إذن : الخليفة الشرعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال الملك (موجّها كلامه إلى الوزير) : هل صحيح ما يذكره العلوي؟

قال الوزير : نعم ، هكذا ذكر المؤرخون والمفسّرون.

قال الملك : دعوا هذا الكلام ، وتكلّموا حول موضوع آخر.

قال العباسي : إن الشيعة يقولون بتحريف القرآن.

قال العلوي : بل المشهور (١) عندكم ـ أيّها السنّة ـ أنكم تقولون بتحريف القرآن.

____________________________________

(١) من المشهور عند الإمامية عدم القول بتحريف القرآن ، وأنّ الموجود بأيدينا هو ما نزل على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن قال منهم بالنقيصة (أمثال الكليني والقمي علي بن إبراهيم والنوري الطبرسي والمحقّق القمي والآخوند الخراساني) فله رأيه ودليله ولكنه لا يعبّر عن المشهور بين علماء الشيعة ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف ، وما ذهب إليه بعض المحدثين من الشيعة يفرض بحكمة العقول أن لا يجر الحكم على عامتهم ، بل أن اعتقاد بعضنا بالتحريف لا يستلزم اعتقاد الطائفة بأسرها بذلك ، والأعجب أن العامة يلصقون بالشيعة الإمامية القول بالتحريف ، مع أن بعضهم يقول به بل أن المشهور عندهم هو القول بالتحريف حسبما أفاد العلويّ وذلك لاعتقادهم القول بنسخ التلاوة وهو بعينه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء العامة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف.


قال الرافعي وهو أحد أكابر علماء العامة : «ذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلّا الظن والتأويل ، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء ، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه» (١).

وهنا يجدر بنا أن نبحث في نقطتين :

النقطة الأولى : في صنوف النّسخ في القرآن.

وقبل بيانها ، نعيد مجملا ما قلناه سابقا (٢) في معنى التحريف وأقسامه ، فنقول : إن التحريف لغة :

«هو إمالة الشيء والعدول عن موضعه إلى جانب آخر» وهو بهذا واقع على ستة معان على سبيل الاشتراك ، خمسة صحيحة وواقعة ، وواحدة وقع الخلاف فيها.

(الأول) : تفسير القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه ، وهذا من أبرز مصاديق التحريف ، وقد أبدع فيه كثير من أهل الضلالة والمذاهب الفاسدة حيث حرّفوا القرآن بتأويل آياته على آرائهم وأهوائهم ، لا سيّما الآيات المتعلقة بإمامة أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليهم‌السلام ، وهو بهذا نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غير وجهته الحقيقية ومنه قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (٣) وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤).

__________________

(١) إعجاز القرآن للرافعي ص ٤١.

(٢) مرّ في بحوث هذا الكتاب ، وفي كتابنا الفوائد البهية ج ١ / ٥٣٥ الطبعة الثانية.

(٣) سورة النساء : ٤٦.

(٤) سورة آل عمران : ٧٨.


(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (١).

ولا ريب أن المورد لا يخصص الوارد ، فالآية وإن كان مورد نزولها اليهود إلا أنّها واردة على كل من اتصف بصفاتهم وتقمّص شمائلهم ، فلا يقتصر التحريف عليهم بل يعم النصارى والمسلمين ممن انحرف عن جادة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام.

فهذا المعنى من التحريف ورد المنع عنه كما في ظاهر الآيات المتقدمة لكونه كذبا على الله تعالى ، وقد ذم فاعله أيضا في عدة من أخبارنا ، منها : ما رواه الكليني (قدّس سره) بإسناده عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير :

«وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» (٢).

(الثاني) : النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، ويشمل في زماننا هذا التجويد بشكل مجمل حيث إني أعتبر إدغام حرف بحرف نوع تحريف للقرآن الكريم باعتبار حذف بعض الحروف ليتلائم مع قواعد التجويد التي هي في الواقع من مبتدعات أعداء آل البيت ، وليس عليه شاهد من آية أو رواية.

وهذا التحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا وذلك لوجود قراءات سبعة بل أكثر من سبعة ، وقد ثبت عدم تواتر القراءات عن النبيّ والعترة الطاهرة بل ولا عن القراء أنفسهم ، فأكثرها اجتهادات من القراء أنفسهم ، ومعلوم عدم حجية هذه الاجتهادات مهما أوتي أصحابها من الاحتياط والورع ، فلا تصلح أن يستدل بها على الحكم الشرعي ، والدليل على ذلك أن كل واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه

__________________

(١) سورة المائدة : ٤١.

(٢) الوافي آخر كتاب الصلاة : ص ٢٧٤.


الغلط والاشتباه ، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب اتّباع قارئ منهم بالخصوص، وقد استقل العقل ، وحكم الشرع بالمنع عن اتّباع غير العلم.

ودعوى أن القراءات ـ وإن لم تكن متواترة ـ إلا أنها منقولة عن النبيّ بخبر الواحد «فتشملها الأدلة القطعية الدالة على جواز الأخذ بأخبار الآحاد ، فيخرج الاستناد إليها عن العمل بالظن بالورود أو الحكومة أو التخصيص» مردودة وذلك :

أولا : إن القراءات لم يثبت كونها رواية ، لتشملها هذه الأدلة ، بل هي اجتهادات من القرّاء ، ويؤيد هذا ما ورد عن ثلة من محققي علماء العامة ، منهم القرطبي ، فقال :

«قال كثير من علمائنا كالداودي ، وابن أبي سفرة وغيرهما : هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القرّاء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها ، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ، ذكره ابن النحّاس وغيره ، وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القرّاء (١).

وقال الزركشي في البرهان :

«للقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمّد للبيان والإعجاز ، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف ، وكيفيتها من تخفيف وتشديد غيرهما ، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل بل هي مشهورة ، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبيّ ففيه نظر ، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد» (٢).

وقال الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد في الشافي :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ / ٤٦.

(٢) الإتقان : ج ١ / ١٧٤ ط / دار الكتب العلمية.


«التمسّك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنّة ، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين ، لم يكن قرأ بأكثر من السبع ، فصنّف كتابا وسمّاه كتاب السبعة ، فانتشر ذلك في العامة ..» (١).

وقال الجزائري في موضع آخر :

«لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها ، حتى قام الإمام أبو بكر أحمد ابن موسى بن العباس بن مجاهد ـ وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد ـ فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام وهم : نافع ، وعبد الله ابن كثير ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الله بن عامر ، وعاصم وحمزة ، وعلي الكسائي ، وقد توهم بعض أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ، وليس الأمر كذلك .. وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة ، لما فيه من الإيهام ... قال أحمد بن عمار المهدوي : لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له ، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قلّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر ، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة ..» (٢). بل إذا لاحظنا السبب الذي من أجله اختلف القرّاء في قراءاتهم ـ وهو خلو المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقط والشكل ـ يقوى هذا الاحتمال جدا.

قال ابن أبي هاشم : «إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها ، إن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة ، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل ، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة ، بشرط موافقة الخط ، وتركوا ما يخالف الخط ، فمن ثمّ نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار» (٣).

__________________

(١) التبيان للجزائري : ص ٨٢ ، وورد مثله في الإتقان ج ١ / ١٧٦.

(٢) التبيان ص ٨٢ ، والبيان في تفسير القرآن ص ١٦٠.

(٣) البيان للخوئي ص ١٦٥ والتبيان للجزائري ص ٨٦.


ويذكر الزرقاني السبب في عدم تنقيط القرآن قبل إرساله إلى الجهات فقال : «كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف ، وخوفا من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه .. ولكنّ الزمان تغيّر ، فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب ، أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف ، وخوفا من أن يؤدي تجرّده من النقط والشكل إلى التغيير فيه» (١).

ثانيا : إن رواة كل قراءة من هذه القراءات ، لم تثبت وثاقتهم أجمع ، فلا تشمل أدلة حجية خبر الثقة روايتهم.

ثالثا : إنّا لو سلّمنا أن القراءات كلها تستند إلى الرواية ، وأن جميع رواتها ثقات ، إلّا أنّا نعلم علما إجماليا أن بعض هذه القراءات لم تصدر عن النبيّ قطعا ، ومن الواضح أن مثل هذا العلم يوجب التعارض بين تلك الروايات وتكون كل واحدة منها مكذّبة للأخرى ، فتسقط جميعها عن الحجية ، فإن تخصيص بعضها بالاعتبار ترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة ، وبدونه لا يجوز الاحتجاج على الحكم الشرعي بواحدة من تلك القراءات (٢).

إشكال :

لمّا كانت القراءات اجتهادات من نفس القرّاء ، فإنه يدل على عدم حجيتها ، في حين ورد الأمر عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بالقراءة كما يقرأ الناس وقد كانت هذه القراءات شائعة في عهودهم عليهم‌السلام ، فكيف الخلاص؟

والجواب :

١ ـ أن أمرهم لشيعتهم أن يقرءوا كما يقرأ الناس ـ أي العامة ـ محمول على التقية ، وذلك لشيوع تلك القراءات في عهودهم بحيث يعتبر المتخلّف عنها بحكم

__________________

(١) مناهل العرفان ص ٤٠٢ ط / ٢.

(٢) البيان للخوئي ص ١٦٦.


الكافر آنذاك ، وصدور الأحكام منهم عليهم‌السلام تقية حفاظا على قواعدهم الشعبية من الاستئصال والإبادة.

٢ ـ وصدور الأمر بالقراءة كما يقرأ الناس لعلّه يحمل على القراءة المشهورة بين المسلمين يوم ذاك ، التي قد تكون موافقة لنظرهم الشريف.

وبهذا يندفع ما أفاده المحقّق الخوئي حيث قال :

«وأما بالنظر إلى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين عليهم‌السلام شيعتهم على القراءة بأية واحدة من القراءات في زمانهم ، فلا شك في كفاية كل واحدة منها ، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم ، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها ، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ولا أقل من نقله بالآحاد ، بل ورد عنهم عليهم‌السلام إمضاء هذه القراءات بقولهم «اقرأ كما يقرأ الناس ، اقرءوا كما علمتم» وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر ، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة ، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء السنة ، ولا موضوعة .. ثم قال : وصفوة القول : إنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيتعليهم‌السلام» (١).

ذيل كلامه الأخير حق ، لكنه ينقض صدره حيث جوّز القراءة بكل واحدة منها مما يستلزم ـ بحسب هذه الدعوى ـ صحة القراءة حتى بالشاذة منها ، كما يستلزم هذا ، الحكم على كل القراءات السبعة أو العشرة بالصحة ، واشتراطه «في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء السنّة ولا موضوعة» أول الكلام ، إذ من أين يثبت لنا أن جلّ هذه القراءات ليست شاذة ، وهل المعيار في شذوذ القراءة عدم نقل علماء العامة لها وعدم اعتقادهم بها؟ وإذا كان كذلك فما الدليل عليه؟ وهل نقل الخصم لهذه القراءات يعتبر عنده نقلا صحيحا يجوز العمل على طبقه؟ لا أدري إن كان يعتقد بهذا رحمه‌الله؟!

__________________

(١) البيان ، ص ١٦٧.


هذا مضافا إلى أنه إن كان يقصد بأنّ كل هذه القراءات كانت متواترة في عهودهم عليهم‌السلام فيعني أنها ممضاة من قبلهم ، فتصبح كلها حجة في حين أن أكثرها فاسد ، وقد اعترف هو في كتابه البيان بأنها من اجتهادات القرّاء أنفسهم ولا حجية في اجتهاداتهم ، ولا ملازمة بين تواترها وحجيتها ، فكونها معروفة مع سكوتهم وعدم إنكارهم على بعضها لا يدل على حجيتها كلها ، إذ من الواضح أن تقرير المعصوم عليه‌السلام يعتبر حجة إذا لم يكن هناك مانع عن الكشف عن الحكم الشرعي ، وفي مثل تلك الأجواء العصيبة التي عاشها أئمة آل البيت عليهم‌السلام كيف يمكن تصوّر حجية تقريرهم لهذه المسألة آنذاك ، وهي كبعضها من الأحكام التي صدرت منهم تقية خوفا من سلاطين زمانهم.

هذا مع التأكيد على أنه قد صدر ردع من الأئمة عن أغلب تلك القراءات بما رواه هو عن الأئمة عليهم‌السلام بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس ، اقرءوا كما علمتم» (١) أي اقرءوا كما علّمناكم ، ومن لم يصله علمنا فليقرأ كما يقرأ المشهور من الناس. ويشهد لما قلت ما ذكر في نفس الحديث الذي رواه السيّد المذكور حيث يشهد صدره وذيله على أن المأمور به هو القراءة المشهورة بين الناس حتى يقوم القائم عليه‌السلام مما دل على أن حكم الإمام الصادق عليه‌السلام بالقراءة المشهورة إنما هو آنيّ ومرحليّ حتى لا يتهم الشيعة بالكفر والزندقة لو قرءوا بالقراءة المخالفة لطريقة الناس آنذاك ، وكان ينبغي على السيّد رحمه‌الله أن يذكر الحديث بتمامه حتى لا يخفى الحق على ذي حجى ، وإلى القارئ العزيز الحديث بتمامه :

فعن سالم بن سلمة قال :

قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم عليه‌السلام ، فإذا قام

__________________

(١) قوله : «اقرأ ..» «واقرءوا كما علمتم» روايتان رواهما الكافي ج ٢ حديث ١٥ وح ٢٣.


