعم مماثل للمقتول ، والتقدير : فعليه جزاء. قال ابن قتيبة : النّعم : الإبل ، وقد يكون البقر والغنم ، والأغلب عليها الإبل. وقال الزجّاج : النّعم في اللغة : الإبل والبقر والغنم ، فإن انفردت الإبل ، قيل لها : نعم ، وإن انفردت البقر والغنم ، لم تسمّ نعما.

فصل : قال القاضي أبو يعلى : والصّيد الذي يجب الجزاء بقتله : ما كان مأكول اللحم ، كالغزال ، وحمار الوحش ، والنّعامة ، ونحو ذلك ، أو كان متولّدا من حيوان يؤكل لحمه ، كالسّمع ، فإنه متولّد من الضّبع ، والذّئب ، وما عدا ذلك من السّباع كلّها ، فلا جزاء على قاتلها ؛ سواء ابتدأ قتلها ، أو عدت عليه فقتلها دفعا عن نفسه ، لأنّ السّبع لا مثل له صورة ولا قيمة ، فلم يدخل تحت الآية.

(٤٧٥) ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاز للمحرم قتل الحيّة ، والعقرب ، والفويسقة ، والغراب ، والحدأة ، والكلب العقور ، والسّبع العادي. قال : والواجب بقتل الصّيد فيما له مثل من الأنعام مثله ، وفيما لا مثل

____________________________________

(٤٧٤) صحيح. أخرجه أبو داود ٣٨٠١ وابن ماجة ٣٠٨٥ والدارمي ٢ / ٧٤ والحاكم ١ / ٤٥٢ ، والدارقطني ٢ / ٢٤٦ وابن حبان ٣٩٦٤ من حديث جابر ، وصححه الحاكم على شرطهما وجاء في «تلخيص الحبير» ٢ / ٢٧٨. قال الترمذي : سألت عنه البخاري فصححه ، وكذا صححه عبد الحق ، وجوّده البيهقي ، وأعلّه بعضهم بالوقف.

وانظر «تفسير القرطبي» ٢٨٠٩ بتخريجنا.

(٤٧٥) يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور». أخرجه البخاري ١٨٢٩ ومسلم ١١٩٨ وأحمد ٦ / ٢٥٩ وابن حبان ٥٦٣٢ وأبو يعلى ٤٥٠٣ والطحاوي ٢ / ١٦٦. والدارقطني ٢ / ٢٣١


له قيمته ، وهو قول مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : الواجب فيه القيامة ، وحمل المثل على القيامة ، وظاهر الآية يردّ ما قال ، ولأنّ الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصّورة ، فقال ابن عباس : المثل : النّظير ، ففي الظّبية شاة ، وفي النّعامة بعير.

قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يعني بالجزاء ، وإنّما ذكر اثنين ، لأنّ الصّيد يختلف في نفسه ، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) يعني : من أهل ملّتكم.

قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) قال الزجّاج : هو منصوب على الحال ، والمعنى : يحكمان به مقدّرا أن يهدى (١). ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة ، ومعناه : النّكرة. والمعنى : بالغا الكعبة ، إلّا أنّ التنوين حذف استخفافا. قال ابن عباس : إذا أتى مكّة ذبحه ، وتصدّق به.

قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : (أَوْ كَفَّارَةٌ) منوّنا (طَعامُ) رفعا. وقرأ نافع ، وابن عامر : «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين» على الإضافة. قال أبو عليّ : من رفع ولم يضف ، جعله عطفا على الكفّارة عطف بيان ، لأنّ الطعام هو الكفّارة ، ولم يضف الكفّارة إلى الطعام ، لأن الكفّارة لقتل الصّيد ، لا للطعام ، ومن أضاف الكفّارة إلى الطعام ، فلأنّه لمّا خيّر المكفّر بين الهدي ، والطّعام ، والصّيام ، جازت الإضافة لذلك ، فكأنّه قال : كفّارة طعام ، لا كفّارة هدي ، ولا صيام. والمعنى : أو عليه بدل الجزاء والكفّارة ، وهي طعام مساكين (٢). وهل يعتبر في إخراج الطعام قيمة النّظير ، أو قيمة الصّيد؟ فيه قولان : أحدهما : قيمة النّظير ، وبه قال عطاء ، والشّافعيّ ، وأحمد. والثاني : قيمة الصّيد ، وبه قال قتادة ، وأبو حنيفة ، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ

____________________________________

من طرق عن عائشة ، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم ١١٩٨ ح ٦٨. «الحية والكلب العقور». وفيه «السبع العادي». أخرجه أبو داود ١٨٤٨ والترمذي ٨٣٨ وابن ماجة ٣٠٨٩ والطحاوي ١ / ٣٨٥ وأحمد ٣ / ٣ ـ ٣٢ ـ ٧٩ والبيهقي ٥ / ٢١٠ من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث ، وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد ، فقد ضعفه غير واحد. والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي». والفويسقة : هي الفأرة.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٥ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ ما ملخصه : أما فدية الأذى ، فتجوز في الموضع الذي حلق فيه ، نص عليه أحمد ، وقال الشافعي : لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ). ولنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ، ولم يأمر ببعثه إلى الحرم.

ـ وأما جزاء الصيد ، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ).

فصل : وما وجب نحره بالحرم ، وجب تفرقة لحمه به ، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة : إذا ذبحها في الحرم ، جاز تفرقة لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ٤١٣.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله ٥ / ٤٥١ : فصل : والطعام كالهدي ، يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به ، وقال عطاء والنخعي : ما كان من هدي فبمكة ، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء ، وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة ، ولنا قول ابن عباس : الهدي والطعام بمكة ، والصوم حيث شاء.

ـ فصل : ومساكين الحرم من كان فيه من أهل ، أو وارد إليه من الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم ، ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة ، وللشافعي فيه قولان ، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة ، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ، وجوزه أصحاب الرأي ، ولنا أنه كافر ، فلم يجز الدفع إليه ، كالحربي.


مساكين قولان : أحدهما : مدّان من برّ ، وبه قال ابن عباس ، وأبو حنيفة. والثاني : مدّ برّ ، وبه قال الشّافعيّ ، وعن أحمد روايتان ، كالقولين.

قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) قرأ أبو رزين ، والضّحّاك ، وقتادة ، والجحدريّ ، وطلحة : «أو عدل ذلك» ، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة. قال أصحابنا : يصوم عن كلّ مدّ برّ ، أو نصف صاع تمر ، أو شعير يوما. وقال أبو حنيفة : يصوم يوما عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك ، والشّافعيّ : يصوم يوما عن كلّ مدّ من الجميع.

فصل : وهل هذا الجزاء على التّرتيب ، أم على التّخيير؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه على التّخيير بين إخراج النّظير ، وبين الصّيام ، وبين الإطعام.

والثاني : أنه على التّرتيب ، إن لم يجد الهدي ، اشترى طعاما ، فإن كان معسرا صام ، قاله ابن سيرين. والقولان مرويّان عن ابن عباس ، وبالأوّل قال جمهور الفقهاء.

قوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي : جزاء ذنبه. قال الزجّاج : «الوبال» : ثقل الشيء في المكروه ، ومنه قولهم : طعام وبيل ، وماء وبيل : إذا كانا ثقيلين. قال الله عزوجل : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي : ثقيلا شديدا.

قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) فيه قولان : أحدهما : ما سلف في الجاهليّة ، من قتلهم الصّيد ، وهم محرمون ، قاله عطاء. والثاني : ما سلف من قتل الصّيد في أوّل مرّة ، حكاه ابن جرير ، والأوّل أصحّ. فعلى القول الأوّل يكون معنى قوله : (وَمَنْ عادَ) في الإسلام ، وعلى الثاني : (وَمَنْ عادَ) ثانية بعد أولى. قال أبو عبيدة : «عاد» في موضع يعود ، وأنشد :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (١)

قوله تعالى : (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) «الانتقام» : المبالغة في العقوبة ، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إيجاب جزاء ثان إذا عاد ، وهذا قول الجمهور ، وبه قال مالك والشّافعيّ ، وأحمد. وقد روي عن ابن عباس ، والنّخعيّ ، وداود : أنه لا جزاء عليه في الثاني ، إنّما وعد بالانتقام.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) قال أحمد : يؤكل كلّ ما في البحر إلا الضّفدع والتّمساح ، لأن التّمساح يأكل الناس يعني : أنه يفرس. وقال أبو حنيفة ، والثّوريّ : لا يباح منه إلا السّمك. وقال ابن أبي ليلى ، ومالك : يباح كلّ ما فيه من ضفدع وغيره.

__________________

(١) البيت لقعنب ابن أم صاحب ، وهو في «اللسان» مادة ـ أذن ـ ملفق من بيتين هما :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

مني وما سمعوا من صالح دفنوا

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا

جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم

لبئست الخلتان الجهل والجبن


فأمّا طعامه ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما نبذه البحر ميّتا ، قاله أبو بكر ، وعمر ، وابن عمر ، وأبو أيّوب ، وقتادة. والثاني : أنه مليحه ، قاله سعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير والسّدّيّ ، وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرّواية عن النّخعيّ. فروي عنه كالقولين ، وروي عنه أنه جمع بينهما ، فقال : طعامه المليح (١) ، وما لفظه. والثالث : أنه ما نبت بمائه من زروع البرّ ، وإنّما قيل لهذا : طعام البحر ، لأنه ينبت بمائه ، حكاه الزجّاج.

وفي المتاع قولان : أحدهما : أنه المنفعة ، قاله ابن عباس ، والحسن وقتادة. والثاني : أنه الحلّ قاله النخعيّ. قال مقاتل : متاعا لكم يعني المقيمين ، وللسيارة ، يعني المسافرين.

قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أما الاصطياد فمحرّم على المحرم (٢) ، فإن صيد لأجله ، حرم عليه أكله خلافا لأبي حنيفة ، فإن أكل فعليه الضّمان خلافا لأحد قولي الشّافعيّ. فإن ذبح المحرم صيدا ، فهو ميتة ، خلافا لأحد قولي الشّافعيّ أيضا. فإن ذبح الحلال صيدا في الحرم ، فهو ميتة أيضا ، خلافا لأكثر الحنفيّة.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨))

قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) جعل بمعنى : صيّر. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان :

أحدهما : لأنها مربّعة ، قاله عكرمة ، ومجاهد.

والثاني : لعلوّها ونتوئها ، يقال : كعبت المرأة كعابة ، وهي كاعب ، إذا نتأ ثديها.

ومعنى تسمية البيت بأنه حرام : أنه حرم أن يصاد عنده ، وأن يختلى ما عنده من الخلا ، وأن يعضد شجره ، وعظّمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائر الحرم ، كما قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (٣) وأراد : الحرم. والقيام : بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر : قيما بغير ألف. قال أبو عليّ : وجهه على أحد أمرين ، إمّا أن يكون جعله مصدرا ، كالشّبع. أو حذف الألف وهو يريدها ، كما يقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال : أحدها : قياما للدّين ، ومعالم للحجّ ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : قياما لأمر من توجّه إليها ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. قال قتادة : كان الرجل لو جرّ كلّ

__________________

(١) في «اللسان» الملح والمليح : خلاف العذب من الماء.

(٢) قال الإمام القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٦ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ : اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد ، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق ، وهو الصحيح عن عثمان : إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله لحديث جابر. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أم لا. واحتجوا بحديث أبي قتادة ، وهو قول عمر وعثمان في رواية. وروي عن علي وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد ، وبه قال إسحاق ، وروي عن الثوري ، واحتجوا بحديث الصعب بن جثّامة اه ملخصا ، وانظر «المغني» ٥ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) سورة المائدة : ٩٥.


جريرة ، ثم لجأ إليها ، لم يتناول. والثالث : قياما لبقاء الدّين ، فلا يزال في الأرض دين ما حجّت واستقبلت ، قاله الحسن. والرابع : قوام دنيا وقوام دين ، قاله أبو عبيدة. والخامس : قياما للناس ، أي : ممّا أمروا أن يقوموا بالفرض فيه ، ذكره الزجّاج. والسادس : قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التّجارة عندها ، ذكره بعض المفسّرين.

فأما الشّهر الحرام ، فالمراد به الأشهر الحرم ، كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها ، فكان ذلك قواما لهم ، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلّد بعيره أمن كيف تصرّف ، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.

قوله تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) ذكر ابن الأنباريّ في المشار إليه بذلك أربعة أقوال :

أحدها : أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم ، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين ، فقال : ذلك لتعلموا ، أي : ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلّكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، ولا تخفى عليه خافية.

والثاني : أنّ العرب كانت تسفك الدّماء بغير حلّها ، وتأخذ الأموال بغير حقّها ، ويقتل أحدهم غير القاتل ، فإذا دخلوا البلد الحرام ، أو دخل الشّهر الحرام ، كفّوا عن القتل. والمعنى : جعل الله الكعبة أمنا ، والشهر الحرام أمنا ، إذ لو لم يجعل للجاهليّة وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا ، فذلك يدلّ على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.

والثالث : أنّ الله تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكّة في الشّهور المعلومة ، فإذا وصلوا إليها عاش أهلها معهم ، ولو لا ذلك ماتوا جوعا ، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم ، وليستدلّوا بذلك على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.

والرابع : أنّ الله تعالى جعل مكّة أمنا ، وكذلك الشّهر الحرام ، فإذا دخل الظّبي الوحشيّ الحرم ، أنس بالناس ، ولم ينفر من الكلب ، ولم يطلبه الكلب ، فإذا خرجا عن حدود الحرم ، طلبه الكلب ، وذعر هو منه ، والطّائر يأنس بالناس في الحرم ، ولا يزال يطير حتى يقرب من البيت ، فإذا قرب منه عدل عنه ، ولم يطر فوقه إجلالا له ، فإذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف البيت استشفاء به ، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان ، وفي ذلك الشّهر قد دللن على أنّ الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) في هذه الآية تهديد شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها ، في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه ، وهم حجّاج اليمامة حين همّ المسلمون بالغارة عليهم ، وقد سبق ذكر ذلك في أوّل السورة. وهل هذه الآية محكمة ، أم لا؟ فيه قولان :

أحدهما : أنها محكمة ، وأنها تدلّ على أنّ الواجب على الرّسول التّبليغ ، وليس عليه الهدى. والثاني : أنها كانت قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخت بآية السّيف.


(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ).

(٤٧٦) روى جابر بن عبد الله أنّ رجلا قال : يا رسول الله إنّ الخمر كانت تجارتي ، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لا يقبل إلّا الطّيّب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الخبيث والطّيب أربعة أقوال : أحدها : الحلال والحرام ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : المؤمن والكافر ، قاله السّدّيّ. والثالث : المطيع والعاصي. والرابع : الرّديء والجيد ، ذكرهما الماورديّ. ومعنى الإعجاب هاهنا : السّرور بما يتعجّب منه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١))

قوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) في سبب نزولها ستة أقوال :

(٤٧٧) أحدها : أن الناس سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فقام مغضبا خطيبا ، فقال : «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بيّنته لكم» ، فقام رجل من قريش ، يقال له : عبد الله بن حذافة كان إذا لاحى (١) يدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبيّ الله من أبي؟ قال : أبوك حذافة ، فقام آخر ، فقال : أين أبي؟ قال : في النّار ، فقام عمر فقال : رضينا بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد نبيّا ، وبالقرآن إماما ، إنّا حديثو عهد بجاهليّة ، والله أعلم من آباؤنا ، فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن أبي هريرة ، وقتادة عن أنس.

