(٦)

شرح إعراب سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ابتداء وخبر. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا بأكثر من هذا في «أمّ القرآن» والمعنى: قولوا الحمد لله. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) نعت. (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) بمعنى خلق فإذا كانت جعل بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ابتداء وخبر ومن العرب من يقول : الذون والمعنى ثم الذين كفروا يجعلون لله عزوجل عدلا وشريكا وهو خلق هذه الأشياء وحده.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ابتداء وخبر وفي معناه قولان : أحدهما هو الذي خلق أصلكم يعني آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخر تكون النطفة خلقها الله جلّ وعزّ من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) مفعول. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ابتداء وخبر. وقال الضحّاك : قضى أجلا يعني أجل الموت و (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة فالمعنى على هذا أحكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة وقيل : قضى أجلا ما أعلمناه من أنه لا نبيّ بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أمر الآخرة ، وقيل : قضى أجلا ما نعرفه من أوقات الأهلّة والزروع وما أشبههما ، وأجل مسمّى أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت. (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) ابتداء وخبر أي تشكّون في أنه إله واحد وقيل : تمارون في ذلك.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

(وَهُوَ اللهُ) ابتداء وخبر. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه ومن أحسن ما قيل فيه : أنّ المعنى : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السموات وفي الأرض. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (ما) في موضع نصب يعلم.


(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤)

(ما) نفي ، وليست بشرط فلذلك ثبتت الياء في تأتيهم وإعراضهم عنها كفرهم بها.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

(كم) في موضع نصب بأهلكنا ولا يعمل فيه يروا وإنما يعمل في الاستفهام ما بعده. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ولم يقل «لهم» لأنه جاء على تحويل المخاطبة. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) على الحال. (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) مفعولان.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

ويقال قرطاس. (فَلَمَسُوهُ) عطف ، وجواب لو (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨)

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) بمعنى هلّا. (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) اسم ما لم يسم فاعله.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩)

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو أنزلنا إليهم ملكا على هيئته لم يروه فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم أيضا ما يلبسون على أنفسهم فكانوا يقولون : هذا ساحر مثلك وقال أبو إسحاق : كانوا يقولون لضعفتهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشكّكونهم فأعلم الله جل وعز أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللّبس كما يفعلون.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) بكسر الدال وضمّها لالتقاء الساكنين ، الكسر الأصل ، والضم لأن بعد الساكن ضمة. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي عقابه.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢)

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال الفراء : إن شئت كان هذا تمام الكلام ثم استأنفت (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وإن شئت كان في موضع نصب. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قال الأخفش : إن شئت كان (الَّذِينَ) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم ، وزعم أبو العباس أن هذا القول خطأ لأنه لا يبدل من المخاطب ، ولا المخاطب ، لا يقال مررت


بك زيد ولا مررت بي زيد ، لأن هذا لا يشكل فيبيّن ، وقيل : «الذين» نداء مفرد ، وقيل قول ثالث وهو أجودها يكون الذين في موضع رفع بالابتداء وخبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤)

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) مفعولان. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) نعت وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق : ويجوز النصب على المدح ، وقال الفراء (٢) : على القطع. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وهي قراءة العامة وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٣).

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦)

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وقرأ الكوفيون (مَنْ يُصْرَفْ) (٤) بفتح الياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، وعلى قول سيبويه الاختيار «من يصرف» بضم الياء لأن سيبويه قال : وكلّما قلّ الإضمار كان أولى. فإذا قرأ من يصرف بفتح الياء فتقديره من يصرف الله عنه العذاب وإذا قرأ من يصرف فتقديره من يصرف عنه العذاب. (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ابتداء وخبر.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩)

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ابتداء وخبر. (شَهادَةً) على البيان ، والمعنى أيّ شيء من الأشياء أكبر شهادة حتى استشهد به عليكم. (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ابتداء وخبر (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا) اسم ما لم يسم فاعله. (الْقُرْآنُ) نعت له. (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) نصب بلام كي. (وَمَنْ بَلَغَ) في موضع نصب عطف على الكاف والميم. وفي معناه قولان أحدهما وأنذر من بلغه القرآن ، والآخر ومن بلغ الحلم ودلّ بهذا على أنّ من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبّد. (أَإِنَّكُمْ) بهمزتين على الأصل وإن خففت الثانية قلت : أينّكم وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع أاإنكم وهذه لغة معروفة يجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما. (وَإِنَّنِي) على الأصل ويجوز وإني على الحذف (بَرِيءٌ) خبر «إن».

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٩٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٢٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٩١.

(٤) انظر تيسير الداني ٨٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٩١ وهي قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي.


(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) في موضع رفع بالابتداء. (يَعْرِفُونَهُ) في موضع الخبر.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع رفع نعت للذين الأول ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

(وَمَنْ أَظْلَمُ) ابتداء وخبر.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣)

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ).

أي اختبارهم يقرأ على خمسة أوجه : قرأ حمزة الكسائي ثم لم يكن (١) بالياء. (فِتْنَتُهُمْ) نصب وهذه قراءة بيّنة لأنّ : (أَنْ قالُوا) اسم «يكن» ولفظه مذكّر «فتنتهم» خبر ، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بن العلاء (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) (٢) بالتاء ، (فِتْنَتُهُمْ) نصب أنّث «أن قالوا» عند سيبويه ، لأنّ «أن قالوا» هو الفتنة ، ونظيره عند سيبويه (٣) قول العرب : ما جاءت حاجتك ، وقراءة الحسن تلتقطه بعض السيّارة [يوسف : ١٠] وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٣٠ ـ وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٤)

وقال غير سيبويه : جعل «أن قالوا» بمعنى المقالة وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ ابن كعب وما كان فتنتهم إلّا أن قالوا (٥) وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب وابن كثير وعبد الله بن عامر الشامي وعاصم من رواية حفص والأعمش من رواية المفضل والحسن وقتادة وعيسى بن عمر. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بالتاء (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع اسم تكن والخبر (إِلَّا أَنْ قالُوا) فهذه أربع قراءات والخامسة ثم لم يكن بالياء. (فتنتهم) (٦) بالرفع يذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون ومثله فمن (جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥].

(وَاللهِ) خفض بواو القسم وهي بدل من الباء لقربها منها. (رَبِّنا) نعت ومن نصب

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٤.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٤.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٩٢.

(٤) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ١٧٣ ، والكتاب ١ / ٩٣ ، والأزهية ٢٣٨ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٥٥ وخزانة الأدب ٥ / ١٠٦ ، والدرر ٥ / ١٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤ ، ولسان العرب (صدر) و (شرق) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٧٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٥ ، والخصائص ٢ / ٤١٧ ، والمقتضب ٤ / ١٩٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٩.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ٩٩.

(٦) انظر البحر المحيط ٤ / ٩٩ ، ومختصر ابن خالويه ٣٦.


فعلى النداء أي يا ربّنا وهي قراءة حسنة لأن فيها معنى الاستكانة والتضرّع.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٥)

(أَنْ يَفْقَهُوهُ) في موضع نصب أي كراهة أن يفقهوه. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عطف يقال : وقرت أذنه بفتح الواو وحكى أبو زيد عن العرب : أذن موقورة فعلى هذا وقرت بضم الواو. واحد الأساطير اسطارة ويقال : أسطورة ، ويقال : هو جمع أسطار وأسطار جمع سطر يقال : سطر وسطر.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦)

وقرأ الحسن وهم ينهون عنه وينون عنه (١) ألقى حركة الهمزة على النون وحذفها.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧)

ويجوز في العربية إذ أقفوا على النّار مثل (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١]. قرأ أهل المدينة والكسائي (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) رفع كلّه. قال أبو جعفر : وهكذا يروى عن أبي عمرو ، ويروى عنه (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) بالإدغام ، وقرأ الكوفيون وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) بالنصب. (وَنَكُونَ) مثله ، وقرأ عبد الله بن عامر يا ليتنا نرد ولا نكذب بالرفع (وَنَكُونَ) (٣) بالنصب ، وقرأ أبي وابن مسعود يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا (٤) بالفاء والنصب. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالرفع على أن يكون منقطعا مما قبله هذا قول سيبويه وقيل : هو عطف والإدغام حسن والنصب بالواو على أنه جواب التمنّي وكذا بالفاء ورفع الأول على قراءة ابن عامر على القطع مما قبله أو العطف ويجعل «ونكون» جوابا.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨)

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) في معناه قولان : أحدهما أنه للمنافقين لأن اسم الكفر مشتمل عليهم فعاد الضمير على بعض المذكور وهذا من كلام العرب الفصيح والقول الآخر أن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٠٤.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ١٠٧ ، وتيسير الداني ٨٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ١٠٧.


يفطن بهم ضعفاؤهم فظهر ذلك يوم القيامة ، وقرأ يحيى بن وثاب (وَلَوْ رُدُّوا) بكسر (١) الراء لأن الأصل رددوا فقلب كسرة الدال على الراء كما يقال : قيل وبيع وبينهما فرق لأنّ قيل إنما قلبت فيه الحركة لأنه معتل وليس حكم الياء والواو حكم غيرهما لكثرة انقلابهما.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩)

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ابتداء وخبر (وَما نَحْنُ) اسم ما. (نَحْنُ) الخبر.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١)

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي قد خسروا أعمالهم وثوابها. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) نصب على الحال وهي عند سيبويه (٢) مصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبرا وأنشد : [الطويل]

١٣١ ـ فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا

على ظهر محبوك ظماء مفاصله (٣)

ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه. لا يقال : جاء فلان سرعة. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أي ذنوبهم جعلها لثقلها بمنزلة الحمل الثقيل الذي يحمل على الظّهر وقيل : يعني عقوبات الذنوب لأن العقوبة يقال لها وزر. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي يحملون.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢)

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ابتداء وخبر أي الذين يشتهون الحياة الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللهو واللعب. (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) ابتداء وخبر وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة خفيفة وبالخفض ، والدار الآخرة خير لبقائها. (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي يتقون معاصي الله جلّ وعزّ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إنّ الأمر هكذا فتزهدوا في الدنيا.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣)

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) كسرت «إنّ» لدخول اللام. (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال : يكذبونك ويكذّبونك بمعنى واحد قال : وقد يكون لا يكذبونك بمعنى لا يجدونك تأتي بالكذب كما تقول : أبخلت الرجل ، وقال

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٠٨.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٣٨.

(٣) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ١٣٣ ، والكتاب ١ / ٤٣٨ ، وشرح شواهد للشنتمري ١ / ١٨٦.


غيره : معنى لا يكذّبونك لا يكذّبونك بحجّة ولا برهان ودلّ على هذا (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤)

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ) على تأنيث الجماعة. (رُسُلٌ) اسم ما لم يسمّ فاعله ، وإن شئت حذفت الضمة فقلت : رسل لثقل الضمة. (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) أي فاصبر كما صبروا. (وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي فسيأتيك ما وعدت به. (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) مبيّن لذلك أي ما وعد الله عزوجل فلا يقدر أحد أن يدفعه.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥)

(وَإِنْ كانَ) شرط. (كَبُرَ) فعل ماض وهو خبر عن كان. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) مفعول به. (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) عطف عليه أي سببا إلى السماء وهذا تمثيل لأن السّلّم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع وما يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث السلّم. (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) عطف وأمر الله جلّ وعزّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يشتدّ حزنه عليهم إذ كانوا لا يؤمنون كما أنه لا يستطيع هذا. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين اشتدّ حزنهم وتحسّروا حتّى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد وإلى ما لا يحلّ.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦)

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي يسمعون سماع إصغاء وتفهّم وإرادة للحقّ. (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) وهم الكفار وهم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجّة.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٧)

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وكان منهم تعنّتا بعد ظهور البراهين وإقامة الحجّة بالقرآن الذي عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله لما فيه من الوصف وعلم الغيوب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله جلّ وعزّ إنّما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة للعباد.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨)

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) عطف على اللفظ ، وقرأ الحسن وعبد الله


ابن أبي إسحاق (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) جعله عطفا على الموضع ، والتقدير : وما دابة ولا طائر يطير بجناحيه. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي هم جماعات مثلكم في أن الله جلّ وعزّ خلقهم وتكفّل بأرزاقهم وعدل عليهم فلا ينبغي أن تظلموهم ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. ودابّة يقع لجميع ما دبّ. (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن إما دلالة مبيّنة مشروحة وإما مجملة نحو (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فدلّ بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) ابتداء وخبر. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) شرط ومجازاة وكذا (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠)

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) بتحقيق (٢) الهمزتين قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين يلقي حركة الأولى على ما قبلها ويأتي بالثانية بين بين ، وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوّض منها ألفا وهذا عند أهل اللغة غلط عليه لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان ، وقرأ عيسى بن عمر والكسائي قل أريتكم (٣) بحذف الهمزة الثانية وهذا بعيد في العربية وإنما يجوز في الشعر والعرب تقول : أريتك زيدا ما شأنه. قال الفراء (٤) : الكاف لفظها لفظ منصوب ومعناها معنى مرفوع ، كما يقال : دونك زيدا أي خذه. قال أبو إسحاق : هذا محال ولكن الكاف لا موضع لها وهي زائدة للتوكيد كما يقال : ذاك والعرب تقول على هذا في التثنية أريتكما زيدا ما شأنه ، وفي الجمع أريتكم زيدا وفي المرأة أريتك زيدا ما شأنه ، يدعون التاء موحّدة ويجعلون العلامة في الكاف فإن كانت الكاف في موضع نصب قالوا في التثنية : أريتما كما عالمين بفلان وفي الجمع أريتموكم عالمين بفلان وفي جماعة المؤنث أريتكنّ عالمات بفلان وفي الواحدة أريتك عالمة بزيد. قال الله عزوجل (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧] فهو من هذا بعينه.

__________________

(١) وهذه قراءة ابن أبي عبلة أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٢٥.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٤.

(٣) انظر تيسير الداني ٨٤.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٣١ ، والبحر المحيط ٤ / ١٣١.


(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١)

(إِيَّاهُ) نصب بتدعون (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) فعل مستقبل. (وَتَنْسَوْنَ) وتتركون مثل (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] ويجوز أن يكون المعنى وتتركون فتكونون بمنزلة الناسين. وقرأ عبد الرحمن الأعرج. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ) بضم الهاء على الأصل لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول : جئت معه وقد ذكرنا توحيد الهاء.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

قال الكسائي : يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجاءة وقرأ الحسن والأعمش (الْعَذابُ بِما) (١) مدغما وهكذا روي عن أبي عمرو مدغما وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٢) بكسر السين وهي لغة معروفة.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٢)

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) جزم بالنهي وعلامة الجزم حذف الضمة وكسرت الدال لالتقاء الساكنين. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ) غداة نكرة فعرفت بالألف واللام وكتبت بالواو كما كتبت الصلاة بالواو وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وعبد الله بن عامر ومالك بن دينار (بِالْغَداةِ) (٣) وباب غدوة أن تكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تنكّر الأسماء الأعلام فإذا نكّرت دخلتها الألف واللام للتعريف ، وعشيّ وعشيّة نكرتان لا غير. (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (من) الأولى للتبعيض والثانية زائدة للتوكيد وكذا. (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي. (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣)

لام كي وهذا من المشكل يقال : كيف فتنوا ليقولوا هذا لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم وفي هذا جوابان : أحدهما أنّ المعنى اختبرنا الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدة ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) ، والجواب الآخر أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٣٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ١٣٦.

(٣) انظر تيسير الداني ٨٥ ، والبحر المحيط ٤ / ١٣٩.


إلى أن قالوا هذا سبيل الإنكار صار مثل قوله جلّ وعزّ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤)

(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) رفع بالابتداء وفيه معنى المنصوب عند سيبويه (١) فلذلك ابتدئ بالنكرة. (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب فخوطب العباد على ما يعرفون من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ قال أبو جعفر : وقد ذكرنا قراءة (٢) من قرأ (أنّه) (فأنه) ففتحهما جميعا وقراءة من كسرهما جميعا وقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية كذا روى عنه ابن سعدان فمن فتحهما جميعا جعل الأولى بدلا من الرحمة أو على إضمار مبتدأ أي هي كذا والثانية مكرّرة عند سيبويه (٣) كما قال الله جلّ وعزّ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] وقال جلّ وعزّ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) ثم قال بعد (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) [الحج : ١٧] وقال الأخفش وأبو حاتم : «أنّ» الثانية في موضع رفع بالابتداء أي فالمغفرة له وهذا خطأ عند سيبويه ، وسيبويه لا يجوز عنده أن يبتدأ بأنّ ولكن قال بعض النحويين يجوز أن تكون «أنّ» الثانية في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي فالذي له أنّ الله غفور رحيم ومن كسرهما جميعا جعل الأولى مبتدأة وجعل كتب بمعنى قال وكسر الثانية لأنها بعد الفاء في جواب الشرط ، ومن كسر الأولى وفتح الثانية جعل الأولى كما قلنا وفتح الثانية على إضمار مبتدأ ، وأنكر أبو حاتم هذه القراءة ولم يقع إليه ، ومن فتح الأولى وكسر الثانية جعل الأولى كما ذكرنا فيمن فتحهما جميعا وكسر الثانية على ما يجب فيها بعد الفاء فهذه القراءة بيّنة في العربية.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) يقال : هذه اللام تتعلّق بالفعل فأين الفعل الذي تعلّقت به فالكوفيون يقولون : التقدير وكذلك نفصّل الآيات لنبيّن لكم

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٣٩٥.

(٢) القراءات كلّها في البحر المحيط ٤ / ١٤٤.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ١٥٣.


ولتستبين سبيل المجرمين. قال أبو جعفر : وهذا الحذف كلّه لا يحتاج إليه والتقدير وكذلك نفصّل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين فصّلناها. والسبيل يذكر ويؤنّث والتأنيث أكثر ، وقرأ يحيى بن وثّاب وطلحة بن مصرف (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) (١) بكسر اللام وقال أبو عمرو بن العلاء ضللت لغة تميم.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧)

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) الضمير يعود على البيّنة وذكّرت لأن البيان والبيّنة واحد وقيل : التقدير : وكذّبتم بما جئت به. قال أبو جعفر : قد ذكرنا (٢) يقضي الحقّ و (يَقُصُّ الْحَقَ).

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (٥٨)

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب. (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لانقطع إلى آخره.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩)

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) الذي هو يفتح علم الغيب إذا أراد جلّ وعزّ أن يخبر به نبيّا أو غيره ، ومفاتح جمع مفتح هذه اللغة الفصيحة ويقال مفتاح والجمع مفاتيح. وقرأ الحسن وعبد الله بن بي إسحاق ولا رطب لا يابس إلّا في كتاب مّبين (٣) عطفا على المعنى ويجوز (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) على الابتداء والخبر. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كتبها الله لتعتبر الملائكة بذلك.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠)

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ابتداء وخبر أي يستوفي عددكم. (بِاللَّيْلِ) وفي الليل واحد وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرّف ثم يبعثكم فيه ليقضي أجلا مسمّى (٤).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٤٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ١٤٦ ، ومعاني الفراء ١ / ٣٨.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٣٧ ، والبحر المحيط ٤ / ١٥ ، وهي قراءة ابن السميفع أيضا.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٣٧.


(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١)

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هذا اختيار الخليل وهي قراءة نافع على تخفيف الهمزة الثانية ويجوز تخفيفهما (١) وحذف إحداهما. (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) على تأنيث الجماعة كما قال : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٨٣] وقرأ حمزة توفّاه رسلنا (٢) على تذكير الجمع وقرأ الأعمش يتوفّاه رسلنا بزيادة ياء في أوله والتذكير.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢)

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) على النعت وقرأ الحسن الحقّ (٣) بالنصب يكون مصدرا وبمعنى أعني ، ومعنى مولاهم الحقّ أنه خالقهم ورازقهم ونافعهم وضارهم وهذا لا يكون إلا الله جلّ وعزّ (أَلا لَهُ) أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٣)

(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) مصدر ويجوز أن يكون حالا والمعنى ذوي تضرّع وروى أبو بكر ابن عيّاش عن عاصم (وَخُفْيَةً) (٤) بكسر الخاء وروي عن الأعمش وخيفة الياء قبل الفاء وهذا معنى بعيد لأن معنى تضرعا أن يظهروا التذلّل ، وخفية أن يبطنوا مثل ذلك قرأ الكوفيون (لَئِنْ أَنْجانا) (٥) واتّساق الكلام بالتاء كما قرأ أهل المدينة وأهل الشام.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦٥)

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) وروي عن أبي عبد الله المدني (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) (٦) بضم الياء أي يجلّلكم العذاب ويعمّكم به وهذا من اللّبس بضم اللام والأول من اللّبس بفتحها وهو موضع مشكل والإعراب يبيّنه. قيل : التقدير أو يلبس عليكم أمركم فحذف أحد المفعولين وحرف الجر كما قال جلّ وعزّ (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) [المطففين : ٣]

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ١٥٢.

(٣) وهذه قراءة الأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٥٣ ، ومختصر ابن خالويه ٣٧.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ١٥٣ ، وتيسير الداني ٨٥.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، وتيسير الداني ٨٥.

(٦) انظر البحر المحيط ٤ / ١٥٥.


وهذا اللبس بأن يكون يطلق لبعضهم أن يحارب بعضا أو يريهم آية يتفرقون عندها فيروا شيعا ، و (شِيَعاً) نصب على الحال أو المصدر ، وقيل : معنى يلبسكم شيعا يقوّي عدوكم حتى يخالطكم فإذا خالطكم فقد لبسكم فرقا (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالحرب.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٦٧)

(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) لم أومر أن أحفظكم من التكذيب والكفر.

روي عن ابن عباس (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكل خبر حقيقة.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨)

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) التقدير وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) منكرا عليهم. (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فأدّب الله جلّ وعزّ نبيه فهذا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزءون بالقرآن فأمره الله عزوجل أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه وكان في هذا ردّ في كتاب الله عزوجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج واتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية ، وقرأ عبد الله بن عامر (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) (١) على التكثير.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩)

(وَلكِنْ ذِكْرى) في موضع نصب على المصدر ويجوز أن تكون في موضع رفع بمعنى «ولكن الذي يفعلونه ذكرى» أي ولكن عليهم ذكرى ، وقال الكسائي : المعنى ولكن هذه ذكرى.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ) في موضع نصب أي كراهة أن تبسل. (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) في موضع نصب على خبر كانوا.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٥ ، والبحر المحيط ٤ / ١٥٧.


اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١)

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا) أي ما لا ينفعنا إن دعوناه. (وَلا يَضُرُّنا) إن تركناه. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهي مؤنّثة تصغيرها عقيبة. (كَالَّذِي) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) على تأنيث الجماعة ، وقرأ حمزة استهواه الشياطين (١) على تذكير الجمع ، وروي عن ابن مسعود استهواه الشيطان (٢) وعن الحسن استهوته الشياطون (٣) رواه محبوب عن عمرو عن الحسن وهو لحن. (حَيْرانَ) نصب على الحال ولم ينصرف لأنّ أنثاه حيرى. (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) وفي الابتداء ائتنا والأصل بهمزتين أبدلت من إحداهما ياء لئلا يجتمعا. (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لام كي. قال أبو جعفر : وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول : هي لام الخفض واللامات كلها ثلاث لام خفض ولام أمر ولام توكيد لا يخرج شيء عنها.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه ثلاثة أقوال : فمذهب الفراء أنّ المعنى وأمرنا لأن نسلّم وأن أقيموا ، والجواب الثاني أن يكون المعنى وبأن أقيموا الصلاة والثالث أن يكون عطفا على المعنى أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة ، لأن معنى «ائتنا» أن ائتنا. (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ابتداء وخبر وكذا (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ). (وَيَوْمَ يَقُولُ) فيه ثلاثة أجوبة يكون عطفا على الهاء في (وَاتَّقُوهُ) ، والثاني أن يكون عطفا على السموات ، والثالث أن يكون بمعنى اذكر. (كُنْ فَيَكُونُ) فيه ثلاثة أجوبة : قال الفراء (٤) : يقال إنه للصور خاصة «ويوم يقول للصور كن فيكون» ، والجواب الثاني أن يكون المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم وعلى هذين الجوابين (قَوْلُهُ الْحَقُ) ابتداء وخبر ، والجواب الثالث أن يكون قوله رفعا بيكون والحقّ من نعته. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) فيه ثلاثة أجوبة : يكون بدلا من يوم ، والجواب الثاني أن يكون التقدير قوله الحقّ يوم ينفخ في الصور ، والجواب الثالث أن يكون التقدير وله الملك يوم ينفخ في الصّور. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيه ثلاثة أجوبة يكون نعتا للذي أي

__________________

(١) انظر الحجة لابن خالويه ١١٧.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٣٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ١٦٢.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٤٠.


وهو الذي خلق السموات عالم الغيب ، ويكون على إضمار مبتدأ وقرأ الحسن والأعمش وعاصم (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (١) يكون بدلا من الهاء التي في (له) ، والجواب الثالث في الرفع أن يكون محمولا على المعنى أي ينفخ فيه عالم الغيب لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله كان منسوبا إلى الله جلّ وعزّ وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٣٢ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح (٢)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٧٤)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) تكلّم العلماء في هذا فقال الحسن : كان اسم أبيه آزر ، وقيل كان له اسمان آزر وتارح ، وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : بلغني أنها أعوج ، قال : وهي أشدّ كلمة قالها إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه ، وقال الضحاك : معنى آزر شيخ. قال أبو جعفر : يكون هذا مشتقا من الأزر وهو الظّهر ولا ينصرف لأنه على أفعل ويكون بدلا كما يقال : رجل أجوف أي عظيم الجوف ، وكذا آزر يكون عظيم الأزر معوّجه ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ وإذ قال إبراهيم لأبيه أازرا (٣) بهمزتين فالأولى مفتوحة والثانية مكسورة هذه رواية أبي حاتم ولم يبيّن معناه فيجوز أن يكون مشتقا من الأزر أي الظّهر ويكون معناه القوة ويكون مفعولا من أجله ، ويجوز أن يكون بمعنى وزر كما يقال : وسادة وإسادة وفي رواية غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين وفي الروايتين (تَتَّخِذُ) بغير ألف. (أَصْناماً آلِهَةً) مفعولان وفيه معنى الإنكار. (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) عطفا على الكاف.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥)

وقرأ أبو السمّال العدوي (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بإسكان اللام ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفّتها ولعلّها لغة. (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي وليكون من الموقنين أريناه.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٦٥.

(٢) الشاهد للحارث بن نهيك في الكتاب ١ / ٣٤٥ ، وفي خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ٩٤ ، وشرح المفصل ١ / ٨٠ ، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ٣٦٢ ، ولنهشل بن حريّ في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٠٢ ، وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه ١ / ١١٠ ، ولنهشل أو للحارث أو لضرار أو لمزرد بن ضرار أو للمهلهل في المقاصد النحوية ٢ / ٤٥٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٥ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٤٤٧ ، وتخليص الشواهد ٤٧٨ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٣٩ ، والخصائص ٢ / ٣٥٣ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧١ ، وشرح المفصل ١ / ٨٠ ، ومغني اللبيب ٦٢٠ ، والمقتضب ٣ / ٢٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٠ ، وعجز البيت «ومختبط ممّا تطيح اللوائح».

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٣٨ والبحر المحيط ٤ / ١٦٩ وهذه قراءة أبي إسماعيل الشامي أيضا.


(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) مفعول. (قالَ هذا رَبِّي) ابتداء وخبر ومن أحسن ما قيل في هذا ما صحّ عن ابن عباس رحمه‌الله أنه قال في قول الله جلّ وعزّ (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] قال : كذا قلب المؤمن يعرف الله جلّ وعزّ ويستدلّ عليه بقلبه فإذا عرفه ازداد نورا على نور وكذا إبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وسلم عرف الله عزوجل بقلبه واستدلّ عليه بدلائله فعلم أن له ربّا وخالقا فلما عرّفه الله جلّ وعزّ بنفسه ازداد معرفة فقال : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠].

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨)

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) نصب على الحال لأن هذا من رؤية العين. (قالَ هذا رَبِّي) قال الكسائي والأخفش : أي قال هذا الطالع ربي ، وقال غيرهما : أي هذا الضوء قال أبو الحسن علي بن سليمان : أي هذا الشخص كما قال الأعشى (١) : [السريع]

١٣٣ ـ قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩)

أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله جلّ وعزّ وحده. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اسم «ما» وخبرها ، وإذا وقفت قلت : أنا ، زدت الألف لبيان الحركة ومن العرب من يقول «انه».

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠)

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي) قرأ نافع أتحاجّوني (٢) بنون مخفّفة ، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : هو لحن وأجاز سيبويه (٣) ذلك وقال : استثقلوا التّضعيف ، وأنشد : [الوافر]

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في أمالي المرتضى ١ / ٧١ ، والأشباه والنظائر ٥ / ١٧٧ ، والإنصاف ٢ / ٥٠٧ ، وسمط اللآلي ١ / ١٧٤ ، وشرح المفصل ٥ / ١٠١ ، ولسان العرب (عمر).

(٢) هذه قراءة ابن عامر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٧٤ ، وتيسير الداني ٨٦.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٤.


١٣٤ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (١)

قال أبو عبيدة : وإنما كره التثقيل من كره للجمع بين ساكنين وهما الواو والنون فحذفوها. قال أبو جعفر : والقول في هذا قول سيبويه ولا ينكر الجمع بين ساكنين إذا كان الأول حرف مدّ ولين والثاني مدّغما. (وَقَدْ هَدانِ) بحذف الياء لأن الكسرة تدلّ عليها والنون عوض منها إذا حذفتها وإثباتها حسن. (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لأنه لا ينفع ولا يضرّ و (ما) في موضع نصب. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) في موضع نصب استثناء ليس من الأول. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) بيان.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١)

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) مفعول وكذا (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي حجة. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) ابتداء وخبر. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون فإنّ من خاف من ينفع ويضر أولى بالأمن منكم.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) مبتدأ. (أُولئِكَ) ابتداء ثان. (لَهُمُ الْأَمْنُ) خبره والجملة خبر الأول. (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ابتداء وخبر.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

وكذا (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (٢) بالإضافة وقرأ أهل الكوفة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بتقدير ونرفع من نشاء إلى درجات ثم حذفت «إلى».

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤)

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) اسمان أعجميان لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن أخذت إسحاق من أسحقه الله انصرف وكذا يعقوب إن كان منقولا

__________________

(١) الشاهد لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٨٠ ، والكتاب ٤ / ٤ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٧١ ، والدرر ١ / ٢١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢١٣ ، ولسان العرب (فلا) والمقاصد النحوية ١ / ٣٧٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٨٥ ، وجمهرة اللغة ٤٥٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٩١ ، ولسان العرب (حيج) ، والمنصف ٢ / ٣٣٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٥.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٦.


انصرف بكل حال يقال لذكر القبح : يعقوب. (كُلًّا) نصب بهدينا. (وَنُوحاً) نصب بهدينا الثاني. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) قال الفراء (١) عطف على نوح ، وقال الأخفش : عطف على إسحاق وكذا (وَأَيُّوبَ) وما بعده ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجميّ وكل ما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف وسليمان اسم أعجمي ويجوز أن يكون مشتقا من السلامة ولا ينصرف لأن فيه ألفا ونونا زائدتين ، وأيوب اسم عجمي وكذا يوسف ، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر (وَيُوسُفَ) (٢) بكسر السين. قال أبو زيد : يقول العرب يؤسف بالهمزة وكسر السين وفتحها يؤسف مهموز ، وموسى اسم عجميّ ، فأما موسى الحديد فإن سمّيت بها رجلا لم تنصرف لأنها مؤنّثة ، وعيسى اسم عجمي وإن جعلته مشتقا لم ينصرف لأن في آخره ألفا تشبه ألف التأنيث واشتقاقه من عاسه يعوسه انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ويجوز أن يكون مشتقا من العيس وهو ماء الفحل (٣).

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٥)

(وَزَكَرِيَّا) اسم عجميّ ويجوز أن يكون عربيا فيه ألف تأنيث ولا ينصرف في معرفة ولا نكرة. (وَيَحْيى) لم ينصرف لأن أصله من الفعل وكتب بالياء فرقا بين الاسم والفعل. (وَإِلْياسَ) عجميّ وقرأ الأعرج والحسن وقتادة (وَإِلْياسَ) بوصل الألف ، قال الفراء (٤) : ويجوز في هذا كلّه الرفع كما تقول : أخذت صدقاتهم لكلّ مائة شاة شاة وشاة.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦)

(وَإِسْماعِيلَ) عجميّ ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم (وَالْيَسَعَ) بلام مخفّفة ، وقرأ الكوفيون إلا عاصما واللّيسع (٥) ، وكذا قرأ الكسائي وردّ قراءة من قرأ «واليسع» قال : لأنه لا يقال : اليفعل مثل اليحيى وهذا الردّ لا يلزم والعرب تقول : اليعمل واليحمد ولو نكّرت يحيى لقلت : اليحيى ، وردّ أبو حاتم على من قرأ (الّيسع) وقال : لا يوجد ليسع. قال أبو جعفر : وهذا الردّ لا يلزم قد جاء في كلام العرب حيدر وزينب والحق في هذا أنه اسم عجميّ والعجميّة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤدّى سماعا والعرب تغيّرها كثيرا فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين (وَيُونُسَ) عجميّ وإن قلت : يونس

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٤٢.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٦٢ ، والبحر المحيط ٤ / ١٧٨.

(٣) انظر تاج العروس (عيس).

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٤٢.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ١٧٨ ، وتيسير الداني ٨٦.


أو يونس لم تصرفه لأن أصله من الفعل. (وَلُوطاً) عجميّ لخفته.

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧)

(وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اخترناهم مشتقّ من جبيت الماء في الحوض أي جمعته.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٨٩)

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ابتداء وخبر. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) شرط ، وجوابه (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) أي بالإيمان بها قوما. (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) الباء الثانية توكيد.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠)

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ابتداء وخبر. (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فيه قولان : أحدهما أن المعنى اصبر كما صبروا ، والآخر أنه صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يحبّ أن يتّبع أهل الكتاب فيما لم ينه عنه ولم ينسخ وقرأ عبد الله بن عامر (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (١) وهذا لحن لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء أيضا ولا يجوز (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) ومن اجتنب اللحن واتبع السواد قرأ (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) فوقف ولم يصل لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١)

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) مصدر. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه أنه قيل المعنى : وما عظّموا الله حقّ تعظيمه وهذا يكون من قولهم : لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما (قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) نسبوا الله جلّ وعزّ إلى أنه لا يقيم الحجّة على عباده ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح فلم يعظّموه حق تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته وقد قيل : المعنى : وما قدروا نعم الله حقّ تقديرها ، وقرأ أبو حيوة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) بفتح الدال وهي لغة. (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي في قراطيس مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥].

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٨٠ ، والحجة لابن خالويه ١٢٠ ، وتيسير الداني ٨٦.

(٢) وهذه قراءة الحسن وعيسى الثقفي أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٨١.


(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢)

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) نعت ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال وكذا (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أنزلناه لهذا.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

(وَمَنْ قالَ) في موضع خفض أي ومن أظلم ممن قال (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) وحذف الجواب أي لرأيت عذابا عظيما. (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) ابتداء وخبر والأصل باسطون أيديهم يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وحذف أي أخرجوا أنفسكم من العذاب أي خلّصوها. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي عذاب الهوان. (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي تدعون معه شريكا وتقولون : لم يبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) في موضع نصب على الحال ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث وقرأ أبو حيوة فرادا (١) بالتنوين قال هارون : لغة تميم فرادا بالتنوين وهؤلاء يقولون : في موضع الرفع فراد ، وحكى أحمد بن يحيى فراد بلا تنوين مثل ثلاث ورباع. قال أبو جعفر : المعنى : ولقد جئتمونا منفردين ليس معكم ناصر ممن كان يصاحبكم في الغيّ. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه ثلاثة أقوال : يكون منفردين كما خلقوا ، ويكون عراة ، ويكون كما خلقناكم أعدناكم. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء في أموالكم (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (٢) قال أبو عمرو أي وصلكم و (بَيْنَكُمْ) (٣) على الظرف.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٩٥)

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي يشقّ النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر وكذا

__________________

(١) وهذه قراءة عيسى بن عمر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٨٥.

(٢) هي قراءة السبعة بضم الميم ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

(٣) هذه قراءة نافع والكسائي وحفص بالفتح ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٨٦.


الحبة ويخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة وهذا معنى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) وروي عن ابن عباس : يخرج البشر الحيّ من النطفة الميتة والنطفة من البشر الحي. (ذلِكُمُ اللهُ) ابتداء وخبر. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جلّ وعزّ.

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٩٦)

(فالِقُ الْإِصْباحِ) نعت وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين إلا عند الكسائي ومعنى فالق الإصباح الذي خلق له فلقا وهو الفجر. يقال للفجر : فلق الصّبح وفرقه وقرأ الحسن وعيسى بن عمر (فالِقُ الْإِصْباحِ) (١) بفتح الهمزة وهو جمع صبح وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ فلق الإصباح (٢) على فعل والهمزة مكسورة والحاء منصوبة ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (٣) أي جعله يصلح أن يسكن فيه وقرأ أهل المدينة وجاعل الليل سكنا (٤). (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) نصب الشمس والقمر عطفا على المعنى أي وجعل ، والخفض بعيد لضعف الخافض وأنك قد فرقت ، وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر (٥) بالخفض عطفا على اللفظ وقال الأخفش : حسبانا أي بحسبان. قال : وهو جمع حساب مثل شهاب وشهبان وقال يعقوب : حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبا وحسبانا ، والحساب الاسم وقال غيره : جعل الله جلّ وعزّ سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص فدلّهم الله جلّ وعزّ بذلك على قدرته ووحدانيته. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ابتداء وخبر.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨)

وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي (فَمُسْتَقَرٌّ). بكسر القاف.

وقرأ أبو جعفر ونافع وحمزة والكسائي (فَمُسْتَقَرٌّ) بفتح القاف والرفع بالابتداء فيها إلا أن التقدير فيمن كسر القاف : فمنها مستقرّ والفتح بمعنى فلها مستقر : قال عبد الله بن مسعود : فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض وهذا التفسير يدلّ على

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٠ ، ومختصر ابن خالويه ٣٩.

(٢) وهذه قراءة ابن وثاب وأبي حيوة أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٠.

(٣) هذه قراءة الكوفيين ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٠.

(٤) انظر تيسير الداني ٨٧ ، والبحر المحيط ٤ / ١٩٠.

(٥) انظر مختصر ابن خالويه ٣٩.


الفتح ، وقال الحسن فمستقرّ في القبر وأكثر أهل التفسير يقولون : المستقرّ ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) والأصل في ماء «ماه» والهاء خفيّة والألف كذلك فأبدل من الهاء همزة لأن الهمزة جلدة. (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل شيء نابت. (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) قال الأخفش : أي أخضر كما يقول العرب : «أرنيها نمرة أركها مطرة» (١). (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) رفع بالابتداء ، وأجاز الفراء (٢) في غير القرآن «قنوانا دانية» على العطف على ما قبله. قال سيبويه : ومن العرب من يقول (٣) : قنوان. قال الفراء : هذه لغة قيس ، وأهل الحجاز يقولون : قنوان ، وتميم تقول : قنيان ثم يجتمعون في الواحد فيقولون : قنو وقنو. (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) قراءة العامة بالنصب عطفا أي فأخرجنا جنات ، وقرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وهو الصحيح من قراءة عاصم وجنات بالرفع وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم حتى قال أبو حاتم : هي محال لأن الجنات لا تكون من النخل. قال أبو جعفر : والقراءة جائزة وليس التأويل على هذا ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف أي ولهم جنات كما قرأ جماعة من القراء. (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة : ٢٢] وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ، ومثله كثير وعلى هذا أيضا وحورا عينا (٤) حكاه سيبويه وأنشد : [البسيط]

١٣٥ ـ جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل أسرة منظور بن سيّار (٥)

فأما (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) قراءة أبي عمرو وأهل المدينة جمع ثمرة وقراءة يحيى ابن وثاب وحمزة والكسائي (إِلى ثَمَرِهِ) (٦) بضمتين جمع ثمار وقيل : هذا المال المثمّر وروي عن

__________________

(١) النّمرة : واحدة النّمر ، والسحاب النّمر الذي ترى في خلله نقاطا كلون النمر ، والمثل من قول أبي ذؤيب الهذليّ ، وهو يضرب لما يتيقّن وقوعه إذا لاحت مخايله. انظر تاج العروس (نمر).

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٤٧.

(٣) هذه قراءة الأعرج وهارون وأبي عمرو ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٤) هذه قراءة أبيّ ، انظر الكتاب ١ / ١٤٩.

(٥) الشاهد لجرير في ديوانه ٢٣٧ ، والكتاب ١ / ١٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٦٦ ، والمقتضب ٤ / ١٥٣ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٦ / ٦٩ ، والمحتسب ٢ / ٧٨.

(٦) وهي قراءة مجاهد أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٥.


الأعمش (إِلى ثَمَرِهِ) بضمّ الثاء وإسكان الميم ، حذفت الضمة لثقلها. ويجوز أن يكون جمع ثمر مثل بدنة وبدن ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني ويانعه (١) أي ومدركه ، وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وينعه (٢) بضمّ الياء. قال الفراء : الضم لغة بعض أهل نجد.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠)

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) «الجنّ» مفعول أول و (شُرَكاءَ) مفعول ثان والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء ويجوز أن يكون الجن بدلا من شركاء والمفعول الثاني لله ، وأجاز الكسائي رفع الجنّ بمعنى هم الجن. وقرأ ابن مسعود وهو خلقهم وقرأ يحيى بن يعمر (وَخَلَقَهُمْ) (٣) بإسكان اللام. قال : أي وجعلوا خلقهم لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١)

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بمعنى هو بديع وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عزوجل ونصبه بمعنى بديعا السموات والأرض. قال أبو جعفر : وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) اسم «تكن» أي من أين يكون له ولد؟ وولد كلّ شيء شبيهه ولا شبيه له.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢)

(ذلِكُمُ) في موضع رفع بالابتداء. (اللهُ رَبُّكُمْ) على البدل. (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) خبر الابتداء ويجوز أن يكون ربكم الخبر و «خالق» خبرا ثانيا أو على إضمار مبتدأ وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤)

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آيات وبراهين يبصّر بها ويستدلّ وبصائر مهموز لئلا

__________________

(١) وهي قراءة ابن أبي عبلة أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، وتيسير الداني ٨٧.

(٢) وهي قراءة الضحاك أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ١٩٥.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٣٩.


يلتقي ساكنان والألف لا يتحرك. (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن استدلّ وتعرّف (وَمَنْ عَمِيَ) فلم يستدلّ فصار بمنزلة الأعمى. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لم أومر بحفظكم عن أن تهلكوا أنفسكم.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥)

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) الكاف في موضع نصب أي ونصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) قال أبو جعفر : قد ذكرنا ما فيه من القراءات وروى شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) (١) قال قرأت وتعلّمت وفي الكلام حذف أي وليقولوا درست صرّفناها. قال أبو إسحاق : هذا كما تقول : كتب فلان هذا الكتاب لحتفه أي آل أمره إلى ذا وكذا لما صرّفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا درست وتعلّمت. قال أبو جعفر : وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر فهذا حقيقة والذين قال أبو إسحاق مجاز ، ومن قرأ (دَرَسْتَ) (٢) فأحسن ما قيل فيه أن المعنى ولئلا يقولوا انقطعت وامّحت وليس يأتي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيرها ، وأحسن ما قيل في دارست (٣) أن معناه دارستنا فيكون معناه كمعنى درست وقيل : معناه دارست أهل الكتاب فهذا أيضا مجاز كما قال : [المتقارب]

١٣٦ ـ فللموت ما تلد الوالده (٤)

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨)

(وَلا تَسُبُّوا) نهي وحذفت منه النون للجزم نهى الله عزوجل المؤمنين أن يسبّوا أوثانهم لأنه علم أنهم إذا سبّوها نفر الكفار وازدادوا كفرا ونظيره قوله عزوجل : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤]. (فَيَسُبُّوا) جواب النهي بالفاء. (عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) مصدر ومفعول من أجله وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا عدوا فهذا نصب على الحال وهو واحد يؤدّي عن جمع مثل (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) الشعراء :

__________________

(١) انظر المحتسب ١ / ٢٢٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٠٠.

(٢) هذه قراءة ابن عامر ، انظر تيسير الداني ٨٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٠٠.

(٤) الشاهد لنهيكة بن الحارث المازني ، أو لشتيم بن خويلد في خزانة الأدب ٩ / ٥٣٠ ، ولشتيم أو لسماك بن عمرو في لسان العرب (لوم) وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٤.


٧٧] وروي عنهم عدوا (١) بضم العين والدال وتشديد الواو وهذه قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٩)

وقرأ طلحة بن مصرّف (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَ) بالنون الخفيفة. قال سيبويه : قال الخليل : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ثم أوجب فقال : (إنّا). قال أبو جعفر : هذه قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير ، وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة (أَنَّها) (٢) بفتح الهمزة قال الخليل : «أنها» بمعنى «لعلها» (٣). قال أبو جعفر : التمام على هذه القراءة أيضا (وَما يُشْعِرُكُمْ) ثم ابتدأ فقال (أنّها) وفيه معنى الإيجاب وهذا موجود في كلام العرب أن تأتي لعل وعسى بمعنى ما سيكون فأما قول الكسائي : أنّ «لا» زائدة فخطأ عند البصريين لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل وقرأ حمزة وحده لا تؤمنوا (٤) بالتاء.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠)

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) «أول مرة» هذه آية مشكلة ولا سيما وفيها (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فالمعنى ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار كما لم يؤمنوا في الدنيا ونذرهم في الدنيا أي نمهلهم ولا نعاقبهم فبعض الآية في الآخرة وبعضها في الدنيا ونظيرها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] فهذا في الآخرة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية : ٣] فهذا في الدنيا.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١)

(أَنَّنا) في موضع رفع. (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) (٥) قال هارون القارئ : أي عيانا وقال محمد بن يزيد يكون قبلا بمعنى ناحية كما تقول : لي قبل فلان مال و (قبلا) بضم القاف والباء وفيه ثلاثة أقوال : فمذهب الفراء أنه بمعنى ضمناء كما قال (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء: ٩٢] وقول الأخفش بمعنى قبيل وعلى

__________________

(١) انظر المحتسب ١ / ٢٢٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٠٣.

(٣) انظر معاني الفراء : ١ / ٣٥٠.

(٤) انظر تيسير الداني ٨٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٠٤.

(٥) انظر تيسير الداني ٨٧.


القولين هو نصب على الحال ، وقال محمد بن يزيد (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي مقابلا ، ومنه (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) [يوسف : ٢٦] ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه ومنه قبل الحيض ، وقرأ الحسن (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) حذف الضمة من الباء لثقلها. (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) «أن» في موضع نصب استثناء ليس من الأول.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢)

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) حكى سيبويه (جعل) بمعنى وصف (عَدُوًّا) مفعول أول. (لِكُلِّ نَبِيٍ) في موضع المفعول الثاني. (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) يدل على عدوّ ويجوز أن تجعل «شياطين» مفعولا أول «وعدوّا» مفعولا ثانيا. ومعنى شيطان متمرّد في معاصي الله تعالى لاحق ضرره بغيره فإذا كان هكذا فهو شيطان كان من الإنس أو من الجن ومعناه ممتد في الشرّ مشتقّ من الشطن وهو الحبل وسمّي ما توسوس به شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس وحيا لأنه إنما يكون خفية وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه و (غُرُوراً) نصب على الحال لأن معنى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) يغرّونهم بذلك غرورا ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وروى ابن عباس بإسناد أنه قال في قوله (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) لإبليس مع كل جنّي شيطان ومع كل إنسيّ شيطان فيلقى أحدهما الآخر فيقول له : إني قد أضللت صاحبي فأضلل صاحبك بمثله ، ويقول له الآخر : مثل ذلك هذا وحي بعضهم إلى بعض. قال أبو جعفر : والقول الأول يدلّ عليه (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام : ١٢١] فهذا يبيّن معنى ذلك. (فَذَرْهُمْ) أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه : ولا يقال وذر ولا ودع استغنوا عنه بترك. قال أبو إسحاق : الواو ثقيلة فلمّا كان ترك ليست فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو وهذا معنى قوله وليس بنصّه.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣)

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) لام كي وكذا (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) إلا أن الحسن قرأ (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) (١) بإسكان اللام جعلها لام أمر فيه معنى التهديد كما قال : افعل ما شئت.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤)

(أَفَغَيْرَ اللهِ) نصب بابتغي. (حَكَماً) نصب على البيان وإن شئت على الحال.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٢١١.


(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) ابتداء وخبر وكذا (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ فَلا تَكُونَنَ) نهي مؤكدة بالنون الثقيلة وفتحت لالتقاء الساكنين وقيل لأنهما شيئان ضمّ أحدهما إلى الآخر.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥)

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) مصدر وحال.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (١١٦)

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي الكفّار. (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الطريق التي تؤدّي إلى ثواب الله عزوجل (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بمعنى «ما».

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧)

(من) في موضع رفع بالابتداء مثل (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) [الكهف : ١٢].

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (١١٨)

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اسم ما لم يسمّ فاعله والذكر عند أهل اللغة باللسان ويكون بالقلب مجازا.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

(وَما لَكُمْ) ابتداء وخبر. (أَلَّا) في موضع نصب والمعنى وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وسيبويه يجيز أن تكون «أن» في موضع جرّ بإضمار الخافض. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) في موضع نصب بالاستثناء. (وَإِنَّ كَثِيراً) اسم «إن» وصلح أن يكون اسمها نكرة لأنّ فيها فائدة وليس الخبر معرفة.

وهذا حسن عند سيبويه ، وأنشد : [الطويل]

١٣٧ ـ وإنّ شفاء عبرة لو سفحتها

فهل عند رسم دارس من معوّل (١)

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس من مطوّلته (قفا نبك) صفحة ٩ ، والكتاب ٢ / ١٤٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٤٨ ، والدرر ٥ / ١٣٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٢ ، ولسان العرب (عول) و (هول) ، والمنصف ٣ / ٤٠ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٢٧٤ ، والدرر ٦ / ١٥٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٧.


(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

(وَلا تَأْكُلُوا) نهي. (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) كسرت الراء لالتقاء الساكنين. (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) خبر «إنّ».

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢)

وروى المسيّبي عن نافع بن أبي نعيم (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) بإسكان الواو وقال أبو جعفر: يجوز أن يكون محمولا على المعنى أي انظروا وتبيّنوا أغير الله أبتغي حكما أو من كان ميتا فأحييناه. ومن فتح الواو جعلها واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣)

لام كي قيل : إنه مجاز كما قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥)

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي يوسعه ثوابا إلى طاعته وهي شرط ومجازاة. (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) مثله ، وقرأ ابن كثير (ضَيِّقاً) (١) بتخفيف الياء كما يقال : ليّن ولين وهيّن وهين. حرج اسم الفاعل وحرج مصدر وصف به كما يقال : رجل عدل ورضى وقيل : حرج جمع حرجة ومعناه شدّة الضيق ومنه فلان يتحرّج أي يضيّق على نفسه في تركه هواه للمعاصي. (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٢) قد ذكرناه. (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب وكذا ما مرّ من قوله «وكذلك جعلنا في كلّ قرية».

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٢١٩.

(٢) قراءات (يصّعّد) في البحر المحيط ٤ / ٢٢٠.


(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) ابتداء وخبر. (مُسْتَقِيماً) على الحال.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧)

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ) ابتداء وخبر وكذا (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٢٨)

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) نصب بالفعل المحذوف أي ويوم يحشرهم نقول (جَمِيعاً) على الحال. (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) نداء مضاف. (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أبين ما قيل فيه أن الجنّ استمتعت من الإنس أنهم تلذّذوا بطاعة الإنس إيّاهم وتلذّذ الإنس بقبولهم من الجنّ حتّى زنوا وشربوا الخمور. وقيل : الجنّ هم الذين استمتعوا من الإنس لأن الإنس قبلوا منهم ، والأول أولى لأن كلّ واحد منهما قد استمتع بصاحبه. والتقدير في العربية : استمتع بعضنا ببعضنا. (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) ابتداء وخبر. (خالِدِينَ فِيها) نصب على الحال. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء ليس من الأول. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) أي عقوبتهم وفي جميع أفعاله. (عَلِيمٌ) بمقدار مجازاتهم.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠)

أحسن ما قيل فيه أنّ معنى منكم في الخلق والتكليف والمخاطبة. (يَقُصُّونَ) في موضع رفع نعت لرسل.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١)

(ذلِكَ) في موضع رفع عند سيبويه بمعنى الأمر ذلك ، لأنّ ربك لم يكن مهلك القرى بظلم وأجاز الفراء (١) أن يكون في موضع نصب بمعنى فعل ذلك.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣)

(كَما أَنْشَأَكُمْ) الكاف في موضع نصب بمعنى ويستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مثل ما أنشأكم. (مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) وقرأ زيد بن ثابت (ذُرِّيَّةِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٥٥.


قَوْمٍ) (١) بكسر الذال وتشديد الراء والياء ، وقرأ أبان بن عثمان ذريّة (٢) بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٣٤)

(ما) اسم (إنّ) والخبر لآت واللام توكيد.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥)

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) أي على ما أنا عليه. (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) اسم تكون ويجوز «من يكون» (٣) لأنه مصدر وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث الجماعة ، وقرأ الأعرج يا معشر الجنّ والإنس ألم تأتكم على تأنيث الجماعة. (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) في موضع رفع لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ويجوز أن يكون بمعنى الذي فتكون في موضع نصب.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦)

(فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) هذه لغة أهل الحجاز ، ولغة بني أسد (بِزَعْمِهِمْ) وهكذا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي ، ولغة تميم وقيس فيما حكى الفراء والكسائي «بزعمهم» بكسر الزاي وإن كان أبو حاتم قد أنكر كسرها وقد حكاه الكسائي والفراء (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) سمّوا شركاء لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فقالوا هم شركاؤنا فيها. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) قال الكسائي (ما) في موضع رفع أي ساء الشيء يفعلون. قال أبو إسحاق «ما» في موضع رفع والمعنى ساء الحكم يحكمون.

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧)

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) هذه قراءة أهل

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٠ ، أما في البحر المحيط ٤ / ٢٢٨ ، فقال : «وقرأ زيد بن ثابت «ذرّيّة» بفتح الذال ، وأبان بن عثمان «ذرية» بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة».

(٢) هذه قراءة حمزة والكسائي ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٢٩.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٣٥٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٣٠.


الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة إلا أبا عبد الرحمن والحسن فإنهما قرءا (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) بضم الزاي (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) برفع قتل وخفض أولادهم. (شُرَكاؤُهُمْ) (١) بالرفع وحكى أبو عبيد أن ابن عامر وأهل الشام قرءوا (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) بضم الزاي. (لكثير من المشركين قتل أولادهم) برفع قتل ونصب أولادهم شركائهم (٢) بالخفض وحكى غير أبي عبيد عن أهل الشام أنهم قرءوا (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) بضم الزاي (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) برفع قتل وخفض أولادهم شركائهم (٣) بالخفض أيضا. قال أبو جعفر : فهذه أربع قراءات الأولى أبينها وأصحّها تنصب «قتلا» بزيّن وخفض «أولادهم» بالإضافة ، (شُرَكاؤُهُمْ) رفع بزيّن لا بالقتل لأنهم زيّنوا ولم يقتلوا وهم شركاؤهم في الدين ورؤساؤهم ، والقراءة الثانية أن يكون «قتل» اسم ما لم يسمّ فاعله. «شركاؤهم» رفع بإضمار فعل لأن زيّن يدلّ على ذلك أي زيّنه شركاؤهم ويجوز على هذا : ضرب زيد عمرو بمعنى ضربه عمرو وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٣٨ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة (٤)

وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية ابن عباس (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦] وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج : ٤ ، ٥] بمعنى قتلتهم النار ، فأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا شعر وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه في الشعر بالظرف لأنه لا يفصل فأما بالأسماء غير الظروف فلحن ، وأما ما حكاه غير أبي عبيد وهي القراءة الرابعة فهو جائز على أن تبدل شركاؤهم من أولادهم لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. (لِيُرْدُوهُمْ) لام كي. (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي يأمرونهم بالباطل فيصير الحقّ مغطى عليه فبهذا يلبسون.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣٨)

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ) ابتداء وخبر. (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) عطف على الخبر وقرأ أبان

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٨.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٣١.

(٤) مرّ الشاهد رقم ١٣٢ ، وعجزه :

«وأشعث ممّن طوّحته الطوائح»


ابن عثمان (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) (١) بضم الحاء والجيم وقرأ الحسن وقتادة (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) (٢) بضم الحاء واسكان الجيم لغات بمعنى ، وروي عن ابن عباس وابن الزبير وحرث حرج (٣) الراء قبل الجيم وكذا في مصحف أبيّ وفيه قولان : أحدهما أنه مثل جبذ وجذب ، والقول الآخر وهو أصحّ أنه من الحرج وهو الضيق فيكون معناه الحرام ومنه فلان يتحرّج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه بالحرام. (افْتِراءً) مفعول من أجله ومصدر.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٣٩)

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) تقرأ على أربعة أوجه : قراءة العامة (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ) برفع خالصة والتأنيث وقرأ قتادة (خالِصَةٌ) بالنصب وقرأ ابن عباس (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) على الإضافة وقرأ الأعمش خالص لذكورنا بغير هاء والقراءة الأولى على الابتداء والخبر ، وفي تأنيث (ما) ثلاثة أقوال : قال الكسائي والأخفش هذا على المبالغة وقال الفراء (٤) : تأنيثها لتأنيث الأنعام وهذا القول عند قوم خطأ لأن ما في بطونها ليس منها فلا يشبه تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠] لأن بعض السيارة سيارة وهذا لا يلزم الفراء لأنه إنما يؤنث هذا لأن الذي في بطونها أنعام كما أنها أنعام ، والقول الثالث أحسنها يكون التأنيث على معنى ما والتذكير على اللفظ والدليل على هذا أنّ بعده (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) على اللفظ فالتقدير وقالوا الأنعام التي في بطون هذه الأنعام خالصة ، والنصب عند الفراء على القطع وعند البصريين على الحال مما في المخفوض الأول ولا يجوز أن يكون حالا من المضمر الذي في الذكور كما يجوز زيد قائما في الدار لأن العامل لا يتصرف وإن كان الأخفش قد أجازه في بعض كتبه ، والقراءة الثالثة على أن يكون (خالِصَةٌ) ابتداء ثانيا والخبر «لذكورنا» والجملة خبر «ما» ويجوز أن «خالصه» بدلا من «ما». والقراءة الرابعة على تذكير «ما» في اللفظ. (يَكُنْ) بمعنى وإن يكن ما في بطونها ميتة والتأنيث بمعنى وإن تكن الحمول ميتة. قال أبو حاتم : وإن تكن النسمة ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء : الاختيار يكن بالياء لأن بعده (فَهُمْ فِيهِ) ولم يقل : فيها وإن يكن ميتة بالرفع بمعنى تقع وقال الأخفش : أي وإن تكن في بطونها ميتة.

__________________

(١) وهي قراءة عيسى بن عمر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٣٣ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.

(٢) انظر البحر المحيط : ٤ / ٢٣٣.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٤١.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥٨.


(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠)

(سَفَهاً) مصدر ومفعول من أجله.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) في موضع نصب وكسرت التاء لأنه جمع مسلّم. (مَعْرُوشاتٍ) نعت أي عليها حيطان ، وقيل : لأن بعض أغصانها على بعض. (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) عطف. (مُخْتَلِفاً) على الحال. قال أبو إسحاق : هذه مسألة مشكلة من النحو لأنه يقال : قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها. ففي هذا جوابان : أحدهما أنه أنشأها بقوله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] فأعلم الله عزوجل أنه أنشأها مختلفا أكلها ، والجواب الآخر أنه أنشأها مقدّرا ذلك فيها ، وقد بيّن هذا سيبويه (١) بقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، على الحال كما تقول : ليدخلنّ الدار آكلين شاربين أي مقدّرين ذلك. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف. (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) على الحال. ويقال : حصاد وحصاد وجداد وجدّاد وصرام وصرام. (وَلا تُسْرِفُوا) نهي. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي لا يثني عليهم ولا يثيبهم.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٤٢)

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) عطف ، أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال : أحدها أنّ الأنعام الإبل خاصة ، وقيل : النعم الإبل وحدها وإذا كان معها غنم وبقر فهي أنعام أيضا ، والقول الثالث أصحّها قال أحمد بن يحيى : «الأنعام» كلّ ما أحلّه الله جلّ وعزّ من الحيوان ويدلّ على صحّة هذا قوله جلّ وعزّ (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة: ١]. وقد ذكرنا الحمولة والفرش ، ومن أحسن ما قيل فيهما أنّ الحمولة المسخّرة المذلّلة للحمل ، و «الفرش» ما خلقه الله عزوجل من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهّد. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) جمع خطوة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٥٨.


ويجوز الضمّ والفتح وقرأ أبو السمال (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (١) بفتح الخاء والطاء.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣)

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) في نصبه ستة أقوال : قال الكسائي : هو منصوب بإضمار أنشأ ، وقال الأخفش سعيد : هو منصوب على البدل من حمولة وفرش ، وإن شئت على الحال ، وقال الأخفش علي بن سليمان : يكون منصوبا بكلوا أي كلوا لحم ثمانية أزواج ، ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من «ما» على الموضع ، ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح ثمانية أزواج (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) قرأ طلحة بن مصرّف وعيسى (مِنَ الضَّأْنِ) (٢) بفتح الهمزة ، وقرأ أبان بن عثمان من الضأن اثنان ومن المعز اثنان (٣) رفعا بالابتداء وقرأ أبو عمرو والحسن وعيسى ومن المعز (٤) بفتح العين وفي حرف أبيّ ومن المعزى اثنين (٥) ، قال أبو جعفر : الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان ، ويدلّ على هذا قولهم في الجمع : معيز هذا جمع معز كما يقال : عبد وعبيد ، وقال امرؤ القيس : [الوافر]

١٣٩ ـ ويمنحها بنو شمج بن جرم

معيزهم حنانك ذا الحنان (٦)

واختار أبو عبيد ومن المعز أيضا بإسكان العين ، قال : لإجماعهم على الضأن وقد ذكرنا أنه قد قرئ (الضَّأْنِ) وما عزّ ومعز مثل تاجر وتجر فأما معز فيجوز لأن فيه حرفا من حروف الحلق وكذا ضأن. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) منصوب بحرّم. (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) عطف عليه وكذا (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ) وزدت مع ألف الوصل مدة فقلت الذكرين لنفرق بين الخبر والاستفهام ، ويجوز حذف المدة لأن «أم» تدلّ على الاستفهام كما قال : [المتقارب]

١٤٠ ـ تروح من الحيّ أم تبتكر (٧)

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٤٦.

(٢) انظر المحتسب ١ / ٢٣٣.

(٣) وهي قراءة الحسن أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤١.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤١.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤١ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.

(٦) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص ١٤٣ ، ولسان العرب (حنن) ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ٢ / ٥٤٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٤.

(٧) مرّ الشاهد رقم (٧).


أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ) وقرأ أبو جعفر محمد بن علي (يَطْعَمُهُ) والأصل فيه يطتعمه (١) فأدغم بعد قلب التاء طاء. (يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ) أي إلا أن يكون المأكول ميتة. قال الأصمعي : قال لي نافع بن أبي نعيم مفسرا إلا أن يكون ذلك ميتة وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة إلا أن تكون ميتة (٢) والتقدير على هذا : إلا أن يكون المأكولة ميتة وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع إلا أن تكون ميتة (٣) بالرفع. (أَوْ دَماً) بالنصب وبعض النحويين يقول هو لحن لأنه عطف منصوبا على مرفوع وسبيل المعطوف سبيل المعطوف عليه والقراءة جائزة وقد صحّت عن إمام على أن يكون أو دما معطوفا على أن لأن «أن» في موضع نصب وهي اسم والتقدير إلّا كون ميتة (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) نعت. (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) عطف وكذا (أَوْ فِسْقاً) فإنّه رجس ينوى به التأخير وفي الآية إشكال يقال : قد حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطير ، وليس هما في الآية ففي هذا أقوال : منها أنّهم سألوا عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصا وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وقيل : ما صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو داخل في الآية معطوف على ما بعد إلا ، وهذا قول حسن ومثله كثير ، وفي الآية قول ثالث بيّن وهو أن ما حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ميتة فالآية على هذا مشتملة على هذه الأشياء.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦)

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وقرأ الحسن ظفر (٤) بإسكان الفاء وقرأ أبو السمّال ظفر (٥) بإسكان الفاء وكسر الظاء ، وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وإسكان الفاء ولم يذكر هذه القراءة قال : ويقال : أظفور وحكى الفراء في الجمع أظافير وأظافرة وأظافر وأظفارا. (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤٢.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٤٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤٢ ، وتيسير الداني ٨٩.

(٤) وهي قراءة أبيّ والأعرج أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤٥ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.

(٥) وهي قراءة الحسن أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٤٥ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.


شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) (ما) في موضع نصب على الاستثناء. (ظُهُورُهُما) رفع بحملت. (أَوِ الْحَوايا) في موضع رفع عطف على الظهور. حاوية وحوايا وحاوياء مثل نافقاء ونوافق وضاربة وضوارب وأبدل من الياء ألف كما يقال صحارى. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) (ما) في موضع نصب عطف على ما حملت وفي هذا أقوال هذا أصحّها وهو قول الكسائي والفراء (١) وأحمد بن يحيى والنظر يوجبه أن يعطف الشيء على ما يليه إلا أن لا يصحّ معناه أو يدل دليل على غيره. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ) أي الأمر ذلك. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) خبر إنّ والأصل إنّنا.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧)

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) شرط والجواب (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) أي لأنه حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا والأصل في «ذو» ذوى ولو نطق به على الأصل لقيل : ذوى مثل عصا وقد جاء في القرآن على الأصل وهو (ذَواتا أَفْنانٍ) [الرحمن : ٤٨] ثم أخبر الله جلّ وعزّ بالغيب عما سيقولونه فقال :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) (١٤٨)

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) عطف على النون والألف وحسن ذلك لما جئت بلا ، توكيدا وقد أفادت معنى النفي عن الجميع وقيل : معنى قوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) أي لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحلّ فانتهوا فاتبعناهم على ذلك وألفناه ولم تنفر طباعنا عنه فردّ الله عزوجل عليهم ذلك فقال (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي أعندكم دليل على أنّ هذا كذا. (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في هذا القول (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) فتوهمون ضعفتكم أنّ لكم حجّة.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩)

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشكّ عمن نظر فيها.

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) فتحت الميم لالتقاء الساكنين كما تقول : ردّ يا هذا. ولا يجوز

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٣.


ضمها ولا كسرها. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا معناها إلّا أنّ في كتاب العين للخليل رحمه‌الله أنّ أصلها : «هل أؤمّ». أي هل أقصدك ثم كثر استعمالهم إياها حتى صار المقصود يقولها ، كما أن «تعالى» أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل فكثر استعمالها إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي : تعالى.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١)

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) جواب الأمر. (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (ما) في موضع نصب بالفعل. (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) الفراء يختار أن يكون (لا) للنهي لأن بعده (وَلا تَقْتُلُوا). قال أبو جعفر : ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب بدلا من «ما» أي أتل عليكم تحريم الإشراك ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كراهة أن تشركوا ويكون المتلو عليهم (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] الآية ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هو أن لا تشركوا به شيئا. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مصدر. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي من خوف الفقر. (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) نصب بالفعل. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل منها. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) أي الأمر ذلكم ويجوز أن يكون بمعنى بيّن لكم وصاكم به. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لتكونوا على رجاء من ذلك.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢)

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) نهي كلّه فلذلك حذفت منه النون. (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي إذا عاهدتم الله جلّ وعزّ على شيء أو حلفتم لإنسان فأوفوا. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مثل الأول وأدغمت التاء في الذال لقربها منها ويجوز حذفها للدلالة.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وتقديرها عند الخليل وسيبويه (١) : ولأن هذا صراطي كما قال جلّ وعز : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ)

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ١٤٦.


[الجن : ١٨] والفراء (١) يذهب إلى أنها في موضع خفض بمعنى «ذلكم وصّاكم به» ووصّاكم بأنّ هذا صراطي مستقيما ، والكسائي يذهب إلى أنها في موضع نصب على هذا المعنى إلا أنه لمّا حذف الباء نصب وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَأَنَّ هذا) (٢) بكسر الهمزة وهذا مستأنف ومن قرأ (وَأَنَّ هذا) (٣) بالتخفيف فهذا عنده في موضع رفع بالابتداء ويجوز النصب ومعنى وأنّ هذا صراطي مستقيما لا يعرّج من سلكه. (مُسْتَقِيماً) على الحال. (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي لا تتبعوا الديانات المختلفة. (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) جواب النهي. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) مثل الأول.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤)

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان (تَماماً) مفعول من أجله ومصدر. (عَلَى الَّذِي) خفض بعلى (أَحْسَنَ) فعل ماض داخل في الصلة وهذا قول البصريين وأجاز الكسائي والفراء (٤) أن يكون اسما نعتا للذي وأجاز : مررت بالذي أخيك ، ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها وذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم والمعنى عندهم على المحسن ، وأجاز الكسائي والفراء أن يكون الذي بمعنى الذين أي على المحسن ، وحكي عن محمد بن يزيد قول رابع قال : هو مثل قولك : إذا ذكر زيد مررت بالذي ضرب أي الذي ضربه فالمعنى تماما على الذي أحسنه الله إلى موسى من الرسالة وغيرها (وَتَفْصِيلاً) عطف وكذا (وَهُدىً وَرَحْمَةً).