القائم عليه‌السلام قرأ كتاب الله عزوجل على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه‌السلام وقال : أخرجه عليّ عليه‌السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جمعته من اللّوحين فقالوا : هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ، فقال : أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا ، إنما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرءوه(١).

ولو كان كما ادّعاه المحقّق الخوئي (ره) صحيحا لم يكن لتكذيب الإمام الصادق للقراءات أي معنى كما ورد في حسنة الفضل بن يسار قال :

قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال : كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد (٢).

إن قيل :

إن المراد من نزوله على سبعة أحرف أي على سبع لغات من لغات العرب بمعنى أنها متفرقة في القرآن ، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن.

قلنا :

١ ـ إن قوله عليه‌السلام : «نزل على حرف واحد ..» لا يلائم هذا التفسير بل إنما يناسب اختلاف القراءة من الفتح والجر وأمثال ذلك بحيث يتغير المعنى بتغير القراءة كما هو شاهد الحال بين العامة والخاصة حيث اختلفوا على كلمة «وأرجلكم» في آية الوضوء ، فنصبها العامة عطفا لها على غسل الوجه واليدين ، بعكس الخاصة حيث عطفوها على مسح الرأس. ففرق واضح بين القراءتين ، لذا كذّب الإمام عليه‌السلام الذين نسبوا إلى الله تعالى إنزال القرآن باختلاف القراءات لكونه سببا حينئذ لإغراء المكلّفين بالجهل والخطأ هو قبيح صدوره من المولى عزوجل.

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٣ ، ح ٢٣.

(٢) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٠ ، ح ١٣.


ويؤكد ما قلنا ما روي أيضا في خبر زرارة عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة (١).

٢ ـ إن تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها أن تتبع ما أوحي إلى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد ، فعلى قارئ القرآن أن يتحرى ما أنزله عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة (٢).

٣ ـ رواية السبعة أحرف المروية في كتب العامة معارضة لروايات أخرى ، فتسقط الأولى عن الحجبة ، إذ بعضهم يؤوّل السبعة أحرف بمعاني القرآن كما ورد في مستدرك الحاكم على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبيّ قال : نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجرا وآمرا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها وأمثالا فأحلوا حلاله ، وروى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف : آمر وزاجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل.

هذه الأخبار معارضة بأخبار أخر ، مثل ما رواه ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الأنباري عن ابن عبّاس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام .. وعن الإمام عليّ عليه‌السلام : أنزل القرآن على عشرة أحرف : بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام.

وفي رواية أحمد من حيث أبي بكر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استزاد من جبرائيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف ، قال يعني جبرائيل : كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب.

وزاد في حديث آخر قولك : تعال واقبل وهلم واذهب واسرع وعجّل. ونحوه في رواية الطبراني عن أبي بكرة.

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٠ ، ح ١٢.

(٢) آلاء الرحمن في تفسير القرآن ، محمد جواد بلاغي ص ٣٠.


وفي الإتقان أخرج نحوه أحمد والطبراني عن ابن مسعود ، وأخرج أبو داود في سننه عن أبي عن رسول الله قوله حتى بلغ سبعة أحرف ، ثم قال : ليس منها إلّا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب.

وعن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. وأخرج أحمد من حديث عمر. القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة.

انظر إلى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس (١).

الثالث : الإخلال بترتيب الآيات والسور كما أنزلها الله تعالى ، بمعنى إثبات السور أو الآيات على خلاف ترتيب نزولها ، وهذا ملحوظ في المصاحف اليوم من اختلاط المدني بالمكي وبالعكس لا سيّما في عامة السور ، أما الآيات فقليل أمثال آية الإكمال والتطهير.

الرابع : النقص والزيادة في الآية والسورة.

والتحريف لهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا ، فالبسملة ـ مثلا ـ مما تسالم المسلمون على أن النبيّ قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة ، وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة ، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة أخرى إلى أن البسملة من القرآن. وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا ، إذن

__________________

(١) آلاء الرحمن ، ص ٣١.


فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا بالزيادة أو بالنقيصة (١).

الخامس : التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل.

والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.

السادس : التحريف بالنقيصة ، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، فقد ضاع بعضه على الناس.

والتحريف بهذا المعنى هو ما وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.

رأي المسلمين الشيعة :

المشهور بين علماء الشيعة الإمامية ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف بالمعنى السادس ، وقد صرّح بذلك كثير من الأعلام ، منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق محمد بن بابويه في كتاب الاعتقاد فقال : اعتقادنا أن القرآن الذي أنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك ، ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في مقدمة تفسيره التبيان ، وثلة من المتقدمين والمتأخرين.

وذهب جمع من الشيعة والعامة إلى وقوع التحريف ، وقد نسب الرازي القول بالتحريف إلى الظاهريين منهم ، بل ما عليه التحقيق أن أول من قال بالتحريف هو جماعة من الصحابة ، على رأسهم عمر بن الخطّاب ، والعجب من العامة كيف أثاروا على المسلمين الشيعة حملة إعلامية مكثّفة ينسبون إليهم القول بالتحريف ، في حين يتناسون ما ذكرته مصادرهم من نسبة التحريف إلى جماعة منهم.

وها هو أبو الفضل جلال الدين السيوطي يذكر لنا الكثير من اعتقاد بعض الصحابة في القرآن.

__________________

(١) البيان للخوئي ، ص ١٩٩.


١ ـ قال حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله ، وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر (١).

٢ ـ وروى عن ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبيّ مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن (٢).

٣ ـ وعن اسماعيل بن جعفر بسند معنعن عن ذر بن حبيش : قال لي أبي بن كعب : كأين تعد سورة الأحزاب؟

قلت : اثنتين وسبعين آية أو ثلاثة وسبعين آية ، قال : إن كانت لتعدل سورة البقرة ، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم ، قلت : وما آية الرجم قال : إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم (٣).

٤ ـ حدثنا عبد الله بن صالح ... عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت : لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة (٤).

٥ ـ وقال حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس قالت : قرأ عليّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة : إن الله وملائكته يصلّون على النبيّ ، يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسملوا تسليما وعلى الذين يصلون الصفوف الأول. قالت : قبل أن يغيّر عثمان المصاحف (٥).

٦ ـ وحدثنا عبد الله بن صالح بسند معنعن إلى أبي واقد الليثي قال :

__________________

(١) الاتقان في علوم القرآن ج ٢ / ٥٢.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٥٣.

(٣) نفس المصدر والصفحة.

(٤) نفس المصدر ، وآلاء الرحمن ص ٢٠.

(٥) نفس المصدر السابق.


«كان رسول الله إذا أوحي إليه أتيناه فعلمنا مما أوحي إليه ، قال : فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول : «إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولو أن لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني ، ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (١).

٧ ـ وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال :

قال لي رسول الله إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، فقرأ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) (٢) ومن بقيتها «لو أنّ ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا ، وإن سأل ثانيا فأعطيه سأل ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ، ومن يعمل خيرا فلن يكفره»(٣).

٨ ـ وقال أبو عبيدة حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قال : نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها : «إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ، ولو ان لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (٤).

٩ ـ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ما نسيناها ، غير أني حفظت منها : «يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» (٥).

١٠ ـ وقال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن سعيد عن الحكم بن عتيبة عن

__________________

(١) نفس المصدر ، وآلاء الرحمن ص ٢٠.

(٢) سورة البيّنة : ١.

(٣) نفس المصدر ، وآلاء الرحمن ص ١٩.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر ، وصحيح مسلم ج ٣ / ١٠٠.


عديّ بن عديّ قال : قال عمر : كنا نقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم. ثم قال لزيد بن ثابت : أكذلك؟ قال : نعم. وقال : حدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن عمر الجمحي ، حدّثني ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها قال : سقطت فيما أسقط من القرآن (١).

١١ ـ وقال : حدّثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم : أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال : ابن مسلمة : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي له من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (٢).

١٢ ـ وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله (صل الله عله وآله وسلم) فكانا يقرآن بها ، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فذكرا ذلك له فقال : إنها مما نسخ فالهوا عنها (٣).

١٣ ـ وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا وقنت يدعو على قاتليهم قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع : أن بلغوا عنّا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وفي المستدرك عن حذيفة قال : ما تقرءون ربعها : يعني براءة. قال الحسين بن المناري في كتابه «الناسخ والمنسوخ» : ومما

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.


رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر وتسمى سورتي الخلع والحفد(١).

١٤ ـ وقال في البرهان في قول عمر : لو لا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : يعني آية الرجم (٢).

١٥ ـ وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال : كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف فمرّا على هذه الآية فقال زيد : سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، فقال عمر : لمّا نزلت أتيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فقلت : أكتبها ، فكأنه كره ذلك ، فقال عمر ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد ، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟ (٣).

١٦ ـ وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت : «ألا تكتبها في المصحف؟ فقال : ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان ، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر : أنا أكفيكم فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم ، فقال : لا تستطيع. قوله اكتب لي : أي ائذن في كتابتها ومكني من ذلك (٤).

١٧ ـ وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن يعلى بن حكيم عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس فقال : لا تشكوا في الرجم فإنه حقّ ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف ، فسألت أبيّ بن كعب فقال : أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ فدفعت في صدري وقلت : تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر؟ (٥).

١٨ ـ روى ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال فيما قال ، وهو على المنبر :

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر.


«إن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثم إنّا كنا نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو : إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ..» (١).

وذكر السيوطي : أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد ، قال : «أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده» (٢).

فآية الرجم ـ بنظر الصحابي عمر بن الخطّاب ـ قد سقطت من القرآن لا محالة.

١٩ ـ أخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا :

«القرآن الف الف وسبعة وعشرون الف حرف» (٣).

بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.

٢٠ ـ وروى زرّ ، قال : قال أبي بن كعب يا زرّ :

«كأيّن تقرأ سورة الأحزاب ، قلت : ثلاث وسبعين آية ، قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ..» (٤).

٢١ ـ وروى ابن أبي داود وابن الأنباري عن ابن شهاب ، قال :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ / ٣٤١ وصحيح مسلم ج ١٠ / ٢٦ ومسند أحمد ج ١ / ٤٧.

(٢) الاتقان ج ١ / ١٢٩.

(٣) الاتقان ج ١ / ١٥٢.

(٤) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ / ٤٣.


«بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ...» (١).

٢٢ ـ وروى عمرة عن عائشة أنها قالت :

«كان فيما أنزل من القرآن : «عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثم نسخن ب : «خمس معلومات» ، فتوفى رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن (٢).

٢٣ ـ وروى المسور بن مخرمة ، قال :

قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فإنّا لا نجدها ، قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن (٣).

٢٤ ـ وروى أبو سفيان الكلاعي : أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم : «أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال ابن مسلمة :

«إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم اولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» (٤).

وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأبي بن كعب: «اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق» (٥).

__________________

(١) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ / ٥٠.

(٢) صحيح مسلم ج ٤ / ١٦٧.

(٣) الاتقان ج ٢ / ٤٢.

(٤) الاتقان ج ٢ / ٤٢.

(٥) الاتقان ج ١ / ١٤٣.


وهناك آيات أخر زعم ابن الخطّاب أنها من القرآن ثم أسقطت منه ، هي آية الجهاد ، قال عمر لابن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنّا لا نجدها؟ قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن (١).

وآية الفراش «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فقد ورد أنه خاطب أبي بن كعب : أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله «أن انتفاءكم من آباءكم كفر بكم»؟ فقال : بلى .. ثم قال : أوليس كنّا نقرأ «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبي : بلى (٢).

«الولد للفراش» حديث مروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظنه ابن الخطّاب آية قرآنية.

وهناك العديد من هذه الروايات ، ذكرها السيوطي في الإتقان وغيره عن مفسري العامة ، حيث ادّعوا أن القرآن الكريم ذهب منه كثير بذهاب حملته يوم اليمامة.