(٤٧٨) والثاني : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس ، فقال : «إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة

____________________________________

(٤٧٦) باطل. أخرجه الواحدي ٤١٧ والأصبهاني في «الترغيب» ١٢٣٥ عن جابر بن عبد الله ، وإسناده ساقط. فيه محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي وضّاع ، انظر ضعفاء ابن الجوزي ٣٢٥٤ و «الميزان» ٤ / ٧٢.

(٤٧٧) حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة ، فأخرجه الطبري ١٢٨٠٦ ، وفيه قيس بن الربيع ، وهو غير قوي ، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي. وأما حديث أنس. فأخرجه البخاري ٤٦٢١ و ٤٣٦٢ و ٧٢٩٥ ومسلم ٢٣٥٩ والنسائي في «التفسير» ١٧٤ والترمذي ٣٠٥٦ وابن حبان ٦٤٢٩ والبغوي في «التفسير» ٨٣٩ من طرق عن أنس ، رووه بألفاظ متقاربة ، وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» ٨٠١ بتخريجنا.

(٤٧٨) صحيح. أخرجه مسلم ١٣٣٧ والنسائي ٥ / ١١٠ ـ ١١١ وأحمد ٢ / ٥٠٨ وابن حبان ٣٧٠٤ و ٣٧٠٥ والبيهقي ٤ / ٣٢٦ والدارقطني ٢ / ٢٨١ والطبري ١٢٨٠٩. وأخرجه الطبري ١٢٨٠٨ من طريق عبد الرحيم بن سليمان والدارقطني ٢ / ٢٨٢ عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم الهجري ـ وهو ضعيف ـ عن أبي عياض عن أبي هريرة.

__________________

(١) لاحى : أي خاصم.


ابن محصن ، فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فقال : أما إنّي لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم ، اسكتوا عني ما سكتّ عنكم ، فإنما هلك من هلك ممّن كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية ، رواه محمّد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل : إنّ السّائل عن ذلك الأقرع بن حابس.

(٤٧٩) والثالث : أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضلّ ناقته : أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجويرية (١) عن ابن عباس.

(٤٨٠) والرابع : أن قوما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، فنزلت هذه الآية ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير.

والخامس : أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات ، فنزلت هذه الآية ، روي هذا المعنى عن عكرمة.

والسادس : أنها نزلت في تمنّيهم الفرائض ، وقولهم : وددنا أنّ الله تعالى أذن لنا في قتال المشركين ، وسؤالهم عن أحبّ الأعمال إلى الله ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

قال الزجّاج : (أَشْياءَ) في موضع خفض إلا أنها فتحت ، لأنها لا تنصرف. و (تُبْدَ لَكُمْ) : تظهر لكم. فأعلم الله تعالى أنّ السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع ، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن عباس : إن تبد لكم ، أي : إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي : حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إيجاب ، أو نهي أو حكم ، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إليه حاجة ، فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) قولان : أحدهما : أنها إشارة إلى الأشياء. والثاني : إلى المسألة. فعلى القول الأوّل في الآية تقديم وتأخير. والمعنى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، عفا الله عنها. ويكون معنى : عفا الله عنها : أمسك عن ذكرها ، فلم يوجب فيها حكما. وعلى القول الثاني ، الآية على نظمها ، ومعنى : عفا الله عنها : لم يؤاخذ بها.

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

قوله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) في هؤلاء القوم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : أنهم قوم صالح حين سألوا النّاقة ، هذا

____________________________________

(٤٧٩) صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٢٢ والطبري ١٢٧٩٨ والطبراني ١٢٦٩٥ والواحدي ٤١٨ والبغوي ٨٤٢ كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام القرآن» ٨٠٢ بتخريجنا.

(٤٨٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٨١٥ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، فيه خصيف الجزري ، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ ، وكرره الطبري ١٢٨١٦ عن عكرمة مرسلا ، وهو أصح ، والمتقدم عن ابن عباس أصح ، وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة ، والظاهر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سئل مسائل كثيرة ، فنزلت هذه الآية في ذلك جميعا ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٨٠٤ بتخريجنا.

__________________

(١) وقع في الأصل «الجورية» والمثبت عن كتب الحديث.


على قول السّدّيّ. وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات. والثالث : أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها ، فلو ذبحوا بقرة لأجزأت ، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم ، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحجّ ، إذ لو أراد الله أن يشدّد عليهم بالزّيادة في الفرض لشدّد. والرابع : أنهم الذين قالوا لنبي لهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، وهذا عن ابن زيد أيضا ، وهو يخرج على من قال : إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنّيا لذلك. قال مقاتل : كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم ، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) أي : ما أوجب ذلك ، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال : أحدها : أنها النّاقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرا نحروه ، فأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى شقّوا أذنها ، وكانت حراما على النّساء لا ينتفعن بها ، ولا يذقن من لبنها ، ومنافعها للرّجال خاصّة ، فإذا ماتت ، اشترك فيها الرّجال والنّساء ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة. والثاني : أنها النّاقة تلد خمس إناث ليس فيهنّ ذكر ، فيعمدون إلى الخامسة ، فيبتكون أذنها ، قاله عطاء. والثالث : أنها ابنة السّائبة ، قاله ابن إسحاق ، والفرّاء. قال ابن إسحاق : كانت النّاقة إذا تابعت بين عشر إناث ، ليس فيهنّ ذكر ، سيّبت ، فإذا نتجت بعد ذلك أنثى ، شقّت أذنها ، وسمّيت بحيرة ، وخلّيت مع أمّها. والرابع أنها النّاقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي : شقّوها ، وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها لم يركبها ، قاله الزجّاج.

فأمّا «السّائبة» ، فهي فاعلة بمعنى : مفعولة ، وهي المسيّبة ، كقوله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ*) : أي مرضيّة. وفي السّائبة خمسة أقوال : أحدها : أنها التي تسيّب من الأنعام للآلهة ، لا يركبون لها ظهرا ، ولا يحلبون لها لبنا ، ولا يجزّون منها وبرا ، ولا يحملون عليها شيئا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أن الرجل كان يسيّب من ماله ما شاء ، فيأتي به خزنة الآلهة ، فيطعمون ابن السبيل من ألبانه ولحومه إلّا النّساء ، فلا يطعمونهنّ شيئا منه إلا أن يموت ، فيشترك فيه الرجال والنساء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقال الشّعبيّ : كانوا يهدون آلهتهم الإبل والغنم ، ويتركونها عند الآلهة ، فلا يشرب منها إلّا رجل ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. والثالث : أنها النّاقة إذا ولدت عشرة أبطن ، كلّهنّ إناث ، سيّبت ، فلم تركب ، ولم يجزّ لها وبر ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء ، ذكره الفرّاء. والرابع : أنها البعير يسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله تعالى من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك ، قاله ابن قتيبة. قال الزجّاج : كان الرجل إذا نذر لشيء من هذا ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى. والخامس : أنه البعير يحجّ عليه الحجّة ، فيسيّب ، ولا يستعمل شكرا لنجحها ، حكاه الماورديّ عن الشّافعيّ.


وفي «الوصيلة» خمسة أقوال : أحدها : أنها الشّاة إذا نتجت سبعة أبطن ، نظروا إلى السّابع ، فإن كان أنثى ، لم ينتفع النساء منها بشيء إلّا أن تموت ، فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا ، ذبحوه ، فأكلوه جميعا ، وإن كان ذكرا وأنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، فتترك مع أخيها فلا تذبح ، ومنافعها للرجال دون النساء ، فإذا ماتت ، اشترك فيها الرجال والنساء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إلى نحوه ابن قتيبة ، فقال : إن كان السابع ذكرا ، ذبح فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كان أنثى ، تركت في النّعم ، وإن كان ذكرا وأنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، فلم تذبح ، لمكانها ، وكانت لحومها حراما على النساء ، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شيء فيأكله الرّجال والنّساء. والثاني : أنها النّاقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى ، ثم تثنّي بالأنثى ، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم ، ويدعونها الوصيلة ، أي : وصلت إحداهما بالأخرى ، ليس بينهما ذكر ، رواه الزّهري عن ابن المسيّب. والثالث : أنها الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ، فيدعونها الوصيلة ، وما ولدت بعد ذلك فللذّكور دون الإناث ، قاله ابن إسحاق. والرابع : أنها الشّاة تنتج سبعة أبطن ، عناقين عناقين (١) ، فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا ، قيل : وصلت أخاها ، فجرت مجرى السّائبة ، قاله الفرّاء. والخامس : أنّ الشاة كانت إذا ولدت أنثى ، فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذّكر لآلهتهم ، قاله الزجّاج.