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥)

(وَهذا كِتابٌ) ابتداء وخبر. (مُبارَكٌ) نعت ، ويجوز في غير القرآن : مباركا. على الحال.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦)

(أَنْ تَقُولُوا) في موضع نصب بمعنى كراهة أن تقولوا وقال الفراء (٥) أي : واتّقوا أن تقولوا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٤.

(٢) انظر تيسير الداني ٨٩.

(٣) انظر تيسير الداني ٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٤ ، وهذه قراءة ابن عامر.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٥.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٧.


(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

(أَوْ تَقُولُوا) عطف عليه. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) لأن البينة والبيان واحد.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ويجوز تأتي مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) [القصص : ٨] أو مثل تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠] وقرأ ابن سيرين لا تنفع نفسا إيمانها. قال أبو حاتم : هذا غلط من ابن سيرين. قال أبو جعفر : في هذا شيء دقيق من النحو ذكره سيبويه وذلك أنّ الإيمان والنفس كلّ واحد منهما مشتمل على الآخر فجاز التأنيث وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٤١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النواسم (١)

لأن المرّ والرياح كل واحد منهما مشتمل على الآخر ، وفيه قول آخر أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكّر المصدر المؤنث مثل (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] لأن موعظة بمعنى الوعظ وكما قال : [الطويل]

١٤٢ ـ فقد عذرتنا في صحابته العذر (٢)

ففي أحد الأقوال أنه أنّث العذر لأنه بمعنى المعذرة.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩)

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض وكذا من ابتدع فقد جاء بما لم يأمر الله جل وعز به فقد فرّق دينه وفارقوا دينهم يعني الإسلام وكلّ من فارقه فقد فارق

__________________

(١) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص ٧٥٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٢٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٨ ، والكتاب ١ / ٩٤ ، والمحتسب ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٦٧ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٣٩ ، والخصائص ، ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٨٣٨ ، ولسان العرب (عرد) و (صدر) ، و (قبل) ، و (سفه) ، والمقتضب ٤ / ١٩٧.

(٢) الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٥٨٣ ، وللأبيرد اليربوعي في الحماسة البصرية ١ / ٢٦٨ ، ونسب للأخطل في لسان العرب (عذر). وصدره :

«فإن تكن الأيام فرّقن بيننا»


دينه الذي يجب أن يتّبعه لست منهم في شيء فأوجب براءته منهم إنما أمرهم إلى الله تعزية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) ابتداء وهو شرط والجواب (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي فله عشر حسنات أمثالها وحكى سيبويه (١) : عندي عشرة نسّابات أي عندي عشرة رجال نسابات ، وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) وتقديرها : فله حسنات عشر أمثالها أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له ويجوز أن يكون له مثل ويضاعف المثل فيصير عشرة. (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) خبر ما لم يسمّ فاعله.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١)

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً) قال الأخفش : هو نصب بهداني وقال غيره : هو نصب بمعنى عرّفني مثل : هو يدعه تركا. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون محمولا على المعنى لأن المعنى هداني صراطا مستقيما كما قال جلّ وعزّ (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢] : (قِيَماً) من نعمته وقيّما أعلّ على الإتباع. (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل. (حَنِيفاً) قال أبو إسحاق : هو حال من إبراهيم وقال علي بن سليمان : هو نصب بإضمار أعني.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢)

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي) اسم «إنّ». (وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي) عطف عليه وقرأ أهل المدينة (وَمَحْيايَ) (٣) بإسكان الياء في الإدراج وهذا لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس لأنه جمع بين ساكنين وإنما أجازه يونس لأن قبله ألفا والألف المدّ التي فيها تقوم مقام الحركة وأجاز يونس اضربان زيدا وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام ، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على «محياي» فيكون غير لاحن عند جميع النحويين ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) (٤) بالإدغام وهذا وجه جيد في العربية لمّا كانت الياء يغيّر

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٤٦.

(٢) انظر البحر المحيط : ٤ / ٢٦١ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.

(٣) انظر تيسير الداني ٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٦٢.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٢.


ما قبلها بالكسر ولم يجز في الألف كسر صيّر تغييرها قلبها إلى الياء كما أنشد أهل اللغة : [الكامل]

١٤٣ ـ سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم (١)

خبر. قال الأخفش : يقال : وزر يوزر ووزر يزر ووزر يوزر وزرا ويجوز إزرا كما يقال : إسادة.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) مفعولان. (لِيَبْلُوَكُمْ) نصب بلام كي وهو بدل من «أن». (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) اسم «إنّ» وخبرها وكذا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ١٨ ، وعجزه :

«فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع»


(٧)

شرح إعراب سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربّ يسّر وأعن :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

(المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الكسائي : أي هذا كتاب أنزل إليك ، وقال الفراء (١) : المعنى الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتاب أنزل إليك مجموعا. قال أبو إسحاق : هذا القول خطأ من ثلاث جهات : منها أنه لو كان كما قال لوجب أن يكون بعد هذه الحروف أبدا كتاب وقد قال الله جلّ وعزّ : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١ ، ٢] ومنها أنه لو كان كما قال ما لكانت «الم» في غير موضع كذا «حم» ، ومنها أنه أضمر شيئين لأنه يحتاج أن يقدّر «الم» بعض حروف كتاب أنزل إليك ولا يكون هذا كقولك : ا ب ت ث ثمانية وعشرون حرفا ، لأن هذا اسم للسورة كما تقول : الحمد سبع آيات والدليل على هذا أنه لا يجوز ط ظ ر ن ثمانية وعشرون حرفا. قال أبو جعفر : وقد أجاز الفراء هذا. (فَلا يَكُنْ) نهي وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لسكونها وسكون النون وكانت أولى بالحذف لأن قبلها ضمة تدلّ عليها. (حَرَجٌ) اسم يكن والنهي في اللفظ للحرج وفي المعنى المخاطب. (لِتُنْذِرَ بِهِ) نصب بلام كي. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) لم تنصرف لأن في آخرها ألف تأنيث وتكون في موضع رفع ونصب وخفض ، الرفع عند البصريين على إضمار مبتدأ ، وقال الكسائي : هي عطف على «كتاب» ، والنصب عند البصريين على المصدر ، وقال الكسائي : هي عطف على الهاء في «أنزلناه» ، والخفض بمعنى للإنذار وذكرى للمؤمنين خفض باللام.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

(اتَّبِعُوا) أمر وهو جزم عند الفراء وبناء عند سيبويه (وَلا تَتَّبِعُوا) جزم. (مِنْ دُونِهِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٨.


أَوْلِياءَ) مفعول ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث أي لا تعبدوا معه غيره (قَلِيلاً) نعت لظرف أو لمصدر. (ما تَذَكَّرُونَ) (١) تكون «ما» زائدة وتكون مع الفعل مصدرا والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال لقربها منها وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي تذكرون فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤)

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) في موضع رفع بالابتداء ويجوز النصب بإضمار فعل. (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) قال الفراء (٢) : خفّفت الواو والمعنى أو وهم قائلون. قال أبو إسحاق : هذا خطأ إذا عاد الذكر استغني عن الواو تقول : جاءني زيد راكبا أو هو ماش ولا يحتاج إلى الواو.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥)

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) خبر كان واسمها (إِلَّا أَنْ قالُوا).

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧)

فدلّ بهذا على أن الكفار يحاسبون وهذه لام القسم وحقيقتها أنها للتوكيد وكذا (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) خبر كان وبطل عمل ما.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

(وَالْوَزْنُ) رفع بالابتداء (الْحَقُ) خبره ، ويجوز أن يكون الحق نعتا له والخبر (يَوْمَئِذٍ) ويجوز نصب الحق على المصدر. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) شرط وجوابه ، وكذا (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) مصدر أي بظلمهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

وقرأ الأعرج معائش (٣) بالهمز وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٨.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٦٨.

(٣) وهي قراءة زيد بن علي والأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٧١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٢.


أبو جعفر : والهمز لحن لا يجوز لأن الواحد معيشة فزدت ألف الجمع وهي ساكنة والياء ساكنة فلا بد من تحريك إذ لا سبيل إلى الحذف والألف لا تحرّك فحرّكت الياء بما كان يجب لها في الواحد ونظيره من الواو منارة ومناور ومقامة ومقاوم كما قال : [الطويل]

١٤٤ ـ وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن

جرير ولا مولى جرير يقومها (١)

وكذا مصيبة ومصاوب هذا الجيد ولغة شاذّة مصايب. قال الأخفش : إنما جاز مصايب لأن الواحدة معتلّة. قال أبو إسحاق : هذا خطأ يلزمه أن يقول : مقايم ، ولكن القول عندي أنه مثل وسادة وإسادة.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

قال أبو جعفر : فقد ذكرنا معنى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء من موجب. (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) في موضع الخبر.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

(قالَ ما مَنَعَكَ ما) في موضع رفع بالابتداء ، وعند الكسائي بالعائد. والمعنى أيّ شيء منعك (أَلَّا تَسْجُدَ) في موضع نصب أي من أن تسجد. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ابتداء وخبر. في أنا ثلاث لغات أفصحها : أنا فعلت بحذف الألف في الإدراج لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. قال الفراء : وبعض بني قيس وربيعة يقولون : أنا فعلت بإثبات الألف في الإدراج. قال الكسائي : وبعض قضاعة يقولون : أان فعلت ، مثل عان. وفي الوقف ثلاث لغات : أفصحها : أنا. قال الكسائي : ومن العرب من يقول : «أنه» قال الأخفش : ومن العرب من يقول : «أن» في الوقف.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧)

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فيها ثلاثة أجوبة : يكون من الغيّ ويكون مثل أحمدت الرجل ، وقيل : أغواه أي خيّبه. (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي لأقعدن لهم في الغيّ على

__________________

(١) الشاهد للأخطل في ديوانه ص ٢٣٣ ، وحماسة البحتري ص ٢١٢ ، والخصائص ٣ / ١٤٥ ، وشرح المفصل ١٠ / ٩٠ ، وللفرزدق في المقتضب ١ / ١٢٢ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ١٠ / ٩٧ ، والمنصف ١ / ٣٠٦.


صراطك حذفت «على» كما حكى سيبويه : ضرب الظّهر والبطن وأنشد : [الكامل]

١٤٥ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

والتقدير على صراطك وفي صراطك وسمّي الدين صراطا لأنه الطريق إلى النجاة.

وأحسن ما قيل في معنى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) في الضلالة.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) على الحال وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عيّاش (لَمَنْ تَبِعَكَ) (٢) بكسر اللام وأنكره بعض النحويين وتقديره ـ والله أعلم ـ من أجل من تبعك كما يقال : أكرمت فلانا لك وقد يكون المعنى : الدّحر لمن تبعك منهم. قال أبو إسحاق من قرأ «لمن تبعك» بفتح اللام فهي عنده لام قسم وهي توطئة لقوله (لَأَمْلَأَنَ) وقال غيره : لمن تبعك هي لام توكيد لأملأنّ لام قسم الدليل على هذا أنه يجوز في غير القرآن حذف اللام الأولى ولا يجوز حذف الثانية ، وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة أي من تبعك عذّبته ، ولو قلت : من تبعك أعذبه لم يجز إلّا أن تريد لأعذبنه.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠)

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) نهي. (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب ويكون عطفا.

قال الأخفش : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا) أي إليهما. (ما وُورِيَ) ويجوز في غير القرآن أوري مثل «أقّتت». (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) خبر تكونا و «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة والكوفيون يقولون : لئلّا وقرأ يحيى بن أبي كثير والضحّاك (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بكسر اللام ويجوز على هذه القراءة إسكانها ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة ، وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه :

__________________

(١) الشاهد لساعدة بن جؤيّة الهذليّ في الكتاب ١ / ٦٩ ، وتخليص الشواهد ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ١١٢٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣١٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٨٥ ، ولسان العرب (وسط) و (عسل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٤٤ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٨٠ ، وجمهرة اللغة ٨٤٢ ، والخصائص ٣ / ٣١٩ ، وشرح الأشموني ١ / ١٩٧ ، ومغني اللبيب ص ١١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٠.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٢ ، وهي قراءة عاصم.


١٢٠] حجّة بيّنة ولكنّ الناس على تركها فلهذا تركناها (١). قال أبو جعفر : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) قراءة شاذة وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعل من الخطأ الفاحش وهل يجوز أن يتوهّم آدمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين وإنما معنى (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) المقام في ملك الجنّة والخلود فيه وقد بيّن الله جلّ وعز فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو إلّا أن يكونا ملكين ومنها (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠] ومنه (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] وقال الحسن : فضّل الله عزوجل الملائكة بالصور والأجنحة والكرامة ، وقال غيره : فضّلهم الله جلّ وعزّ بالطاعة وترك المعصية فبهذا يقع التفضيل في كلّ شيء.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١)

ليس «لكما» داخلا في الصلة وللنحويين فيه ثلاثة أقوال : قال هشام : التقدير إني ناصح لكما لمن الناصحين ، وقال محمد بن يزيد : يكون لكما تبيينا كما تقول : مرحبا بك وبك مرحبا. قال محمد بن يزيد وقال المازني : وهو اختياري الألف واللام بمنزلتها في الرجل وليست بمعنى الذي ألا ترى أنك تقول : نعم القائم. ولا يجوز : نعم الذي قام.

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

وقرأ الحسن فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما على واحدة والأجود الجمع ويجوز التثنية وقد ذكرناه في «سورة المائدة» (٢). (وَطَفِقا) (٣) ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب وقرأ الحسن (يَخْصِفانِ) (٤) بكسر الخاء والأصل يختصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ ابن بريدة ويعقوب (يَخْصِفانِ) (٥) بفتح الخاء ألقى حركة التاء عليها ، ويجوز يخصّفان بضم الياء من خصف يخصف والمعنى أنهما أمرا بترك اللّباس فبدت سوآتهما.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

(قالا رَبَّنا) نداء مضاف والأصل يا ربنا وقيل في معنى «يا» معنى التعظيم. (وَإِنْ

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٢.

(٢) انظر المائدة : ٣١.

(٣) وقرأ أبو السّمال (وطفقا) بالفتح ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١.

(٤) وهي قراءة الأعرج ومجاهد وابن وثاب أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٢.


لَمْ تَغْفِرْ لَنا) وقعت (إن) على (لم) لأن معناها مع ما بعدها الفعل الماضي.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

(يا بَنِي آدَمَ) نداء مضاف. (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) وهو القطن والكتّان لأنهما يكونان من الماء الذي يكون من السماء ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي وأبو عمرو ومن رواية الحسين بن عليّ الجعفيّ ورياشا (١) ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن ولم يفسّر معناه وهو جمع ريش وهو ما كان من المال واللباس قال الفراء (٢) : ريش ورياش كما تقول : لبس ولباس (وَلِباسُ التَّقْوى) (٣) هذه قراءة أهل المدينة والكسائي ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة (وَلِباسُ التَّقْوى) بالرفع ، والنصب على العطف وتم الكلام والرفع بالابتداء. و (ذلِكَ) من نعته وخبر الابتداء (خَيْرٌ) ويجوز أن يكون «لباس» مرفوعا على إضمار مبتدأ أي وستر العورة ذلك لباس المتّقين وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : الرفع والنصب حسنان إلّا أن النصب يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون ذلك إشارة إلى اللباس والآخر أن يكون إشارة إلى كل ما تقدّم فأما لباس التقوى ففيه قولان : أحدهما أن معنى أنزل لباس التقوى ما علّمه الله جلّ وعزّ وهدى به هذا في النصب ، وفي الرفع على التمثيل ، والقول الآخر أن معنى لباس التقوى لبس الصوف والخشن من الثياب مما يتواضع به لله جلّ وعزّ. وأولى ما قيل في النصب أنه معطوف و «ذلك» مبتدأ ، أي ذلك الذي أنزلناه من اللباس والريش لباس التقوى خير من التقوى والتجرّد في طوافكم فإن رفعت فقرأت (وَلِباسُ التَّقْوى) فأولى ما قيل فيه أن ترفعه بالابتداء. و (ذلِكَ) نعته أي ولباس التقوى ذلك الذي علمتموه خير لكم من لباس الثياب التي يواري سوآتكم ومن الرياش الذي أنزلناه إليكم فألبسوه (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي مما يدل على أنّ له خالقا. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليكونوا على رجاء من التذكير.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

(يا بَنِي آدَمَ) نداء مضاف. (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) نهي وهو مجاز مثل (وَلا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨٣ ، ومختصر ابن خالويه ٤٣.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٥.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٠.


تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] أي كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. (كَما) في موضع نصب نعت لمصدر. (أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أب وأبة للمؤنث فعلى هذا قيل : أبوان ويقال في النداء : يا أبة للمذكر وبضم الهاء وبفتح. (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) في موضع نصب على الحال ويكون مستأنفا. (لِيُرِيَهُما) نصب بلام (إِنَّهُ يَراكُمْ) الأصل يرأاكم ثم خفّفت الهمزة. (هُوَ وَقَبِيلُهُ) عطف على المضمر وهو توكيد وهذا يدلّ على أنه يقبح رأيتك وعمر وأنه ليس المضمر كالمظهر ، وقيل : إن قوله (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يدلّ على أن الجنّ لا يرون إلا في وقت نبيّ ليكون ذلك دلالة على نبوّته لأن الله جلّ وعزّ خلقهم خلقا لا يرون فيه وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم وذلك من المعجزات التي لا تكون إلّا في وقت الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) وحكى سيبويه : حيث. قال أبو إسحاق هي مبنيّة لعلّتين : إحداهما أنها لا تدلّ على موضع بعينه ، والأخرى أنّ ما بعدها صلة لأنها لا تضاف ويقال : حوث وحوث وحكى الكوفيّون الكسر والإضافة. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي وصفناهم بهذا.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الكاف في موضع نصب. أي تعودون كما بدأكم أي كما خلقكم أول مرّة يعيدكم. قال أبو إسحاق : هو متعلّق بما قبله أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون.

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

(فَرِيقاً هَدى) نصب بهدى. (وَفَرِيقاً) نصب بإضمار فعل أي وأضلّ فريقا وأنشد سيبويه(١) : [المنسرح]

١٤٦ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نّفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

وقال الكسائي والفراء : التقدير يعودون فريقا هدى وفريقا أي يعودون فريقين. قال الكسائي : وفي قراءة أبيّ (تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١١٣).


الضَّلَالَةُ) (١) قال الفراء : ولو كان مرفوعا لجاز وقرأ عيسى بن عمر أنّهم بفتح الهمزة بمعنى لأنهم.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ابتداء وخبر أي هي خالصة يوم القيامة للذين آمنوا في الدنيا وهذه قراءة ابن عباس وبها قرأ نافع وسائر القراء يقرءون (خالِصَةً) على الحال أي يجب لهم في هذه الحال ، وخبر الابتداء (لِلَّذِينَ آمَنُوا) والاختيار عند سيبويه النصب لتقدم الظرف. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) نصب بوقوع الفعل عليها. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل. (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) قال الفراء (٢) : الإثم ما دون الحدّ ، والبغي الاستطالة على الناس. قال أبو جعفر : فإمّا أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وتحريم الخمر موجود نصّا في كتاب الله جل وعز وهو قوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة: ٩٠] وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي كما قال : [الكامل]

١٤٧ ـ إنّي وجدت الأمر أرشده

تقوى الإله ، وشرّه الإثم (٣)

والبغي التجاوز في الظلم. (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) في موضع نصب عطف وكذا (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يبيّن أن كلّ مشرك يقول على الله ما لا يعلم.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي الوقت المعلوم عند الله. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) ظرف زمان. (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فدلّ بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٨.

(٣) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ص ٣١٦ ، ولسان العرب (ألا) ، وديوان المفضليات ٢٢٤.


(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥)

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) شرط ودخلت النون توكيدا لدخول ما. (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) شرط وما بعده جوابه وهو وجوابه جواب الأول ، وأصلح منكم وقيل المعنى فمن اتقى وأصلح فليطعم وحذف هذا ودلّ قوله جلّ وعزّ (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون ولا يلحقهم رعب ولا فزع.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ابتداء. (أُولئِكَ) ابتداء ثان. (أَصْحابُ النَّارِ) خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ابتداء وخبر وكذا (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) لأن التقدير نائل لهم. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ) قال الخليل وسيبويه (١) في «حتّى» و «أمّا» و «إلا» لا يملن لأنهم حروف ففرق بينهنّ وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال أبو إسحاق : تكتب «حتى» بالياء لأنها أشبهت سكرى ولو كتبت «إلا» بالياء لأشبهت «إلى» ولم تكتب «إما» بالياء لأنها «إن» ضمّت إليها «ما».

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨)

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) ظرف. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي اجتمعوا وقرأ الأعمش تداركوا (٢) وهذا الأصل ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ مجاهد حتى إذا أدركوا (٣) أي أدرك بعضهم بعضا. (جَمِيعاً) على الحال. (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما تجدون من العذاب.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢٤٨.

(٢) وهي قراءة ابن مسعود أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٩٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٩٨.


(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا فليس تستحقون تخفيفا من العذاب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) اسم «إن» والخبر في (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) هذه قراءة نافع وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لا يفتح (١) بالباء على تذكير الجميع والتأنيث على تأنيث الجماعة والتخفيف يكون للقليل والكثير والتثقيل للكثير لا غير والتثقيل هنا أولى لأنه على الكثير أدلّ.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) التنوين عند سيبويه (٢) عوض من الياء وعند أصحابه عوض من الحركة. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ابتداء والجملة الخبر ومعنى (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إلا ما تقدر عليه وتتسع له.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) إن احتجت إلى جمع غلّ قلت : غلال. (تَجْرِي) في موضع نصب على الحال وقد يكون مستأنفا (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) فيه قولان : أحدهما هدانا إلى ما أدّى إلى هذا ، والقول الآخر أن المعنى الذي هدانا إلى الجنة بالتمكين لنا والتعريف. (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لام نفي. (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) «أن» في موضع رفع. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) «أن» في موضع نصب مخفّفة من الثقيلة وقد يكون تفسيرا

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٠.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٣٤٢.


لما نودوا به فلا يكون لها موضع (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) ابتداء وخبر.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤)

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) تميل من أجل الراء لأنها مخفوضة وهي بمنزلة حرفين ويجوز التفخيم. (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) مثل «أن تلكم». (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) مفعولان. (قالُوا نَعَمْ) وقرأ الأعمش والكسائي (قالُوا نَعَمْ) (١) بكسر العين ويجوز على هذه اللغة إسكان العين. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) (أَنْ) في موضع نصب على القراءتين ويجوز في المخففة أن لا يكون لها موضع وتكون مفسرة وحكى أبو عبيد أن الأعمش قرأ (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) وحكى عصمة عن الأعمش أنه قرأ (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) (٣) بكسر الهمزة فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون فناداه الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب إنّ الله.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥)

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في موضع خفض نعت للظالمين ويجوز الرفع والنصب على إضمار.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦)

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) وهو السّور الذي ذكره الله جلّ وعزّ. (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) أي وعلى أعراف السّور وهي شرفه ومنه عرف الفرس ، وقد تكلّم العلماء في أصحاب الأعراف فقال قوم : هم ملائكة ، وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، ومن أحسن ما قيل فيه أنّ أصحاب الأعراف عدول القيامة وهم الشهداء من كل أمة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم فهم على السّور بين الجنة والنار وقال جلّ وعزّ (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلمتم من العقوبة (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف أي لم يدخلوها بعد ، وهم يطمعون على هذا التأويل وهم يعلمون أنّهم يدخلونها ، وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩١.

(٢) انظر تيسير الداني ٩١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٣.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٣.


(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧)

وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم فهذا سبيل التذلّل كما يقول أهل الجنة (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [التحريم : ٨] ويقولون : «الحمد لله» على سبيل الشكر لله جلّ وعزّ ولهم في ذلك لذّة.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨)

أي من أهل النار.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩)

(أَهؤُلاءِ) إشارة إلى قوم المؤمنين الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة أي أقسمتم في الدنيا لا ينالهم الله في الآخرة برحمة يوبّخونهم بذلك وزيدوا غمّا بأن قيل لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وقرأ عكرمة دخلوا الجنة (١) بغير ألف والدال مفتوحة وقرأ طلحة بن مصرف أدخلوا الجنة (٢) بكسر الخاء على أنه فعل ماض.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠)

(أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) مثل «أن تلكم الجنّة» وجمع (تِلْقاءَ) تلاقيّ.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١)

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) في موضع خفض نعت للكافرين وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار (كَما نَسُوا) في موضع خفض بالكاف. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف عليه أي وكما كانوا بآياتنا يجحدون.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) أي بيّناه حتى يعرفه من تدبّره وقيل : فصّلناه أنزلناه متفرّقا. (عَلى عِلْمٍ) منّا به. (هُدىً وَرَحْمَةً) قال الفراء (٣) هو نصب على القطع. قال أبو

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٦ ، والمحتسب ١ / ٢٤٩.

(٢) وهي قراءة ابن وثاب والنخعي أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٦.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٠.


إسحاق : أي هاديا ذا رحمة فجعله حالا من الهاء التي في «فصّلناه». قال الكسائي والفراء : ويجوز (هُدىً وَرَحْمَةً) بالخفض (١). قال الفراء : مثل (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢]. قال أبو إسحاق : ويجوز «هدى ورحمة» بمعنى : هو هدى ورحمة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣)

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) بالهمز لأنه من آل يؤول وأهل المدينة يخفّفون الهمزة ويجعلونها ألفا ، وفي معناه قولان : أحدهما هل ينظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب ، والقول الآخر هل ينظرون إلّا تأويله من النظر إلى يوم القيامة. (يَوْمَ يَأْتِي) نصب بيقول. (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) «من» زائدة للتوكيد. (فَيَشْفَعُوا لَنا) نصب لأنه جواب الاستفهام. (أَوْ نُرَدُّ) قال الفراء : المعنى أو هل نردّ وقال أبو إسحاق : هو عطف على المعنى أي هل يشفع لنا أحد أو نردّ وقرأ ابن أبي إسحاق (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٢) بنصبهما جميعا والمعنى إلّا أن نردّ كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٤٨ ـ فقلت له لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (٣)

وقرأ الحسن (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٤) برفعهما جميعا والقراءة المجمع عليها (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٥). (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي لم ينتفعوا بها وكلّ من لم ينتفع فقد خسرها. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما كانوا يعبدونه من الأوثان.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

(إِنَّ رَبَّكُمُ) اسم «إنّ» (اللهُ) خبرها. (الَّذِي) نعت ويجوز في القرآن إن ربّكم الله

__________________

(١) في البحر المحيط ٤ / ٣٠٨ (بالخفض على البدل ، وهي قراءة زيد بن عليّ).

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٤.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٦٦ ، والأزهية ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٩ ، والكتاب ٣ / ٥١ ، وشرح المفصّل ٧ / ٢٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ١٢٨ ، واللامات ص ٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٢٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣١٣ ، والجنى الداني ص ٢٣١ ، والخصائص ١ / ٢٦٣ ، ورصف المباني ١٣٣ ، وشرح عمدة الحافظ ٦٤٤ ، واللمع ٢١١.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٤٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٨.

(٥) هذه قراءة الجمهور ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٨.


الذي يكون «الذي» الخبر. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ولو أراد جلّ وعزّ خلقهما في أقلّ الأوقات لفعل ولكنّه علم أن ذلك أصلح ليظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يجعله له كالغشاء وهو في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون مستأنفا وكذا (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) نعت لمصدر محذوف. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش : هي معطوفة على السموات أي وخلق الشمس وروي عن عبد الله بن عامر (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) على الابتداء والخبر.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

اسم «إنّ» وخبرها «فأما قريب» ولم يقل قريبا ففيه ستة أقوال : من أحسنها أنّ الرحمة والرحم واحد وهي بمعنى العفو والغفران كما قال زياد الأعجم : [الكامل]

١٤٩ ـ إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح (١)

ومذهب الفراء (٢) أن قريبا إنما جاء بغير هاء ليفرق بين قريب من النسب وبينه ، وقال من احتجّ له : كذا كلام العرب كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٥٠ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا (٣)

قال أبو إسحاق : هذا خطأ لأن سبيل المذكر والمؤنّث أن يجريا على أفعالهما ومذهب أبي عبيدة (٤) أن تذكير قريب على تذكير المكان. قال علي بن سليمان : هذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا في القرآن كما تقول : إنّ زيدا قريبا منك. قال أبو جعفر : والذي قاله أبو عبيدة قد أجاز سيبويه مثله على بعد كما قال لبيد : [الكامل]

١٥١ ـ فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٥)

فهذه ثلاثة أقوال ، وقال الأخفش : يجوز أن يذكّر كما يذكّر بعض المؤنّث وأنشد : [المتقارب]

١٥٢ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٦)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٠).

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٠.

(٣) مرّ الشاهد رقم ٤٧.

(٤) انظر مجاز القرآن ١ / ٢١٦.

(٥) الشاهد للبيب بن ربيعة في ديوانه ص ٣١١ ، والكتاب ١ / ٤٧٥ ، وإصلاح المنطق ٧٧ ، والدرر ٣ / ١١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٢ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أمم) ، و (كلا) ، و (ولي) ، والمقتضب ٤ / ٣٤١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٦٣ ، ولسان العرب (فرج).

(٦) الشاهد لعامر بن جوين في تخليص الشواهد ٤٨٣ ، والكتاب ٢ / ٤٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥ ، والدرر ٦ / ٢٦٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ٣٣٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٣ ، ـ


قال : ويجوز أن تكون الرحمة هاهنا للمطر ، والقول السادس أن يكون هذا على النسب كما يقال: امرأة طالق وحائض.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) ابتداء وخبر والرياح جمع ريح في أكثر العدد وفي أقلّه أرواح لأن الياء في ريح منقلبة من واو إذ كانت قبلها كسرة وهي ساكنة. (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) فيه ست قراءات (١) وسابعة تجوز : قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (نُشُراً) بضم النون والشين وقرأ الحسن وقتادة (نُشْراً) بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (نَشْراً) بفتح النون وإسكان الشين وقرأ عاصم (بُشْراً) بالباء وإسكان الشين والتنوين وروي عنه (بُشْراً) بفتح الباء فهذه خمس قراءات ، وقرأ محمد اليماني بشرى بين يدي رحمته في وزن حبلى ، والقراءة السابعة بشرا (٢) بضم الباء والشين. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا معانيها في كتابنا المعاني وهي في موضع نصب على الحال وما كان منها مصدرا فهو مثل قوله : «قتلته صبرا». (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) يذكّر ويؤنّث وكذا كلّ جمع بينه وبين واحدته هاء ويجوز نعته بواحد فتقول : سحاب ثقيل وثقيلة. (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) وإلى بلد بمعنى واحد. (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) رفع بالابتداء. (يَخْرُجُ نَباتُهُ) في موضع الخبر ، وقرأ (٣) عيسى بن عمر يخرج نباته بإذن ربه بضم الياء و (الْبَلَدُ الطَّيِّبُ) هو الطيّب تربته والذي خبث هو الذي في تربته حجارة وفي أرضه شوك شبّه سريع الفهم بالبلد الطيب. والبلد الذي خبث (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) نصب على الحال ، وقرأ طلحة (إِلَّا نَكِداً) (٤) حذف الكسرة

__________________

ـ ولسان العرب (أرض) و (بقل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٦٤ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٥٢ ، وجواهر الأدب ١١٣ ، والخصائص ٢ / ٤١١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٤ ، والردّ على النحاة ٩١ ، ورصف المباني ١٦٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٧ ، وشرح ابن عقيل ٢٤٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٩٤ ، ولسان العرب (خضب) والمحتسب ٢ / ١١٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٥٦.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٢٠ ، والمحتسب ١ / ٣٥٥ ، وتيسير الداني ٩١.

(٢) وهذه قراءة ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٠.

(٣) في البحر المحيط ٤ / ٣٢٢ قال : (وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر : (يَخْرُجُ نَباتُهُ) مبنيا للمفعول).

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٢.


لثقلها ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى ذا نكد وقرأ أبو جعفر (إِلَّا نَكِداً) فهذا مصدر بمعنى ذا نكد كما قال الخنساء : [البسيط]

١٥٣ ـ فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ) الفاء تدلّ على أنّ الثاني بعد الأول (يا قَوْمِ) نداء مضاف ويجوز يا قومي على الأصل. (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذه قراءة أبي عمرو وشيبة ونافع وعاصم وحمزة ، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي وأبو جعفر غيره (٢) بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. قال أبو عمرو : ولا أعرف الجر ولا النصب وقال عيسى بن عمر : النصب والجر جائزان. قال أبو جعفر : والرفع من جهتين : إحداهما أن يكون «غير» في موضع «إلّا» فتقول ما لكم إله إلّا الله وما لكم إله غير الله فعلى هذا الوجه لا يجوز الخفض لا يجوز : ما جاءني من أحد إلّا زيد لأن من لا يكون إلّا في الواجب. قال سيبويه : لأن «على» و «عن» لا يفعل بهما ذلك أي لا يزادان البتّة ثم قال : ولا «من» في الواجب ، والوجه الآخر في الرفع أن يكون نعتا على الموضع أي ما لكم إله غيره والخفض على اللفظ ، ويجوز النصب على الاستثناء وليس بكثير غير أنّ الكسائي والفراء أجازا نصب «غير» في كلّ موضع يحسن فيه «إلّا» في موضعها تمّ الكلام أو لم يتمّ ، وأجازا ما جاءني غيرك. قال الفراء : هي لغة بعض بني أسد وقضاعة وأنشد : [البسيط]

١٥٤ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن هتفت

حمامة في سحوق ذات أو قال (٣)

قال الكسائي : ولا يجوز جاءني غيرك لأنّ إلّا لا يقع هاهنا. قال أبو جعفر : لا يجوز عند البصريين نصب غير إذا لم يتمّ الكلام وذلك عندهم من أقبح اللحن. قال أبو إسحاق : وإنما استهواه ـ يعني الفراء ـ البيت الذي أنشده سيبويه منصوبا وإنما نصب غير في البيت لأنها مضافة إلى ما لا إعراب فيه فأما ما جاءني غيرك فلحن وخطأ.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢).

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٤.

(٣) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٨٥ ، وجمهرة اللغة ١٣١٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٦ ، والدرر ٣ / ١٥٠ ، ولأبي قيس بن رفاعة في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٨٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٦٥ ، والإنصاف ١ / ٢٨٧ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥٣٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٠٧ ، وشرح التصريح ١ / ١٥ ، وشرح المفصّل ٣ / ٨١ ، والكتاب ٢ / ٣٤٤ ، ولسان العرب (نطق) ، ومغني اللبيب ١ / ١٥٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٩.


(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢)

(أُبَلِّغُكُمْ) (١) وأبلّغكم واحد كما يقال : أكرمه وكرّمه ، وكما قال : [الطويل]

١٥٥ ـ ومن لا يكرم نفسه لا يكرم (٢)

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣)

(أَوَعَجِبْتُمْ) فتحت الواو لأنها واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير وإنما سبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلّا الألف لقوّتها.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥)

(وَإِلى عادٍ) وإن شئت لم تصرفه يكون اسما للقبيلة كما قال جلّ وعزّ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٣) [النجم : ٥٠] ومن صرف جعله اسما للحيّ. (أَخاهُمْ) عطف وهو عطف البيان والتقدير وأرسلنا إلى عاد أخاهم (هُوداً) بدل والصرف وهو أعجميّ لخفّته لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يكون عربيا مشتقا من هاد يهود.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٧)

(لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) ولو كان ليست جاز والتذكير لأنه مصدر وقد فرق بينه وبين الفعل.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩)

(خُلَفاءَ) جمع خليفة على التذكير والمعنى وخلائف على اللفظ. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) قال الفراء (٤) : ويروى أنّ أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعا. ويجوز (بَصْطَةً) الصاد لأن بعدها طاء.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ

__________________

(١) قراءة أبي عمرو ، وباقي السبعة بالتشديد ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٥ ، وتيسير الداني ٩١.

(٢) الشاهد عجز بيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٢ ، واللمع ص ٢١٥ وصدره :

«ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه»

(٣) انظر تيسير الداني ١٦٦ ، وهذه قراءة نافع وأبي عمرو.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٤.


وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١)

(فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها)

وحذف المفعول الثاني أي سميتموها آلهة.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣)

(وَإِلى ثَمُودَ)

لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة ، وقال أبو حاتم : لم ينصرف لأنه أعجميّ وهذا غلط لأنه مشتقّ من الثمد وقد قرأ الفراء (١) (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) [هود : ٦٨] على أنه اسم للحيّ ، وقرأ يحيى بن وثّاب (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (٢) بالصرف.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤)

وقرأ الحسن (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ) (٣) بفتح الحاء ، وهي لغة وفيه حرف من حروف الحلق فلذلك جاء على فعل يفعل قرأ الأعمش ولا تعثوا (٤) بكسر التاء أخذا من عثي يعثى لا من عثا يعثو.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٨١)

(وَلُوطاً) نصب لأنه عطف أي وأرسلنا لوطا ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى : واذكروا ، وكذا ما تقدّم من نظيره إلّا أن الفراء أجاز (٥) «وإلى عاد أخوهم هود» لأن له رافعا ولا يجوز عنده في لوط هذا. قال أبو إسحاق : زعم بعض النحويين يعني الفراء أن لوطا يكون مشتقا من لطت الحوض قال : وهذا خطأ لأن الأسماء الأعجمية لا تشتقّ. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) استفهام فيه معنى التقرير. واختلف القراء في الذي بعده فقرأه

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٠.

(٢) وهذه قراءة الأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٣٠ ، ومختصر لابن خالويه ٤٤.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٤٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٣٢.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٣.


أبو عمر بالاستفهام إلّا أنه ليّن الهمزة فجعلها بين الهمزة والياء وقرأ عاصم وحمزة بالاستفهام أيضا غير أنهما حقّقا الهمزة فقرأ أانكم (١) وقرأ الكسائي ونافع الثاني بغير همزة وهو اختيار أبي عبيد ، واحتجّ هو والكسائي جميعا بقوله عزوجل (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] ولم يقل : أفهم وبقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) [آل عمران : ١٤٤] ولم يقل : انقلبتم. قال أبو جعفر : وحكي عن محمد بن يزيد أنه كان يذهب إلى قول أبي عبيد والكسائي وهذا من أقبح الغلط لأنهما شبّها شيئين بما لا يشتبهان لأن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد فلا يكون فيهما استفهامان كالمبتدأ وخبره فلا يجوز : أفإن متّ أفهم الخالدون كمالا يجوز : أزيد أمنطلق وقصّة لوط صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها جملتان فلك أن تستفهم عن كل واحدة منهما ويجوز الحذف من الثانية لدلالة الأولى عليها إلا أن الاختيار تخفيف الهمزة الثانية وهذا قول الخليل وسيبويه. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) ابتداء وخبر.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢)

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) ويكون الخبر (أَنْ قالُوا) فإذا نصبت فالاسم «أن قالوا» أي إلّا قولهم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٨٣)

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) عطف على الهاء. (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من موجب.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤)

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) توكيد.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥)

(وَإِلى مَدْيَنَ) لم تنصرف لأنها اسم مدينة وقيل : لأنها اسم قبيلة وقيل : للعجمة وأصحّها الأول. (أَخاهُمْ) عطف. (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) من أوفى ويقال : وفى وعلى هذه اللغة فأوفوا.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦)

قال الأخفش (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) أي في كلّ صراط ، وفلان بالبصرة وفي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٣٥.


البصرة واحد. (تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ) أي عن الطريق التي تؤدّي إلى طاعة الله جلّ وعزّ. (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) مفعولان والتقدير يبغون لها عوجا. يقال : في الدين وفي الأمر عوج وفي العود عوج.

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧)

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ) مذكّر على المعنى وعلى اللفظ كانت.

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ) «فيها» اسم يكون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في موضع نصب وفيه تقديران : قال أبو إسحاق : أي إلا بمشيئة الله جلّ وعزّ. قال : وهذا قول أهل السّنّة ، والتقدير الآخر أنه استثناء ليس من الأول وفي معناه قولان : أحدهما : إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بشيء مما أنتم عليه ، والقول الآخر : أن يكون مثل (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠].

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وطلحة بن مصرف فكيف إيس على قوم كافرين (١) وهذه لغة تميم يقولون : أنا اضرب.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٩٨)

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) مثل أو عجبتم وكذا (أَوَأَمِنَ) على هذه القراءة وروي عن نافع وجهان : روى قالون وأكثر الناس عنه أنه قرأ (أَوَأَمِنَ) (٢) بإسكان الواو ، وروى عنه ورش أومن بتحريك الواو وإذهاب الهمزة والوجهان يرجعان إلى معنى واحد لأنه ألقى حركة الهمزة على الواو لمّا أراد تخفيفها وحذفها ومعنى (أَوَ) هاهنا الخروج من شيء إلى شيء ونظيره قوله جلّ وعزّ (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) [الإسراء : ٥٤].

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٤٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٥١.


(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) بالياء فأن في موضع رفع على هذا وقرأ مجاهد وأبو عبد الرحمن بالنون أولم نهد (١) قال أبو عمرو والقراءة بالنون محال. قال أبو جعفر : يكون «أن» في موضع نصب على قراءة من قرأ بالنون بمعنى لأن أصبناهم ببعض ذنوبهم وتمّ الكلام ثم قال جلّ وعزّ (عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ) ولا يكون معطوفا على أصبناهم لأن أصبناهم ماض ونطبع مستقبل ، وأجاز الفراء (٢) العطف لأن المستقبل والماضي يقعان هاهنا بمعنى واحد.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١٠١)

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) قال الأخفش أي فما كان ليحكم لهم بالإيمان بتكذيبهم أي ليسوا المؤمنين بتكذيبهم وقال غيره : هذا لقوم بأعيانهم (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) في موضع نصب.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) في موضع نصب فالمعنى وما وجدنا لأكثرهم عهدا ومن زائدة للتوكيد وفيه قولان : أحدهما أن يكون المعنى وما وجدنا لأكثرهم وفاء بالعهد أي وفاء عهد أي إذا عوهدوا لم يوفوا ، والقول الثاني أن يكون العهد بمعنى الطاعة لأنّ على الإنسان الطاعة كما عليه الوفاء بالعهد. (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) الفراء يقول : المعنى وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ، وسيبويه يذهب إلى أنّ «إن» هذه هي الثقيلة خفّفت ولزمت اللام.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٠٥)

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا) هذه قراءة نافع وشيبة (٣) ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وأهل مكة وأهل الكوفة (على ألّا) (٤) مخفّفة بمعنى جدير وخلق يقال : فلان خليق بأن يفعل وجدير أن يفعل وعلى أن يفعل بمعنى واحد ، ومعنى «حقيق عليّ»

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٥١.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٦.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٢.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٥٦.


واجب عليّ وأن على هذه القراءة في موضع رفع وهي في السواد موصولة في موضع ومفصولة في موضع. وقد تكلّم النحويون في ذلك فقال الملهم صاحب الأخفش سعيد ابن مسعد : من العرب من يدغم بغنّة ومنهم من يدغم بلا غنّة ، فمن أدغم بغنّة كتبها مفصولة ومن أدغم بلا غنّة كتبها موصولة لأنه قد أذهب النون وما فيها من الغنّة ، وقال القتبيّ : من نصب بها كتبها موصولة ومن لم ينصب بها كتبها مفصولة نحو (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] فهذه مفصولة لأن فيها إضمارا. قال أبو جعفر : وسمعت أبا الحسن عليّ بن سليمان يقول لا يجوز أن يكتب من هذا شيء إلّا مفصولا لأنها «أن» دخلت عليها «لا».

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١٠٧)

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ) حذفت الواو لسكونها وسكون الألف ويجوز فألقى عصا هو فإذا هي بالواو بين الساكنين هاء. (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ابتداء وخبر ، والمعنى مبين أنه ثعبان لا يلبس وهذه «إذا» التي للمفاجأة ، تقول : خرجت فإذا عمرو جالس ويجوز النصب. قال الكسائي : لأن المعنى فاجأته. قال بعض البصريين لو كان كما قال لنصب الاسم. قال علي بن سليمان : سألت أبا العباس محمد بن يزيد كيف صارت «إذا» خبرا لجثّة فقال : هي هاهنا ظرف مكان قال علي بن سليمان : وهو عندي بمعنى الحدوث.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠)

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) نصب بيريد. (فَما ذا تَأْمُرُونَ) ويجوز أن يكون «قالوا» لفرعون وحده «فماذا تأمرون» كما يخاطب الجبّارون ، ويجوز أن يكون «قالوا» له ولأصحابه و «ما» في موضع رفع على أنّ «ذا» بمعنى الذي وفي موضع نصب على أنّ (ما) و (ذا) شيء واحد.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (١١١)

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) هذه قراءة أهل المدينة وعاصم والكسائي ، وقرأ سائر أهل الكوفة (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) (١) بإسكان الهاء ، وقرأ عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء أرجئه وأخاه (٢) بهمزة ساكنة والهاء مضمومة. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أقوال : منها أن يكون على بدل الهمزة وقال الكسائي : تميم وأسد يقولون : أرجيت الأمر إذا أخّرته ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٥٩ ، وتيسير الداني ٩٢.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٢.


والقول الثالث قاله محمد بن يزيد قال : هو مأخوذ من رجا يرجو أي أطمعه ودعه يرجو وكسر الهاء على الاتباع ويجوز ضمّها على الأصل وإسكانها لحن ولا يجوز إلّا في شذوذ من الشعر والهمز جيد حسن لو لا مخالفة السواد إلّا أنه يحتجّ لذلك بأنّ مثل هذا يحذف من الخط. (وَأَخاهُ) عطف على الهاء. (حاشِرِينَ) نصب بالفعل.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (١١٢)

(يَأْتُوكَ) جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه النون ، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بكلّ سحّار عليم (١) وقرأ سائر الناس (ساحِرٍ) وكذلك هو في السواد كلّه ويجب أن تجتنب مخالفة السواد.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (١١٣)

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) وحذف ذكر الإرسال إليهم لعلم السامع.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥)

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) «أن» في موضع نصب عند الكسائي والفراء (٢) كما قال : [البسيط]

١٥٦ ـ قالوا الرّكوب فقلنا تلك عادتنا (٣)

قال الفراء : في الكلام حذف والمعنى : قال لهم موسى عليه‌السلام : إنكم لن تغلبوا ربّكم ولن تبطلوا آياته ، وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس ولا يقدرون عليه يأتي باللفظ اليسير بجمع المعنى الكثير.

(قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦)

(وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أي عظيم عندهم وليس بعظيم على الحقيقة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (١١٧)

وروي عن عاصم (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) مخفّفا ويجوز على هذه القراءة «تلقف لأنه من

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٦٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٩.

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ١١٣ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٩٤ ، والدرر ٥ / ٨٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٦٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٧٦ ، والكتاب ٣ / ٥٦ ، والمحتسب ١ / ١٩٥ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ٢ / ٦٠ ، وهو في الديوان :

«إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل»


لقف. (ما يَأْفِكُونَ) أي ما يكذبون لأنهم جاءوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتّى تحرّكت وقالوا هذه حيّات.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) (١١٩)

(وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) على الحال والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغورا وصغارا.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠)

على الحال.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦)

قال خارجة قرأ الحسن (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) (١) قال الأخفش : هي لغة.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١٢٧)

(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) جواب الاستفهام ، وقال الفراء : هو منصوب على الظرف ، وفي قراءة أبيّ (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) وقد تركوا أن يعبدوك (وَآلِهَتَكَ) (٢). (قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) وسنقتّل على التكثير.

قال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠)

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) قال بالجوع ، ومن العرب من يعرب النون في السنين وأنشد الفراء : [الوافر]

١٥٧ ـ أرى مرّ السّنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال (٣)

وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون ولكن أنشد في هذا ما لا يجوز غيره وهو قوله : [الوافر]

١٥٨ ـ وقد جاوزت رأس الأربعين (٤)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٦٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٦٧ ، ومعاني الفراء ١ / ٣٩١.

(٣) الشاهد لجرير في ديوانه ٥٤٦ ، والدرر ١ / ١٣٥ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١ / ١٥٣ ، والمخصص ١٧ / ١٠٣ ، ولسان العرب (خضع) ، والمقتضب ٤ / ٢٠٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٧ ، وفي الديوان :

«رأت مرّ السنين»

(٤) الشاهد لسحيم بن وثيل في إصلاح المنطق ١٥٦ ، وتخليص الشواهد ص ٧٤ ، وتذكرة النحاة ٤٨٠ ، ـ


وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون : أقمت عنده سنينا يا هذا. مصروفا قال : وبنو تميم لا يصرفون ويقولون : مضت له سنين يا هذا.

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١)

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شرط. (يَطَّيَّرُوا) جوابه والأصل يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء وقرأ طلحة وعيسى تطيّروا (١) على أنه فعل ماض. ومعنى تطيّروا تشاءموا والأصل في هذا من الطير ، ثم كثر استعمالهم إيّاه حتى قيل لكل من تشاءم : تطيّر. وقرأ الحسن ألا إنّما طيرهم عند الله (٢) جمع طائر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أنّ ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله جلّ وعزّ بذنوبهم لا من عند موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢)

(وَقالُوا مَهْما) وحكى الكوفيون مهما بمعناه. قال الخليل (٣) رحمه‌الله : الأصل «ما ما» الأولى للشرط والثانية التي تزاد في قولك : أينما تجلس أجلس ، فكرهوا الجمع بين حرفين لفظهما واحد فأبدلوا من الألف هاء فقالوا : مهما. قال أبو إسحاق : قال بعضهم الأصل فيه «مه» أي اكفف. (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) شرط والجواب (لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣)

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) قال الأخفش : جمع طوفانة. (وَالْجَرادَ) جمع جرادة في المذكر والمؤنث فإن أردت الفصل قلت : رأيت جرادة ذكرا. (وَالضَّفادِعَ) جمع

__________________

ـ وخزانة الأدب ٨ / ٦١ ، وحماسة البحتري ١٣ ، والدرر ١ / ١٤٠ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٦٢٧ ، وشرح التصريح ١ / ٧٧ ، وشرح ابن عقيل ٤١ ، وشرح المفصل ٥ / ١١ ، ولسان العرب (نجذ) و (ربع) ، و (دري) ، والمقاصد النحوية ١ / ١٩١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٤٨ ، وأوضح المسالك ١ / ٦١ ، وجواهر الأدب ١٥٥ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٨ ، والمقتضب ٣ / ٣٣٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٩ ، وصدره :

«وماذا تبتغي الشعراء منّي»

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٧٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٧٠ ، ومختصر ابن خالويه ٤٥.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٦٨.


ضفدع. (وَالدَّمَ) عطف. قال أبو إسحاق (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نصب على الحال. قال : وتروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧)

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) مفعولان. (الَّتِي بارَكْنا فِيها) في موضع نصب لمشارق ومغارب ويجوز أن يكون خفضا نعتا للأرض وزعم الكسائي والفراء (١) أنّ الأصل في مشارق الأرض وفي مغاربها ثم حذف «في» فنصب. قال الفراء : وتوقع «أورثنا» على «التي» ، وأجاز الفراء (٢) أن يكونا مفعولين كما تقدم. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) رفع بفعلها. (الْحُسْنى) نعتها وروي عن عاصم كلمات ربّك الحسنى (٣). (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) لغة فصيحة. قال الكسائي : وبنو تميم يقولون : «يعرشون» وبها قرأ عاصم ويقال أيضا : عكف يعكف ويعكف والمصدر منها جميعا على فعول.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٤٠)

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ) مفعولان أحدهما بحرف والأصل أبغي لكم. (إِلهاً) نصب على البيان. (وَهُوَ) ابتداء والخبر (فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١)

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) أي واذكروا.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) مفعولان أي تمام ثلاثين ليلة. وقد ذكرنا واعدنا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٩٧.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٥.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٧٦. وقراءة ابن عامر وأبي بكر بضم الراء ، وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبي رجاء بكسر الراء.


ووعدنا في سورة البقرة (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) حذفت الهاء لأنه عدد لمؤنث. (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الفائدة في هذا وقد علم أنّ ثلاثين وعشرا أربعون ، أنه قد كان يجوز أن تكون العشر غير ليال فلما قال : أربعين ليلة علم أنها ليال ، وقيل : هو توكيد ، وجواب ثالث هو أحسنها قد كان يجوز أن تكون العشر تتمة لثلاثين فأفاد قوله : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أنّ العشر سوى الثلاثين. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) على البدل ، ويجوز «هارون» على النداء ، وهو من خلف يخلف أي كن خليفة لي. ويقال : خلف الله عليه بخير إذا مات له من لا يعتاض منه الوالدان ، وأخلف الله عليه إذا مات له من يعتاض منه الوالدان ، وأخلف الله عليه إذا مات له من يعتاض منه الأخوة ومن أشبهم. (وَأَصْلِحْ) ألف قطع وكذا (أَرِنِي).

فأما (أَنْظُرْ) فهي ألف النفس فلذلك قطعت وجزم أنظر لأنه جواب. (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) شرط والجواب (فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة ويدلّ على صحتها (دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا) [الفجر : ٢١] وأنّ الجبل مذكّر ، وقرأ أهل الكوفة جعله دكّاء (١) وتقديره في العربية فجعله مثل أرض دكّاء والمذكّر أدك وجمع دكّاء دكّاوات ودكّ. (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) على الحال (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ) ويجوز الإدغام. (سُبْحانَكَ) مصدر. (تُبْتُ إِلَيْكَ) يقال : تاب إذا رجع ، والتوبة أن يندم على ما كان منه وينوي أن لا يعاود ويقلع في الحال عن الفعل ، فهذه ثلاث شرائط في التوبة. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ابتداء وخبر ، وقرأ نافع (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) بإثبات الألف في الإدراج والأولى حذفها في الإدراج ، وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس لأن الألف إنما جيء بها لبيان الفتحة وأنت إذا أدرجت لم تثبت فلا معنى للألف.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) لا يقال : أوخذ وهو القياس كما يقال : أومر فلانا ، لأنه سمع من العرب هكذا ، وقيل : فيه علّة وهي أن الخاء من حروف الحلق وكذا الهمزة. فأما أومر فيقال ، وعلى هذا قوله جلّ وعزّ : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) فإذا قلت : مر فلانا فهذا الأكثر ويجوز أومر.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٨٣.

(٢) انظر الإتحاف ١٣٨.


(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦)

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما الرشد (١) قال أبو عبيد : فرّق أبو عمرو بين الرّشد والرشد فقال : الرشد في الصلاح والرشد في الدين. قال أبو جعفر : وسيبويه يذهب إلى أن الرشد واحد مثل السّخط والسخط وكذا قال الكسائي. قال أبو جعفر : والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق حدّثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال : إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكّن وإذا كان رأس الآية فهو محرّك قال أبو جعفر : يعني أبو عمرو برأس الآية نحو (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) [الكهف : ١٠] فهما عنده لغتان بمعنى واحد ، إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات. ويقال : رشد يرشد ورشد يرشد ، وحكى سيبويه : رشد يرشد وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد وهو ضدّ الخيبة وحقيقة الغيّ في اللغة الخيبة قال الله جلّ وعزّ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] وقال الشاعر : [الطويل]

١٥٩ ـ فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغولا يعدم على الغيّ لايما (٢)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) مبتدأ. والخبر (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ). (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) خبر ما لم يسمّ فاعله.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨)

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة ، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما (مِنْ حُلِيِّهِمْ) (٣) بكسر الحاء ، وقرأ يعقوب (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بفتح الحاء والتخفيف. قال أبو جعفر : جمع حلي حليّ وحليّ مثل ثدي وثديّ والأصل حلويّ ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمّها على الأصل. فأما عصيّ فالأصل فيها عصوّ لأنها من ذوات الواو ثم

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٣.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٦).

(٣) انظر تيسير الداني ٩٣.


أعلّت. (عِجْلاً) مفعول. (جَسَداً) نعت. (لَهُ خُوارٌ) رفع بالابتداء أو بالصفة يقال خار يخور خوارا إذا صاح وكذا جأر يجأر جؤارا ، ويقال : خار يخور خورا إذا جبن وضعف. (اتَّخَذُوهُ) فحذف المفعول الثاني أي اتخذوه إلها.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩)

قال الأخفش : يقال : سقط في يده وأسقط ومن قال (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) فالمعنى عنده سقط الندم قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا (١) شرط وفيه معنى القسم ، وربّنا على النداء. ومن قرأ (يَرْحَمْنا) بالياء (وَيَغْفِرْ لَنا) بالياء و (رَبُّنا) رفع بفعله ، ومن قرأ ترحمنا بالتاء وتغفر لنا بالتاء فهو ينصب ربّنا على النداء المضاف كأنه قال : يا ربّنا.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠)

(غَضْبانَ) نصب على الحال ولم ينصرف لأنّ مؤنثه غضبى. وحقيقة امتناع صرفه أنّ الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء فالنون بدل كما يقال : في صنعاء صنعانيّ. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) قال يعقوب : يقال : عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته. (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أخذ برأسه ، وأخذ رأسه واحد وكذا (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وقيل : إنما أخذ برأسه على جهة المسارّة لا غير فكره هارون صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتوهّم من حضر لأن الأمر على خلاف ذلك فقال : ابن أمّ على الاستعطاف له لأنه أخوه لأمه وهذا موجود في كلام العرب كما قال : [الخفيف]

١٦٠ ـ يا ابن أمّي ويا شقيق نفسي (٢)

قرأ أهل المدينة وأبو عمرو (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ) (٣) وقرأ أهل الكوفة (ابْنَ أُمَّ إِنَّ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٩٣ ، وتيسير الداني ٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٢.

(٢) الشاهد لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص ٤٨ ، والدرر ٥ / ٥٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٧٩ ، والكتاب ٢ / ٢١٣ ، ولسان العرب (شقق) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٤٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٥٧ ، وشرح قطر الندى ٢٠٧ ، وشرح المفصل ٢ / ١٢ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٤ ، وعجزه :

«أنت خلّفتني لدهر شديد»

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٩٤ ، وتيسير الداني ٩٣ ، ومعاني الفراء ١ / ٣٩٤.


الْقَوْمَ) قال الكسائي والفراء (١) وأبو عبيد : يا ابن أمّ تقديره يا ابن أمّاه ، وقال البصريون : هذا القول خطأ لأن الألف خفيفة لا تحذف ولكن جعل الاسمان اسما واحدا فصار كقولك : خمسة عشر أقبلوا. وقال الأخفش وأبو حاتم : يا ابن أمّ كما يقول : يا غلام غلام أقبل. قال أبو جعفر : يا غلام غلام لغة شاذة لأن الثاني ليس بمنادى فلا ينبغي أن تحذف منه الياء فالقراءة بكسر الميم على هذا القول بعيدة ولكن لها وجه حسن جيّد يكون بمنزلة قولك : يا خمسة عشر أقبلوا ، لمّا جعل الاسمين اسما واحدا أضاف. (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) بنونين لأنه فعل مستقبل ويجوز الإدغام في غير القرآن. قرأ مجاهد ومالك بن دينار (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) بالتاء على تأنيث الجماعة ويجوز كسرها ويجوز التذكير على الجميع. وفيه شيء لطيف يقال : كيف نهى الأعداء عن الشماتة؟ فالجواب أن هذا مثل قوله جلّ وعزّ (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] أي اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وكما قالت العرب : لا أرينك هاهنا. والمعنى لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء. قال أبو عبيد : وحكيت عن حميد (فَلا تُشْمِتْ) (٢) بكسر الميم. قال أبو جعفر : ولا وجه لهذه القراءة لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول : تشمت وإن كان من أشمت وجب أن يقول : تشمت.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١)

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) فأعاد حرف الجرّ لأنّ المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلّا هكذا إلّا في شذوذ كما قرأ حمزة تساءلون به والأرحام (٣) [النساء : ١] فيجيء على هذا اغفر لي وأخي.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) اسم «إنّ» والخبر (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) والغضب من الله جلّ وعزّ العقوبة. (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لأنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ورأوا أنهم قد ضلّوا. والأشبه بسياق الكلام أن يكون إنّ الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا. من كلام موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الله جلّ وعزّ به عنه وتمّ الكلام ثم قال الله عزوجل (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٩٤.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٥.

(٣) انظر تيسير الداني ٧٨.


(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٥٣)

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) ابتداء ، والخبر (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهم.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)

(وَفِي نُسْخَتِها هُدىً) في موضع رفع بالابتداء. (وَرَحْمَةٌ) عطف عليه. (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) في اللام ثلاثة أقوال : قول الكوفيين : أنها زائدة. قال الكسائي : حدثني من سمع الفرزدق يقول : نقدت لها مائة درهم بمعنى نقدتها ، وقال محمد ابن يزيد هي متعلقة بمصدر ، وقال الأخفش سعيد : قال بعضهم : المعنى والذين هم من أجل ربّهم يرهبون.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥)

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) مفعولان أحدهما حذفت منه «من» وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٦١ ـ [و] منّا الّذي اختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع (١)

(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي ماتوا. (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي أمتهم كما قال جلّ وعزّ (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) [النساء : ١٧٦]. (وَإِيَّايَ) عطف والمعنى لو شئت أمتّنا قبل أن تخرج إلى الميقات فلم يتوهّم الناس علينا أنّنا أحدثنا خروجا عن طاعتك. (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) استفهام فيه معنى النفي ، وهكذا هو في كلام العرب وإذا كان نفيا كان بمعنى الإيجاب كما قال جرير : [الوافر]

١٦٢ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٢)

__________________

(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٤١٨ ، والكتاب ١ / ٧٤ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٣١ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٣ ، والدرر ٢ / ٢٩١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢ ، ولسان العرب (خير) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٨ / ٥١ ، والمقتضب ٤ / ٣٣٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٢.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٨٥ ، والجنى الداني ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، ورصف المباني ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.


(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي ما هذا إلا اختبارك وتعبّدك بما يشتدّ. (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) أي تضلّ بها الذين تشاء ، والذين تشاء هم الذين لا يصبرون عند البلاء ولا يرضون (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) من صبر ورضي. (أَنْتَ وَلِيُّنا) ابتداء وخبر وكذا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ).

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

وقرأ أبو وجزة السعدي (١) (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) (٢) يقال : هاد يهود ، هذا المعروف ، إذا تاب ويقال : ثوب مهوّد أي مرقّق مليّن. (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي الذين أشاء أي المستحقّين له. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي من دخل فيها لم تعجز عنه ، وقيل : وسعت كلّ شيء من الخلق حتّى إنّ البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧)

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) خفض على البدل من «الذين» الأول وإن شئت كان نعتا وكذا (الَّذِي يَجِدُونَهُ) «والذين هم» عطف ، وقرأ أبو جعفر وأيّوب وابن عامر والضحّاك وضع عنهم آصارهم وهو جمع إصر ، وأصله في اللغة الثقل وهو ما تعبّدوا به مما يثقل ، وقيل : هو ما ألزموه من قطع ما أصابه البول ، وقيل : هو ما كان يؤخذ عليهم من العهود إنّهم كانوا يطيعون الله جلّ وعزّ ويؤمنون بأنبيائه صلوات الله عليهم ويوالون أهل الطاعة ويعادون أهل المعصية قربوا أو بعدوا. قال الأخفش : وقرأ الجحدري وعيسى (وَعَزَّرُوهُ) (٣) بالتخفيف ، وكذا (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) [المائدة : ١٢] قال أبو إسحاق : يقال : عزره يعزره ويعزره.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩)

يكون لمن آمن منهم ، ويكون لقوم قد هلكوا أو لمن لحق عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به ،

__________________

(١) أبو وجزة السعدي : يزيد بن عبيد المدني ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، وكان شاعرا مجيدا (ت ١٣٠ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٣٨٢.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٠ ، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا.

(٣) وهذه قراءة قتادة وسليمان التيمي أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٠٣.


ومعنى يهدون بالحق يدعون الناس إلى الهداية (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) في الحكم.

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠)

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) التقدير اثنتي عشرة أمة فلهذا أجاز التأنيث. (أَسْباطاً) بدل من اثنتي عشرة. (أُمَماً) نعت لأسباط ، والمعنى : جعلناهم اثنتي عشرة فرقة.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢)

وروى معمر عن همّام بن منبّه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله جلّ وعزّ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ) قال : قالوا حبّة في شعرة حدّثنا أبو القاسم محمد بن جعفر القزويني قال : حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : أخبرنا سفيان عن معمر عن همّام بن منبّه عن أبي هريرة قالوا : حبّة في شعرة وقيل لهم (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا متورّكين على أستاههم. (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) مرفوع لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب ، و «ما» بمعنى المصدر أي بظلمهم.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣)

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وإن خفّفت الهمزة قلت : وسلهم ألقيت حركتها على السين وحذفتها ، (الَّتِي) في موضع خفض نعت للقرية. (إِذْ) في موضع نصب والمعنى سلهم عن وقت عدوا في السبت ، وهذا سؤال توبيخ وتقرير. (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) على الحال. (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) (١) قد ذكرنا قول الكسائي وأبي عبيد أنّ معنى يسبتون يعظّمون السبت ، وحقيقته في اللغة يعملون عمل السبت ، يقال : سبت يسبت إذا استراح أو عمل عمل السبت ، وأكثر العرب يقول : اليوم السبت وكذا الجمعة لأن العمل فيهما وتقول في سائر الأيام بالرفع : اليوم الاثنان والتقدير ولا تأتيهم يوم لا يسبتون ، والظرف يضاف إلى

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة ليسبتون في البحر المحيط ٤ / ٤٠٨.


الفعل عند سيبويه لكثرة استعمالهم إياه وعند أبي العباس لأن الفعل بمعنى المصدر ، وقال أبو إسحاق هو على الحكاية أي يوم يقال هذا ، ولا يفعل عند سيبويه نفي ليفعلنّ أو هو يفعل إذا أراد المستقبل. (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أي نشدّد عليهم في العباد ونختبرهم والكاف في موضع نصب. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤)

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) الأصل «لما» حذفت الألف لأنه استفهام ، وقيل : «ما» حرف خفض. فإذا أوقفت في غير القرآن قلت : لمه الهاء لبيان الحركة. (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) (١) وقرأ عيسى وطلحة (مَعْذِرَةً) (٢) بالنصب. ونصبه عند الكسائي من جهتين : إحداهما أنه مصدر ، والأخرى أن التقدير فعلنا ذلك معذرة. وقد فرّق سيبويه (٣) بين الرفع والنصب وبيّن أنّ الرفع الاختيار فقال : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليمسوا عليه ولكنهم قيل لهم : لم تعظون؟ فقالوا : موعظتنا معذرة ، ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليك من كذا وكذا يريد اعتذارا لنصب. وهذا من دقائق سيبويه رحمه‌الله ولطائفه التي لا يلحق فيها.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥)

(الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) وفي هذا إحدى عشرة قراءة (٤) وكان الإعراب أولى بذكرها لما فيها من النحو ولأنه لا يضبط مثلها إلّا أهل الإعراب. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) على وزن فعيل ، وقرأ أهل مكة (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) بكسر الباء والوزن واحد ، وقرأ أهل المدينة (٥) (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) الباء مكسورة وبعدها ياء ساكنة والسين مكسورة منونة ، وقرأ الحسن بعذاب بئس بما الباء مكسورة وبعدها همزة ساكنة والسين مفتوحة ، وقرأ أبو عبد الرحمن المقرئ بعذاب بئس الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. قال يعقوب القارئ : عن بعض القراء

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٣ ، وهي قراءة الجمهور.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٩.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٣٨٢.

(٤) انظر الحجة لابن خالويه ١٤١ ، وتيسير الداني ٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٠.

(٥) انظر تيسير الداني ٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٠.


(بعذاب بَئِيسٍ) بئس الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة ، وقرأ الأعمش (بعذاب بَئِيسٍ) (١) على فيعل وروي عنه (بَئِأسٍ) (٢) على فيعل ، وروي عنه بعذاب بئس بباء مفتوحة وهمزة مشدّدة مكسورة والسين في هذا كلّه مكسورة منونة يعني قراءة الأعمش ، وقرأ نصر بن عاصم (٣) (بعذاب بَئِيسٍ) الباء مفتوحة وبعدها ياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ وجاء عن بعض القراء (بعذاب بَئِيسٍ) الباء مكسورة وبعدها همزة ساكنة وبعدها ياء مفتوحة ، فهذه إحدى عشرة قراءة. ومن قرأ (بَئِيسٍ) فهو عنده من بؤس فهو بئيس أي اشتدّ وكذا بئيس إلّا أنه كسر الباء لأن بعدها همزة مكسورة. وأما قراءة أهل المدينة ففيها ثلاثة أقوال : قال الكسائي : في تقديرها بئيس ثم خفّفت الهمزة كما يعمل أهل المدينة فاجتمعت ياءان فثقل ذلك فحذفوا إحداهما وألقوا حركتها على الباء فصارت بيس ، وقال محمد بن يزيد: الأصل بئس ثم كسرت الباء لكسرة الهمزة فصارت بئس فحذفت الكسرة من الهمزة لثقلها فهذان قولان ، وقال علي بن سليمان : العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء فمعنى «بعذاب بيس» بعذاب رديء. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها قال : لأنه لا يقال : مررت برجل بئس حتى يقال: بئس الرجل وبئس رجلا. قال أبو جعفر : وهذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فيها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة ، فالتقدير على قراءة الحسن بعذاب بئس العذاب وبعذاب بئس على فعل مثل حذر. وقراءة الأعمش بيئس لا تجوز على قول البصريين لأنه لا يجيء مثل هذا في كلام العرب إلّا في المعتل المدغم نحو ميّت وسيّد. فأما بيأس فجائز عندهم لأن مثله صيرف وحيدر. وأما بئس فلا يكاد يعرف مثله في الصفات ، وأما بيّس بغير همز فإنّما يجيء في ذوات الياء نحو بيّع ، وأما بيأس فجائز ومثله جذيم.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦)

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا) أي فلما تجاوزوا في معصية الله جلّ وعزّ. (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) يقال : خسأته فخسأ أي باعدته وطردته.

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨)

(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) رفع بالابتداء. (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) منصوب على الظرف ولا نعلم أحدا رفعه.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤١٠ ، والمحتسب ١ / ٢٦٤.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤١٠ ، وهذه قراءة ابن عباس وأبي بكر عن عاصم والأعمش.