وغير خفي أن القسم الأخير من أقسام التحريف هو نفسه ما يسميه جمهور العامة «بنسخ التلاوة» وهو بعينه القول بالتحريف والإسقاط ، فتسميته بنسخ التلاوة تمويها على السذج حتى لا يقدح بعمر بن الخطاب وعائشة وأمثالهما ممن يحسن العامة بهم الظن ، وهذه التسمية لا تخرجه عن أقسام التحريف ، وعليه يمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء العامة ، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة.

ومن العجيب أن جماعة من علماء العامة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم حتى أن الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية ، وقال : «إن أحدا من علماء السنّة لم يذهب إلى ذلك» وأعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد أصحابه بالتحريف ،

__________________

(١) الدر المنثور ج ١ / ١٠٦ ، الاتقان ج ٢ / ٥٤.

(٢) الدر المنثور ج ١ / ١٠٦.


فالتجأ هو إلى إنكاره» (١) مع أنك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور ، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة.

وبالجملة : إنّ نسخ التلاوة باطل وذلك :

لأنه إما أن يكون قد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإما أن يكون ممن تصدّى للزعامة من بعده ، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله فهو أمر يحتاج إلى إثبات ، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، منهم أبو إسحاق الشاطبي (٢) ، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه ، والمشهور عند الظاهريين بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (٣) ، وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبيّ بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الإسقاط قد وقع بعده ، وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبي فهو عين القول بالتحريف الذي يقول به أكثر علماء أهل السنّة (٤).

انتهينا هنا من بيان معنى التحريف وأقسامه ، والآن نشرع في النقطة التي وعدنا البحث فيها وهي :

صنوف النسخ في القرآن

تمهيد :

طبيعة كل تشريع يهدف الخير لأتباعه أن يكون مرنا وسهلا ليتكيّف أفراده بأحكامه ودساتيره بحيث لا يجعل منهم آلة صمّاء لا شعور لها ولا اختيار ، ولأن الصعوبة في التشريعات تستلزم النفور والإعراض ، لذا ما من طبيعة أية حركة

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١ / ٢٤.

(٢) الموافقات للشاطبي ج ٣ / ١٠٦.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٣ / ٢١٧.

(٤) البيان ص ٢٠٦ بتصرف بسيط.


إصلاحية آخذة إلى التقدم وتريد الخير لأتباعها إلّا ويتوارد على تشريعاتها نسخ متتابع ، حسب تدرجها التصاعدي نحو قمة الكمال ، تلك طبيعة محتمة لكل حركة إصلاحية أو نظام يبتغي الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والسياسي وغير ذلك ، فكيف إذا كانت تلك الحركة أو ذاك النظام هو خاتم الحركات الإصلاحية في العالم ، ودساتيره أشمل الدساتير المتقدمة عليه ، أعني الإسلام حيث استوعب بقوانينه ودساتيره وأحكامه كل الأزمنة ، وراعى كل الظروف والأمكنة ، وغيّر كثيرا من المفاهيم المعوجّة التي تأصلت في واقع المجتمع الجاهلي آنذاك ، وكانت عملية التغيير لتلك الأمة المتوغلة في الضلال ، والبعيدة عن معالم الحضارة إلى حدّ كبير ، تستلزم التدرج في إصدار الأحكام ليتم انتشالها من واقعها السحيق والانسجام مع سجيتها المتوحشة ، إلى واقع جديد سهل سمح ، يتعامل بمرونة مع الآخرين ويتأقلم مع مجتمعات ليست من سنخه وعلى منواله.

وطبيعة التدرّج بالأحكام تستلزم أيضا طي عقبات ومراحل متلاحقة ، بحيث يشمل هذا الطي إلغاء بعض العادات والأحكام التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام ، أسوة بمن تقدم من الشرائع السابقة على الإسلام ، حيث جرت الطريقة الإلهية أن تلغي الشريعة اللاحقة بعض أحكام كانت سائدة في الشريعة السابقة لمصالح اقتضت الظروف إيجادها.

وهكذا استدعت التشريعات الإسلامية نسخا متتاليا منذ أن ظهرت الدعوة في مكة ، وحتى إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة ، وقد انتهت شريعة النسخ بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث انقطاع الوحي.

وكانت ظاهرة النسخ أمرا لا بد منه في كل تشريع يحاول تركيز معالمه في الأعماق ، والأخذ بيد أمة جاهلة إلى مستوى عال من الحضارة الراقية ، الأمر الذي لا يتناسب مع الطفرة المستحيلة ، لو لا الأناة والسير التدريجي المستمر خطوة بعد خطوة.


وعليه فإن النسخ ضرورة واقعية تتطلبها مصلحة الأمة ذاتها ، ولم يكد ينكر ما لهذه الظاهرة الدينية من فائدة وعوائد تعود على الأمّة ، وأعظم بها من حكمة إلهية بالغة.

التعريف بالنسخ :

أمّا لغة : هو تبديل الشيء من الشيء وهو غيره ، وبمعنى النقل والتحويل من مكان إلى مكان ، ونسخ الشيء بالشيء ينسخه وانتسخه : أزاله به وأداله ، والشيء ينسخ الشيء نسخا أي يزيله ويكون مكانه ، ويقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بالآية : إزالة حكمها بها ، وفي التنزيل : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١) والآية الثانية ناسخة والأولى منسوخة.

وأمّا اصطلاحا : هو رفع ثابت في الشريعة بارتفاع أمره وزمانه ، سواء أكان الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية وغير ذلك ، والسر في تقييد الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ، فإن هذا النوع من ارتفاع الحكم لا يسمى نسخا ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه.

أو بعبارة : إن النسخ هو رفع الحكم الثابت السابق الظاهر في الدوام بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء أكان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أم في شرائع عدة ، كما أن كل شريعة لا حقة تنسخ الشريعة السابقة عليها (٢).

فرفع التشريع السابق الذي كان بحسب منظور المكلفين يقتضي الدوام

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

(٢) الفوائد البهية ج ١ / ٣٦٠ الطبعة الثانية.


والاستمرار بتشريع حكم لاحق كان معلوما عند الله عزوجل من أول الأمر ، فمثلا حينما رفع تشريع الاتجاه من بيت المقدس إلى اتجاه الكعبة المشرفة ، هذا التحويل كان معلوما من أول الأمر عنده سبحانه ، وإنما شرّع الصلاة إلى بيت المقدس لفترة زمنية معينة امتحانا للعباد واختبارا لهم حسبما تقتضيه المصلحة ، وهذا تماما كما لو رأى الطبيب أن من مصلحة المريض الامتناع عن شرب الدخان لمدة أسبوع واحد ، وأيضا رأى أن من المصلحة أن لا يعلم المريض بتحديد الوقت ، فنهاه عن شرب الدخان على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي اسبوع أذن له في شرب الدخان ، فالمصلحة حينئذ تقتضي أن يرفع المنع من شرب الدخان.

وعلى هذا الأساس ينحصر معنى النسخ في إمحاء ما ظهر من إرادة الدوام ، لا إمحاء الإرادة الواقعية مما يستلزم البداء المستحيل عليه تعالى ، لأن النسخ بمعناه الباطل أي «الإزالة» الناتجة عن حالة التبدل في الرأي ، ونشوء رأي جديد مستحيل عليه تعالى ، لأنه على هذا القول يعني أن المشرّع عند ما بدّل رأيه السابق إلى رأي جديد ينتج عنه ظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول.

هذا المعنى للنسخ إنما يختص ويقتصر على المشرعين القانونيين الآدميين ولا يشمل ربّ العالمين الذي كله علم وقدرة ولطف وحكمة ، فطبيعة الآدمي الناقص أن يتبدل رأيه لعدم إحاطته بالمصالح والفاسد الكامنة وراء الأمور ، كل ذلك يستدعي أن تتبدل معلوماته بين الحين والآخر ، وهذا بخلاف الباري العليم الحكيم المحيط بالسرائر والضمائر والظواهر والبواطن ، فلديه عزوجل الإحاطة الحضورية التامة بالواقعيات في طول الزمن وعرضه على حدّ سواء ، فمثل هذا يمتنع عليه الخطأ ، لأن وقوعه في حقه تعالى دليل نقص وعجز يتنزّه عنهما الباري عزوجل.

فالنسخ المنسوب إليه تعالى نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ فيه أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، وأنه تعالى لم يشرّعه حين


شرّعه إلّا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت ، وقد شرّعه عزوجل وفقا لتلك المصلحة المحدودة من أول الأمر.

من هنا نعرف سرّ علاقة النسخ بالبداء ، فإنه لا فرق بينهما سوى أن الأول خاص بالتشريع ، والثاني خاص بالتكوين ، فالنسخ والبداء بمعناهما الباطل أعني تبدل الرأي أو نشأة رأي جديد ممتنع بالقياس إلى علمه الأزلي ، وأما بمعناهما الثاني الصحيح وهو إخفاء الأمر على المكلفين اختبارا وامتحانا ومصلحة لهم ولطفا بهم ورحمة ، هذا المفهوم لا غبار عليه في الشريعة الإسلامية المقدّسة وضرورة العقل ، إذ إنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس ، حيث يتميّز النسخ عن البداء ، أن النسخ عبارة عن ظهور أمد الحكم كان معلوما عنده تعالى ، خافيا على الناس ، والبداء ظهور أمر أو أجل من حياة كائن أو موته وما إلى ذلك كان محتّما عنده تعالى بعلمه الذاتي ، ولكنه كان خافيا على الناس ، ثم بدا لهم أي ظهرت لهم الحقيقة بعد خفائها عليهم.

ويفترق النسخ عن البداء ، أن النسخ شامل للأحكام التشريعية التقنينية من دون استثناء إذا اقتضت المصلحة ذلك ، أما البداء فلا يشمل المحتوم وما في اللوح المحفوظ.

وبعبارة : إنّ البداء يقتصر على ما في لوح المحو والإثبات «القدر» دون القضاء المبرم المحتوم أو ما يسمّى ب «اللوح المحفوظ».

والخلاصة : إن للبداء في التكوين ـ كالنسخ في التشريع ـ معنيين ، يكون بأحدهما مستحيلا بشأنه تعالى ، وجائزا بالمعنى الآخر ، وبذلك يفسر قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) وغيرها من الآيات. والبداء الذي تقول به الشيعة ـ مستندا إلى الآية الكريمة ـ هو بذلك المعنى الجائز ، نظير النسخ من غير فرق.

__________________

(١) سورة الرعد : ٣٩.


وما نسبه علماء العامة إلى الشيعة الإمامية من إضافة البداء بمعنى تبدل الرأي ونشوء رأي جديد إنما هو من افتراءاتهم على الشيعة ، وليتهم إذ لم يعرفوا مراد الشيعة من البداء تثبّتوا أو توقّفوا كما تفرضه الأمانة في النقل ، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم ، والورع في الدين ، وهذه كتب الإمامية الكلامية وغيرها من كتب التفسير والحديث ، كلها متفقة على تفسير البداء ـ المسند إلى الله ـ بمعناه الجائز ، وهو الظهور للناس بعد خفاء.

ونحن إذ لا نستغرب افتراءات السلف الموجّهة إلى الشيعة ، حيث البيئة الغاشمة هي التي وجّهتهم ذاك التوجيه الخاطئ ، لكنّا نستغرب جدا من متابعة الخلف ونسجهم على نفس ذلك المنوال المعوّج كالأستاذ الزرقاني والعريضي والرازي ومن لف لفّهم ، مشوا على نفس المنهاج الخاطئ من غير تحقيق عن جلي الأمر ، وهذه كتب الشيعة مبثوثة بين أيديهم يغفلونها ، ويقتصرون على نقل تلكم الافتراءات الظالمة التي سجلها أسلافهم على أثر ضغط من حكومات غاشمة لا نفسه المجال لجلاء الحقيقة التي كانت تعاكس أهدافهم في سياسة الاغتصاب (١).

إذن نحن الإمامية نبرأ إلى الله تعالى ممن نسب إلينا البداء المستحيل على الله تعالى ، لذا ورد عن أئمتنا عليهم‌السلام العديد من النصوص تشير إلى ما ذكرنا ، منها ما رواه الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده عن أبي بصير وسماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

من زعم أن الله عزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه» (٢).

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب ، وقال :

__________________

(١) نحيل القارئ على كتابنا الفوائد البهية ج ١ / ٣٥٤ وما بعدها حيث عرضنا فيه «مسألة البداء» بتفاصيلها الفلسفية الدقيقة فليراجع.

(٢) نقلا عن البحار ، باب البداء والنسخ.


فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه ، أن الله لا يبدو له من جهل (١).

وروى الطوسي في كتاب «الغيبة» بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال علي بن الحسين ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب قبله ، ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد.

«كيف لنا بالحديث مع هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلّا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد» (٢).

والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق ، هي فوق حدّ الإحصاء ، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله ، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.