وفي «الحام» ستة أقوال : أحدها : أنه الفحل ، ينتج من صلبه عشرة أبطن ، فيقولون : قد حمى ظهره ، فيسيّبونه لأصنامهم ، ولا يحمل عليه ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، واختاره أبو عبيدة ، والزجّاج. والثاني : أنه الفحل يولد لولده ، فيقولون : قد حمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه ، ولا يجزّون وبره ، ولا يمنعونه ماء ، ولا مرعى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء ، وابن قتيبة. والثالث : أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته ، وبنات بناته ، قاله عطاء. والرابع : أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات ، قاله ابن زيد. والخامس : أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل ، قاله أبو روق. والسادس : أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين ، فيخلّى ويقال : قد حمى ظهره ، ذكره الماورديّ عن الشّافعيّ.

قال الزجّاج : والذي ذكرناه في البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عزوجل في هذه الآية أنه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئا ، وإنّ الذين كفروا افتروا على الله عزوجل. قال مقاتل : وافتراؤهم : قولهم : إنّ الله حرّمه ، وأمرنا به.

وفي قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قولان : أحدهما : وأكثرهم ، يعني : الأتباع لا يعقلون أنّ ذلك كذب على الله من الرّؤساء الذين حرّموا ، قاله الشّعبيّ. والثاني : لا يعقلون أنّ هذا التّحريم من الشّيطان ، قاله قتادة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

__________________

(١) في «اللسان» : العناق : الأنثى من ولد المعز.


قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني : إذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرّموا على أنفسهم هذه الأنعام : (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من تحليل ما حرّمتم على أنفسكم ، قالوا : (حَسْبُنا) أي : يكفينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدّين والمنهاج (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الدّين (وَلا يَهْتَدُونَ) له ، أيتّبعونهم في خطئهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) في سبب نزولها قولان :

(٤٨١) أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى هجر ، وعليهم المنذر بن ساوى يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فليؤدّوا الجزية ، فلمّا أتاه الكتاب ، عرضه على من عنده من العرب واليهود والنّصارى والمجوس ، فأقرّوا بالجزية ، وكرهوا الإسلام ، فكتب إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا العرب فلا تقبل منهم إلّا الإسلام أو السّيف ، وأمّا أهل الكتاب والمجوس ، فاقبل منهم الجزية» فلمّا قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلمت العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية ، فقال منافقو مكّة : عجبا لمحمّد يزعم أنّ الله بعثه ليقاتل الناس كافّة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل الكتاب الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام ، وقد ردّها على إخواننا من العرب ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٤٨٢) وقال مقاتل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الجزية إلّا من أهل الكتاب فلمّا أسلمت العرب طوعا وكرها ، قبلها من مجوس هجر ، فطعن المنافقون في ذلك ، فنزلت هذه الآية.

والثاني : أنّ الرجل كان إذا أسلم ، قالوا له : سفّهت آباءك وضلّلتهم ، وكان ينبغي لك أن تنصرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد (١).

قال الزجّاج : ومعنى الآية : إنّما ألزمكم الله أمر أنفسكم ، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم ، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف ، لأنّ المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له ، فهو ضالّ ، وليس بمهتد. وقال عثمان بن عفّان : لم يأت تأويلها بعد. وقال ابن مسعود : تأويلها في آخر الزّمان : قولوا ما قبل منكم ، فإذا غلبتم ، فعليكم أنفسكم. وفي قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قولان :

____________________________________

(٤٨١) لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس. وكذا عزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٠ للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط ، الكلبي يضع الحديث ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس ، وقد رويا تفسيرا مصنوعا ونسباه لابن عباس ، راجع ترجمتهما في «الميزان» وهذا المتن أمارة الوضع لائحة عليه.

(٤٨٢) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيث أطلق ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.

__________________

(١) عزاه المصنف لابن زيد ، واسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو واه إذا وصل الحديث ، فكيف إذا أرسله؟! فهذا خبر لا شيء.


أحدهما : لا يضرّكم من ضلّ بترك الأمر بالمعروف إذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ، قاله حذيفة بن اليمان ، وابن المسيّب. والثاني : لا يضرّكم من ضلّ من أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية ، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تنبيه على الجزاء.

فصل : فعلى ما ذكرنا عن الزجّاج في معنى الآية ، هي محكمة ، وقد ذهب قوم من المفسّرين إلى أنّها منسوخة ، ولهم في ناسخها قولان : أحدهما : أنه آية السّيف. والثاني : أنّ آخرها نسخ أوّلها. روي عن أبي عبيد أنه قال : ليس في القرآن آية جمعت النّاسخ والمنسوخ غير هذه ، وموضع المنسوخ منها إلى قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) والنّاسخ : قوله : إذا اهتديتم. والهدى هاهنا : الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ).

(٤٨٣) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان تميم الدّاريّ ، وعديّ بن بدّاء يختلفان إلى مكّة ، فصحبهما رجل من قريش من بني سهم ، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين ، فأوصى إليهما بتركته ، فلمّا قدما ، دفعاها إلى أهله ، وكتما جاما كان معه من فضّة ، وكان مخوّصا بالذهب ، فقالا : لم نره ، فأتي بهما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحلفهما بالله : ما كتما ، وخلّى سبيلهما ، ثمّ إن الجام وجد عند قوم من أهل مكّة ، فقالوا : ابتعناه من تميم الدّاريّ ، وعديّ بن بدّاء ، فقام أولياء السّهميّ ، فأخذوا الجام ، وحلف رجلان منهم بالله : إنّ هذا الجام جام صاحبنا ، وشهادتنا أحقّ من شهادتهما ، وما اعتدينا ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها.

قال مقاتل : واسم الميّت : بزيل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السّهميّ ، وكان تميم ، وعديّ نصرانيين ، فأسلم تميم ، ومات عديّ نصرانيا.

فأمّا التّفسير : فقال الفرّاء : معنى الآية : ليشهدكم اثنان إذا حضر أحدكم الموت. قال الزجّاج : المعنى : شهادة هذه الحال شهادة اثنين ، فحذف «شهادة» ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباريّ : معنى الآية : ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت ، وأردتم الوصيّة اثنان. وفي هذه الشّهادة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكّام ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي موسى ، وشريح ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعيّ ، والثّوريّ ، والجمهور. والثاني : أنها أيمان الوصيّ بالله تعالى إذا

____________________________________

(٤٨٣) صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٨٠ وأبو داود ٣٦٠٦ والترمذي ٣٠٦٠ والدارقطني ٤ / ١٦٦ والطبري ١٢٦٧٠ والجصاص في «الأحكام» ٤ / ١٦٠ والطبراني ١٢ / ٧١ والواحدي ٤٢١ والبيهقي ١٠ / ١٦٥ كلهم من حديث ابن عباس به ، فهو من مسند ابن عباس ، وهو مختصر كما ترى ، وانظر «أحكام ابن العربي» ٨٢٦ و «تفسير الشوكاني» ٨٧٢ بتخريجي ولله الحمد والمنة.