(٣) نصر بن عاصم الليثي البصري النحوي ، تابعي ، عرض على أبي الأسود ، وعرض عليه أبو عمرو ، ويقال : إنه أول من نقط المصاحف (ت ١٠٠ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٣٣٦.


(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦٩)

(وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ولا يجوز إدغام الراء في اللام لأن فيها تكريرا ويجوز إدغام اللّام في الراء نحو (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المطففين : ١٤]. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ) جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء والجواب (يَأْخُذُوهُ). قال الكسائي : وقرأ أبو عبد الرحمن وادّارسوا ما فيه (١) فأدغم التاء في الدال.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠)

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) ابتداء والتقدير في خبره (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) منهم ، وقرأ أبو العالية وعاصم (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) (٢) وكلام العرب على غير هذا يقولون : مسّكت وأمسكته وكذا القراءة (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] وقال كعب ابن زهير فجاء به على طبعه : [البسيط]

١٦٣ ـ فما تمسّك بالحبل الذي زعمت

إلّا كما تمسك الماء الغرابيل (٣)

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١)

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) أي واذكروا لهم. (فَوْقَهُمْ) ظرف. (ظُلَّةٌ) خبر كأن وأنّ في موضع خفض بالكاف ، والكاف في موضع رفع الابتداء. والبر محمول على المعنى.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣)

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) بمعنى واذكروا ، هذه الآية مشكلة وقد ذكرنا فيها شيئا وقد قال قوم : إنّ معنى وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّاتهم (٤) أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعضهم قالوا ومعنى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي قال. وفي

__________________

(١) انظر المحتسب ١ / ٢٦٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٥.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٦ ، وهذه قراءة عمر وأبي العالية وأبي بكر عن عاصم.

(٣) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص ٨ ، وتاج العروس (غربل).

(٤) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٢٩٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٢٠.


الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا القول. قال أبو جعفر : قرئ على جعفر بن محمد وأنا أسمع عن قتيبة عن مالك بن أنس عن زيد ابن أبي أنيسة إن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب أخبره عن مسلم ابن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «إنّ الله جلّ وعزّ خلق آدم فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّيّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتّى يموت على عمل أهل الجنة فيدخله الجنّة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتّى يموت فيدخله النار قال : وليس الله تعالى بظالم له في هذه الحال لأنه قد علم ما سيكون منه» (١). قال أبو جعفر : والآية مع هذا مشكلة ونحن نتقصّى ما فيها. قال بعض العلماء : هي مخصوصة لأن الله جلّ وعزّ قال : (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) فخرج من هذا من كان من ولد آدم عليه‌السلام لصلبه. وقال جلّ وعزّ : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون. ومعنى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) قال لهم : بأن أرسل إليهم رسولا ، وقيل : بل هي عامة لجميع الناس لأن كلّ أحد يعلم أنه كان طفلا فغذّي وربّي وأن له مدبّرا وخالقا فهذا معنى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، ومعنى (قالُوا بَلى) أنّ ذلك واجب عليهم ، وقيل هذا لمن كان من ظهور بني آدم عليه‌السلام وقد علم أنّ ولد آدم عليه‌السلام لصلبه كذا. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة (أن تقولوا) بالتاء معجمة من فوق ، وقرأ عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير وأبو عمرو بن العلاء وابن محيصن وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر أن يقولوا (٢) بالياء ، و (أن) في موضع نصب في القراءتين جميعا بمعنى كراهة أن وعند الكوفيين بمعنى لئلا. (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) بمعنى لست تفعل هذا.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) في موضع جزم عند الكوفيين فلذلك حذفت منه الواو. قال الفراء : واللام الجازمة محذوفة. وهو عند البصريين مبني على أصل الأفعال ، (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي من الخائنين.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ، أبواب التفسير ١١ / ١٩٤.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٢٠.


(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦)

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها. (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ابتداء وخبر وقيل : «مثل» هاهنا بمعنى صفة كما قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥] وقيل : هو على بابه. (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) شرط وجوابه وهو في موضع الحال أي فمثله كمثل الكلب لاهثا ، والمعنى أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية كمثل الكلب الذي هذه حاله ، وقيل : المعنى أنه لا يرعوي عن أذى الناس كمثل الكلب لاهثا ، ومعنى لاهث أنه يحرك لسانه وينبح. وفي هذه الآية أعظم الفائدة لمن تدبّرها وذلك أنّ فيها منعا منه التقليد لعالم إلا بحجة يبيّنها لأن الله جلّ وعزّ خبّر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وأن لا يقبل منه إلا بحجة.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧)

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) قال الأخفش : فجعل مثل القوم مجازا. والتقدير : ساء مثلا مثل القوم و (الْقَوْمُ) مرفوعون بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. وقرأ عاصم الجحدري والأعمش (ساء مثل القوم)(١) رفع مثلا بساء.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨)

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) شرط وجوابه وكذا (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

أي هم بمنزلة من لا يفقه لأنهم لا ينتفعون بها. (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ليست. (بَلْ) هاهنا رجوعا عن الأول ولكنّ المعنى هم كالأنعام وهم أضل من الأنعام لأنهم لا يهتدون إلى ثواب.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وقرأ يحيى بن وثاب

__________________

(١) هذه قراءة الحسن وعيسى بن عمر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٢٤.


والأعمش وحمزة يلحدون (١) بفتح الياء والحاء ، واللغة الفصيحة ألحد في دينه ولحد القبر. وقد تدخل كلّ واحدة منهما على الأخرى لأن المعنى معنى الميل. ومعنى يلحدون في أسمائه على ضربين : أحدهما أن يسموا غيره إلها والآخر أن يسمّوه بغير أسمائه.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١)

فدلّ الله جلّ وعزّ بهذه الآية أنه لا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣)

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الكيد من الله جلّ وعزّ هو عذابه إذا أتاهم من حيث لا يشعرون وهذا معنى الكيد في اللغة.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

(وَأَنْ عَسى) في موضع خفض معطوف على ما قبله. (أن يكون) في موضع رفع.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦)

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) شرط ومجازاة. (وَنَذَرُهُمْ) (٢) بالنون هذه قراءة أهل المدينة وفيها تقديران : أحدهما أن يكون معطوفا على ما يجب فيما بعد الفاء في المجازاة وكذا «ونذرهم» ، وقراءة الكوفيين (وَيَذَرُهُمْ) (٣) بالياء والجزم معطوف على موضع الفاء. والمعنى لا تميتهم إذا عصوا حتى يحضر أجلهم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي عن الساعة التي تقوم فيها القيامة. (أَيَّانَ مُرْساها) أي يقولون : متى وقوعها؟ و (مُرْساها) في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه وبإضمار فعل

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٤.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣١.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٣١.


عند أبي العباس ومرساها من أرساها ، ومرساها من رست أي ثبتت ووقعت ، ومنه (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣]. قال قتادة : أي ثابتات. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ابتداء وخبر. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) مصدر في موضع الحال. (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قول أهل التفسير إن المعنى على التقديم والتأخير ، وقال محمد بن يزيد المعنى يسألونك كأنك حفيّ بالمسألة عنها أي ملحّ يذهب إلى أنه ليس فيه تقديم ولا تأخير يقال : أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محفي وحفيّ على التكثير مثل مخصب وخصيب. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ليس هذا تكريرا ولكن أحد العلمين لوقوعها ، والآخر لكنها.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨)

(ما شاءَ اللهُ) في موضع نصب بالاستثناء والمعنى إلّا ما شاء الله أن يملكني ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٦٤ ـ مهما شاء بالناس يفعل (١)

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) من أحسن ما قيل فيه أن المعنى لو كنت أعلم الغيب ما يريد الله جلّ وعزّ مني من قبل أن يعرّفنيه لفعلته وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ابتداء وخبر وقد ذكرناه (٢) وقد قيل : إن المعنى هو الذي خلقكم من آدم عليه‌السلام ثم جعل منه زوجه إخبار. (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) كل ما كان في الجوف فهو حمل بالفتح وإذا كان على الظهر فهو حمل ، وما كان في النخلة فهو حمل بالفتح. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. قال الأخفش : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل كما تقول : أثمر النخل. (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي سويا.

__________________

(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ٥٦ ، وسمط اللآلي ٩٣٥ ، والكتاب ٢ / ٢٥٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٦٤ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٠ ، ونوادر أبي زيد ١٥٩ ، وبلا نسبة في المقرب ١ / ١٨٨ ، وتمامه :

«ألا هل لهذا الدهر من متعلّل

عن الناس ، مهما شاء بالناس يفعل»

(٢) مرّ في إعراب الآية ١٧٢.


(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠)

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) قيل : التقدير إيتاء صالحا ، وهو ذكر وأنثى كما كانت حواء تلد. (جَعَلا لَهُ) قيل : يعني الذكر والأنثى الكافرين ويعني به الجنسين ودل على هذا (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ولم يقل : يشركان فهذا قول حسن ، وقيل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ومن هيئة واحدة وشكل واحد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي من جنسها فلمّا تغشّاها يعني الجنسين وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء في الآية ذكر. قرأ أهل المدينة وعاصم جعلا له شركا (١) وقرأ أبو عمرو وسائر أهل الكوفة (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) (٢) وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى ، وقال : كان يجب على هذه القراءة أن يكون جعلا لغيره شريكا لأنهما يقرّان أن الأصل لله جلّ وعزّ فإنما يجعلان لغيره الشرك. قال أبو جعفر : التأويل لمن قرأ القراءة الأولى جعلا له ذا شرك مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) قال الأخفش وإن تدعوا الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) قال أحمد بن يحيى : لأنه رأس آية يريد أنه قال «أم أنتم صامتون» ولم يقل أم صمتم. قال أبو جعفر : المعنى في «أم أنتم صامتون» وفي «أم صمتم» واحد. هذا قول سيبويه (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) اسم إنّ. (عِبادٌ) خبره. (أَمْثالُكُمْ) نعت ، وحكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني أن سعيد بن جبير قرأ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم(٤) بتخفيف «إن» وكسرها لالتقاء الساكنين ونصب «عبادا» بالتنوين ونصب «أمثالكم» قال : يريد ما الذين تدعون من دون الله بعباد أمثالكم أي هنّ حجارة وأصنام وخشب. قال أبو جعفر : وهذه القراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد ، والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر «إن» إذا كانت بمعنى «ما» فيقول : إن زيد منطلق لأن عمل «ما» ضعيف و «إن» بمعناها فهي أضعف

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٢٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٦.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٢٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٦.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٧٣.

(٤) انظر المحتسب ١ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٠.


منها ، والجهة الثالثة أن الكسائي زعم أنّ «إن» لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى «ما» إلّا أن يكون بعدها إيجاب كما قال جلّ وعزّ : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢٠](فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) الأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها وإن اللام قد اتصلت بما قبلها. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خبر كنتم وفي اللام حذف والمعنى فادعوهم إلى أن يتّبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنّهم آلهة.

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥)

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) أنتم أفضل منهم فكيف تجدونهم وقرأ أبو جعفر وشيبة (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ) (١) ، وهي لغة. واليد والرّجل والأذن مؤنّثات يصغّرن بالهاء ، وتزاد في اليد ياء في التصغير تردّ إلى أصلها. (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الذين شركتموهم فجعلتم لهم قسطا من أموالكم. (ثُمَّ كِيدُونِ) والأصل كيدوني بالياء حذفت الياء لأن الكسرة تدلّ عليها وكذا (فَلا تُنْظِرُونِ) أي فلا تؤخرون.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) اسم «إنّ» وخبرها ، وقرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب (٢) يعني جبرئيل عليه‌السلام. ومعنى وليّي الله حافظي وناصري الله ، ووليّ الشّيء الذي يحفظه ويمنع منه الضرر.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) مبتدأ والخبر (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ).

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) شرط فلذلك حذفت منه النون ، والجواب (لا يَسْمَعُوا). (وَتَراهُمْ) مستأنف. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في موضع الحال ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه وليس هو مثل الرؤية وخبّر عنهم بالواو لأن الخبر جرى على فعل من يعقل.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

(خُذِ الْعَفْوَ) وهو اليسير. قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد : العفو الزكاة لأنها يسير من كثير ، قال أبو جعفر : وهو من عفا إذا درس ، وقد يقال : خذ العفو منه أي لا

__________________

(١) وهي قراءة نافع أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٢ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.


تنقص عليه وسامحه. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) وقرأ عيسى بن عمر (بِالْعُرْفِ) (١) أي المعروف ومعنى المعروف ما كان حسنا في العقل. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي إذا أقمت عليهم الحجّة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم صيانة له عنهم وترفعا لقدره عن مجاوبتهم.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ) نزغ أي إن وسوس إليك الشيطان عند الغضب بما لا يحلّ. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ) لقولك (عَلِيمٌ) بما يجب في ذلك و (يَنْزَغَنَّكَ) في موضع جزم بالشرط وكّد بالنون وحسن ذلك لمّا دخلت «ما» ، وحكى سيبويه : بألم ما تختننّه (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي اتّقوا المعاصي. (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة ، وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة طائفة وروي عن سعيد بن جبير طيّف (٣) بتشديد الياء. قال أبو جعفر : كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف ، وقال الكسائي : هو مخفّف من طيّف. قال أبو جعفر : ومعنى طيف في اللغة ما يتخيّل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف ، وقال أبو حاتم : سألت الأصمعيّ عن طيّف فقال : ليس في المصادر فيعل. قال أبو جعفر : ليس هذا بمصدر ولكن يكون بمعنى طائف ، والمعنى : إنّ الذين اتّقوا المعاصي إذا لحقهم شيء من الشيطان تفكّروا في قدرة الله جلّ وعزّ في إنعامه عليهم فتركوا المعصية فإذا هم مستبصرون ، وروي عن مجاهد (تَذَكَّرُوا) بتشديد الذال ولا وجه له في العربية.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢)

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) قال أحمد بن جعفر : الضمير للمشركين. قال أبو حاتم : أي وإخوان المشركين وهم الشياطين. قال أبو إسحاق : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٤ ، قال : بضم الراء.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٥٨٠ ، وقد ورد المثل في خزانة الأدب ١ / ٤٠٣ ، ومجمع الأمثال ١ / ١٠٧ ، والمعنى : لا يكون الختان إلا بألم ، والمقصود أنه لا يدرك الخير إلا باحتمال المشقّة.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٥.


الغي وأحسن ما قيل في هذا قول الضحاك (وَإِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين وهم الفجّار. (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) قال أي لا يتوبون ولا يرجعون ، وعلى هذا يكون الضمير متّصلا ، فهذا أولى في العربية. وقيل للفجار : إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقرأ أهل المدينة (يَمُدُّونَهُمْ) بضم الياء ، وجماعة من أهل اللغة ينكرون هذه القراءة منهم أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو حاتم : لا أعرف لها وجها إلّا أن يكون المعنى يزيدونهم من الغيّ ، وهذا غير ما يسبق إلى القلوب ، وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا أكثر شيء شيئا بنفسه : مدّه ، وإذا أكثره بغيره قيل : أمدّه نحو (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [آل عمران : ١٢٥] وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتجّ لقراءة أهل المدينة قال : يقال مددت له في كذا أي زيّنته له واستدعيته أن يفعله وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. وقرأ عاصم الجحدريّ : وإخوانهم يمادّونهم (١) في الغيّ.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣)

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا) بمعنى «هلّا» ولا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا. (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ابتداء وخبر أي هذا الذي دللتكم به أنّ الله جلّ وعزّ واحد. بصائر أي يستبصر به. (وَهُدىً) أي ودلالة. (وَرَحْمَةٌ) أي ونعمة.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤)

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) قال أبو جعفر : قد ذكرنا أنه يقال : إن هذا في الصلوات ، وقيل : إنه في الخطبة ، وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء إلّا أن يدلّ دليل على اختصاص شيء.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) مصدر وقد يكون في موضع الحال وجمع خيفة خوف لأنها بمعنى الخوف ، وحكى الفراء أنه يقال أيضا : خيّف. وقرأ أبو مجلز (٢) بالغدوّ والإيصال (٣) وهو مصدر أصلنا أي دخلنا في العشيّ (وَالْآصالِ)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٦ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.

(٢) أبو مجلز : لاحق بن حميد السدوسي البصري ، سمع الصحابة ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وردت عنه الرواية في حروف القرآن (ت ١٠٦ ه‍) ، ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٣٦٢.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٤٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٩.


جمع أصل مثل طنب وأطناب ، قال الأخفش : الآصال جمع أصيل مثل يمين وأيمان ، وقال الفراء : أصل جمع أصيل وقد يكون أصل واحدا كما قال : [البسيط]

١٦٥ ـ ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل (١)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) اسم «إنّ» وهم الملائكة صلوات الله عليهم قال أبو إسحاق : قال : عند ربك والله جلّ وعزّ بكل مكان لأنهم قريبون من رحمة الله جلّ وعزّ وكلّ قريب من رحمة الله جلّ وعزّ فهو عنده ، وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلّا حكم الله جلّ وعزّ ، وقيل : لأنهم رسل الله كما يقال : عند الخليفة جيش كثير (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي يعظّمونه وينزّهونه عن كلّ سوء. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يذلّون خلاف أهل المعاصي.

__________________

(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٠٧ ، وتاج العروس (أصل) ، وصدره :

«يوما بأطيب منها نشر رائحه»


(٨)

شرح إعراب سورة الأنفال

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين وأسقطتها ، وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسئلونك الأنفال (١) يكون على التفسير وتعدّت يسألونك إلى مفعولين. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ) ابتداء وخبر (وَالرَّسُولِ) عطف. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي كونوا مجتمعين على أمر الله جلّ وعزّ ، وفي الدعاء «اللهمّ أصلح ذات البين» أي الحال التي يقع بها الاجتماع. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وغيرها.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ابتداء و «ما» كافة ويجوز في القياس النصب ومنعه سيبويه. (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) خبر الابتداء. وحكى سيبويه وجل يوجل وياجل وييجل وييجل. قال أبو زيد: سألت خليلا عن الذين قالوا : رأيت الزّيدان ، فقال : هذا على لغة من قال ياجل.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بدل من الذين الأول.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ابتداء وخبر. (حَقًّا) مصدر. (لَهُمْ دَرَجاتٌ) ابتداء أي منازل رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم. (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) عطف.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٨ ، والمحتسب ١ / ٢٧٢.


(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) من المشكل ولأهل اللغة فيها ستة أقوال : قال سعيد بن مسعدة أولئك المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال : وقال بعض العلماء كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وقال الكسائي أي مجادلتهم الآن له كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ. وقال أبو عبيدة (١) : هو قسم أي والذي أخرجك من بيتك. قال أبو إسحاق : الكاف في موضع نصب أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وهم كارهون كذلك ننفّل من رأيت. فهذه خمسة أقوال ، وقول أبي إسحاق هذا هو معنى قول الفراء لأن الفراء قال (٢) : امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، والقول السادس من أحسنها قال الله جلّ وعزّ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى (لَهُمْ) ... (مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فالمعنى هذا الوعد للمؤمنين حقّ كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ الواجب له فأنجز وعدك وأظفرك بعدوك فأوفى لك لأنه قال جلّ وعزّ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ) [الأنفال : ٧] فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ما وعدكم به في الآخرة.

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦)

ومعنى (يُجادِلُونَكَ) يجادلك بعضهم فعاد الضمير على البعض لأنهم قد ذكروا في الكلّ والمعنى بعد ما تبيّن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان كل ما يخبرهم به يكون وجب عليهم أن يقبلوا منه كل ما يقوله وكان قد تبين لهم الحق.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

(إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) مفعول ثان : (أَنَّها لَكُمْ) بدل (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) قال أبو عبيدة (٣) : أي غير ذات الحدّ. قال أبو إسحاق : أي تودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليست معها سلاح ولا فيها حرب يقال : فلان شاك في السلاح وشائك وشاك من الشّكّة كما قال: [المنسرح]

١٦٦ ـ إمّا تري شكّتي رميح أبي

سعد فقد أحمل السّلاح معا (٤)

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٤٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٧.

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٤١.

(٤) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص ٦٠ ، وشرح اختيارات المفضل ٧٢٨ ، والأغاني ٣ / ٩٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب (رمح) ، وجمهرة اللغة ٥٤٢ ، وتاج العروس (رمح).


(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

(لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي يحقّ وعده. (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي كيد الكافرين.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩)

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) لقلّتكم في العدد أي اذكر. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي) في موضع نصب أي بأني ، وقرأ عيسى بن عمر (إنّي) (١) بمعنى : قال إني ، وروي عن عاصم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) كما تقول : فلس وأفلس. (مُرْدِفِينَ) (٢) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش والكسائي وحمزة (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال. قال سيبويه (٣) : وقرأ بعضهم (مُرْدِفِينَ) (٤) بفتح الراء وتشديد الدال وبعضهم (مُرْدِفِينَ) (٥) بكسر الراء وبعضهم (مُرْدِفِينَ) (٦) بضم الراء والدال مكسورة في القراءات الثلاث. «مردفين» بفتح الدال فيها تقديران : يكون في موضع نصب على الحال من «كم» في ممدكم أي أردف بهم المؤمنين وهذا مذهب مجاهد. قال مجاهد : أي ممدّين. قال أبو جعفر : ويجوز أن يكون «مردفين» في موضع خفض نعتا للألف «ومردفين» بكسر الدال ، قال أبو عمرو : فيه أي أردف بعضهم بعضا ، ورد أبو عبيد على أبي عمرو هذا القول وأنكر كسر الدال واحتجّ أن معنى أردف فلان فلانا جعله خلفه. قال : ولا نعلم هذا في صفة الملائكة يوم بدر وأنكر أن يكون أردف بمعنى ردف ، قال لقول الله جلّ وعزّ (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات : ٧] ولم يقل المردفة. قال أبو جعفر : لا يلزم أبا عمرو هذا الرد ولا تتأوّل قوله على ما تأوّله أبو عبيد ولكن المعنى في مردفين قد تقدّم بعضهم بعضا. يقال : ردفته وأردفته بمعنى تبعته وأتبعته. ولو كان كما قال أبو عبيد لكان معنى مردفين بفتح الدال مردفين خلفكم وإنما معنى مردفين في آثاركم أي اتبع بعضهم بعضا وهذا أقوى من قول من قال : مردف بهم المسلمون لأنّ ظاهر القرآن على خلافه والقراءة بمردفين أولى لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسّرون أي أردف بعضهم بعضا ، وأما مردّفين فتقديره عند سيبويه : مرتدفين ثم أدغم التاء في الدال فألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان ومن قال : مردّفين كسر الراء (٧) لالتقاء الساكنين ومن قال مردّفين بضم الراء قبلها ضمة كما تقول : ردّ يا هذا.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٥٨٢.

(٤) و (٥) و (٦) وهذه قراءة الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، ومختصر ابن خالويه ٤٩ ، والمحتسب ١ / ٢٧٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٣.


(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) مفعولان ، ولن تنصرف (بُشْرى) لأن فيها ألف التأنيث. (وَلِتَطْمَئِنَ) لام كي والفعل محذوف لما دلّ عليه. (وَمَا النَّصْرُ) ابتداء ، والخبر (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) اسم «إن» وخبرها.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١)

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) مفعولان وهي قراءة أهل الحرمين وهي حسنة لأن بعده (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ أَمَنَةً) مفعول من أجله ومصدر. يقال : أمنة وأمنا وأمانا. (لِيُطَهِّرَكُمْ) نصب بلام كي لأنها بدل من «أن» أو بإضمار «أن». (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) عطف. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) عطف جملة على جملة أو مفرد وأعيدت اللام ، (وَيُثَبِّتَ بِهِ) بالماء الذي أنزله الله جلّ وعزّ على الرمل يوم بدر حتى تثبت أقدام المسلمين وقد يكون به للرباط.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) أي يثبّت به ذلك الوقت وقد يكون اذكر (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي) في موضع نصب والمعنى بأني (مَعَكُمْ) ظرف ومن أسكن العين فهي عنده حرف. قال الأخفش: فاضربوا فوق الأعناق معناه فاضربوا الأعناق ، وهذا عند محمد بن يزيد خطأ لأن فوقا يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنهم أبيحوا ضرب الوجوه وما قرب منها. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ). قال أبو إسحاق : واحد البنان بنانة وهي هاهنا الأصابع وغيرها من الأعضاء واشتقاق البنان من قولهم: أبن بالمكان إذا أقام به ، فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (ذلك) في موضع رفع بالابتداء أو خبر. والتقدير ذلك الأمر أو الأمر ذلك. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ) جزم بالشرط ، ويجوز (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) (١) كما قال جرير : الوافر]

١٦٧ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا (٢)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٦ ، وقال : «الإدغام لغة تميم».

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٨٢١ ، وجمهرة اللغة ١٠٩٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٧٢ ، والكتاب ٤ / ١٧ ، والدرر ـ


ويجوز «ومن يشاقّ الله» ، والتقدير (شَدِيدُ الْعِقابِ) له ، وحذف له.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤)

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) كما تقدّم في الأول ، (وَأَنَ) في موضع رفع بعطفها على ذلكم. قال الفراء (١) : ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى «وبأنّ للكافرين» قال : ويجوز أن يضمر واعلموا أنّ ، قال أبو إسحاق : لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا ، بل كان يجوز في الابتداء : زيدا منطلقا لأن المخبر معلم وهذا لا يقوله أحد من النحويين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥)

(إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) مصدر في موضع الحال.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) شرط. (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) نصب على الحال. (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) مجازاة. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) ابتداء وخبر.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧)

وكذا (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) على قراءة (٢) من خفّف «لكن» ، ومعنى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) فلم تقتلوهم بتدبيركم ولكن الله قتلهم بالنصر ، ونظير هذا أنّ رجلين لو كانا يتقاتلان ومعهما سيفان فجاء رجل وأخذ سيف أحدهما فقتله الآخر لجاز أن يقال : ما قتل ذاك إلّا الذي أخذ سيفه. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) مثله ويجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصى.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨)

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (٣) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو ،

__________________

ـ ٦ / ٣٢٢ ، وشرح المفصّل ٩ / ١٢٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٤١١ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥٣١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٩٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢٤٤ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٥.

(٢) انظر الإتحاف ١٤٢.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٥.


وقراءة أهل الكوفة (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١) وفي التشديد معنى المبالغة ، وروي عن الحسن (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) بالإضافة والتخفيف. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ يلقي في قلوبهم الرّعب حتى يتشتّتوا أو يتفرق جمعهم.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) في معناه ثلاثة أقوال : يكون مخاطبة للكفار لأنهم قالوا : اللهمّ انصر أحبّ الفئتين إليك. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي عن الكفر. (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى هذا القول. (نَعُدْ) إلى نصر المؤمنين. وقيل : إن تستفتحوا مخاطبة للمؤمنين أي تستنصروا فقد جاءكم النصر وكذا «وإن تنتهوا» أي وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن. (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال جلّ وعزّ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٦٨] ، والقول الثالث أن يكون أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح للمؤمنين وما بعده للكفّار (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي مع المؤمنين المطيعين وفتح (أنّ) بمعنى ولأنّ الله ، والتقدير لكثرتها وأنّ الله ، و «أنّ» في موضع نصب على هذا وقيل : هي عطف على «وأن الله موهّن» والكسر على الاستئناف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (٢٠)

ابتداء وخبر في موضع الحال والمعنى وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ) الكاف في موضع نصب على الظرف وخبر كان يكون (سَمِعْنا) بمعنى قبلنا كما يقال : سمع الله لمن حمده ، ويكون من سماع الأذن ، ويكون بمعنى وهم لا يشعرون وهم لا يتدبّرون ما سمعوا ولا يفكّرون فيه فهم بمنزلة من لم يسمع.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٢٢)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) والأصل أشرّ حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وكذا «خير» الأصل فيها أخير ، (الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) خبر «إنّ» ونعت.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٧٣ ، وتيسير الداني ٩٥.


(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأسمعهم جواب كلّ ما يسألون عنه ودلّ على هذا ولو أسمعهم (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فخبر بالغيب عنهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

(إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) حذفت الضمّة من الياء لثقلها ولا يجوز الإدغام. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (أنّ) في موضع نصب باعلموا ، (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عطف. قال الفراء (١) : ولو استؤنف فكسرت «وإنّه» لكان صوابا.

قال أبو جعفر : وقد ذكرنا (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٢).

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

(إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) ابتداء وخبر. (مُسْتَضْعَفُونَ) نعت وكذا (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) في موضع نصب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧)

(لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بغلول الغنائم ونسبها إلى الله جلّ وعزّ لأنه أمر بقسمها ، وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المؤدّي عن الله جلّ وعزّ والقيّم بها. (وَتَخُونُوا) في موضع جزم نسقا على الأول وقد يكون نصبا على الجواب كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللّبن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي يجعل بينكم وبين الكفار فرقانا بأن ينصركم ويعزّكم ويخذلهم ويذلّهم.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر هذا (لِيُثْبِتُوكَ) نصب بلام كي قيل معناه

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٧٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٧٨.


يحبسونك. وحكى بعض أهل اللغة أثبته إذا جرحه فلم يقدر أن يبرح ، (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) عطف. (وَيَمْكُرُونَ) مستأنف. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ابتداء وخبر. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ إنما مكره أن يأتيهم بالعذاب الذي يستحقّونه من حيث لا يشعرون فهو خير الماكرين.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) خبر كان. و (هُوَ) عند الخليل وسيبويه (١) فاصلة. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يفسّر معنى فاصلة قال : لأنه إنما جيء بها ليعلم أنّ الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة وأن (الْحَقَ) ليس بنعت وإنّ (كانَ) ليست بمعنى «وقع» ، وقال الأخفش : (هو) صلة زائدة كزيادة «ما» وقال الكوفيون (هو) عماد. قال الأخفش : وبنو تميم يرفعون فيقولون : إن كان هذا هو الحقّ من عندك. قال أبو جعفر : يكون (هو) ابتداء و «الحقّ» خبره والجملة خبر كان.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣)

وقد ذكرنا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) (٢) بنهاية الشرح.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤)

قال الأخفش : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أن فيه زائدة.

قال أبو جعفر : ولو كان كما قال لرفع يعذبهم و (أن) في موضع نصب والمعنى وما يمنعهم من أن يعذّبوا فدخلت «أن» لهذا المعنى. (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ابتداء وخبر ، وكذا (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وعليهم أن يعلموا ، وقيل لا يعلمون أنهم يعذّبون في الآخرة. ويجوز أن يغفر لهم ، وقيل لا يعلمون أن المتّقين أولياؤه.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥)

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ) اسم كان : (إِلَّا مُكاءً) خبر. قال أبو حاتم : قال

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٤٠٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٨٣.


هارون وبلغني أن الأعمش قرأ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) (١). قال أبو جعفر : قد أجاز سيبويه مثل هذا على أنه شاذّ بعيد لأنه جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٦٨ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما ببطن الشّام أم متساكر (٢)

وأنشد : [الوافر]

١٦٩ ـ فإنّك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (٣)

قال أبو أعفر : وأبين من هذا وإن كان قد وصل النكرة قوله : [الوافر]

١٧٠ ـ ولا يك موقف منك الوداعا (٤)

وكذا : [الوافر]

١٧١ ـ يكون مزاجها عسل وماء (٥)

وإن كان علي بن سليمان قد قال : التقدير مزاجا لها. وتصدية ، من صدّ يصدّ إذا ضجّ فأبدل من إحدى الدالين ياء.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٨٦.

(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٤٨١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٨٨ ، والكتاب ١ / ٩٠ ، ولسان العرب (سكر) ، والمقتضب ٤ / ٩٣ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣٧٥ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٩٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٤.

(٣) الشاهد لخداش بن زهير في الكتاب ١ / ٨٨ ، وتخليص الشواهد ٢٧٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٨ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، ولثروان بن خزارة في حماسة البحتري ٢١٠ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٩٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٢٧ ، ولثروان أو لخداشي في خزانة الأدب ٩ / ٢٨٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٤٧٢ ، وشرح المفصل ٧ / ٩٤.

(٤) الشاهد للقطامي في ديوانه ٣١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٧ ، والكتاب ٢ / ٢٥٠ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٩ ، ولسان العرب (ضبع) و (ودع) واللمع ص ١٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٩٥ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، وصدره :

«قفي قبل التفرّق يا ضباعا»

(٥) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه ٧١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٦ ، والكتاب ١ / ٨٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٤ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٠ ، وشرح شواهد المغني ٨٤٩ ، وشرح المفصّل ٧ / ٩٣ ، ولسان العرب (سبأ) و (رأس) ، و (جني) ، والمحتسب ١ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٨٩. وصدره :

«كأنّ سبيئة من بيت رأس»


(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧)

(لِيَمِيزَ) نصب بلام كي و (لِيَمِيزَ) (١) على التكثير ، (وَيَجْعَلَ فَيَرْكُمَهُ) عطف.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨)

(إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) شرط ومجازاة ، وكذا (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت سنة الأوّلين في عذاب المصرّين على معاصي الله جل وعز.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣٩)

(حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) اسم تكون وهي بمعنى تقع وكذا (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

(نِعْمَ الْمَوْلى) رفع بنعم لأنها فعل. قال أبو عمر الجرمي والدليل على أنها فعل قول العرب : نعمت فأثبتوا التاء وكذا (وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) «ما» بمعنى الذي والهاء محذوفة ، ودخلت الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة وأنّ الثانية توكيد للأولى ويجوز كسرها. (خُمُسَهُ) اسم إنّ (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ظرفان ، وكذا (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) والجمع عدّى ومن قال : عدوة قال : عدّى مثل لحية ولحّى ، ويقال : «القصيا» والأصل الواو.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٦.


(وَالرَّكْبُ) ابتداء قيل : يعني به الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله جلّ وعزّ فذكرهم نعمه عليهم ، وقيل : يعني عير قريش. (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ظرف في موضع الخبر أي موضعا أسفل منكم ، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء (١) والركب أسفل منكم. أي أشدّ تسفلا منكم. والركب جمع راكب ولا تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل ، وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال : راكب وركب إلّا للذين على الإبل خاصة ، ولا يقال : لمن كان على فرس أو غيرها راكب. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لم يكن يقع الاتفاق فوفق الله جلّ وعزّ لكم ، (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) من نصر المؤمنين و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) لام كي والتقدير ولكن جمعكم هنا لك ليقضي أمرا ، ليهلك هذه اللام مكررة على اللام في ليقضي ، و (مَنْ) في موضع رفع. (وَيَحْيى) في موضع نصب (مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة وهي اختيار سيبويه (٢) وأبي عبيد ، فأما احتجاج أبي عبيد فإنه في السواد بياء واحدة ، قال أبو جعفر : هذا الاحتجاج لا يلزم لأن مثل هذا الحذف في السواد ، ولكن اجتماع النحويين الحذّاق في هذا أنه لمّا اجتمع حرفان على لفظ واحد كان الأولى الإدغام كما يقال : جفّ ، وقرأ نافع وعاصم من حيي عن بيّنة (٣) والحجّة لهما أنه لا يجوز الإدغام في المستقبل فأتبعوا المستقبل الماضي وقد أجاز الفراء (٤) الإدغام في المستقبل وأن يدغم يحيّى. وهذا عند جميع البصريين من الخطأ الكبير ومثله لا يجوز في شعر ولا كلام والعلّة في منعه إذا قلت : يحيى فالياء الثانية ساكنة فلم يجتمع حرفان متحركان فيدغم وقد كان الاختيار لم يجفف وإن كان يجوز لم يجفّ ولم يجفّ فيجوز الإدغام ، فأما في يحيى فلا يجوز وأيضا فإنّ الياء تحذف في الجزم فهذا مخالف ليجفّ ولا يجوز أيضا الإدغام في (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠] لأن الحركة عارضة.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) ظرف ، وكذا (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) وجاء متّصلا لأنك بدأت بالأقرب وأجاز يونس يريكمهم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤١١.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٥٣٨.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٥.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٢.


(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

(وَلا تَنازَعُوا) نهي. (فَتَفْشَلُوا) نصب لأنه جواب النهي ، ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) مصدر في موضع الحال. ومعنى البطر في اللغة التقوية وبنعم الله جلّ وعزّ ما ألبسه الله جلّ وعزّ من العافية على المعاصي.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨)

(وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) يجمع جار أجوارا وجيرانا وفي القليل جيرة. (إِنِّي أَخافُ اللهَ) قيل : خاف أن ينزل به بلاء.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قيل : المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، والذين في قلوبهم مرض الشّاكّون وهم دون المنافقين ، وقيل : هما واحد وهذا أولى ألا ترى إلى قوله جلّ وعزّ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ثم قال جلّ وعزّ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤] وهما لواحد ، وكذا (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥].

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠)

يكون هذا عند الموت وقد يكون بيوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار ، وجواب «لو» محذوف وتقديره لرأيت أمرا عظيما وأنشد سعيد الأخفش : [الخفيف]

١٧٢ ـ إن يكن طبّك الدّلال فلو في

سالف الدّهر والسّنين الخوالي (١)

__________________

(١) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ١١٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦١ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ٧٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٤٩.


وقرأ الأعرج تتوفّى (١) على تأنيث الجماعة. (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) في موضع الحال. قال الفراء(٢) : المعنى ويقولون (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١)

(ذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر ذلك. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) خفض بالياء. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في موضع خفض نسق على (ما) ، وإن شئت نصبت بمعنى و «بأنّ» وحذفت الباء بمعنى وذلك أنّ الله ، ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار وبعد هذا أيضا (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وليس هذا بتكرير لأن الأول للعادة في التعذيب والثاني للعادة في التغيير.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسم «إنّ» وخبرها ، وهو مخصوص وقد بيّنه جلّ وعزّ بقوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ).

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) شرط ودخلت النون توكيدا وصلح ذلك في الخبر لمّا دخلت (ما) هذا قول البصريين ، وقال الكوفيون : تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع إمّا في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) قال الكسائي : (من) بمعنى الذي. قال أبو إسحاق : المعنى افعل بهم فعلا من القتل تفرّق به من خلفهم. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكّرون توعّدك إياهم.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨)

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) قال الكسائي : السواء العدل ، وقال الفراء (٣) : يقال : معناه افعل بهم كما يفعلون سواء. قال : ويقال : معنى (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٢.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٣.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٤.


سَواءٍ) جهرا لا سرّا. قال أبو جعفر : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه ، والمعنى إمّا تخافنّ من قوم بينك وبينهم عهد ـ خيانة فانبذ إليهم العهد أي قل قد نبذت إليكم عهدكم وأنا مقاتلكم ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء ، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يتقون بك فيكون ذلك خيانة ثم بيّن هذا بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ).

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا اسم تحسبنّ وخبره ، وقرأ حمزة. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) (١) فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحلّ القراء به ولا يسمع لمن عرف الإعراب أو عرّفه. قال أبو جعفر : وهذا تحامل شديد وقد قال أبو حاتم أكثر من هذا قال : لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال أبو جعفر : القراءة تجوز ويكون المعنى ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلّا أنّ القراءة بالتاء أبين. قال الفراء : وفي حرف عبد الله بن مسعود ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون (٢) ويروى ولا تحسب الذين بفتح الباء ، وهذا على إرادة النون الخفيفة كما قال الشاعر : [الطويل]

١٧٣ ـ وسبّح على حين العشيّات والضّحى

ولا تحمد المثرين والله فاحمدا (٣)

وإن شئت كسرت الدال ، وقرأ عبد الله بن عامر. (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٤) بفتح الهمزة ، واستبعد أبو حاتم وأبو عبيد هذه القراءة قال أبو عبيد : وإنما تجوز على أن يكون المعنى ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال أبو جعفر : الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج إلّا بكسر إن ، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ كما تقول : حسبت زيدا أبوه خارج ، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه ، وهذا محال ، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قاله يصحّ به معنى إلّا أن تجعل «إلّا» زائدة ، ولا وجه لتوجيه حذف في كتاب الله جلّ وعزّ إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها ، والقراءة جيدة على أن يكون المعنى لأنهم لا يعجزون ، وزعم الفراء أنه تجوز قراءة حمزة على إضمار «أن» يكون المعنى

__________________

(١) وهذه قراءة حفص وابن عامر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٥ ، وتيسير الداني ٩٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ ، ومعاني الفراء ١ / ٤١٤.

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٨٧ ، ولسان العرب (آ) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٦٤ ، وبلا نسبة في المخصص ١٣ / ٨٦ ، وفي الديوان (وصلّ).

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٦.


ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا قال أبو جعفر : لا يجوز إضمار «أن» إلا بعوض ومن أضمرها فقد أضمر بعض اسم وقد شبّه الفراء هذا بقولهم : عسى يقوم زيد ، وهو لا يشبهه لأن «أن» لو كانت هاهنا مضمرة لنصبت يقوم ، وقد ذكرنا أنه من قرأ (لا يُعْجِزُونَ) (١) بكسر النون فقد لحن.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كل ما تعدّه لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عددك. وقرأ الحسن (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ) (٢) على التكثير ، وقرأ بو عبد الرحمن (عَدُوًّا لِلَّهِ) (٣). (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) عطف على عدو ويجوز أن يكون عطفا على وأعدوا لهم بإضمار فعل.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) لأن السلم مؤنّثة ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة ، وحكى أبو حاتم (فَاجْنَحْ) (٤) لها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) ابتداء وخبر أي كافيك الله ، ويقال : أحسبه إذا كفاه (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) في موضع نصب معطوف على الكاف في التأويل أي يكفيك الله ويكفي من اتّبعك كما قال: [الطويل]

١٧٤ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (٥)

ويجوز أن يكون (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) (٦) في موضع رفع ، وللنحويين فيه على هذا ثلاثة

__________________

(١) هذه قراءة ابن محيصن ، انظر مختصر ابن خالويه ٥٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٥٠٦.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٥٠.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٩.

(٥) الشاهد لجرير في ذيل الأمالي ١٤٠ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٨١ ، وسمط اللئالي ص ٨٩٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٧٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٤٠٧ ، وشرح المفصل ٢ / ٥١ ، ولسان العرب (حسب) و (هيج) ، و (عصا) ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٦٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٨٤.

(٦) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١١.


أقوال : قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : يكون عطفا على اسم الله جلّ وعزّ أي حسبك الله ومن اتّبعك قال : ومثله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يكفينيه الله وأبناء قيلة» (١) والقول الثاني أن يكون التقدير: ومن اتّبعك من المؤمنين كذلك على الابتداء وأخبر كما قال الفرزدق : [الطويل]

١٧٥ ـ وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (٢)

والقول الثالث : أحسنها أن يكون على إضمار بمعنى وحسبك من اتّبعك من المؤمنين وهكذا الحديث على إضمار ومن كفى. القول الأول لأنه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يقال : ما شاء الله وشئت ، والقول الثاني فالشاعر مضطرّ فيه إذا كانت القصيدة مرفوعة وإن كان فيه غير هذا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥)

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) اسم «يكن» فإن قال قائل : لم كسر أول العشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلّا ستين؟ فالجواب عند سيبويه (٣) أنّ عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان والدليل على هذا قولهم ستّون وتسعون كما قيل : ستّة وتسعة.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

وقرأ أبو جعفر وعلم أنّ فيكم ضعفاء كما يقال كريم وكرماء ، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو ضعفا(٤) وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد. قال أبو عبيد : لكثرة من قرأ بها وأنها قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه عليها ، وهذا الكلام وإن كان أبو عبيد رحمه‌الله معلوما منه أنه لم يقصد إلا إلى خير وإنما يقال : ومن اتّبعه فيمن يجوز أن يخالف ، وإسناد الحديث ليس بذاك. وقال أبو عمرو بن العلاء : الضّعف لغة أهل الحجاز ، والضّعف لغة تميم فأمّا التفريق بينهما فلا يصحّ أعني في المعنى.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ٨ / ٤٣.

(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٢٦ ، وجمهرة أشعار العرب ٨٨٠ ، وجمهرة اللغة ٣٨٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٣٧ ، والخصائص ١ / ٩٩ ، ولسان العرب (سحت) و (جلف) و (ودع) ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٨ ، وجمهرة اللغة ٤٨٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢٧٩ ، وشرح المفصل ١ / ٣١ ، والمحتسب ١ / ١٨٠.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٢٦٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٣.


(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧)

(أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) وتكون على تأنيث الجماعة أسرى أسارى وأسارى. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أي المغانم والفداء ، (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يريد لكم ثواب الآخرة لأنه خير لكم.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨)

فيه خمسة أجوبة : فمن أحسنها أنّ المعنى لو لا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم ، وقيل : المعنى لو لا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم ، وقيل : المعنى لو لا أنّ الله جلّ وعزّ كتب أنه سيحل لكم المغانم لعذّبكم ، والجواب الخامس أن المعنى لو لا أنّ الله جلّ وعز كتب أنه يغفر لأهل بدر ما تقدّم من ذنوبهم وما تأخّر لعذّبكم. ومعنى (لَوْ لا) في اللغة امتناع شيء لوقوع شيء. و (كِتابٌ) مرفوع بالابتداء و (سَبَقَ) في موضع النعت له ولا يكون خبرا لأنه لا يجوز أن يؤتى بخبر لما ارتفع بعد لو لا بالابتداء. هذا قول سيبويه والتقدير لو لا كتاب من الله سبق تدارككم (لَمَسَّكُمْ) والأصل فيها فعل ثم أدغمت ويجوز الإظهار كما قال : [البسيط]

١٧٦ ـ مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي

أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا (١)

(فِيما أَخَذْتُمْ) أدغمت الذال في التاء لأن المهموس أخفّ ويجوز الإظهار هنا.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) في الفاء معنى الشرط والمجازاة ، وقال سيبويه (٢) فالكلم اسم وفعل وحرف ، والتقدير في الآية قد أحللت لكم الفداء فكلوا ممّا غنمتم ، (حَلالاً طَيِّباً) منصوب على الحال.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٠)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال (لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ)

__________________

(١) الشاهد لقعنب بن أم صاحب في الخصائص ١ / ١٦٠ ، والكتاب ١ / ٥٨ ، وسمط اللآلي ٥٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٨ ، ولسان العرب (ظلل) و (ضنن) ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ونوادر أبي زيد ٤٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ١٥٠ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢ ، ولسان العرب (حمم) ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، والمنصف ٢ / ٦٩.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٠.


فيه ثلاثة أجوبة : يكون المعنى يا أيّها النبي قل لهم قولوا لمن في أيديكم من الأسرى ، ويكون على أنّ المخاطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مخاطبة لأمته كما قال جلّ وعزّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ويكون على تحويل المخاطبة في (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، فأمّا أن يكون على التعظيم فبعيد. (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) شرط وكسرت الميم لالتقاء الساكنين والجواب (يُؤْتِكُمْ) فلذلك حذفت منه الياء.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) أي في نقض العهد لأنهم عاهدوه ألّا يحاربوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إن فعلوا هذا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي خانوا أولياءه المؤمنين بديئا. وجمع خيانة خيائن وكان يجب أن يقال : خوائن لأنه من ذوات الواو إلّا أنهم فرّقوا بينه وبين جمع خائنة ، ويقال : خائن وخون وخونة وخانة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) اسم إنّ. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) معطوف عليه. (أُولئِكَ) رفع بالابتداء (بَعْضُهُمْ) ابتداء ثان. (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) خبره والجميع خبر إنّ ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء ، والخبر (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة من ولايتهم (٢). يقال : وليّ بيّن الولاية ووال بيّن الولاية. قال أبو جعفر : والفتح في هذا أبين وأحسن لأنه بمعنى النصر ، وقال أبو إسحاق : ويجوز الكسر لأنه مشتمل فصار كالصناعة وكالخياطة. قال : ويجوز (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) بالنصب على الإغراء.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

وقال الكسائي : يجوز النصب في قوله : (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٣).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤)

(حَقًّا) مصدر.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٨ ، وتيسير الداني ٩٦.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٨.


(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ابتداء والواحد «ذو» والرحم مؤنثة. (بَعْضُهُمْ) ابتداء. (أَوْلى بِبَعْضٍ) الخبر والجملة خبر الأول ، وفي قوله (فِي كِتابِ اللهِ) جلّ وعزّل. أقوال : منها أن هذه الآية تدلّ على أنه لا يورّث إلّا من كان له في كتاب الله ذكر إلّا أن يجمع المسلمون على شيء أو يصحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل معنى (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح المحفوظ ، وقيل (فِي كِتابِ اللهِ) في حكم الله كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (١) جلّ وعزّ فقضى بالجلد وتغريب عام والرجم عليها إذا كانت محصّنة ، وليس في القرآن الرجم فقيل : معنى «بكتاب الله» جلّ وعزّ بحكم الله ، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] كان القبول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب الله جلّ وعزّ : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اسم «إنّ» وخبرها.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه ، الحدود ، حديث ٤٤٤٥ ، والترمذي في سننه الحدود ٦ / ٢٠٦.


(٩)

شرح إعراب سورة براءة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

من ذلك قوله جلّ وعزّ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ).

رفع بالابتداء ، والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وحسن الابتداء بالنكرة لأنها قد وصلت ، ويجوز أن ترفع براءة على أنها خبر ابتداء محذوف. يقال : برئت من العهد والدّين والرجل براءة ، وبرأت من المرض أبرأ ، ولا يعرف فعلت أفعل مما لامه همزة إلا هذا ويقال : برئت من المرض أبرأ برءا وبرءوا ، وبريت القلم وأبريت الناقة جعلت في أنفها برة. وهي حلقة من حديد ، فإن كانت من خشب فهي خشاش ، وإن كانت من شعر فهي خزامة. والوقف براءه بالهاء. قال سيبويه : أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو تاء القت. قال : وزعم أبو الخطاب أنّ ناسا من العرب يقولون : طلحت كما فعلوا بتاء الجميع. (مِنَ اللهِ) فتحت النون لالتقاء الساكنين هذه اللغة الفصيحة ، وللنحويين فيها أقوال : قال الكسائي : أصل (من) منا حذفوا الألف وأبقوا الفتحة ، وقيل : كرهوا الجمع بين كسرتين فحركوها في أكثر المواضع بالفتح. قال أبو جعفر : وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه(١) قال : لمّا كثر استعمالهم لها ولم يكن فعلا وكان الفتح أخفّ عليهم فتحوا وشبهوها بأين وكيف. قال سيبويه : وناس من العرب يكسرون فيقولون : من الله على القياس. قال أبو حاتم : زعم هارون أن أبا عمرو بن العلاء قرأ براءة من الله إلى الذين عاهدتم (٢) وإن شئت قلت : عاهدتمو على الأصل والحذف لأن الواو ثقيلة.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) قال الكسائي : المصدر سيوحا وسيحانا وسياحة. قال الفراء : وساح الماء سيحا. (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أثبت الهاء فرقا بين المذكر والمؤنث. قال أبو جعفر :

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢٦٥.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٥١.


وقد ذكرناه ، وذكرنا ما هذه الشهور (١). (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ) في موضع نصب باعلموا وإن شئت قلت: أنّكمو كما تقدّم غير معجزي الله حذفت النون للإضافة. ويجوز على قول سيبويه أن تحذفها لالتقاء الساكنين وتنصب.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣)

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) عطف على براءة. (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ظرف وقد ذكرنا ما قيل فيه ، والحجّ الأصغر العمرة. (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في موضع نصب ، والتقدير «بأن الله» ، ومن قرأ إنّ الله قدّره بمعنى قال إنّ الله ، (بَرِيءٌ) خبر. (وَرَسُولِهِ) عطف على الموضع ، وإن شئت على المضمر كلاهما حسن لأنه قد طال الكلام ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٢) عطف على اللفظ.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في موضع نصب بالاستثناء.

قال الأخفش التقدير واقعدوا لهم على كل مرصد وحذفت «على» قال أبو جعفر : قد حكى سيبويه : ضرب الظهر والبطن ، بحذف «على» إلّا أنّ (كُلَّ مَرْصَدٍ) نصبه على الظرف جيّد كما تقول :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) أي من القتل و (أَحَدٌ) مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده وهذا حسن في «إن» وقبيح في أخواتها ، ومذهب سيبويه في الفرق بين إن وأخواتها أنها لمّا كانت أمّ حروف الشرط لأنها لا تكون لغيره خصّت بهذا ، وقال محمد بن يزيد : أما قوله لأنها لا تكون في غيره فغلط لأنها تكون بمعنى «ما» ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٨٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٨.


وزائدة ، ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة وليس كذا غيرها وأنشد سيبويه : [الكامل]

١٧٧ ـ لا تجزعي إن منفسا أهلكته

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (١)

(ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) مفعولان حذف من أحدهما الحرف والجمع مآمن.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) اسم يكون (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) استثناء. قال محمد بن إسحاق : هم بنو بكر.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) قال الأخفش سعيد : أضمر ، أي كيف لا تقتلونهم والله أعلم ، وقال أبو إسحاق : المعنى كيف يكون لهم عهد ثم حذف كما قال : [الطويل]

١٧٨ ـ وخبرتماني أنّما الموت بالقرى

فكيف وهذا هضبة وكثيب (٢)

قال : التقدير وكيف مات (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وبعده (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وليس هذا تكريرا ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة ، والدليل على هذا قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني اليهود باعوا حجج الله جلّ وعزّ وبيانه بطلب الرئاسة وطمع في شيء وجمع إل آلال في القليل ، والكثير ألال ، وذمّة وذمم.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

(فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم.

__________________

(١) الشاهد للنمر بن تولب في الكتاب ١ / ١٨٨ ، وديوانه ٧٢ ، وتخليص الشواهد ٤٩٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٤ ، وسمط اللآلي ٤٦٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٦٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٧٢ ، وشرح المفصّل ٢ / ٣٨ ، ولسان العرب (نفس) و (خلل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٣٥ ، وبلا نسبة في الأزهيّة ص ٢٤٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٥١ ، والجنى الداني ٧٢ ، وجواهر الأدب ٦٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢ ، والردّ على النحاة ١١٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٨٨ ، وشرح ابن عقيل ٢٦٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١٦٦ ، والمقتضب ٢ / ٧٦.

(٢) الشاهد لكعب بن سعد الغنوي في اللسان (قول) و (هذا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٣ / ١٣٦ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٨٣.


(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) جمع إمام ، والأصل أأممة كمثال وأمثلة ثم أدغمت الميم في الميم ، وقلبت الحركة على الهمزة همزتان فأبدلت من الثانية ياء ، وزعم الأخفش أنّك تقول : هذا أيمّ من هذا بالياء. قال المازني : أومّ بالواو. وقرأ حمزة فقاتلوا أامّة الكفر (١). فأكثر النحويين يذهب إلى أنّ هذا لحن لا يجوز لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة ، وزعم أبو إسحاق أنه جائز على بعد ، قال : لأنه قد وقع في الكلمة علّتان الإدغام والتضعيف فلمّا ألقيت حركة الميم على الهمزة تركت الهمزة لتدلّ بحركتها على ذلك.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣)

(أَلا تُقاتِلُونَ) توبيخ وفيه معنى التحضيض.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

(قاتِلُوهُمْ) أمر. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) جوابه وهو جزم بمعنى المجازاة ، والتقدير إن تقاتلوهم يعذّبهم الله. (بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) كلّه عطف ، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول ويجوز النصب على إضمار أن وهو محمول على المعنى ، والكوفيون يقولون على الصرف كما قال : (٢) [الوافر]

١٧٩ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والشّهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

وإن شئت رفعت ونأخذ وإن شئت نصبته. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) القراءة بالرفع لأنه ليس من جنس الأول لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ وهو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٦ ، قراءة الكوفيين وابن عامر (أئمة) بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفا ، وقراءة الباقين بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مدّ.

(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٠٦ ، والأغاني ١١ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥١١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨ ، والكتاب ١ / ٢٥٨ ، وشرح المفصّل ٦ / ٨٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٧٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ٢٠٠ ، والأشباه والنظائر ٦ / ١١ ، والاشتقاق ص ١٠٥ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٨ ، والإنصاف ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١ ، وشرح عمدة الحافظ ٣٥٨ ، ولسان العرب (حبب) ، و (ذنب) ، والمقتضب ٢ / ١٧٩.


موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ، ونظيره (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) تم الكلام ثم قال (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤] وقرأ ابن أبي إسحاق ويتوب الله (١) بالنصب وكذا روي عن عيسى والأعرج. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

(أَمْ حَسِبْتُمْ) خروج من شيء إلى شيء. (أَنْ تُتْرَكُوا) في موضع المفعولين على قول سيبويه ، وعند أبي العباس أنه قد حذف الثاني ، (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) جزم بلمّا وإن كانت «ما» زائدة فإنّها عند سيبويه تكون جوابا لقولك قد فعلت وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. قال الفراء (وَلِيجَةً) بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧)

(أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) اسم كان. (شاهِدِينَ) على الحال. و (أُولئِكَ) ابتداء. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الخبر.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) (ما) كافة والفعل متقدّم لأنه لمن. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) حذفت الألف للجزم. قال سيبويه : واعلم أنّ الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلّا يكون الجزم بمنزلة الرفع. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) وعسى من الله جلّ وعزّ واجبة.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) التقدير في العربية أجعلتم أصحاب سقاية الحاجّ وقيل : التقدير كإيمان من آمن بالله وجعل الاسم موضع المصدر إذ علم معناه مثل : إنّما

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٩.


السخاء حاتم وإنّما الشعر زهير. (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقرأ أبو وجزة أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام (١) سقاة جمع ساق والأصل فيه سقية على فعلة كذا الجمع المعتلّ من هذا نحو قاض وقضاة وناس ونساة فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة نحو ناسئ ونسأة للذين كانوا ينسئون الشهور.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)

(الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع رفع بالابتداء ، وخبره (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) ، و (دَرَجَةً) على البيان.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

(خالِدِينَ) نصب على الحال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) مفعولان. (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تطيعوهم ولا تختصّوهم.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) اسم «كان» وما بعده معطوف عليه. (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) خبر كان ويجوز في غير القرآن رفع «أحبّ» على الابتداء والخبر واسم كان مضمر فيها ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٨٠ ـ إذا متّ كان النّاس صنفان شامت

وآخر مثن بالّذي كنت أصنع (٢)

وأنشد سيبويه : [البسيط]

١٨١ ـ هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول (٣)

__________________

(١) هذه قراءة ابن الزبير والباقر وأبي حيوة ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٢.

(٢) الشاهد للعجير السلولي في الكتاب ١ / ١١٨ ، والأزهيّة ص ١٩٠ ، وتخليص الشواهد ٢٤٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٧٢ ، والدرر ١ / ٢٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٨٥ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٦ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٣٦ ، واللمع في العربية ص ١٢٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٧.

(٣) الشاهد لهشام أخي ذي الرمة في الكتاب ١ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٤ ، ولهشام بن عقبة في ـ


(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥)

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) قال الفراء (١) : لم ينصرف مواطن لأنه جمع ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع ، إلّا أن الشاعر ربما اضطرّ فجمع وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر ، وأنشد : [الرجز]

١٨٢ ـ فهنّ يعلكن حدائداتها (٢)

قال أبو جعفر : رأيت أبا إسحاق يتعجّب من هذا قال : أخذ قول الخليل رحمه‌الله وأخطأ فيه لأن الخليل يقول لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد ولا يجمع جمع التكسير فأما بالألف والتاء فلا يمتنع.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ظرف أي ونصركم يوم حنين. وانصرف حنين لأنه مذكر اسم واد ومن العرب من لا يجريه يجعله اسما للبقعة ، (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) حذفت الياء للجزم.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦)

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي أنزل عليهم ما يسكّنهم ويذهب خوفهم حتى اجترءوا على قتال المشركين. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة يقوّون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال لأن الملائكة صلوات الله عليهم لم تقاتل إلا في يوم بدر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨)

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابتداء وخبر. (فَلا يَقْرَبُوا) نهي فلذلك حذفت منه النون.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ

__________________

ـ الأزهية ص ١٩١ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٨٥ ، وتذكرة النحاة ١٤١ ، والدرر ٢ / ٤٢ ، ولذي الرمّة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢١ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ٢ / ٨٦٨ ، ورصف المباني ٣٠٢ ، وشرح المفصّل ٣ / ١١٦ ، والمقتضب ٤ / ١٠١ ، وهمع الهوامع ١ / ١١١.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٢٨.

(٢) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء ١ / ٤٢٨ ، وتاج العروس (حدد) وللسان العرب (حدد).


بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) للنحويين في هذا أقوال : فمن أحسنها أنه مرفوع على إضمار مبتدأ والتقدير صاحبنا عزير ، وأنشد الأخفش : [الطويل]

١٨٣ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر (١)

ويجوز أن يكون (عُزَيْرٌ) رفع بالابتداء و (ابْنُ) خبره ، ويحذف التنوين لالتقاء الساكنين أجاز سيبويه مثل هذا بعينه ، وقول ثالث لأبي حاتم قال : لو قال قائل إنّ عزيرا اسم عجمي فلذلك حذفت منه التنوين. قال أبو جعفر : هذا القول غلط لأن عزيرا اسم عربيّ مشتق قال الله جلّ وعزّ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩] ولو كان عجميا لانصرف لأنه على ثلاثة أحرف في الأصل ثم زيدت عليه ياء التصغير ، وقد قرأ القراء من الأئمة في القراءة واللغة (عُزَيْرٌ) منوّنا. قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب وعاصم والكسائي (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وهذا بيّن على الابتداء والخبر وكذا (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وكذا (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقرأ عاصم وطلحة (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) وجعل الهمزة من الأصل وقدّر ضهيئا فعيلا. وترك الهمز أجود لأنه لا نعلم أحدا من أهل اللغة حكى أنّ في الكلام فعيلا وإذا لم يهمز قدّر ظهياء فعلاء ، الهمزة زائدة كما زيدت في شأمل وغرقئ إلا أنه يجوز أن يكون فعيلا لا نظير له كما أن كنهبلا فنعلل لا نظير له كما أن قرنفلا فعنلل لا نظير له.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١)

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) مفعولان. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) منصوب على إضمار فعل ويجوز أن يكون عطفا.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢)

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان.

__________________

(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ٣٧ ، والكتاب ٣ / ١٩٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ١١٣ ، وشرح شواهد المغني ص ١٣٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٣٨ ، ولأوس بن حجر في ديوانه ٤٩ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٢٨ ، وللأسود أو للعين المنقري في الدرر ٦ / ٩٨ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٢١ ، ولسان العرب (شعث) ، والمحتسب ١ / ٥٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٤٢ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٣٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢ ، وباقي السبعة بغير همز.


(بِأَفْواهِهِمْ) جمع فوه على الأصل لأن الأصل في فم فوه مثل حوض وأحواض ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) يقال : كيف دخلت إلّا وليس في الكلام حرف نفي؟ ولا يجوز ضربت إلّا زيدا فزعم الفراء (١) أن «إلّا» إنما دخلت في الكلام طرفا من الجحد ، قال أبو إسحاق : الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف وأدوات الجحد «ما ولا ولم ولن وليس» وهذه لا أطراف لها ينطق بها ، ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا ولكن الجواب أنّ العرب تحذف مع «أبى» والتقدير ويأبى الله كلّ شيء إلّا أن يتمّ نوره. قال علي بن سليمان : إنما أجاز هذا في يأبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال أبو جعفر : وهذا قول حسن كما قال : [الطويل]

١٨٤ ـ وهل لي أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلّا أن أكون لها ابنما (٢)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

(لِيُظْهِرَهُ) لام كي أي ليظهره بالحجّة والبراهين وقد أظهره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤)

(إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ) دخلت اللام على يفعل ولا تدخل على فعل بمضارعة يفعل الأسماء (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) رفع بالابتداء ويجوز أن يكون معطوفا على ما في يأكلون أي ويأكلها الذين يكنزون الذهب والفضة. (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ولم يقل ينفقونهما ففيه أربعة أقوال يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز ، ويكون ولا ينفقون الأموال ، ويكون ولا ينفقون الفضة وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه : [المنسرح]

١٨٥ ـ نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرّأي مختلف (٣)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٣٣.

(٢) الشاهد للمتلمس في ديوانه ص ٣٠ ، والأصمعيات ص ٣٤٥ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٥٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٩٣ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ١٨٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١١٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨١٦ ، وشرح المفصّل ٩ / ١٣٣ ، والمنصف ١ / ٥٨.

(٣) الشاهد لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ٢٣٩ ، والكتاب ١ / ١٢٣ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٥ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٥٧ ، ولعمرو بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧ ، ـ


والتقدير الرابع أن يكون ينفقونها للذهب والثاني معطوفا عليه. (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في موضع خبر الابتداء أي اجعل لهم موضع البشارة عذابا أليما.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

(يَوْمَ) ظرف والتقدير يعذّبون. (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ). (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) اسم ما لم يسمّ فاعله. (وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) عطف. (هذا ما كَنَزْتُمْ) أي يقال لهم.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦)

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) اسم «إنّ» وخبرها ، وأعربت (اثْنا عَشَرَ) دون نظائرها لأن فيها حرف الإعراب أو دليله ، (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ابتداء وخبر وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ذلِكَ الدِّينُ) أي ذلك القضاء. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الأكثر أن يكون هذا للأربعة لأن أكثر ما تستعمل العرب فيما جاوز العشرة «فيها ومنها». (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) مصدر في موضع الحال ، قال أبو إسحاق : مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية ، وعاقبه عاقبة لا يثنّى ولا يجمع وكذا عامّة وخاصّة. قال : ومعنى كافة معنى محيطين بهم مشتقّ من كفّة الشيء وهي حرفه لأنك إذا بلغت إليه كففت عن الزيادة.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) هكذا يقرأ أكثر الأئمة ولم يرو أحد عن نافع علمناه. (إِنَّمَا النَّسِيءُ) (١) بلا همز إلا ورش وحده ، وهو مشتقّ من نسأه وأنسأه إذا أخره. حكى اللغتين الكسائي ، فنسىء بمعنى منسؤ أو منسأ. قال أبو عبيد : وقرأها ابن

__________________

ـ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٧٩ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٤٥٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ٢١٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٢٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٩.

(١) قرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني (النسيّ) بتشديد الياء من غير همز.


كثير بغير مدّ ولا همز قال أبو حاتم : قرأها ابن كثير بإسكان السين. قال أبو جعفر : المعروف عن قراءة ابن كثير (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) على فعيل. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وقرأ الكوفيون (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأ الحسن وأبو رجاء (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) بضم الياء وكسر الضاد. والقراءات الثلاث كلّ واحدة منها تؤدي عن معنى. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوتيت جوامع الكلم» (٣) فيضلّ به الذين كفروا ، إلّا أنهم يحسبونه فيضلّون به ، ويضلّ به الذين كفروا بمعنى المحسوب لهم ، و (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد حذف منه المفعول أي يضلّ به الذين كفروا من يقبل منهم. (لِيُواطِؤُا) نصب بلام كي (فَيُحِلُّوا) عطف عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٣٨)

(ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) الأصل تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها فاحتجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن ، والمعنى : اثّاقلتم إلى نعيم الأرض وإلى الإقامة بالأرض ، والتقدير أرضيتم بنعيم الدنيا من نعيم الآخرة. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) ابتداء وخبر.

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

(إِلَّا تَنْفِرُوا) شرط فلذلك حذفت منه النون والجواب (يُعَذِّبْكُمْ). (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) عطف. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ابتداء وخبر.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) شرط ومجازاة. (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظرف.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٣٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، ومختصر ابن خالويه ٥٢.

(٣) أخرجه مسلم في المساجد ٧ ، ٨ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٢٥٠ ، ٣١٤ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٧٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٠٦٨.


(ثانِيَ اثْنَيْنِ) نصب على الحال أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر رضي الله عنه أي أحد اثنين. قال علي بن سليمان : التقدير فخرج ثاني اثنين مثل (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧]. (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فأشاد جلّ وعزّ بذكر أبي بكر رضي الله عنه ، ورفع قدره بخروجه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذله نفسه ولو أراد أن يهاجر آمنا لفعل ، وقوله (لا تَحْزَنْ) فيه معنى أمنه كما قال (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] وقال في قصة لوطعليه‌السلام (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) [العنكبوت : ٣٣] وفي قصة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَخَفْ) [الذاريات: ٢٨] وقال (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي ينصرنا ويمنع منا فأوجب لأبي بكر رضي الله عنه بهذا التقى والإحسان كما قال جلّ وعزّ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨]. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) القول عند أكثر أهل التفسير وأهل اللغة أن المعنى فأنزل الله سكينته على أبي بكر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم أنه معصوم والله جلّ وعزّ أمره بالخروج وأنه ينجيه والدليل على هذا أنه قال لأبي بكر (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فسكن أبو بكر رضي الله عنه ، قال الله جلّ وعزّ فأنزل الله سكينته عليه ومعنى الفاء في العربية أن يكون الثاني يتبع الأول ، فكما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحزن إنّ الله معنا سكن واطمأن ، وليس هذا مثل (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٢٦] لأن هذا في يوم حنين لمّا اضطرب المسلمون خاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد علم أنه في نفسه معصوم ، فلمّا أيّد الله المؤمنين ورجعوا سكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك وزال خوفه الذي لحقه على المؤمنين ، (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الهاء تعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالضميران مختلفان ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب قال الله جلّ وعزّ (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [العلق : ١١ ، ١٢ ، ١٣] ثم قال (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤]. (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي وصفها بهذا ، (وَكَلِمَةُ اللهِ) ابتداء. (هِيَ الْعُلْيا) ابتداء وخبر ، والابتداء والخبر خبر الأول ، ويجوز أن يكون «العليا» الخبر ، و «وهي» فاصلة ، وقرأ الحسن ويعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) (١) بالنصب عطفا على الأول ، وزعم الفراء أنّ هذا بعيد. قال : لأنك تقول : أعتق فلان غلام أبيه ولا تقول : غلام أبي فلان ، وقال أبو حاتم نحوا من هذا ، قال : كأن يكون وكلمته هي العليا. قال أبو جعفر : الذي ذكره الفقراء لا يشبه الآية ولكن يشبهها ما أنشده سيبويه : [الخفيف]

١٨٦ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٢)

وهذا جيد حسن لأنه لا إشكال فيه بل يقول النحويون الحذّاق : إنّ في إعادة

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٥٢ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٦.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧٠).