الفرق بين النسخ والتخصيص :

إطلاق النسخ على التخصيص كان شائعا على ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ ، لذا أكثروا القول في عدد الآي المنسوخة ، لذا فمن الضروري التفرقة بين النسخ والتخصيص بالقول : إن الأول قطع لاستمرار التشريع السابق بالمرة ، بعد أن عمل به المسلمون في فترة من الزمن طويلة أم قصيرة ، أما التخصيص فهو قصر الحكم العام على بعض أفراد الموضوع وإخراج البقية عن الشمول ، قبل أن يعمل المكلفون بعموم التكليف. فالنسخ اختصاص للحكم ببضع الأزمان ، والتخصيص اختصاصه ببعض الأفراد ، ذاك تخصيص أزماني ، وهذا تخصيص أفرادي ولا يشتبه أحدهما بالآخر. نعم هما يشتركان في جامع هو : ارتكاب خلاف ظاهر كل منهما ، حيث كان التشريع الأول ظاهرا بطبعه في الاستمرار ، فجاء الناسخ ليزيل هذا التوهم ، ويبيّن أن الحكم كان محدودا من الأول ، وإن كان لا يعلم به الناس ، وهكذا التخصيص بيان للمراد

__________________

(١) نقلا عن نفس المصدر.

(٢) نقلا عن البحار ، باب البداء والنسخ.


الحقيقي من اللفظة الظاهرة بطبعها في العموم ، فجاء المخصص كاشفا عن الواقع المقصود ، فكان كل من النسخ والتخصيص أداة كشف عن المراد الحقيقي للمشرّع الأول الحكيم.

شروط النسخ :

حتى نميّز النسخ عن غيره لا بدّ له من شروط هي :

أولا : كما لو تحقق التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في تشريع مستمر ، تنافيا ذاتيا ، كما في آيات وجوب الصفح مع آيات القتال ، كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (١).

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢).

أمرت الآية الأولى بالصفح عن المشركين في مكة ، حيث كان فيها المؤمنون ضعافا ، بينما أمرت الآية الثانية بالصفح عن أهل الكتاب في بدء الهجرة النبوية حيث لم تلتئم بعد عرى شوكة المسلمين.

فنسخت الأولى بالأذن في القتال أولا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣) تم التحريض عليه ثانيا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) (٤) وأخيرا باستئصال المشركين عامة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٥) وكذا نسخت الآية الثانية بمنابذة أهل الكتاب (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٦).

__________________

(١) سورة الجاثية : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ١٠٩.

(٣) سورة الحج : ٣٩.

(٤) سورة الأنفال : ٦٥.

(٥) سورة التوبة : ٥.

(٦) سورة التوبة : ٢٩.


لكنّ بعضهم قال : «إن هاتين الآيتين محكمتان ، غير منسوختين : أما الأولى فإن مفادها حكم تهذيبي أخلاقي وهو غير مقتصر على المشركين بل يعم المسلمين الذين لا يبالون بدينهم ، فالجزاء منهم موكول إلى الله الذي لا يفوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين» (١).

وأما الثانية : «فلا علاقة لها ـ بنظره ـ بالنسخ المصطلح ، حيث فيها تلميح بالتوقيت ، ولأن أهل الكتاب لا يجوز مقاتلتهم لمجرد أنهم أهل الكتاب إلا مع ضمّ موجب آخر من إقدامهم على حرب المسلمين أو إلقاء الفتنة بينهم أو امتناعهم عن دفع الجزية» (٢).

أورد عليه :

«متى كان الإغضاء عن اعتداء معتد غشوم أدبا رفيعا وخلقا كريما؟! وهل كان سكوت المؤمن أمام تجاوز الكافر الملحد صفحا مجيدا؟

هذا وذاك ضعف ووهن وجبن ، الأمر الذي يتنافى وعزة الإيمان ، ولا سيّما وكان المصفوح عنهم في الآية «من لا يرجون أيام الله» فكيف يكون الصفح عن مثل هؤلاء الظالمين أدبا وخلقا إسلاميا نبيلا! نعم كان سكوت الضعيف أمام القوي والغض عن تعدياته الغاشمة ـ اضطرارا ـ حفظا على نفسه وعلى إخوانه المؤمنين عن الإبادة والهلاك ، الأمر الذي يتناسب مع الأيام التي كان المسلمون في مكة ضعفاء لا يستطيعون المقاومة تجاه المشركين ، وكذلك في بدء هجرتهم إلى المدينة ، أما بعد قوتهم وازدياد شوكتهم فقد جاء الأمر بمعاملة المعتدين مثلا بمثل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) وفي ذلك تتمثل شوكة المسلمين وعزة جانبهم.

__________________

(١) الخوئي في البيان ص ٣٦٤.

(٢) البيان للخوئي ص ٢٨٩.

(٣) سورة البقرة : ١٩٤.


وأما قضية الإشارة إلى التوقيت فلا تنافي النسخ ، بعد أن كان الحكم بطبعه صالحا للبقاء والاستمرار ما لم يأت بيان جديد ، وهذا هو النسخ بعينه» (١).

وعليه فالفرق بين المنسوخ والمحدود ، أن الثاني ما كان ينتهي بنفس التحديد الذي كان فيه ، من غير حاجة إلى بيان جديد ، أما إذا كان محتاجا إلى ذلك ، بحيث يبقى مع الأبد ما لم يأت البيان فهو من المنسوخ لا محالة (٢).

وأما الأمر بشأن أهل الكتاب فواضح ، إذ أمر المسلمون في بادي الأمر بالصفح عنهم رأسا كما ورد في سورة البقرة / ١٠٩ ، وهذا الحكم ارتفع بعد ذلك نهائيا بفرض مقاتلتهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما في التوبة / ٢٩.

ومن الآيات الناسخة والمنسوخة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

روى المفسّرون لهذه الآية :

إن عدة المتوفى عنها زوجها في الجاهلية كانت سنة كاملة ، وكان إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا ـ بعرة أو ما شاكلها ـ فتقول : البعل (تريد المتجدّد) أهون عليّ من هذه ، فلا تكتحل ولا تتمشط ولا تتطيب ولا تتزوج إلى سنة ، وكان ورثة الميّت لا يخرجونها من بيتها ، وكانوا يجرون عليها من تركة زوجها طول تلك السنة ، فكان ذلك هو إرثها من مال زوجها المتوفى(٤).

وهذه الآية نزلت تقرّر جانبا من هذه العادة إلى أن نسخت بآية العدد بقوله

__________________

(١) التمهيد في علوم القرآن ج ٢ / ٣١٣ بتصرف بسيط.

(٢) نفس المصدر السابق نقلا عن مجمع البيان ج ٣ / ٢١.

(٣) سورة البقرة : ٢٤٠ وتسمى بآية الإمتاع.

(٤) بحار الأنوار ج ٩٣ / ٧٦ نقلا عن رسالة أصناف القرآن للنعماني.


تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١) وآية المواريث (٢) في قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

قال السيّد عبد الله شبر رحمه‌الله : هذه الآية ـ أي الامتاع ـ منسوخة بالإجماع (٣). وأقوى دليل على تحقق هذا الإجماع : إن أحدا من فقهاء الأمة سلفا وخلفا لم يأخذ بمفاد آية الإمتاع ولم يفت بمضمونها لا فرضا ولا ندبا ، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على اتفاقهم أن الآية منسوخة بلا ريب. وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وعن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام في روايات متضافرة : إنّها منسوخة ، نسختها آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا.

كل ما تقدم مبنيّ على ما لو تحقق التنافي بين تشريعين ، وأما في صورة عدم التنافي فلا نسخ حينئذ كما في آية الإنفاق (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٥) وآية الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) (٦) فلا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٢) سورة النساء : ١٢.

(٣) تفسيره المختصر ، ص ٧٦.

(٤) تفسير الصافي ج ١ / ٢٠٤.

(٥) سورة البقرة : ٢١٥.

(٦) سورة التوبة : ٦٠.


منافاة بين الآيتين ، حيث كانت الأولى ندبا في مطلق الصدقات المستحبة ، وكانت الثانية فرضا في الزكاة الواجبة خاصة.

ثانيا : من شروط النسخ أن يكون التنافي كليا على الإطلاق ، لا جزئيا وفي بعض الجوانب ، فإن هذا الثاني تخصيص في الحكم العام ، وليس من النسخ في شيء ، فآية القواعد من النساء (١) ، لا تصلح ناسخة لآية (٢) الغض ، بعد أن كانت الأولى أخص من الثانية ، والخاص لا ينسخ العام ، بل يخصصه بما عداه من أفراد الموضوع ، وكما في تحليل السمك والجراد لا يكون نسخا لآية تحريم الميتة (٣) حتى ولو فرضنا صدق الميتة على السمك الذي أخرج من الماء حيا فمات ، والجراد المأخوذ حيا ثم يموت ، فإن هذا تخصيص في الآية على الفرض لا نسخ ، أو أنه من باب الحكومة بمعنى أن حلية أكل الجراد والسمك شرعا من باب حكومة دليليهما على أصل الحرمة.

ثالثا : أن لا يكون الحكم السابق محددا بأمد صريح ، حيث الحكم بنفسه يرتفع عند انتهاء أمده ، من غير حاجة إلى نسخ. فمثل قوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٤) لا يصدق عليه النسخ عند ما تفيء الباغية وترجع إلى رشدها ، والتسليم لحكم الله.

نعم في مثل قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (٥) يصدق النسخ عند ما يأتي البيان ، لأن التلميح إلى تحديد الحكم معلّقا على بيان جديد ، لا يوجب ارتفاع الحكم إلا بعد أن يأتي حكم جديد ، وما لم يأت البيان فالحكم الأول ثابت ومستمر على أحكامه.

__________________

(١) سورة النور : ٦٠.

(٢) سورة النور : ٣١.

(٣) سورة البقرة : ١٧٣.

(٤) سورة الحجرات : ٩.

(٥) سورة النساء : ١٥.


فالتحديد الذي يتنافى مع النسخ هو ما إذا كان الحكم بنفسه يرتفع بانقضاء الأمد المضروب له من الأول.

رابعا : أن يتعلق النسخ بالتشريعات أي الفروع والأحكام الشرعية ولا يتناول الأصول والعقيدة كما لا يتعلق بآيات الإخبار فقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١) لا يصلح ناسخا لقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٢) لأن الآية إخبار عن واقعية لا تتغير بالوجوه والاعتبار. فما توهمه (٣) مقاتل بن سليمان يعتبر باطلا حيث جعل الآية الثانية منسوخة بالأولى.

يرد عليه :

مضافا إلى ما قلنا آنفا من أنّه لا نسخ في الأخبار ، وإنما هو في الأحكام فإن موضوع الآية الأولى رقم ١٣ هم السابقون المقربون ، وموضوع الآية الثانية رقم ٣٩ هو المؤمنون إطلاقا الذين هم أصحاب اليمين بإزاء أصحاب الشمال.

فإذا ما قيس مؤمنو هذه الأمة عبر العصور أبديا حتى قيام الساعة مع مؤمني الأمم السالفة ، فقد تكون الفئتان متساويتين من حيث الكم والمقدار أو متقاربتين ، ويصح إطلاق «كمية كبيرة» على كلتا الفئتين ، وأما إذا قيس حواريو الأنبياء والأوصياء الماضين ـ وهم السابقون المقربون إلى حواريي نبينا وأوصيائه ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فأولئك عدد جم وهؤلاء عدد ضئيل.

وهكذا الإباحة الأصلية ترتفع بحدوث التشريع من غير أن يكون ذلك نسخا ، حيث تلك الإباحة لم تكن بتشريع ، وإنما كانت بحكم العقل الفطري (البراءة العقلية) والتي موضوعها : عدم التشريع ، فترتفع بالتشريع.

__________________

(١) سورة الواقعة : ١٣.

(٢) سورة الواقعة : ٣٩.

(٣) بهامش الجلالين ج ٢ / ١٩٧.


فقوله تعالى : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) لا يصلح ناسخا لقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) لأن جواز القعود مع المشركين قبل نزول آية النساء لم يكن مستفادا من آية الأنعام ، بل كان وفق الإباحة الأصلية ، ونزلت آية الأنعام دفعا لتوهم المسلمين الحظر عليهم ، حيث إنّ الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلّا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكّرهم ذكرى لعلهم يتقون ، فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهوّن أمر المعصية عند النفس وتصغّر الخطيئة في عين المشاهد المعاين ، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها ، فإن للنفس في كل معصية هوى ، ومن الواجب على المتقي بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالفة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته ، فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة ، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيها.

ومن هذا البيان يظهر :

أولا : إن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيحاء إلى أن من شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به ، فالكلام في تقدير قولنا : وما على غير الخائضين في حسابهم من شيء إذا كانوا يتّقون الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم على القعود

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٠.

(٢) سورة الأنعام : ٦٩.


معهم ليستمرّوا على تقواهم من الخوض أو ليتمّ لهم التقوى والورع عن محارم الله سبحانه.