ارتاب الورثة بهما ، وهو قول مجاهد. والثالث : أنها شهادة الوصيّة ، أي : حضورها ، كقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) (١) ، جعل الله الوصيّ هاهنا اثنين تأكيدا ، واستدلّ أرباب هذا القول بقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) قالوا : والشّاهد لا يلزمه يمين. فأمّا «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدّماته. وقوله تعالى : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) ، أي : وقت الوصيّة. وفي قوله : «منكم» قولان : أحدهما : من أهل دينكم وملّتكم ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير وشريح ، وابن سيرين ، والشّعبيّ ، وهو قول أصحابنا. والثاني : من عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله الحسن وعكرمة ، والزّهريّ ، والسّدّيّ. قوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ) تقديره : أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله تعالى : (مِنْ غَيْرِكُمْ) قولان : أحدهما : من غير ملّتكم ودينكم ، قاله أرباب القول الأوّل. والثاني : من غير عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله أرباب القول الثّاني. وفي «أو» قولان : أحدهما : أنها ليست للتّخيير ، وإنما المعنى : أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم ، وبه قال ابن عباس ، وابن جبير. والثاني : أنها للتّخيير ، ذكره الماورديّ.

فصل : والقائل بأنّ المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة ، أو من غير القبيلة لا يشكّ في إحكام هذه الآية. فأمّا القائل بأنّ المراد بقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصيّة في السّفر ، فلهم فيها قولان : أحدهما : أنها محكمة ، والعمل على هذا باق ، وهو قول ابن عباس. وابن المسيّب ، وابن جبير ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشّعبيّ ، والثّوريّ ، وأحمد في آخرين. والثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) وهو قول زيد بن أسلم ، وإليه يميل أبو حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، قالوا : وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأوّل أصحّ ، لأنّ هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهنّ بالحيض والنّفاس والاستهلال.

قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) هذا الشّرط متعلّق بالشهادة ، والمعنى : ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض ، أي : سافرتم. (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) فيه محذوف ، تقديره : وقد أسندتم الوصيّة إليهما ، ودفعتم إليهما مالكم (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) خطاب للورثة إذا ارتابوا. وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله : «أو آخران من غيركم» أي : من الكفّار ، فأمّا إذا كانا مسلمين ، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصّلاة قولان (٣) : أحدهما : صلاة العصر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال شريح ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والشّعبيّ. والثاني : من بعد صلاتهما في دينهما ، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس (٤). وقال به. وقال الزجّاج : كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة : لأنه وقت يعظّمه أهل الأديان.

قوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أي : فيحلفان (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٣.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٥ / ١١١ : وأولى القولين بالصواب عندنا ، قول من قال : «تحبسونهما من بعد صلاة العصر». وهي الصلاة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، لقربه من غروب الشمس.

(٤) السدي لم يسمع من ابن عباس ، وهذا قول منكر ، ليس بشيء.


الآية : إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفّى ، فاتّهمهما الوارث ، استحلفا بعد صلاة العصر : أنهما لم يسرقا ، ولم يخونا. فالشّرط في قوله : «إن ارتبتم» متعلّق بتحبسونهما ، كأنه قال : إن ارتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما ، فيحلفان بالله : (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي : بأيماننا ، وقيل : بتحريف شهادتنا ، فالهاء عائدة على المعنى. (ثَمَناً) أي : عرضا من الدّنيا (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي : ولو كان المشهود له ذا قرابة منّا ، وخصّ ذا القرابة ، لميل القريب إلى قريبه. والمعنى : لا نحابي في شهادتنا أحدا ، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزّور (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) إنما أضيفت إليه ، لأمره بإقامتها ، ونهيه عن كتمانها ، وقرأ سعيد بن جبير : «ولا نكتم شهادة» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها ، وكسر الهاء ، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيّب ، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجونيّ «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء ، وقرأ الشّعبيّ وابن السّميفع «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة ، ومدّها ، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية ، وعمرو بن دينار مثله ، إلّا أنهما نصبا الهاء.

واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشّاهدين ، على ثلاثة أقوال : أحدها : لكونهما من غير أهل الإسلام ، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعريّ. والثاني : لوصيّة وقعت بخطّ الميّت وفقد ورثته بعض ما فيها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : لأنّ الورثة كانوا يقولون : كان مال ميّتنا أكثر ، فاستخانوا الشّاهدين ، قاله الحسن ، ومجاهد.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧))

قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً). قال المفسّرون :

(٤٨٤) لمّا نزلت الآية الأولى ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عديّا وتميما ، فاستحلفهما عند المنبر : أنهما لم يخونا شيئا ممّا دفع إليهما فحلفا ، وخلّى سبيلهما ، ثم ظهر الإناء الذي كتماه ، فرفعهما أولياء الميّت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً).

ومعنى «عثر» : اطّلع أي : إن عثر أهل الميّت ، أو من يلي أمره ، على أنّ الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا (اسْتَحَقَّا إِثْماً) لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أي : مقام هذين الخائنين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ : «استحق» بضم التاء ، (الْأَوْلَيانِ) على التّثنية. وفي قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) قولان : أحدهما : أنهما الذّمّيان. والثاني : الوليّان.

فعلى الأوّل في معنى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أربعة أقوال : أحدها : استحقّ عليهم الإيصاء ، قال ابن الأنباريّ : المعنى : من القوم الذين استحقّ فيهم الإيصاء ، استحقّه الأوليان بالميّت ، وكذلك قال

____________________________________

(٤٨٤) عزاه المصنف للمفسرين ، وأصله محفوظ بما تقدم سوى لفظ «عند المنبر» فهذا لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة الموصولة بل ولا المرسلة ، فهو واه.


الزجّاج : المعنى : من الذين استحقّت الوصيّة أو الإيصاء عليهم. والثاني : أنه الظّلم ، والمعنى : من الذين استحقّ عليهم ظلم الأوّليان فحذف الظّلم ، وأقام الأوليين مقامه ، ذكره ابن القاسم أيضا. والثالث : أنه الخروج ممّا قاما به من الشّهادة ، لظهور خيانتهما. والرابع : أنه الإثم ، والمعنى : استحقّ منهم الإثم ، ونابت «على» عن «من» كقوله تعالى : (عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (١) أي : منهم. وقال الفرّاء : «على» بمعنى «في» كقوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (٢) أي : في ملكه ، ذكر القولين أبو عليّ الفارسيّ. وعلى هذه الأقوال مفعول «استحق» محذوف مقدّر.

وعلى القول الثاني في معنى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) قولان : أحدهما : استحقّ منهم الأوليان ، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني : جنى عليهم الإثم ، ذكره الزجّاج.

فأمّا «الأوليان» فقال الأخفش : الأوليان : اثنان ، واحدهما : الأولى ، والجمع : الأولون : ثم للمفسّرين فيهما قولان : أحدهما : أنهما أولياء الميّت ، قاله الجمهور ، قال الزجّاج : «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل ممّا في «يقومان» والمعنى : فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو عليّ : لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء ، أو يكون خبر مبتدإ محذوف ، كأنه قال : فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان ، أو يكون بدلا من الضّمير الذي في «يقومان» والتقدير : فيقوم الأوليان. والقول الثاني : أنّ الأوليان : هما الذّمّيّان ، والمعنى : أنّهما الأوليان بالخيانة ، ذكرهما ابن الأنباريّ ، فعلى هذا يكون المعنى : يقومان ، إلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر :

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان (٣)

أي بدلا من ماء زمزم.

وروى قرّة عن ابن كثير ، وحفص عن (٤) عاصم : «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية ، والمعنى : استحقّ عليهم الأوليان بالميّت وصيّته التي أوصى بها ، فحذف المفعول. وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «استحق» برفع التاء ، وكسر الحاء ، «الأولين» بكسر اللام ، وفتح النون على الجمع ، والتقدير : من الأوّلين الذين استحقّ فيهم الإثم ، أي : جني عليهم ، لأنّهم كانوا أوّلين في الذّكر ، ألا ترى أنه قد تقدّم (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) على قوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). وروى الحلبيّ عن عبد الوارث «الأوّلين» بفتح الواو وتشديدها ، وفتح اللام ، وسكون الياء ، وكسر النون ، وهو تثنية : أوّل. وقرأ الحسن البصريّ : «استحق» بفتح التاء والحاء ، «الأوّلان» تثنية «أوّل» على البدل من قوله : «فآخران».