الذّكر في مثل هذا فائدة وهي أنّ فيه معنى التعظيم. قال الله جلّ وعزّ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ١ ، ٢] فهذا لا إشكال فيه. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

(انْفِرُوا) حكى الأخفش «انفروا» ، (خِفافاً وَثِقالاً) نصب على الحال ، وفيه قولان : أحدهما أنه منسوخ بقوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] ، والآخر أنه غير منسوخ لأن الجهاد فرض إلّا أنّ بعض المسلمين يحمله عن بعض فإذا وقع الاضطرار وجب الجهاد على كلّ أحد.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) خبر كان. (وَسَفَراً قاصِداً) عطف عليه. (لَاتَّبَعُوكَ) وهذه الكناية للمنافقين لأنهم داخلون فيمن خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها كما قيل في قول الله جلّ وعزّ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] إنها القيامة ثم قال جلّ وعزّ : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] يعني جلّ وعزّ جهنم. حكى أبو عبيدة (١) : إنّ (الشُّقَّةُ) السفر ، وحكى الكسائي : إنه يقال: شقّة وشقّة.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣)

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) في معناه قولان : أحدهما أنه افتتاح الكلام كما تقول : أصلحك الله كان كذا وكذا ، والقول الآخر وهو أولى لأن المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم ويدلّ على هذا (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) لأنه لا يقال : لم فعلت ما أمرتك به؟ والأصل «لما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ، وأنّ «ما» قد اتّصلت باللام ولا يوقف عليها إلّا بالهاء لمه.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥)

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) في موضع نصب. قال

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٦٠.


أبو إسحاق : التقدير في أن يجاهدوا ، وقال غيره : هذا غلط وإنما المعنى ضدّ هذا ولكن التقدير (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في التّخلّف لئلّا يجاهدوا ، وحقيقته في العربية كراهة أن لا يجاهدوا كما قال جلّ وعزّ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ٧٦].

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧)

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) لأنهم قالوا إن يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرّضنا على المسلمين ويدلّ على هذا أن بعده (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) ، (فَثَبَّطَهُمْ) الله جلّ وعزّ. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) يكون التقدير قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون هذا هو الإذن الذي تقدّم ذكره وقيل : المعنى وقال لهم أصحابهم هذا.

(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) مفعول ثان ، والمعنى : يطلبون لكم الفتنة أي الإفساد والتحريض ، ويقال: بغيته كذا أي أعنته على طلبه وبغيته كذا طلبته له.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨) (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي لقد طلبوا الإفساد من قبل أن يظهر أمرهم وينزل الوحي بما أسرّوه وبما سيفعلونه لأنه قال جلّ وعزّ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) [براءة : ٩٥] أخبر بعيبهم وقلّبوا لك الأمور أي دبّروا واحتالوا في التضريب والإفساد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) من أذن يأذن فإذا أمرت زدت همزة مكسورة وقبلها همزة هي فاء الفعل ولا يجتمع همزتان فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت : ائذن لي ، فإذا وصلت زالت العلّة في الجمع بين همزتين فهمزت فقلت : ومنهم من يقول أذن لي (١) وروى ورش عن نافع ومنهم من يقول اذن لي خفّف (٢) الهمزة. قال أبو جعفر : يقال : ائذن لفلان ثم ائذن لفلان وهجاء الأول والثاني واحد بألف وباء قبل الذال في الخطّ فإن قلت : ائذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء ، وكذلك الفاء

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢.


والفرق بين ثم والفاء والواو أنّ ثم يوقف عليها وينفصل والفاء والواو لا يوقف عليها ولا ينفصلان.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (٥٠)

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) شرط ومجازاة وكذا (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا) عطف.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١)

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) نصب بلن وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرّف هل يصيبنا (١) وروي عن أعين قاضي الري أنه قرأ قل لن يصبّنا (٢) بنون مشدّدة وهذا لحن لا يؤكّد بالنون ما كان خبرا ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز ، قال الله جلّ وعزّ (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥]. (ما كَتَبَ اللهُ لَنا ما) في موضع رفع. (هُوَ مَوْلانا) ابتداء وخبر ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) جزم لأنه أمر وكسرت اللام الثانية لالتقاء الساكنين ، وإن شئت كسرت الأولى على الأصل والتسكين لثقل الكسرة.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢)

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) والكوفيون يدغمون اللام في التاء ، فأما لام المعرفة فلا يجوز معها إلّا الإدغام كما قال جلّ وعزّ (التَّائِبُونَ) [التوبة : ١١٢] لكثرة لام المعرفة في كلامهم ، ولا يجوز الإدغام في قوله (قُلْ تَعالَوْا) [الانعام : ١٥١] لأن قل معتلّ يجمعوا عليه علتين. وواحد (الْحُسْنَيَيْنِ) الحسنى والجمع الحسن ولا يجوز أن ينطق به إلّا معرّفا ، لا يقال : رأيت امرأة حسنى. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ) في موضع نصب بنتربّص.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٣)

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدر في موضع الحال ولفظ أنفقوا لفظ أمر ، ومعناه الشرط والمجازاة. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما : [الطويل]

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢ ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا.

(٢) انظر المختصر لابن خالويه ٥٣ ، والمحتسب ١ / ٢٩٤.


١٨٧ ـ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (١)

والمعنى : إن أسأت أو أحسنت فنحن لك على ما تعرفين ، ومعنى الآية : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يقبل منهم فقال :

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤)

(أَنْ) الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع ، والمعنى وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم ، وقرأ الكوفيون أن يقبل منهم نفقاتهم (٢) لأن النفقات والانفاق واحد. قال أبو إسحاق : ويجوز وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم (إِلَّا أَنَّهُمْ) بمعنى وما منعهم من أن يقبل الله نفقاتهم (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) فإن الأولى والثانية في موضع نصب ويجوز عند سيبويه أن يكونا في موضع جر.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧)

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) كذا الوقف عليه وفي الخط بألفين الأولى همزة والثانية عوض من التنوين وكذا رأيت جزأا. (أَوْ مَغاراتٍ) من غار يغير. قال الأخفش : ويجوز (مَغاراتٍ) (٣) من أغار يغير كما قال : [البسيط]

١٨٨ ـ الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا (٤)

(أَوْ مُدَّخَلاً) فيه خمس قراءات (٥) : هذه إحداها ، وروي عن قتادة وعيسى والأعمش (أَوْ مُدَّخَلاً) بتشديد الدال والخاء ، وفي حرف أبيّ أو متدخّلا (٦) وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن أو مدخلا بفتح الميم وإسكان الدال. قال أبو إسحاق : ويقرأ أو مدخلا بضم الميم وإسكان الدال. قال أبو جعفر : الأصل في مدّخل مدتخل ، قلبت التاء دالا لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج

__________________

(١) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه ص ١٠١ ، ولسان العرب (سوأ) و (حسن) ، و (قلا) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢١ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣١٨ ، والأغاني ٩ / ٣٨ ، وأمالي القالي ٢ / ١٠٩ ، وتزيين الأسواق ١ / ١٢٤ ، وتاج العروس (سوأ) ، و (قلي).

(٢) انظر تيسير الداني ٩٧.

(٣) وهذه قراءة سعد بن عبد الرحمن بن عوف ، انظر البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، ومختصر ابن خالويه ٥٣.

(٤) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٦٢ ، والكتاب ٤ / ٢١٠ ، وإصلاح المنطق ١٦٦ ، والأغاني ٤ / ١٣٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٩٢ ، وشرح المفصل ٦ / ٥٣ ، ولسان العرب (مسا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٦ / ٥٠.

(٥) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، ومختصر ابن خالويه ٥٣.

(٦) في البحر المحيط ٥ / ٥٦ «وقرأ أبيّ مندخلا» بالنون من (اندخل).


واحد ، والأصل الأولى في مدّخّل مدتخّل ، وقيل الأصل فيه متدخّل على متفعّل ، كما في قراءة أبيّ. ومعناه دخول بعد دخول أي قوما يدخلون معهم ، ومدخل من دخل ، ومدخل من أدخل كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه : [الطويل]

١٨٩ ـ مغار ابن همّام على حيّ خثعما (١)

(وَهُمْ يَجْمَحُونَ) ابتداء وخبر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨)

وقرأ الأعرج ومنهم من يلمزك (٢) بضم الميم والأكثر في المتعدي يفعل بكسر العين.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر. قال الفراء (٣) : ويجوز «فريضة من الله» ، بمعنى ذلك فريضة من الله.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١)

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ الَّذِينَ) في موضع رفع. (يُؤْذُونَ) مهموز لأنه من آذى ، وإن شئت خفّفت الهمزة فأبدلت منها واوا. (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) ابتداء وخبر وكذا (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) على قراءة الحسن ، وقرأ أهل الكوفة (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) وقرءوا (وَرَحْمَةٌ) خفضا عطف على خير ، وهذا عند أهل العربية لأنه قد باعد بين الاسمين وهذا يقبح في المخفوض ، والرفع عطفا على أذن ، والتقدير قل هو أذن خير وهو رحمة أي هو مستمع خير لكم أي مستمع ما يجب استماعه وقابل ما يجب أن يقبله وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ ويقولون هو أذن قال مستمع

__________________

(١) الشاهد لحميد بن ثور في الكتاب ١ / ٢٩٢ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٧ ، وليس في ديوانه ، وللطماح بن عامر كما في حاشية الخصائص ٢ / ٢٠٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص ٣٥١ ، والخصائص ٢ / ٢٠٨ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٩ ، ولسان العرب (لحسن) و (علق) ، والمحتسب ٢ / ١٢١ ، وصدره :

«وما هي إلّا في إزار وعلقة»

(٢) هذه قراءة يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبي رجاء ، انظر البحر المحيط ٥ / ٥٧.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٤.


وقائل. قال : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يصدّق بالله ويصدّق المؤمنين. قال أبو جعفر : فاللام على هذا زائدة عند الكوفيين ومثله (هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥] وعند محمد بن يزيد متعلّقة بمصدر دلّ عليه الفعل.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٦٢)

(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ابتداء وخبر ، فيذهب سيبويه أن التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله أحقّ أن يرضوه ثم حذف ، وقال محمد بن يزيد ليس في الكلام حذف. والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله على التقديم والتأخير ، وقال الفراء (١) : المعنى أحقّ أن يرضوه والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت. قال أبو جعفر : وقول سيبويه أولاها لأنه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن أن يقال ما شاء الله وشئت ولا يقدّر في شيء تقديم ولا تأخير ومعناه صحيح.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣)

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) حذفت النون للجزم. (أَنَّهُ) في موضع نصب بيعلموا والهاء كناية عن الحديث ، (مَنْ يُحادِدِ اللهَ) في موضع رفع بالابتداء. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) يقال : ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ فكان يجب أن يكون «فإنّ له» بكسر إنّ فللنحويين في هذا أربعة أقوال : مذهب الخليل وسيبويه (٢) أنّ «أن» الثانية مبدلة من الأولى ، وزعم أبو العباس (٣) أنّ هذا القول مردود وأنّ الصحيح ما قال الجرمي قال : إنّ الثانية مكررة للتوكيد ، ونظيره (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [النمل : ٥] ، وكذا (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧]. قال الأخفش (٤) : المعنى فوجوب النار له. قال أبو العباس : قول الأخفش هذا خطأ لأنه يبتدئ أنّ ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان : المعنى : فالواجب أنّ له نار جهنم ، وأجاز الخليل وسيبويه فإنّ له نار جهنّم بالكسر. قال سيبويه : وهو جيد وأنشد (٥) : [الطويل]

١٩٠ ـ وعلمي بأسدام المياه فلم تزل

قلائص تخدي في طريق طلائح (٦)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٥.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ١٥٣.

(٣) انظر المقتضب ٢ / ٣٥٦.

(٤) انظر المقتضب ٢ / ٣٥٧.

(٥) البيتان لتميم بن مقبل في ديوانه ٤٥ ، والكتاب ٣ / ١٥٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٦ ، وشرح الشواهد للشنتمري ١ / ٤٦٧.

(٦) أسدام : جمع سدم : وهو الماء المتغيّر طعمه ولونه لقلّة الواردين. والقلائص : جمع القلوص : الناقة الفتيّة الشابة. والطلائح : جمع الطليحة : الناقة المعيية لطول السفر. وتخدي : تسرع.


وأنّي إذا ملّت ركابي مناخها

فإني على حظّي من الأمر جامح (١)

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤)

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) خبر ويدلّ على أنه أنّ بعده (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) لأنهم كفروا عنادا وقيل : هو بمعنى الأمر كما يقال يفعل ذلك. (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) في موضع نصب أي من أن تنزل عليهم ، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على حذف «من» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها مفعولة لأنّ سيبويه أجاز حذرت زيدا وأنشد : [الكامل]

١٩١ ـ حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار (٢)

وهذا عند أبي العباس مما غلط فيه سيبويه ولا يجوز عنده أنا حذر زيدا لأن حذرا شيء في الهيئة فلا يتعدّى. قال أبو جعفر : حدّثنا علي بن سليمان قال : سمعت محمد بن يزيد يقول : حدّثني أبو عثمان المازني قال : قال لي اللاحقي : لقيني سيبويه فقال لي : أتعرف في إعمال فعل شرا؟ ولم أكن أحفظ في ذلك : [الكامل]

حذر أمورا لا تصير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم قد كفروا فقال : (لا تَعْتَذِرُوا) أي لا تعتذروا بقولكم إنما كنّا نخوض ونلعب. (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ثم قال جلّ وعزّ : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ) حذفت الألف للجزم. قال الكسائي : وقرأ زيد بن ثابت (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) بالنون ونصب طائفة بنعذّب ، وكذا قرأ أبو عبد الرحمن وعاصم ، وقرأ الجحدري إن يعف عن طائفة بفتح الياء وضم الفاء يعذّب (٣) بضم الياء وكسر الذال (طائِفَةٍ) نصب بالفعل. والمعنى إن يعف عن طائفة قد تابت يعذّب طائفة لم تتب. وحكى أهل اللغة منهم الفراء (٤) أنه يقال للواحد : طائفة وأنه يقال : أكلت طائفة من الشّاة أي قطعة. قال أبو إسحاق : ويروى أن هاتين الطائفتين كانتا ثلاثة اثنان هزئا وواحد ضحك فجاء

__________________

(١) الجامح : الماضي على وجهه.

(٢) مرّ الشاهد رقم ١٢١.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٦٨.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٥.


واحد لطائفة ، كما يقال : جاءتني طائفة أي رجل واحد ، وتقديره في العربية : جاءتني نفس طائفة.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧)

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) ابتداء. (بَعْضُهُمْ) ابتداء ثان ويجوز أن يكون بدلا ويكون الخبر من بعض. قال أبو إسحاق : هذا متّصل بقوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة: ٥٦] أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض أيديهم عن الجهاد.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨)

(خالِدِينَ) نصب على الحال. (هِيَ حَسْبُهُمْ) ابتداء وخبر.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

(كَالَّذِينَ) قال أبو إسحاق : الكاف في موضع نصب أي وعد الله الكفار نار جهنّم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) خبر كان ولم ينصرف لأنه أفعل صفة الأصل فيه أشدد أي كانوا أشدّ منكم قوة فلم يتهيأ لهم دفع عذاب الله جلّ وعزّ (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي انتفعوا بنصيبهم من الدنيا كما فعل الذين من قبلهم.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠)

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ) حذف الياء للجزم. (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رفع بيأتي. (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) بدل ، ومن لم يصرف ثمود جعله اسما للقبيلة ، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قيل يراد به قوم لوط لأن أرضهم ايتفكت بهم أي انقلبت ، وقيل : المؤتفكات كلّ من أهلك كما يقال : انقلبت عليه الدنيا.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ


طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) ابتداء وخبر أي أكبر من نعيمهم ويجوز في غير القرآن النصب لأن هذا مما وعدوا به.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣)

(جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) كسرت الدال لالتقاء الساكنين والفعل غير معرب ولا يكون فعل الأمر إلا مستقبلا عند جميع النحويين ، وكذا سيفعل وسوف يفعل فأما يفعل فقد اختلف فيه النحويون فالبصريون يقولون يكون مستقبلا وحالا. والكوفيون يقولون : يكون مستقبلا لأن هذه الزوائد إنما جيء بها علامة للاستقبال ، وفاعل عند البصريين كيفعل ، وهو عند الكوفيين للحال إلّا أن يكون مجازا.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤)

(وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) يدلّ على أن المنافقين كفار وفي قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣] دليل قاطع. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (أن) في موضع نصب. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) شرط ومجازاة ، وكذا (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) في موضع رفع.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧)

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) مفعولان. (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) في موضع خفض.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩)

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في موضع رفع بالابتداء والأصل المتطوّعين أدغمت التاء في الطاء. (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) في موضع خفض عطف على المؤمنين ولا يجوز أن يكون عطفا على المطّوّعين لأنك لو عطفت عليهم


لعطفت على الاسم قبل أن يتمّ لأن (فَيَسْخَرُونَ) عطف على يلمزون. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) خبر الابتداء.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١)

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) مفعول من أجله وإن شئت كان مصدرا. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ) ابتداء وخبر. (حَرًّا) على البيان.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) أمر فيه معنى التهديد ، والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها ، (قَلِيلاً) و (كَثِيراً) نصب على أنهما نعت لظرف أو لمصدر (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) مفعول من أجله للجزاء.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤)

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) حذفت لأنه مجزوم بلا.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦)

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا) في موضع نصب أي بأن آمنوا.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٨٧)

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جمع خالفة أي النساء وقد يقال للرجل : خالفة وخالف إذا كان غير نجيب ، إلّا أنّ فواعل جمع فاعلة ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر إلّا في حرفين وهما فارس وهالك فأما هالك فعلى المثل وأما فارس فلا يشكل.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨)

(لكِنِ الرَّسُولُ) ابتداء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف عليه. (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في موضع الخبر.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩)

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ابتداء وخبر.


(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) قرأ الأعرج والضحاك (الْمُعَذِّرُونَ) (١) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس رواها أصحاب القراءات إلّا أنّ مدارها على الكلبي. وهي من أعذر إذا بالغ في العذر. وأما المعذّرون بالتشديد ففيه قولان : قال الأخفش والفراء (٢) وأبو حاتم وأبو عبيد : الأصل المعتذرون ثم أدغمت فألقيت حركة التاء على العين ويجوز عندهم المعذّرون بضمّ العين لالتقاء الساكنين ولأن ما قبلها ضمّة ويجوز المعذّرون الذين يعتذرون ولا عذر لهم. قال أبو العباس محمد بن يزيد : ولا يجوز أن يكون فيه المعتذرين ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس ؛ وذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه وأن سياق الكلام يدلّ أنّهم مذمومون لا عذر لهم. قال لأنهم جاءوا (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ولو كانوا من الضعفاء والمرضى أو الذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال أبو جعفر : أصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذّر ، وقول العرب «من عذير من فلان» معناه : قد أتى أمرا عظيما يستحقّ أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به فمن يعذرني إن عاقبته. (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) نصب بلام كي.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١)

(وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) اسم ليس. (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في موضع رفع اسم (ما).

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩٢)

(وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) الجملة في موضع نصب على الحال. (حَزَناً) مصدر. (أَلَّا يَجِدُوا) نصب بأن. قال الفراء (٣) ويجوز «أن لا يجدون» يجعل «لا» بمعنى ليس ، فهو عند البصريين بمعنى أنّهم لا يجدون.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٨٦ ، وهذه قراءة زيد بن علي وأبي صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨.


(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي النساء اللواتي يخلفن أزواجهن.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩٧)

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً) نصب على البيان. (وَنِفاقاً) عطف عليه. (وَأَجْدَرُ) عطف على أشدّ (أَلَّا) في موضع نصب بأن كما يقال : أنت خليق أن تفعل ولا يجوز أنت خليق الفعل. قال أبو إسحاق : لأن «ما» بعد أن يدلّ على أنّ الفعل مستقبل يجعل الحذف عوضا ، وقال غيره : الحذف لطول الكلام.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩٨)

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ) في موضع رفع بالابتداء. (ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) مفعولان ، والتقدير : ينفقه حذفت الهاء لطول الاسم. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة إلّا أن مجاهدا وأبا عمرو وابن محيصن قرءوا (دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) بضم السين وأجمعوا على فتح السين في قوله جلّ وعزّ (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] والفرق بينهما ـ وهو قول الأخفش والفراء : أن السّوء بالضم المكروه. قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ. قال الفراء : أي عليهم دائرة العذاب والبلاء قالا : ولا يجوز امرأ سوء بالضم كما لا يقال : هو امر عذاب ولا شرّ ، وحكي عن محمد بن يزيد قال : السوء بالفتح الرداءة قال : وقال سيبويه : مررت برجل صدق. معناه برجل صلاح ، وليس من صدق اللسان ولو كان من صدق اللسان لما قلت : مررت بثوب صدق ومررت برجل سوء ليس هو من مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية (٢) سؤته ، وإنما معناه مررت برجل فساد ، وقال الفراء : السّوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٧ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٤٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٩٥.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٠.


الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

(قُرُباتٍ) الواحدة قربة والجمع قرب وقربات وقربات وقد ذكرنا علله. قال أبو جعفر : قال الأخفش : ويقال : قربة. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) (١).

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه لأنه السابقين منهما. (أَبَداً) ظرف زمان (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ابتداء وخبر.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) ابتداء أي قوم منافقون. وقد ذكرنا أنّ المنافق مشتقّ من النافقاء ، وفي الحديث «المنافق الذي إذا حدّث كذّب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (٣). (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) يكون قولك مردوا نعتا للمنافقين ، ويجوز أن يكون تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وهي الزكاة المفروضة فيما روي وفيها خمسة أوجه : قال أبو إسحاق : الأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فإنك تطهّرهم وتزكّيهم بها ، ويجوز أن يكون في موضع الحال. قال الأخفش : ويجوز أن تكون للصدقة ، ويكون (اتَّبَعُوهُمْ) توكيدا ، ويجوز أن يكون تطهّرهم للصدقة وتزكّيهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والوجه الخامس أن تجزم على جواب الأمر كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٩٢ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان (٤)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٩٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٩٦ ، وهذه قراءة الحسن وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن أبي سعيد وطلحة ويعقوب والأنصار جميعا.

(٣) أخرجه الترمذي في سننه باب الإيمان ١٠ / ٩٧.

(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٧٣ (دار صادر) وعجزه :

«ورسم عفت آياته منذ أزمان»


(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) فيه جوابان : أحدهما أنه منسوخ بقوله جلّ وعزّ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [التوبة : ٨٤] ، والآخر أنه غير منسوخ وأنّ المعنى وادع لهم إذا جاءوك بالصدقات ، وكذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل والعلماء على هذا ويدلّ عليه (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي إذا دعوت لهم حين يأتونك بصدقاتهم سكّن ذلك قلوبهم وفرحوا وبادروا رغبة في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء ، ومنه الصلاة على الجنازة.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فتحت (أنّ) يعلموا ، ولو كان في خبرها اللام لكسرتها وهي فاصلة وإن شئت مبتدأة.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا من رؤية العين لا غير لأنه لم يتعدّ إلا إلى مفعول واحد.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) معطوف والتقدير ومنهم آخرون مرجئون لأمر الله من أرجأته أخّرته ، ومنه قيل : المرجئة لأنهم أخّروا العمل ، ومن قرأ (مُرْجَوْنَ) (١) فله تقديران : أحدهما أن يكون من أرجيته ، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : لا يقال : أرجيته بمعنى أخّرته ولكن يكون من الرجاء. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) «إما» في العربية لأحد الأمرين ، والله جلّ وعزّ عالم بمصير الأشياء ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) معطوف أي : ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء ، ومن قرأ (الَّذِينَ) بلا واو وهي قراءة المدنيين فهو

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠١ ، وتيسير الداني ٩٧.


عنده رفع بالابتداء لا غير ، وفي الخبر قولان : زعم الكسائي أن التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا أي لا تقم في مسجدهم كما قال : [السريع]

١٩٣ ـ من باب من يغلق من داخل (١)

قال : يريد من باب من يغلق بابه من داخل. قال أبو جعفر : هذا خطأ عند البصريين ولا يجوز في شعر ولا غيره ولو جاز هذا لقلت : الذي اشتريت عمرو بمعنى الذي اشتريت داره عمرو. قال أبو جعفر : يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم. (ضِراراً) مصدر مفعول من أجله. (وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً) عطف كله.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

(لَمَسْجِدٌ) ابتداء. (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) نعت. (أَحَقُ) خبر الابتداء. (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) في موضع نصب أي بأن تقوم فيه. قال سعيد بن المسيب : المسجد الذي أسّس على التقوى مسجد المدينة الأعظم ، وروي عن ابن عباس أنه مسجد قباء ، وكذا قال الضحاك وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عنه فقال : هو مسجدي هذا. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال الشّعبي : هم أهل مسجد قباء أنزل الله جلّ وعزّ فيهم هذا. قال أبو جعفر : يكون على قول الشعبي فيه لمسجد قباء ويكون الضميران مختلفين ، وقد يجوز أن يكونا متّفقين ويكونا لمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩)

(أَفَمَنْ أَسَّسَ) (٢) (بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) من بمعنى الذي وهو في موضع رفع بالابتداء وخبره (خَيْرٌ) ، (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) عطف على الأولى ، وهذه قراءة زيد بن ثابت وبها قرأ نافع. وفيه أربع قراءات سوى هذه القراءة : قرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بفتح الهمزة ونصب البنيان وهو اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به وأن الفاعل

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في الدرر ١ / ٢٩٨ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٠ ، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ١ / ٨٢ ، ويروى هكذا :

«أعوذ بالله وآياته

من باب من يغلق من خارج»

(٢) هذه قراءة نافع وابن عامر ، انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، وتيسير الداني ٩٨.


سمّي فيه ، وقرأ نصر بن عاصم (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) (١) رفع أسسا بالابتداء وخفض بنيانه بالإضافة والخبر (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) والجملة في الصلة وأسس وأسّ بمعنى واحد مثل عرب وعرب. قال أبو حاتم : وقرأ بعض القرّاء ا فمن أساس بنيانه (٢). قال أبو جعفر : أساس واحد وجمعه أسس ، والقراءة الخامسة حكاها أبو حاتم أيضا وهي ا فمن أساس بنيانه (٣) وهذا جمع أسّ كما يقال : خفّ وأخفاف والكثير أساس مثل خفاف وقال الشاعر : [الخفيف]

١٩٤ ـ أصبح الملك ثابت الآساس

بالبهاليل من بني العبّاس (٤)

(خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) مثل الأول. (عَلى شَفا) والتثنية شفوان والجمع أشفاء وشفيّ وشفيّ وجرف وجرفة هار ، والأصل هائر ، وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ثم يقال : هائر مثل صائم ثم يقلب فيقال : هار ، وزعم الكسائي أنه يكون من ذوات الواو ومن ذوات الياء وأنه يقال : تهوّر وتهيّر. وحكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو بن العلا كان يحبّ أن يميل إذا كانت الراء مكسورة بعد ألف فإن كانت مفتوحة أو مضمومة لم يمل. قال أبو جعفر : هذا قول الخليل وسيبويه (٥) والعلّة عندهما في ذلك أنّ الراء إذا كانت مكسورة فكأنّ فيها كسرتين للتكرير الذي فيها فحسنت الإمالة فإذا كانت مفتوحة فكأنّ فيها فتحتين فلا تجوز الإمالة وكذا إذا كانت مضمومة نحو (وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٩] ، وأما «افر» فإنما أميل لكسرة الفاء.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

(رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) خبر لا يزال.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

(بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) اسم أنّ. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكّدان. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ مِنَ) في موضع رفع بالابتداء وخبره (أَوْفى).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، ومختصر ابن خالويه ٥٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، ومختصر ابن خالويه ٥٥.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٢.

(٤) الشاهد للحافظ ابن حجر في تاج العروس (بهل) ، ولسديف بن ميمون في طبقات الشعراء لابن المعتز ٣٩.

(٥) انظر الكتاب ٤ / ٢٤٨.


(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

(التَّائِبُونَ) رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين أي هم التائبون وفيه قولان سوى هذا : قال أبو إسحاق يجوز أن يكون بدلا أي يقال التائبون ، قال : ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء قال : وهو أحسن عندي ، ويكون التقدير التائبون لهم الجنة وفي قراءة عبد الله التائبين العابدين الحامدين (١) وفيه تقديران يكون نعتا للمؤمنين في موضع خفض ويكون منصوبا على المدح.

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) اسم كان ، والخبر (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) والموعدة عند العلماء كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم عليه‌السلام. قال أبو إسحاق : يروى أنّه وعده أنّه يسلم فاستغفر له ، وقال غيره : لا يجوز أن يكون استغفر له إلّا وقد أسلم ولكنّه وعده أنّه يظهر إسلامه فاستغفر له فلمّا لم يظهره تبيّن له أنّه عدوّ لله فتبرّأ منه. قال أبو إسحاق : لما أقام على الكفر تبيّن له أنه عدو لله ، وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فلمّا تبيّن له أنه عدوّ لله ، قال مات كافرا. (إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) اسم أنّ وخبرها.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في موضع خفض على النعت للمهاجرين والأنصار ، (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) سيبويه (٢) يجوز أن ترفع القلوب بتزيغ ويضمر في كاد الحديث ، وإن شئت رفعتها بكاد ، ويكون التقدير من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ ، وزعم أبو حاتم أنّ من قرأ «يزيغ» (٣) بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال أبو جعفر : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء : رحبت البلاد وأرحبت ، ورحبت لغة أهل الحجاز.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ١٠٦.

(٢) انظر الكتاب ١ / ١١٩.

(٣) هذه قراءة حمزة وحفص ، انظر البحر المحيط ٥ / ١١١ ، وتيسير الداني ٩٨.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه وروى شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : الكذب ليست فيه رخصة اقرءوا إن شئتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أهل ترون في الكذب رخصة لأحد؟

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

(أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) اسم كان. (ذلِكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) رفع بيصيبهم أي عطش. (وَلا نَصَبٌ) عطف أي تعب و «لا» زائدة للتوكيد وكذا (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي مجاعة. (وَلا يَطَؤُنَ) عطف على يصيبهم (يَغِيظُ) في موضع نصب لأنه نعت لموطئ أي غائظا. (وَلا يَنالُونَ) قال الكسائي : هو من قولهم أمر منيل وليس من التناول إنّما التناول من نلته بالعطيّة.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١)

(وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) والعرب تقول : واد ووادية ، ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه ، والقياس أن يجمع ووادي فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم يستثقلون واحدة حتى قالوا : أقّتت في وقّتت ، وقال الخليل وسيبويه : في تصغير واصل اسم رجل أو يصل ولا يقولون غيره ، وحكى الفراء في جمع واد أوداء.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) لفظ خبر ومعناه أمر. قال أبو إسحاق : ويجوز والله أعلم أن تكون هذه الآية تدلّ على أن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ) قال الأخفش : أي فهلّا نفر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)


قرأ أبان بن تغلب (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (١) وروى المفضل عن الأعمش وعاصم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (٢) بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء : لغة أهل الحجاز وبني أسد (٣) غلظة بكسر الغين ولغة تميم غلظة بضم الغين.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

يجوز أن يكون (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا ويجوز أن يكون خبرا.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨)

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) رفع بجاءكم ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) نعت وكذا (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) وكذا (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال الفراء (٤) : فلو قرئ : عزيزا عليه ما عنتّم حريصا رؤوفا رحيما ، نصبا جاز بمعنى لقد جاءكم كذلك. قال أبو جعفر : عنتّم من قوله : أكمة عنوت إذا كانت شاقّة مهلكة. وأحسن ما قيل في هذا المعنى مما هو موافق لكلام العرب ما حدّثنا به أحمد بن محمد الأزديّ قال : حدّثني عبد الله بن محمد الخزاعي قال : سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت عبد الله بن داود الجريبيّ يقول في قول الله جلّ وعزّ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) قال : إن تدخلوا النار ، حريص عليكم؟ قال : إن تدخلوا الجنة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

(فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) ابتداء وخبر وكذا (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ومن رفع العظيم جعله نعتا لربّ.

__________________

(١) و (٢) و (٣) انظر البحر المحيط ٥ / ١١٨.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٦.


(١٠)

شرح إعراب سورة يونس عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١)

قال أبو جعفر : قرأ عليّ أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال :أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس : الر وحم ونون الرحمن مفرّقة فحدثت به الأعمش فقال : عندك أشباه هذا ولا تخبرني. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا في سورة البقرة أن ابن عباس رحمة الله عليه قال : معنى «الر» أنا الله أرى. ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد : [الرجز]

١٩٥ ـ بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا (١)

قال سيبويه : يريد إن شرّا فشرّ ولا أريد الشر إلّا أن تشاء. وقال الحسن وعكرمة «الر» قسم ، وقال سعيد (٢) عن قتادة «الر» اسم السورة ، قال : وكذا كل هجاء في القرآن ، وقال مجاهد : هي فواتح السور ، وقال محمد بن يزيد : هي تنبيه وكذا حروف التهجّي. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ابتداء وخبر أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم ، وإن شئت كان التقدير هذه تلك آيات الكتاب الحكيم. قال أبو عبيدة (٣) : الحكيم المحكم.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) خبر كان ، واسمها (أَنْ أَوْحَيْنا) وفي قراءة عبد الله (أَكانَ

__________________

(١) الشاهد لنعيم بن أوس في الدرر ٦ / ٣٠٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٢٠ ، وللقيم بن أوس في نوادر أبي زيد ص ١٢٦ ، ولحكيم بن معيّة التميمي وللقمان بن أوس بن ربيعة في لسان العرب (معي) ، وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٥٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢٦٢ ، ولسان العرب (تا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٨ ، ونوادر أبي زيد ١٢٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢١٠ ، اللغة : إن شرا فا : أي : إن أردت بي شرا فلك مني شرّ ، وإلا أن تا : إلا أن تريده لي.

(٢) انظر تفسير الطبري ١ / ٦٦.

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٧٢.


لِلنَّاسِ عَجَب) (١) على أنه اسم كان ، والخبر (أَنْ أَوْحَيْنا) ، (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) في موضع نصب أي بأن أنذر الناس وكذا (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) ويجوز أنّ لهم قدم صدق بمعنى قل.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

(ما مِنْ شَفِيعٍ) في موضع رفع والمعنى ما شفيع (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) رفع بالابتداء (جَمِيعاً) على الحال. (وَعْدَ اللهِ) مصدر لأنّ معنى مرجعكم وعدكم. (حَقًّا) مصدر نصبا وأجاز الفراء (٢) «وعد الله» بالرفع بمعنى مرجعكم إليه وعد الله. قال أحمد بن يحيى ثعلب يجعله خبر مرجعكم ، وأجاز الفراء «وعد الله حقّ» وقرأ يزيد بن القعقاع (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) (٣) يكون «أنّ» في موضع نصب أي وعدكم أنه يبدأ الخلق ، ويجوز أن يكون التقدير : لأنه يبدأ الخلق كما يقال : لبّيك أن الحمد والنّعمة لك ، والكسر أجود ، وأجاز الفراء (٤) أن يكون «أنّ» في موضع رفع. قال أحمد بن يحيى : يكون التقدير : حقا ابتداء الخلق.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) مفعولان. (وَالْقَمَرَ نُوراً) عطف. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) بمعنى وقدّر له مثل (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين : ٣] ويجوز أن يكون المعنى قدّره ذا منازل مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقدّره ولم يقل : وقدّرهما والشمس والقمر جميعا منازل ، ففي هذا جوابان : أحدهما أنه خصّ القمر لأن العامة به تعرف الشّهور ، والجواب الآخر أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه والفراء : [الطويل]

١٩٦ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن جول الطّويّ رماني (٥)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٢٦.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٧ ، والبحر المحيط ٥ / ١٢٩.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٥٦.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٧.

(٥) الشاهد لعمرو بن أحمر في ديوانه ١٨٧ ، والكتاب ١ / ١٢٥ ، والدرر ٢ / ٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٤٩ ، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي في لسان العرب (جول). والطوي : البئر.


(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) على أنها نون الجميع ، وبعض العرب يقول : عدد السّنين والحساب ، ومن العرب من يقول : سنوات ومنهم من يقول : سنهات والتصغير سنيهة وسنيّة وجاز جمعهما بالواو والنون عوضا مما حذف منها وكسر أولها دلالة على ما لحقها مما هو لغيرها. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي ما أراد الله جلّ وعزّ بخلق ذلك إلّا الحكمة والصواب.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

(لَآياتٍ) اسم «إنّ».

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ(٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) اسم إنّ ، والخبر (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ).

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

(دَعْواهُمْ) ابتداء أي دعاؤهم (فِيها سُبْحانَكَ) مصدر. (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ابتداء وخبر وكذا (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يحك أبو عبيد إلّا تخفيف «أن» ورفع ما بعدها قال : وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله جلّ وعزّ (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) [النور: ٩] لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال : «الحمد لله». قال أبو جعفر : مذهب الخليل وسيبويه (١) أنّ «أن» هذه مخفّفة من الثقيلة والمعنى : أنه الحمد لله ، قال محمد بن يزيد : ويجوز أن الحمد لله. يعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس لأنها إنما أشبهت الفعل باللفظ لا بالمعنى فإذا نقصت عن الفعل لم تعمل عمله ومن نصب شبّهها بالفعل إذا حذف منه. قال أبو جعفر : وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١)

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) قيل : معناه لو عجّل الله للناس من العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير فعاقبهم لماتوا لأنهم خلقوا في

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ١٨٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٣٢ ، وهذه قراءة عكرمة ومجاهد وقتادة وابن يعمر وأبي مجلز وأبي حيوة وابن محيصن ويعقوب أيضا.


الدنيا خلقا ضعيفا وليس هم كذا يوم القيامة لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا غير هذا القول ، استعجالهم على قول الأخفش والفراء بمعنى كاستعجالهم ثم حذف الكاف ونصب قال الفراء (١) : كما تقول : ضربت زيدا ضربك أي كضربك فأما مذهب الخليل وسيبويه (٢). وهو الحقّ فإنّ التقدير فيه ولو يعجّل الله للناس الشرّ تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، وحكى سيبويه (٣) : زيد شرب الإبل ، ولو جاز ما قال الأخفش والفراء لجاز : زيد الأسد أي كالأسد فهذا بيّن جدا. قال أبو إسحاق: ويقرأ (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (٤) وهي قراءة ابن عامر الشامي وهي قراءة حسنة لأنه متّصل بقوله جلّ وعزّ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ). قال الأخفش (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) مبتدأ قال و (يَعْمَهُونَ) أي يتحيّرون.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) في موضع نصب على الحال. (أَوْ قاعِداً) عطف على الموضع ، والتقدير دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما. (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) قال الأخفش : هي «أنّ» الثقيلة خفّفت كما قال : [الخفيف]

١٩٧ ـ وي كأن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (٥)

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ). مفعولان (لِنَنْظُرَ) نصب بلام كي.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) اسم ما لم يسمّ فاعله. قال أبو إسحاق (بَيِّناتٍ) نصب على الحال.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٨.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٢٧٢.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٤٠٠.

(٤) انظر تيسير الداني ٩٩.

(٥) الشاهد لزيد بن عمرو بن نفيل في الكتاب ٢ / ١٥٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٠٤ ، والدرر ٥ / ٣٠٥ ، وذيل سمط اللآلي ص ١٠٣ ، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني ١٧ / ٢٠٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١ ، ولسان العرب (ويا) و (وا) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٥٣ ، والخصائص ٣ / ٤١ ، وشرح المفصل ٤ / ٧٦ ، ومجالس ثعلب ١ / ٣٨٩ ، والمحتسب ٢ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٦ ، وقبله في الكتاب :

«سألتاني الطلاق أن رأتاني

قلّ مالي ، قد جئتماني بنكر»


(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ولا أعلمكم به أي القرآن. قال أبو حاتم : سمعت الأصمعي يقول : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قراءة الحسن ولا أدرأتكم به (١) أله وجه؟ قال : لا قال أبو عبيد : لا وجه لقراءة الحسن «ولا أدرأتكم به» إلّا على الغلط. معنى قول أبي عبيد إن شاء الله على الغلط أنه يقال : دريت أي علمت وأدريت غيري ، ويقال : درأت أي دفعت فيقع الغلط بين دريت وأدريت ودرأت ، وقال أبو حاتم : يريد الحسن فما أحسب ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب لأنهم يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها مثل (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣]. قال أبو جعفر هذا غلط لأن الرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمز وأبو حاتم تكلّم على أنه بغير همز ويجوز أن يكون من درأت إذا دفعت ، أي : ولا أمرتكم أن تدفعوا وتتركوا الكفر بالقرآن. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) في الكلام حذف والتقدير فقد لبثت فيكم عمرا من قبله تعرفوني بالصدق والأمانة لا أقرأ ولا أكتب ثم جئتكم بالمعجزات (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن هذا لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) اسم «كان» وخبرها. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) رفع بالابتداء (سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في موضع النعت.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠)

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) والأصل «أنني» حذفت النون ، والمعنى منتظر من المنتظرين.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١)

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) جواب إذا على قول الخليل وسيبويه (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا)

__________________

(١) وهذه قراءة ابن عباس وابن سيرين وأبي رجاء أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ١٣٧ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٥٩.


والتقدير مكروا. قال مجاهد : إذا لهم مكر في آياتنا استهزاء وتكذيب. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ) ابتداء وخبر. (مَكْراً) على البيان.

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢)

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) ابتداء وخبر ، وفي يسيّركم معنى التكثير ويسيركم للقليل والكثير ، وقرأ يزيد ابن القعقع هو الذي ينشركم (١) وهي المعروفة من قراءة الحسن ، ويسيّركم أشبه بقوله جلّ وعزّ (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) و (الْفُلْكِ) يذكّر ويؤنّث ويكون واحدا وجمعا لفلك كما يقال : وثن ووثن. (جاءَتْها) الهاء تعود على الفلك ويجوز أن تعود على الريح الطيّبة (رِيحٌ عاصِفٌ).

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

(إِنَّما بَغْيُكُمْ) رفع بالابتداء وخبره (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ويجوز أن يكون خبره (عَلى أَنْفُسِكُمْ) وتضمر مبتدأ أي ذلك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع الحياة الدنيا وبين المعنيين فرق لطيف إذا رفعت متاعا على أنه خبر بغيكم فالمعنى إنما بغي بعضكم على بعض مثل (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وكذا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة ١٢٨] وإذا كان الخبر على أنفسكم فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم مثل (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] وقرأ ابن أبي إسحاق (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بالنصب على أنه مصدر أي تمتّعون متاع الحياة الدنيا.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤)

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ابتداء. (كَماءٍ) خبره والكاف في موضع رفع. (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) نعت لما. (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) عطف. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) الأصل تزيّنت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٤١ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٦٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٤٣ ، وتيسير الداني ٩٩.


حرفين الأول منهما ساكن ، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية (وَازَّيَّنَتْ) (١) أي جاءت بالزينة وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال أزانت ، قال عوف الأعرابي : قرأ أشياخنا وازيانّت ووزنه واسوادّت وفي رواية المقدّمي وازّاينت (٢) والأصل فيه تزاينت ووزنه تفاعلت ثم أدغم ، (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) قال أبو إسحاق : المعنى قادرون على الانتفاع بها. (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) ظرفان. (فَجَعَلْناها حَصِيداً) مفعولان.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦)

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) في موضع رفع بالابتداء. (وَزِيادَةٌ) عطف عليها. قال أبو جعفر وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الزيادة النظر إلى الله تعالى وقيل : الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك. قرأ الحسن (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) (٣) ، والقتر والقتر والقترة بمعنى واحد.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧)

(قِطَعاً) جمع قطعة. (مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) حال من الليل ويبعد أن يكون نعتا لقطع لأنه لم يقل : مظلمة ، وقرأ الكسائي (قِطَعاً) بإسكان الطاء فمظلما على هذا نعت ويجوز أن يكون حالا من الليل.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨)

قال الفراء (٤) وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم).

يقال : لا أزايل فلانا أي لا أفارقه ، فإن قلت : لا أزاوله فهو بمعنى آخر معناه لا أخاتله.

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (٢٩)

(شَهِيداً) نصب على التمييز. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون منصوبا على الحال.

__________________

(١) انظر المحتسب ١ / ٣١١ ، والبحر المحيط ٥ / ١٤٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٤٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ١٤٩.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٢.


(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠)

(هُنالِكَ) في موضع نصب على الظرف أي في ذلك الوقت (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ) واللام زائدة كسرت لالتقاء الساكنين والكاف للخطاب لا موضع لها وقال زهير : [الطويل]

١٩٨ ـ هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا

وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا (١)

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) في موضع خفض على النعت ، وكذا الحقّ ، ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات : يكون التقدير ردّوا حقّا ثم جيء بالألف واللام ، ويجوز أن يكون التقدير مولاهم حقّا لا ما يعبدون من دونه ، والوجه الثالث أن يكون مدحا أي أعني الحقّ. ويجوز أن ترفع الحقّ ويكون المعنى مولاهم الحقّ لا ما يشركون من دونه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) في موضع رفع وهي بمعنى المصدر أي افتراؤهم.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٣٢)

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) ويجوز نصب الحق على ما تقدّم.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ).

المعنى بأنّهم ولأنهم فإنّ في موضع نصب. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء (٢) : يجوز (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بكسر إنّ على الاستئناف.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥)

(أَمَّنْ) قال الأخفش : إن قال قائل : كيف دخلت أم على من؟ قيل : لأن أم والألف أصل الاستفهام ، ألا ترى أنّ أم تدل على هل. قال أبو جعفر : في (أَمَّنْ لا

__________________

(١) الشاهد لزهير في ديوانه ص ١١٢ ، ولسان العرب (خبل) ، و (خول) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٤٢٥ ، وجمهرة اللغة ٢٩٣ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٣٤ ، والمخصص ٧ / ١٥٩ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٣٧ ، وتاج العروس (خبل) وديوان الأدب ٢ / ٣٢٣ ، وهو في الديوان :

«هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

وإن يسألوا يعصوا وإن ييسروا يغلوا»

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٣.


يَهِدِّي) خمس قراءات (١) : قرأ أبو عمرو وابن كثير وعبد الله بن عامر أم من لا يهدّي بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، وكذا روى ورش عن نافع وحدّثني إبراهيم بن محمد بن عرفة (٢) قال : حدّثني إسماعيل بن إسحاق قال : حدّثني قالون عن نافع أنه قرأ أم من لا يهدّي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال. قال أبو عبيد : وقرأ عاصم (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، وقال الكسائي قرأ عاصم أم من لا يهدي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فهذه أربع قراءات ، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي أم من لا يهدي بفتح الياء وتسكين الهاء وتخفيف الدال. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بيّنة في العربية الأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء ، والقراءة الثالثة هي المعروفة عن عاصم والحسن وأبي رجاء أدغمت الياء في الدال وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين ، والقراءة الثانية التي رواها قالون عن نافع يحكي فيها الجمع بين ساكنين وهذا لا يجوز ولا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد : لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرّك حركة خفيفة إلى الكسر وسيبويه يسمّي هذا اختلاس الحركة ، وأما كسر الياء مع الهاء الذي رواه الكسائي عن عاصم فلا يجوز عند سيبويه (٣) ، وسيبويه يجيز تهدي ويهدي وأهدي ولا يجيز يهدي لأن الكسر في الياء ثقيل ، وأما القراءة الخامسة أم من لا يهدي فلها وجهان في العربيّة وإن كانت بعيدة فأحد الوجهين أن الكسائي والفراء (٤) قالا : يهدي بمعنى يهتدي. قال أبو العباس : لا يعرف هذا ولكن التقدير أم من لا يهدي غيره تمّ الكلام ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) استثناء ليس من الأول أي لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول : فلان لا يشبع غيره إلّا أن يشبع أي لكنه يحتاج أن يشبع. قال أبو إسحاق (فَما لَكُمْ) تمّ الكلام والمعنى أي شيء لكم في عبادة الأوثان. (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) قال : (كَيْفَ) في موضع نصب والمعنى على أي حال.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٧)

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ) قال الكسائي : المعنى وما كان هذا القرآن افتراء

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٥٧ ، وتيسير الداني ٩٩.

(٢) إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي أبو عبد الله من أحفاد المهلب بن أبي صفرة إمام في النحو ، وكان فقيها رأسا في مذهب داود ، مسندا في الحديث ثقة. وكان يؤيّد مذهب سيبويه في النحو فلقبوه (نفطويه) (ت ٣٢٣ ه‍) ترجمته في وفيات الأعيان ١ / ١١ ، ولسان الميزان ١ / ١٠٩ وتاريخ بغداد ٦ / ١٥٩.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٢٢٨.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٤.


كما تقول : فلان يحبّ أن يركب ويحبّ الركوب وقال غيره : التقدير لأن يفترى وقال الفراء : المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، وقال غيره : المعنى ما كان لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله لإعجازه لرصفه ومعانيه وتأليفه. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الكسائي والفراء(١) ومحمد بن سعدان : التقدير : ولكن كان تصديق الذي بين يديه ويجوز عندهم الرفع بمعنى ولكن هو تصديق ، وكذا (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) بمعنى بل ، وفيه معنى التقدير لإقامة الحجّة عليهم.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣٩)

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي كذّبوا به وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره وعليهم أن يعملوا ذلك بالسؤال (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ) أي كذّبوا به ولم يعرفوا تفسيره وقيل : ولم يأتهم ما يؤول إليه أمره : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذا كانت سبيلهم والكاف في موضع نصب. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) «كيف» في موضع نصب خبر كان.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي في المستقبل و «من» في موضع رفع بالابتداء وكذا (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) والمعنى ومنهم من يصرّ على كفره فأعلم الله جلّ وعزّ إنما أخّر عنهم العقوبة لأن منهم من سيؤمن (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يصرّ على الكفر.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١)

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي) رفع بالابتداء والمعنى لي جزاء عملي وكذا (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) مثله.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) (٤٢)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) على المعنى.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) (٤٣)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) على اللفظ.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٥.


(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

(وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت : ولكنّ بالواو آثروا التشديد وإذا حذفوا الواو آثروا التخفيف واعتلّ في ذلك الفراء (١) فقال : لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخفّفوها ليكون ما بعدها كما بعد بل وإذا جاءوا بالواو خالفت «بل» فشدّدوها ونصبوا بها لأنها إن زيدت عليها لام وكاف وصيّرت حرفا واحدا وأنشد : [الطويل]

١٩٩ ـ ولكنّني من حبّها لكميد (٢)

فجاء باللام لأنها إنّ.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥)

(كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) بمعنى كأنّهم لم يلبثوا. (يَتَعارَفُونَ) في موضع نصب على الحال. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله جلّ وعزّ بعد أن دلّ على البعث والنشور ، ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم يقولون هذا.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦)

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) شرط. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) عطف عليه. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جواب. (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) عطف جملة على جملة. قال الفراء (٣) : ولو قيل : «ثمّ الله شهيد» بمعنى هناك جاز.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ) يكون المعنى ولكلّ أمة رسول شاهد عليهم فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم مثل (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٥.

(٢) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٣٨ ، والإنصاف ١ / ٢٠٩ ، وتخليص الشواهد ٣٥٧ ، والجنى الداني ١٣٢ ، ورصف المباني ٢٣٥ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٣٨٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٠٥ ، وشرح ابن عقيل ١٨٤ ، وشرح المفصّل ٨ / ٦٢ ، وكتاب اللامات ١٥٨ ، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب ١ / ٢٣٣ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢٤٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٠ ، وهو بتمامه :

«يلومونني في حبّ ليلى عواذلي

ولكنني من حبّها لعميد»

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٦.


بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذّبون حتّى نرسل إليهم مثل (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (٥٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) ظرفان. (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) إن جعلت الهاء في منه تعود على العذاب ففيه تقديران يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي وهو خبر «ما» ، والتقدير الآخر أن يكون «ماذا» شيئا واحدا في موضع رفع بالابتداء والخبر في الجملة وإن جعلت الهاء في منه تعود على اسم الله جلّ وعزّ وجعلت «ماذا» شيئا واحدا كانت «ما» في موضع نصب بيستعجل. والمعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله جلّ وعزّ.

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١)

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) في الكلام حذف والتقدير : أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال بكم إذا حلّ بكم الآن آمنتم به. وفي فتح الآن ثلاثة أقوال : منها قولان للفراء (١) أحدهما أن يكون أصلها «أو ان» حذفت الهمزة منها وقلبت الواو ألفا ثم جيء بالألف واللام فبنيت معها وبقيت على نصبها ، والقول الثاني أن يكون أصلها من (آن) أي حان ثم دخلتها الألف واللام وبقيت على فتحها مثل قيل وقال ، وزعم أبو إسحاق أنّ هذا لو كان كذا ما جاز أن يكون بالألف واللام كما يقال : نهى عن القيل والقال ، والقول الثالث مذهب الخليل وسيبويه أن سبيل الألف واللام أن يدخلا لمعهود (والآن) ليس بمعهود وإنّما معناه نحن في هذا الوقت نفعل كذا فلما تضمّنت معنى هذا وجب أن لا يعرب ففتحت لالتقاء الساكنين.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣)

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) أي عن كون العذاب (أَحَقٌ) ابتداء (هُوَ) فاعل سد مسد الخبر. هذا قول سيبويه ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «حقّ» خبره. (قُلْ إِي وَرَبِّي) قسم ، وجوابه (إِنَّهُ لَحَقٌ).

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٥)

(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي له ملك السموات والأرض فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعد.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٦٨.


(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦)

(هُوَ يُحْيِ) ولا يجوز الإدغام عند سيبويه لئلا يجتمع ساكنان.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨)

(فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) إشارة إلى الفضل والرحمة ، والعرب تأتي بذلك للواحد والاثنين والجميع ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا (١) وهي قراءة يزيد ابن القعقاع. قال هارون في حرف أبيّ فافرحوا (٢) قال أبو جعفر : سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أنّ مع النهي حرفا إلّا أنّهم يحذفون من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته وربّما جاءوا به على الأصل منه فبذلك فلتفرحوا.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩)

(ما) في موضع نصب برأيتم ، وقال أبو إسحاق : هي في موضع نصب بأنزل.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١)

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) قال الفراء : الهاء في «منه» تعود على الشأن وهذا كلام يحتاج إلى شرح. يكون المعنى وما تتلو من الشأن أي من أجل الشأن أي يحدث شأن فيتلى من أجله القرآن ليعلم كيف حكمه ، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. (يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا) عطف على مثقال وإن شئت على ذرة ، والرفع عطف على الموضع لأن «من» زائدة للتوكيد ، ويجوز الرفع على الابتداء وخبره (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) زعم قوم من النحويين أنّ الّذي في «سبأ» (٣) لا يجوز فيه إلّا الرفع لأنه ليس معه من ذلك غلط وسنذكره في موضعه إن شاء الله.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) اسم إنّ (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في موضع الخبر أي من تولاه الله جلّ وعز وتولّى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن ومثله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣].

__________________

(١) وهذه قراءة أبيّ وابن عامر والحسن أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ١٧٠ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٦٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٧٠.

(٣) سبأ : الآية ٣.


(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣)

(الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب على البدل من اسم «إنّ» وإن شئت على أعني والرفع على إضمار مبتدأ وعلى البدل من الموضع وعلى الابتداء ، وخبره (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وفيه قول رابع قال الكسائي : يكون النعت تابعا للمضمر في الفعل. قال الفراء (١) : هذا خطأ لأن المضمر لا ينعت بالمظهر. قال أبو جعفر : أما قوله المضمر لا ينعت بالمظهر فصواب ولكن يجوز أن يكون الكسائي أراد أن هذا الذي يكون نعتا تابعا للمضمر كما يقول البصريون بدل لأن الكوفيين لا يأتون بهذه اللفظة أعني البدل. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا معنى (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وقد قيل في الحياة الدنيا عند الموت وفي الآخرة إذا خرجوا من قبورهم ، وقبل : هو قوله جلّ وعزّ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ٢١] الآية ويدلّ على هذا (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ).

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٥)

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) تمّ الكلام ثم قال (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) نصب على الحال.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

قال الكسائي : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي ذلك متاع أو هو متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق : ويجوز النصب في غير القرآن. (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بكفرهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) حذفت الواو لأنه أمر. (إِذْ) في موضع نصب (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) بقطع ألف الوصل ونصب الشركاء هذه قراءة أكثر الأئمة. وقرأ عاصم الجحدريّ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) من جمع يجمع (وَشُرَكاءَكُمْ) نصب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب فأجمعوا أمركم وشركاؤكم (٢) بقطع الألف ورفع الشركاء. القراءة الأولى من أجمع على الشيء يجمع إذا عزم عليه وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أقوال : قال الفراء (٣) أجمع الشيء أي عدّه ، وقال الكسائي

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٧١.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٥ / ١٧٧.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٧٣.


والفراء : هو بمعنى وادعوا شركاءكم فهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل ، وقال محمد بن يزيد : هو معطوف على المعنى كما قال : [مجزوء الكامل]

٢٠٠ ـ يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

والرمح لا يتقلّد إلّا أنه محمول كالسيف ، وقال أبو إسحاق : المعنى مع شركائكم كما يقال : التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية على العطف على أمركم وإن شئت بمعنى مع. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع وحسن العطف على المضمر المرفوع لأن الكلام قد طال ، وهذه القراءة تبعد لأن لو كان مرفوعا لوجب أن يكتب بالواو وأيضا فإنّ شركاءكم الأصنام والأصنام لا تصنع شيئا. (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) اسم يكون وخبرها. (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) ألف وصل من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي : هو مثل (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إيّاه وروي عن ابن عباس : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) قال : امضوا إليّ ولا تؤخّرون. قال أبو جعفر : هذا قول صحيح في اللغة ومنه: قضى الميّت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه وهذا من دلائل النبوّات ، وزعم الفراء ثمّ أفضوا (٢) بقطع الألف والفاء «توجّهوا إليّ حتى تصلوا» ومنه : أفضت الخلافة إلى فلان.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٧٢)

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي فإن تولّيتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤)

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ). قيل : التقدير بما كذّب به قوم نوح من قبل ، ومن حسن ما قيل في هذا أنّه لقوم بأعيانهم مثل (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة :٦].

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧)

قال الأخفش (أَسِحْرٌ هذا) حكاية لقولهم لأنهم قالوا : أسحر هذا فقيل لهم : أتقولون للحقّ لمّا جاءكم : أسحر هذا.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٢٢).

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٧٩ ، وهي قراءة السريّ بن ينعم بالفاء وقطع الألف ، ومعاني الفراء ١ / ٤٧٤.


(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨)

وروي عن الحسن (ويكون لكما الكبرياء) بالياء لأنه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه : حضر القاضي اليوم امرأتان.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٨٠)

(أَنْتُمْ) رفع بالابتداء ، وخبره (مُلْقُونَ) والجملة في الصلة والعائد على الذي محذوف أي ملقوه.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١)

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) فيه خمس قراءات وأكثر القراء على هذه القراءة. (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ابتداء وخبر ، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو بن العلاء (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء والخبر «جئتم به». والتقدير : أيّ شيء جئتم به ـ على التوبيخ والتقصير لما جاءوا به. (السِّحْرُ) على إضمار مبتدأ والتقدير هو السحر. قال هارون القارئ ، وفي قراءة عبد الله ما جئتم به سحر (١) فهذا أيضا على الابتداء والخبر ودخول الألف واللام في هذا أكثر من كلام العرب لأنهم قالوا لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا سحر فقال لهم : بل ما جئتم به السحر وهكذا يقال في أول الكتب والرسائل : سلام على من اتّبع الهدى وفي آخرها : والسلام. ولو قال لك قائل : وجدت درهما ثم سألته لكان الاختيار أن تقول : فأين الدرهم؟ ولا تقول : أين درهم؟ فيتوهّم أنك سألته عن غيره. قال هارون : وفي حرف أبيّ ما آتيتم به سحر (٢) وهذا كالذي قبله ، وأجاز الفراء : «ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله» بنصب السحر ويجعل «ما» للشرط و «جئتم» في موضع جزم بما والفاء محذوفة والتقدير فإنّ الله سيبطله كما قال : [البسيط]

٢٠١ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّر بالشرّ عند الله مثلان (٣)

والسحر عنده منصوب بجئتم ولم يشرحه شرحا يبيّن به حقيقة النصب. قال أبو جعفر : يكون السحر منصوبا على المصدر أي ما جئتم به سحرا ثم جاء بالألف واللام إلّا أنّ حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر بل

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٨١ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٧٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٨١.

(٣) مرّ الشاهد رقم ٣٤.


ربّما دفع ذلك بعضهم أن يجوز النيّة. وسمعت علي بن سليمان يقول : حدّثني محمد بن يزيد قال : حدثني المازني قال : سمعت الأصمعي يقول : غيّر النحويون هذا البيت وإنما الرواية :

من يفعل الخير فالرحمن يشكره

وسمعت علي بن سليمان يقول : حذف الفاء في المجازاة جائز قال : الدليل على ذلك القراءة وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم [الشورى : ١](وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ٢] قراءتان مشهورتان معروفتان.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢)

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يبيّن الحق بكلامه وحججه وبراهينه.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣)

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) رفع بفعلها ولا يجوز نصبها على الاستثناء لأن الكلام قبلها لم يتمّ (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) ولم يقل : وملائه ففي هذا ستة أجوبة : منها أنّ فرعون لمّا كان جبارا خبّر عنه بفعل الجميع ومنها أنّ فرعون لمّا ذكر علم أنّ معه غيره فعاد الضمير عليه وعليهم وهذا أحد جوابي الفراء (١) ومنها أن تكون الجماعة سمّيت بفرعون مثل ثمود ، وجواب الفراء الآخر أن يكون التقدير على خوف من آل فرعون مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). وهذا الجواب على مذهب الخليل وسيبويه خطأ ، لا يجوز عندهما : قامت هند وأنت تريد غلامها. والجواب الخامس مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذريّة أي وملأ الذريّة. والجواب السادس كأنّه أبينها يكون الضمير يعود على قومه (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) في موضع خفض على بدل الاشتمال ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف ولم ينصرف فرعون لأنه اسم عجميّ وهو معرفة. (لَعالٍ) في موضع رفع على خبر «إنّ» وقد ذكرنا نظيره.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥)

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي سلّمنا أمورنا إليه ورضينا بقضائه وقدره وانتهينا إلى أمره.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٧٦.


الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨)

(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) مفعولان وكذا (آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) لام كي وأصحّ ما قيل فيها وهو مذهب الخليل وسيبويه أنه لمّا آل أمرهم إلى هذا كان كأنّه لهذا وسمّي لام العاقبة أي لمّا كان عاقبة أمرهم قد آل إلى هذا كان بمنزلة ما كان الأول من أجله ، وقد زعم قوم أن المعنى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا لأن لا يضلّوا عن سبيلك وحذف «لا» كما قال (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦]. والمعنى أن لا تضلّوا. قال أبو جعفر : ظاهر هذا الجواب حسن إلّا أنّ العرب لا تحذف «لا» مع «أن» فموّه صاحب هذا الجواب بقوله عزوجل أن تضلّوا. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) وهذا أيضا من المشكل يقال : كيف دعا عليهم وحكم الرسل صلى الله عليهم وسلم استدعاء إيمان قومهم؟ فالجواب أنّ معنى اطمس على أموالهم عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. قال أبو إسحاق : معنى تطميس الشيء إذهابه عن صورته. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) قيل معناه غمّهم عقوبة لهم ، وقيل معناه صبّرهم على ما لحقهم لا يخرجوا إلى موضع خصب لأن معنى شددت الشيء وربطته في اللغة ضيّقته ، (فَلا يُؤْمِنُوا) ليس بدعاء على قول محمد بن يزيد قال : هو معطوف على قوله ليضلّوا ، وقال الكسائي وأبو عبيدة هو دعاء فهو في موضع جزم عندهما ، وأجاز الأخفش والفراء أن يكون جوابا وأنشد الفراء : [الرجز]

٢٠٢ ـ يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (١)

فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩)

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : الدليل على أن الدعاء لهما جميعا قول موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّنا ولم يقل ربّ. (فَاسْتَقِيما) قال الفراء : أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة قال : ويقال كان

__________________

(١) الرجز لأبي النجم في الكتاب ٣ / ٣٤ ، والدر ٣ / ٥٢ ، والردّ على النحاة ١٢٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٩ ، ولسان العرب (نفخ) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ١٨٢ ، ورصف المباني ٣٨١ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٧٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٠٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٠ ، وشرح قطر الندى ٧١ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٦ ، واللمع في العربية ٢١٠ ، والمقتضب ٢ / ١٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٢.


بينهما أربعون سنة. قال أبو جعفر : وقد قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والضحّاك كانت بينهما أربعون سنة (وَلا تَتَّبِعانِ) في موضع جزم على النهي والنون للتوكيد وحرّكت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠)

(قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) في موضع نصب والمعنى «بأنه» ، ومن قرأ «إنّه» بالكسر فالتقدير عنده قال صرت مؤمنا ثم استأنف «إنه» ، وزعم أبو حاتم أنّ القول محذوف (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ابتداء وخبر ، وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل في فيه الطين ، وتأويل هذا ـ والله أعلم ـ أنه عقوبة لعدوّ الله.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢)

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) قال عبد الله بن شداد والضحاك فأخرج لهم ، قالا : لتكون لمن خلفك آية ليعلموا أنه ليس إلاها كما قال الأخفش سعيد : (نُنَجِّيكَ) من النّجاء والإنجاء وقال بعضهم : نرفعك على نجوة من الأرض ، قال (بِبَدَنِكَ) أي لا روح فيك ، قال : وليس قول من قال «ببدنك» بدرعك بشيء.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤)

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) في موضع جزم بالشرط ، والجواب (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وقد ذكرنا معناه.

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧)

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فأنّث كلّا على المعنى لأن المعنى ولو جاءتهم الآيات.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨)

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) قال الأخفش والكسائي : أي فهلّا. قال الفراء (١) : وفي حرف أبيّ (فهلا) لأن معناه أنهم لم يؤمنوا وقال غيره : المعنى فلم تكن قرية آمنت بمن

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٨٩.


حقّت عليهم كلمات ربّك أي أهل قرية (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) نصبت لأنه استثناء ليس من الأول أي لكن قوم يونس. هذا قول الكسائي والأخفش والفراء وأنشد سيبويه (١) : [الكامل]

٢٠٣ ـ من كان أسرع في تفرّق فالج

فلبونه جربت معا وأغدّت (٢)

إلّا كناشرة الّذي ضيّعتم

كالغصن في غلوائه المتنبّت (٣)

ويجوز إلّا قوم يونس بالرفع وأنشد سيبويه : [الرجز]

٢٠٤ ـ وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس (٤)

ورفعه عند سيبويه من جهتين : إحداهما أن يكون الأول توكيدا ، والجهة الأخرى أن يجعل اليعافير والعيس أنيسها. ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قاله أبو إسحاق قال : يكون المعنى غير قوم يونس فلمّا جاء بإلّا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيركما قال : [الوافر]

٢٠٥ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٥)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) توكيد لمن (جَمِيعاً) عند سيبويه نصب على الحال.

__________________

(١) البيتان لعنز بن دجاجة في الكتاب ٢ / ٢٦٨ ، ولعنز أو لمعاوية بن كاسر المازني في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٧٢ ، ولشهاب المازني في الأزهيّة ص ١٧٦ ، ولكابية بن حرقوص بن مازن في خزانة الأدب ٦ / ٣٦٢ ، وبلا نسبة في رصف المباني ٢٠٣ ، وسرّ صناعة الإعراب ٣٠٢ ، وشرح اختيارات المفضل ٥٣٧ ، ولسان العرب (نبت) ، والمقتضب ٤ / ٤١٦ ، والثاني بلا نسبة في الحيوان ٦ / ٥٠٠.

(٢) في الكتاب (أشرك) بدل أسرع.

وفالج : هو فالج بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ، أساء إليه بعض بني مازن فدعا الشاعر عليهم مستثنيا منهم رجلا يدعى (ناشرة) لأنه لم يرض عن إساءة بني مازن لفالج. واللبون : ذوات اللبن.

وأغدّت : صارت فيها الغدة وهي كالذبحة تعتري البعير.

(٣) الغلواء : النماء والارتفاع. والمتنبّت : المنمّى والمغذّى.

(٤) مرّ الشاهد رقم ١١٠.

(٥) الشاهد لعمرو بن معديكرب في ديوانه ١٧٨ ، والكتاب ٢ / ٣٥٠ ، ولسان العرب (ألا) ، والممتع في التصريف ١ / ٥١ ، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة ص ٩٠ ، وحماسة البحتري ١٥١ ، والحماسة البصرية ٢ / ٤١٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٦ ، والمؤتلف والمختلف ٨٥ ، ولعمرو أو الحضرمي في خزانة الأدب ٣ / ١٤٢١ ، والدرر ٣ / ١٧٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢١٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ١٨٠ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٨٨ ، والجنى الداني ٥١٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢١ ، ورصف المباني ٩٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٣٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٩ ، ومغني اللبيب ١ / ٧٢ ، والمقتضب ٤ / ٤٠٩.


(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي العذاب (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعقلون أمر الله جلّ وعزّ وهم الكفار.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١)

(وَما تُغْنِي) في موضع رفع حذفت الضمة من الياء لثقلها وحذفت الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وكذا (نُنَجِّيكَ) في موضع رفع «وما» في موضع نصب بيعني وهو اسم تام.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤)

(فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مرفوع بالمضارعة ، وكذا (أَعْبُدُ اللهَ).

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ابتداء وخبر لأنه جلّ وعزّ لا يحكم إلّا بالحقّ ، وروي عن طلحة والأعمش وعاصم (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] بكسر النون وكذا «يوسف» بكسر السين. قال أبو حاتم : يجب إذا كسروا أن يهمزوا لأنهم يتوهّمونه من آنس يؤنس وآسف يؤسف. قال : وقال أبو زيد : بعض العرب يقول يونس ويوسف.