وثانيا : إنّ المراد بالتقوى في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) التقوى العام وهو الاجتناب والتوقّي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى ، وفي قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) التقوى من خصوص معصية الخوض في آيات الله ، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى ، وبالثاني تمامه ، أو الأول إجمال التقوى والثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد ومنها مورد الخوض في آيات الله ، أو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين وبالتقوى الثاني تقوى الخائضين ، وتقدير الكلام : ولكن ذكّروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض (١).

وعليه فإن قوله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٢) هو ما يريده في سورة الأنعام (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣) فإن سورة الأنعام مكية ، وسورة النساء مدنية فيستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات وجّه إلى النبيّ خاصة ، والمراد بها ما يعم الأمة (٤) ، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.

خامسا : التحفظ على نفس الموضوع ، إذ عند ما يتبدل موضوع حكم إلى غيره ، فإن الحكم يتغير لا محالة حيث الحكم قيد موضوعه ، وليس هذا نسخا ، فكل استثناء أو تخصيص ورد على حكم عام لا يسمى نسخا.

ومن هذا الباب أيضا إذا ما طرأ عنوان ثانوي (كالاضطرار والحرج والتقيّة ...) يختلف حكمه عن العنوان الذاتي الأولى بحيث يعرّض ـ أي العنوان

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٧ / ١٤١.

(٢) سورة النساء : ١٤٠.

(٣) سورة الأنعام : ٦٨.

(٤) تفسير الميزان ج ٥ / ١١٥ وج ٧ / ١٤٠ ـ ١٤١.


الثانوي ـ العنوان الأوّلي كحرمة شرب الخمر مثلا فيجعله جائزا بعد أن كان بعنوانه الذاتي محرّما وذلك للاضطرار إلى شربه ، وهذا لا يسمّى نسخا في الاصطلاح نظرا لأن الحكم الأول ثابت للخمر بعنوانها الذاتي ولا يزال ، وأما الحكم الثاني العارض فهو طارئ بعنوان الاضطرار ، ويرتفع برفع الاضطرار ، وهذا من قبيل تبدل الموضوع بالنسبة إلى حالاته الطارئة التي يختلف الحكم الشرعي بحسبها ، وعليه فقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١) ليس ناسخا لقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٢).

صنوف النسخ في القرآن :

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، سواء أكان في أحكام الشرائع السابقة حيث نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، أم في جملة من أحكام هذه الشريعة حيث نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها. بل من المعلوم والمتسالم عليه عند الشرائع السابقة على الإسلام ، إن كل شريعة لا حقة كانت تنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة عليها ، وها هي صحاح اليهود والنصارى تثبت وقوع النسخ في شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ومن الغريب جدا إصرار اليهود على استحالة النسخ في شريعة موسى ، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين :

١ ـ فقد جاء في الإصحاح الرابع من سفر العدد «عدد ٢ ، ٣» :

«خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم ، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة ، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع».

وقد نسخ هذا الحكم ، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٣.

(٢) نفس السورة والآية.


سنة بما في الإصحاح الثامن من هذا السفر «عدد ٢٣ ، ٢٤» : «وكلّم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا ، يأتون ليتجندوا جنادا في خدمة خيمة الاجتماع».

ثم نسخ ثانيا : فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الأول «عدد ٢٤ ، ٣٢» : «هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رءوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء ، حسب رءوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق .. وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع ، وحراسة القدس».

٢ ـ وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد «عدد ٣ ـ ٧» : «وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقرّبون للرّب ، خروفان حوليّان صحيحان لكلّ يوم محرقة دائمة ، الخروف الواحد تعمله صباحا والخروف الثاني تعمله بين العشاءين ، وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرّضّ تقدمة ، محرقة دائمة هي المعمولة في جبل سيناء لرائحة سرور وقودا للرب ، وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد ، في القدس اسكب سكيب مسكر للرب».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح ، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق ، وثلث الهين من الزيت ، بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال «عدد ١٣ ـ ١٥» : «وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا صباحا تعمله ، وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة ، وزيتا ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة ، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة».

٣ ـ وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا : «عدد ٩ ، ١٠» : «وفي يوم السبت خروفان حوليّان صحيحان ، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه ، محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها».


وقد نسخ هذا الحكم بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضا «عدد ٤ ـ ٥» : «والمحرقة التي يقرّبها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة ، وكبش صحيح ، والتقدمة ايفة للكبش ، وللحملان تقدمة عطية يده ، وهي زيت للايفة».

٤ ـ وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر العدد «عدد ٢» : «إذا نذر رجل نذرا للرب ، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه ، حسب كل ما خرج من فمه يفعل».

وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى «العهد الجديد عند المسيحيين» عدد ٣٣ ـ ٣٤ : «أيضا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث ، بل أوف للرب أقسامك ، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة».

٥ ـ وجاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج «عدد ٢٣ ـ ٢٥» : «وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس ، وعينا بعين وسنا بسنّ ، ويدا بيد ورجلا برجل ، وكيّا بكيّ وجرحا بجرح ورضّا برضّ».

وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى «عدد ٣٨» : «سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا».

٦ ـ وجاء في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين «عدد ١٠» في قول الله لإبراهيم: «هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك ، يختن منكم كل ذكر».

وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج «عدد ٤٨ ـ ٤٩» : «وإذا نزل عندك نزيل ، وصنع فصحا للرب فليختن منه


كل ذكر ، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض ، وأما كل أغلف فلا يأكل منه ، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض ، وللنزيل النازل بينكم».

وجاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين «عدد ٢ ـ ٣» : «إذا حبلت امرأة ، وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة ، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته».

وقد نسخ هذا الحكم ، ووضع ثقل الختان عن الأمة المسيحية بما جاء في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل «عدد ٢٤ ـ ٣٠» : «وانحدر قوم من اليهودية وجعلوا يعلّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا ، فلمّا حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم رتّبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناس آخرون منهم إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة .. وكتبوا بأيديهم هكذا : الرسل والمشايخ والأخوة يهدون سلاما إلى الأخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسوريّة وكيليكيّة ، إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مصلّبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس ، الذين نحن لم نأمرهم ، رأينا وقد صرنا بنفس واحدة ، لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عمّا ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمّا تفعلون ، كونوا معافين».

٧ ـ وجاء في الإصحاح الرابع والعشرين من التثنية «عدد ١ ـ ٣» : «إذا أخذ رجل امرأة وتزوّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ، لأنّه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر ، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الأول الذي طلّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ، لأن ذلك رجس لدى الربّ ، فلا تجلب خطيّة على الأرض ..».


وقد نسخ الإنجيل ذلك ، وحرّم الطلاق بما جاء في الإصحاح الخامس من متى «عدد ٣١ ـ ٣٢» : «وقيل من طلّق امرأته فليعطها كتاب طلاق ، وأما أنا فأقول لكم إن من طلّق امرأته إلّا لعلة الزنا يجعلها تزني ، ومن يتزوّج مطلّقة فإنه يزني».

وجاء مثل ذلك في الإصحاح العاشر من مرقس : «عدد ١١ ـ ١٢» : «فقال لهم من طلّق امرأته وتزوّج بأخرى يزني عليها ، وإن طلّقت امرأة زوجها وتزوجت بآخر تزني».

وفي الإصحاح السادس عشر من لوقا «عدد ١٨» : «كلّ من يطلّق امرأته ويتزوّج بأخرى يزني ، وكلّ من يتزوّج بمطلّقة من رجل يزني».

هذه نبذة مما ذكره التوراة والإنجيل على صحة وقوع النسخ فيهما ، وهناك الكثير أعرضنا عن ذكرها روما للاختصار.

والنسخ في القرآن يتصور على أنواع ، نعرضها مع التعقيب على كل نوع بما تقتضيه أداة النقد والتمحيص :

١ ـ نسخ الحكم والتلاوة معا.

وماهيته أن يسقط أو يحذف من القرآن آية كانت ذات حكم تشريعي ، وكان المسلمون في عهد الرسالة يتداولونها ويقرءونها ويتعاطون حكمها ، ثم نسخت وبطل حكمها ومحيت من صفحة الوجود رأسا.

هذا النوع من النسخ مرفوض عندنا نحن الشيعة الإمامية لا سيّما على مسلك المشهور كما قلنا سابقا. نعم هو مقبول عند جمهور العامة وإن كانوا يتظاهرون بخلافه ، فها هو السيوطي (١) ومعه عبد العظيم الزرقاني (٢) يثبتان هذا النوع من النسخ في القرآن ، بحجة مجيئه في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة أنها قالت :

__________________

(١) راجع الاتقان ج ٢ / ٤٦.

(٢) مناهل العرفان ج ٢ / ٢١٤.


كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخن : بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن (١).

ليت شعري كيف يلتزم بالتحريف من يتهم الشيعة به ، لأن إثبات هذا النوع من النسخ يرجع في واقعه إلى القول بالتحريف بأن تكون آية ذات حكم تشريعي ، وكانت تتلى حتى وفاة رسول الله ثم نسيت ، وليس ذلك سوى إسقاط آية بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أن الأمر عكس ذلك عند جمهور المسلمين.

نعم استنكر على هذا النوع من النسخ بعض علماء العامة كالزركشي والقاضي أبو بكر في الانتصار. قال الأول : «وقد تكلّموا في قول عائشة : «وهن مما يقرأ» فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك ، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة ، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوفى وبعض الناس يقرؤها».

وحكى الزركشي عن الثاني ـ أي القاضي أبي بكر ـ إن قوما أنكروا هذا القسم ، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها» (٢).

وأنكر السرخسي هذا النوع من النسخ في القرآن ، معترضا على من اعتقد به ، رادا الحديث المروي عن عائشة عادّا له من أخبار الآحاد التي لا يعوّل عليها ، مع أن الواحدي ممن يعتقد (٣) بوقوع هذا النوع من النسخ مستدلا بما روي عن أبي بكر قال : كنا نقرأ «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» وكذا الشافعي فإنه صحّح ما يروى عن عائشة بشأن عدد الرضعات ، قال النووي الدمشقي في هامش صحيح مسلم : «وأما الشافعي وموافقوه فأخذوا بحديث عائشة خمس رضعات معلومات ..

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٠ / ٢٦ كتاب الرضاع ، باب ٦. والاتقان ج ٢ / ٤٦ وسنن الترمذي ج ٣ / ٤٥٦.

(٢) البرهان ج ٢ / ٣٩ ـ ٤٠.

(٣) البرهان للزركشي ج ٢ / ٣٩ وأصول السرخسي ج ٢ / ٧٨.


واعترض أصحاب مالك على الشافعية بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به ..» (١).

وهكذا أبو محمد ابن حزم استدل على هذا النوع من النسخ بما روي عن عائشة أيضا (٢).

قال السرخسي : «وحديث عائشة لا يكاد يصح لأن الراوي قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله فدخل داجن البيت فأكله ، ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخرى ، فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث» (٣).

لكنّ ذيل حديثه ينقض صدره من حيث نفيه لأصل الحديث تبرئة منه لساحة عائشة من نسبتها النقص للقرآن ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، فحيثما يأت الحديث عن كبرائه وساداته كغيره من علماء العامة فإنه يحار بتوجيه كلماتهم ولكنّه وأمثاله عند ما تصل النوبة إلى أهل بيت محمّد تراهم كما قال تعالى : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٤).

وهذا النوع مجمع على بطلانه لكونه ثابتا بأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا ، فكما أن القرآن لا يثبت الخبر الواحد ، كذا لا يثبت النسخ بخبر الواحد أيضا : «لأنّ الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس ـ لا سيّما كهذه المسألة ـ وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد ، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه ، وعليه فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم وأمثالها من القرآن ، وأنها قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها» (٥) أو نسخت تلاوتها وحكمها معا؟!

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٠ / ٢٦.

(٢) المحلى لابن حزم ج ١٠ / ١٥.

(٣) أصول السرخسي ج ٢ / ٧٨.

(٤) سورة نوح : ٧.

(٥) البيان ص ٢٨٥.


وحتى ننزه كتاب الله تعالى عن شبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد ، فما لم يتواتر في شأن القرآن إثباتا وحذفا لا اعتداد به ، ومن هذا الباب نسخ القرآن بأخبار الآحاد.

٢ ـ نسخ التلاوة دون الحكم.

معناه : أن تسقط آية من القرآن الحكيم ، كانت تقرأ في عهد النص ، وكانت ذات حكم تشريعي ، ثم نسيت ومحيت عن صفحة الوجود ، لكن حكمها بقي مستمرا غير منسوخ. ومثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا : إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، أو «كما ادعت عائشة أن خمسة رضعات نسخن العشرة» (١).