وقال ابن قتيبة : أشبه الأقوال بالآية أنّ الله تعالى أراد أن يعرّفنا كيف يشهد بالوصيّة عند حضور الموت فقال : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : عدلان من المسلمين ، وعلم أنّ من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ، ويحضره الموت ، فلا يجد من يشهده من المسلمين ، فقال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، أي : من غير أهل دينكم ، فالذّمّيّان في السّفر

__________________

(١) سورة المطففين : ٢.

(٢) سورة البقرة : ١٠٢.

(٣) في «اللسان» الطهيان : كأنه اسم قلّة جبل ، والطهيان : خشبة يبرد عليها الماء. ونسب البيت للأحول الكندي.

(٤) وقع في الأصل «و» بدل «عن» والمثبت هو الصواب.


خاصّة إذا لم يوجد غيرهما ، (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أراد : تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما ، وخشيتم أن يكونا قد خانا ، أو بدّلا فإذا حلفا ، مضت شهادتهما ، فإن عثر أي : ظهر على أنّهما استحقّا إثما ، أي : حنثا في اليمين بكذب أو خيانة ، فآخران ، أي : قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميّت الذين استحقّ منهم الأوليان ، وهما الوليّان يقال : هذا الأولى بفلان ، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال : هذا الأولى ، وهذان الأوليان ، و «عليهم» بمعنى : «منهم» فيحلفان بالله : لقد ظهرنا على خيانة الذّمّيين ، وكذبهما ، وما اعتدينا عليهما ، ولشهادتنا أصحّ ، لكفرهما وإيماننا ، فيرجع على الذّمّيين بما اختانا ، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك. وقال غيره : لشهادتنا ، أي : ليميننا أحقّ ، وسمّيت اليمين شهادة ، لأنها كالشّهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك. قال المفسّرون : فلمّا نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطّلب بن أبي وداعة السّهميّان ، فحلفا بالله ، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميّت.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى) أي : ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين ، أقرب إلى إتيان أهل الذّمّة بالشّهادة على وجهها ، أي : على ما كانت ، وأقرب أن يخافوا أن تردّ أيمان أولياء الميّت بعد أيمانهم ، فيحلفون على خيانتهم ، فيفتضحوا ، ويغرّموا ، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك. (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا كاذبين ، أو تخونوا أمانة ، واسمعوا الموعظة.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) قال الزجّاج : نصب «يوم» محمول على قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) : واتّقوا يوم جمعه للرّسل. ومعنى مسألته للرّسل توبيخ الذين أرسلوا إليهم. فأمّا قول الرّسل : (لا عِلْمَ لَنا) ففيه ستة أقوال (١) : أحدها : أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنّم ، فقالوا : (لا عِلْمَ لَنا) ثم تردّ إليهم عقولهم ، فينطلقون بحجّتهم ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أن المعنى (لا عِلْمَ لَنا) إلّا علم أنت أعلم به منّا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنّ المراد بقوله تعالى : (ما ذا أُجِبْتُمْ) : ما ذا عملوا بعدكم ، وأحدثوا ، فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا) ، قاله ابن جريج ، وفيه بعد. والرابع : أنّ المعنى : (لا عِلْمَ لَنا) مع علمك ، لأنك تعلم الغيب ، ذكره الزجّاج. والخامس : أنّ المعنى : (لا عِلْمَ لَنا) كعلمك ، إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا ، ونحن نعلم ما أظهروا ، ولا نعلم ما أضمروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ، هذا اختيار ابن الأنباريّ. والسادس : (لا عِلْمَ لَنا) بجميع أفعالهم إذ كنّا نعلم بعضها وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا ، وإنّما يستحقّ الجزاء بما تقع به الخاتمة ، حكاه ابن الأنباريّ. قال المفسّرون : إذا ردّ الأنبياء

__________________

(١) صوب الإمام الطبري رحمه‌الله ٥ / ١٢٦ ، القول الثاني.


العلم إلى الله أبلست الأمم ، وعلمت أنّ ما أتته في الدنيا غير غائب عنه ، وأنّ الكلّ لا يخرجون عن قبضته.

قوله تعالى : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قال الخطّابيّ : العلّام : بمنزلة العليم ، وبناء «فعّال» بناء التّكثير ، فأمّا «الغيوب» فجمع غيب ، وهو ما غاب عنك.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) قال ابن عباس : معناه : وإذ يقول.

قوله تعالى : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) في تذكيره النّعم فائدتان : إحداهما : إسماع الأمم ما خصّه به من الكرامة. والثانية : توكيد حجّته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهّرها ، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن : المراد بذكر النّعمة : الشّكر. فأمّا النّعمة ، فلفظها لفظ الواحد ، ومعناها الجمع. فإن قيل : لم قال هاهنا : (فَتَنْفُخُ فِيها) وفي آل عمران (فيه) (١)؟ فالجواب : أنه جائز أن يكون ذكر الطّير على معنى الجميع ، وأنّث على معنى الجماعة ، وجاز أن يكون «فيه» للطّير ، «وفيها» للهيئة ذكره أبو عليّ الفارسيّ.

قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) قرأ ابن كثير ، وعاصم هاهنا ، وفي «هود» و «الصّف» : (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، وقرأ في «يونس» : (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) بألف. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، الأربعة «سحر مبين» بغير ألف ، فمن قرأ «سحر» أشار إلى ما جاء به ، ومن قرأ «ساحر» ، أشار إلى الشّخص.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

وفي الوحي إلى الحواريين قولان : أحدهما : أنه بمعنى الإلهام ، قاله الفرّاء. وقال السّدّيّ : قذف في قلوبهم. والثاني : أنه بمعنى الأمر ، فتقديره : أمرت الحواريين ، و «إلى» صلة ، قاله أبو عبيدة.

وفي قوله تعالى : (وَاشْهَدْ) قولان : أحدهما : أنهم يعنون الله تعالى. والثاني : عيسى عليه‌السلام. وقوله تعالى : (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي : مخلصون للعبادة والتّوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدّم.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢))

__________________

(١) سورة آل عمران : ٤٩.


قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قال الزجّاج : أي : هل يقدر. وقرأ الكسائيّ : «هل تستطيع» بالتاء ، ونصب الرّبّ. قال الفرّاء : معناه : هل تقدر أن تسأل ربّك. قال ابن الأنباريّ : ولا يجوز لأحد أن يتوهّم أنّ الحواريين شكّوا في قدرة الله ، وإنّما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ، وهو يعلم أنه مستطيع ، ولكنّه يريد : هل يسهل عليك. وقال أبو عليّ : المعنى : هل يفعل ذلك بمسألتك إيّاه. وزعم بعضهم أنّهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم ، فردّ عليهم عيسى بقوله : اتّقوا الله ، أن تنسبوه إلى عجز ، والأوّل أصحّ.

فأمّا «المائدة» فقال اللغويّون : المائدة : كلّ ما كان عليه من الأخونة (١) طعام ، فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، والكأس : كلّ إناء فيه شراب فإذا لم يكن فيه شراب ، فليس بكأس ، ذكره الزجّاج. قال الفرّاء : وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهديّة : هو المهدى ، مقصور ، ما دامت عليه الهديّة ، فإذا كان فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقا أو خوانا أو غير ذلك. وذكر الزجّاج عن أبي عبيدة أنّ لفظها فاعلة ، وهي في المعنى مفعولة ، مثل (عِيشَةٍ راضِيَةٍ*). قال أبو عبيدة : وهي من العطاء ، والممتاد : المفتعل المطلوب منه العطاء ، قال الشاعر :

إلى أمير المؤمنين الممتاد (٢)

وماد زيد عمرا : إذا أعطاه. قال الزجّاج : والأصل عندي في «مائدة» أنها فاعلة من : ماد يميد : إذا تحرّك ، فكأنّها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة : المائدة : الطّعام ، من : مادني يميدني ، كأنّها تميد الآكلين ، أي : تعطيهم ، أو تكون فاعلة بمعنى : مفعول بها ، أي : ميد بها الآكلون.

قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : اتّقوه أن تسألوه البلاء ، لأنها إن نزلت وكذّبتم ، عذّبتم ، قاله مقاتل. والثاني : أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم ، ذكره أبو عبيد. والثالث : أن تشكّوا في قدرته.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))

قوله تعالى : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) هذا اعتذار منهم بيّنوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفي إرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أرادوا ذلك للحاجة ، وشدّة الجوع ، قاله ابن عباس. والثاني : ليزدادوا إيمانا ، ذكره ابن الأنباريّ. والثالث : للتبرّك بها ، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ثلاثة أقوال : أحدها : تطمئنّ إلى أنّ الله تعالى قد بعثك إلينا نبيا. والثاني : إلى أنّ الله تعالى قد اختارنا أعوانا لك. والثالث : إلى أنّ الله تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس : قال لهم عيسى : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثمّ لا تسألونه شيئا إلا أعطاكم؟ فصاموا ، ثم سألوا المائدة. فمعنى : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في أنّا إذا صمنا ثلاثين يوما لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا. وفي هذا العلم قولان : أحدهما : أنّه علم يحدث لهم لم يكن ، وهو قول من قال : كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني : أنه زيادة علم إلى علم ، ويقين إلى يقين ، وهو قول من قال : كان سؤالهم بعد

__________________

(١) في «اللسان» أخاوين جمع خوان : وهو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل.

(٢) هذا الرجز لرؤبة كما في اللسان (ميد). والممتاد : المطلوب منه العطاء.


معرفتهم. وقرأ الأعمش : «وتعلم» بالتاء ، والمعنى : وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى : (مِنَ الشَّاهِدِينَ) أربعة أقوال : أحدها : من الشّاهدين لله بالقدرة ، ولك بالنّبوّة. والثاني : عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرّيّة عند هذا السّؤال. والثالث : من الشّاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدّالة على أنّك نبيّ. والرابع : من الشّاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤))

قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) وقرأ ابن محيصن ، وابن السّميفع ، والجحدريّ : «لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة ، وتخفيف الواو ، والمعنى : يكون اليوم الذي نزلت فيه عيدا لنا ، نعظّمه نحن ومن بعدنا ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. وقال كعب : أنزلت عليهم يوم الأحد ، فاتّخذوه عيدا. وقال ابن قتيبة : عيدا ، أي : مجمعا. قال الخليل بن أحمد : العيد : كلّ يوم يجمع ، كأنّهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباريّ : سمّي عيدا للعود من التّرح إلى الفرح.

قوله تعالى : (وَآيَةً مِنْكَ) أي علامة منك تدلّ على توحيدك ، وصحّة نبوّة نبيّك. وقرأ ابن السّميفع ، وابن محيصن ، والضّحّاك «وأنه منك» بفتح الهمزة ، وبنون مشدّدة.

وفي قوله تعالى : (وَارْزُقْنا) قولان : أحدهما : ارزقنا ذلك من عندك. والثاني : ارزقنا الشّكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

قوله تعالى : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) قرأ نافع وعاصم وابن عامر «منزّلها» بالتّشديد ، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعد بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء : هل نزلت أم لا؟ على قولين (١) :

أحدهما : أنها نزلت ، قاله الجمهور ، فروى وهب بن منبّه عن أبي عثمان النّهديّ ، عن سلمان الفارسيّ قال : لمّا رأى عيسى أنهم قد جدّوا في طلبها لبس جبّة من شعر ، ثم توضّأ ، واغتسل ، وصفّ قدميه في محرابه حتى استويا ، وألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وطأطأ رأسه خضوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت تسيل دموعه على خدّه ، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلّت الأرض من دموعه حيال وجهه ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء ، فقال : اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة من السّماء ، فبينما عيسى كذلك ، هبطت عليهم مائدة من السماء ، سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من تحتها ، وغمامة من فوقها ، وعيسى يبكي ويتضرّع ، ويقول : إلهي اجعلها سلامة ، لا تجعلها عذابا ، حتى استقرّت بين يديه ، والحواريّون من حوله ، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها ، وإذا عليها منديل مغطّى ، فقال عيسى : أيّكم أوثق بنفسه وأقلّ بلاء عند ربّه فليأخذ

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٥ / ١٣٥ : والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى ذلك.


هذا المنديل ، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا : يا روح الله أنت أولانا بذلك ، فاكشف عنها ، فاستأنف وضوا جديدا ، وصلّى ركعتين ، وسأل ربّه أن يأذن له بالكشف عنها ، ثم قعد إليها ، وتناول المنديل ، فإذا عليها سمكة مشويّة ، ليس فيها شوك ، وحولها من كل البقل ما خلا الكرّاث ، وعند رأسها الخلّ ، وعند ذنبها الملح ، وحولها خمسة أرغفة ، على رغيف تمر ، وعلى رغيف زيتون ، وعلى رغيف خمس رمّانات. فقال شمعون رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدّنيا هذا ، أمّن طعام الجنّة؟ فقال عيسى : سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون : لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا. قال عيسى : ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنة ، إنما هو شيء ابتدعه الله ، فقال له : «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريّون : يا روح الله إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية ، فقال : سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثمّ أقبل على السّمكة فقال : عودي بإذن الله حيّة طريّة ، فعادت تضطرب على المائدة ، ثم قال : عودي كما كنت ، فعادت مشويّة ، فقال : يا روح الله كن أنت أوّل من يأكل منها ، فقال : معاذ الله بل يأكل منها من سألها ، فلمّا رأوا امتناعه ، خافوا أن يكون نزولها عقوبة ، فلمّا رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزّمنى واليتامى ، فقال : كلوا من رزق ربّكم ، ودعوة نبيّكم ، ليكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان ، يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين نزلت ، فصحّ كلّ مريض ، واستغنى كلّ فقير أكل منها ، ثمّ نزلت بعد ذلك عليهم ، فازدحموا عليها ، فجعلها عيسى نوبا بينهم ، فكانت تنزل عليهم أربعين يوما ، تنزل يوما وتغبّ (١) يوما ، وكانت تنزل عند ارتفاع الضّحى ، فيأكلون منها حتى إذا قالوا ، ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلّها في الأرض (٢). وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيّة ، حيث كانوا. وقال غيره : نزلت يوم الأحد مرّتين. وقيل : نزلت غدوة وعشيّة يوم الأحد ، فلذلك جعلوه عيدا. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال : أحدها : أنه خبز ولحم ، روي عن عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٤٨٥) «نزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما».

____________________________________

(٤٨٥) ضعيف جدا ، شبه موضوع ، والصواب وقفه. أخرجه الترمذي ٣٠٦١ والطبري ١٣٠١٦ من حديث عمار مرفوعا ، وقال الترمذي : رواه غير واحد عن سعيد به موقوفا ، وهو أصح من المرفوع ، ولا نعلم للمرفوع أصلا اه. قلت : إسناده واه ، وله علل ثلاث : الأولى : رواه غير واحد موقوفا. الثانية : قتادة مدلس ، وقد عنعن. الثالثة : خلاس كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه. وقد أخرجه الطبري ١٣٠١٨ عن قتادة عن خلاس عن عمار به موقوفا ، ورجاله رجال الشيخين سوى خلاس روى له البخاري متابعة. وأخرجه الطبري ١٣٠١٥ من وجه آخر عن عمار ، وفيه راو لم يسم. وأخرجه الطبري ١٣٠١٩ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا ... فذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة ، فلو كان هذا الحديث مرفوعا عند قتادة لما رواه بصيغة التمريض ، ومن غير عزو لأحد. فالأشبه في هذا كونه موقوفا ، والموقوف ضعيف جدا ، شبه موضوع.