(١١)

شرح إعراب سورة هود عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١)

قال أبو جعفر : يقال : هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة لأنك لو سمّيت امرأة بزيد لم تصرف هذا قول الخليل وسيبويه (١) ، وعيسى يقول : هذه هود فاعلم بالتنوين على أنه اسم للسورة وكذلك لو سمّى امرأة بزيد لأنه لمّا سكن وسطه خفّ فصرف فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع فقلت : هذه هود فاعلم تريد هذه سورة هود. قال سيبويه : والدليل على هذا أنك تقول : هذه الرحمن فلو لا أنك تريد سورة الرحمن ما قلت هذه. (كِتابٌ) بمعنى هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في موضع رفع نعت لكتاب وأحسن ما قيل في معنى «أحكمت» جعلت محكمة كلّها لا خلل فيها ولا باطل وفي (ثُمَّ فُصِّلَتْ) آياته جعلت متفرّقة ليتدبّر (مِنْ لَدُنْ) في موضع خفض إلّا أنها مبنيّة على السكون لأنها غير متمكّنة وما بعدها مخفوض بالإضافة ، وحكى سيبويه (٢) : لدن غدوة يا هذا لمّا كان يقال : لد ، كما أنشد سيبويه : [الرجز]

٢٠٦ ـ من لد شول فإلى إتلائها (٣)

صارت النون مثلها في عشرين فنصبت ما بعدها (حَكِيمٍ) أي في أفعاله (خَبِيرٍ) أي بمصالح خلقه.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (٢)

(أَلَّا) قال الكسائي والفراء (٤) : أي بأن لا وقال أبو إسحاق المعنى لئلا (تَعْبُدُوا) نصب بأن.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣)

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٢٦٥.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٩٢.

(٣) مرّ الشاهد رقم ٧٢ «من لد شولا».

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣.


(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) عطف (ثُمَّ تُوبُوا) عطف أيضا (يُمَتِّعْكُمْ) جواب الأمر أي يمتعكم بالمنافع (مَتاعاً) اسم للمصدر (حَسَناً) من نعته. (وَيُؤْتِ) عطف على يمتّعكم (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) مفعولان.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥)

وروى ابن جريج عن محمد بن عبّاد قال : سمعت ابن عباس يقول : (ألا إنهم تثنوني صدورهم ليستخفوا منه) (١) قال : كانوا لا يجامعون النساء ولا يأتون الغائط وهم يغضون إلى السماء فنزلت هذه الآية ، وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليسارّه وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفى على الله جلّ وعزّ ، وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس إلا إنهم تثنون صدورهم (٢) ومعنى تثنون والقراءتين الأخريين مقارب لأنها تثنوني حتى يثنوها ، وحذف الياء لا يجوز إلا في ضرورة الشعر كما قال : [المتقارب]

٢٠٧ ـ فهل يمنعني ارتيادي البلاد

من حذر الموت أن يأتين (٣)

أو في صلة نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤](يَسْتَغْشُونَ) في موضع خفض بالإضافة.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

(وَما مِنْ دَابَّةٍ) في موضع رفع والمعنى وما دابة (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) رفع بالابتداء وعند الكوفيين بالصفة.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) كسرت إن لأنها بعد القول مبتدأة وحكى سيبويه الفتح (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بفتح اللام التي قبل النون لأنه فعل متقدّم لا ضمير فيه ، وبعده (لَيَقُولَنَ) لأن فيه ضميرا.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، ومختصر ابن خالويه ٥٩.

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٩٥ ، والدرر ٥ / ١٥١ ، والكتاب ٣ / ٥٧٤ ، وشرح المفصل ٩ / ٤٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٢٤ ، والمحتسب ١ / ٣٤٩ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ٢ / ٧٨.


(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) (٩)

(لَيَؤُسٌ) من يئس ييأس وحكى سيبويه (١) : يئس ييئس على فعل يفعل ، ونظيره حسب يحسب ونعم ينعم وبئس يبئس ، وبعضهم يقول : يئس ييأس لا يعرف في كلام العرب إلّا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت على فعل يفعل في واحد منها اختلاف ، فهو يائس ويؤوس على التكثير وكذا فاخر وفخور.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (١٠)

قال يعقوب القارئ : وقرأ بعض أهل المدينة إنه لفرح فخور (٢).

قال أبو جعفر : هكذا كما تقول : فطن وحذر وندس ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة.

(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١)

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) في موضع نصب. قال الأخفش : هو استثناء ليس من الأول وقال الفراء(٣) : هو استثناء من الأول. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي الإنسان قال : لأن الإنسان بمعنى الناس.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٢)

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) معطوف على تارك ، وصدرك مرفوع به. (أَنْ يَقُولُوا) في موضع نصب أي كراهة أن يقولوا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣)

(قُلْ فَأْتُوا) وبعده.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ١٦٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٠٧ ، ومختصر ابن خالويه ٥٩.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٤.


(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ولم يقل : لك فهو على تحويل المخاطبة أو على أن تكون المخاطبة له كالمخاطبة للمؤمنين وعلى أن يخاطب مخاطبة الجميع.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥)

(مَنْ كانَ) في موضع جزم بالشرط ، وجوابه (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) فالأول من اللفظ ماض والثاني مستقبل كما قال زهير : [الطويل]

٢٠٨ ـ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه (١)

قال مجاهد : نوف إليه حسناته في الدنيا ، وقال ميمون بن مهران : ليس أحد يعمل حسنة إلا وفّي ثوابها فإن كان مسلما وفي في الدنيا والآخرة وإن كان كافرا وفّي في الدنيا ، وقيل : المعنى : من كان يريد بغزوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة وفيها ولم ينقص منها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦)

(وَباطِلٌ) ابتداء (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) خبره ، وقال أبو حاتم : وحذف الهاء. قال أبو جعفر: وهذه لا يحتاج إلى حذف لأنه بمعنى المصدر أي وباطل عمله وفي حرف أبيّ وعبد الله وباطلا ما كانوا يعملون (٢) خبره تكون ما زائدة أي كانوا يعملون باطلا.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧)

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ابتداء والخبر محذوف أي : أفمن كان على بيّنة من ربّه ومعه من الفضل ما يبين به ذلك لغيّه فهذا على قول علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن قالا : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) لسانه ، وقال عكرمة عن ابن عباس : ويتلوه شاهد منه «جبرائيل» عليه‌السلام فيكون على هذا «ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عزّ

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٠ ، والخصائص ٣ / ٣٢٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٨٦ ، ولسان العرب (سبب). وعجزه :

«ولو نال أسباب الماء بسلّم»

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢١١ ، ومختصر ابن خالويه ٥٩.


وجلّ» ، وقال الفراء : قال بعضهم «ويتلوه شاهد منه» الإنجيل وإن كان قبله أي يتلوه في التصديق. (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) رفع بالابتداء. قال أبو إسحاق : المعنى : ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موصوف في كتاب موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] ، وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) (١) بالنصب. قال أبو جعفر : النصب جائز يكون معطوفا على الهاء أي ويتلو كتاب موسى (إِماماً وَرَحْمَةً) على الحال.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠)

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي على قدر كفرهم ومعاصيهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (ما) في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا كما تقول : جزيته ما فعل وبما فعل وأنشد سيبويه : [البسيط]

٢٠٩ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به (٢)

ويجوز أن يكون المعنى : يضاعف لهم العذاب أبدا ، والتقدير في العربية وقت ذلك ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها. قال الفراء : ما كانوا يستطيعون السمع لأنّ الله جلّ وعزّ أضلّهم في اللّوح المحفوظ ، والجواب الرابع عن أبي إسحاق قال : لبغضهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يستمعوا منه ولا يتفهموا الحجج. قال أبو جعفر : وهذا معروف في كلام العرب أن يقال : فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه. (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) عطف.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢١)

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ابتداء وخبر : ويقال : اللذون ولا يجوز أن يبنى كما يبنى الواحد وفي بنائه أربعة أقوال : قال الأخفش : ضمّت الّذي إلى النون فصار كخمسة عشر ، وقيل : لأنه لا يتم إلّا بصلة ، ولا يعرب الاسم من وسطه ، وقال علي بن سليمان : لأنه يقع لكل غائب ، وقال محمد بن يزيد : لأنه يحتاج إلى ما بعده كالحروف إلّا أنه أنّث وثنّي وجمع لأنه نعت ولم تحرّك ياؤه في موضع النصب لأنه ليس بمعرف ولهذا حذفت في التثنية.

__________________

(١) وهذه قراءة محمد بن السائب الكلبي وغيره ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢١١ ، ومختصر ابن خالويه ٥٩.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥١).


(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢)

(لا جَرَمَ) قد تكلّم العلماء فيه ، فقال الخليل وسيبويه (١) : جرم بمعنى حقّ ، «فإنّ» عندهما في موضع رفع وهذا قول الفراء (٢) ومحمد بن يزيد وزعم الخليل أن «لا» هاهنا جيء بها ليعلم أنّ المخاطب لم يبتدئ كلامه وإنّما خاطب من خاطبه والكلام يجاء به ليدلّ على المعاني. وقال أبو إسحاق : «لا» هاهنا نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم كان المعنى لا ينفعهم ذلك (جَرَمَ أَنَّهُمْ) أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران فإنّ عنده في موضع نصب ، وقال الكسائي : في الإعراب لا صدّ ولا منع عن أنهم ، وحكى الكسائي فيها أربع لغات «لا جرم» ، «ولا عن ذا جرم» و «لا انّ ذا جرم» قال : وناس من فزارة يقولون : لا جر أنهم بغير ميم ، وحكى الفراء (٣) فيه لغتين أخريين قال : بنو عامر يقولون : لا ذا جرم ، قال : وناس من العرب يقولون : لا جرم بضم الجيم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣)

(إِنَّ الَّذِينَ) اسم إنّ (آمَنُوا) صلة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) عطف على الصلة قال مجاهد «أخبتوا» اطمأنوا وقال الفراء : أخبتوا إلى ربهم ولربهم واحد وقد يكون المعنى وجّهوا أخباتهم إلى ربهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبر «إنّ».

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤)

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) ابتداء ، والخبر (كَالْأَعْمى) وما بعده. قال الأخفش : أي كمثل الأعمى قال أبو جعفر : التقدير : مثل فريق الكافر كالأعمى والأصمّ ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير ولهذا (هَلْ يَسْتَوِيانِ) ولا يقع هاهنا من حروف العطف إلّا الواو لأنها للاجتماع ، وحكى سيبويه : مررت بأخيك وصديقك.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي) أي فقال إنّي وأني أي بأنّي.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (٢٧)

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) قال إسحاق : «الملأ» الرؤساء أي هم مليئون بما

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ١٥٩.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٨.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٨.


يقولون : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) نصب على الحال ومثلنا مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدّر فيه التنوين كما قال : [الكامل]

٢١٠ ـ يا ربّ مثلك في النّساء غريرة (١)

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وهم الفقراء والذين لا حسب لهم والخسيسو الصناعات ، وفي الحديث أنّهم كانوا حاكة وحجّامين ، وكان هذا جهلا منهم لأنهم عابوا نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا عيب فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم إنّما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات وليس عليهم تغيير الصور والهيئات وهم يرسلون إلى النّاس جميعا فإذا أسلم منهم الذين لم يلحقهم من ذلك نقصان لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم (بادِيَ الرَّأْيِ) بدأ يبدو إذا ظهر كما قال : [الكامل]

٢١١ ـ فاليوم حين بدون للنّظّار (٢)

ويجوز أن يكون «بادي الرأي» من بدأ وخفّفت الهمزة ، وحقّق أبو عمرو الهمزة فقرأ (بادِيَ الرَّأْيِ) (٣). قال أبو إسحاق : نصبه بمعنى في بادئ الرأي. قال أبو جعفر : لم يشرح النحويون نصبه فيما علمت بأكثر من هذا فيجوز أن يكون «في» حذفت كما قال جلّ وعزّ (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ويجوز أن يكون المعنى اتباعا ظاهرا.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢٨)

وحكى الكسائي والفراء (٤) (أَنُلْزِمُكُمُوها) بإسكان الميم الأولى تخفيفا وقد أجاز سيبويه مثل هذا وأنشد : [السريع]

٢١٢ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٥)

__________________

(١) الشاهد لأبي محجن الثقفي في الكتاب ١ / ٤٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤٠ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٢٦ ، وهو ليس في ديوانه ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٣٧ ، ورصف المباني ١٩٠ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٧ ، والمقتضب ٤ / ٢٨٩ ، وعجزه :

«بيضاء قد متّعتها بطلاق»

(٢) الشاهد من قصيدة للربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير العبسي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي ٢ / ٩٩٦ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ١٠١٩ ، وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ١١١ ، والخصائص ٣ / ٣٠٠ ، وصدره :

«قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا»

(٣) انظر تيسير الداني ١٠١.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢.

(٥) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٢٢ ، والكتاب ٤ / ٣١٩ ، وإصلاح المنطق ٢٤٥ ، والأصمعيات ـ


ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر كما تقول : أنلزمكم تلك.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣٠)

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أدغمت التاء في الذال ، ويجوز حذفها فتقول : تذكّرون.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١)

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أخبر بتواضعه وتذلّله لله جلّ وعزّ وأنه لا يدّعي ما ليس له من خزائن الله جلّ وعزّ وهي أنعامه على من يشاء من عباده ، وأنه لا يعلم الغيب لأن الغيب لا يعلمه إلا الله جلّ وعزّ (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي ولا أقول إنّ منزلتي عند الله جلّ وعزّ منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء : الفائدة في هذا الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلّم لدوامهم على الطاعة واتصال عبادتهم إلى يوم القيامة. (وَلا أَقُولُ) لكم ولا (لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم والدال مبدلة من تاء لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن قلت هذا وإذن ملغاة لأنها متوسطة.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢)

وعن ابن عباس (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) (١) والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة والمناظرة مشتق من الجدل وهو شدّة الفتل. ويقال للصقر أجدل لشدّته في الطير.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤)

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) أي لأنكم لا تقبلون نصحا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥)

(إِجْرامِي) مصدر أجرم وأجرامي جمع جرم وقد أجرم وجرم.

__________________

ـ ١٣٠ ، وجمهرة اللغة ٩٦٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٦ ، والدرر ١ / ١٧٥ ، ورصف المباني ٣٢٧ ، وشرح التصريح ١ / ٨٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢٥٦ ، وشرح المفصل ١ / ٤٨ ، ولسان العرب (دلك) و (حقب) ، و (وغل) ، والمحتسب ١ / ١٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٦٦ ، والاشتقاق ٣٣٧ ، والخصائص ١ / ٧٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٤.

(١) انظر المحتسب ١ / ٣٢١ ، ومختصر ابن خالويه ٦٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٢١٩.


(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) في صرف نوح قولان : أحدهما أنّه أعجميّ ولكنه خفّ لأنه على ثلاثة أحرف ، والآخر أنّه عربيّ قال عكرمة : إنما سمّي نوحا لأنه كان يكثر النياحة على نفسه قال : وركب في السفينة لعشر خلون من رجب (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] لعشر خلون من المحرّم فذلك ستة أشهر وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعا. (أَنَّهُ) في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير بأنه ، (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) في موضع رفع بيؤمن (فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تغتمّ حتى تكون بائسا.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٣٧)

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) قيل : معناه بحفظنا ، وقيل : بعلمنا ، وقيل : لأن الملائكة صلوات الله عليهم كانت تريد ذلك ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تسألني فيهم فإني مغرقهم.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨)

(وَكُلَّما) ظرف (مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) قال الأخفش والكسائي يقال : سخرت به ومنه.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩)

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال الكسائي : وناس من أهل الحجاز يقولون : سو تعلمون. قال : ومن قال : ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا ، وحكى الكوفيون : سف تعلمون. ولا يعرف البصريون إلّا سوف يفعل وسيفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٤٠)

(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) في موضع نصب باحمل. (وَأَهْلَكَ) عطف عليه (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) «من» في موضع نصب بالاستثناء. (وَمَنْ آمَنَ) في موضع نصب عطف على اثنين وإن شئت على أهلك ، (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) رفع بآمن ، ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم إلّا أنّ الفائدة في دخول «إلّا» و «ما» أنك لو قلت : آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد آمن فإذا جئت بما وإلا أوجبت لما بعد إنّ ونفيت عن غيرهم.


(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤١)

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) بضم ميميهما (١) قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا من شذّ منهم ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) بفتح الميم (وَمُرْساها) بضم الميم ، وروي عن يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب باسم الله مجراها ومرساها (٢) بفتح الميم فيهما ، وقرأ مجاهد ومسلم بن جندب وعاصم الجحدري باسم الله مجريها ومرسيها (٣) فالقراءة الأولى بمعنى باسم الله إجراؤها وإرساؤها مرفوع بالابتداء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير باسم الله وقت إجرائها كما تقول : أنا أجيئك مقدم الحاجّ ، وقيل : التقدير باسم الله موضع إجرائها ثم حذف موضع وأقيم مجراها مقامه ، وقال الضحاك : كان إذا قال : باسم الله جرت ، وإذا قال : باسم الله رست وتكون الباء متعلّقة باركبوا و «مجراها» بفتح الميم من جرت مجرى و «مرساها» بفتح الميم من رست رسوّا ومرسى إذا ثبتت ، ومجريها نعت لله جلّ وعزّ في موضع جرّ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها ويجوز النصب على الحال بمعنى أعني.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢)

(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) ويجوز على قول سيبويه (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) مختلس (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) (٤) وأنشد سيبويه : [الوافر]

٢١٣ ـ له زجل كأنه صوت حاد (٥)

فأما (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ) (٦) فقراءة شاذّة وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد ابنها ثم يحذف الألف كما تقول : ابنه فتحذف الواو. قال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها والواو ثقيلة يجوز حذفها. (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) اسم المكان والمصدر معزل (يا بُنَيَّ ارْكَبْ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٠١.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤.

(٣) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط ٥ / ٢٢٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٤.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٦٠.

(٥) مرّ الشاهد رقم (١٧) وعجزه :

«إذا طلب الوسيقة أو زمير»

(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٦٠ ، وهذه قراءة هشام بن عروة.


مَعَنا) ، وقرأ عاصم (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) بفتح الياء. قال أبو إسحاق : ويجوز في العربية يا بنيّ اركب معنا كما تقول : يا غلامي أقبل وكذا (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] «يا بني اركب معنا» على أن تحذف الياء وتبقي الكسرة دالّة عليها كما تقول : يا غلام أقبل. فأما قراءة عاصم فمشكلة ، قال أبو حاتم : يريد يا بنيّاه ثم حذف. قال أبو جعفر ، ورأيت عليّ بن سليمان يذهب إلى أنّ هذا لا يجوز لأن الألف خفيفة فلا يحذف. قال أبو جعفر : وما علمت أحدا من النحويين جوّز الكلام في هذا إلّا أبا إسحاق فإنّه زعم أنّ الفتح من جهتين والكسر من جهتين فالفتح على أن يبدل من الياء ألفا كما قال جلّ وعزّ أحيانا (يا وَيْلَنا) [هود : ٧٢]. وكما قال : [الطويل]

٢١٤ ـ فيا عجبا من رحلها المتحمّل (١)

فيريد بابنيّا ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين كما تقول : جاءني عبد الله في التثنية ، والجهة الأخرى أن تحذف الألف لأنّ النداء موضع حذف ولكن على أن تحذف الياء ، والجهة الأخرى على أن يحذفها لالتقاء الساكنين. (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) يدلّ هذا ـ والله أعلم ـ على أنّ نوحاصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلم أنه كافر وأنه ظنّ أنا مؤمن.

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣)

(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) على التبرئة ويجوز «لا عاصم اليوم» تكون «لا» بمعنى ليس (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) في موضع نصب استثناء ليس من الأول ويجوز أن تكون في موضع رفع على أنّ عاصما بمعنى معصوم مثل (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] ومن أحسن ما قيل فيه أن يكون «من» في موضع رفع والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلّا الراحم أي إلّا الله جلّ وعزّ ويحسن هذا لأنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) قيل : هذا مجاز لأنها موات وقيل : جعل فيها ما تميّز به ، والذي قال إنّها مجاز ، قال : لو فتّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها وبلاغة وصفها واشتمال المعاني فيها ، وحكى الكسائي

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ١١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٨ ، ولسان العرب (عقر) ، وتهذيب اللغة ١ / ٢١٨ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٩٠ ، وتاج العروس (عقر) ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٤٩ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٠٩ ، وصدره :

«ويوم عقرت للعذارى مطيّتي»


والفراء (١) بلعت وبلعت ، (وَغِيضَ الْماءُ) يقال : غاض الماء وغضته ، ويجوز غيض الماء ، بضم الغين (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) فبيّن الإعراب فيه لأن الياء مشدّدة فقبلها ساكن ، وحكى الفراء : واستوت على الجودي ، بإسكان الياء لأن قبلها مكسورا وهي مخفّفة (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) والذي قال هذه فيما روي نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، أي أبعد الله الظالمين فبعدوا بعدا على المصدر.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) (٤٥)

(إِنَّ ابْنِي) اسم إنّ (مِنْ أَهْلِي) في موضع الخبر. (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) اسم «إن» وخبرها ، (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) ابتداء وخبره.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)

(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٢) قد ذكرناه. (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي بي من لم يعلم أنه مؤمن ، (إِنِّي أَعِظُكَ) أي أعظك بنهيي وزجري لئلّا تكون ، والبصريون يقدرون كراهة أن يكون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)

أي أسألك أن توفّقني وتلطف لي حتّى لا أسأل ذلك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) يدلّ على أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم يذنبون (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي رحمتك يوم القيامة.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨)

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أي من السفينة (بِسَلامٍ) أي بسلامة. (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) أي نعم ثابتة مشتقّ من بروك الجمل وهو ثباته وإقامته. (مِمَّنْ مَعَكَ) «من» للتبعيض وتكون لبيان الجنس. (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أي وتكون أمم. قال الأخفش سعيد : كما تقول : كلّمت زيدا وعمرو جالس ، وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما (٣) وتقديره وسنمتّع أمما.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٢٩.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ١٨.


(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي تلك الأنباء وفي موضع آخر ذلك أي ذلك النبأ (فَاصْبِرْ) أي فاصبر على أذى قومك كما صبر هؤلاء الرسل صلّى الله عليهم وسلّم.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (٥٠)

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) نصب بمعنى وأرسلنا. قال أبو إسحاق : قيل له أخوهم لأنه منهم أو لأنه من بني آدم عليه‌السلام كما أنهم من بني آدم (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) على اللفظ وغيره على الموضع وغيره على الاستثناء. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي ما أنتم في اتّخاذكم إلها غيره إلّا كاذبون عليه جلّ وعزّ.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٥١)

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) حذفت الياء لأن النداء موضع حذف لكثرته ، ويجوز إثباتها لأنها اسم.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢)

(يُرْسِلِ السَّماءَ) جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة (مِدْراراً) على الحال وفيه معنى التكثير ، والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب. (وَيَزِدْكُمْ) عطفا على يرسل.

(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٥٤)

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا) على تذكير بعض ويجوز التأنيث على المعنى.

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) أي رضيت بحكمه ووثقت بنصره. و (ما مِنْ دَابَّةٍ) في موضع رفع بالابتداء. (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي يصرّفها كيف يشاء ويمنعها مما شاء أي فلا يصلون إلى ضرري ، وكلّ ما فيه الروح يقال : له دابّ ودابّة والهاء للمبالغة (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قيل : معناه لا خلل في تدبيره ولا تفاوت في خلقه.


(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٥٧)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) في موضع جزم فلذلك حذفت منه النون ، والأصل تتولّوا فحذفت التاء لاجتماع تاءين وإنّ المعنى معروف (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) بمعنى قد بيّنت لكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) مستأنف ، ويجوز أن يكون عطفا على ما يجب فيما بعد الفاء ويجوز الجزم في غير القرآن مثل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) [الأنعام : ١١٠] وكذا (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً).

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٨)

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) لأنّ أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى وإن كانت له أعمال صالحة ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا ، وقيل : معنى (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) بأن بيّنا لهم الهدى الذي هو رحمة.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥٩)

(وَتِلْكَ عادٌ) ابتداء وخبر ، وحكى الكسائي والفراء (١) إنّ من العرب من لا يصرف عادا أي يجعله اسما للقبيلة.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠)

(أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) قال الفراء (٢) : أي كفروا نعمة ربّهم قال : ويقال : كفرته وكفرت به ، وشكرت له وشكرته.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (٦١)

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وإلى ثمود أخاهم صالحا وصرفا ثمودا في سائر القرآن ولم يصرف حمزة ثمود في شيء من القرآن ، وكذا روي عن الحسن واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع ، وزعم أبو عبيد أنه لو لا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال أبو جعفر : الذي قاله أبو عبيد رحمه‌الله من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود لأن ثمودا يقال له حيّ ويقال له قبيلة وليس الغالب عليه القبيلة بل الأمر

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٩.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٠.


على ضدّ ما قال عند سيبويه ، والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف نحو : قريش وثقيف وما أشبههما وكذا ثمود ، والعلة في ذلك أنه لمّا كان التذكير الأصل وكان يقع له مذكّر ومؤنّث كان الأصل والأخفّ أولى والتأنيث جيّد بالغ حسن ، وأنشد سيبويه في التأنيث : [الكامل]

٢١٥ ـ غلب المساميح الوليد سماحة

وكفى قريش المعضلات وسادها (١)

(غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ) ولا يجوز إدغام الهاء في الهاء إلّا على لغة من حذف الواو في الإدراج (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي قريب الإجابة.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) (٦٤)

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ) ابتداء وخبر ، وقيل : ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على ما طلبوا على أنهم يؤمنون. (لَكُمْ آيَةً) نصب على الحال. (فَذَرُوها) أمر فلذلك حذفت منه النون ، ولا يقال : وذر ولا واذر إلّا شاذا ، وللنحويين فيه قولان : قال سيبويه (٢) : استغنوا عنه بترك ، وقال غيره : لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه ، (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) جزم لأنه جواب الأمر. قال أبو إسحاق : ويجوز رفعه على الحال والاستئناف. (وَلا تَمَسُّوها) جزم بالنهي. قال الفراء. (بِسُوءٍ) أي بعقر (فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النهي (عَذابٌ قَرِيبٌ) من عقرها.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٦٥)

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا) أي بنعم الله جلّ وعزّ قبل العذاب. (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) ظرف زمان.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (٦٦)

قال أبو حاتم : حدّثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أدغم الياء في الياء وأضاف وكسر الميم من يومئذ. قال أبو جعفر : الذي يرويه النحويون مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا الإخفاء فأما الإدغام فلا يجوز لأنه يلتقي

__________________

(١) الشاهد لعديّ بن الرقاع في ديوانه ص ٤٠ ، وخزانة الأدب ٤٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٨٢ ، والطرائف الأدبية ٩٠ ، ولسان العرب (قرش) ولجرير في لسان العرب (سمح) ، وليس في ديوانه ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ص ٥٠٦ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ٥٩ ، والمقتضب ٣ / ٣٦٢ ، والكتاب ٣ / ٢٧٤.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٢٢٨.


ساكنان ولا يجوز كسر الزاي. قال أبو جعفر : ومن قرأ من خزي يومئذ حذف التنوين وأضاف ومن نوّن نصب يومئذ على أنه ظرف ومن حذف التنوين ونصب فقال ومن خزي يومئذ فله تقديران عند النحويين: فتقدير سيبويه أنه مبنيّ لأن ظرف الزمان ليس الإعراب فيه متمكنا فلما أضيف إلى غير معرب بني وأنشد : [الطويل]

٢١٦ ـ على حين ألهى الناس جلّ أمورهم (١)

وقال أبو حاتم : جعل «يوم» و «إذ» بمنزلة خمسة عشر.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (٦٧)

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صيح بهم فماتوا وذكّر لأن الصيحة والصياح واحد ، (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) قيل : ساقطين على وجوههم.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩)

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) قيل : بالولد ، وقيل : بشروه بأنهم رسل الله جلّ وعزّ وأنّه لا خوف عليه. (قالُوا سَلاماً) في نصبه وجهان : يكون مصدرا ، والوجه الآخر أن يكون منصوبا بقالوا كما يقال : قالوا خيرا والتفسير على هذا روى يحيى القطّان عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (قالُوا سَلاماً) أي سددا ، (قالَ سَلامٌ) (٢) في رفعه وجهان : أحدهما على إضمار مبتدأ أي هو سلام وأمري سلام ، والآخر بمعنى سلام عليكم. قال الفراء (٣) : ولو كانا جميعا منصوبين أو مرفوعين جاز ، غير أن الفراء اعتلّ لأن كان الأول منصوبا والثاني مرفوعا فقال : قالوا سلاما فقال إبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو سلام إن شاء الله. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) سيبويه يذهب إلى أنّ «أن» في موضع نصب ، قال : تقول : لا يلبث أن يأتيك أي عن إتيانك وأجاز الفراء : أن يكون موضعها بلبث أي فما أبطأ مجيئه.

__________________

(١) الشاهد لأعشى همدان في الحماسة البصرية ٢ / ٢٦٢ ، ولشاعر من همدان في شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٧١ ، ولأعشى همدان أو للأحوص أو لجرير في المقاصد النحوية ٣ / ٤٦ ، وهو مع آخر في ملحق ديوان الأحوص ص ٢١٥ ، وملحق ديوانه جرير ١٠٢١ ، وبلا نسبة في الكتاب ١ / ١٧١ ، والإنصاف ٢٩٣ ، وجمهرة اللغة ٦٨٢ ، والخصائص ١ / ١٢٠ ، وسرّ صناعة الإعراب ص ٥٠٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٠٤ ، وشرح التصريح ١ / ٣٣١ ، وشرح ابن عقيل ٢٨٩ ، ولسان العرب (ندل) و (خشف) وعجزه :

«فندلا زريق المال ندل الثعالب»

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٤١.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١.


(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (٧٠)

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) هذه لغة أهل الحجاز ، ولغة أسد وتميم «أنكرهم» وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٢١٧ ـ لقد أنكرتني بعلبك وأهلها (١)

ويروى للأعشى : [البسيط]

٢١٨ ـ وأنكرتني وما كان الّذي نكرت

من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (٢)

(وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) قال سيبويه : وناس من ربيعة يقولون : «منهم» أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكّن عندهم حاجزا حصينا. قال أبو جعفر : وقيل : إنما أوجس منهم خيفة لأنه كان يقيم معتزلا في ناحية فخاف أن يكونوا عزموا له على شرّ ، وكان الضّيفان إذا لم يأكلوا فإنما أرادوا شرّا.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٧١)

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) ابتداء وخبر ، (فَضَحِكَتْ) قد ذكرناه ، وقيل : إنما ضحكت لأنهم أحيوا العجل بإذن الله عزوجل فلما لحق بأمه ضحكت فلما ضحكت بشروها بإسحاق (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) رفعه من جهتين : إحداهما بالابتداء ويكون في موضع الحال أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب ، والوجه الآخر أن يكون التقدير ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب ، ولا يكون على هذا داخلا في البشارة ، وقرأ حمزة وعبد الله بن عامر (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) والكسائي والأخفش وأبو حاتم يقدّرون يعقوب في موضع خفض ، وعلى مذهب سيبويه والفراء (٣) ، يكون في موضع نصب. قال الفراء : ولا يجوز الخفض إلّا بإعادة الخافض. قال سيبويه ولو قلت : مررت بزيد أوّل من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا لأنك فرّقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو كما تفرّق بين الجارّ

__________________

(١) هذا الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٦٨ ، وعجزه :

«ولا ابن جريج في قربه حمص أنكرا»

(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٥١ ، ولسان العرب (نكر) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ١٩١ ، وديوان الأدب ٢ / ٢٣٥ ، وأساس البلاغة (نكر) ، وتاج العروس (نكر) و (صلع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٤٧٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٩٨ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٧١.

(٣) انظر الكتاب ١ / ١٤٧ ، ومعاني الفراء ٢ / ٢٢.


والمجرور. قال أبو جعفر : يكون التقدير : من وراء إسحاق وهبنا له يعقوب كما قال (١) : [البسيط]

٢١٩ ـ جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل أسرة منظور بن سيّار

أو عامر بن طفيل في مركّبه

أو حادثا يوم نادى القوم يا حار

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (٧٢)

(قالَتْ يا وَيْلَتى) بإمالة الألف وتفخيمها. قال أبو إسحاق : أصلها الياء فأبدل من الياء ألف. (وَهذا بَعْلِي) ابتداء وخبر (شَيْخاً) على الحال. قال أبو إسحاق : والحال هاهنا نصبها من لطيف النحو وغامضه لأنك إذا قلت : هذا زيد قائما ، وكان المخاطب لا يعرف زيدا لم يجز لأنه لا يكون زيدا ما دام قائما فإذا زال ذلك لم يكن زيدا فإذا كان يعرف زيدا صحّت المسألة ، والعامل في الحال التنبيه والإشارة. قال الأخفش : وفي قراءة أبيّ وابن مسعود وهذا بعلي شيخ قال الفراء (٢) : وفي قراءة ابن مسعود وهذا بعلي شيخ. قال أبو جعفر : الرفع من خمسة أوجه : تقول هذا زيد قائم ، فزيد بدل من هذا وقائم خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وزيد قائم خبرين ، وحكى سيبويه : هذا حلو حامض : ويجوز أن يكون «قائم» مرفوعا على إضمار هذا أو هو ، ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من زيد ، والوجه الخامس أن يكون هذا مبتدأ وزيد مبيّنا عنه وقائم خبرا.

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣)

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) مبتدأ ، والخبر في (عَلَيْكُمْ) وحكى سيبويه «عليكم» بكسر الكاف لمجاورتها الياء (أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على النداء ويسمّيه سيبويه (٣) تخصيصا (إِنَّهُ حَمِيدٌ) أي محمود (مَجِيدٌ) أي ماجد.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (٧٥)

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ، مذهب الأخفش والكسائي أن يجادلنا في موضع جادلنا. قال أبو جعفر : لما كان جواب «لمّا» يجب أن يكون للماضي جعل المستقبل مكانه كما أنّ الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه ، وفي جواب آخر يكون «يجادلنا» في موضع الحال أي أقبل يجادلنا

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ١٣٥.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٢٤٠.


وهذا قول الفراء (١). ويقال : أناب إذا رجع ، فإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان راجعا إلى الله جلّ وعزّ في أموره كلّها.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧)

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) وإن شئت ضممت السين لأن أصلها الضمّ. الأصل سوئ بهم من السوء ، قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت : سي بهم مخففا. ولغة شاذة التشديد. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) على البيان (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) وعصبصب على التكثير أي مكروه مجتمع الشرّ ، وقد عصب أي عصب بالشرّ عصابة ، ومنهم قيل : عصابة وعصبة أي مجتمعو الكلمة ومجتمعون في أنفسهم ، وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب ، وتعصّبت لفلان صرت كعضبته ، ورجل معصوب مجتمع الخلق.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (٧٨)

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) في موضع الحال. (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) ابتداء وخبر ، (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وقرأ عيسى بن عمر (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، وروى سيبويه : «احتبى ابن مروان (٢) في اللّحن ، أي حين قرأ (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)» (٣) قال أبو حاتم : ابن مروان قارئ أهل المدينة. قال الكسائي : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (٤) صواب يجعل هنّ عمادا. قال أبو جعفر : قول الخليل وسيبويه والأخفش أن هذا لا يجوز ولا تكون «هنّ» هاهنا عمادا ، قال : وإنما تكون عمادا فيما لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها نحو : كان زيد هو أخاك ، لتدلّ بها على أن الأخ ليس بنعت. قال أبو إسحاق : وتدلّ على أنّ كان تحتاج إلى خبر ، وقال غيره : يدلّ بها على أن الخبر معرفة أو ما قاربها. (وَلا تُخْزُونِ) في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني ، وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد لأنه في الأصل مصدر ، ويجوز فيه التثنية والجمع. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي يرشدكم وينهاكم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣.

(٢) هو محمد بن مروان السديّ ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، انظر غاية النهاية ٢ / ٢٦١.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٤١٧.

(٤) هذه قراءة الحسن وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وسعيد بن جبير ومروان بن الحكم أيضا ، انظر معجم القراءات القرآنية ٣ / ١٢٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٤٧ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٥٢ ، والكشاف ٢ / ٢٨٣ ، والمحتسب ١ / ٣٢٥.


(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) (٧٩)

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي لأنا لم نتزوّج بهن.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) أي لن يصلوا إليك بمكروه فيروى أنه لمّا قالوا له هذا خلّى بين قومه وبين الدخول فأمرّ جبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على أعينهم فعموا وعلى أيديهم فجفّت فرجعوا إلى منازلهم مسرعين. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) يقال : سرى وأسرى إذا سار بالليل لغتان فصيحتان ، (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) نصب بالاستثناء ، وهي القراءة البيّنة. والمعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك ، وقد قال جلّ وعزّ (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الباقين لم يخرج بها ، وإن كان قد قيل فيه غير هذا ، ويدل أيضا على النصب أنه في قراءة عبد الله فأسر بأهلك إلا امرأتك (١) وقد قيل : المعنى لا يلتفت منكم أحد إلى ما خلّف وليخرج مع لوط صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير إلا امرأتك بالرفع على البدل ، فأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد ، قال أبو عبيد : ولو كان كذا لكان «ولا يلتفت» بالرفع ، وقال غيره : كيف يجوز أن يأمرها بالالتفات؟ قال أبو جعفر : وهذا الحمل من أبي عبيد ومن غيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحلّه من العربية لا يجب أن يكون ، والتأويل له على ما حكى محمد بن يزيد قال : هذا كما يقول الرجل لحاجبه لا يخرج فلان فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب أي لا تدعه يخرج ، فكذا لا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك ، ومثله لا يقم أحد إلّا زيد ، يكون معناه انههم عن القيام إلّا زيدا ، ووجه آخر يكون معناه مر زيدا وحده بالقيام. (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) لأن لوطا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه ، وقرأ عيسى بن عمر (أَلَيْسَ الصُّبْحُ) (٢) بضم الباء وهي لغة.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (٨٢)

(جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) مفعولان ، حكى أبو عبيد عن الفراء أنه قد يقال (٣) لحجارة الأرحاء (سِجِّيلٍ) وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجّلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء ، (مَنْضُودٍ) من نعت سجيل.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

(مُسَوَّمَةً) من نعت حجارة. قال الفراء (٤) : زعموا أنها كانت مخطّطة بحمرة

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٤٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٤٩.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤.


وسواد في بياض ، فذلك تسويمها أي علاماتها. قال : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني قوم لوط (بِبَعِيدٍ) قال : لم تكن تخطئهم.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤)

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) لم تنصرف مدين لأنها اسم مدينة.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) ابتداء وخبر. وقد ذكرنا معناه وقد قيل : المعنى : ما يبقيه الله جلّ وعزّ لكم من رزقه وحفظه. (خَيْرٌ لَكُمْ) ممّا تأخذونه بالبخس والظلم. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لا يتهيّأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله جلّ وعزّ عنكم بمعاصيكم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧)

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَنْ) في موضع نصب ، وقال الكسائي : موضعها خفض على إضمار الباء ، (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) (أن) في موضع نصب لا غير عطف على (ما) والمعنى أو تأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وزعم الفراء (١) أنّ التقدير : أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وقرأ الضحاك بن قيس أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء بالتاء فأن على هذه القراءة معطوفة على أن الأولى. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). قال أبو جعفر : قد ذكرناه وفيه زيادة هي أحسن ممّا تقدم ولأن ما قبلها يدلّ على صحّتها أي أنت الحليم الرشيد فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ويدلّ عليها (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أنكروا لمّا رأوا من كثرة صلاته وعبادته وأنه حليم رشيد أن يكون يأمرك بترك ما كان يعبد آباؤهم ، وهذا جهل شديد أو مكابرة وبعده أيضا ما يدلّ عليه.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

أي أفلا أنهاكم عن الضلال ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) في موضع نصب بأريد.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥.


(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩)

وقرأ يحيى بن وثاب لا يجرمنّكم بضم الياء (شِقاقِي) في موضع رفع (أَنْ يُصِيبَكُمْ) في موضع نصب. (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قال الكسائي أي دورهم في دوركم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢)

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) يقال فقه يفقه إذا فهم فقها وفقها ، وحكى الكسائي فقهانا وفقه فقها إذا صار فقيها. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) على الحال. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) رفع بالابتداء ، وكذا (أَرَهْطِي) والمعنى أرهطي في قلوبكم أعظم من الله عزوجل وهو يملككم. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) مفعولان.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣)

(مَنْ) في موضع نصب مثل (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠](وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف عليها ، وأجاز الفراء (١) أن يكون موضعهما رفعا بجعلهما استفهاما. ويدلّ على القول الأول أنّ من الثانية موصولة ومحال أن يوصل بالاستفهام ، وقد زعم الفراء أنهم إنما جاءوا بهو في (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) لأنهم لا يقولون : من قائم إنما يقولون : من قام ومن يقوم ومن القائم ، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال أبو جعفر : ويدلّ على خلاف هذا قوله : [الخفيف]

٢٢٠ ـ من رسول إلى الثّريّا بأنّي

ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (٢)

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

وحكي أن أبا عبد الرحمن السلميّ قرأ (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٣) بضم العين. قال أبو جعفر : المعروف في اللغة أنه يقال : بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٦.

(٢) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة ص ٤٣٠.

(٣) وهي قراءة أبي حيوة أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٥٧ ، ومختصر ابن خالويه ٦١.


(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩)

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقال : قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدّمهم (وَبِئْسَ الْوِرْدُ) رفع ببئس (الْمَوْرُودُ) رفع بالابتداء وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وكذا بئس (الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) حكى الكسائي وأبو عبيدة (١) : رفدته أرفده رفدا أي أعنته وأعطيته ، واسم العطيّة الرفد.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠)

(ذلِكَ) رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك وإن شئت بالابتداء ، وكذا (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي منها موجود مبني ومنها مخسوف به وذاهب. قال الأخفش سعيد : حصيد أي محصود وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ، قال : ويجوز فيمن يعقل حصداء مثل قبيل وقبلاء.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١)

(وَما ظَلَمْناهُمْ) أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه ، (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وحكى سيبويه أنه يقال : ظلم إياه. (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) مفعولان وهو مجاز لمّا كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة ، قيل : ما زادوهم غير تخسير.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) ابتداء وخبر ، وقرأ عاصم الجحدريّ وكذلك أخذ ربّك إذ أخذ القرى (٢) فإذ لما مضى أي حين أخذ القرى ، وإذا للمستقبل أي متى أخذ القرى (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣)

(ذلِكَ يَوْمٌ) ابتداء وخبر (مَجْمُوعٌ) من نعته الناس اسم ما لم يسمّ فاعله ولهذا لم يقل : مجموعون ، ويجوز أن يكون الناس رفعا بالابتداء ، ومجموع له خبره ولم يقل : مجموعون لأن «له» يقوم مقام الفاعل.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥)

يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه (٣) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والكسائي

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٩٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦١.


بإثبات الياء في الإدراج وحذفها في الوقف ، وحكي أن أبيّا وابن مسعود رضي الله عنهما قرأ يوم يأتي (١) بإثبات الياء في الوقف والوصل ، وقرأ الأعمش وحمزة (يَوْمَ يَأْتِ) (٢) بغير ياء في الوقف والوصل. قال أبو جعفر : الوجه في هذا أن لا يوقف عليه وأن يوصل بالياء لأن جماعة من النحويين قالوا لا وجه لحذف الياء ، ولا يجزم الشيء بغير جازم فأما الوقف بغير ياء ففيه قول الكسائي قال : لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذف الياء كما يحذف الضمة ، على أنّ أبا عبيد قد احتجّ بحذف الياء في الوقف والوصل بحجتين : إحداهما أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء ، والحجة الأخرى أنه حكى أنها لغة هذيل يقولون : ما أدر. قال أبو جعفر : أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء. قال مالك بن أنس رحمه‌الله : سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه ، فقيل لي قد ذهب وأما الحجة بقولهم : ما أدر فلا حجّة فيه لأن هذا الحرف قد حكاه النحويون القدماء وذكروا علته ، وأنه لا يقاس عليه والعلّة فيه عند سيبويه ، وإن كان سيبويه حكى : لا أدري ، كثرة الاستعمال ، ومعنى كثرة الاستعمال أنه نفي لكل ما جهل ، وأنشد الفراء في حذف الياء : [الرجز]

٢٢١ ـ كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما (٣)

(لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) والأصل تتكلّم حذفت إحدى التاءين تخفيفا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١٠٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) ابتداء (فَفِي النَّارِ) في موضع الخبر ، وكذا (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال أبو العالية : الزفير من الصدر والشهيق من الحلق. قال أبو إسحاق : الزفير من شديد الأنين وقبيحه ، والشهيق من الأنين المرتفع جدا. قال : وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في النهيق.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

(خالِدِينَ فِيها) نصب على الحال (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) في موضع نصب أي دوام السموات والأرض والتقدير وقت ذلك ، (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في موضع نصب ، لأنه استثناء ليس من الأول وقد ذكرنا معناه.

__________________

(١) و (٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٢.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٧ ، والأضداد لابن الأنباري ٦٤.


(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بضم السين ، وقال أبو عمرو : والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل : أشقوا قال أبو جعفر : رأيت علي بن سليمان يتعجّب من قراءة الكسائي (سُعِدُوا) مع علمه بالعربية إذ كان هذا لحنا لا يجوز لأنه إنما يقال : سعد فلان وأسعده الله جلّ وعزّ فأسعد مثل أمرض وإنما احتجّ الكسائي بقولهم : مسعود ولا حجّة له فيه لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم يحذف فيه ويسمّى به واحتجّ بقول العرب : فغرفاه وفغرفوه ، وكذا شحاه (١) وسار الدابة وسرته ونزحت البئر ونزحتها وجبر العظم وجبرته ، وذا لا يقاس عليه إنما ينطق منه بما نطقت به العرب. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : لو قال لنا قائل : كيف تنطقون بالمتعدّي من فغرفوه؟ ما قلنا إلّا أفغرت فاه ، وهذا الذي قال حسن ويكون فغرفاه ليس بمتعدّي ذلك ولكنها لغة على حدة. (عَطاءً) اسم للمصدر (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) من نعته يقال : جذّه وحذّه كما قال : [الطويل]

٢٢٢ ـ تجذّ السّلوقيّ المضاعف نسجه

ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب (٢)

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩)

(فَلا تَكُ) في موضع جزم بالنهي وحذف النون لكثرة الاستعمال. وأحسن ما قيل في معناه : قل لكل من شكّ (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) إنّ الله جلّ وعزّ ما أمرهم به وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠)

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والكلمة أنّ الله جلّ وعزّ حكم أن يؤخّرهم إلى يوم القيامة لما علم من الصلاح في ذلك. ولو لا ذلك لقضي بينهم

__________________

(١) شحا يشحو الرجل : فتح فاه.

(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٤٦ «تقدّ السلوقيّ .. وتوقد» ، ولسان العرب (حجب) و (صفح) و (سلق) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٨ ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٨ ، وكتاب العين ٥ / ٧٧ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٥٧ ، وجمهرة اللغة ١٧٤ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٣ / ١٢٢ ، وجمهرة اللغة ٨٥١ ، وتاج العروس (حبب) و (صفح) و (سلق).


بأن يثاب المؤمن ويعاقب الكافر. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) من نعت شكّ.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١)

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) فيها ثماني قراءات (١) خمس منها موافقة للسواد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بتشديد «إنّ» وتخفيف «لما» ، وقرأ نافع بتخفيفهما جميعا. وقرأ أبو جعفر وشيبة وحمزة وهو المعروف من قراءة الأعمش بتشديدهما جميعا وقرأ عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لمّا» ، وقرأ الزهري (٢) بتشديد «لمّا» والتنوين ، فهذه خمس قراءات ، وروي عن الأعمش (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وتشديد «لمّا». قال أبو حاتم : وفي حرف أبيّ وإن كلّ إلّا ليوفّينّ ربّك أعمالهم. وفي حرف ابن مسعود وإن كلّ إلّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم. قال أبو جعفر : القراءة الأولى أبينها ينصب «كلّا» بأنّ اللام للتوكيد وما صلة والخبر في ليوفّينّهم ، والتقدير وإنّ كلّا ليوفّينّهم ، وقراءة نافع على هذا التقدير إلّا أنه خفّف «إن» وأعملها عمل الثقيلة. وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه وهو عندهما كما يحذف من الفعل ويعمل كما قال : [الطويل]

٢٢٣ ـ كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم (٣)

وأنكر الكسائي أن تخفّف «إن» وتعمل وقال : ما أدري على أي شيء قرأ وإن كلّا ، وقال الفراء : نصب كلّا بقوله : لنوفّينّهم. وهذا من كثير الغلط ، لا يجوز عند أحد : زيدا لأضربنّه ، والقراءة الثالثة بتشديدهما جميعا عند أكثر النحويين لحن ، حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز ، ولا يقال : إن زيدا إلا لأضربنّه ، ولا لمّا لأضربنه ، وقال الكسائي : الله جلّ وعزّ أعلم بهذه القراءة ما أعرف لها وجها. قال أبو جعفر : وللنحويين بعد هذا أربعة أقوال : قال الفراء (٤) : الأصل وإنّ كلّا لممّا فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن قال أبو إسحاق هذا خطأ لأنه يحذف النون من «من»

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٦.

(٣) الشاهد لابن صريم اليشكري في الكتاب ٢ / ١٣٤ ، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات ١٥٧ ، والدرر ٢ / ٢٠٠ ، وشرح التصريح ١ / ٢٣٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٤ ، ولزيد بن أرقم في الإنصاف ١ / ٢٠٢ ، ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد ٣٩٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٨٣ ، وله أو لعلباء بن أرقم في المقاصد النحوية ٢ / ٣٠١ ، ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني ١ / ١١١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٧٧ ، وجواهر الأدب ١٩٧ ، والجنى الداني ص ٢٢٢ ، ورصف المباني ١١٧ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٦٨٣ ، وسمط اللآلي ص ٧٢٩ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٤٧ ، وشرح عمدة الحافظ ٢٤١ ، وشرح قطر الندى ١٥٧ ، والمحتسب ١ / ٣٠٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٣.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٩.


فيبقى حرف واحد. وقال أبو عثمان المازني : الأصل وإنّ كلّا لما بتخفيف ما ثم ثقلت. قال أبو إسحاق: هذا خطأ إنما يخفّف المثقّل ولا يثقّل المخفّف ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام : الأصل (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) بالتنوين من لممته لمّا أي جمعته ثم بنى منه فعلى كما قريء (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤] بغير تنوين وتنوين. قال أبو إسحاق : القول الذي لا يجوز عندي غيره أن «إن» تكون مخففة من الثقيلة وتكون بمعنى «ما» مثل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] وكذا أيضا تشدّد على أصلها وتكون بمعنى «ما» ولمّا بمعنى «إلّا» حكى ذلك الخليل وسيبويه (١). قال أبو جعفر : والقراءات الثلاث المخالفات للسواد تكون فيها «إن» بمعنى «ما» لا غير وتكون على التفسير لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلّا على هذه الجهة.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣)

قال أبو عمرو بن العلاء (وَلا تَرْكَنُوا) لغة أهل الحجاز ، وقال الفراء : لغة تميم وقيس ركن يركن وروي عن قتادة أنه قرأ (وَلا تَرْكَنُوا) بضم الكاف. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (٢). وأنكر هذا أبو عبيد قال : لأنه ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو جعفر : لا معنى لقوله : ليس فيه حرف من حروف الحلق ؛ لأن حروف الحلق لا تجتلب الكسرة ، وهذه اللغة ذكرها الخليل وسيبويه (٣) عن غير أهل الحجاز إذا كان الفعل على فعل كسروا أول مستقبله ليدلّوا على الكسرة التي في ماضيه ، وكان يجب أن يكسر ثانيه ليتفق مع الماضي فلم يجز ذلك للزوم الثاني الإسكان فكسروا الأول ، فقالوا يحذر وهي مشهورة في بني فزارة وهذيل ، كما قال : [الكامل]

٢٢٤ ـ وإخال إنّي لاحق مستتبع (٤)

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٤٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٩ ، والمحتسب ١ / ٣٣٠.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٢٢٧.

(٤) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص ٤٤٨ ، والدرر ٢ / ٢٥٩ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٤ ، والمنصف ١ / ٣٢٢ ، ولسان العرب (نصب) وللهذلي في مغني اللبيب : ١ / ٢٣١ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٦٠٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٣ ، وصدره :

«فلبثت بعدهم بعيش ناصب».


وكذا إذا كان في ماضيه ألف وصل مكسورة كسروا أول المستقبل نحو نستعين قال سيبويه : وكذا ما كان يجب أن تكون فيه ألف وصل مثل تفعّل وتفاعل.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤)

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) نصب على الظرف ، وحذفت النون للإضافة ، وكسرت الياء لالتقاء الساكنين ، ولم يحذفها لأن ما قبلها مفتوح (وزلفا) عطف. وقرأ أبو جعفر (وَزُلَفاً) بضمّ الزاي واللام وهو جمع زليف لأنه قد نطق بزليف ويجوز أن يكون واحدا ، وقرأ ابن محيصن (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) بضم الزاي وإسكان اللام والتنوين وهو مسكن من زلف لأزلف الفتحة خفيفة. (إِنَّ الْحَسَناتِ) قد قيل : يعني به الصلوات ومما لا تنازع فيه أن التوبة تذهب السيئات. وإن اجتناب الكبائر يذهب السيئات الصغائر.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

(وَاصْبِرْ) أي على أذاهم.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦)

(فَلَوْ لا) بمعنى هلّا ، وهذا تستعمله العرب على التعجب من الشيء أي فهلّا كان من القرون من قبلكم قوم. (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) لما أعطاهم الله جلّ وعزّ من العقول وأراهم من الآيات. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء ليس من الأول. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي من الاشتغال بالمال واللذات.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨)

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) خبر يزال.

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) استثناء. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) معنى تمّت ثبتت ، ذلك كما أخبر به.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

(وَكُلًّا) نصب بنقص. (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي على الصبر على أداء الرسالة


و (ما) بدل من كل ، وقال الأخفش ، «وكلّا» نصب على الحال فقدّم الحال كما تقول : كلّا ضربت القوم. (وَمَوْعِظَةٌ) أي ما يتّعظ به من إهلاك الأمم. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يتذكرون ما ترك بمن هلك فيتوفّون.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

قال الأخفش : وما ربك بغافل عما يعملون إذا لم يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم قال : وقال بعضهم : (تَعْمَلُونَ) (١) لأنه خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم أو قال قل لهم : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) وهي قراءة حفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبي جعفر والجحدري ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٧٥.


(١٢)

شرح إعراب سورة يوسف عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١)

التقدير : هذا ، (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) على الابتداء والخبر.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب قرآن على الحال أي مجموعا ، ويجوز أن يكون توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا ، (عَرَبِيًّا) على الحال ومعنى أعرب بيّن ومنه «الثّيّب تعرب عن نفسها» (١). (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لتكونوا على رجاء من هذا ، وبعض العرب يأتي بأن مع لعل تشبيها بعسى واللام في لعلّ زائدة للتوكيد كما قال : [الرجز]

٢٢٥ ـ يا أبتا علّك أو عساكا (٢)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

(نَحْنُ) ابتداء. (نَقُصُّ عَلَيْكَ) في موضع الخبر. (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) بمعنى الصدر والتقدير قصصا أحسن القصص.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في سننه ـ النكاح ـ الحديث رقم ١٨٧٢.

(٢) الرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ١٨١ ، والكتاب ٢ / ٣٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٦٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٣٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٩٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٥٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٦ ، والجنى الداني ٤٤٦ ، والخصائص ٢ / ٩٦ ، والدرر ٢ / ١٥٩ ، ورصف المباني ٢٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٤٠٦ ، وشرح الأشموني ١ / ١٣٣ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٢ ، واللامات ص ١٣٥ ، ولسان العرب (روي) وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١٣٠ ، ومغني اللبيب ١ / ١٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٢.


(بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال الأخفش : أي بوحينا إليك ، (هذَا الْقُرْآنَ) نصب بأوحينا ، وأجاز الفراء (١) الخفض قال : على التكرير وهو عند البصريين على البدل من «ما» وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي من الغافلين مما عرّفناكه.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

(إِذْ) في موضع نصب على الظرف. (قالَ يُوسُفُ) لم ينصرف لأنه عجميّ ، وقرأ طلحة بن مصرّف إذ قال يؤسف بالهمز وكسر السين ، وحكى أبو زيد «يوسف» بالهمز وفتح السين. (لِأَبِيهِ) خفض باللام وعلامة خفضه الياء والمحذوف منه واو يدلّ على ذلك أبوان. (يا أَبَتِ) (٢) بكسر التاء قراءة عاصم ونافع وحمزة والكسائي والأعمش ، وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر (يا أَبَتِ) بفتح التاء ، وأجاز الفراء «يا أبت» بضم التاء. قال أبو جعفر : إذا قلت يا أبت بكسر التاء فالتاء عند سيبويه من ياء الإضافة ولا يجوز على قوله الوقف إلّا بالهاء ، وله على قوله دلائل ، منها أن قولك : «يا أبت» يؤدي عن معنى قولك : يا أبي ، وأنه لا يقال : يا ابة إلّا في المعرفة ، ولا يقال : جاءني أبة لا يستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ولا يقال : يا أبتي لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما ، وزعم الفراء أنه إذا قال : يا أبت فكسر وقف على التاء لا غير لأن الياء في النية ، وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ ، والحق ما قال ، كيف تكون في النية وليس يقال : يا أبتا فأما قولنا بكسر التاء ولم نقل بكسر الهاء فلأن الكسر إنما يقع في الإدراج ولو قلت : مررت بامرأة لقلت : علامة الخفض كسرة التاء ولا يقول كسرة الهاء إلا من لا يدري. ويا أبت بفتح التاء مشكل في النحو ، وفيه أقوال : فمذهب سيبويه (٣) أنهم شبهوا هذه الهاء التي هي بدل من الياء بالهاء التي هي علامة التأنيث فقالوا يا أبت كما قال : [الطويل]

٢٢٦ ـ كليني لهمّ يا أميمة ناصب (٤)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٣ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٢١٥.

(٤) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٤٠ ، والكتاب ٢ / ٢١١ ، والأزهيّة ٢٣٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢١ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٥ ، وكتاب اللامات ١٠٢ ، ولسان العرب (كوكب) و (نصب) و (أسس) و (شبع) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٣ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ١٢١ ، وجمهرة اللغة ص ٣٥٠ ، ورصف المباني ١٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠٧ ، وعجزه :

«وليل أقاسيه بطيء الكواكب»


وهذا أحد قولي (١) الفراء ، وله قول آخر وهو قول قطرب وأبي عبيدة وأبي حاتم يكون الأصل يا أبتاه ثم حذف الألف ، ويكون الوقوف عند الفراء على قول بالتاء لا غير ، وعلى القول الذي وافق فيه سيبويه بالهاء عندهما جميعا لا غير وهذا القول خطأ لأن هذا ليس موضع ندبة والألف خفيفة لا تحذف ، وقال قطرب أيضا في يا أبت بالفتح يكون الأصل يا أبتا ثم حذف التنوين ، وقال أبو جعفر : وهذا الذي لا يجوز لأن التنوين لا يحذف لغير علة وأيضا فإنما يدخل التنوين في النكرة ، ولا يقال في النكرة يا أبة ، وفي الفتح قول رابع كأنه أحسنها : يكون الأصل الكسر ثم أبدل من الكسرة فتحة كما تبدل من الياء ألف فيقال في يا غلامي أقبل : يا غلاما أقبل ، وزعم أبو إسحاق أنه لا يجوز يا أبة بالضم. قال أبو جعفر : ذلك عندي لا يمتنع كما أجاز سيبويه الفتح تشبيها بهاء التأنيث كما يجوز الضمّ تشبيها بها أيضا. (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) ليس بين النحويين اختلاف لأنه يقال : جاءني أحد عشر ومررت بأحد عشر ، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما ، فذهب الفراء أنهم لما ضموا أحد الاسمين إلى الآخر كرهوا أن يعربوا الأول فيخرج عن باب العدد وكرهوا أن يعربوا الثاني فيشبه بعلبكّ فحركوهما حركة واحدة كما كانا قبل البناء ، وقال الكسائي : النصب مغيض النحو كلما صرف شيء عن جهته نصب وقال البصريون : النصب أخفّ الحركات فلمّا ضمّ أحد الاسمين إلى الآخر حرّكا بأخفّ الحركات ، وقال بعضهم : لمّا حذفت الواو وكانت مفتوحة حرّكوا الاسمين بحركتها ولا اختلاف بين البصريين أن تعريف هذا بإدخال الألف واللام في أوله فتقول : مضى الأحد عشر رجلا لا غير ، وأجاز الكسائي والفراء : مضى الأحد العشر. قال الفراء (٢) : لتوهمهم انفصال أحدهما من الآخر ، وأجاز إدخال الألف واللام في المميز. وذا محال عند البصريين ، لأن المميز واحد يدلّ على جمع فإذا كان معروفا لم يكن فيه هذا المعنى. قال الفراء : فإن أضفت إلى نفسك أعربت الأول فقلت : هذه خمسة عشري ، ومررت بخمسة عشري. قال لما لم يجز أن تضيفه إلى الأول لأن بينهما عشرا أعربت الأول ، ولا يجوز المميّز هاهنا لاختلاف إعرابيهما. قال أبو جعفر : هذا يبطل كلّ ما مرّ ، وسمعت محمد بن الوليد يقول : سمعت أبا العباس يقول : ربّما قرأ عليّ إسماعيل بن إسحاق الشّيء من كلام الفراء فاستحسنه فلا ينتهي إلى آخره حتّى يفسده. قال سيبويه (٣) : واعلم أن العرب تجعل خمسة عشر وما أشبهها في الألف واللام والإضافة على حال ، والعلّة عند أصحابه في هذا إن الجهة التي بنيت من أجلها موجودة مع الألف واللام والإضافة ، وقد حكى سيبويه : هذه خمسة عشرك برفع الثاني ، وزعم الفراء أنه يقال : ما رأيت خمسة عشر قطّ خيرا منها بخفض عشر وتنوينها. قال : ولا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٣٣١.


يدخل المميز هاهنا. وقال أبو جعفر : وذا لا يجوز عند البصريين أيضا ، وقرأ أبو جعفر والحسن (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ) (١) بإسكان العين ، فزعم الأخفش والفراء أنهم استثقلوا الحركات فحذفوا لما كثرت. قال أبو جعفر : لم يذكر هذا سيبويه بل يجب على نصّ كلامه أن لا يجوز لأنه قال (٢) : أحد عشر مثل أحد جمل ولا يجوز عنده حذف الفتحة لخفتها. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف عليه. (رَأَيْتُهُمْ) توكيد ، وقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فجاء مذكّرا ، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لمّا خبّر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل جعل فيهما يكون لما يعقل.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

(يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ) نهي وظهر التضعيف لأنه قد سكن الثاني ويجوز الإدغام في غير القرآن والفتح والكسر والضم. (رُؤْياكَ) بالهمز والجمع رؤي. قال أبو حاتم : قال يعقوب قال أبو عمرو بن العلاء رحمه‌الله أهل الحجاز لا يهمزون «رؤيا» وبكر وتميم تهمزها. قال أبو حاتم : ويقال (٣) : ريا بقلب الواو ياء والراء مضمومة ويقال : ريّا بكسر الراء. (فَيَكِيدُوا) جواب النبي بالفاء وقد ذكرناه. (كَيْداً) مصدر (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) اسم «إنّ» وخبرها وجمع عدوّ اعداء ، وكان سبيله أن يجمع على فعول فاستثقل ذلك فيه.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وكذلك الكاف في (كَما أَتَمَّها) ، و (ما) كافة.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧)

قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الكوفة (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) وقرأ أهل مكة آية للسائلين (٤) على واحدة ، واختار أبي عبيد «آيات» قال : لأنها عبر كثيرة. قال أبو جعفر : «آية» هاهنا قراءة حسنة أي لقد كان في الذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبّروا به لأنهم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة فقالوا : خبّرنا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٤ ، ومختصر ابن خالويه ٦٢.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٣٧.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٥.

(٤) انظر تيسير الداني ١٠٤.


عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتّى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا ممن يعرف خبر الأنبياء وإنما وجّه اليهود إليه من المدينة يسألونه عن هذا فأنزل الله عزوجل سورة يوسف جملة واحدة فيها كل ما في التوراة من خبره وزيادة فكان ذلك آية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة إحياء عيسىصلى‌الله‌عليه‌وسلم الميّت.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨)

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ) رفع بالابتداء وهذه لام التوكيد. (وَأَخُوهُ) عطف عليه. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا) خبره ، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩)

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) نصب «أرضا» على حذف «في» لا على الظرف لأنها غير مبهمة ، وأنشد سيبويه فيما حذف منه في : [الكامل]

٢٢٧ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

إلّا أنه في الآية حسن كثير لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف فإذا حذفت الحرف تعدّى الفعل إلى الآخر. (يَخْلُ لَكُمْ) جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه الواو. (وَتَكُونُوا) عطف عليه.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة (فِي غَيابَتِ الْجُبِ) (٢) وقرأ أهل المدينة في غيابات الجبّ (٣) وأجاز أبو عبيد التوحيد لأنه على موضع واحد ألقوه فيه فأنكر الجمع لهذا. قال أبو جعفر : هذا تضييق في اللغة ، وغيابات على الجمع ، ويجوز من جهتين : حكى سيبويه : سير عليه عشيّانات وأصيلانات ، يريد عشيّة وأصيلا فجعل كل وقت منها عشيّة وأصيلا ، وكذا جعل كلّ موضع ما يغيب غيابة ثم جمع ، والوجه الآخر أن يكون في الجبّ غيابات جماعة. ويقال : غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا كما قال : [الطويل]

٢٢٨ ـ ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث

إلى ذا كما ما غيّبتني غيابيا (٤)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٤٥).

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥.

(٤) الشاهد لابن أحمر في ديوانه ص ١٧١ ، والأزهيّة ١١٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٨٣ ، والخصائص ٢ / ٤٦٠ ، والمحتسب ٢ / ٢٢٧.


(يَلْتَقِطْهُ) جواب الأمر ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه (١) بعض السيارة ، وهذا محمول على المعنى لأن بعض السيارة سيارة وحكى سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد : [الطويل]

٢٢٩ ـ وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢)

(إِنْ كُنْتُمْ) في موضع جزم بالشرط. (فاعِلِينَ) خبر كنتم.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (١١)

قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) بالإدغام بغير إشمام ، وقرأ طلحة بن مصرف ما لك لا تأمننا (٣) بنونين ظاهرتين وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين ، ويروى عن الأعمش ما لك لا تيمنّا (٤) بكسر التاء ، وقرأ سائر الناس فيما علمت بالإدغام والإشمام. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالإدغام وترك الإشمام هي القياس ؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا ، وقال أبو عبيدة : لا بد من الإشمام. وهذا القول مردود عند النحويين : وقال أبو حاتم : لو كان إدغاما صحيحا ما أشمّ شيئا ، وهذا أيضا عند النحويين غلط لأن الإشمام إنما هو بعد الإدغام إنما يدلّ به على أن الفعل كان مرفوعا وتأمننّا على الأصل ، «وتيمنّا» لغة تميم. يقولون : أنت تضرب ، وقد ذكرناه (٥).

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) منصوب على الظرف والأصل عند سيبويه (٦) «غدو» وقد نطق به. قال النضر بن شميل : ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة ، وكذا بكرة نرتع ونلعب (٧) بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة ، والمعروف من قراءة أهل مكة نرتع بالنون وكسر العين ، وقراءة أهل الكوفة (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء وإسكان العين ، وقراءة أهل المدينة يرتع ويلعب بالياء وكسر العين. قال أبو جعفر : القراءة الأولى من قول العرب : رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا إلّا أن معمرا روى عن قتادة قال : يرتع يسعى. قال أبو جعفر : أخذه من قوله : «إنا ذهبنا نستبق» لأن المعنى نستبق في العدو إلى غاية بعينها ، وكذا «يرتع» بإسكان العين إلّا أنه ليوسف وحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونرتع بكسر العين من الرّعي وهو الكلأ ، والرعي المصدر ، وقال القتبيّ : نرتع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥.

(٢) و (٣) و (٤) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٨.

(٥) مرّ في إعراب الآية ٥ ـ الفاتحة.

(٦) انظر الكتاب ١ / ٩٢.

(٧) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٨٦.


نتحارس ونتحافظ من قولهم : رعاك الله أي حفظك. قال أبو جعفر : وعلامة الجزم في نرتع ويرتع الضمّة ، وهو مجزوم لأنه جواب أرسله ، وعلامة الجزم في نرتع ويرتع حذف الياء (وَيَلْعَبْ) عطف عليه. (وَإِنَّا لَهُ) تبيين. (لَحافِظُونَ) خبر «إنّ».

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣)

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) اللغة الفصيحة ، حكى ذلك يعقوب وغيره (أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) في موضع رفع أي ذهابكم به (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) من تذاءبت الريح إذا جاءت من كلّ وجه كذا قال أحمد بن يحيى ، قال : و «الذئب» مهموز لأنه يجيء من كلّ وجه ، وروى ورش عن نافع «الذيب» (١) بغير همز لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧)

(عِشاءً) ظرف (يَبْكُونَ) في موضع الحال. قال محمد بن يزيد (وَلَوْ كُنَّا) أي وإن كنّا.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) مجاز أي ذي كذب مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال أبو إسحاق : أي فشأني أو الّذي أعتقده صبر جميل. قال قطرب : أي فصبري صبر جميل. قال أبو حاتم : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبرا جميلا (٢) قال : وكذا الأشهب العقيلي ، قال : وكذا في مصحف أنس وأبي صالح (٣). قال محمد بن يزيد : «فصبر جميل» بالرفع أولى من النصب ؛ لأن المعنى : فالذي عندي صبر جميل ، قال : وإنما النصب الاختيار في الأمر كما قال جلّ وعزّ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج : ٥]. قال أبو جعفر : والنصب على المصدر (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) ابتداء وخبر. (عَلى ما تَصِفُونَ) مجاز والمعنى ـ والله أعلم ـ والله المستعان على احتمال ما تصفون.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٩٠ ، ومختصر ابن خالويه ٦٣.