وهذا النوع من النسخ أيضا مرفوض عند الإمامية على غرار النوع الأول بلا فرق ، لأن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف ، ومستند هذا القول أخبار آحاد ، وأن أخبار الآحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام ، وأخبار الآحاد لا تفيد سوى الظن ، وأن الظن لا يغني عن الحق شيئا.

هذا فضلا عن منافاته لمصلحة نزول نفس الآية أو الآيات ، إذ لو كانت المصلحة التي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعي ثابت ، فلما ذا ترفع الآية وحدها ، في حين اقتضاء المصلحة بقاءها لتكون سندا للحكم الشرعي المذكور. ومن ثمّ فإن الاعتقاد بمثل هذا استدعى تشنيع أعداء الإسلام وتعيير هم على المسلمين في كتابهم المجيد.

لذا فإن هذا القول باطل عندنا ـ معاشر الإمامية ـ رأسا لا مبرر له إطلاقا ، فضلا عن مساسه بقداسة القرآن الحكيم.

وخالفنا في ذلك جلّ علماء العامة بما فيهم فقهاء كبار ، التزموا بهذا القول

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٠ / ٢٦.


المستند إلى لفيف من أخبار آحاد زعموها صحيحة الإسناد ، وهذا إيثار لكرامة القرآن على حساب روايات لا حجية فيها في هذا المجال ، وإن فرضت صحيحة الإسناد في مصطلحهم ، إذ صحة السند إنما تجدي من فروع مسائل فقهية ، لا إذا كانت تمسّ كرامة القرآن وتمهّد السبيل لإدخال الشكوك على كتاب المسلمين.

فها هو الشيخ السرخسي أحد أكابر علماء العامة والمحقّق الأصولي الفقيه عندهم ، بينما يشدّد النكير على القائل بالنسخ من النوع الأول ، إذا هو يلتزم به في هذا النوع ، في حين لا يوجد فرق بينهما فيما ذكره من استدلال لبطلان الأول.

قال : «وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا : إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة ، بقراءة ابن مسعود : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة ، ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن ، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه ، فلا وجه لذلك إلّا أن نقول : كان ذلك مما يتلى في القرآن ـ كما حفظه ابن مسعود ـ ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله بصرف القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله ، فإن خبر الواحد موجب للعمل به ، وقراءته لا تكون دون روايته ، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق» (١).

وقد وافقه الرأي ثلة من محققي العامة كابن حزم الأندلسي فقال : «فأما قول من لا يرى الرجم أصلا فقول مرغوب عنه ، لأنه خلاف الثابت عن رسول الله وقد كان نزل به قرآن ، ولكنه نسخ لفظه وبقى حكمه ، ـ ثم يروى عن سفيان عن عاصم عن زر ـ قال : قال لي أبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت : أما ثلاثا وسبعين آية أو أربعا وسبعين آية. قال : إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها ، وإن كان فيها لآية الرجم. قلت : أبا المنذر ، وما آية الرجم؟ قال : [إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم].

__________________

(١) أصول السرخسي ج ٢ / ٨١.


قال : هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه.

ثم روى بطريق آخر عن منصور عن عاصم عن زر ، وقال : فهذا سفيان الثوري ومنصور شهدا على عاصم ، وما كذبا ، فهما الثقتان الإمامان البدران ، وما كذب عاصم على زر ، ولا كذب زر على أبي.

قال أبو محمّد : ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها ، ولو لم ينسخ لفظها لا قرأها أبيّ بن كعب زرا بلا شك ، ولكنّه أخبره بأنها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له : إنها تعدل الآن ، فصحّ نسخ لفظها.

ثم يروي آية الرجم عن زيد وابن الخطاب ويقول : إسناد جيد. ويروي عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة ، فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها. قال : وهذا حديث صحيح. وليس هو على ما ظنّوا ، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله صلّى الله عليه [وآله] إلّا أنّه لم يكتبها نساخ القرآن في المصاحف ، ولا أثبتوا لفظها في القرآن ، وقد سأله عمر بن الخطاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها ، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة ، فأكلها الدّاجن ولا حاجة بأحد إليها (١).

والذي غرّ هؤلاء : إنها أحاديث رويت في الصحاح (٢) الستة وغيرها ، ولا بدّ لهم ـ وهم متعبدون بما جاء فيها ، بل هي بعد كتاب الله عندهم ـ أن يتقبّلوها على علّاتها مهما خالفت أساليب النقد والتحقيق.

قال النووي في تعليقته على قول عمر بن الخطّاب (فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ..).

__________________

(١) المحلّى ج ١١ / ٢٣٤.

(٢) صحيح مسلم ج ١١ / ١٥٩ ح ١٤٥٢ ، وصحيح البخاري ج ٨ / ٣٤١ ح ٦٨٣٠ ، والمستدرك ج ٤ / ٣٥٩ ، مسند أحمد ج ١ / ٢٣ وج ٢ / ٤٣ ، وسنن الترمذي ج ٤ / ٣٩ وج ٣ / ٤٥٦.


«أراد بآية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، وهذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه ، وقد نسخ حكم دون اللفظ وقد وقع نسخهما جميعا ، فما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك ، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة أن المنسوخ لا يكتب في المصحف وفي إعلان عمر بالرجم وهو على المنبر وسكوت الصحابة وغيرهم من الحاضرين عن مخالفته بالإنكار دليل على ثبوت الرجم ، وقد يستدل به على أنه لا يجلد مع الرجم وقد تمتنع دلالته لأنه لم يتعرض للجلد وقد ثبت في القرآن والسنة» (١).

حتى أنه ـ أي النووي ـ عدّ ذلك من كرامات عمر بن الخطاب (٢).

هذا .. وقد أكثر جلال الدين السيوطي (٣) الأمثلة على النوع واستشهد بروايات ساقطة لإثبات صحة مدّعاه وقد نقلنا فيما تقدّم شيئا منها ؛ وكذا من قبله شيخه بدر الدين الزركشي ، وقد أخذها بعض الكتّاب المحدثين أدلة قاطعة من غير تحقيق أمثال الزرقاني في مناهل العرفان حيث عدّ وقوع هذين النوعين من الواضحات لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر ، كما أنه عدّ عدم القول بوقوعهما من مخترعات المعتزلة القائلين بحجية العقل في مسائل كهذه.

وبالجملة : فما تقدّم عن عمر بن الخطاب من زعمه أن آية الرجم كانت موجودة ، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، لا يصلح للدليلية على صحة النسخ القرآني لكونه أحد أبرز مصاديق التحريف الذي يتظاهر علماء العامة بعدمه ، ثم ينسبونه إلى الإمامية ، والإمامية منه براء.

نعم قد تقدّم أن عمر بن الخطّاب أتى بآية الرجم وادّعى أنها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون ، لأن نقل هذه الآية المزعومة كان منحصرا به ، ولم يثبتوها

__________________

(١) شرح النووي في هامش صحيح مسلم ج ١١ / ١٥٩.

(٢) نفس المصدر ص ١٦٠.

(٣) راجع : الاتقان ج ٢ / ٥٢ ـ ٥٣.


في المصاحف ، فالتزم المتأخرون منهم بل والمتقدمون ـ صونا لعمر عن التكذيب ـ بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة

ومعناه أن تبقى الآية ثابتة في الكتاب يقرؤها المسلمون عبر العصور ، سوى أنها من ناحية مفادها التشريعي منسوخة ، لا يجوز العمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحكمها.

هذا النوع من النسخ هو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وكثر التأليف فيه ، وهو في الحقيقة قليل ، وإن أكثر بعض المؤلفين من تعداد الآيات فيه ، وعليه فإن هذا النوع من النسخ متفق على جوازه إمكانا ، وعلى تحققه بالفعل أيضا حيث توجد في القرآن الكريم آيات منسوخة وآيات ناسخة ، ولهذا النوع من النسخ أنحاء ثلاثة ، وقع الكلام في إمكان بعضها :

الأول : أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن ، بسنة متواترة ، أو بإجماع قطعي كاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه‌السلام ، نظير آية الإمتاع إلى الحول بشأن المتوفى عنها زوجها ، فإنها ـ بظاهرها ـ لا تتنافى وآية العدد والمواريث ، غير أن السنّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العدد والمواريث ، وقد تقدّم الكلام فيها.

إن قيل : كيف ينسخ القرآن بالسنّة والإجماع ، مع أنهما ظنيان ، والقرآن قطعي؟

قلنا : أن القرآن ينسخ بالسنّة المتواترة لأن العمل بالمتواتر تماما كالعمل بالخبر الواحد ، فإذا جاز أن يكون الخبر الواحد مخصصا لعموم الكتاب ، يسوغ للمتواتر بطريق أولى أن يكون ناسخا ، لأن كلا منهما بيان وطريق للكشف عن إرادة الشارع المقدّس.

وأما الإجماع فهو كالنصوص ، ومرادنا من الإجماع ، القطعي منه لا كل


إجماع ، لأن الإجماع اجتماع آراء ، ولا مجال للرأي في معرفة ملاكات الأحكام ، أو نهاية وقت الحسن والقبح. فالإجماع عندنا معشر الإمامية ليس بحجة ما لم يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، ومعنى هذا أن مجرد الاحتمال بخطإ الإجماع يسقطه عن الاعتبار.

الثاني : أن ينسخ مفاد آية بآية أخرى ، بحيث تكون الثانية ناظرة إلى مفاد الأولى ورافعة لحكمها بالتنصيص ، ولو لا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية ، وهذا كآية النجوى (١) أوجبت التصدق بين يدي مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسختها آية الإشفاق (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) (٢).

وهذا النحو من النسخ أيضا لا إشكال فيه.

الثالث : أن تنسخ آية بأخرى من غير أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى سوى وجود التنافي بين الآيتين ، بحيث لم يمكن الجمع بينهما تشريعا ، فكانت الثانية المتأخرة نزولا ناسخة للأولى.

ويجب أن يكون التنافي بين الآيتين كليا ـ على وجه التباين الكلي ـ لا جزئيا وفي بعض الوجوه ، لأن الأخير أشبه بالتخصيص منه إلى النسخ المصطلح.

والتنافي ـ على الوجه الكلي ـ لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيتين سوى عن نص معصوم ، لأن للقرآن ظاهرا وباطنا ومحكما ومتشابها ، وليس من السهل الوقوف على كنه آية مهما كانت محكمة.

وقد أنكر المحقّق السيّد الخوئي «رحمه‌الله تعالى» هذا النحو من النسخ فقال : «والتحقيق أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن ، كيف وقد قال الله عزوجل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ولكنّ كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حتى التأمل في معاني الآيات الكريمة ،

__________________

(١) سورة المجادلة : ١٢.

(٢) سورة المجادلة : ١٣.


فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات ، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة» (١).

يرد عليه :

١ ـ إن الاختلاف الذي تنفيه الآية الكريمة ، هو ما إذا كان حقيقيا في ظرف الواقع ، أما إذا كان شكليا وفي ظاهر الأمر ـ كما بين الناسخ والمنسوخ ـ فلا تناقضه الآية إطلاقا. مثلا يشترط في الاختلاف الحقيقي (التناقض) أمور ثمانية منها : وحدة الزمان ووحدة الملاك والشرط ، وإذا تخلّف أحدها فلا تنافي ولا اختلاف ، كما في الناسخ ، ظرفه متأخر ، وملاكه مصلحة أخرى ، تبدلت عن مصلحة سابقة كانت مستدعية لذلك الحكم المنسوخ (٢).

إذن فالتنافي بين الناسخ والمنسوخ بدوي ظاهري ، أما بعد التعمق وملاحظة فترتي نزولهما والمناسبات المستدعية لنزول الأولى ثم الثانية ، فإن هذا التنافي والاختلاف يرتفع نهائيا.

فالحكم المنسوخ هو في الحقيقة حكم محدود في علم الله من أول تشريعه ، غير أن ظاهره الدوام ، ومن ثمّ كان التنافي بينه وبين الناسخ المتأخر شكليا محضا.

٢ ـ فكما لا يصدق الاختلاف بنظرة على القسم الثاني (٣) من النسخ الثابت في القرآن ، كذا لا يصدق على القسم الثالث الذي ادّعى السيد الخوئي (قدس‌سره) عدم وجوده في القرآن الحكيم ، مستدلا على ذلك بالآية (٤) الدالة على عدم وجود اختلاف في القرآن ، ليت شعري أليس في القرآن متشابه ومحكم ، وهما مختلفان من حيث الخصوصيات والحيثيات؟! ومن البديهي أن وجود متشابه ومحكم في القرآن لا ينفي حجيته والعمل به ، فكذا وجود الناسخ لا ينفي حجية المنسوخ

__________________

(١) البيان ص ٢٨٧.

(٢) التمهيد في علوم القرآن ج ٢ / ٢٩٦.

(٣) البيان ص ٢٨٦.

(٤) سورة النساء : ٨٢.


القرآني ، إذ رفع الآية الناسخة لحكم الآية المنسوخة لا يلغي كل الخصوصيات المتعلقة بالمنسوخ.

فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها ، وبالنسخ يزول أثر الشيء من تكليف أو غيره مع بقاء أصله ، فالآية المنسوخة ربما كانت ذات جهة واحدة ، وربما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ، فالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.

«فالناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته ، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة ، فإذا توفى نبي وبعث نبي آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر ، كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان ، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت ، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة ، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام ، وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين ، والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (١) المنسوخ بآية القتال ، وقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (٢) المنسوخ بآية الجلد فقوله : حتى يأتي الله بأمره ، وقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) لا يخلو عن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٩.

(٢) سورة النساء : ١٥.


إشعار بأن الحكم مؤقت مؤجل سيلحقه نسخ» (١).

النقطة الثانية : شبهات حول النسخ في القرآن الحكيم

هناك شبهات أوردها ناكروا النسخ ، فزعموا عدم إمكان النسخ في شريعة الله ، وبالتالي عدم وقوعه في القرآن الكريم ، وهي شبهات متنوعة ، ومختلفة المستوى ، أهمها :

الشبهة الأولى :

إن النسخ التشريعي مستحيل بشأنه تعالى كالبداء التكويني ، لأنهما عبارة عن نشأة رأي جديد ، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدء الأمر ، والحال أن علمه تعالى أزلي ، لا يتبدل له رأي ولا يتجدد له علم ، فلا يعقل وقوفه تعالى على خطأ في تشريع قديم لينسخه بتشريع جديد.

والجواب :

إن النسخ كالبداء لكن ليس على معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن نشأة رأي جديد ، وإنما هو ظهور للناس بعد خفاء عليهم ، لمصلحة في هذا الإخفاء في بدء الأمر ، فالنتيجة فيهما واحدة وهي الإظهار للناس بعد الخفاء عنهم ، وأين هذا من تبدّل رأيه عزوجل أو تجدد علمه حسبما أفادت الشبهة؟

فالشارع المقدّس حينما ينشئ حكما يكون بظاهره دائما ومستمرا ، حسبما ألفه الناس من دوام الأحكام المطلقة ، لكنه في الواقع كان من الأول محدودا بأمد معلوم لديه تعالى ، ولم يظهره للناس إلّا بعد انتهاء الأمد المذكور ، لمصلحة في ذلك الإخفاء ، وفي هذا الإظهار المتأخر.

قد يقال : لما ذا كان تحديد في الأحكام ، فإذا كانت في أصل تشريع الحكم مصلحة فلتقض الدوام ، وإن لم تكن مصلحة فلا مقتضى لأصل التشريع.

__________________

(١) تفسير الطباطبائي ج ١ / ٢٥٣.


جوابه : إن المصالح تختلف حسب الظروف والأحوال ، كوصفات طبيب حاذق تختلف حسب اعتوار أحوال المريض واختلاف بيئته والمحيط الذي يعيش فيه ، فربّ مصلحة تستدعي تشريعا متناسبا مع بيئة خاصة وفي مستوى خاص ، فإذا تغيرت الواقعية فإن المصلحة تستدعي تبديل تشريع سابق إلى تشريع لاحق يلتئم مع هذا الأخير.

أما لما ذا لم ينبّه الشارع تعالى على هذا التحديد من أول الأمر؟

فلعلّ هناك مصلحة مستدعية لهذا الإخفاء ، منها توطين نفوس مؤمنة وترويضها على الطاعة والانقياد ، ولا سيّما إذا كان التشريع الأول أشد وأصعب ، فيتبدل إلى تشريع أسهل وأخف ، تسهيلا على الأمة وتخفيفا عليهم رحمة من الله تعالى.

الشبهة الثانية :

إن وجود آية منسوخة في القرآن ربما يسبّب اشتباه المكلفين ، فيظنونها آية محكمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها ، الأمر الذي يكون إغراء بالجهل ، وهو قبيح.

الجواب :

إن خلط الأمر على المكلّفين ليس مبررا لرفض النسخ من أساسه وإلّا لأدى وجود المتشابه القرآني وكذا العام والمطلق إلى إنكار المحكم والخاص والمقيّد ، مع أنّ أحدا من الفقهاء لم يقل به أبدا.

هذا مضافا إلى أن مضاعفات جهل كل إنسان تعود إلى نفسه ، ولم يكن الجهل يوما ما عذرا مقبولا لدى العقلاء ، فإذا كانت المصلحة تستدعي نسخ تشريع سابق بتشريع لاحق ، فعلى المكلّفين أن ينبّهوا أنفسهم على هذا الاحتمال في التشريع ، ولا سيّما إذا كان التشريع في بدء حركة إصلاحية آخذة في التدرّج نحو الكمال.


وهكذا كان في القرآن ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، وإطلاق وتقييد ومحكم ومتشابه ، وليس لأحد التسرع إلى الأخذ بآية حتى يعرف نوعيتها ، كما ورد التنبيه على ذلك في أحاديث مستفيضة عن أئمة الدين عليهم‌السلام ، قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لقاض مرّ عليه : هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟

فقال القاضي : لا ، فقال عليه‌السلام : إذن هلكت وأهلكت (١).

الشبهة الثالثة :

ما هي الفائدة المتوخاة وراء ثبت آية في المصحف ، هي منسوخة الحكم ، لتبقى مجرد ألفاظ يلوكها القرّاء عبر القرون؟

الجواب :

١ ـ لا تنحصر فائدة آية قرآنية في الحكم التشريعي فحسب ، بل التشريع هدف واحد من أهداف كثيرة ومتنوعة نزل لأجلها القرآن الكريم ، فنزول آية في حكم ثم نسخه بآية أخرى لا يلغي ـ حسبما قدّمنا سابقا ـ كل الخصوصيات الأخرى لا سيّما أن للقرآن ظهورا وبطونا متعددة ، فإذا انتفى ظهر لا يعني انتفاء بقية الظهور والبطون.

٢ ـ آيات كثيرة نزلت في ظروف معيّنة ، ولمناسبات خاصة وأحداث وقتية لا تعم الأجيال والأعصار ، ولا أثر لها ـ فيما عدا الإعجاز والتحدي ـ سوى الدلالة على مراحل اجتازتها الدعوة الإسلامية ، والأحداث التي مرت عليها ، وهي من أكبر الفوائد الباقية كنصوص تاريخية ثابتة تعيّن لنا مراحل اجتازها سير الزمن في الغابر لتكون عبرة للحاضر والآتي ، وهذه الآيات نظير الآيات التي تحدثت عن قصص الماضين وأبلت أخبارهم ، ليأخذ المؤمن منها العبرة والعظة.

فالتأمل في مراحل التشريع الإسلامي من مرحلة إلى مرحلة حسب استعداد

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٢ / ٩٥ والاتقان ج ٢ / ٤٤ في «ناسخه ومنسوخه».


الأمة من ضعف إلى قوة ، بحيث يشحذ الهمم ويقوّي الأفئدة إلى التسليم والطاعة ، وهو من أعظم الفوائد المترتبة على هذه الآيات كما لا يخفى.

الشبهة الرابعة :

وهي أن الالتزام بوجود آيات ناسخة وأخرى منسوخة يستدعي وجود تناف بين آياته الكريمة ، الأمر الذي يناقضه قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) ، وبهذه الشبهة تمسّك صاحب البيان (٢) لنكران وجود نسخ كهذا في القرآن الكريم.

وقد تقدمت الإجابة عنها ولله الحمد.

فالصحيح ـ إذن ـ أن المشهور عند العامة هو القول بالتحريف لأن نسخ التلاوة هو نفسه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء العامة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف.

__________________

(١) سورة النساء : ٨٢.

(٢) السيد الخوئي.


قال العبّاسي : هذا كذب صريح.

قال العلويّ : ألم ترووا في كتبكم أنه نزلت على رسول الله آيات حول «الغرانيق» ثم نسخت تلك الآيات وحذفت من القرآن؟

قال الملك للوزير : وهل صحيح ما يدّعيه العلوي؟

قال الوزير : نعم هكذا ذكر المفسرون (١).

____________________________________

ذكر ثلة من مفسري العامة ومؤرخيهم قصة «الغرانيق» (١) منهم الطبري والسيوطي والزمخشري والرازي ، وها نحن نعرض هذه الأسطورة من كتب العامة حيث يغضون الطرف عن مساوئ نسبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما يتعمّقون ببهت الشيعة وتكفيرهم ، بل يتعمّد بعض رعاعهم ـ ممن ينسبون للعلم وهم في الواقع أدعياؤه ـ إلى الافتراء علينا نحن معشر الإمامية بما منه برآء مع أنّ تنزيه نبيّنا محمّد عن كل نقص وسيئة هو من صلب عقيدتنا الدينية ، ونحاول جاهدين أن نقنع الآخرين بها ، لكننا لا نجد آذانا صاغية إلا قليلا ممن ألقى السمع وهو شهيد ، وكيف يمكننا أن نصلح ما أفسده الدهر وصدق الشاعر إذ يقول :

عجوز تمنت أن تكون فتية

وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر

فجاءت إلى العطّار تبغى شبابها

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

وجذور هذه ا لأسطورة هم اليهود ، حيث عمد فريق منهم أمثال كعب الأحبار

__________________

(١) «الغرانيق» جمع ، مفرده «غرنوق» وهو طائر مائي من فصيلة الكركيات ، عريض الجناح طويل الساق ، أو الشاب الأبيض الناعم الجميل ، قال ابن الأنباري : «الغرانيق» : الذكور من الطير ، واحدها غرنوق ، سمي به لبياضه ، وقيل : هو الكركي كانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله عزوجل وتشفع لهم إليه ، فشبّهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. لاحظ لسان العرب ج ١٠ / ٢٨٧ مادة غرنق.


إذ تظاهروا باعتناق الإسلام ليحرّفوا الحقائق باختلاق الأكاذيب والافتراء على الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام.

ولقد أدرج بعض علماء العامة هذه المفتريات في مؤلفاتهم ، وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيص وتدقيق وتحقق ، ثقة بكل من أظهر الإسلام ، وتظاهر بالإيمان وانضم إلى صفوف المسلمين ، فوثقوا بالشارد والوارد إلا بالشيعة الإمامية لم يثقوا بهم ولم يطمئنوا إلى مروياتهم ، وكل ذنبنا أننا موالون لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وعترته الطاهرة. وهناك سبب آخر جعل العامة يثقون بأحاديث كعب وأمثاله هو أن الأشاعرة لا يعتقدون بالحسن والقبح العقليين (١) ، بل الحسن ـ عندهم ـ ما أمر به الشارع المقدّس ، والقبيح ما نهى عنه. وها نحن نذكر ما رواه هؤلاء :

١ ـ قال الطبري : لقى الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأمية ابن خلف رسول الله فقالوا يا محمّد هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ونشركك في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا كنا قد شركناك فيه .. فأنزل الله عزوجل : قل يا أيّها الكافرون حتى انقضت السورة فكان رسول الله حريصا على صلاح قومه ، محبّا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل ، قد ذكر أنه تمنّى السبيل إلى مقاربتهم فكان من أمره في ذلك ، ما حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال حدثني محمّد بن إسحاق عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمّد بن كعب القرظي قال :

لما رأى رسول الله تولي قومه عنه ، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه ، وكان يسره مع حبه قومه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم حتى حدّث بذلك نفسه وتمناه وأحبه فأنزل الله عزوجل (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَ

__________________

(١) فصّلنا ذلك في كتاب «الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية» فليراجع.


صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ـ فلما انتهى إلى قوله ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدّث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ ترتضى ، فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرّهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدقون نبيّهم فيما جاءهم به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره ، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لمّا سمعوا من ذكر آلهتهم فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلّا سجد إلّا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع السجود فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس من المسجد ، وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم يقولون قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر قد زعم فيما يتلو إنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضى ، وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله وقيل أسلمت قريش فنهض منهم رجال وتخلّف آخرون وأتى جبريل رسول الله فقال : يا محمّد ما ذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عزوجل وقلت ما لم يقل لك ، فحزن رسول الله عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله عزوجل وكان به رحيما يعزّيه ويخفّض عليه الأمر ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنّى ولا أحب كما أحب إلّا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل ، فأنزل الله عزوجل (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) (١) فأذهب الله عزوجل عن نبيّه الحزن وآمنه من الذي كان يخاف ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن

__________________

(١) سورة الحج : ٥٢.


ترتضى بقول الله عزوجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي عوجاء (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ـ إلى قوله ـ (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش ندم محمّد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله فغيّر ذلك بغيره وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ..» (١).