__________________

(١) في «اللسان» : النّوب : جمع نوبة : وهي الفرصة والدّولة. والغبّ : ورد يوم ، وظمأ آخر.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ١٥٤ : هذا أثر غريب جدا ، قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله سبحانه وتعالى ـ أعلم.

وكل هذه الآثار تدل على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل ، أيام عيسى ابن مريم ، إجابة من الله لدعوته ، وكما دل على ذلك ظاهر السياق في القرآن العظيم.


والثاني : أنها سمكة مشويّة ، وخمس أرغفة ، وتمر ، وزيتون ، ورمّان. وقد ذكرناه عن سلمان. والثالث : ثمر من ثمار الجنّة ، قاله عمّار بن ياسر ، وقال قتادة : ثمر من ثمار الجنة ، وطعام من طعامها. والرابع : خبز ، وسمك ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وأبو عبد الرّحمن السلميّ. والخامس : قطعة من ثريد ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والسادس : أنه أنزل عليها كل شيء إلا اللحم ، قاله سعيد بن جبير. والسابع : سمكة فيها طعم كلّ شيء من الطعام ، قاله عطيّة العوفيّ. والثامن : خبز أرز وبقل ، قاله ابن السّائب.

والقول الثاني : أنها لم تنزل ، روى قتادة عن الحسن أنّ المائدة لم تنزل ، لأنّه لمّا قال الله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قالوا : لا حاجة لنا فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام ، فعرضها عليهم ، وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا ، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه ، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ، ولم ينزل عليهم شيء ، والأوّل أصحّ.

قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي : بعد إنزال المائدة. وفي العذاب المذكور قولان :

أحدهما : أنه المسخ. والثاني : جنس من العذاب لم يعذّب به أحد سواهم. قال الزجّاج : ويجوز أن يعجّل لهم في الدنيا ، ويجوز أن يكون في الآخرة.

وفي «العالمين» قولان : أحدهما : أنه عامّ. والثاني : عالمو زمانهم.

وقد ذكر المفسّرون أنّ جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال :

(٤٨٦) أحدها : أنهم أمروا أن لا يخونوا ، ولا يدّخروا ، فخانوا وادّخروا ، فمسخوا قردة وخنازير ، رواه عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنّ عيسى خصّ بالمائدة الفقراء ، فتكلّم الأغنياء بالقبيح من القول ، وشكّكوا الناس فيها ، وارتابوا ، فلمّا أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم ، مسخهم الله خنازير ، قاله سلمان الفارسيّ. والثالث : أن الذين شاهدوا المائدة ، ورجعوا إلى قومهم ، فأخبروهم ، فضحك بهم من لم يشهد ، وقالوا : إنما سحر أعينكم ، وأخذ بقلوبكم ، فمن أراد الله به خيرا ، ثبت على بصيرته ، ومن أراد به فتنة ، رجع إلى كفره. فلعنهم عيسى ، فأصبحوا خنازير ، فمكثوا ثلاثة أيام ، ثمّ هلكوا ، قاله ابن عباس.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) في زمان هذا القول قولان :

أحدهما : أنه يقوله له يوم القيامة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج.

____________________________________

(٤٨٦) هو الحديث المتقدم ، المرفوع ضعيف جدا.


والثاني : أنه قاله له حين رفعه إليه ، قاله السّدّيّ ، والأوّل أصحّ.

وفي «إذ» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها زائدة ، والمعنى : وقال الله ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنها على أصلها ، والمعنى : وإذ يقول الله له ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أنها بمعنى : «إذا» ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) (١) والمعنى : إذا. قال أبو النجم :

ثمّ جزاك الله عنّي إذ جزى

جنّات عدن في السّماوات العلا

ولفظ الآية لفظ الاستفهام ، ومعناها التّوبيخ لمن ادّعى ذلك على عيسى.

قال أبو عبيدة : وإنّما قال : «إلهين» ، لأنّهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى ذكّروهما. فإن قيل : فالنّصارى لم يتّخذوا مريم إلها ، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب : أنهم لمّا قالوا : لم تلد بشرا ، وإنّما ولدت إلها ، لزمهم أن يقولوا : إنّها من حيث البعضيّة بمثابة من ولدته ، فصاروا بمثابة من قاله.

قوله تعالى : (قالَ سُبْحانَكَ) أي : براءة لك من السّوء (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي : لست أستحقّ العبادة فأدعو الناس إليها. وروى عطاء بن السّائب عن ميسرة قال : لمّا قال الله تعالى لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) رعد كلّ مفصل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله ، وما قال : إنّي لم أقل ، ولكنه قال : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ). فإن قيل : ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب : أنه تثبيت للحجّة على قومه ، وإكذاب لهم في ادّعائهم عليه أنه أمرهم بذلك ، ولأنّه إقرار من عيسى بالعجز في قوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وبالعبوديّة في قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ).

قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) قال الزجّاج : تعلم ما أضمره ، ولا أعلم ما عندك علمه ، والتّأويل : تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧))

قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) قال مقاتل : وحّدوه.

قوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي : على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم ، وقوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) فيه قولان : أحدهما : بالرّفع إلى السّماء. والثاني : بالموت عند انتهاء الأجل. و «الرّقيب» مشروح في سورة (النّساء) ، و «الشّهيد» في (آل عمران).

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) قال الحسن ، وأبو العالية : إن تعذّبهم ، فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم ، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجّاج : علم عيسى أنّ منهم من آمن ، ومنهم من أقام

__________________

(١) سورة سبأ : ٥١.


على الكفر ، فقال في جملتهم : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي : إن تعذّب من كفر منهم فإنهم عبادك ، وأنت العادل فيهم ، لأنك قد أوضحت لهم الحقّ ، فكفروا ، وإن تغفر لهم ، أي : وإن تغفر لمن أقلع منهم ، وآمن ، فذلك تفضّل منك ، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم ، وأنت في مغفرتك لهم عزيز ، لا يمتنع عليك ما تريد ، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباريّ : معنى الكلام : لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك ، فإن عذّبتهم ، فلا اعتراض عليك ، وإن غفرت لهم ـ ولست فاعلا إذا ماتوا على الكفر ـ فلا اعتراض عليك. وقال غيره : العفو لا ينقص عزّك ، ولا يخرج عن حكمك.

(٤٨٧) وقد روى أبو ذرّ قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيام ليلة بآية يردّدها : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) قرأ الجمهور برفع «اليوم» ، وقرأ نافع بنصبه على الظّرف. قال الزجّاج : المعنى : قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصّادقين صدقهم ، ويجوز أن يكون على معنى : قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصّادقين صدقهم. والمراد باليوم : يوم القيامة. وإنما خصّ نفع الصّدق به لأنّه يوم الجزاء. وفي هذا الصّدق قولان : أحدهما : أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة. والثاني : صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديق لعيسى فيما قال.

قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي : بطاعتهم ، (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه. وفي قوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنبيه على عبوديّة عيسى ، وتحريض على تعليق الآمال بالله وحده.

____________________________________

(٤٨٧) ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١١٦١ وأحمد ٥ / ١٤٩ من حديث أبي ذر ، وفي إسناده جسرة بنت دجاجة ، وثقها ابن حبان والعجلي ، وهما ممن يوثق المجاهيل ، في حين قال البخاري وهو إمام هذا الفن : عند جسرة عجائب ، راجع «تهذيب التهذيب» ١٢ / ٤٣٥.

زاد المسير في علم التفسير - ١

المؤلف:
الصفحات: 606