(٣) أبو صالح ، محمد بن عمير بن الربيع الهمذاني الكوفي ، عارف بحروف حمزة ، انظر غاية النهاية ٢ / ٢٢٢.


(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩)

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) فأنّث على اللفظ (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) فذكّر على المعنى ولو كان فأرسلت واردها لكان على اللفظ. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) من ذوات الواو إلّا أنه رجع إلى الياء لما جاوز ثلاثة أحرف اتباعا للمستقبل هذا قول الخليل وسيبويه ، وقال الكوفيون لمّا ثقل ردّ إلى الياء لأنها أخفّ من الواو. وجمع دلو في أقلّ العدد أدل فإذا كثرت قلت : دليّ ودليّ ، فقلبت الواو ياء لأن الجمع بابه التغيير وليفرّق بين الواحد والجميع ، ودلاء قلبت الواو ألفا ثم أبدلت منها همزة لئلا يجتمع ساكنان. قال يا بشراي هذا غلام (١) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة إلا أن ابن أبي إسحاق قرأ يا بشريّ هذا غلام (٢) فقلبت الألف ياء لأن هذا الياء يكسر ما قبلها فلمّا لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا ، وقرأ أهل الكوفة (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) في معناه قولان : أحدهما أنه اسم الغلام ، والآخر أن المعنى يا أيتها البشرى. قال قتادة : لمّا أدلي الدلو تشبّث به يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أخرجه بشّرهم فقال : يا بشرى هذا غلام. قال أبو جعفر وهذا القول أولى لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلّا يسيرا وإنما يأتي بالكناية كما قال جلّ وعزّ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) [الفرقان : ٢٧] وهو عقبة بن أبي معيط وبعده (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٧] وهو أميّة بن خلف فجاء على الكناية. (وَأَسَرُّوهُ) الهاء كناية عن يوسف ، فأما الواو فكناية عن أخوته ، وقيل عن التجار الذين اشتروه ، (بِضاعَةً) نصب على الحال قال أبو إسحاق : المعنى واشتروه جاعليه بضاعة ، وقال غيره : بضاعة بمعنى مبضوعا.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠)

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) من نعت ثمن أي ذي بخس أي قليل. (دَراهِمَ) على البدل ويقال : دراهيم على أنه جمع دراهم ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مدّ الكسرة فصارت ياء وليس هذا مثل مدّ المقصور لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره ، وأنشد النحويون : [البسيط]

٢٣٠ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (٣)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٩١ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٩.

(٢) وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري ، انظر البحر المحيط ٢٩١.

(٣) الشاهد للفرزدق في الكتاب ١ / ٥٧ ، والإنصاف ١ / ٢٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٢٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٧١ ، ولسان العرب (صرف) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٢١ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في أسرار العربية ٤٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧٦ ، ـ


(مَعْدُودَةٍ) نعت. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) قال أبو إسحاق : ليست «فيه» داخلة في الصلة ولكنها تبيين أي زهادتهم فيه ، وحكى سيبويه والكسائي زهدت فيه وزهدت بكسر الهاء وفتحها.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)

(وَكَذلِكَ) الكاف في موضع نصب. (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي بأن عطفنا قلب الملك الذي اشتراه عليه حتى تمكّن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) نصب بلام كي ، ولا بد من أن يتعلق بفعل فالتقدير : ولنعلمه من تأويل الأحاديث مكنّاه ، والمعنى : مكناه لنوحي إليه بكلامنا ونعلّمه تأويله وتفسيره وتأويل الرؤيا. وتم الكلام. ثم قال الله عزوجل : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي يفعل ما يشاء في خلقه لا يقدر أحد على منعه ولا غلبته ، وليس هذا للمخلوقين فهذا معنى غالب على أمره.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) هو جمع عند سيبويه (١) واحده شدّة ، وقال الكسائي : واحده شدّ كما قال : [الكامل]

٢٣٠ م ـ عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (٢)

وزعم أبو عبيدة (٣) أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد ، وقال مجاهد وقتادة الأشدّ ثلاث وثلاثون سنة ، وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس الأشدّ بلوغ الحلم. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) قيل : معناه جعلناه المستولي على الحكم فكان يحكم في سلطان الملك ، وآتيناه علما بالحكم.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) وهي امرأة الملك. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) غلّق

__________________

ـ وتخليص الشواهد ١٦٩ ، وجمهرة اللغة ٧٤١ ، ورصف المباني ١٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٦٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣٧ ، ولسان العرب (قطرب) و (سحج) و (نقد) و (صنع) ، والمقتضب ٢ / ٢٥٨ ، والممتع في التصريف ١ / ٢٠٥.

(١) انظر الكتاب ٤ / ٦٠.

(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ص ٢١٣ ، ولسان العرب (شدد) ، وتاج العروس (شدد).

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٣٠٥.


للتكثير ، ولا يقال : غلق الباب ، وأغلق يقع للكثير والقليل ، كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاءرحمه‌الله : [البسيط]

٢٣١ ـ ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها

حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار (١)

(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فيها سبع قراءات (٢) : فمن أجلّ ما قيل فيها وأصحّه إسنادا ما رواه الأعمش بن أبي وائل قال : سمعت عبد الله بن مسعود رحمه‌الله يقرأ (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) قال فقلت : إن قوما يقرءونها (هَيْتَ لَكَ) قال : إنما أقرأ كما علّمت. قال أبو جعفر : وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يبعد ذلك لأن قوله : إنما أقرأ كما علّمت يدلّ على أنه مرفوع ، وهذه القراءة بفتح الهاء والتاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة ، وبها قرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء وكسر التاء ، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن كثير (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء وضم التاء ، فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهنّ مفتوحة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وفتح التاء ، وقرأ يحيى بن وثاب (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة ، وعن ابن عامر وأهل الشام (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. قال أبو جعفر : «هيت لك» بفتح التاء لالتقاء الساكنين لأنه صوت يجب أن لا يعرب ، والفتح خفيف. فهذا كقولك : كيف وأين ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر ، ومن ضمّ فلالتقاء الساكنين أيضا وشبّهه بقولهم : «جوت» في زجر الجمل. يقال : بالضمّ والفتح والكسر «وجاه» بمعناه إلّا أنه لا يقال إلّا مكسورا ، وكذا «عاج» في زجر الأنثى ، وقراءة أهل المدينة فيها قولان : أحدهما أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مرّ ، والآخر أن يكون من هاء يهيء مثل جاء يجيء فيكون المعنى في «هيت» أي حسنت هيئتك وخفّف الهمزة ، ويكون «لك» من كلام آخر ، كما تقول : لك أعني وأما «لك» في «هيت لك» فهي تبين ، كما يقال «سقيا لك» ، وقال عكرمة : «هيت» أي هلمّ أي إلى ما دعوتك له ، و «هيت لك» بغير همز وبالهمز من هاء يهيئ. (قالَ مَعاذَ اللهِ) مصدر. يقال : عاذ معاذا ومعاذة وعياذا. (إِنَّهُ رَبِّي) في موضع نصب على

__________________

(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٣٨٢ ، والكتاب ٣ / ٥٦٣ «ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها» ، وأدب الكتاب ص ٤٦١ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٦١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٩٣ ، ولسان العرب (غلق) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١١٨ ، وشرح المفصّل ١ / ٢٧.

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٩٤ ، ومعاني الفراء ٢ / ٤٠.


البدل من الهاء ، وقد يكون رفعا على الخبر. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) لام توكيد ، وزعم الخليل أنّ «قد» للتوقع. (وَهَمَّ بِها) قد ذكرنا معناه. وأن قوما قالوا : هو على التقديم والتأخير. وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب. لا يقال : قام فلان إن شاء الله ، ولا قام فلان لو لا فلان ، وقد قيل : همّه بها هو الشهوة وما يخطر على القلب ، كما يقال : ما يهمّني ذلك أي ما أشتهيه. (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (أن) في موضع رفع ، وجواب لو لا محذوف لعلم السامع. (كَذلِكَ) الكاف في موضع رفع أي أمر البراهين كذلك ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أي أريناه البراهين كذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ) لام كي والناصب للفعل «أن». (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي المخلصين لأداء الرسالة ، والمخلصين لطاعة الله جلّ وعزّ.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥)

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) حذفت الألف من «استبقا» في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها. كما يقال : جاءني عبد الله في التثنية ، ومن العرب من يقول : جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز ويجمع بين ساكنين لأن الثاني مدغم والأول حرف مدّ ولين ، ومنهم من يقول : جاءني عبد الله بإثبات الألف والهمزة ، كما تقول في الوقف. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) قال أبو إسحاق : القد القطع أي جذبت فانقطع قال أبو جعفر : في هذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجمع فيه المعاني ، والمعنى : سابق يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الباب ممتنعا منها ليخرج ، وسابقته إلى الباب لتقف عليه فتمنعه من الخروج فلما سبقها جذبته لئلا يخرج فقطعت قميصه. (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) (ما) ابتداء ، وخبره (أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عطف عليه. قال الكسائي : ويجوز أو عذابا أليما بمعنى ويعذب عذابا أليما.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧)

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قد ذكرنا فيه اختلافا. والأشبه بالمعنى ـ والله أعلم ـ أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ولو كان طفلا لكان شهادته ليوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغني أن يأتي بدليل من العادة لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال


بالعادة ، وليس هذا بمخالف للحديث تكلّم أربعة وهم صغار منهم صاحب يوسف يكون بمعنى صغير وليس بشيخ ، وفي هذا دليل آخر بيّن وهو أن ابن عبّاس رحمه‌الله هو الذي روى الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) في موضع جزم بالشرط ، وفيه من النحو ما يشكل. يقال : حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل ، وليس هذا في كان. فقال المازني : القول مضمر ، وقال محمد بن يزيد هذا لقوّة كان فإنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال أبو إسحاق : المعنى : إن يكن أي إن يعلم فالعلم لم يقع وكذلك الكون لأنه يؤدي عن العلم (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) فخبّر عن كان بالفعل الماضي ، كما قال زهير : [الطويل]

٢٣٢ ـ وكان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها ولم يتقدّم (١)

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) (٢) بضم القاف والباء واللام ، وكذا «دبر». قال أبو إسحاق : يجعله غاية أي من قبله ومن دبره قال : ويجوز «من قبل» «ومن دبر» بفتح اللام والراء ، ويشبّهه بما لا ينصرف لأنه معرفة ومزال عن بابه.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩)

(يُوسُفُ) نداء مفرد أي يا يوسف.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠)

(وَقالَ نِسْوَةٌ) ويقال : نسوة ، والجمع الكثير نساء ، وحكي «قد شغفها» بكسر الغين. ولا يعرف في كلام العرب إلّا «شغفها» بفتح الغين ، وكذا (قَدْ شَغَفَها) أي تركها مشغوفة. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في هذا الفعل. وهذه لام توكيد ولا تقع في الماضي هاهنا إلّا أن الأخفش أجاز : إنّ زيدا لنعم الرجل ؛ لأن نعم لا تتصرّف.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١)

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي بعيبهن إياها واحتيالهنّ في ذمها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) في الكلام حذف أي أرسلت إليهنّ تدعوهن إلى وليمة لتوقعهنّ فيما وقعت فيه. (وَأَعْتَدَتْ) من

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوان ص ٢٢ ، والأزهيّة ص ١٥٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣ ، ولسان العرب (طوى) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٩٧ ، والمحتسب ١ / ٣٣٨.


العتاد ، وهو كل شيء جعلته عدّة لشيء. (مُتَّكَأً) أصحّ ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : مجلسا ، وأما قول الجماعة من أهل التفسير إنه الطعام ، فيجوز على تقدير طعام متّكئا ، مثل «واسئل القرية» ، ودلّ على هذا الحذف ، (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لأن حضور النساء ومعهنّ السكاكين إنّما هو الطعام يقطع بالسكاكين. والأصل في متّكأ موتكأ ، ومثله متّزن ومتّعد من وزنت ووعدت ووكأت ، ويقال : تكئ يتكأ تكأة. (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) مفعولان وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكّر ويؤنّث ، وأنشد الفراء : [الوافر]

٢٣٣ ـ فعيّث في السّنام غداة قرّ

بسكّين موثّقة النّصاب (١)

والأصمعي لا يعرف في السكين إلّا التذكير. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) بضم التاء لالتقاء الساكنين لأن الكسرة تثقل إذا كانت بعدها ضمة وكسر التاء على الأصل (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي معاذ الله ، وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء وقلن حاشا لله (٢) بإثبات الألف ، وهو الأصل ، ومن حذفها جعل اللام التي بعدها عوضا منها ، وفيها لغات أربع : «حاشاك» و «حاشا لك» و «حاش لك» و «حشا لك» ، ويقال : حشا زيد وحاشا زيدا. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمّد بن يزيد يقول : النصب أولى لأنه قد صحّ أنها فعل بقولهم: حاش لزيد والحرف لا يحذف منه ، وقد قال النابغة : [البسيط]

٢٣٤ ـ وما أحاشي من الأقوام من أحد (٣)

(ما هذا بَشَراً) شبّهت (ما) بليس عند الخليل وسيبويه إذا كان الكلام مرتّبا. قال سيبويه : وربّ حرف هكذا أي يشبّهه بغيره في بعض المواضع ، ثم ذكر سيبويه «تالله» و «لدن غدوة» ثم قال الكوفيون (٤) : لما حذفت الباء نصبت وشرح هذا على ما قاله أحمد بن يحيى أنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض. قال : فلما حذفت الباء نصبت لتدلّ على محلها. قال : وهذا قول الفراء (٥) وما تعمل «ما» شيئا ، فألزمهم البصريون أن يقولوا : زيد القمر ، لأن المعنى كالقمر ، فرد هذا أحمد بن يحيى بأن قال : الباء

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عيث) و (سكن) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ٣١٤ ، والمذكر والمؤنث للفراء ص ٩٦ ، والمخصّص ١٧ / ١٦ ، وتاج العروس (عيث) و (سكن).

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣.

(٣) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٢٠ ، وأسرار العربية ٢٠٨ ، والإنصاف ١ / ٢٧٨ ، والجنى الداني ص ٥٩٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٣ ، والدرر ٣ / ١٨١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصّل ٢ / ٨٥ ، ولسان العرب (حشا) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٤٢٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٤٠ ، وشرح المفصّل ٨ / ٤٩ ، ومغني اللبيب ١ / ١٢١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٣.

(٤) انظر الإنصاف مسألة (١٩).

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٢.


أدخل في حروف الخفض من الكاف لأن الكاف تكون اسما. قال أبو جعفر : لا يصح إلا قول البصريين. وهذا القول يتناقض لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد ، وأنشد : [الوافر]

٢٣٥ ـ أما والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق (١)

ومنع نصا النصب ، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز : ما فيك براغب زيد ، وما إليك بقاصد عمرو ثم يحذفون الباء ويرفعون ، وحكى البصريون والكوفيون : ما زيد منطلق بالرفع ، وحكى البصريون أنها لغة بني تميم وأنشدوا : [الوافر]

٢٣٦ ـ أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد (٢)

وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد : وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين. قال أبو إسحاق : هذا غلط كتاب الله جلّ وعزّ ، ولغة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى وأولى. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) لفضل الملائكة على البشر.

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣)

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ابتداء وخبر ، والتقدير نزول السجن أحبّ إليّ أي أسهل عليّ ، وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن (٣) بفتح السين ، وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب وهو مصدر سجنه سجنا (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) شرط ومجازاة أي إن لم تلطف لي في اجتناب المعصية وقعت فيها.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٤)

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي فلطف له في ذلك. (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) قيل : لأنهنّ جمع قد راودنه عن نفسه ، وقيل : يعني كيد النساء.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥)

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) فيه ثلاثة أقوال : فمذهب سيبويه (٤) أن

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٢١ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٤١ ، والجنى الداني ٢٢٢ ، وجواهر الأدب ١٩٧ ، والدرر ٤ / ٩٦ ، ورصف المباني ١١٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١١١ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠٩ ، والمقرب ١ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٨.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ص ١٦٤ ، والخزانة ١ / ٤٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٠٦.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ١٢٥.


«ليسجننّه» في موضع الفاعل أي ظهر لهم أن يسجنوه ، وقال محمد بن يزيد : هذا غلط لا يكون الفاعل جملة ولكن الفاعل ما دلّ عليه بدا أي بدا لهم بداء فحذف الفاعل لأن الفعل يدلّ عليه كما قال: [الوافر]

٢٣٧ ـ وحقّ لمن أبو موسى أبوه

يوفّقه الّذي نصب الجبالا (١)

والقول الثالث أن معنى «بدا له» في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلا وحذف أيضا القول أي قالوا ليسجننّه ، وهذه النون للتوكيد ، وكذا الخفيفة يوقف عليها بالألف نحو (وَلَيَكُوناً) [يوسف : ٣٢] ليفرق بينهما ، وقال أبو عبيد : يوقف عليها بالألف لأنها أشبهت التنوين في قولك : رأيت رجلا والتقدير فحسبوه.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦)

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) تثنية فتى وهو من ذوات الياء وقولهم الفتوّة شاذّ. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) والتقدير في النوم ثم حذف. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) من ذوات الهمز فلذلك ثبتت الياء فيه ومن خفف : نبيّنا ومن أبدل منها قال نبِّنا فحذف الياء.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠)

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) حذف المفعول الثاني للدلالة والمعنى سمّيتموها آلهة من عند أنفسكم. (ما أَنْزَلَ اللهُ) ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير (مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجّة.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١)

(أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) حكى بعض أهل اللغة أنّ سقاه وأسقاه لغتان بمعنى واحد كما قال : [الوافر]

٢٣٨ ـ سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (٢)

__________________

(١) الشاهد لذي الرّمّة في ديوانه ٤٤٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حقق).

(٢) الشاهد للبيد في ديوانه ٩٣ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٢٨ ، وتاج العروس (مجد) و (سقى) ، والمخصّص ١٤ / ١٦٩ ، ونوادر أبي زيد ٢١٣ ، وبلا نسبة في رصف المباني ٥٠ ، ولسان العرب (مجد).


قال الأصمعي : أنا أتّهم هذا البيت من شعر لبيد وأتوهّم أنه مصنوع لأنّه جاء بلغتين في بيت. قال أبو جعفر : الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب أو صبّ الماء في حلقه ، ومعنى أسقاه جعل له سقيا. قال جلّ وعزّ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧].

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢)

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) قال الكسائي : والمصدر نجوا ونجاء. (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي أذكر ما رأيته منّي وما أنا عليه من عبارة الرؤيا وغير ذلك.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣)

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) حذفت الهاء فرقا بين المذكّر والمؤنّث ، ويجوز في غير القرآن : سبع بقرات سمانا نعت لسبع ، وكذا خضرا. قال الفراء (١) : ومثله (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [نوح : ١٥].

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤)

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هي أضغاث. قال الفراء : ويجوز أضغاث أحلام ، أي رأيت أضغاث أحلام. قال أبو جعفر : النصب بعيد لأن المعنى : لم ترى شيئا له تأويل ، إنما هي أضغاث أحلام. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قال أبو إسحاق : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (٤٥)

قال أبو جعفر : الأصل في (وَادَّكَرَ) اذتكر ، والذال قريبة المخرج من التاء ، ولم يجز ادغامها فيها لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فلو أدغموا ذهب الجهر فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة فصار إذ دكّر فأدغموا الذال في الدال فصار ادّكر ، وحكى الخليل وسيبويه : إن من العرب من يقول اذّكر فيدغم الدال في الذال لرخاوة الذال ولينها ويقال : أمه يأمه إمها إذا نسي ، فعلى هذا وادّكر بعد أمه.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٧.


(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٦)

(يُوسُفُ) نداء مفرد وكذا (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) الكثير الصدق.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (٤٧)

(دَأَباً) مصدر لأن معنى تزرعون تدأبون ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب (دَأَباً) (١) بتحريك الهمزة ، وروى حفص عن عاصم وفيه قولان : قول أبي حاتم أنه من دئب. قال أبو جعفر : ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر أنه حرّك لأن فيه حرفا من حروف الحلق.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (٤٨)

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ) مجازا أي يأكل أهلهن. (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي ما ادخرتم من أجلهنّ. (إِلَّا قَلِيلاً) نصب على الاستثناء. (مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تحبسون لتزرعوه.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١)

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي فذهب الرسول فأخبره فقال : ائتوني به (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي فأمره بالخروج. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ليعلم حال النسوة (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي ليعلم أني حبست بلا جرم. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فدلّ بهذا على أنهن قد كدنه كما كادته امرأة العزيز. المعنى فذهب الرسول فأخبره فاحضرهنّ فقال : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) شدّدت النون لأنّها بمنزلة الميم والواو في المذكّرين.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢)

(ذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر ذلك. (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي لم أذكره وهو غائب بسوء ، وكذا الخيانة وقد قيل : هذا من كلام يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر معاني الفرّاء ٢ / ٢٧ ، وتيسير الداني ١٠٥.


(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣)

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) على التكثير ، وكذا (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي مشتهية له. (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) في موضع نصب على الاستثناء.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) (٥٤)

(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) جزم لأنه جواب الأمر ، والمعنى فذهبوا فجاؤوا به ودلّ على هذا. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي متمكّن من نريد نافذ القول. (أَمِينٌ) لا تخاف عذرا.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥)

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ) أي حفيظ لها (عَلِيمٌ) بما تستحق أن أجعلها فيه.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

(يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي ينزل. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي بإحساننا. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ثوابهم ، ودلّ بهذا على أنه ثواب له.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨)

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) أي فجاءت سنو القحط فجاء إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا ، وهذا من اختصار القرآن المعجز فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون لأنهم خلفوه صبيا ولم يتوهموا أنه بعد العبوديّة بلغ إلى تلك الحال.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٥٩)

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وهو ابن يامين وهو أخو يوسف لأبيه وأمه أي سألهم وذاكرهم حتى جرى ذكر أخيه وهذا من الاختصار أيضا.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) (٦٠)

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فلا أبغيكم شيئا. (وَلا تَقْرَبُونِ) في موضع جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون ، وحذفت الياء لأنه رأس آية ، ولو كان خبرا لكان ولا تقربون بفتح النون.


(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦٢)

وقال لفتيته هذه قراءة (١) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) وهو اختيار أبي عبيد ؛ لأنه روى عن هشام عن مغيرة قال : في مصحف عبد الله «وقال لفتيانه». قال أبو جعفر : وهذا مخالف للسواد الأعظم لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون فلا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع ، وأيضا فإنّ فتية هاهنا أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. والأصل في فتية أفعلة وإن كان قد صغّر على لفظه.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣)

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) لأنه قال لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي). (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) جواب ، والأصل نكتال فحذفت الضمة من اللام للجزم وحذفت الألف لالتقاء الساكنين وهذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون يكتل (٢) بالياء ، والأول اختيار أبي عبيد ليكونوا كلّهم داخلين فيمن يكتال ، وزعم أنه إذا قال : يكتل بالياء كان للأخ خاصة. قال أبو جعفر : وهذا لا يلزم لأنه لا يخلو الكلام من إحدى جهتين أن يكون المعنى فأرسل أخانا يكتل معنا فيكون للجميع ، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير فيكون في الكلام دليل على الجمع بقوله (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي).

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

(فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) على البيان ، وهذه قراءة (٣) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين حفظا والقراءة الأولى أبين كما يقال : هو خير منه حسبا و (حافِظاً) منصوب على الحال ، وقال أبو إسحاق : يجوز أن يكون منصوبا على البيان.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٠٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٠ ، وتيسير الداني ١٠٥.

(٣) انظر تيسير الداني ١٠٥.


(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥)

(ما نَبْغِي) «ما» في موضع نصب ، والمعنى ـ والله أعلم ـ أي شيء نبغي بتعريفنا إياك فإن الملك قد برنا و (هذِهِ بِضاعَتُنا) تدلّ على ذلك إذ (رُدَّتْ إِلَيْنا) ، وروي عن علقمة (رُدَّتْ إِلَيْنا) (١) بكسر الراء ؛ لأن الأصل فيه رددت فلما أدغم قلب حركة الدال على الراء كما يقال : «بيع» في المعتلّ ، وقد حكى قطرب في ضرب زيد «ضرب». (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي يخرج أخونا على بعير فيكال له عليه (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) في معناه قولان : أحدهما يسير على الملك أي سهل ، والآخر ذلك الذي جئنا به كيل يسير لا يكفينا فنحن نحتاج أن يخرج أخونا معنا حتى يزداد.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦)

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) في موضع نصب. قال أبو إسحاق : المعنى إلّا لإحاطة بكم قال : وهذا يحقّق الجزاء كقولك : ما جئتني إلا لأخذ الدراهم وإلّا أن تأخذ الدراهم. (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي حافظ للحلف.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧)

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) أصحّ ما قيل فيه أنه خاف أن يدخلوا جميعا فيبلغ الملك الأعظم أمرهم فيلحقهم منه مكروه أو يحسدهم من رآهم مجتمعين ، ولا معنى للعين هاهنا لأن بعده (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأنه إن صحّ ما يكون يعقب العين فهو من الله جلّ وعزّ.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨)

ويدلّك على هذا (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

(إِلَّا حاجَةً) استثناء ليس من الأول. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي بأمر دينه (وَلكِنَّ

__________________

(١) وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢١.


أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما يعلم يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر دينه.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠)

قال الأخفش : جمع سقاية : سقايا. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي أصحاب العير يدلّ على ذلك. (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وكان النداء عن غير أمر يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كذب.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢)

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) وروي عن أبي هريرة قالوا نفقد صاع الملك (١) ، وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء قالوا نفقد صوع الملك (٢) بغير ألف وبغين معجمة ، وكذا روي عن يحيى بن يعمر. قال أبو جعفر : الألف في صواع زائدة وهو بمعنى صاع وصاع أكثر في كلام الناس كما قال :

٢٣٩ ـ لا نألم القتل ونجزي به

الأعداء كيل الصّاع بالصّاع (٣)

وجمع صواع صيعان ، وجمع صاع على التذكير أصواع وعلى التأنيث أصوع ، وجمع صوغ أصواغ كثوب أثواب. وصوغ مصدر بمعنى موغ كما تقول : درهم ضرب أي مضروب. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ابتداء وخبر ، وكذا (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) والزّعيم الكفيل وأصله من زعم ذاك أي قاله.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٧٣)

(قالُوا تَاللهِ) التاء بدل من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها ، ولا يقاس على الإبدال فيقال : تالرحمن لأن العرب إذا أبدلت الشيء من الشيء فقد عرف ، وكذا المجاز لا يقال عليه.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) (٧٤)

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) ابتداء وخبر. (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي في قولكم وما كنا سارقين.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٧٥)

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) وهذا مشكل من النحو وفيه ثلاثة أقوال : منها

__________________

(١) و (٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٦ ، مختصر ابن خالويه ٦٤.

(٣) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوان المفضليات ٥٦٩ ، والخزانة ٢ / ٤٨.


أن يكون «جزاؤه» مبتدأ وخبره محذوفا ، والتقدير : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم أن يستعبد من يسرق ، ويقال : إن هذا الحكم كان في شريعة يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان هذا في أول الإسلام حتى نسخه الله جلّ وعزّ بالقطع ، والقول الثاني أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد» مبتدأ ثانيا «فهو جزاؤه» خبر الثاني والجملة خبر الأول و «من» شرط ، وإن شئت بمعنى الذي ، والذي يعود على المبتدأ الأول جزاؤه الثاني ، والتقدير (فهو) هو ثم أظهر الضمير ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٤٠ ـ لعمرك ما معن بتارك حقّه

ولا منسئ معن ولا متيسّر (١)

إلا أنه في الآية أحسن لأنه لو أضمر فيها لأشكل المعنى فكان الإظهار أحسن لهذا ، والقول الثالث أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد في رحله» كناية عن رحله وخبره ، والتقدير : جزاؤه استعباد من وجد في رحله فهو كناية عن الاستعباد ، وهي في الجملة معنى التوكيد ، كما تقول : جزاء من سرق القطع فهو جزاؤه وفهذا جزاؤه. (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب أي نجزي الظالمين جزاء كذلك.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) فأنّث ، ففيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون الكناية للصواع على لغة من أنّث ، ومنها أن يكون للسقاية ، والجواب الثالث أن يكون للسرقة ، وقرأ الحسن (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) (٢) بضمّ الواو ، ويجوز في غير القرآن «إعاء» مثل «أقّت» و «وقتت» ، ويجوز «إعاء أخيه» ، وهي لغة هذيل ، ومثله «إكاف» و «وكاف» ، (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) الكاف في موضع نصب أي بأن فعل هذا حتى أخذ أخاه ولم يكن يتهيّأ له أخذه وحبسه مع الملك بغير حجّة قال جلّ وعزّ : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (أن) في موضع نصب ، والتقدير إلّا بأن يشاء الله أن يلطف له بمثل هذا الكيد. نرفع درجات من نشاء (٣) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة ، وقرأ أهل الكوفة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) بالتنوين ، وهو على قراءتهم مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف ، والتقدير : نرفع من نشاء إلى درجات ، إلّا أنّ أكثر كلام العرب على

__________________

(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ١ / ٣١٠ ، والكتاب ١ / ١٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٥ ، والدرر ٢ / ١٢٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٠ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ١٢٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٨.

(٣) انظر تيسير الداني ١٠٥.


القراءة الأولى يقولون : اللهمّ ارفع درجته ولا يكادون يقولون : اللهمّ ارفعه درجة. قال مالك بن أنس سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله عزوجل (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ابتداء وفيه تقديران : أحدهما وفوق كلّ ذي علم من هو أعلم منه حتّى ينتهي ذلك إلى الله جلّ وعزّ ، والتقدير الآخر وفوق كل ذي علم عالم بكل شيء وهو الله جلّ وعزّ.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) جزم بإن ، والجواب (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) المعنى على حذف القول والتقدير : فقد قيل سرق أخ له. ومن أحسن ما قيل في معناه أنّ السّدّي قال : كانت عمة يوسفصلى‌الله‌عليه‌وسلم تميل إليه وهي ربّته فلمّا ترعرع أرادوا أن يأخذوه منها فاحتالت في منعهم فأخذت منطقة إسحاق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشدّتها في وسطه من تحت ثيابه وكان حكم السّارق إذا سرق أن يستخدم فاحتالت بهذا فأخذته عندها فلهذا قال إخوته : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) للعلماء في هذا أقوال : منها أنه أسرّ في نفسه قوله (شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ) وقيل : أسرّ في نفسه المجازاة لهم على ما قالوا فيه ، وقيل : أسرّ في نفسه الحجّة على ما قالوا ولم يرد أن يبيّن عذره في ذلك ، وقيل : أسرّ في نفسه قولهم «فقد سرق أخ له من قبل» ولم يرد أن يذيع هذا وينشره. (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ابتداء وخبر. (مَكاناً) منصوب على البيان أي فعلا.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧٨)

(إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) من نعته.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩)

(قالَ مَعاذَ اللهِ) مصدر. (أَنْ نَأْخُذَ) في موضع نصب أي من أن نأخذ. (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) في موضع نصب بنأخذ. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إن أخذنا غيره.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٠)

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا) أي انفردوا وليس هو معهم. (نَجِيًّا) نصب على الحال ، وهو واحد يؤدي عن جمع وجمعه أنجية. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) «ما» زائدة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع رفع على الابتداء وبمعنى وقع


تفريطكم في يوسف عليه‌السلام ، وقيل موضعه نصب عطف على «أنّ» ، والمعنى : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف عليه‌السلام. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي من الأرض. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) نصب بحتى وهي بدل من «أن». (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) عطف على «يأذن» ، والمعنى ـ والله أعلم ـ أو يحكم الله لي بالممرّ مع أخي فأمضي معه إلى أبي. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ابتداء وخبر.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (٨١)

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا) له. (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما) قال أبو حاتم : ذكر قوم (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) (١) قالوا معناه رمي بالسّرق كما يقال ظلم فلان وخوّن قال : ولم أسمع له إسنادا. قال أبو جعفر : ليس نفيه السماع بحجّة على من سمع ، وقد روى هذا الحرف غير واحد منهم محمد بن سعدان النحوي في كتابه «كتاب القراءات» وهو ثقة مأمون وذكر أنها قراءة ابن عباس. قال أبو إسحاق: وقرئ (إنّ ابنك سرق) وهو يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السّرق ، والآخر اتّهم بالسرق. (شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢)

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي أهل القرية. قال سيبويه : ولا يجوز : كلّم هندا وأنت تريد غلام هند ؛ لأن هذا يشكل.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣)

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنته من غير أن تكون منه سرق. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أولى من الجزع. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) ؛ لأنه كان عنده أنّ يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت وإنما غاب عنه خبره لأن يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس ، ثم حبس فلما تمكّن احتال في أن يعلم أبوه خبره ولم يوجّه برسول ؛ لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إلى أبيه. وقال «بهم» لأنهم ثلاثة يوسف وأخوه والمتخلف مع أخيه.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤)

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ) قال أبو إسحاق : الأصل يا أسفي أبدل

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٢.


من الياء ألف لخفّة الألف والفتحة. (عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ) وقال : سأل قوم عن معنى شدّة حزن يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللعلماء في هذه ثلاثة أجوبة : منها أنّ يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا علم أنّ يوسف عليه‌السلام حيّ فندم على ذلك ، والجواب الثالث أبينها وهو أنّ الحزن ليس محظورا وإنما المحظور الولولة وشقّ الثياب والكلام بما لا ينبغي. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» (١) وقد بيّن الله جلّ وعزّ بقوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ).

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (٨٥)

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) قال الكسائي : يقال : فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت ، وزعم الفراء أنّ «لا» مضمرة وأنشد : [الطويل]

٢٤١ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٢)

والذي قال حسن صحيح ، وزعم الخليل وسيبويه أنّ «لا» تضمر في القسم لأنه ليس فيه إشكال ، ولو كان موجبا لكان باللام والنون. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) يقال : حرض وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم ، ورجل حارض وحرض إلّا أن حرضا لا يثنّى ولا يجمع ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان ، وحكى أهل اللغة : أحرضه الهمّ إذا أسقمه ورجل حارض أي أحمق.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦)

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) حقيقة البثّ في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيّأ له أن يخفيها وهو من بثثته أي فرّقته فسمّيت المصيبة بثّا مجازا.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧)

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا) أي اذهبوا إلى هذا الذي طلب منكم أخاكم واحتال عليكم في أخذه فسلوه عنه وعن مذهبه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل ٦٢ ، والبخاري في صحيحه ٢ / ١٠٥ ، والبيهقي في سننه ٤ / ٦٩ ، والمتقي في كنز العمال ٤٠٤٧٩ ، والقرطبي في تفسيره ٩ / ٤٢٩ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٩٥.

(٢) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٣٢ ، والكتاب ٣ / ٥٦٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٨ ، والخصائص ٢ / ٢٨٤ ، والدرر ٤ / ٢١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٨٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، وشرح المفصّل ٧ / ١١٠ ، ولسان العرب (يمين) ، واللمع ٢٥٩ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٩٣ ، وشرح الأشموني ١ / ١١٠ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٣٧ ، والمقتضب ٢ / ٣٦٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٨.


(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩٠)

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي الممتنع. (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) فخضعوا له وتواضعوا فرقّ ف (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قيل : فدلّ بهذا أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف عليه‌السلام حتى تركوا أخاه منفردا منه لا يقاومهم فتنبّهوا ف (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) على تخفيف الهمزة الثانية ، ويجوز تحقيقهما وأن يدخل بينهما ألفا ، ويجوز «إنك» على الخبر. (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) الهاء كناية عن الحديث والجملة الخبر ، وكذا الجملة الخبر في قوله جلّ وعزّ : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٩١)

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) الأصل همزتان خفّفت الثانية ولا يجوز تحقيقهما. واسم الفاعل مؤثر ، والمصدر إيثار. ويقال : أثرت التراب إثارة فأنا مثير وهو أيضا على أفعل ثم أعلّ ، والأصل أثير قلبت حركة الياء على الثاء فانقلبت الياء ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وأثرت الحديث على فعلت فأنا آثره. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) من خطىء يخطأ إذا أتى الخطيئة.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) تمّ الكلام ومعنى اليوم الوقت. (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فعل مستقبل فيه معنى الدعاء.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٣)

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) هذا نعت للقميص والقميص مذكّر. فأما قول الشاعر : [الكامل]

٢٤٢ ـ يدعو هوازن والقميص مفاضة

فوق النّطاق تشدّ بالأزرار (١)

فتقديره والقميص درع مفاضة ، (يَأْتِ بَصِيراً) جواب الأمر. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ

__________________

(١) الشاهد لجرير في ديوانه ٨٩٧ ، ولسان العرب (قمص) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٣٨٧ ، وتاج العروس (قمص) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٥ / ٧٠.


أَجْمَعِينَ) توكيد في موضع خفض ، ولا يجوز أن يكون نصبا على الحال لأنه تابع لما قبله.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦)

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) «أن» زائدة للتوكيد. (فَارْتَدَّ بَصِيراً) نصب على الحال.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

(آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) نصب بالفعل ، وكذا (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ). (سُجَّداً) على الحال.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) في موضع نصب لأنه نداء مضاف ، والتقدير يا ربّ. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نصب على النعت : وإن شئت كان نداء ثانيا.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢)

(ذلِكَ) ابتداء. (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) خبره. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر ثان. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون «ذلك» بمعنى الذي و (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبره أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) اسم «ما». (وَلَوْ حَرَصْتَ) أي على هدايتهم. (بِمُؤْمِنِينَ) خبر ما.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ) قال الخليل وسيبويه (١) هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه فصارت بمعنى «كم». قال أبو جعفر : ولا يجوز الوقف عليها إلّا وكأيّ كما

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٧٢.


تقول : أنت كزيد ، ولا يقول أحد من العرب : أنت كزيدن ، بنون ، وقد اعتلّ النحويون لهذا فقالوا : لا يوقف على التنوين لئلّا يشبه النون التي يقع عليها الإعراب إلّا أنه يجوز الرّوم والإشمام في المرفوع ، والرّوم في المخفوض ، والإسكان في المخفوض أجود ، وأكثر ما جاء في كلام العرب وأشعارها «كائن» من رجل قد رأيته على وزن كاع ، وقرأ بهذه اللغة جماعة من أئمة المسلمين منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو جعفر وشيبة والأعرج والأعمش ، وروي عن ابن محيصن وكئن على وزن كعن ، وفعل هذا بهذا الحرف لكثرته في كلامهم ، وقد روي عن الحسن وكاين بغير همز. (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ابتداء وخبر أي لا يتفكرون وبيّن أنّهم لا يتفكّرون بقوله جلّ وعزّ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) إذا قيل لهم : من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله جلّ وعزّ ثم يشركون معه غيره.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) نصب على الحال وأصله المصدر وقال محمد بن يزيد : جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم : وقع أمر بغتة وفجأة. قال أبو جعفر : ومعنى بغتة أصابه من حيث لم يتوقّع.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) ابتداء وخبر. (أَنَا) توكيد. (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف على المضمر. [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩)

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ابتداء (خَيْرٌ) خبره وزعم الفراء (١) أن الدار هي الآخرة أي أضيف الشيء إلى نفسه ، واحتجّ الكسائي بقولهم : صلاة الأولى : واحتجّ الأخفش بقولهم : مسجد الجامع. قال أبو جعفر : إضافة الشيء إلى نفسه محال لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليعرف به ، والأجود الصلاة الأولى لأنها أول ما صلّي حين فرضت الصّلوات. وأول ما أظهر فلذلك قيل لها أيضا : ظهر والتقدير ولدار حال الآخرة خير.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠)

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) هذه القراءة البينة عطف على استيأس

__________________

(١) انظر معاني الفرّاء ٢ / ٥٥.


وقرأ بها من الصحابة عائشة رضي الله عنها ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رحمهما‌الله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (١) والتقدير وظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذّبوا ، وقرأ مجاهد (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (٢) أي وظن قومهم أن الرسل قد كذّبوا لمّا رأوا من تفضّل الله جلّ وعزّ في تأخيره العذاب. وروي عن عاصم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) بنون واحد و (من) في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان ، ويجوز الرفع بمعنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٤٧ ، ومعاني الفراء ٢ / ٥٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٤٧ ، ومختصر ابن خالويه ٦٥.


(١٣)

شرح إعراب سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربّ يسّر :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ابتداء وخبر ، ويجوز أن يكون التقدير : هذا الذي أنزل إليك تلك آيات الكتاب التي وعدت بها. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ابتداء وخبر ، ويجوز أن يكون الذي عطفا على آيات في موضع رفع ويكون الحق مرفوعا نعتا للذي أو على إضمار مبتدأ. ويجوز أن يكون الذي في موضع خفض عطفا على الكتاب ويكون الحق رفعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز خفضه يكون نعتا للذي. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي بعد وضوح الآيات.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) ابتداء وخبر أي ولا بدّ لها من رافع فهذا من الآيات (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يكون «ترونها» في موضع نصب على الحال أي رفع السماوات مرئيّة بغير عمد ، ويجوز أن يكون مستأنفا أي رفع السموات بغير عمد ثم قال أنتم ترونها ، ويجوز أن يكون (تَرَوْنَها) في موضع خفض أي بغير عمد مرئية أي لو كانت بعمد لرأيتموها لكثافة العمد.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣)

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ابتداء وخبر فدلّ على قدرته جلّ وعزّ في الأرض بعد أن دلّ عليها في السماء. (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) حرّكت الياء في موضع النصب لخفة الفتحة ولم تنصرف لأنها قد صارت بمنزلة السالم. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [لقمان : ١٠] في موضع نصب أي كراهة أن تميد بكم.


(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ابتداء وخبر ، ودلّ بهذا على قدرته جلّ وعزّ (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) عطف ، ويجوز و «جنات» على «وجعل فيها جنات» ، ويجوز أن يكون في موضع خفض عطفا على كلّ (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بالخفض (١) قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (وزرع) بالرفع وما بعده مثله. قال الأصمعي : قلت لأبي عمرو بن العلاء كيف لا تقرأ «وزرع» بالجر؟ فقال : الجنات لا تكون من الزرع. قال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو عمرو رحمه‌الله لا يلزم من قرأ بالجر لأنّ بعده ذكر النخيل وإذا اجتمع مع النخيل الزرع قيل لهما : جنة ، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال «وزرع ونخيل» بالخفض أولى لأنه أقرب إليه واحتجّ بحكاية سيبويه (٢) : خشّنت بصدره وصدر زيد ، وأنّ الجرّ أولى من النصب لقربه منه كذا «وزرع» أولى لقربه من أعناب ، «صنوان» جمع صنو مثل نسوة ونسوان وقنو وقنوان ، وحكى سيبويه قنوان ، وقال الفراء : «صنوان» بالضمّ لغة تميم وقيس والكسر لغة أهل الحجاز ، فإن جمعت صنوا في أقلّ العدد قلت : أصناء والكثيرة صنيّ وصنيّ. وقرأ الحسن وعاصم وحميد وابن محيصن (يُسْقى) بالياء على تذكير النبت أو الجمع ، واحتجّ أبو عمرو للتأنيث بأن بعده (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها) ولم يقل بعضه قال أبو جعفر : وهذا احتجاج حسن ، وقرأ أهل الحرمين وأهل البصرة (وَنُفَضِّلُ) بالنون ، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ويفضّل بالياء قال أبو عبيد ونفضّل على الاستئناف ، ويفضّل على أول السورة. وهذا شيء قد تقدّم وانفصل بقوله عزوجل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤]. قال أبو جعفر : وهذا احتجاج حسن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في موضع خفض أي عقلاء.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥)

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فيجب أن يعجب من قولهم العقلاء لأنه جهل إذ كان الله جلّ وعزّ قد دلّهم على قدرته وأراهم من آياته ما هو أعظم من إحياء الموتى. و «عجب» مرفوع ينوى فيه التأخير على خبر المبتدأ. (أَإِذا كُنَّا تُراباً) العامل في «إذا» كنا لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها فإذا قرأ «أإنّا» فالعامل «إذا» فعل محذوف

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٥٦ ، وتيسير الداني ١٠٧.

(٢) انظر الكتاب ١ / ١٢٣.


والتقدير أنبعث إذا. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي من سأل عن البعث سؤال منكر له بعد البراهين فقد كفر ونظير هذا (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] أي جدال منكر. (وَأُولئِكَ) مبتدأ. (والأغلال) مبتدأ ثان. (فِي أَعْناقِهِمْ) في موضع الخبر ، والجملة خبر الأول. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) مبتدأ وخبر.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قال قتادة : بالعقوبة قبل العافية قال أبو إسحاق : هو من قولهم : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) قد ذكرنا ما فيه. قال الفراء (١) : بنو تميم يقولون : مثلات بسكون الثاء. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) روي عن ابن عباس أنه قال : ليس في القرآن أرجأ من هذه.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وإنما قالوا هذا بعد ظهور الآيات والبراهين على التعنّت والتّهزّء فقال الله جلّ وعزّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي تنذرهم العذاب لكفرهم بعد البراهين (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه ، وفيه تقديران في العربية : يكون هاد معطوفا على منذر ، وهذا من أحسن ما قيل فيه لأن المنذر هو الهادي إلى الله جلّ وعزّ ، والتقدير : إنما أنت منذر هاد ، والتقدير الآخر أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والتقدير : ولكل قوم نبيّ هاد.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ابتداء وخبر ، وكذا (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩)

(عالِمُ الْغَيْبِ) نعت ، وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وإن شئت بالابتداء وما بعده خبره ويجوز في الإعراب النصب على المدح والخفض على البدل و (الْكَبِيرُ) الملك المقتدر على كل شيء شيء و (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء ، وحذفت الياء لأنه رأس آية.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٥٩.


(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠)

(سَواءٌ مِنْكُمْ) مرفوع ينوى به التأخير. قال أبو إسحاق : والتقدير : ذو سواء ، كما يقال : رجل عدل ، وقيل : سواء بمعنى مستو وهو مرفوع بالابتداء. قال أبو إسحاق : ولا يجوز عند سيبويه هذا لأنه لا يبتدأ بنكرة. قال أبو جعفر : والمعنى أنه يستوي عند الله جلّ وعزّ هؤلاء وعلمه بهم واحد ، وقال حسان : [الوافر]

٢٤٣ ـ فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء (١)

أي بمنزلته عند الله جلّ وعزّ.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وال) (١١)

(لَهُ مُعَقِّباتٌ) جمع معقّبة والهاء للمبالغة ولهذا جاز (يَحْفَظُونَهُ) على التذكير (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي حفظهم إياه من أمر الله جلّ وعزّ ؛ أمرهم أن يحفظوه مما لم يقدر عليه وقيل المعنى أن المعقبات من أمر الله جلّ وعزّ وهذان الجوابان على قول من قال : أنّ المعقّبات الملائكة وأما من قال : أن المعقّبات الشّرط فالمعنى عنده : يحفظونه من أمر الله على قولهم. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) فيه قولان : أحدهما أن المعنى : إن الله لا يغيّر ما بإنسان من نعمة وكرامة ابتدأ بها بأن يعاقبه أو يعذبه إلا أن يغيّر ما بنفسه ، والقول الآخر : إن الله جلّ وعزّ لا يغيّر ما بقوم مؤمنين صالحين فيسميهم كافرين فاسقين إلا أن يفعلوا ما يوجب ذلك ولا يأمر بإذلالهم إلّا أن يغيّروا ما بأنفسهم : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) فحذّرهم الله جلّ وعزّ بعد أن أعلم أنّه يعلم سرائرهم وما يخفون. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي من وليّ ينصرهم ويمنع منهم.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢)

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ابتداء وخبر. (خَوْفاً وَطَمَعاً) على المصدر. وقول أهل التفسير خوفا للمسافر وطمعا للحاضر على الأكثر. وحقيقته على العموم لكلّ من خاف أو طمع (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) جمع سحابة فلهذا نعت بالثقال.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣)

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أهل التفسير يقولون : الرّعد اسم ملك فهذا حقيقة ،

__________________

(١) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه ٧٦ ، وتذكرة النحاة ص ٧٠ ، والدرر ١ / ٢٩٦ ، ومغني اللبيب ٦٢٥ ، والمقتضب ٢ / ١٣٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ص ٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٨.


وقيل ؛ أنّه مجاز وأنه الصّوت فيكون معنى يسبح يدلّ على تنزيه الله جلّ وعزّ من الأشباه فنسب التسبيح إليه مجازا.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أي وما دعاء الكافرين الأوثان. (إِلَّا فِي ضَلالٍ) عن الصواب وعن الانتفاع بالإجابة.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥)

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد تكلّم العلماء في معنى هذا ، ومن أحسن ما قيل أنّ السجود هاهنا الخضوع لتدبير الله جلّ وعزّ وتصريفه من صحّة وسقم وغيرهما. (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي ينقادون على ما أحبّوا أو كرهوا لا حيلة لهم في ذلك ، وظلالهم أيضا منقادة لتدبير الله جلّ وعزّ وإجرائه الشمس بزيادة الظلّ ونقصانه وزواله بتصرّف الزمان وجري الشّمس على ما دبّره جلّ وعزّ.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

(هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي المؤمن والكافر. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي الكفر والإيمان.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

(فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) قال أهل التفسير : أي بقدر ملئها ، وقيل : ما قدّر لها. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) تم الكلام ثم قال جلّ وعزّ (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ) رفع بالابتداء عند البصريين ، وقال الكسائي : ارتفع لأن معناه مما توقدون عليه في النار زبد ، قال : وهو الغثاء. وقد غثى يغثي غثيا وغثيانا وهو ما لا ينتفع به مثله أي مثل زبد البحر. (كَذلِكَ) في موضع نصب ، (فَأَمَّا الزَّبَدُ) أي من هذه الأشياء. (فَيَذْهَبُ جُفاءً) على الحال من قولهم : انجفأت القدر إذا رمت بزبدها ، وهو الغثاء أيضا.


(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨)

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) في موضع رفع يجوز أن يكون التقدير جزاء الحسنى ، وقيل : هو اسم للجنة. أولئك لهم سوء الحساب والمناقشة والتوبيخ وإحباط الحسنات بالسيئات.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠)

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) في موضع رفع على البدل من قوله جلّ وعزّ (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٢١)

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي يصلون أرحامهم ومن أمر الله جلّ وعزّ بإكرامه وإجلاله من أهل الطاعة.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢)

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون ، إذا همّوا بالسّيئة فكّروا فارتدعوا ودفعوها بالاستغفار والإقلاع. وهذا حسن من الفعل ، وينهون أيضا عن المنكر بالموعظة أو بالغلظة فهذا كلّه حسن. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى. (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ) وهذا من مشكل النحو لأن أكثر النحويين يقولون : ضربته وزيد ـ قبيح حتى يؤكد المضمر ، فتكلّم النحويون في هذا حتى قال جماعة منهم : قمت وزيد ، جيد بألف لأن هذا ليس بمنزلة المجرور لأن المجرور لا ينفصل بحال ، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن الأجود : قمت وزيدا بمعنى معا إلّا أن يطول الكلام فتقول : قمت في الدار وزيد ، وضربتك أمس وزيد وإن شئت نصبت. وإنما ينظر في هذا إلى ما كان منفصلا فيشبّه بالتوكيد. قال أبو جعفر : يجوز عندي ـ والله أعلم ـ أن يكون «من» في موضع رفع ويكون التقدير أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم لهم عقبى الدار.

(وَالْمَلائِكَةُ) ابتداء. (يَدْخُلُونَ) في موضع الخبر ، والتقدير : يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ).


(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) هذا أيضا على التعنّت بعد أن رأوا الآيات.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨)

(الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب على البدل من (من). (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي بوعده. (أَلا) تنبيه. (بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي قلوبهم.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩)

(الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع رفع بالابتداء وخبره (طُوبى لَهُمْ) ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) في موضع نصب بدلا من «من» وبمعنى أعني ، ويجوز أن يكون (طُوبى) في موضع نصب بمعنى جعل الله لهم طوبى.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠)

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) الكاف في موضع نصب والأمة الجماعة.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) «أنّ» في موضع رفع أي لو وقع هذا وللعلماء في هذه الآية أقوال منها أن الجواب محذوف ، والتقدير لكان هذا القرآن ، وقيل : التقدير لما آمنوا. قال الكسائي : المعنى : وددنا أنّ قرآنا سيّرت به الجبال فهذا بغير حذف ، وللفراء فيها قول حسن. قال : يكون الجواب فيما قبله أي وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) على الحال. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) وفيه لغات : يقال : يائس ويقال : ييئس على فعل يفعل ، ويقال يئس يئس ، المستقبل على لفظ الماضي. (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) في موضع نصب.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) رفع بالابتداء ، والخبر ، محذوف دلّ عليه


(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) قال الكسائي والفراء : التقدير كشركائهم (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سموهم بخلق خلقوه أو فعل فعلوه بقدرتهم (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) قيل : معناه ليس له حقيقة ، وقيل : أو بظاهر من القول قد ذكر في الكتب. وقرأ يحيى ابن وثّاب (وَصُدُّوا) بكسر الصاد لأن الأصل صددوا فقلبت حركة الدال على الصاد.

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٣٤)

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لعنة الله جلّ وعزّ إياهم ومعاداة المؤمنين لهم.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) رفع بالابتداء عند سيبويه ، والتقدير عنده : فيما يقصّ عليكم مثل الجنّة أو مثل الجنّة فيما نقصّ عليكم ، وقال الفراء (١) : الرافع له (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والمعنى الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما يقال : حلية فلان أسمر. قال محمد بن يزيد : من قال : مثل بمعنى صفة فقد أخطأ لأنه إنما يقال : مثل عمرو «ومثل» مأخوذ من المثال والحذو ، وصفة مأخوذة من التحلية والنعت ، وإنما التقدير : فيما يقصّ عليكم مثل الجنة. (أُكُلُها دائِمٌ) وفيها كذا وفيها كذا. (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) ابتداء وخبر ، وكذا (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣٦)

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قيل : يعني به المؤمنين والكتاب القرآن. (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين تحزّبوا على عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ينكرون ما لم يوافقهم ، وقيل الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى يفرحون بالقرآن لأنه مصدق بأنبيائهم وكتبهم وإن لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩)

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا بأن يأذن له أن يسأل الآية فيعلم أنّ في ذلك صلاحا. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل أمة كتاب مكتوب وأمر مقدّر مقضيّ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٦٥.


تقف عليه الملائكة ليعلم بذلك قدرة الله جلّ وعزّ ، وكذلك (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وقد بيّنّا معنى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (١).

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٤٠)

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

(نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) جمع طرف. وقد ذكرنا قول أهل التفسير فيه ، وقال عبد الله بن عبد العزيز : الطرف الكريم من كل شيء وجمعه أطراف كما قال الأعشى : [الطويل]

٢٤٤ ـ هم الطّرف النّاكي العدوّ وأنتم

بقصوى ثلاث تأكلون الوقائصا (٢)

قال : وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «العلم أودية في أيّ واد أخذت منه حسرت فخذ من كلّ شيء طرفا» أي خيارا وقال الله جلّ وعزّ (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي من علمائها ، والعلماء هم الخيار الكرماء ، ومنه «ما يدري أيّ طرفيه أطول» (٣) أي ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه أو من ناحية أمه لبلهه؟ والطّرف : الفرس الكريم ، والطّارف ما استفيد.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢)

(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي لله جلّ وعزّ المكر الثابت الذي يحيق بأهله. ومعنى المكر من الله جلّ وعزّ أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلم. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) والكافر بمعنى واحد يؤدّي عن جمع.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

(قُلْ كَفى بِاللهِ) في موضع رفع. (شَهِيداً) على البيان. (وَمَنْ عِنْدَهُ) في موضع خفض عطفا على اللفظ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على المعنى. (عِلْمُ الْكِتابِ) رفع بالابتداء.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٨٧.

(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٩٩ ، ولسان العرب (طرف) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٣٢١ ، وتاج العروس (طرف) وبلا نسبة في جمهرة اللغة ٨٩٥. «الباد والعدوّ».

(٣) انظر مجمع الأمثال رقم (٣٥٠٣).


(١٤)

شرح إعراب سورة إبراهيم عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك في موضع رفع على النعت لكتاب. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) لام كي ، والتقدير ليخرج الناس (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) والأذن يستعمل بمعنى الأمر مجازا (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٢)

(اللهِ) على البدل والرفع على الابتداء ، وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وكذا (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ).

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

قال أبو إسحاق : عوجا مصدر في موضع الحال. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول: هو منصوب على أنه مفعول ثان وهذا مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف ، والتقدير ويبغون بها عوجا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) نصب بلام كي. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) مستأنف ، وعند أكثر النحويين لا يجوز عطفه على ما قبله ، ونظيره (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ


وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) [الحج : ٥] وأنشد النحويون : [الرجز]

٢٤٥ ـ يريد أن يعربه فيعجمه (١)

قال أبو إسحاق : يجوز النصب (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) على أن يكون مثل (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي صار أمرهم إلى هذا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب أي بأن أخرج قومك. وهذا مذهب سيبويه كما يقال : أمرته أن قم والمعنى أمرته أن يقوم ثم حمل على المعنى كما قال : [الكامل]

٢٤٦ ـ وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا (٢)

ويجوز أن تكون «أن» لا موضع لها من الإعراب مثل : أرسلت إليه أن قم ، والمعنى أي قم ، ومثله قوله سبحانه (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦].

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٦)

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ) في موضع آخر بغير واو ، إذا كان بالواو فهو عند الفراء(٣) بمعنى يعذّبونكم ويذبّحونكم فيكون التذبيح غير العذاب الأول ويجوز عند غيره أن يكون بعض الأول ، وإذا كان بغير واو فهو تبيين للأول وبدل منه كما أنشد سيبويه : [الطويل]

٢٤٧ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ١٨٦ ، والكتاب ٣ / ٥٩ ، وللحطيئة في ديوانه ٢٣٩ ، والأزهية ٢٤٢ ، والدرر ٦ / ٨٦ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ١٤٩ ، والمقتضب ٢ / ٣٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣١ ، ولسان العرب (حضض).

(٢) الشاهد للمهلهل بن ربيعة في المقتضب ٤ / ١٣٢ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٧٣ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٣٥٨ ، وشرح المفصّل ٤ / ٢٥ وعجزه :

«وتركت تغلب غير ذات سنام»

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٦٨.

(٤) الشاهد لعبيد بن الحرّ في خزانة الأدب ٩ / ٩٠ ، والدرر ٦ / ٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٦ ، وسرّ صناعة الإعراب ص ٦٧٨ ، وشرح المفصّل ٧ / ٥٣ ، وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ١٠٠ ، ورصف المباني ص ٣٢ ، وشرح الأشموني ٤٤٠ ، وشرح المفصّل ١٠ / ٢٠ ، ولسان العرب (نور) والمقتضب ٢ / ٦٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٨.


(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٨)

(فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) كسرت إنّ لأن ما بعد الفاء في المجازاة مستأنف واللام للتوكيد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) على البدل ولم يخفض ثمود لأنه جعل اسما للقبيلة ، ويجوز خفضه يجعل اسما للحيّ. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) في موضع خفض معطوف. (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) رفع بالفعل. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

وإن شئت حذفت الضمّة من السين لثقلها. (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فإذا أفردت قلت : فم والأصل فجمع على أصله مثل حوض وأحواض.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ) في موضع رفع بكان.

(وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)

(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) واللازم أذي يأذى أذى.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤)

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ومن أمال أراد أن يدلّ على أنه من خفت.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (١٥)

(وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ويجوز رفع عنيد نعتا لكلّ.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧)

(يَتَجَرَّعُهُ) أي تكرهه الملائكة على ذلك ليعذّب به. (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي ينزل من حلقه. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي يأتيه ما يمات منه من كلّ مكان من جسده. (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) قيل : من وراء ما يعذّب به عذاب آخر غليظ.


(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨)

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) التقدير عند سيبويه (١) والأخفش : وفيما يقصّ عليكم ، وقال الكسائي : إنما مثل أعمال الذين كفروا كرماد ، وقال غيره (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ. (أَعْمالُهُمْ) بدل منه ، والتقدير : مثل أعمالهم ، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا كما حكي صفة فلان أنّه أحمر. قال الفراء (٢) ولو قرأ قارئ بالخفض أعمالهم جاز ، وأنشد : [الرجز]

٢٤٨ ـ ما للكمال مشيها وئيدا (٣)

(فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) على النسب عند البصريين بمعنى ذي عاصف ، وأجاز الفراء أن يكون بمعنى في يوم عاصف الريح ، وأجاز أيضا أن يكون عاصف للريح خاصّة ثم يتبعه يوما ، قال : وحكى نحويون : هذا جحر ضبّ خرب (٤). قال أبو جعفر : هذا مما لا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ عليه ، وقد ذكر سيبويه أن هذا من العرب غلط واستدلّ بأنهم إذا ثنّوا قالوا : هذان جحرا ضبّ خربان ؛ لأنه قد استبان بالتثنية والتوحيد ، ونظير هذا الغلط قول النابغة (٥) : [الكامل]

٢٤٩ ـ أمن آل ميّة رائح أو مغتدي

عجلان ذا زاد وغير مزوّد

زعم البوارح أنّ رحلتنا غد

وبذاك خبّرنا الغراب الأسود

فلا يجوز مثل هذا في كلام ولا لشاعر نعرفه فكيف يجوز في كتاب الله جلّ وعزّ ثم أنشد الفراء بيتا : [البسيط]

٢٥٠ ـ يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب (٦)

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ١٩٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٧٣.

(٣) الرجز للزبّاء في لسان العرب (وأد) ، و (صرف) و (زهق) ، وأدب الكاتب ص ٢٠٠ ، والأغاني ١٥ / ٢٥٦ ، وأوضح المسالك ٢ / ٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٧٤٢ ، وخزانة الأدب ٧ / ٢٩٥ ، والدرر ٢ / ٢٨١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٦٩ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٢ ، ومغني اللبيب رقم (٨١٧) ، وللزباء أو للخنساء في المقاصد النحوية ٢ / ٤٤٨ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ١٥٩ ، ومقاييس اللغة ٦ / ٧٨ ، وكتاب العين ٧ / ١١٦ ، وأساس البلاغة (وأد) ، وبعده :

«أجندلا يحملن أم صديدا»

(٤) انظر الكتاب ١ / ١١٣.

(٥) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٨٩ ، والبيت الأول في الأزهيّة ١١٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٣٣ ، والخصائص ١ / ٣٤٠.

(٦) الشاهد لأبي الغريب النصري في خزانة الأدب ٥ / ٩٠ ، والدرر ٥ / ٦٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ـ


وزعم أن أبا الجراح أنشده إياه بخفض «كلّهم» ، وهذا مما لا يعرج عليه لأن النصب لا يفسد الشعر ، ومن قرأ «في يوم عاصف» بغير تنوين أقام الصفة مقام الموصوف أي في يوم ريح عاصف.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١)

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي من قبورهم ونصب (جَمِيعاً) على الحال. (تَبَعاً) بمعنى ذي تبع ، ويجوز أن يكون جمع تابع. قال علي بن سليمان التقدير سواء علينا جزعنا وصبرنا.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢)

(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) في موضع نصب استثناء ليس من الأول. (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) بفتح الياء لأن ياء النفس فيها لغتان : الفتح والتسكين إذا لم يكن قبلها ساكن فإذا كان قبلها ساكن فالفتح لا غير ، ويجب على من كسرها أن يقرأ (هِيَ عَصايَ) [طه : ١٨] بكسر الياء ، وقد قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة (بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي) (١) بكسر الياء ـ قال الأخفش سعيد : ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويين ، وقال الفراء : لعلّ الذي قرأ بهذا ظنّ أن الباء تخفض الكلمة كلّها. قال أبو جعفر : فقد صار هذا بإجماع لا يجوز وإن كان الفراء قد نقض هذا وأنشد : [الرجز]

٢٥١ ـ قال لها هل لك يا تافيّ

قالت له ما أنت بالمرضيّ (٢)

ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على الشّذوذ. ومعنى (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) من قبل أنه قد كان مشركا قبلهم ، وقيل : من قبل الأمر.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦)

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ابتداء وخبر ، وأجاز الكسائي والفراء : ومثل

__________________

ـ ٢ / ١١ ، وتذكرة النحاة ص ٥٣٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٦٢ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٢٨ ، ولسان العرب (زوج) ، ومغني اللبيب ص ٦٨٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٥.

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٠٨ ، ومعاني القرآن ٢ / ٧٥.

(٢) الشاهد للأغلب العجلي في الخزانة ٢ / ٢٥٧ ، وبلا نسبة في معاني القرآن ٢ / ٧٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٠٩ ، والمحتسب ٢ / ٤٩.


كلمة خبيثة على النسق وحكيا أن في قراءة أبيّ وضرب مثل كلمة خبيثة (١).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨)

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) مفعولان.

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٢٩)

(جَهَنَّمَ) منصوب على البدل من دار ، ولم تنصرف لأنها مؤنّثة معرفة مشتقّة من قولهم : ركيّة جهنّام (٢) إذا كانت مقعّرة.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠)

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) نصب بلام كي وبعضهم يسميها لام العاقبة. والمعنى أنه لما آل أمرهم إلى هذا كانوا بمنزلة من فعل ذلك ليكون هذا.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١)

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) في (يُقِيمُوا) للنحويين أقوال : قال الفراء : تأويله الأمر. قال أبو إسحاق بمثل هذا قال المعنى ليقيموا الصلاة ثم حذفت اللام لأنه قد تقدم الأمر قال: ويجوز أن يكون مبنيا لأن اللام حذفت وبني لأنه بمعنى الأمر. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : حدثنا محمد بن يزيد عن المازني قال : التقدير : قل للذين آمنوا أقيموا الصلاة يقيموا ، وهذا قول حسن لأن المؤمنين إذا أمروا بشيء قبلوا فهو جواب الأمر. (وَيُنْفِقُوا) عطف عليه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) جعلت «لا» بمعنى ليس ، وإن شئت رفعت ما بعدها بالابتداء ، ويجوز رفع الأول ونصب الثاني بغير تنوين وبتنوين ، ويجوز نصب الأول بغير تنوين ورفع الثاني بتنوين ونصبه بتنوين. قال الأخفش : خلال جمع خلّة وقال أبو عبيد : هو مصدر مثل القتال ، وأنشد : [الطويل]

٢٥٢ ـ ولست بمقليّ الخلال ولا قال (٣)

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٣٣)

(دائِبَيْنِ) على الحال أي دائبين فيما يؤدّي إلى صلاح الناس.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٤١٠.

(٢) جهنام : بعيدة القعر.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٣٥ ، ولسان العرب (خلل) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٥٦٧ ، وصدره :

«صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى»


(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) في معناه أقوال فمذهب الفراء من كل سؤالكم ، كما تقول : أنا أعطيته سؤاله وإن لم يسأل شيئا أي ما لم يسأل لسأله ، وقال الأخفش : وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا ، (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] أي من كلّ شيء في زمانها شيئا. قال : ويكون على التكثير ، وحكى سيبويه : ما بقي منهم مخبّر ، وذلك معروف في كلام العرب ، وفيه قول رابع وهو أنّ الناس قد سألوا على تفرّق أحوالهم الأشياء فخوطبوا على ذلك.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥)

(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) مفعولان. (وَاجْنُبْنِي) ويقال على التكثير : جنّبني ، ويقال: أجنبني. (أَنْ نَعْبُدَ) في موضع نصب والمعنى من أن نعبد الأصنام.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦)

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من أهل ديني ومن أصحابي ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي له إن تاب.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ) وحذف المفعول لأن «من» تدلّ عليه وكذا (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٤٢)

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) مفعولان.

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

وقال أبو إسحاق (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) نصب على الحال. والمعنى ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين أي مسرعين (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) رفع بيرتد. (وَأَفْئِدَتُهُمْ) مبتدأ. (هَواءٌ) خبره.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) (٤٤)

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ليس لجواب الأمر ولكنه معطوف


على يأتيهم أو مستأنف. وقد أشكل هذا على بعض النحويين حتّى قال : لا ينصب جواب الأمر بالفاء ، وهذا خلاف ما قال الخليل رحمه‌الله وسيبويه ، وقد أنشد النحويون : [الرجز]

٢٥٣ ـ يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (١)

وإنّما امتنع النصب في الآية لأن المعنى ليس عليه (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي من زوال عمّا أنتم عليه من الأمهال إلى الانتقام والمجازاة.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) «إن» بمعنى «ما» وهذا يروى عن الحسن كذا ، وأنّ مثله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] ، وكذا (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] وقد قيل في هاتين الآيتين غير ما قال وذلك في مواضعهما ، وقرأ مجاهد وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال (٢) بفتح اللام ورفع الفعل ، وبه قرأ الكسائي ، وكان محمد بن يزيد فيما حكي عنه يختار فيه قول قتادة. قال : هذا لكفرهم مثل قوله جلّ وعزّ : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠]. قال أبو جعفر : وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن هذا جاء على كلام العرب لأنهم يقولون : لو أنك بلغت كذا ما وصلت إلى شيء وإن كان لا تبلغه وكذا في «إن» ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٥٤ ـ لئن كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقّيت أسباب السّماء بسلّم (٣)

وروي عن عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم أنهم قرءوا وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال (٤) ، بالدال ورفع الفعل. والمعنى في هذا بين وإنما هو تفسير وليس بقراءة.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧)

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) مجاز كما يقال : معطي درهم زيدا ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٥٥ ـ ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع (٥)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٠٢).

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٧٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٢٦ ، ورويت هذه القراءة عن الإمام علي.

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ١٧٣ ، وشرح المفصّل ٢ / ٧٤ ، ولسان العرب (سبب) و (ثمن) و (رقا).

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٦٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٢٥ ، وهي قراءة علي وعمر وعبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيّ وأبي إسحاق السبيعي وزيد بن علي.

(٥) الشاهد بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٤٠ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢١٦ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٣٥ ، والدرر ٦ / ٣٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٣.


(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) اسم ما لم يسمّ فاعله (غَيْرَ الْأَرْضِ) خبره. وفي معناه قولان : أحدهما أنها تبدّل أرضا غير هذه وفي هذا أحاديث ، والقول الآخر أنّ تبديلها إذهاب جبالها وجعلها قاعا صفصفا ، وتبديل السماء انفطارها وانتثار كواكبها وتكوير شمسها ، كما يقال : بدّلت خاتمي أي غيّرته عمّا كان عليه.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩)

(مُقَرَّنِينَ) نصب على الحال ، (مُقَرَّنِينَ) معطوفة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم بالسّلاسل والأغلال. والقرن بفتح الراء الحبل الذي يجمع به بين الشيئين. قال جرير : [البسيط]

٢٥٦ ـ وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن (١)

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) ابتداء وخبر أي هذا الوعظ قد بلغ لهم إن اتّعظوا (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) لام كي ، والفعل محذوف لعلم السامع. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) عطف عليه.

__________________

(١) الشاهد لجرير في ديوانه ١٢٨ ، والكتاب ٢ / ٩٣ ، وجمهرة اللغة ١٣٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٥٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٦٧ ، وكتاب الصناعتين ٢٤ ، ولسان العرب (لزز) و (قعس) و (قنعس) ، و (لين) ، والمقتضى ٤ / ٤٦ ، وبلا نسبة في الردّ على النحاة ٧٤ ، وشرح المفصّل ١ / ٣٥.


(١٥)

شرح إعراب سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) التقدير هذا تلك آيات الكتاب.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢)

(رُبَما) فيه ثمانية أوجه : قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (رُبَما) (١) مثقلة ، وقرأ أهل المدينة وعاصم (رُبَما) (٢) مخفّفة. والأصل الثقيل ، والعرب تخفف المثقّل ولا تثقل المخفف. وقال سيبويه (٣) : لو سميت رجلا رب مخفّفة ثم صغرته رددته إلى أصله فقلت : ربيب. قال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن الأصمعي قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ «ربما» مخفّفة ومثقلة. قال : التخفيف لغة أهل الحجاز والثقيل لغة تميم وقيس وبكر. وحكى أبو زيد أنه يقال : ربّتما وربّتما ، وهذا على تأنيث الكلمة. فهذه أربع لغات وحكى أبو حاتم : ربما وربّما وربتما وربتما. ولا موضع لها من الإعراب عند أكثر النحويين لأنها كافة جيء بها لأن ربّ لا يليها الفعل ، فلما جئت بما وليها الفعل عند سيبويه لا غير إلّا في الشعر فإنه يليها الابتداء والخبر ، وأنشد : [الطويل]

٢٥٧ ـ صددت فأطولت الصّدود وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم (٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٠.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٠.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٥٠٢ قال (ولو حقرت «ربّ» مخفّفة لقلت ربيب).

(٤) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ٥٠٢ ، والكتاب ١ / ٦٢ ، وللمرار الفقعسي في ديوانه ٤٨٠ ، والأزهيّة ٩١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٢٦ ، والدرر ٥ / ١٩٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٠٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٧ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ١٤٥ ، والخصائص ١ / ١٤٣ ، والدرر ٦ / ٣٢١ ، وشرح المفصّل ٧ / ١١٦ ، ولسان العرب (طول) و (قلل) ، والمحتسب ١ / ٩٦ ، والمقتضب ١ / ٨٤ ، والممتع في التصريف ٢ / ٤٨٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٣.


والجيد قوله :

٢٥٨ ـ وطال ما وطال ما وطالما

سقى بكفّ خالد وأطعما (١)

والذي حكيناه قول الخليل وسيبويه ، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أن هذا جائز في الكلام والشعر كما أن إنما يكون بعدها الفعل والابتداء والخبر ، وسمعت محمد بن الوليد يقول : ليس في حروف الخفض نظير لربّ لأن سبيل حروف الخفض أن يضاف بها قبلها إلى ما بعدها وسبيل ربّ أن يضاف ما بعده من الفعل إلى ما قبله ، وزعم الأخفش أنه يجوز أن تكون «ما» في موضع خفض على أنها نكرة أي ربّ شيء أو ربّ ودّ. يقال : وددت أنّ ذلك كان ، إذا تمنيته ودّا لا غير ، ووددت الرجل ، إذا أحببته ودّا ، بضم الواو ومودّة وودادة وودادا.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

(ذَرْهُمْ) في موضع أمر فيه معنى التهديد ، ولا يقال : وذر ولا واذر ، والعلة فيه عند سيبويه أنهم استغنوا عنه بترك ، وعند غيره ثقل الواو فلما وجدوا عنها مندوحة تركوها ، (يَأْكُلُوا) جواب الأمر (وَيَتَمَتَّعُوا) عطف عليه.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤)

في موضع الحال ، وفي غير القرآن يجوز حذف الواو. ودلّ بهذا على أن كل مهلك ومقتول فبأجله.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨)

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) (٢) الأصل تتنزّل فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

والأصل في (إِنَّا) إنّنا (نَحْنُ) في موضع نصب على التوكيد بإنّ ويجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء ، ويجوز أن تكون لا موضع لها تكون فاصلة. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) اللام الأولى لام خفض والثانية لام توكيد ولم يحتج إلى فرق في المضمر لاختلاف العلامة.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢)

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر ، وقد تكلّم الناس في

__________________

(١) ورد صدر الشاهد فقط في مجالس ثعلب ٣٢٦.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٠.


المضمر هاهنا فقيل : هو كناية عن التكذيب ، وقيل : عن الذكر ، وقيل : هو مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي عقوبته.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) (١٤) ولغة هذيل يعرجون ، وفي المضمر قولان : أحدهما أن التقدير : فظل الملائكة ، والآخر أن التقدير : ولو فتحنا على هؤلاء الكفار المعاندين بابا من السماء فأدخلناهم فيه ليعرجوا إلى السماء فيكون ذلك آية لتصديقك لدفعوا العيان ، وقالوا إنما سكّرت أبصارنا وسحرنا حتى رأينا الشيء على غير ما هو عليه ، ويقال : سكر وسكّر على التكثير أي غطّي على عقله ، ومنه قيل : سكران ، وهو مشتق من السّكر.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨)

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ).

(مِنْ) في موضع نصب. قال الأخفش : استثناء خارج ، وقال أبو إسحاق : يجوز أن تكون «من» في موضع خفض ، ويكون التقدير إلا ممّن استرق السمع.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩)

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) على إضمار فعل.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠)

قال الفراء (١) : «من» في موضع نصب والمعنى وجعلنا لكم فيها المعايش والإماء والعبيد. قال : ويجوز أن يكون «من» في موضع خفض أي ولمن لستم له برازقين ، والقول الثاني عند البصريين لحن لأنه عطف ظاهرا على مكنيّ مخفوض ، ولأبي إسحاق فيه قول ثالث حسن غريب قال «من» معطوفة على تأويل لكم ، والمعنى : أعشناكم أي رزقناكم ورزقنا من لستم له برازقين.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١)

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي نحن مالكون له وقادرون عليه ، وقيل : يعني به المطر.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٨٦.


(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢)

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قد ذكرناه ، وقرأ طلحة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وأرسلنا الريح لواقح (١) وهذا عند أبي حاتم لحن لأن الريح واحدة فلا تنعت بجمع. قال أبو حاتم : يقبح أن يقال: الريح لواقح. قال وأما قولهم : اليمين الفاجرة تدع الدار بلاقع. فإنّما يعنون بالدّار البلد كما قال عزّ وتعالى: (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨]. وقال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو حاتم في قبح هذا غلط بيّن ، وقد قال الله جلّ وعزّ : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] يعني الملائكة لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك ، وكذا الريح بمعنى الرياح ، وقال سيبويه : وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وحكى الفراء في مثل هذا جاءت الريح من كلّ مكان يعني الرياح.

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) حكيم في تدبيره عليم به.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦)

قد ذكرناه (٢). ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس رحمه‌الله قال : «مسنون» على الطريق ، وتقديره على سنن الطريق وسننها ، وسننها ، وإذا كان كذلك أنتن وتغيّر لأنه ماء منفرد.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

وروي عن الحسن أنه قرأ والجانّ خلقنه (٣) بالهمز كأنه كره اجتماع الساكنين. والأجود بغير همز ولا ينكر اجتماع ساكنين إذا كان الأول حرف مد ولين والثاني مدغما. (وَالْجَانَ) نصب بإضمار فعل.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩)

فقوله (ساجِدِينَ) نصب على الحال.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠)

مذهب الخليل وسيبويه (٤) أنه توكيد بعد توكيد ، وقال محمد بن يزيد : أجمعون يفيد أنهم غير متفرّقين. قال أبو إسحاق : هذا خطأ ولو كان كما قال لكان نصبا على الحال.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٠.

(٢) انظر معانيه في البحر المحيط ٥ / ٤٤٠.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٧١ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٤٠.

(٤) انظر الكتاب ٢ / ٤٠٧.


(إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١)

(إِلَّا إِبْلِيسَ) قال أبو إسحاق : استثناء ليس من الأول يذهب إلى قول من قال : إن إبليس ليس من الملائكة ولا كان منهم. وهذا قول صحيح يدلّ عليه أن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه خلق الجانّ من نار والملائكة لم تخلق من نار.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣٢)

(ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ) في موضع نصب.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

ليس إجابة له إلى ما سأل وإنما هو على التهاون به إذ كان لا يصل إلى ضلال أحد إلّا من لا يفلح لو لم يوسوسه.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩)

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) فيه أقوال : فمن أحسنها أن المعنى : بما خيّبتني من الجنة يقال : غوى إذا خاب وأغواه خيّبه ومنه : [الطويل]

٢٥٩ ـ ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (١)

(إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠)

(إِلَّا عِبادَكَ) نصب على الاستثناء.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١)

(قالَ هذا صِراطٌ). مبتدأ وخبر (عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) من نعته. قال زياد بن أبي مريم : «عليّ» هي إليّ يذهب إلى أن المعنى واحد. قيل : فيه معنى التهديد أي إليّ مرجعه وعلى طريقه ، وقيل : على بيانه أي ضمان ذلك.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢)

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الأصل في ليس عند سيبويه ليس قال سيبويه (٢) : وأما (ليس) فمسكّنة من نحو صيد كما قالوا : علم ذاك. قال أبو جعفر : كان يجب على أصول العربية أن يقال : لاس لتحرّك الياء وتحرّك ما قبلها. قال سيبويه (٣) : فجعلوا إعلاله إزالة الحركة ؛ لأنه لا يقال منه : يفعل ولا فاعل ولا مصدر ولا اشتقاق ، وكثر في كلامهم

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ٥٦.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٤٨٦.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٤٨٦.


فلم يجعلوه كأخواته. يعني ما يعمل عمله. قال : فجعلوه كليت. قال أبو إسحاق : ولم يتصرّف ليس لأنه ينفى بها المستقبل والحال والماضي فلم يحتجّ فيها إلى تصرّف. قال أبو جعفر : وسمعت محمد بن الوليد يقول : لمّا ضارعت «ما» منعت من التصريف.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٧)

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال الكسائي : غلّ يغلّ من الشحناء ، وغلّ يغلّ من الغلول ، وأغلّ يغلّ من الخيانة ، وقال غيره : معنى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أزلنا عنهم الجهل والغضب وشهوة ما لا ينبغي حتى زال التحاسد. (إِخْواناً) على الحال.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١)

والتقدير : عن أصحاب ضيف إبراهيم ولهذا لم يكثّر ضيوف.

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٥٣)

(قالُوا لا تَوْجَلْ) ومن قال تأجل أبدل من الواو ألفا لأنها أخفّ ، ومن قال : تيجل أبدل منها ياء لأنها أخفّ من الواو ، ولغة بني تميم تيجل ليدلّوا على أنه من فعل ، ويقال : فلان ييجل ، بكسر الياء ، وهذا شاذّ لأن الكسرة في الياء مستقلة ولكن فعل هذا لتنقلب الواو ياء.

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (٥٤)

(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قراءة أكثر الناس ، وقرأ نافع بكسر النون ، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء رحمه‌الله أنه قال : كسر النون لحن ، يذهب إلى أنه لا يقال : أنتم تقوموا فيحذف نون الإعراب. قال أبو جعفر : قد أجاز سيبويه (١) والخليل مثل هذا. قال سيبويه : وقرأ بعض الموثوق بهم (قالَ أَتُحاجُّونِّي) [الأنعام : ٨٠] و (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) وهي قراءة أهل المدينة (٢) ، والأصل عند سيبويه : فبم تبشّرون بإدغام النون في النون ثم استثقل الإدغام فحذف إحدى النونين ولم يحذف نون الإعراب كما تأول أبو عمرو وإنما حذف النون الزائدة. وأنشد سيبويه : [الوافر]

٢٦٠ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (٣)

وقال الآخر : [الوافر]

٢٦١ ـ أبالموت الّذي لا بدّ أنّي

ملاق لا أباك تخوّفيني (٤)

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٣.

(٢) انظر تيسير الداني ١١١.

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).

(٤) الشاهد لأبي حيّة النميري في ديوانه ١٧٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٠ ، والدرر ٢ / ٢١٩ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢١١ ، ولسان العرب (خعل) و (أبي) ، و (فلا) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٣٢ ، ـ


(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦)

وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) وقرأ (وَمَنْ يَقْنِطُ)(١) وقرأ مِنْ بَعْدِ ما قَنِطُوا [الشورى : ٢٨] جميعا بالكسر وقرأ أبو عمرو والكسائي قال ومن يقنط بكسر النون و «قنطوا» بفتح النون ، وقرأ أهل الحرمين وعاصم وحمزة (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) بفتح النون ، وقرءوا «قنطوا» بفتح النون ، وقرأ الأشهب العقيلي قال ومن يقنط بضمّ النون. قال أبو جعفر : أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أبي عمرو والكسائي في هذا ، وزعم أنها أصحّ في العربية ، وردّ قراءة أهل الحرمين وعاصم وحمزة لأنها على فعل يفعل عنده ، وكذا أنكر قنط يقنط ، ولو كان الأمر كما قال لكانت القراءتان لحنا ، وهذا شيء لا يعلم أنه يوجد أن يجتمع أهل الحرمين على شيء ثم يكون لحنا ولا سيما ومعهم عاصم مع جلالته ومحلّه وعلمه وموضعه من اللغة ، والقراءتان اللتان أنكرهما جائزتان حسنتان وتأويلهما على خلاف ما قال. يقال : قنط يقنط وقنط قنوطا فهو قانط ، وقنط يقنط قنطا فهو قنط وقانط. فإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال : قنط يقنط ، وإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال : قنط يقنط مثل ضرب يضرب ، وإذا قرأ يقنطوا فهو على لغة من قال : قنط يقنط مثل حذر يحذر فله أن يستعمل اللغتين ، وأبو عبيد ضيّق ما هو واسع من اللغة ومعنى ومن يقنط من ييأس.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٥٧)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) ابتداء وخبر.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٩)

(إِلَّا آلَ لُوطٍ ...) قال أبو إسحاق : استثناء ليس من الأول (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ).

(إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

(إِلَّا امْرَأَتَهُ) قال : استثناء من الهاء والميم. وتأوّل أبو يوسف هذا على أنه استثناء ردّ

__________________

ـ والخصائص ١ / ٣٤٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٥٠١ ، وشرح شذور الذهب ٤٢٤ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٠٥ ، واللامات ص ١٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٣٧٥ ، والمقرّب ١ / ١٩٧ ، والمنصف ٢ / ٣٣٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٣٧.

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٤٧.


على استثناء ، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ) فاستثناهم من المجرمين إلا امرأته فاستثناها من قوم لوط فصارت مع المجرمين. قال كما تقول : له عليّ عشرة إلا أربعة إلّا واحدا ، فيكون سبعة لأنك استثنيت من الأربعة واحدا فصار مع الستة فصارت سبعة. قال أبو عبيد : كما تقول : إذا قال رجل لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلّا اثنتين إلّا واحدة فقد طلّق ثنتين. قال أبو جعفر : الذي قال أبو يوسف كما قال عند أهل العربية ، والذي قاله أبو عبيد عند حذاق أهل العربية لا يجوز. يقولون إنّه لا يستثنى من الشّيء نصفه ولا أكثر من النصف ولا يتكلّم به أحد من العرب. والاستثناء عند الخليل وسيبويه (١) التوكيد ، لأنك إذا قلت : جاءني القوم جاز أن يكون قد بقي منهم ، فإذا قلت : كلّهم أحطت بهم ، وكذا إذا قلت : جاءني القوم جاز أن يكون زيد داخلا فيهم فإذا قلت : إلا زيدا بيّنت كما بيّنت بالتوكيد. ومعنى قولك : له عندي عشرة إلا واحدا ، له عندي عشرة ناقصة ، ولا يجوز أن يقال لخمسة ولا أقل منها عشرة ناقصة. (قَدَّرْنا إِنَّها) وقرأ عاصم (قَدَّرْنا) وفي التشديد معنى المبالغة أي كتبنا ذلك وأخبرنا به وعلمنا أنّها لمن الغابرين قد ذكرناه. ومن أحسن ما قيل فيه أن معنى الغابرين الباقون المتخلّفون عن الخروج معه من قولهم غبر إذا بقي ، وهكذا قال أهل العربية في معنى (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) [هود : ٨١] إن المعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك ، ومن أحسن ما قيل في معنى (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) أن المعنى : ولا يلتفت إلى ما خلّف وليخرج ، وقد قيل : إنه من الالتفات أي لا يكن منكم خروج فيلتفت.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٦٣)

أي بالعذاب الذي كانوا يشكّون فيه.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥)

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) من أسرى ، ومن وصل جعله من سرّى ، لغتان معروفتان.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦)

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) قال الأخفش : «أنّ» في موضع نصب على البدل من الأمر ، وقال الفراء (٢) : هي في موضع نصب بسقوط الخافض أي قضينا إليه ذلك الأمر بهذا. قال : وفي قراءة عبد الله وقلنا إن دبر هؤلاء (٣) فلو قرأ قارئ على هذا بكسر إنّ لجاز. (مُصْبِحِينَ) نصب على الحال ، والتقدير عند الفراء وأبي عبيد إذا كانوا مصبحين. قال أبو عبيد : كما تقول : أنت راكبا أحسن منك ماشيا. قال : وسمعت أعرابيا فصيحا من بني كلاب يقول : أنا لك صديقا خير منّي لك عدوا.

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٣٢٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٠.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٠.


(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (٦٧)

في موضع نصب على الحال.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) (٦٨)

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) وحّد لأنه مصدر في الأصل ضفته ضيفا أي نزلت به ، والتقدير : ذوو ضيفي. قال أبو إسحاق : المعنى أو لم ننهك عن ضيافة العالمين ، وقال غيره : المعنى أو لم ننهك عن أن تجير أحدا علينا وتمنعنا منه.

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢)

(لَعَمْرُكَ) مبتدأ ، والخبر محذوف لأن القسم باب حذف ، والتقدير لعمرك قسمي (إِنَّهُمْ) بالكسر لأنه جواب القسم وأجاز جماعة من النحويين فتحها. (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي جهلهم شبّه بالسكر.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (٧٣)

نصب على الحال. وأشرقوا صادفوا شروق الشمس أي طلوعها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥)

أي لعظات عن المعاصي والكفر للمستدلّين.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (٧٨)

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) لا اختلاف في صرف هذا والذي في «ق» (١) ، واختلفوا في الذي في «الشعراء» (٢) والذي في «ص» (٣) فقرأهما أهل المدينة بغير صرف ، وقرأهما أهل البصرة وأهل الكوفة كذينك ، وهذا هو الحقّ ؛ لأنه لا فرق بينهنّ والقصة واحدة ، وإنما هذا كتكرير القصص في القرآن. فأما قول من قال : إن أيكة اسم للقرية ، وإن «الأيكة» اسم للبلد فغير معروف ولا مشهور ، فأمّا احتجاج من احتجّ بالسواد وقال : لا أصرف اللتين في «الشعراء» و «ص» لأنهما في الخطّ بغير ألف فلا حجّة له في ذلك وإنما هذا على لغة من قال : جاءني صاحب زيد لسود ، يريد الأسود ، فألقى حركة الهمزة على اللام فتحرّكت اللام وسقطت ألف الوصل لتحرّكها وسقطت الهمزة لمّا ألقيت حركتها على ما قبلها ، وكذا ليكة.

__________________

(١) ق : ١٤ ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ).

(٢) الشعراء : ١٧٦ (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ).

(٣) ص : ١٣ (وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ).


(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩)

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) في معناه قولان : أحدهما أنّ الإمام الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ لأنه قبل الكتب كلّها ، والآخر أنه الطريق لأنه يؤتمّ به.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) (٨٠)

قيل : أصحاب الحجر قوم صالح.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (٨٢)

وقرأ الحسن (وَكانُوا يَنْحِتُونَ) لأن فيه حرفا من حروف الحلق والكسر أفصح.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) في الحديث أن القرآن هاهنا هو الحمد لأن بعض القرآن قرآن (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) لا تتمنّينّ نعمهم ولا تحزن عليهم أي على نعمتي عليهم. قال أبو إسحاق : ومعنى (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) ألن جناحك لمن آمن بك واتّبعك.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١)

(كَما أَنْزَلْنا) الكاف في موضع نصب أي «وقل إنّي أنا النّذير المبين» عقابا أو عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أبو عبيدة (١) معمر بن المثنّى يذهب إلى أنّ «عضين» من عضّيت أي فرّقت ، وهو مشتق من العضو ، والمحذوف عنده واو ، والتصغير عنده عضيّة ، والكسائي يذهب إلى أنه من عضهت الرجل أي رميته بالبهتان ، والتصغير عنده عضيهة. قال الفراء (٢) : العضون في كلام العرب السحر وإنما جمع بالواو والنون عند البصريين عوضا مما حذف منه وعند الكوفيين أنه كان يجب أن يجمع على فعول فطلبوا الواو التي في فعول فجاءوا بها فقالوا عضون. قال الفراء (٣) : ومن العرب من يقول : عضينك يجعله بالياء على كلّ حال ويعرب النون ، كما تقول : مضت سنينك ، وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر ، والعلّة عنده فيه أن الواو لمّا وقعت موقع حرف ناقص توهّموا أنها واو فعول فأعربوا ما

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٣٥٥.

(٢) و (٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٢.


بعدها وقلبوها ياء كما قال بعض العرب في التاء حكاه عن أبي الجرّاح : سمعت لغاتهم ، ولا تقول ذلك في الصّالحات ، ولا فيما حذف من أوله نحو لدّات.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٢)

توكيد للهاء والميم.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤)

قال أبو إسحاق (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي أبنه وأظهره مشتقّ من الصّديع وهو الصبح ، والصّدع في الزجاجة أن يبين بعضها من بعض (بِما تُؤْمَرُ) مصدر عند البصريين أي بأمرنا ، وقال الكسائي : التقدير بما تؤمر به مثل (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) [هود : ٦] أي بربّهم ثم حذفت الباء. قال أبو جعفر : لا يجوز حذف الباء عند البصريين في كلام ولا شعر ، وقد أنشد الكوفيون لجرير : [الوافر]

٢٦٢ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

كلامكم عليّ إذا حرام (١)

وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ينشد لجدّه :

مررتم بالدّيار ولم تعوجوا

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦)

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) في موضع نصب على النعت للمستهزئين : ومعنى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر : ٩٤] أي عن إجابتهم إذا تلقّوك بالقبيح.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

(حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) نصب بحتّى ، ولا يجوز رفعه لأنه مستقبل ، واليقين الموت لأن كلّ عاقل يوقن به.

__________________

(١) الشاهد لجرير في ديوانه ٢٧٨ ، وتخليص الشواهد ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٨ ، والدرر ٥ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١١ ، ولسان العرب (مرر) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٦٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٥٨ ، ورصف المباني ص ٢٤٧ ، وشرح ابن عقيل ٢٧٢ ، وشرح المفصّل ٨ / ٨ ، ومغني اللبيب ١ / ١٠٠ ، والمقرّب ١ / ١١٥ ، وهمع الهوامع ٨٣٢.


(١٦)

شرح إعراب سورة النحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

(أَتى أَمْرُ اللهِ) من أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك إنه القرآن ، وقد قيل : إنه نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن قال : إنّه القيامة جعله مجازا على أحد أمرين يكون «أتى» بمعنى قرب ، ويكون «أتى» بمعنى يأتي إلّا أن سيبويه (١) لا يجيز أن يكون فعل بمعنى يفعل ويجيز أن يكون يفعل بمعنى فعل لأنه يكون محكيّا. (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) نهي فيه معنى التهديد.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ(٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣)

(أَنْ أَنْذِرُوا) قال أبو إسحاق : «أن» في موضع جرّ على البدل من الروح ، والتقدير : ينزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي أي حذّروهم بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ثمّ دلّ جلّ وعزّ على توحيده فقال جل ثناؤه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥)

(وَالْأَنْعامَ) نصب بإضمار فعل ، ويجوز الرفع في غير القرآن.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) أي وجعل لكم ، وقال الفراء (٢) : هي ردّ على خلق. قال : وإن شئت كانت بمعنى وسخّر. قال : ويجوز الرفع من وجهين : أحدهما أنه لم يكن معها فعل رفعت ، والآخر أنه لمّا كان يجوز والأنعام بالرفع توهّمت أنه مرفوع رفعت. (وَزِينَةً) قال الأخفش والفراء (٣) : أي وجعلها زينة. قال الفراء : ويجوز أن

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٢٣.

(٢) و (٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٧.


ينصبها بالفعل نفسه وتقديره بمعنى لتركبوها زينة. قال أبو حاتم : روى سعيد عن قتادة عن أبي عياض أنه قرأ لتركبوها زينة بغير واو. قال أبو إسحاق : «زينة» مفعول له أي خلقها من أجل الزينة.

قال أبو إسحاق : ويقال لكلّ ما ينبت على الأرض شجر ، وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (فِيهِ تُسِيمُونَ) قال ترعون. قال أبو إسحاق : هو مشتقّ من السّومة أي العلامة لأنها إذا رعت أثرت في الأرض فصارت فيها علامات.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣)

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) قال الأخفش : أي خلق وبثّ.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥)

(وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) قال : أي وجعل. قال أبو إسحاق معنى (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) وجعل فلهذا أضمر في الثاني وجعل. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) في موضع نصب ، والتقدير عند البصريين كراهة أن تميد بكم ، وعند الكوفيين لئلا تميد بكم.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠)

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مبتدأ وخبره لا يخلقون شيئا. قال الأخفش : (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) [آية : ١٢] أي وخلق وسخّر ، وحكى الفراء (١) : مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا صوّتت في جريها. قال أبو إسحاق : النجم والنجوم واحد.

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١)

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) على إضمار مبتدأ أي هم أموات. قال الكسائي : ويجوز النصب على القطع (٢) والفعل. (أَيَّانَ) في موضع نصب. (يُبْعَثُونَ) ولكنه مبنيّ على الفتح لأن فيه معنى الاستفهام فوجب أن لا يعرب ففتحت نونه لالتقاء الساكنين ، وإذا التقى ساكنان في كلمة واحدة فتح الثاني وإن كانا في كلمتين كسر الأول. هذا قول الكوفيين ، فأما البصريون فسبيل الساكنين إذا التقيا عندهم أن يكسر أحدهما إلا أن تقع علّة والذي أوجب هذا أنّ الكسر أخو الجزم ، وقال محمد بن يزيد : لأن ما كان معربا منصرفا لم يكسر إلا ومعه التنوين فإذا كان الساكن الأول ألفا فالفتح أولى عند الخليل وسيبويه لأن الفتحة من جنس الألف قالا : ولو سمّيت رجلا إسحارا ثم رخّمته لقلت :

__________________

(١) معاني الفراء ٢ / ٩٨.

(٢) القطع : الحال ، انظر معاني الفراء ٢ / ٩٨.


يا إسحار أقبل ، ففتحت الراء لالتقاء الساكنين لأن قبلها ألفا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (١) بكسر الهمزة. قال الفراء (٢) : وهي لغة سليم.

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣)

وقد ذكرنا (٣) (لا جَرَمَ أَنَ) في غير هذا الموضع.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٤)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) (ما) في موضع رفع بالابتداء و (ذا) بمعنى الذي وهو خبر «ما». (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) على إضمار مبتدأ. قال الكسائي : أي هو أساطير الأولين ، وقال الأخفش : الجواب يردّ على الكلام الأول فلما كانت «ما» في موضع رفع رفع. قال أبو إسحاق : المعنى «الذي أنزل» أي الذي ذكرتم أنتم أنه أنزل أساطير الأولين أي أكاذيب ، وقال غيره : هذا على التّهزّء أي يقول بعضهم لبعض : ماذا أنزل ربكم فيقول المجيب : أساطير الأولين ولم يقرّوا أنه أنزل شيئا ، فلهذا كان مرفوعا ، وقد أجاز النحويون : ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا. بالنصب والرفع. فالرفع على ما تقدم والنصب على أن تكون «ذا» زائدة بمعنى أي شيء تعلّمت؟ فإن قلت : من ذا كلّمت أزيدا أم عمرا؟ لم يكن «من ذا» في موضع رفع لأن ذا لا يراد معها.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) (٣٠)

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) قال الكسائي : ولو قيل خير لجاز. يعني على ما تقدّم. (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) رفع بنعم ، والدار مؤنثة ولم يقل : نعمت ؛ لأنه فعل يشبه الأسماء وجرى على مثل هذا قول البصريين ، وحذف علامة التأنيث عندهم أجود ، وقال الكسائي : التذكير لأن المعنى ولنعم موضع دار المتقين ومثوى ومأوى.

قال : والتأنيث جيّد حسن واسع.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) (٣١)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) قال الفراء (٤) : إن شئت رفعت جنات بالاستئناف ، وإن شئت

__________________

(١) و (٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٩.

(٣) مرّ في إعراب الآية ٢٢ ـ هود.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٩٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٧٤.


بالعائد في يدخلونها. والرفع عند البصريين من جهتين : إحداهما بالابتداء والأخرى بإضمار مبتدأ ، كما تقول : نعم الرجل زيد.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢)

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) في موضع نصب نعت للمتقين و (طَيِّبِينَ) على الحال أي مؤمنين مجتنبين للمعاصي.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣٣)

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) «أن» الملائكة بما وعدوا من العذاب. (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب ، وحكى الكسائي : حرص يحرص.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٨)

وقد ذكرنا (١) (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ). (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر. قال الكسائي والفراء (٢) : ولو قيل : وعد عليه حقّ لكان صوابا أي ذلك وعد عليه حقّ.

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

قرأ ابن محيصن وعبد الله بن عامر والكسائي إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (٣) بالنصب. قال أبو إسحاق : النصب من وجهين : أحدهما على العطف أي فأن يكون ، والآخر أن يكون جوابا لكن. قال أبو جعفر : الوجه «فيكون» مرفوع ، وتقديره عند سيبويه فهو يكون ، والنصب على العطف جائز. فأما أن يكون جوابا فمحال لأنه إخبار لا يجوز فيه الجواب ، كما تقول : أنا أقول لعمرو امض فيجلس أو فيمضي ، ولا معنى للجواب هاهنا وإنما الجواب أن يقول : امض فأكرمك. ومثل الأول (فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ) [البقرة : ١٠٢] وإنما الجواب لا تكفر فتدخل النار.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي هجروا قومهم وديارهم ليتباعدوا من الكفر (وَالَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) في موضع الخبر.

__________________

(١) راجع إعراب الآية ٣٥ ـ يونس.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٠٠.

(٣) انظر تيسير الداني ١١٢.


(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢)

(الَّذِينَ صَبَرُوا) في موضع رفع على البدل من الذين هاجروا ، وفي موضع نصب على البدل من هم.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي من الفرائض والأحكام والحدود.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٤٦)

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ) عطف على الأول. (فِي تَقَلُّبِهِمْ) ما يتقلّبون فيه من الأسفار وغيرها.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤٧)

(فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأنه أمهلهم دعاهم إلى التوبة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٤٩)

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ) واحد في موضع جمع (وَالشَّمائِلِ) جمع على بابه (سُجَّداً) على الحال أي منقادا ذليلا على ما دبّره الله جل وعز عليه. واصل السجود في اللغة : التذلل والانقياد (وَهُمْ داخِرُونَ) أي منقادون على ما أحبّوا أو كرهوا وكذا السجود في (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي منقادا لله جلّ وعزّ دالّ على حكمته كما روي عن ابن عباس :

الكافر يسجد لغير الله جلّ وعزّ وظلّه يسجد لله تبارك وتعالى أي ينقاد لتدبيره ، وقال أبو إسحاق : معنى ظلّه هاهنا جسمه الذي يكون منه الظلّ أي جسمه ولحمه وعظمه منقادات لله جلّ وعزّ دالّة عليها أثر الخضوع والذلّ ، فعلى هذا هي ساجدة له تقدّس اسمه.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٥١)

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) قال أبو إسحاق : فذكر اثنين توكيدا لإلهين كما ذكر واحدا توكيدا في قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وقال غيره : التقدير ولا تتّخذوا اثنين إلهين. (فَإِيَّايَ) في موضع نصب بإضمار فعل.


(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) (٥٢)

(وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) نصب على الحال.

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (٥٣)

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) قال الفراء (١) : «ما» في موضع جزاء كأنه قال : وما تكن بكم من نعمة فمن الله ، وقال أبو إسحاق : المعنى ومما حلّ بكم من نعمة فمن الله أي أعطاكم من صحّة في جسم أو رزق فكل ذلك من الله جلّ وعزّ.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (٥٦)

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) أي ويجعلون لما لا يعلمون أنه إله نصيبا مما رزقناهم. (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي من قولكم إنهم آلهة.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧)

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله ، وتمّ الكلام عند قوله (سُبْحانَهُ) ثم قال جلّ وعزّ : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي الشيء الذي يشتهونه ، و «ما» في موضع رفع ، وأجاز الفراء (٢) : أن يكون في موضع نصب بمعنى ويجعلون لهم. قال أبو إسحاق : «ما» في موضع رفع لا غير لأن العرب لا تقول في مثل هذا : جعل فلان له كذا. وإنما تقول : جعل لنفسه ، ومثله ضربت نفسي ، ولا يقال ضربتني.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (٥٨)

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) خبر «ظلّ» ، ويجوز عند سيبويه (٣) والفراء(٤) : ظلّ وجهه مسودّ يكون في «ظلّ» مضمر والجملة الخبر ، وحكى سيبويه : «حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» (٥). قال الفراء : مثل (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] والأصل في ظلّ ظلل ثم أدغم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٠٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٠٥.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٤١٤.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ١٠٦.

(٥) الحديث في الكتاب ٢ / ٤١٤ ، «كلّ مولود يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه». وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز ، وأبو داود في سننه حديث رقم (٤٧١٤) ، والترمذي في سننه ـ القدر ٨ / ٣٠٣.


(أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) قال الكسائي : المعنى لا يدري ينظر (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ).

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠)

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي هو الواحد الصمد. (الْحَكِيمُ) القدير الذي لم يلد ولم يولد.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٦١)

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بعقوبة ظلمهم (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) لأنه إذا أفنى الآباء انقطع النسل.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) جمع لسان على لغة من ذكّر اللسان ، ومن أنّث قال : ألسن ، ومن قال ألسن ثم سمّى بلسان رجلا لم يصرف ، وإن قال ألسنة صرف والكذب منصوب بتصف و (أَنَّ لَهُمُ) بدل من الكذب. قال أبو حاتم : وقرأ أهل الشام أو بعضهم (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) نعت للألسنة قال قطرب «أنّ لهم النار» في موضع رفع أي وجب ذلك ، وقال غيره : «أنّ» في موضع نصب أي كسبهم ذلك «أنّ لهم النار». وقد ذكرنا (١) معنى (لا جَرَمَ). قرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رحمهما‌الله وهذه القراءة قراءة أبي رجاء ونافع (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٢) بكسر الراء والتخفيف ، وقرأ أبو جعفر (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٣) بكسر الراء والتشديد. قال أبو حاتم وروي عن أبي جعفر (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) بفتح الراء والتشديد ، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء والكوفيين (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٤) بفتح الراء والتخفيف. وأصل هذا كلّه من التجاوز والتقدّم. فمفرطون مبالغون متجاوزون في الشر ، ومنه يقال : قد أفرط فلان على فلان و «مفرّطون» مضيّعون متجاوزون لما يجب ، ومنه أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ، وفي التشديد معنى المبالغة والتكثير و «مفرطون» مقدّمون إلى النار.

__________________

(١) مرّ في إعراب الآية ٢٢ ـ هود.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٢ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٩٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٩١.

(٤) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٩٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٠٨.


(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣)

(تَاللهِ) التاء بدل من الواو وإنما يقال : تالله إذا كان في الكلام معنى التعجّب (لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) وحذف المفعول أي رسلا (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي من الكفر والمعاصي (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) ابتداء وخبر وتحذف الضمة لثقلها فيقال : فهو وليّهم أي هو معهم ، وقيل : المعنى أنه يقال : لهم هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتّى يخلّصكم تبكيتا لهم وتوبيخا.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦٤)

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) مفعول من أجله. قال أبو إسحاق : ويجوز الرفع بمعنى وهو مع ذلك هدى ورحمة.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٦٦)

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي لدلالة على قدرة الله جلّ وعزّ وحسن تدبيره. (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون قراءة عاصم وشيبة ونافع ، (نُسْقِيكُمْ) بضم النون قراءة ابن كثير وأبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء والكوفيين إلا عاصما. قال الخليل وسيبويه (١) رحمهما‌الله : سقيته ناولته فشرب ، وأسقيته جعلت له سقيا ، وقال أبو عبيدة : هما لغتان ، قال أبو جعفر : سقيته يكون بمعنى عرّضته لأن يشرب ، وأسقيته دعوت له بالسقيا ، وأسقيته جعلت له سقيا ، وأسقيته بمعنى سقيته عند أبي عبيدة فنسقيكم بالضم إلّا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : نسقيكم بالفتح هاهنا أشبه بالمعنى. (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فذكّر فللنحويين في هذا أربعة أقوال : فمن أحسنها مذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ثم ذكر الآية كأنه ذهب إلى أن الأنعام تذكّر وتؤنّث ، وقال الكسائي : حكاه عنه الفراء (٢) المعنى نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا ، وقال الفراء (٣) : الأنعام والنعم واحد وهما جمعان فرجع إلى تذكير النعم وحكي عن العرب هذا نعم وارد ، وحكى أبو عبيد عن الكسائي هذا القول وأنشد : [الرجز]

٢٦٣ ـ أكلّ عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه (٤)

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ١٧٠.

(٢) و (٣) انظر معاني الفراء ٢ / ١٠٨ و ١٠٩.

(٤) الشاهد لقيس بن حصين في خزانة الأدب ١ / ٤٠٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١١٩ ، ولصبي من بني ـ


والقول الرابع حكاه أبو عبيد عن أبي عبيدة قال : المعنى نسقيكم مما في بطون أيّها كان له لبن لأنه ليست كلّها لها لبن. (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) نعت.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧)

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) أي ولكم فيما رزقناكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨)

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) لأنها مؤنّثة والعرب تقول في تصغيرها : نحيل بغير هاء لئلا تشبه الواحدة ، وحكى الأخفش أنها تذكّر (بُيُوتاً) كما تقول ؛ فلس وفلوس ومن كسر الباء أبدل من الضمة كسرة وهو وجه بعيد.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٧٠)

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى الهرم لأنه يضعف قوته وعقله فإن قال قائل : فهو إذا كان صبيّا هكذا ولا يقال للصبيّ : هو في أرذل العمر ، فالجواب أنّ الصبي يرجى له العقل والقوة وليس كذا الهرم (لِكَيْ لا يَعْلَمَ) تنصب بكي ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لتصرّفها وأنّها تكون زائدة.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١)

(فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) ابتداء وخبر.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) قيل : يعني الأوثان والأصنام لأنهم لا ينتفعون بعبادتها. (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) الكفر بالنعمة في اللغة على ضربين : أحدهما أن يجحد النعمة ، والآخر أن ينسبها إلى غير المنعم بها أو يجعل له فيها شريكا.

__________________

ـ سعد قيل إنه قيس بن الحصين في المقاصد النحوية ١ / ٥٢٩ ، ولرجل ضبيّ في الأغاني ١٦ / ٢٥٦ ، وبلا نسبة في الكتاب ١ / ١٨٤ ، والأشباه النظائر ٣ / ١٠٢ ، وتلخيص الشواهد ١٩١ ، والردّ على النحاة ١٢٠ ، ولسان العرب (نعم) ، واللمع في العربية ١١٣.


(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٧٣)

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) في نصب شيء قولان : أحدهما أن يكون التقدير : لا يملكون أن يرزقوهم شيئا وهو قول الكوفيين (١) ، ونصبه عند الأخفش وغيره من البصريين على البدل من رزق. قال الأخفش : والمعنى : لا يملكون لهم رزقا قليلا ولا كثيرا ، وقال غيره : لا يجوز أن يكون منصوبا برزق لأنه اسم ليس بمصدر كما لا يجوز : عجبت من دهن زيد لحيته ، حتّى يقول من دهن. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) على المعنى لأن «ما» في المعنى لجماعة.

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧٤)

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فيه قولان : أحدهما لا تمثّلوا لله جلّ وعزّ بخلقه فتقولوا : هو محتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما هو لمن لا يعلم ، ودلّ على هذا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، والقول الآخر لا تمثّلوا خلق الله جلّ وعزّ به فتجعلوا لهم من الأهبة مثل ما له.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥)

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أي من الرقّ. (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) أي فكما لا يستوي هذان عندكم فيجب أن لا يسوّوا بين الأصنام وهي لا تعقل ولا تنفع وبين الله جلّ وعزّ في العبادة. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على ما دلّنا من توحيده (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيه قولان : أحدهما أنّ فعلهم فعل من لا يعلم وإن كانوا يعلمون والآخر أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) وإذا كان أبكم ضعيفا فهو ثقيل على وليّه أينما يوجّهه أي إن وجهه لشيء من منافع الدنيا لم يأت بخير. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) معطوف على المضمر في يستوي وهو توكيد ، وحسن العطف على المضمر المرفوع لمّا وكّدته لأنه التوكيد يعينه فكأنّه بارز من الفعل.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٥٠٠.


(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨)

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ومن كسر الهمزة أتبع الكسرة الكسرة ، وكسر الميم بعيد وأمّهات جمع أمّهة ، وقيل : الهاء زائدة كما زيدت في أهرقت.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) أي إلى خلقها كيف خلقت خلقا يتهيّأ لها معه الطيران والثبوت في الجو ، وجعل ذلك تسخيرا منه لها مجازا فقال جلّ ثناؤه : (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) و (مُسَخَّراتٍ) حال. (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) لأنه جلّ وعزّ يثبتهنّ بالهواء الذي خلقه تحتهنّ فجعل ذلك إمساكا منه لهن اتساعا.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١)

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ) أي خلق لكم ما تتّخذون منه سرابيل وأقدركم على عمله وروي عن ابن عباس رحمه‌الله أنه قرأ كذلك تتمّ نعمه عليكم ورفع النعمة. (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (١) بفتح التاء واللام.

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣)

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) وإنكارهم إياها إضافتهم إياها إلى غير الله جلّ وعزّ وإشراكهم معه فيها غيره.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٨٤)

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) والأمة القرن والجماعة فدلّ بهذا على أنّ في كلّ قرن من يطيعه جلّ وعزّ ، ولا يكون الشهيد إلّا مطيعا. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار. ومعنى لا يؤذن لهم في الاعتذار لا يقال لهم : اعتذروا بل يقال لهم : إن اعتذرتم لم يقبل منكم ، ومثله (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] أي لا يعتذرون اعتذارا ينتفع به.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٠٨ ، ومعاني الفراء ٢ / ١١٢.


(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦)

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أي أصنامهم التي كانوا يعبدونها تحشر معهم ليوبّخوا بها ويقرّعوا بها في النار. وسماها شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم وزرعهم وأنعامهم (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) أنطقوا فقالوا لهم : كذبتم ما كنا آلهة ولا نستحقّ العبادة.

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٨٧)

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) استسلموا وانقادوا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) هلك وزال.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) أي فوق العذاب الذي كانوا يستحقونه بكفرهم. (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) بصدّهم الناس عن الإسلام.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

(تِبْياناً) أي بيانا مثل تلقاء ، ويقال : تبيانا بفتح التاء أي تبيينا.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي بالإنصاف. (وَالْإِحْسانِ) أي التفضّل. وحقيقة الإحسان في اللغة أنه كلّ فعل حسن (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) وهو صلة الأرحام. (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهو كلّ فعل أو قول قبيح (وَالْمُنْكَرِ) كلّ ما تنكره العقول من أفعال أو أقوال (وَالْبَغْيِ) أشدّ الفساد. وحكى القاسم بن سلام أنه يقال : برأ جرحه على بغي إذا برأ وفيه شيء من نغل ، ثم قال جلّ وعزّ : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) والأصل تتذكّرون أدغمت التاء في الذال.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٩١)

(وَأَوْفُوا) على لغة من قال : أوفى ، ويقال : وفى بعهد الله. (إِذا عاهَدْتُمْ) فيه


قولان : أحدهما بما تقدّم إليكم به وقدّركم عليه ، والآخر أوفوا بما حلفتم عليه ، وهذا أولى وأشبه بالمعنى لأن بعده (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) قال الكسائي : وناس كثير من العرب يقولون : تأكيد وقد أكّدت. قال أبو إسحاق : الأصل الواو والهمزة بدل منها (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) قولهم الله كفيل على هذا وشاهد ، ويكون مجازا فيكون حلفهم كقولهم هذا.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) أي فتنقضوا ما قد وكّدتموه وقويتموه. (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) والعرب تسمي الفتلة الوثيقة قوة. قال أبو إسحاق (أَنْكاثاً) يعني المصدر لأن معنى نقض ونكث واحد. قال و (دَخَلاً) منصوب لأنه مفعول له و (أَنْ) في موضع نصب والمعنى بأن تكون أمة هي أكثر من أمة. من ربا الشيء يربو إذا كثر ، وقال الكسائي : المعنى لأن تكون لغة. قال الكسائي والفراء(١) : (أَرْبى) في موضع نصب ، والمعنى مثل (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [المزمّل : ٢٠] يجعلان «هو» عمادا. قال أبو جعفر : وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (٢) رحمهما‌الله ، ولا يجوز ، ولا يشبه (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) لأن الهاء في «تجدوه» معرفة وأمة نكرة ، ولا يجوز عندهما : ما كان أحد هو جالس ، وقال الخليل : لا تكون هو زائدة إلا مع المعرفة ، وعنده أنّ كونها مع المعرفة زائدة عجب فكيف تزاد مع النكرة؟ فالقول إن «أربى» في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ والجملة خبر تكون.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤)

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ) جواب النهي ، والمعنى : فتستحقّ العقوبة بعد أن كانت تستحقّ الثواب.

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

(ما عِنْدَكُمْ) في موضع رفع بالابتداء. (يَنْفَدُ) في موضع الخبر. (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ابتداء وخبر. وقد ذكرنا مثل باق.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٣.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ٤١٢.


(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩)

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) مجازه (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) فجاء على تذكير السلطان ، وكثير من العرب يؤنّثه فتقول : قضت به عليك السلطان ، فأعلم الله جلّ وعزّ أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين ، وأعلم جلّ وعزّ في موضع آخر أنّه ليس له سلطان على واحد.

فأما المعنى (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي إنه إذا وسوس إليهم قبلوا منه.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١)

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) وهو الناسخ والمنسوخ لما يعلم الله جلّ وعزّ في ذلك من الصلاح تلبّسوا به فقالوا (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وهو ابتداء وخبر ، وكذا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣)

وقرأ الحسن (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) (١) «بشر» بغير تنوين و «اللسان» بالألف واللام ، واللسان مرفوع «بشر» مرفوع بفعله و «اللسان» مبتدأ وخبره «أعجميّ» وحذف التنوين من «بشر» لالتقاء الساكنين ، وأنشد سيبويه : [المتقارب]

٢٦٤ ـ ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٢)

ومثله قراءة من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ٢] ، وكذا (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٢٠] بنصب النهار. قرأ أقل المدينة وأهل البصرة (يُلْحِدُونَ) (٣) بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ الكوفيون يلحدون (٤) بفتح الياء والحاء ، واللغة الفصيحة «يلحدون» ومنه يقال : رجل ملحد أي مائل عن الحق ، ويبيّن هذا (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥] فهذا من ألحد يلحد لا غير ، ويقال : لحدت

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥١٩ ، ومختصر ابن خالويه ٧٤.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧٣).

(٣) و (٤) انظر تيسير الداني ١١٣.


القبر أي جعلت فيه لحدا وألحدت الميّت ألزمته اللحد. (وَهذا لِسانٌ) قيل : يعني القرآن ، سمّاه لسانا اتّساعا ، كما يقال : فلان يتكلّم بلسان العرب أي بلغتها وكذا اللسان الذي يلحدون إليه أي كلامه وعلى هذا تسمّى الرسالة لسانا ، كما قال : [الوافر]

٢٦٥ ـ لسان السّوء تهديها إلينا (١)

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦)

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مَنْ) في موضع رفع على البدل من «الكاذبين». (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) في موضع نصب على الاستثناء. والمعنى ـ والله أعلم ـ إلّا من أكره. فله أن يقول ما ظاهره الكذب والكفر ولا يعتقده ، ولا يجوز له أن يكذب كذبا صراحا بوجه ، وإنما يقول : فلان كذّاب على قولهم أو يعني به غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن هو كاذب لأن الكذب قبيح فلا يجوز أن يأذن الله فيه بحال ، والدليل على قبحه أن قائله لا يوثق بخبره (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ابتداء وخبر ، وهو تبيين ما تقدّم. (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ) مبتدأ. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) في موضع الخبر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧)

(اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) قال الخليل رحمه‌الله (لا جَرَمَ) لا تكون إلّا جوابا. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه (٢).

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠)

(مِنْ بَعْدِها) أي من بعد الفتنة.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

(يَوْمَ تَأْتِي) في موضع نصب أي غفور رحيم يوم تأتي كلّ نفس ، ويجوز أن يكون بمعنى : واذكر يوم تأتي كلّ نفس.

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في جواهر الأدب ١٢٥ ، والجنى الداني ٩٤ ، والدرر ١ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٠٦ ، ومغني اللبيب ١ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٧٧ ، وعجزه :

«وحنت وما حسبتك أن تحينا»

(٢) مرّ في إعراب الآية ٢٢ ـ هود.


(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي مثل قرية. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع نعمة عند سيبويه ، وقال قطرب : جمع نعم مثل ودّ وأدود.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦)

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) نصب بمعنى لوصف ألسنتكم الكذب ، وقال : الكذب يلقي حركة الدال على الكاف ، وقرأ أهل الشام أو بعضهم (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) (١) على النعت للألسنة ، وقرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) (٢) بالخفض على النعت لما أو البدل.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧)

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) على إضمار مبتدأ أي تمتّعهم في الدنيا متاع قليل أي مدّة بقائهم ، ويجوز متاعا في غير القرآن على المصدر أي يمتعون متاعا.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠)

(كانَ أُمَّةً) خبر كان. (قانِتاً) نعت أو خبر ثان. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا (٣) (وَلَمْ يَكُ) في غير موضع.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤)

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال بعضهم : لا نريد الجمعة ، وقال بعضهم : لا نريد السبت ففرض عليهم الفراغ في يوم السبت.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧)

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل المعنى : لا تحزن على الكفار فإنّما عليك أن تدعوهم إلى الإيمان ، وقيل : المعنى ولا تحزن على الشهداء فإن الله جلّ وعزّ قد أثابهم وفيهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وفيه نزلت (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ

__________________

(١) انظر المحتسب ٢ / ١١.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢٧.

(٣) مرّ في إعراب الآية ١٠٩ ـ هود.


بِهِ) [النحل : ١٢٦](وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) للكفّار لم يقل غيره ، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام أنّ نافعا قرأ (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) (١) بكسر الضاد قال أبو جعفر : وهذا لا يعرف عن نافع. وقال الكوفيون : الفراء (٢) وغيره : «الضيق» بفتح الضاد في القلب والصدر ، «والضيق» بكسر الضاد في الثوب والدار وما أشبهها مما يرى قال الفراء : فإذا رأيت الضيق بفتح الضاد قد وقع في موضع الضّيق فهو مخفّف من ضيّق أو جمع ضيقة ، ولا يعرف البصريون من هذا التفريق شيئا ، وقالوا إذا أردت المصدر قلت : الضيق ، كما تقول : البيع ، وإن أردت الاسم قلت : الضيق كما تقول : العلم ، وأجازوا في ضيّق التخفيف.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الَّذِينَ) خفض بإضافة مع إليه لأن مع عند الخليل اسم إذا فتحت العين وإن أسكنتها فهي حرف. (وَالَّذِينَ) عطف. (هُمْ مُحْسِنُونَ) مبتدأ وخبره في الصّلة.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٥.


(١٧)

شرح إعراب سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

روي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى : (سُبْحانَ اللهِ) ، فقال : تنزيها لله من كل سوء. قال أبو جعفر : شرح هذا أنه بمعنى تبعيد الله جلّ وعز عن كلّ ما نسبه إليه المشركون من الأنداد والأضداد والشركاء والأولاد ونصبه عند الخليل وسيبويه (١) رحمهما‌الله على المصدر أي : سبّحت الله تسبيحا ، إلّا أنه إذا أفرد كان معرفة منصوبا بغير تنوين لأن في آخره زائدتين وهو معرفة ، وحكى سيبويه أنّ من العرب من ينكره فيصرفه ، وحكى أبو عبيد في نصبه وجهين سوى هذا ، إنه يكون نصبا على النداء أي يا سبحان الله ، والوجه الآخر : أن يكون غير موصوف. (الَّذِي) في موضع خفض بالإضافة. وقال : سرى وأسرى لغتان معروفتان. (بِعَبْدِهِ لَيْلاً) على الظرف (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نعت للمسجد. وأصل الحرام المنع فالمسجد الحرام ممنوع الصيد فيه. قال أبو إسحاق : ويقال للحرم كلّه : مسجد. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) نعت له ، وكذلك (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) قيل : معنى باركنا حوله أن الأنبياء عليهم‌السلام الذين كانوا بعد موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل كانوا ببيت المقدس وما حوله فبارك الله جلّ وعزّ في تلك المواضع بأن باعد الشرك منها ، ولهذا سمّي ببيت المقدس لأنه قدّس أي طهّر من الشرك. (لِنُرِيَهُ) نصب بلام كي وهي بدل من أن وأصلها لام الخفض.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣)

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان ، وكذا (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ). (أَلَّا تَتَّخِذُوا)

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٣٨٦.


بالياء قراءة أبي عمرو بن العلاء ، والتقدير لئلا يتخذوا ، وقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) وزعم أبو عبيد أنه على الحذف أي قلنا لهم لا تتّخذوا. قال أبو جعفر : هذا لا يحتاج إلى حذف وتكون «أنّ» بمعنى أي ، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب ، ويكون المعنى بأن لا تتخذوا ، وجعل الكلام للمخاطبة لأن بعده (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) على المخاطبة ، ونصب ذرية من أربعة أوجه : تكون نداء مضافا ، وتكون بدلا من وكيل لأنه بمعنى جمع ، وتكون هي ووكيل مفعولين كما تقول: لا تتخذ زيدا صاحبا ، والوجه الرابع بمعنى أعني ، ويجوز الرفع على قراءة من قرأ بالياء على البدل من الواو ، ولا يجوز البدل من الواو على قراءة من قرأ بالتاء : ولا يقال : كلّمتك زيدا ، ولا كلمتني زيدا ، لأن المخاطب والمخاطب لا يحتاجان إلى تبيين.

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤)

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) قد ذكرنا قول ابن عباس رحمه‌الله أن معناه أعلمناهم. وأصل قضى في اللّغة عمل عملا محكما ، والقاضي هو المحكم الأمر النافذة ، والقضاء : الأمر النافذ المحكم الذي لا يدفع. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد (١) ونصر بن عاصم أنهم قرءوا (لَتُفْسِدُنَ) (٢) على ما لم يسمّ فاعله. (وَلَتَعْلُنَ) أي ولتعظّمنّ ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ولأن قبلها ما يدلّ عليها.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٥)

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قيل : أي خلّينا بينكم وبينهم ، وقرأ الحسن فجاسوا خلل الديار (٣). قال أبو إسحاق : أصل الجوس طلب الشيء باستقصاء أي طلبوا هل يجدون أحدا لم يقتلوه و (خِلالَ) ظرف أي في خلال الديار. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) خبر كان ، واسمها فيها مضمر.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٦)

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي نصرناكم عليهم حتّى كررتم. (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ) مفعولان. (نَفِيراً) على البيان.

__________________

(١) جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي البصري ، وردت له حروف في القرآن ، صاحب ابن عباس (ت ٩٣ ه‍) ترجمته في غاية النهاية ١ / ١٨٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٨ ، ومختصر ابن خالويه ٧٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٩ ، والإتحاف ١٧١.


(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧)

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي الثواب لكم ، وهو شرط وجوابه (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي يحصل العقاب لها ، ولها بمعنى عليها لا يقوله النحويون الحذّاق ، وهو قلب المعنى وليس احتجاجهم بالحديث «اشترطي الولاء لهم» (١) بشيء ، وقد اختلف في هذا الحديث فرواه جماعة على هذا اللفظ من حديث مالك بن أنس وهو رواية الشافعي عنه «واشترطي الولاء لهم» ، وهذا معنى صحيح بيّن. يقال : اشترط الشيء إذا بيّنه ، كما قال : [الطويل]

٢٦٦ ـ فأشرط فيها نفسه وهو معصم (٢)

وعلى الرواية الأخرى يكون المعنى «واشترطي الولاء لهم» أي من أجلهم ، كما تقول : أنا أكرم فلانا لك ، وفيه قول آخر يكون بمعنى النهي على التهديد والوعيد : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وعد المرة الآخرة ، وأقيمت الصفة مقام الموصوف ، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة (لِيَسُوؤُا) (٣) على الجمع ، وقرأ أهل الكوفة ليسوء وجوهكم (٤) على التوحيد إلّا الكسائي فإنّه قرأ لنسوء وجوهكم (٥) ، وزعم أنها قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعن أبيّ بن كعب روايتان : إحداهما أنه قرأ (لنسوءن وجوهكم) (٦) اللام مفتوحة وهي لام قسم بالنون الخفيفة والوقف عليها بالألف فرقا بين الخفيفة والثقيلة ، وروي عنه (ليسيء وجوهكم) بياءين وهمزة. قال أبو جعفر : القراءة الأولى على الجمع يدلّ عليها (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) والقراءة الثانية فيها ثلاثة أقوال : يكون المعنى ليسوء الله جلّ وعزّ وقال الفراء (٧) : ليسوء العذاب. قال أبو إسحاق : ليسوء الوعد واللام فيهما لام كي ، وكذا القراءة الثالثة وفي الكلام حذف ، والمعنى : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم فهذا الفعل جواب (إذا) ، ولام كي متعلّقة به. وفي معنى بعثناهم قولان : أحدهما خلّينا بينكم

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطّأ ـ باب ١٠ حديث رقم (١٧).

(٢) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ٨٧ ، ولسان العرب (شرط) و (عصم) ، وجمهرة اللغة ٧٢٦ ، وأساس البلاغة (شرط) ، وكتاب العين ٦ / ٢٣٦ ، وتاج العروس (شرط) و (عصم) ، وسمط اللآلي ٤٩٢ ، والفاخر ١٢٣ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٢٦٠ ، وعجزه :

«وألقى بأسباب له وتوكّلا»

(٣) و (٤) و (٥) انظر تيسير الداني ١١٣.

(٦) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٧ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠.

(٧) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٧.


وبينهم ولم نخوّفهم منكم فكان هذا مجازا جعل التخلية وترك التخويف بعثا ، ومثله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) [مريم : ٨٣] والقول الآخر : معنى بعثنا عليكم أمرناهم بغزوكم لما عصيتم وأفسدتم ، وهذا حقيقة لا مجاز. وزعم الفراء أن من قرأ ليسوآ وجوهكم فهو الجواب عنده بغير حذف ، ولكنه أضمر فعلا في «وليتبّروا» قال قتادة : المعنى وليتبّروا ما علوا عليه ، وقال غيره : وليتبّروا ما داموا عالين وحقيقته في العربية وليتبّروا وقت علوهم ، كما تقول : فلان يؤذيك ما ولي.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) قال الضحاك : الرحمة هاهنا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قيل : إن عدتم للمعصية عدنا لترك النصر (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) مفعولان.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) نعت لهذا ، والخبر في (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) في موضع نصب أي بأنّ.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

(وَأَنَّ الَّذِينَ) معطوف عليه.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقّف عليه لأنه في السواد بغير واو ، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلّا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلّا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها ، وكذا يدعو ويرجو وإنّما تكون الألف مع واو الجميع فرقا بينها وبين الواو التي تكون لام الفعل في الواحد ، وقال الأخفش : تكون في الجميع فرقا بينها وبين الواو العطف ، وقال أحمد بن يحيى : تكون فرقا بين المضمر المنصوب والمؤكّد. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) قال الأخفش : هذا كما تقول : انطلقت انطلاقا ، أي هو مصدر ، وقال الفراء (١) : المعنى كدعائه. قال أبو جعفر : وليس حذف الكاف مما يوجب نصبا ولا غيره ولا اختلاف بين النحويين أنه يقال : عمرو كالأسد فإن حذفت الكاف قلت : عمرو الأسد ، وحقيقة القول في الآية أن التقدير : يدعو الإنسان بالشرّ دعاء مثل دعائه بالخير ثم أقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف إليه مقام المضاف.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٨.


(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٣)

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) مفعولان وكلّ واحد منهما يأتي في إثر صاحبه وينصرف عند مجيئه فهما آيتان دالتان على مدبر لهما. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي لم نجعل لها ضياء ونورا كنور النهار ، والشيء الممحو هو الذي لا يتبيّن. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وهي الشّمس وضوؤها (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وفي الكلام حذف أي ولتسكنوا في الليل (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي جعلنا بين الآية والآية فصلا لتستدلّوا بدلائل الله جلّ وعزّ ونصب (كل شيء) بإضمار فعل ، وكذا (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) من نعت كتاب ، وإن شئت على الحال ، وقد ذكرنا الآية وما فيها من القراءات.

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤)

(اقْرَأْ كِتابَكَ) علامة الجزم والبناء حذف الضمّة من الهمزة ، وحكي عن العرب : أقر يا هذا ، على إبدال الهمزة ، ومنه وقول زهير : [الطويل]

٢٦٧ ـ وإلّا يبد بالظّلم يظلم (١)

(كَفى بِنَفْسِكَ) في موضع رفع والباء زائدة للتوكيد. (حَسِيباً) على البيان ، وإن شئت على الحال. قال أبو إسحاق : ويجوز في غير القرآن حسيبة.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

(مَنِ اهْتَدى) شرط ، والجواب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وكذا (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي عمله له ، ويدلّ على هذا (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وفي معناه قولان : أحدهما لا يؤخذ أحد بذنب أحد ، والآخر أنّ المعنى لا ينبغي لأحد أن يقتدي بأحد ويقلّده في الشر ، كما قال جلّ وعزّ (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] ويقال وزر يزر والأصل يوزر حذفت الواو عند البصريين لوقوعها بين ياء وكسرة ، والمصدر وزر ووزر ووزرة (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فيه قولان : أحدهما أن المعنى وما كنا معذّبين العذاب الذي يكون عقوبة على مخالفة الشيء الذي لا يعرف إلا بالإخبار حتى نبعث رسولا ، والآخر أنه عذاب الاستئصال.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٦).


(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

وقد ذكرنا (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) (١) والقراءات التي فيه.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

(وَكَمْ) في موضع نصب بأهلكنا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي لا يريد ثوابا في الآخرة لم نمنعه ذلك (لِمَنْ نُرِيدُ).

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠)

(كُلًّا) نصب بنمدّ. (هؤُلاءِ) بدل من كلّ. (وَهَؤُلاءِ) عطف عليه أي نرزق المؤمن والكافر (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً). قال سعيد عن قتادة أي منقوصا.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)

(كَيْفَ) في موضع نصب بفضلنا إلا أنها مبنيّة غير معرّبة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ) ابتداء وخبر. (دَرَجاتٍ) في موضع نصب على البيان ، وكذا (تَفْضِيلاً) قال الضحاك : من كان من أهل الجنة عاليا رأى فضله على من هو أسفل منه ، ومن كان دونه لم ير أنّ أحدا فوقه أفضل منه.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

(فَتَقْعُدَ) منصوب على جواب النهي.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣)

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مصدر. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم ، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما (٢) (إمّا يبلغانّ عندك الكبر) والقراءة الأولى أبين في العربية لأن أحدهما واحد ، وتجوز الثانية كما تقول : جاءاني أحدهما أو كلاهما على البدل لأنك قد جئت بعد الفعل بثلاثة والوجه جاءني أحدهما أو كلاهما ، وإن شئت قلت : جاءاني كلاهما أو أحدهما على أن يكون كلاهما توكيدا وأحدهما

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦ / ١٥.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٢٣.


عطفا. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) فيه سبع لغات : قرأ الحسن وأهل المدينة (ولا تقل لهما أفّ) (١) بالكسر والتنوين ، وقال أبو عمرو وأهل الكوفة بالكسر بغير تنوين ، وقرأ أهل مكة وأهل الشام بالفتح بغير تنوين ، وحكى الكسائي والأخفش ثلاث لغات سوى هذه. حكيا النصب بالتنوين والضم بالتنوين والضم بغير تنوين ، وحكى الأخفش اللغة السابعة. قال : يقال : أفّي بإثبات الياء كأنه قال هذا القول لك. قال أبو جعفر : القراءة الأولى يكون الكسر فيها لالتقاء الساكنين والتنوين لأنه نكرة فرقا بينه وبين المعرفة ، وهي قراءة حسنة ، وأصل الساكنين إذا التقيا الكسر ، وزعم الأصمعي أنه لا يجوز إلّا التنوين في مثل هذه الأشياء وأن ذا الرمة لحن في قوله : [الطويل]

٢٦٨ ـ وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

وما بال تكليم الدّيار البلاقع (٢)

وكان الأصمعي مولعا بردّ اللغات الشاذة التي لا تكثر في كلام الفصحاء. فأما النحويون الحذّاق فيقولون : حذف التنوين على أنه معرفة وعلى هذا القراءة الثانية والقراءة الثالثة لأن الفتح خفيف والتضعيف ثقيل والتنوين كما تقدّم والضمّ بغير تنوين على الاتباع ، كما يقال : ردّ ، والتنوين كما ذكرنا إلّا أنّ الأخفش قال : التنوين قبيح إذا رفعت لأنه ليس في الكلام معه لام كأنه يقدّر رفعه بالابتداء ، كما يقال : ويل له ، وزعم أنّ النصب بالتنوين كما يقال : تعسا له. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي قولا تكرمهما به وتعظّمهما به.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) (٢٨)

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي عن ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) مفعول من أجله أي طلب رزق تنتظره. (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) قيل : برفق ولين وعدة.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩)

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) اليد مؤنّثة والعنق يذكّر ويؤنّث ، والأكثر التذكير كما قال: [الرجز]

٢٦٩ ـ في سرطم هاد وعنق عرطل (٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٢ ، وتيسير الداني ١١٣.

(٢) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ٧٧٨ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٠١ ، وإصلاح المنطق ص ٢٩١ ، وتذكرة النحاة ص ٦٥٨ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٠٨ ، ورصف المباني ص ٣٤٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٤ ، وشرح المفصّل ٤ / ٣١ ، ولسان العرب (أيه) ، وتاج العروس (أيه) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ١٠٩ ، ومجالس ثعلب ص ٢٧٥ ، وكتاب العين ٤ / ١٠٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٢٣٧ ، والمقتضب ٣ / ١٧٩ ، والمخصص ١٤ / ٨١.

(٣) الشاهد لأبي النجم في الخصائص ١ / ٢٧٠ ، واللسان (عراحل).


حذف الضمة في عنق لثقلها.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيّق ويفعل من ذلك ما فيه الصلاح ودلّ على هذا (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً) أي يعلم ما يصلحهم. وفي معنى «فتقعد ملوما محسورا» قولان : أحدهما قول الفراء : (١) إنه بمنزلة المحسور أي الكالّ المتعب ، وحكى : حسرت الدّابة فهي محسورة وحسير إذا سيّرتها حتى تنقطع ، والقول الآخر «محسورا» بمعنى من قد لحقته الحسرة.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً) خبر كان واسمها فيها مضمر والجملة خبر إنّ. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ما فيه من القراءات (٢).

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ومن العرب من يمدّه يجعله مصدرا من زانى لأنه لا يكن إلّا من اثنين. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) على البيان أي طريقه سيّئ وفعله قبيح.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣)

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) قد ذكرناه (٣). (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ) على الحال (فَقَدْ جَعَلْنا) الإدغام حسن ، لأن الدال من طرف اللسان والجيم من وسطه فهما متقاربتان والإظهار جائز (لِوَلِيِّهِ) أي أقرب الناس إليه. (سُلْطاناً) قال سعيد بن جبير كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة. قال أبو إسحاق : من قرأ (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (٤) جعله خبرا أي فليس يسرف قاتل وليّه (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) في الضمير خمسة أقوال : يكون للوليّ ، وهذا أولاها عند أهل النظر لأنه أقرب إليه. قال ابن كثير عن مجاهد : إن المقتول كان منصورا ، وهذا قول حسن لأن المقتول قد نصر في الدنيا لمّا أمر بقتل قاتله وفي الآخرة بإجزال الثواب وتعذيب قاتله ، وقيل : إنّ القتل كان منصورا. قال

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٢.

(٢) القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦ / ٢٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠.

(٤) انظر المحتسب ٢ / ٢٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١.


الفراء (١) : يجوز أن يكون المعنى إنّ القتل لأنه فعل ، والقول الخامس قول أبي عبيد ، قال : يكون إنّ القاتل الأول كان منصورا إذا قتل. وهذا أبعدها وأشدّها تعسفا.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) فدخل في هذا كلّ ما أمر الله به لأنه قد عهد إلينا فيه.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فدخل في هذا النهي عن قذف المحصنات وعن القول في الناس بما لا يعلم وعن الكلام في الفقه والدين بالظنّ وأن لا يقول أحد ما لا يحقّه. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فدخل في هذا النهي عن الاستماع إلى ما لا يحلّ استماعه وعن الهمّ والعزم بما لا يحلّ النظر إليه ، واعلم أن الإنسان مسؤول عن ذلك كلّه ، وقال : أولئك في غير الناس لأن كلّ ما يشار إليه وهو متراخ فلك أن تقول فيه : أولئك ، كما قال : [الكامل]

٢٧٠ ـ ذمّ المنازل غير منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٢)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ذا مرح ، وحكى يعقوب القارئ (مَرَحاً) (٣) بكسر الراء على الحال. قال الأخفش : وكسر الراء أجود لأنه اسم الفاعل. قال أبو إسحاق : فتح الراء أجود لأنه فيه معنى التوكيد ، كما يقال : جاء فلان ركضا ، وجعله مصدرا في موضع الحال. والمرح في اللغة الأشر والبطر ويكون منه التختر والتكبّر. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تبلغ قوتك هذا. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) فلا ينبغي أن تتكبّر وتترفّع.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣٨)

فاحتجّوا بأشياء قد تقدّمت حسان منها (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ومنها (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ، واحتجّ أبو حاتم بقوله «مكروها» ولم يقل مكروهة. قال أبو جعفر : لا يلزم

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٣.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٩٠ ، وتخليص الشواهد ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٣٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الشافية ١٦٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أولى) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٧٢ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤.


من هذه الاحتجاجات شيء لأن الأشياء الحسان تقدّمت في باب الأمر ثم جاء النهي فجاء بعده (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) لما نهي عنه ، وقال مكروها ولم يقل : مكروهة لأنه عائد على لفظ كلّ وهو خبر ثان عن المضمر الذي في كان والمضمر مذكّر.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠)

(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً) مصدر فيه معنى التوكيد (عَظِيماً) من نعته.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (٤١)

قال أبو إسحاق : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي ولقد بيّنا. قال : والمعنى (وَما يَزِيدُهُمْ) أي التبيين (إِلَّا نُفُوراً).

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢)

(لَابْتَغَوْا) لطلبوا.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣)

أي تعاليا ، كما قال : [الوافر]

٢٧١ ـ وليس بأن تتبّعه اتّباعا (١)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) على تأنيث الجماعة ويسبح على تذكير الجميع. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم : هو التسبيح الذي يعرف ، وقال بعضهم : هو مخصوص ، وقال بعضهم : تسبيحه دلالته على تنزيه الله جلّ وعزّ وتأوّل (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) على أن مخاطبة للكفار الذين لا يستدلّون ، وقيل : ولكن لا تفقهون مخاطبة للناس وإذا كان فيهم من لا يفقه ذلك فلم يفقهوا. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) أي حليما عن هؤلاء الذين لا يستدلّون. (غَفُوراً) لمن تاب منهم.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥)

قيل : هؤلاء قوم كانوا إذا سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بمكة ليستدعي الناس سبّوه

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٧٧).


فأعلمه الله جلّ وعزّ أنه يحول بينهم وبينه حتى لا يفهموا قراءته. قال الأخفش : «مستورا» أي ساترا ومفعول يكون بمعنى فاعل كما يقال : مشؤوم وميمون أي شائم ويا من لأن الحجاب هو الذي يستر ، وقال غيره : الحجاب مستور على الحقيقة لأنه شيء مغطّى عنهم.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦)

(وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) نصب على الحال على أنه جمع نافر ، ويجوز أن يكون واحدا على أنه مصدر.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) (٤٧)

(وَإِذْ هُمْ نَجْوى) مبتدأ وخبره والتقدير : ذو نجوى.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٤٨)

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا مرة هو مخدوع ومرة هو ساحر ليلحقوا بك الكذب ، (فَضَلُّوا) عن سبيل الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إليه.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٤٩)

(خَلْقاً) مصدر (جَدِيداً) من نعته. وجديد في المذكّر والمؤنّث بمعنى واحد ، وجديدة في المؤنث لغة رديئة عند سيبويه.

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١)

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي توهّموا ما شئتم فلا بدّ من أن تموتوا وتبعثوا. وكانت هذه الآيات من أعظم الدلائل على نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الله جلّ وعزّ : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) فأخبر جلّ وعزّ بأنّهم سيقولون هذا ، وأخبر أنهم يحرّكون رؤوسهم استبعادا لما قال لهم وأنهم يقولون مع تحريك رؤوسهم أو بعده. (مَتى هُوَ) وتلى عليهم فكان الأمر على ذلك.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) (٥٢)

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال سعيد بن جبير : يخرج الناس من قبورهم وهم


يقولون : سبحانك وبحمدك. (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) قيل : إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (٥٣)

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي المقالة التي هي أحسن. قال المازني : المعنى : قل لعبادي قولوا يقولوا إنّ الشيطان ينزغ بينهم أي يحرّض الكافرين على المؤمنين.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦)

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) في الكلام حذف دلّ عليه ما بعده ، والتقدير : قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم من دون الله فليكشفوا عنكم الضّرّ وليحوّلوكم من الضيق والشدّة إلى السّعة ودلّ على هذا (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) أي لن يحوّلوكم من الضيق والشدة إلى السعة والخصب.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧)

(أُولئِكَ) مبتدأ. (الَّذِينَ يَدْعُونَ) من نعته ، والخبر (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) وفي قراءة ابن مسعود رحمه‌الله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) (١) لأن قبله قل ادعوا ، والتقدير : يبتغون الوسيلة إلى ربهم ينظرون. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) فيتوسّلون : والفرق بين هؤلاء وبين من توسّل بعبادة المسيح عليه‌السلام وغيره أن هؤلاء توسلوا وهم موحّدون وأولئك توسلوا بعبادة غير الله جلّ وعزّ فكفروا و (أَيُّهُمْ) رفع بالابتداء و (أَقْرَبُ) خبره ، ويجوز أن يكون «أيّهم» بدلا من الواو ويكون بمعنى الذي ، والتقدير يبتغي الذي هو أقرب الوسيلة وأضمرت «هو» وسيبويه (٢) يجعل أيّا على هذا التقدير مبنيّة. وهو قول مردود وسنذكر ما فيه إن شاء الله (٣). والذين يدعون من كان مطيعا لله جلّ وعزّ ، والتقدير : يدعونهم آلهة ، وفي الآية قول آخر يكون متصلا بقوله جلّ وعزّ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض أولئك الذين يدعون أي أولئك النبيون الذين يدعون الله جلّ وعزّ (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال عطاء : أي القربة. قال أبو إسحاق : الوسيلة والسؤال والطلبة واحد. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي الذين يعبدونهم المطيعون يرجون رحمته ويخافون عذابه على الجواب الأول.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ٤٢٠.

(٣) انظر إعراب الآية ٦٩ ـ سورة مريم.


(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٥٨)

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية. (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) بالموت (أَوْ مُعَذِّبُوها) بالاستئصال لعصيانهم (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي في الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ للملائكة عليهم‌السلام فيه أخبار العباد ليستدلّوا بذلك على قدرته.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (٥٩)

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أن الثانية في موضع رفع بالمنع والأولى في موضع نصب به. وهذه آية مشكلة. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال : حدّثنا علي بن عبد الله قال : حدّثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكّة أن يجعل لهم الصفا ذهبا أو ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم لعلنا أن نجتبي منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت قبلهم الأمم. قال : لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً). قال أبو جعفر : التقدير في العربية : وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلّا أن كذّب بمثلها الأولون فأهلكوا واستؤصلوا فجعل الله جلّ وعزّ ما فيه من الصلاح لهم ، فإن قال قائل : فقد أعطي الأولون مثل هذا ولم يؤمنوا فما الفرق؟ فالجواب أنّ الفرق بينهم علم الله جلّ وعزّ بأنّ من هؤلاء من يؤمن ومن هؤلاء ومن أولادهم من يؤمن ، وأنّ أولئك لا يؤمنون ولا يولد لهم من يؤمن. (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) مفعولان ولم ينصرف ثمود لأنه جعله اسما للقبيلة ، ويجوز صرفه بجعله اسما للحيّ (مُبْصِرَةً) على الحال ، وهو عند أكثر النحويين البصريين على النسب ، وقال بعضهم : مبصرة: بمعنى مبصّرة أي مبيّنة مثل مكرم ومكرّم ، وقال الفراء (١) : مبصرة أي مضيئة مثل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧ ، والنمل : ٨٦ ، وغافر : ٦١]. قال الفراء : ومن قال (مبصرة) (٢) أراد مثل قول عنترة : [الكامل]

٢٧٢ ـ والكفر مخبثة لنفس المنعم (٣)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١.

(٣) الشاهد لعنترة العبسي من معلّقته في ديوانه ٢٨ ، والتهذيب ١ / ٣١٦ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٢٦ ، والخزانة ١ / ٣٣٦ ، وشرح القصائد العشر للتبريزي ٣٦٨ ، وصدره :

«نبّئت عرا غير شاكي نعمتي»


قال فإذا وضعت مفعلة مكان فاعل كفت من الجمع والتأنيث. قال أبو إسحاق : من قرأ مبصرة فالمعنى مبيّنة (فَظَلَمُوا بِها) التقدير فظلموا بعقرها وكفرهم بخالقها. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) قيل يعني به الآيات التي تتلى.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) قال أبو جعفر : قد ذكرناه وقد قيل : إنّ ربك أحاط بالناس علما ومعرفة وتدبيرا فلهذا لم يعطهم الآيات التي اقترحوها لعلمه جلّ وعزّ بهم. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) مفعولان أي محنة امتحنوا بها وتكليفا وقد تكلّم العلماء في هذه الرؤيا فمن أحسن ما قيل فيها وصحيحه أنها الرؤيا التي رآها محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، فلما ردّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبيّة عن البيت فافتتن جماعة من الناس حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تعدنا أنّا ندخل المسجد الحرام فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقلت لكم في هذا العام؟ قال : لا ، قال : فإنكم ستدخلونه ، فدخلوه في العام المقبل كما قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال : هي رؤيا عين رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به لا رؤيا نوم. قال (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) شجرة الزقوم. قال الفراء (١) : ويجوز (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) بالرفع يجعله نسقا على المضمر الذي في فتنة قال كما تقول : جعلتك عاملا وزيدا وزيد. (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) قال السّدّي : الطغيان المعصية ، وقال مجاهد : هذا في أبي جهل.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١)

(قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) التقدير لمن خلقته وحذفت الهاء لطول الاسم. قال أبو إسحاق: (طِيناً) منصوب على الحال ، والمعنى : أأسجد لمن أنشأته في حال كونه طينا.

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦٢)

(قالَ أَرَأَيْتَكَ) (٢) الكاف لا موضع لها من الإعراب وإنما هي لتوكيد المخاطبة ، وحكى سيبويه : أريتك زيدا أبو من هو ، وقد ذكرنا هذا باختلاف النحويين في سورة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٤.


الأنعام (١). (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال «لأحتنكنّ» لأستولينّ ، وقال مجاهد : لأحتوينّ مثل زناق الناقة والدابة وهي حناكها ، وقال غيره : إنما قال إبليس هذا لمّا قال الله جلّ وعزّ (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠].

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣)

أي مكمّلا.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً) (٦٤)

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) هذا على جهة التهاون به وبمن اتّبعه والتهديد له لأنّ من عصى فإنّما عصيانه على نفسه وليس ذلك بضارّ غيره. والعرب تفعل هذا على جهة التهديد ومثله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ولا يقع هذا إلّا بعد النهي فالله جلّ وعزّ قد نهى عن المعاصي ، وكما تقول : يا غلام لا تكلّم فلانا ، ثم تهدّده وتحذّره فتقول : كلّمه إن كنت صادقا ، وكذا (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قيل : إنّ هذا على التمثيل ، وقيل : يجوز أن يكون له خيل ورجل ، وقيل : هذا الخيل والرّجل الذين يسعون في المعاصي ، وكذا (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) هو أن يزيّن لهم أن ينفقوا أموالهم ويستعملوا أولادهم في المعاصي.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قيل : معناه خلصائي ومن أحسن ما قيل فيه أنه لا سلطان له على أحد لأنّ العباد هاهنا جميع الخلق ، والسلطان : الحجّة. كذا قال سعيد بن جبير لا حجة له على أحد توجب أن يقبل منه ، وفيه قول ثالث يكون المعنى أنّ عبادي جميعا لا تسلّط لك عليهم إلّا الوسوسة ، وصاحب هذا القول يستدلّ به على أنه لا يصل أحد من الجنّ إلى صرع أحد من الأنس (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) على البيان.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (٦٧)

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) أي عصوف الرياح والخوف من الغرق (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) لأنكم تعلمون أنهم لا يغنون عنكم شيئا إلّا إيّاه فترجعون فتدعونه. وهذا من

__________________

(١) انظر إعراب الآية ٤٠ ـ سورة الأنعام.


الدلائل على البارئ تبارك اسمه أنّه ليس أحد يقع في شدة من مؤمن أو مشرك أو ملحد إلا وهو يستغيث به.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) (٦٨)

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) على الظرف (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي رجما من فوقكم.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) تابعا يتبعنا في إنكار ذلك أو صرفه عنكم.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠)

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ولم يقل : على كلّ من خلقنا لأن الملائكة أفضل منهم لطاعتهم وأنّهم لا معصية لهم (تَفْضِيلاً) مصدر فيه معنى التوكيد.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١)

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) التقدير : أذكر يوم ندعوا ، ويجوز أن يكون التقدير : يعيدكم الذي فطركم (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال : بإمامهم بنبيّهم ، وروي عنه إمام هدى وإمام ضلالة ، وقال أبو صالح وأبو العالية بإمامهم بأعمالهم ، وقال مجاهد بكتابهم. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال متفقة والناس يدعون بهذا كلّه فيدعون بنبيّهم فيقال أين أصحاب الورع؟ وكذا ضدّ هذا فيقال أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الزنا؟ فيكون في هذا توبيخ وهتكة على رؤوس الناس لمن ينادى به أو مدح وسرور لمن ينادى بضدّه. قال عكرمة عن ابن عباس : الفتيل ما في شقّ النواة ، وتقديره في العربية لا يظلمون مقدار فتيل.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢)

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الدنيا (أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد : وإنما جاز هذا ، ولا يقال : فلان أعمى من فلان ؛ لأنه من عمى القلب ، ويقال في عمى القلب : فلان أعمى من فلان ، وفي عمى العين : فلان أبين عمىّ من فلان ، ولا يقال : أعمى منه. قال أبو جعفر : وإنما لم يقل : أعمى منه


في عمى العين عند الخليل وسيبويه (١) : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ ، كاليد والرجل ، فكما لا تقول : ما أيداه لا تقول : ما أعماه ، وفيه قولان آخران : قال الأخفش سعيد : إنّما لم يقل ما أعماه ؛ لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب ، وكذا لم يقولوا في الألوان : ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : إنما لم يقولوا : ما أقيله من القائلة ؛ لأنهم قد يقولون في البيع : قلته ففرّقوا بينهما. وحكى الفراء (٢) عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال : لأنهم يقولون : عمي وعشي وعور ، وأجاز الفراء : في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان ، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أن يكون من قولك : «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي منه في الدنيا ، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) ، ولا تجوز الإمالة في قوله (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى). يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى ؛ لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٧٣)

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وبنو قيس يقولون : كدت ، فهي عندهم فعلت ، وقيل : إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤)

قيل : ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة ، وقيل : ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال : ركن يركن ، وركن يركن أفصح.

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥)

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢١٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٨.


(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٧٦)

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) تأول العلماء هذا على تأويلين : أحدهما أنهم لو أخرجوه من أرض الحجاز كلّها لهلكوا ، والتأويل الآخر أنهم لو أخرجوه من مكة. وقال أصحاب هذا القول : لم يخرجوه وإنّما أمره الله عزوجل بالهجرة إلى المدينة ، ولو أخرجوه لهلكوا.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨)

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) مصدر أي سنّ الله عزوجل أنّ من أخرج نبيّا هلك سنّة ، وقال الفراء (١) : أي كسنّة.

قال الأخفش سعيد : نصب (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) بمعنى وآثر قرآن الفجر ، وعليك قرآن الفجر. قال أبو إسحاق : التقدير : وأقم قرآن الفجر.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) (٨٠)

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) المصدر من أفعل مفعل ، وكذا الظرف من فعل مفعل ، ومن قال في «مدخل صدق» إنه المدينة ، وفي مخرج صدق إنه مكّة فله تقديران : أحدهما أن الله جل وعز وعده ذلك فهو مدخل صدق ومخرج صدق ، والتقدير الآخر أن يكون المعنى مدخل سلامة ، وحسن عاقبة فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة لأنه جميل ، ومن قال مدخل صدق الرسالة ومخرج صدق من الدنيا ، قدّره بما وعده الله جلّ وعزّ به من نصرته الرسالة ، ومن إخراجه من الدنيا سليما من الكبائر ، وقد قيل : أمره الله جلّ وعزّ بهذا عند دخوله إلى بلد أو غيره أو عند خروجه منه. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي حجة ظاهرة بيّنة تنصرني بها على أعدائي.

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) أي جاء أمر الله ووحيه (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي الباطل الكفر والفساد (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) والزاهق والزهوق في اللغة الذي لا ثبات له.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً) (٨٢)

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) أي شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الظاهرة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٩ ، والبحر المحيط ٦ / ٦٤.


والحجج الباهرة فهو شفاء للمؤمنين أن لا يلحقهم في قلوبهم مرض ولا ريب ، وأجاز الكسائي (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) نسقا على «ما» أي وننزل رحمة للمؤمنين. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي يكفرون فيزدادون خسارا. وهذا مجاز.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)

وقرأ أبو جعفر وناء بجانبه (١). قال الكسائي هما لغتان. وقال الفراء : لغة أهل الحجاز نأى ولغة بعض هوازن وبني كنانة وكثير من الأنصار ناء يا هذا. قال أبو جعفر : الأصل نأى ثم قلب ، وهذا من قول الكوفيين مما يتعجّب منه لأنهم يقولون فيما كانت فيه لغتان وليس بمقلوب : هو مقلوب ، نحو جذب وجبذ ، ولا يقولون في هذا ، وهو مقلوب : شيئا من ذلك. والدليل على أنه مقلوب أنهم قد أجمعوا على أن يقولوا : نأيت نأيا ، ورأيت رأيا ورؤية ورؤيا ، فهذا كلّه من نأى ورأى ، ولو كان من ناء وراء لقالوا : رئت ونئت مثل جئت. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) وإن خففت الهمزة جعلتها بين بين وحكى الكسائي عن العرب الحذف «كان يوسا» (٢) وحكى وإذا المودة [التكوير : ٨] قال : مثل الموزة.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤)

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) هذه الآية من أشكل ما في السورة. ومن أحسن ما قيل فيها أن المعنى قل كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أولى بالصواب. وهذا تستعمله العرب بعد تبيين الشيء مثل (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] ، وكما يقول الرجل لخصمه : إنّ أحدنا لكاذب ، فقد صار في الكلام معنى التوبيخ. فهذا قول ، وقيل : معنى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) في أوقات الشرائع المفترضة لا غير ، وفيها قول ثالث يكون المعنى: قل كلّ يعمل على ناحيته وعلى طريقته (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) فلمّا علم بيّن الحقّ والسّبل.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قد تكلّم العلماء فيه ؛ فقيل : علم الله جلّ وعزّ أنّ الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما الروح ؛ لأن اليهود قالت لهم : في كتابنا أنه إن فسّر لكم ما الروح فليس بنبيّ وإن لم يفسره فهو نبي ، وقيل : إنهم سألوا عن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم الروح من أمر ربّي ؛ أي شيء أمر الله جلّ وعزّ به وخلقه لا كما يقول النصارى.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٧٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٠.


(إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (٨٧)

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء ليس من الأول أي إلّا أن يرحمك الله فيرد إليك ذلك. والرحمة من الله جل وعز التفضّل.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨)

فتحدّاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فعجزوا عنه من جهات إحداها وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله ، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرا أو حديثا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفا. ومن إعجازه أنه لا يتغيّر ، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة. ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير ، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز ، نحو قوله جلّ وعزّ : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة ، والله لا يحبّ الخائنين. فمثل هذا لا يوجد في كلام العرب على دلالة هذه المعاني والفصاحة التي فيه ، ومن إعجاز القرآن ما فيه من علم الغيوب بما لم يكن إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّما سئل عن شيء من علم الغيب أجاب عنه حتى لقد سئل بمكة فقيل له : رجل أخذه إخوته فباعوه ثم صار ملكا بعد ذلك ، وكانت اليهود أمرت قريشا بسؤاله عنه ، ووجهوا بذلك إليهم من المدينة إلى مكة وليس بمكّة أحد قرأ الكتب ، فأنزل الله جلّ وعزّ سورة يوسف عليه‌السلام فيها أكثر ما في التوراة من خبر يوسف عليه‌السلام ، فكانت هذه الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة إحياء عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الميت الذي أحياه بإذن الله جلّ وعزّ.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) (٩١)

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) هذه قراءة أهل المدينة ، وقرأ أهل الكوفة (حَتَّى تَفْجُرَ) مختلفا ، وقرءوا جميعا التي بعدها (فَتُفَجِّرَ) قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر : الفرق بينهما بيّن ؛ لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير ، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على


ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) قال : عيونا ، وكذا قال الحسن ، وروى سعيد عن قتادة (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) قال : عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر ؛ لأن تفجّر على التكثير.

(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٩٢)

وقرأ أهل المدينة وعاصم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) (١).

وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (كسفا) (٢) بإسكان السين. قال أبو جعفر : كسف جمع كسفة أي قطعا. وذكر السماء ليدلّ على الجمع. وحجة من قرأ كسفا أنه لمرة واحدة. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) على الحال.

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) (٩٣)

(أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) من رقي يرقى رقيّا إذا صعد ، ويقال : رقيت الصّبيّ أرقيه رقيا ورقية.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤)

(أن) في موضع نصب والمعنى من أن يؤمنوا (إِلَّا أَنْ قالُوا) في موضع رفع أي إلّا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) فانقطعت حججهم لمّا ظهرت البراهين وجاءوا بالجهل.

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥)

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) على الحال ، ويجوز في غير القرآن مطمئنّون نعت للملائكة. ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ لو كان في الأرض ملائكة يمشون لا يعبدون الله ولا يخافونه. وهذا معنى المطمئنين ؛ لأن المتعبّد الخائف لا يكون مطمئنا. (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) حتى يعظهم ، ويدعوهم إلى ما يجب عليهم.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٩٦)

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) على الحال ، ويجوز أن يكون منصوبا على البيان.

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١١٥ ، والبحر المحيط ٦ / ٧٨.


(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧)

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حذفت الياء من الخط لأنها كانت محذوفة قبل دخول الألف واللام ، والألف واللام لا يغيّران شيئا عن حاله إلا أنّ الاختيار إثبات الياء لأن التنوين قد زال. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : لا يجوز مثل هذا إلا بإثبات الياء ، والصواب عنده أن لا يقف عليه ، وأن يصله بالياء حتّى يكون متابعا للقراء وأهل العربية. (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) على الحال.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠)

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) رفع على إضمار فعل ، ولا يجوز أن يلي «لو» إلا فعل إمّا يكون مضمرا وإما لأنها تشبه حروف المجازاة. وخبّر الله جل وعز بما يعلم منهم مما غيّب عنهم فقال : لو أنتم تملكون (خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي نعمته. والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة. (لَأَمْسَكْتُمْ) أي عن النفقة (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وقيل : الإنفاق الفقر ، المعنى خشية أن تنفقوا فينقص ما في أيديكم. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) حكى الكسائي : قتر يقتر وأقتر يقتر ، وحكى أبو عبيد : قتر وقتور على التكثير ، كما يقال : ظلوم للكثير الظلم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) مفعولان (بَيِّناتٍ) في موضع خفض على النعت لآيات ، وقد يكون في موضع نصب على النعت لتسع. وقرأ الكسائي وابن كثير فسل بنى إسرائيل بغير همز يكون على التخفيف ، وعلى لغة من قال : سال يسال. والتقدير : قل للشاكّ سل بني إسرائيل. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ما قيل في التسع الآيات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن ابن عباس ، وما قاله ابن عباس فيجب أن يكون توقيفا لأنه ليس مما يقال بالرأي ، والقولان ليسا بمتناقضين فإنّما الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحمل على أنه لآيات جاء بها موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتلى إلّا أنها تفسير لهذه الآيات. والدليل على هذا قوله جلّ وعزّ : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢] في تسع آيات إلى فرعون وقومه (مَسْحُوراً) أي مخدوعا (مَثْبُوراً) من الثبور أي الهلاك.

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢)

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن فرعون مع توجيهه إلى


السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليه‌السلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. (بَصائِرَ) أي حجبا تبصرها العقول.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤)

(لَفِيفاً) على الحال.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١٠٥)

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) لأن كلّ ما فيه حقّ.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦)

(وَقُرْآناً) نصب على إضمار فعل (فَرَقْناهُ) بيناه ، وقيل : أنزلناه متفرّقا وعيدا ووعدا وأمرا ونهيا وخبرا عمّا كان ويكون ، وقيل : أنزلناه مفرّقا وقد اشتقّ مثل هذا أبو عمرو بن العلاء رحمه‌الله فقال : «فرقناه» أنزلنا فرقانا أي فارقا بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ ابن عباس والشّعبي وعكرمة وقتادة وقرآن فرّقناه (١) بالتشديد. ويحتمل أن يكون معناه كمعنى فرقناه إلّا أن فيه معنى التأكيد والمبالغة والتكثير. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي ليحفظوه ويفهموه يقال : مكث ومكث ومكث ومكث. وقال مجاهد أي على ترسّل.

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧)

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي شكرا لله وتعظيما.

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (١٠٨)

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لله جلّ وعزّ من أن يعد ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم لا يبعثه.

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩)

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) قيل : في الصلاة. (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) مفعولان.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠)

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) قال الأخفش سعيد : أي أيّ الدعاءين تدعو.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٨٤.


قال أبو جعفر : وهذا قول الحسن أي إن قلتم يا الله يا رحمن ، وقال أبو إسحاق : المعنى أيّ الأسماء تدعون (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الرحمن الرحيم الغفور الودود.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١)

قال مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي حليف ولا ناصر (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) مصدر فيه معنى التوكيد.


(١٨)

شرح إعراب سورة الكهف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١)

قال أبو جعفر : زعم الأخفش سعيد والكسائي والفراء (١) وأبو عبيد أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. (قَيِّماً) نصب على الحال. وقول الضحّاك فيه حسن أنّ المعنى مستقيم أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ، ولا فساد ولا تناقض (عِوَجاً) مفعول به. يقال : في الدين ، وفي الأمر ، وفي الطريق عوج ، وفي الخشبة والعصا عوج أي عيب أي ليس متناقضا.

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢)

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) نصب بلام كي ، والتقدير لينذركم بأسا أي عذابا من عنده.

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (٤)

(وَيُنْذِرَ) عطف عليه (الَّذِينَ) مفعولون.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٥)

(كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على البيان أي كبرت مقالتهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كلمة من الكلام. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق كبرت كلمة (٢) بالرفع بفعلها أي عظمت كلمتهم ، وهي قولهم : اتّخذ الله ولدا.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦)

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) جمع أثر ، ويقال : أثر. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٩٥.


أَسَفاً) قال أبو إسحاق : «أسفا» منصوب لأنه مصدر في موضع الحال. وأسف إذا حزن ، وإذا غضب.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) قيل «ما» و «زينة» مفعولان ويكون فيه تقديران : أحدهما أنه مخصوص للشجر والثمر والمال وما أشبههنّ ، والآخر أنه عموم لأنه دالّ على بارئه ، وقول آخر أنّ جعلنا هاهنا بمعنى خلقنا يتعدّى إلى «ما» و «زينة» مفعول من أجله ، وهذا قول حسن (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبرهم فنأمرهم بالطاعة لننظر (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فالحسن العمل الذي يزهد في الزينة ثم أعلم الله عزوجل أنه مبيد ذلك كله فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨).

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩)

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) أي أبل حسبت أنّهم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) وفي آيات الله عزوجل مما ترى أعجب منهم. قال ابن عباس : وجّهت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من مكة إلى المدينة ليسألا أحبار يهود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألاهم فقالوا : سله عن فتية ذهبوا في الدهر الأول كان لهم حديث عجب ، وعن رجل طواف بلغ المشارق والمغارب ، وعن الروح ، فإن أخبركم بالاثنين فهو نبي ، وإن أخبركم بالروح فليس بنبي ، فنزلت سورة الكهف.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠)

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي هاربين بدينهم (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي أعطنا من عندك رحمة تنجينا بها من هؤلاء الكفار (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي على ما ننجو به. ويقال : رشد ورشد إلّا أنّ رشدا هاهنا أولى لتتفق الآيات.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١)

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) الواحدة أذن مؤنّثة وتحذف الضمة لثقلها فتقول : أذن (سِنِينَ) ظرف ويقال : سنينا. يجعل الإعراب في النون. (عَدَداً) نصب لأنه مصدر ، ويجوز أن يكون نعتا لسنين يكون عند الفراء بمعنى معدودة ، وعند البصريين بمعنى ذات عدد.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢)


(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم من نومهم لنعلم. (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) وقد علم الله ذلك فمن أحسن ما قيل فيه أن معناه التوقيف ، كما تقول لمن أتى بباطل : هات برهانك وبينه حتّى أعلم أنك صادق ، وقيل هذا علم الشهادة. والحزبان أصحاب الكهف ، والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعث أصحاب الكهف و (أَيُ) مبتدأ و (أَحْصى) خبره. (أَمَداً) منصوب عند الفراء (١) من جهتين : إحداهما التفسير ، والأخرى بلبثهم أي بلبثهم أمدا. قال أبو جعفر : والجهة الأولى أولى ؛ لأن المعنى : عليها ، فإن قال قائل : كيف جاز التفريق بين أحصى وأمدا؟ وقولك : مرّ بنا عشرون اليوم رجلا قبيح ، فالجواب أنّ هذا أقوى من عشرين لأن فيه معنى الفعل.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣)

الْفِتْيَةُ جمع فتى في أقل العدد ، ولا يقاس عليه والكثير فتيان.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤)

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي شددناها حتّى قالوا بين يدي الكفار (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) مصدر ، وحقيقته قول شطط ، ويجوز أن يكون مفعولا للقول.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) والتقدير : اذكروا إذا اعتزلتموهم. هذا قول بعض الفتية لبعض (وَما يَعْبُدُونَ) في موضع نصب أي واعتزلتم ما يعبدون فلم يعبدوه (إِلَّا اللهَ) استثناء (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) جواب الأمر (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) زعم الأصمعي أنه لا يعرف في كلام العرب إلّا مرفقا بكسر الميم في الأمر وفي اليد وفي كل شيء. وزعم الكسائي والفراء (٢) أن اللغة الفصيحة كسر الميم ، وأن الفتح جائز. قال الفراء : وكأنّ الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان ، وقد يفتحان جميعا. فزعم الأخفش سعيد أنّ فيه ثلاث لغات جيدة مرفق ومرفق ومرفق. فمن قال : مرفق جعله مما ينتقل ويعمل به ، مثل مقطع ، ومن قال : مرفق جعله كمسجد ؛ لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد ، ومن قال : مرفق جعله بمعنى الرفق.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٦ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠٠.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٦.


(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧)

قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) (١) أدغموا التاء في الزاي والأصل تتزاور ، وقرأ أهل الكوفة (تزاور) (٢) حذفوا التاء ، وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن عامر (تزور) (٣) مثل تحمرّ ، وحكى الفراء : تزوار (٤) مثل تحمارّ.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

(ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ظرفان (فِراراً) و (رُعْباً) منصوبان على التمييز ، ولا يجوز عند سيبويه ولا عند الفراء تقديمهما ، وأجاز ذلك محمد بن يزيد لأن العامل متصرّف ، وروي عن يحيى بن وثاب والأعمش أنهما قرءا (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) بضم الواو. وهذا جائز لأن الضمة من جنس الواو إلّا أن الكسر أجود ، وليس هذا مثل (أَوِ انْقُصْ) [المزمل : ٣] لأن بعد الواو هاهنا ضمة (فِراراً) مصدر لأنّ معنى ولّيت فررت.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (١٩)

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضهم بعضا (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) ، ويجوز «لبتّم» على الإدغام لقرب المخرجين (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أحدهم : لبثنا يوما ، وقال آخر : لبثنا نحوه فقال لهم كبيرهم لا تختلفوا فإنّ الاختلاف هلكة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وقرأ أهل المدينة (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) فأدغم ، وأدغم ابن كثير القاف في الكاف لتقاربهما ، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (بِوَرِقِكُمْ) حذفوا الكسرة لثقلها ، وحكى الفراء : أنه يقال : «بورقكم» (٥) بكسر الواو ، كما يقال : كبد وفخذ ، وحكى غيره : أنه يقال للورق : رقّة مثل عدة ، وهذا على لغة من قال : ورقة فحذف الواو فقال : رقة.

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ) التقدير : أيّ أهلها ، وروى سعيد بن جبير عن ابن

__________________

(١) و (٢) و (٣) انظر تيسير الداني ١١٦ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠٤.

(٤) انظر البحر المحط ٦ / ١٠٤.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٧ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠٧.


عباس رحمه‌الله قال : يعني أيّها أطهر طعاما لأنهم كانوا يذبحون الخنازير فليأتكم برزق منه ، ويجوز كسر اللام وهو الأصل ، وكذا وليتلطّف.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٢٠)

(إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ).

شرط ومجازاة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ) عطف على المجازاة وفي (إِذاً) معنى الشرط والمجازاة (أَبَداً) ظرف زمان.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

(إِذْ يَتَنازَعُونَ) ظرف زمان والعامل فيه ليعلموا إذ بعثناهم.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) على إضمار مبتدأ أي هم ثلاثة (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) مبتدأ وخبر ، وكذا (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). وفي المجيء بالواو «وثامنهم» خاصة دون ما تقدّم قولان : أحدهما أن دخولها وخروجها واحد ، والآخر أنّ دخولها يدلّ على تمام القصة وانقطاع الكلام. ذكر هذا القول إبراهيم بن السريّ فيكون المعنى عليه أنّ الله جلّ وعزّ خبر بما يقولون ثم أتى بحقيقة الأمر فقال : وثامنهم كلبهم. (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) رفع بفعله أي القليل يعلمونهم.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٢٣)

(غَداً) ظرف زمان والأصل فيه غدو.

(إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤)

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نصب على الاستثناء المنقطع.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٢٥)

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هذه قراءة (١) أهل المدينة وأبي عمرو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٦ ، والبحر المحيط ٦ / ١١٢.


وعاصم ، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) بغير تنوين. القراءة الأولى على أن سنين في موضع نصب أو خفض ؛ فالنصب على البدل من ثلاث ، وقال أبو إسحاق : سنين في موضع نصب على عطف البيان والتوكيد ، وقال الكسائي والفراء (١) وأبو عبيدة : التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة. قال أبو جعفر : والخفض ردّ على مائة لأنها بمعنى مئين ، كما أنشد النحويون : [الكامل]

٢٧٣ ـ فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم (٢)

فنعت حلوبة بسود لأنها بمعنى الجمع. فأما ثلاث مائة سنين فبعيد في العربية. يجب أن تتوقّى القراءة به ؛ لأن كلام العرب ثلاث مائة سنة فسنة بمعنى سنين فجئت به على المعنى والأصل.

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦)

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) حذف منه الإعراب لأنه على لفظ الأمر ، وهو بمعنى التعجب أي ما أسمعه وما أبصره.

وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] وحجّتهم أنها في السواد بالواو. قال أبو جعفر : وهذا لا يلزم لكتبهم الصلاة والحياة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول : الغدوة لأنها معرفة ولا تدخل الألف واللام على معرفة ، وروي عن الحسن (لا تعد عينيك) (٣) نصب بوقوع الفعل عليها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في خبر إنّ ثلاثة أقوال : منها أن يكون التقدير إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم ، ثم حذف منهم ؛ لأن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه يحبط أعمال الكفار ، وقيل : التقدير : إنّا لا نضيع أجرهم لأن من أحسن عملا لهم ، والجواب الثالث أن يكون التقدير : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات عدن و (عَمَلاً) نصب على البيان.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٣٨.

(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ١٩٣ ، والحيوان ٣ / ٤٢٥ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٩٠ ، وشرح شذور الذهب ٣٢٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٣ / ٦٢٥ ، وشرح المفصّل ٣ / ٥٥.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ٢٧.


(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١)

(يُحَلَّوْنَ فِيها) حكى الفراء (١) (يُحَلَّوْنَ فِيها) يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي ، ويقال : حلي الشيء يحلى. (مِنْ أَساوِرَ) في موضع نصب لأنه خبر ما لم يسمّ فاعله (مِنْ ذَهَبٍ) في موضع نصب على التمييز إلا أن الأفصح في كلام العرب إذا كان الشيء مبهما أن يؤتى بمن والقرآن إنما يأتي بأفصح اللغات فيقال : عنده جبّة من خز وجبّتان خزّا ، وأساور من ذهب وسواران ذهبا. وأساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال : سوار ، وحكى قطرب إسوار. قال أبو جعفر : قطرب صاحب شذوذ. قد تركه يعقوب وغيره ، فلم يذكروه. (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) ولو كان سندسا جاز ولكنه مبهم ، والفصيح أن يؤتى معه بمن كما تقدم. قال الكسائي : واحد السندس سندسة ، وواحد العبقريّ عبقريّة ، وواحد الرّفرف رفرفة وواحد الأرائك أريكة (نِعْمَ الثَّوابُ) رفع بنعم ولو كان نعمت لجاز لأنه للجنّة وهي على هذا (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (٣٢)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) التقدير مثلا مثل الرجلين.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) (٣٣)

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) محمول على لفظ كلتا ، وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى ، وأن تقول كلتا الجنتين آتتا أكلهما ؛ لأن المعنى الجنتان كلتاهما آتتا أكلهما ، وأجاز الفراء (٢) كلتا الجنتين آتى أكله قال : لأن المعنى أكل الجنتين ، أو كلّ الجنتين. وفي قراءة عبد الله كلّ الجنتين أتى أكله (٣). والمعنى عند الفراء على هذا كلّ شيء من ثمر الجنتين آتى أكله قال : ومن العرب من يفرد واحد كلتا ، وهو يريد التثنية ، وأنشد : [الرجز]

٢٧٤ ـ في كلت رجليها سلامي واحده (٤)

قال أبو جعفر : يقول الخليل وسيبويه (٥) رحمهما‌الله : جاءني كلا الرجلين ، ورأيت كلا الرجلين ، ومررت بكلا الرجلين ، كلّه بألف في اللفظ ، وقال غيرهما : إلّا أنه يكتب

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤١.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ١١٩.

(٤) الرجز بغير نسبة في معاني الفراء ٢ / ١٤٢.

(٥) انظر الكتاب ١ / ٢٦٦.


في موضع الخفض والنصب ؛ لأنه يقال : رأيت كليهما ، ومررت بكليهما.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤)

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال الأخفش : وكان لأحدهما.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦)

قرأ أهل المدينة لأجدنّ خيرا مّنهما منقلبا (١) بتثنية منهما وقرأ أهل الكوفة (مِنْها) والتثنية أولى لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨)

(لكِنَّا) مذهب الكسائي والفراء (٢) ، والمازني أن الأصل «لكن أنا» فألقيت حركة الهمزة على نون لكن ، وحذفت الهمزة ، وأدغمت النون في النون. والوقف عليها لكنّا وهي ألف أنا لبيان الحركة ، ومن العرب من يقول : أنه. قال أبو حاتم فرووا عن عاصم لكنّنا هو الله ربّي (٣) وزعم أن هذا لحن يعني إثبات الألف في الإدراج. قال : ومثله قراءة من قرأ (كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] فأثبت الهاء في الإدراج. قال أبو إسحاق : إثبات الألف في (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) في الإدراج جيد لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال : وفي قراءة أبيّ بن كعب لكن أنا هو الله ربّي (٤).

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) (٣٩)

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) في موضع رفع والتقدير إلّا من شاء ، ويجوز أيضا عند النحويين أن تكون «ما» في موضع نصب وتكون للشرط ، والتقدير أيّ شيء شاء الله كان فحذف الجواب ، ومثله (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) [الأنعام : ٣٥]. (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) على التجربة ، ويجوز لا قوّة إلّا بالله (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً أَنَا) فاصلة لا موضع لها من الإعراب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء ، وقرأ عيسى بن عمر إن ترني أنا أقلّ منك مالا (٥) بالرفع يجعل أنا مبتدأ وأقل خبره والجملة في موضع المفعول الثاني والمفعول الأول والنون والياء إلّا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدلّ عليها وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل ولأنها الاسم على الحقيقة وإنما النون جيء بها لعلّة.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٧.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤٤.

(٣) انظر تيسير الداني ١١٧.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٨٠.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤٥ ، والبحر المحيط ٦ / ١٢٣.


(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (٤١)

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) التقدير ذا غور ، مثل «واسأل القرية» قال الكسائي : يقال : مياه غور وقد غار الماء يغور غوورا ، ويجوز الهمز لانضمام الواو وغورا.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢)

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر وهو المصدر ، ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ) في موضع نصب أي منقلبا.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (٤٣)

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) اسم تكن والخبر (لَهُ) ، ويجوز أن يكون (يَنْصُرُونَهُ) الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدّم له ، وأبو العباس يخالفه ويحتج بقول الله جلّ وعزّ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] ، وقد أجاز سيبويه الوجه الآخر وأنشد : [الرجز]

٢٧٥ ـ لتقربنّ قربا جلذيّا

ما دام فيهنّ فصيل حيّا (١)

وينصرونه على معنى فئة لأن معناها أقوام ولو كان على اللفظ لكان ولم تكن له فئة تنصره كما قال الله جلّ وعزّ : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) [آل عمران : ١٣]. (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم يكن يصل أيضا إلى نصر نفسه.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤)

(هُنالِكَ) قيل : إن هذا التمام فيكون العامل فيه منتصرا. وأحسن من هذا أن يكون «هنالك» مبتدأ أي في تلك الحال تتبيّن نصرة الله جلّ وعزّ وليّه. وقرأ الكوفيون (الولاية) (٢) أي السلطان وهو بعيد جدّا. وفي «الحقّ» ثلاثة أوجه : قرأ أبو عمرو والكسائي (الحقّ) بالرفع نعتا للولاية ، وقرأ أهل المدينة وحمزة (الْحَقِ) بالخفض نعتا لله جلّ وعز ذي الحق. قال أبو إسحاق : ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما يقال : هذا لك حقا. (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) على البيان. وفي عقب ثلاثة أوجه : ضم العين

__________________

(١) الشاهد لابن ميادة في ديوانه ٢٣٧ ، والكتاب ١ / ١٠٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٥٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٦٦ ، وشرح المفصّل ٤ / ٣٣ ، ولسان العرب (جلذ) وبلا نسبة في سمط اللآلي ص ٥٠١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٧٧ ، وشرح المفصّل ٧ / ٩٦ ، ولسان العرب (دوم) و (هيا) ، والمقتضب ٤ / ٩١ ، ونوادر أبي زيد ص ١٩٤.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٧.


والقاف ، وقرأ أهل الكوفة (عُقْباً) بضم العين وإسكان القاف والتنوين. قال أبو إسحاق : ويجوز عقبى مثل بشرى.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥)

وفي (تَذْرُوهُ) ثلاثة أوجه : (تَذْرُوهُ) قراءة العامة. قال الكسائي : وفي قراءة عبد الله تذريه(١) وحكى الكسائي أيضا «تذريه» وحكى الفراء (٢) : أذريت الرجل عن البعير أي قلبته ، وأنشد سيبويه والمفضل : [الطويل]

٢٧٦ ـ فقلت له : صوّب ولا تجهدنّه

فتذرك من أخرى القطاة فتزلق (٣)

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) وهذا من الشكل وقد تكلّم العلماء فيه ، فقال قوم : كان بمعنى يكون ، وقال آخرون : كان بمعنى ما زال. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق ينكر أن يكون الماضي بمعنى المستقبل إلّا بحرف يدلّ على ذلك. قال : وإنما خوطبت العرب على ما تعرف ولا تعرف في كلامها هذا وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه. قال : عاين القوم قدرة الله جلّ وعزّ فقيل لهم هكذا كان أي لم يزل مقتدرا.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر. قال بعض النحويين : التقدير : والباقيات الصالحات خير يوم نسيّر الجبال. قال أبو جعفر : وهو غلط من أجل الواو. (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) على الحال ، وكذا (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) وكذا (لا يُغادِرُ) في موضع الحال ، وكذا (حاضِراً).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠)

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء ، وزعم أبو إسحاق أنه استثناء ليس من الأول لأنّ

__________________

(١) و (٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤٦ ، والبحر المحيط ٦ / ١٢٤.

(٣) الشاهد لعمرو بن عمّار الطائي في الكتاب ٣ / ١١٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٢ ، (فيدنك) ، ولامرئ القيس في ديوانه ١٧٤ ، ولسان العرب (ذرا) ، والمحتسب ٢ / ١٨١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٥٢٦ ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤٣٦ ، والمقتضب ٢ / ٢٣.


إبليس لم يكن من الملائكة ولكنه أمر بالسجود معهم فاستثني منهم.

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١)

قال أبو جعفر : وقرأ أبو جعفر والجحدري (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) بفتح التاء. وفي عضد ستة أوجه : أفصحها «عضد» ولغة بني تميم «عضد» (١) وروي عن الحسن أنه قرأ (عضدا) (٢) بضم العين والضاد ، وحكى هارون القارئ «عضد». قال أبو إسحاق : ويجوز «عضد» واللغة السادسة «عضد» على لغة من قال : فخذ ، وكتف ، وقيل : إن الضمير الذي في (ما أَشْهَدْتُهُمْ) يعود على إبليس وذرّيته ، والمعنى : ما أشهدت إبليس وذرّيته خلق السموات والأرض لأستعين بهم ولا أشهدتهم خلق أنفسهم.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) (٥٢)

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي الذين جعلتموهم شركاء في الألوهة والعبادة فنادوهم ليخلّصوكم مما أنتم فيه من العذاب ويجازوكم على عبادتكم إياهم.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣)

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) الأصل رأى قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، ولهذا زعم الكوفيون أن رأى يكتب بالياء واتّبعهم على هذا بعض البصريين ، فأما البصريون الحذاق ، منهم : محمد بن يزيد فإنّ هذا كلّه يكتب عندهم بالألف. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكلّ ما كان من ذوات الياء إلّا بالألف ، ولا فرق بين ذوات الياء وذوات الواو في الخطّ كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ ، وإنما الكتاب نقل ما في اللفظ كما أن ما في اللفظ نقل ما في القلب ، ومن كتب ذوات شيئا من هذا بالياء فقد أشكل وجاء بما لا يجوز ، ولو وجب أن تكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن تكتب ذوات الواو بالواو ، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون ، رمى بالياء ورماه بالألف فإن كانت العلّة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء ثم يكتبون ضحا وكسا جمع كسوة وهما من ذوات الواو بالياء. وهذا لا يحصّل ولا يثبت على أصل. قال : فقلت لمحمد بن يزيد : فما بال الكتّاب وأكثر الناس قد اتّبعوهم على هذا الخطأ البيّن؟ قال : الأصل في هذا من الأخفش سعيد لأنه كان رجلا محتالا للتكسّب ، فاحتال بهذا وهو الكسائي فهذا هو

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ١٣٠ ، ومختصر ابن خالويه ٨٠.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٨٠.


الأصل فيه. وحكى سيبويه أنه يقال راء يا هذا ، على القلب. (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) ويجوز مصرفا على أنه مصدر ، وكسر الراء على أنه اسم للموضع ، والمعنى ولم يجدوا موضعا يتهيّأ لهم الانصراف إليه.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) (٥٥)

(أَنْ) الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع ، وسنة الأولين الاستئصال. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) (١) على الحال ، ومذهب الفراء أن قبلا قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا ، ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا ، قال الأعرج : وكانت قراءته (قبلا) معناه جميعا. قال أبو عمرو : وكانت قراءته (قبلا) (٢) معناه عيانا. قال أبو جعفر : وهذا من المجاز لمّا كانوا قد جاءتهم البراهين وما ينبغي أن يؤمنوا به وما ينبغي أن يقبلوه كانوا بمنزلة من منعه أن يؤمن أحد هذين.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦)

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧)

(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لنفسه (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) أي عن قبولها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩)

(وَتِلْكَ) في موضع رفع بالابتداء و (الْقُرى) نعت أو بدل (أَهْلَكْناهُمْ) في موضع الخبر محمول على المعنى لأن المعنى أهل القرى ، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب على قول من قال : زيدا ضربته (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٣) قيل : المعنى أنه قيل لهم : إن لم يؤمنوا أهلكتهم وقت كذا ومهلك من أهلكوا ، وقرأ عاصم (مهلكا) (٤) بفتح الميم واللام ، وهو مصدر هلك ، وأجاز الكسائي والفراء (لِمَهْلِكِهِمْ)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٤٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٣٢.

(٣) و (٤) انظر تيسير الداني ١١٧.


بفتح الميم وكسر اللام. قال الكسائي : هو أحبّ إليّ لأنه من يهلك. قال أبو إسحاق : مهلك اسم للزمان ، والتقدير لوقت مهلكهم كما يقال : أتت الناقة على مضربها.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٦٠)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) وهو يوشع بن نون. قال الفراء : كلّ من أخذ عن أحد وتعلّم منه فهو فتاه وإن كان شيخا شبّه بالعبد ، (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) ظرف. قال الفراء (١) : الحقب في لغة قيس سنة ، وفي التفسير أنه ثمانون سنة. قال أبو جعفر : حقيقة الحقب وقت من الزمان مبهم يكون لتمييز سنة أو أقلّ أو أكثر.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٦١)

(فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) مصدر دلّ عليه «اتّخذ» كما تقول : هو يدعه تركا. ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، كما يقال : اتّخذت زيدا وكيلا ، ومثله اتّخذت مكان كذا وكذا طريقا.

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) (٦٢)

(فَلَمَّا جاوَزا) التقدير فلمّا جاوزا مجمع البحرين ، وحذف المفعول. (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) مفعولان. (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٦٣)

(فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) قيل : المعنى نسيت أن أذكر لك خبر الحوت فإنّه حيي ثم انساب في البحر ونسي هذه الآية العظيمة لأن الآيات كانت كبيرة في ذلك الوقت. (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) ويجوز ضم (٢) الهاء على الأصل ، وإثبات الواو جائز ، وكذا إثبات الياء إذا كسرت (أَنْ أَذْكُرَهُ) في موضع نصب على البدل من الهاء بدل الاشتمال ، والتقدير وما أنساني أن أذكره إلّا الشيطان أي إن الشيطان وسوس إليه وشغل قلبه حتى نسي فنسب النسيان إلى الشيطان مجازا. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٣) قال أبو إسحاق : فيه وجهان : يكون يوشع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : واتّخذ سبيله في البحر عجبا ، والوجه الآخر أن يكون يوشع عليه‌السلام قال : واتّخذ سبيله في البحر عجبا فقال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عجبا أي أعجب عجبا. قال : وفيه وجه ثالث هو أولى مما قال أبو إسحاق ، وهو أن أحمد بن

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٥٢ ، والبحر المحيط ٦ / ١٣٤.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٣٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ١٣٨.


يحيى ، قال : المعنى : واتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر فعجب عجبا. قال أبو جعفر : وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتبّع أثر الحوت وتنظّر إلى دورانه في الماء وتعجّب من تغيّبه فيه.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤)

(قالَ ذلِكَ) مبتدأ (ما كُنَّا نَبْغِ) خبره وحذفت الياء لأنه تمام الكلام فأشبه رؤوس الآيات (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي رجعا في الطريق الذي جاءا منه يقصّان الأثر قصصا.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦)

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ) يكون نعتا ، ويكون مستأنفا. (وَعَلَّمْناهُ) معطوف عليه. (مِنْ لَدُنَّا) مبنية لأنها لا تتمكن (عِلْماً) مفعول ثان. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة (رُشْداً) (١) وقرأ أبو عمرو (رشدا) (٢) وهما لغتان بمعنى واحد.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨)

مصدر لأن معنى أحطت به وخبرته واحد ، ومثله : [الطويل]

٢٧٧ ـ فسرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (٣)

لأن معنى رضت أذللت.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي إن رأيت شيئا تنكره فلا تعجلنّ بسؤالي عنه حتّى أذكره لك.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١)

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ليغرق أهلها (٤) والمعنى واحد. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قيل : إنما قال له موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا لأنه لم يعلم أنه نبيّ وأنّ هذا بوحي. وقيل : لا يجوز أن يكون موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحبه على أن يتعلم منه إلّا وهو نبيّ ؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يتعلمون إلّا من الملائكة أو النبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٠ ، وتيسير الداني ١١٧.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٧٨).

(٤) انظر تيسير الداني ١١٨.


قيل : لقد جئت شيئا إمرا ونكرا أي هو في الظاهر منكر حتّى نعلم الحكمة فيه. (شَيْئاً) منصوب على أنه مفعول به أي أتيت شيئا ، ويجوز أن يكون التقدير : جئت بشيء إمر ثم حذفت الباء فتعدّى الفعل فنصب.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) في معناه قولان : أحدهما روي عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : هذا من معاريض الكلام والآخر أنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولو نسي لاعتذر (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) مفعولان.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤)

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (١) وقرأ الكوفيون (زَكِيَّةً) فزعم أبو عمرو أن زاكية هاهنا أولى ؛ لأن الزاكية التي لا ذنب لها : وكان الذي قتله الخضر صلّى الله عليه طفلا ، وخالفه في هذا أكثر الناس فقال الكسائي والفراء (٢) : زاكية واحد ، وقال غيرهما : لو كان الأمر على ما قال لكان زكيّة أولى ؛ لأن فعيلا أبلغ من فاعل ، ولم يصحّ أنّ الذي قتله الخضر كان طفلا بل ظاهر القرآن يدلّ على أنه كان بالغا. يدلّ على ذلك «بغير نفس» فهذا يدلّ على أن قتله بنفسه جائز ، وهذا لا يكون لطفل ، ولا يقع القود إلا بعد البلوغ (نُكْراً) الأصل ومن قال «نكرا» حذفت الضمة لثقلها.

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦)

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المسألة (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي من قبلي قد عذرتك مدافعتي عن صحبتك ، وهذه قراءة (٣) أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أهل المدينة (من لدني) (٤) بتخفيف النون. والقراءة الأولى أولى في العربية وأقيس لأن الأصل «لدن» بإسكان النون ثم تزيد عليها ياء لتضيفها إلى نفسك ثم تزيد نونا ليسلم سكون نون لدن ، كما نقول : عنّي ومنّي فكما لا تقول عني يجب ألّا تقول : لدني ، والحجّة في جوازه على ما حكي عن محمد بن يزيد أنّ النون حذفت كما قرأ أهل المدينة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] بكسر النون. وأحسن من هذا القول ما

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ١٤٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٥٥.

(٣) و (٤) انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٢ ، وتيسير الداني ١١٨.


ذهب إليه أبو إسحاق قال : «لدن» اسم و «عن» حرف والحذف في الأسماء جائز كما قال : [الراجز]

٢٧٨ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي (١)

فجاء باللغتين جميعا. قال : وأيضا فإن لدن أثقل من عن ومن.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧)

وقرأ أبو رجاء العطاردي (٢) فأبوا أن يضيفوهما مخففا. يقال : أضفته وضيّفته أي أنزلته ضيفا وضفته أي مالت نزلت به. وهو مشتق من ضاف السّهم أي مال ، وضافت الشمس أي مالت للغروب. وهو مخفوض بالإضافة أي بالإضافة الاسم إليه. وروي عن أبي عمرو ومجاهد لتخذت (٣) يقال : تخذ يتخذ واتّخذ افتعل منه.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) تكرير «بين» عند سيبويه على التوكيد أي هذا فراق بيننا أي تواصلنا. قال سيبويه : ومثله أخزى الله الكاذب منّي ومنك أي منّا ، وأجاز الفراء قال : هذا فراق بيني وبينك ، على الظرف.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

(أَمَّا السَّفِينَةُ) مبتدأ والخبر (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ولم ينصرف مساكين لأنه جمع لا نظير له في الواحد. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أكثر أهل التفسير يقول : وراء بمعنى أمام. قال أبو إسحاق : وهذا جائز لأن وراء مشتقّة من توارى ، فما توارى عنك فهو وراءك كان أمامك أم خلفك فيجب على قول أبي إسحاق أن يكون وراء ليس من ذوات الهمزة وأن

__________________

(١) الشاهد لحميد بن مالك الأرقط في خزانة الأدب ٥ / ٣٨٢ ، والدرر ١ / ٢٠٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨٧ ، ولسان العرب (خبب) ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٥٧ ، ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) وليس في ديوانه ، ولأبي بحدلة في شرح المفصّل ٣ / ١٢٤ ، وبلا نسبة في الكتاب ٢ / ٣٩٣ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٢٤١ ، وتخليص الشواهد ١٠٨ ، والجنى الداني ٢٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٤٦ ، ورصف المباني ٣٦٢ ، وشرح ابن عقيل ٦٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١٧٠ ، ونوادر أبي زيد ٢٠٥ ، وبعده :

«ليس الإمام بالشحيح الملحد»

(٢) وهذه قراءة ابن الزبير والحسن وأبي رزين وابن محيصن وعاصم أيضا ، انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٣.

(٣) انظر تيسير الداني ١١٨ ، وهي قراءة ابن كثير أيضا.


يقال في تصغيره : وريئة وزعم الفراء (١) أنه لا يقال لرجل أمامك : هو وراءك ، ولا لرجل خلفك : هو بين يديك ، وإنما يقال ذلك في المواقيت من الليل والنهار والدهر. يقال : بين يديك برد ، وإن كان لم يأتك ، ووراءك برد ، وإن كان بين يديك لأنه إذا لحقك صار وراءك.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠)

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ويجوز عند سيبويه في غير القرآن مؤمنان على أن نضمر في كان و (أبواه مؤمنان) ابتداء وخبر في موضع خبر كان ، وحكى سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصّرانه» (٢) (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي تجاوزا فيما لا يجب. وعلم الله عزوجل هذا منه إن أبقاه فأمر بفعل الأصلح.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١)

(خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أكثر أهل التفسير يقول : الزكاة الدين ، والرحم : المودة. قال أبو جعفر : وليس هذا بخارج من اللغة لأن الزكاة مشتقة من الزكاء وهو النماء والزيادة ، والرحم من الرّحمة كما قال : [الراجز]

٢٧٩ ـ يا منزل الرّحم على إدريس

ومنزل اللّعن على إبليس (٣)

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون مصدرا. (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ) نذكره في العشر الذي بعد هذا لأنه أولى به.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥)

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٤) أي من الأسباب التي أوتيها ، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو. وقراءة الكوفيين (فأتبع) جعلوها ألف قطع ، وهذه القراءة اختيار أبي عبيد لأنها من

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٥٧.

(٢) مرّ تخريج الحديث في حواشي تفسير الآية ٥٨ ـ سورة النحل.

(٣) الشاهد لرؤبة بن العجاج في اللسان (رحم).

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥١.


السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال : تبعه واتّبعه إذا سار ولم يلحقه وأتبعه إذا لحقته. قال أبو عبيد : ومثله (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء : ٦٠]. قال أبو جعفر : وهذا التفريق ، وإن كان الأصمعي قد حكاه ، لا يقبل إلّا بعلّة أو دليل ، وقوله عزوجل (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) ليس في الحديث أنه لحقوهم ، وإنما الحديث لمّا خرج موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر ، والحقّ في هذا أنّ تبع واتبع واتّبع لغات بمعنى واحد ، وهي بمعنى السير ، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وأن لا يكون.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) (٨٧)

(وَجَدَها تَغْرُبُ) في موضع الحال (فِي عَيْنٍ) والحمأة الطين المتغير اللون والرائحة. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قول أبي إسحاق أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ خيّره بين هذين الحكمين وردّ عليّ بن سليمان عليه قوله جلّ وعزّ خيّره لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا ، وكيف يقول لربه جلّ وعزّ : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) وكيف يقول : (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) فيخاطب بالنون. قال : والتقدير : قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء أما (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فيجوز أن يكون الله جلّ وعزّ خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] ، وأما إشكال (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) فإن تقديره أن الله جلّ وعزّ لما خيّره بين القتل في قوله (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) وبين الاستبقاء في قوله جلّ وعزّ (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ) لأولئك القوم. (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي أقام على الكفر منكم (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بالقتل (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) أي يوم القيامة (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي شديدا.

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨)

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي تاب من الكفر. (وَعَمِلَ صالِحاً) قال أحمد بن يحيى : «أن» في موضع نصب في (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال ولو رفعه كان صوابا بمعنى فإمّا هو ، كما قال : [الطويل]

٢٨٠ ـ فسيرا فإمّا حاجة تقضيانها

وإمّا مقيل صالح وصديق (١)

(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) (٢) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري ١٦ / ١٨٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٥٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٢ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٥٩ ، وتيسير الداني ١١٨.


الكوفيين (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) وقرأ ابن أبي إسحاق فله جزاء حسنى وعن ابن عباس ومسروق (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) منصوبا غير منون. قال أبو جعفر : القراءة الأولى فيها تقديران : أحدهما أن يكون «جزاء» رفعا بالابتداء أو بالاستقرار و «الحسنى» في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة ، والتقدير الآخر أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون «الحسنى» في موضع رفع على البدل عند البصريين والترجمة عند الكوفيين وعلى هذا الوجه القراءة الثانية إلا أنك لم تحذف التنوين ، وهو أجود. والقراءة الثالثة فيها ثلاثة أقوال : قال الفراء : جزاء منصوب على التمييز ، والقول الثاني أن يكون مصدرا ، وقال أبو إسحاق : هو مصدر في موضع الحال أي مجزيّا بها جزاء ، والقراءة الرابعة عند أبي حاتم على حذف التنوين وهي كالثانية وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ، فيكون تقديره : فله الثواب جزاء الحسنى وعندها عند العين.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) (٩٠)

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) ويقال مطلع وهو القياس.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٩٢)

(كَذلِكَ) بمعنى الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب أي تطلع طلوعا كذلك. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً). (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) (١) قراءة أهل المدينة وعاصم ، وقرأ أهل مكة وأبو عمرو (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) والذي بعده كذلك ، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بضمّ هذا وفتح الذي بعده ، وتكلّم الناس في السّدّ والسّدّ. فقال عكرمة : كلّ ما كان من صنع الله جل وعز فهو سدّ بالضم ، وما كان من صنعة بني آدم فهو سدّ بالفتح ، وقال أبو عمرو بن العلاء : السدّ بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء ، والسدّ بالضم ما كان من غشاوة في العين ، وقال عبد الله بن أبي إسحاق : السدّ بالفتح ما لم يره عيناك ، والسدّ بالضّم ما رأته عيناك. قال أبو جعفر : هذه التفريقات لا تقبل إلا بحجّة ودليل ، ولا سيما وقد قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد. ووقع هذا الاختلاف بلا دليل ولا حجّة. والحقّ في هذا ما حكي عن محمد بن يزيد قال : السدّ المصدر ، وهذا قول الخليل وسيبويه ، والسدّ الاسم. فإذا كان على هذا كانت القراءة بالضم أولى ؛ لأن المقصود الاسم لا المصدر. (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيون (يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (٢) بضم الياء ، وهو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٨.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ١٥٤.


على حذف المفعول أي لا يكادون يفقهون أحدا قولا ، والأول بغير حذف ، وعلى القراءتين يكون المعنى أنهم لا يفقهون ولا يفقهون.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (٩٤)

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) بلغتهم أو بإيماء (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (١) وقرأ عاصم والأعرج (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (٢) بالهمز جعلهما مشتقّين من أجيج النار عند الكسائي ، ويكونان عربيّين ولم يصرفا جعلا اسمين لقبيلتين. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين خراجا (٣) ومحمد بن يزيد يذهب إلى أن الخرج : المصدر ، والخراج : الاسم ، وأن معنى استخرجت الخراج أظهرته ، ويوم الخروج يوم الظهور (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) قد ذكرناه(٤).

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (٩٥)

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) مبتدأ وخبره أي الّذي مكّنّي فيه ربّي من الأسباب التي أوتيتها خير من الخراج الذي تجعلونه لي ، وقرأ مجاهد وابن كثير قال ما مكّنني (٥) فلم يدغم لأن النون الأولى من الفعل والثانية ليست منه ، والإدغام حسن لاجتماع حرفين من جنس واحد (أَجْعَلْ) جزم لأنه جواب الأمر.

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦)

قال الفراء : (ساوى) وسوّى واحد. قال أبو إسحاق : الصّدفان والصّدفان ناحيتا الجبل. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٦) بمعنى أعطوني قطرا أفرغ ، وقراءة الكوفيين «ايتوني» بمعنى جيئوني معينين. (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) نصب في هذه القراءة بأفرغ.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) (٩٧)

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) حكى أبو عبيد أن حمزة كان يدغم التاء في الطاء ويشدد

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١١٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٤.

(٤) مرّ في إعراب الآية ٩٣ ـ الكهف.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٠٠.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٥.


الطاء. قال أبو جعفر : وهذا الذي حكاه أبو عبيد لا يقدر أحد أن ينطق به ؛ لأن السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة قال سيبويه (١) هذا محال ، إدغام التاء فيما بعدها ، ولا يجوز تحريك السين لأنها مبنية على السكون. وفيه أربع لغات حكاها سيبويه والأصمعي والأخفش يقال : استطاع يستطيع ، واسطاع يسطيع فيحذف التاء لأنها من مخرج الطاء ، ويقال : استاع يستيع فتحذف الطاء ، واللغة الرابعة أسطاع يسطيع بقطع وضم أول الفعل المستقبل ، وأصله عند سيبويه (٢) أطاع يطيع فجاؤوا بالسين عوضا من ذهاب حركة العين ، وحكى الكسائي : أنت تستطيع بكسر التاء الأولى.

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي هذا الفعل نعمة من الله عزوجل ، والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة والإحسان. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي الوقت الذي وعد فيه أن يأجوج ومأجوج يخرجون (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بمعنى بقعة دكّاء وأرضا دكّاء.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٩٩)

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي خلّيناهم ولم يمنعهم حتّى ماجوا مع الناس.

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٠٠)

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) أي أخرجناها.

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١)

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) في موضع خفض على النعت للكافرين (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي هم بمنزلة من عينه مغطّاة فلا ينظر إلى دلائل الله جلّ وعزّ ولا يسمع وعظه. (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي ذلك ثقيل عليهم.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أبو إسحاق يقدره بمعنى فحسبوا أن ينفعهم ذلك ، وقال غيره : في الكلام حذف ، والمعنى : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا أعاقبهم.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٣)

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) فخالف حمزة في هذا ، وقراءة حمزة أصوب وأولى في هذا ، وهذا

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٦٠٤.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٦١٣.


قول سيبويه (١) ؛ لأنه يستبعد أن تدغم اللام في النون ، واعتلّ في ذلك بما يستجاد ويستحسن ، قال : لأنه لا تدغم في النون واللام فاستوحشوا من إدغامها فيها ، وذلك جائز على بعد عنده لقرب المخرجين. (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) نصب على التمييز.

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤)

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) في موضع خفض على النعت للأخسرين ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩)

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) قيل المعنى لما يقدر أن يتكلّم به والله عزوجل أعلم بما أراد.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي لست أقدر على أن أكرهكم ولا أن أجبركم على ما أدعوكم إليه ، قال أبو إسحاق : يقال حال من المكان يحول حولا إذا تحوّل منه ومثله من المصادر عظم عظما وصغر صغرا. (فَلْيَعْمَلْ) والأصل فليعمل حذفت الكسرة لثقلها ولأن اللام قد اتصلت بالفاء (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في المشركين خاصة. قال أبو جعفر : والتقدير على هذا القول : ولا يشرك بالله جلّ وعزّ أحدا فيعبده معه.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٥٩٠.



فهرس المحتويات

شرح إعراب سورة الأنعام.......................................................... ٣

شرح إعراب سورة الأعراف...................................................... ٤٤

شرح إعراب سورة الأنفال........................................................ ٨٩

شرح إعراب سورة براءة........................................................ ١٠٨

شرح إعراب سورة يونس عليه‌السلام.................................................. ١٣٩

شرح إعراب سورة هود عليه‌السلام................................................... ١٦٠

شرح إعراب سورة يوسف عليه‌السلام................................................. ١٨٩

شرح إعراب سورة الرعد........................................................ ٢١٨

شرح إعراب سورة إبراهيم عليه‌السلام................................................. ٢٢٧

شرح إعراب سورة الحجر....................................................... ٢٣٦

شرح إعراب سورة النحل....................................................... ٢٤٧

شرح إعراب سورة الإسراء...................................................... ٢٦٤

شرح إعراب سورة الكهف..................................................... ٢٨٨

اعراب القرآن - ٢

المؤلف:
الصفحات: 311