٢ ـ وقال أيضا حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال حدثني حجاج عن أبي معشر عن محمّد بن كعب القرظي ومحمّد بن قيس قالا : جلس رسول الله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه فأنزل الله عزوجل (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فقرأها رسول الله حتى إذا بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عليه كلمتين تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترجى فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلها فسجد في آخر السورة وسجد القوم معه جميعا ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود فرضوا بما تكلم به ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعلت لها نصيبا فنحن معك ، قالا فلما أمسى أتاه جبريل عليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) فما زال مغموما مهموما حتى نزلت (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) ـ إلى قوله ـ (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٧٥ ـ ٧٦.


كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ثم قام ..» (١).

٣ ـ وقال الشيخ جلال الدين السيوطي : وأخرج عبد بن حميد من طريق السدي ، عن أبي صالح قال : قام رسول الله فقال المشركون : إن ذكر آلهتنا بخير ، ذكرنا إلهه بخير ف (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [إنهن لفي الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى]. قال : فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) فقال ابن عباس : إن أمنيته أن يسلم قومه (٢).

٤ ـ وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال :

إنّ رسول الله قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى» ففرح المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليّ ما جئتك به ، فقرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا! هذا من الشيطان ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) (٣) إلى آخر الآية.

٥ ـ وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة أنزل عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها ، فسمعه أهل مكة وهو يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ودنوا يسمعون ، فألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) تفسير الدر المنثور ج ٤ / ٦٦١ سورة الحج : ٥٢.

(٣) تفسير الدر المنثور ج ٤ / ٦٦١.


العلى منها الشفاعة ترتجى ، فقرأها النبيّ كذلك ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى قوله (حَكِيمٌ) (١).

ثم ساق السيوطي على نسق ما تقدم جما وفيرا من النصوص من طريق مجاهد ، والسدي ، وعكرمة وعروة وابن شهاب وقتادة وأبي العالية وابن المنذر وابن جريج وابن عبّاس وعبد الرحمن بن الحارث ، كما أخرج من طريق الكلبي وابن جرير والبزار والطبراني وابن مردويه وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور والبيهقي في الدلائل والطبراني.

٦ ـ وقال الجصّاص (٢) :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآية.

روى عن ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومحمّد بن كعب ، ومحمّد ابن قيس ، أنّ السبب في نزول هذه الآية أنه لما تلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان في تلاوته : «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى».

٧ ـ وقال النيسابوري : «قال عامة المفسّرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا شق عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفّرهم لحرصه على إيمانهم ، وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة النجم إذا هوى فأخذ يقرؤها عليهم حتّى بلغ قوله : أفرأيتم اللّات والعزّى ، ومناة الثالثة الأخرى ، وكان ذلك التمنّي في نفسه فجرى على لسانه : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله في قراءته حتى ختم السورة فلمّا سجد في آخرها ، سجد معه جميع من

__________________

(١) نفس المصدر ج ٤ / ٦٦٢.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ج ٣ / ٢٤٦ طبعة اوفست لاهور / باكستان.


في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر (١).

٨ ـ قال الزمخشري : «والسبب في نزول هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ..) إن رسول الله لمّا أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنّى لفرط ضجره من أعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم وعنادهم ، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (والنجم) وهو في نادي قومه ، وذلك التمنى في نفسه ، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها أي : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهنّ لترتجى. وروي : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ، وقيل : نبهه جبريل عليه‌السلام ، أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ...» (٢).

وروى أسطورة الغرانيق غير ما قدّمناه (٣) ، ونسبها الرازي إلى عامة المفسرين الظاهريين (٤).

هذه هي خلاصة أسطورة «الغرانيق» التي أوردها ـ ليس الطبري فحسب ـ بل عامة المفسرين الظاهريين بل والمؤرخين أيضا ، وبات يرددها المستشرقون المغرضون ، فاتخذوها ذريعة لضرب الإسلام وللتشكيك بمعتقداته ، لا سيّما بالقرآن الكريم مصدر التشريع والتقنين عند المسلمين ، فإذا سهل النيل منه ، نالوا

__________________

(١) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ج ١٧ / ١٠٤ بهامش تفسير الطبري ، طبع بولاق ـ مصر.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ / ١٦١ ، سورة الحج : ٥٢.

(٣) أمثال : الشربيني في تفسيره السراج المنير ج ٣ / ٥٥٩ ، وتفسير الطبري : جامع البيان ج ٩ / ١٧٣.

(٤) تفسير الرازي ج ٢٣ / ٥٠ سورة الحج.


من اتباعه من خلال التشكيك بالقرآن ككتاب سماوي نزل به روح القدس من رب العالمين على قلب رسول الرحمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالفعل بدأت هذه الحملات تطأ بأذيالها بين الحين والآخر ، وآخرها ما نفثه سلمان رشدي عليه اللعنة حيث نسب إلى رسول الله ما نسبه السيوطي والطبري وأمثالهما ، فقد ادّعى المذكور أن ما نزل على النبي إنما هو آيات شيطانية تلاها الشيطان على النبيّ ، معتمدا في كتابه «آيات شيطانية» على ظواهر بعض الآيات المتشابهات كآية ٥٢ من سورة الحج وغيرها ، وبما رواه علماء العامّة من أن النبيّ تلا «تلك الغرانيق العلى» وتبعه على ذلك جرجس سال في كتابه : مدّعيا أن : «محمّدا نفسه جاء بكلام يضاهي في فصاحته كلام القرآن وذلك أنه قرأ ذات يوم سورة النجم التي ادّعى أنها نزلت عليه فلما بلغ منها إلى قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ..) بدره لسانه فقال : تلك الغرانيق ..» (١).

ولنفرض أن سيّدنا محمّدا لم يكن نبيّا مرسلا ، ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته وفطنته وعقله ، وهل لعاقل فطن ، محنّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

إن الذكي اللبيب الذي يجد أنصاره يتكاثرون ويتزايدون يوما بعد يوم ، وتقوى صفوفهم أكثر فأكثر ، بينما تتفرق صفوف أعدائه ومناوئه ويتناقص معارضوه وخصومه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب أن يسيء الجميع ظنهم به ، ويشك الصديق والعدو في أمره؟

العقلاء لا يصدّقون أن رجلا ترك جميع المناصب والأموال التي عرضتها قريش عليه ، في سبيل التنازل عن عقيدته ودينه أن يصبح دفعة واحدة من دعاة الشرك ، بل ومن المروجين للوثنية!!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي محنّك من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيه العظيم؟!

__________________

(١) أسرار عن القرآن ص ٤٨ تعريب وتذييل : هاشم العربي.


أسطورة الغرانيق باطلة :

إن أسطورة الغرانيق باطلة ومردودة بوجوه :

الأول : حكم العقل بضرورة عصمة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام عن أي خطأ وزلل بقوة ملكوتية ، إذ لو تعرّض مثل هؤلاء إلى الخطأ والسهو والزلل في أمور الدين وشئونهم العادية ، لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم ، وقد أسهبنا بذكر الأدلة على عصمتهم في كل الشئون التبليغية وغيرها في البحوث السابقة فلا نعيد.

ومن المسلّم أن عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

والقصة المزعومة تثبت السهو لرسول الله في القراءة وهي نوع تبليغ للوحي قد قامت الأدلة العقلية والنقلية على قبحه.

أما العقل : فلأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو سها في التبليغ ـ أي القراءة هنا ـ لم يأمن عليه السهو في تبليغ الوحي للآخرين ـ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيصال الأحكام إلى المكلّفين ـ فينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر سهوا ، أو يقلب الحلال إلى الحرام وبالعكس سهوا ، وكل ذلك باطل صدوره منه عليه‌السلام.

مضافا إلى ذلك فإن السهو في تبليغ الوحي مجمع على بطلانه في حق الأنبياء والمرسلين والأولياء عليهم‌السلام فيكون منفيا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما الشرع : فلقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١) وقوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٢).

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٣).

__________________

(١) سورة الأعلى : ٦.

(٢) سورة الإسراء : ٧٣.

(٣) سورة الإسراء : ٧٤.


وكلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وقراءته عليه‌السلام ـ كما يزعمون ـ وفرح المشركين بذلك يعدّ ركونا إليهم وهو منهي عنه ، فيقبح صدوره من النبي لأنه يخل بفائدة البعثة.

الثاني : كيف يعظّم الرسول الأوثان ، وقد كفّر الله تعالى من عظّمها ، هذا مع أن الضرورة قاضية إن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ، فلو صدر منه ما إليه نسبوه لأغرى الناس بالقبيح وهو بحكم العقل يعتبر قبيحا يتنزه عنه النبيّ ، مع التأكيد على أن صدور مثل ذلك يخل بفائدة بعثته لا يصح صدوره منه.

الثالث : إن هذه الأسطورة تقوم أساسا على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمّته التي ألقاها الله سبحانه عليه ، وقد شقّ عليه ابتعاد الوثنيين عنه ، فكان يبحث عن مخلص من هذا الوضع المتعب ، يكون طريقا ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!!

ولكنّ العقل يقضي بأن على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر مما يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك ، فلا يحدّثوا أنفسهم بالتهرب من المسئولية مهما اشتدت الظروف ، وتأزمت الأحوال والأمور.

بينما لو صحت هذه الأسطورة لقضت على حكم العقل السليم في حق الأنبياء وأن عليهم الصبر والثبات والاستقامة ، مضافا إلى أن ذلك لا يتفق مع ما عهدناه من رسول الله من الصدق بالقول والأمانة في النقل والدقة في الكلام.

الرابع : إن الآيات التي وقعت بعد الجملتين المضافتين ، شاهد صدق على كذب الرواية ، وذلك لأن قوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (١).

هذه الآية الشريفة تندد بالمشركين لاعتقادهم بالأوثان ، بل وتعنّف بآلهة

__________________

(١) سورة النجم : ٢٢ ـ ٢٣.


المشركين ، فكيف رضي الوليد بن المغيرة عن رسول الله هذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي نددت بآلهتهم؟!!

أوليس هنا دليلا ساطعا على أن جاعل القصة من الوضاعين الكذابين حيث افتعل القصة في موضع غفل عن أنه ليس محلا لها؟!

الخامس : إن الله جلّ وعزّ وصف في صدر السورة المباركة نبيّه الأكرم بقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، هنا نسأل : كيف يصح بأن ينسب له عزوجل أن يصف رسوله الكريم في أول السورة بهذا الوصف ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف ، وفي وسعه تعالى صون نبيه عن الانزلاق الخطر وهو الاعتراف بآلهة المشركين ، مضافا إلى أن الجملتين الزائدتين اللتين ألصقتا بالآيات كذبا وزورا ، تكذّبها سائر الآيات الدالة على صيانة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخطأ والسهو والنسيان في مقام الوحي ، والتحفظ عليه ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (١) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣).

السادس : لو كان كما ذكر القوم من أن الشيطان ألقى على لسانه ، لدل على أن الشيطان أجبر النبيّ ، وهذا باطل ، وذلك :

أولا : أنه لو قدر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار إبليس.

ثانيا : إن الله تعالى قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي

__________________

(١) سورة الجن : ٢٧.

(٢) سورة الحاقة : ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) سورة الفرقان : ٣٢.


فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

وقال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (٢).

وقال تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣).

ولمّا لم يكن للشيطان ولاية بالخطإ والسهو والنسيان وما شابه ذلك على المخلصين فكيف يصح أن يقال أن الشيطان أجرى على لسان النبيّ تينك الكلمتين ، أليس ذاك إغواء من إبليس لأعظم مخلص في عالم الإمكان ، وقد أخذ الله المواثيق على الأنبياء والمرسلين بالإيمان به والتصديق بما سيجيء منه؟!

فإذا لم تكن للشيطان ولاية على المخلصين ، فلا أحد يشك أن سيّد ولد آدم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيّد المخلصين مطلقا.

السابع : قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بما ليس بقرآن ، فالأولى أن يمنع الشيطان ذلك من الأصل حتى لا يوقع المكلّفين في الشبهة.

بهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، اختلقها أعداء الرسالة لينقّصوا من شخصية رسول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وعليه فيكون المقصود من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٢) سورة النحل : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) سورة ص : ٨٢ ـ ٨٣.


إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (١) هو أن الأنبياء والمرسلين يحبون هداية أممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، فكانوا يخططون ـ طبقا للأسباب الظاهرية ـ خططا لتحقيق أهدافهم هذه ، ولم يكن الرسول محمّد مستثنى عن هذه القاعدة العقلائية ، فقد كان يخطط لتحقيق أهدافه أو أنه يتمنى أن تنفذ كل مخططاته ومشاريعه وأمنياته لكنّ إبليس اللعين وأعوانه من الجن والإنس كانوا يضعون العراقيل والموانع أمام الأنبياء والمرسلين والأولياء ، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم.

وبالجملة : فقصة الغرانيق كذب وافتراء على رسول الله ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

__________________

(١) سورة الحج : ٥٢ ـ ٥٣.


قال الملك : فكيف يعتمد على قرآن محرّف؟

قال العلوي : اعلم أيّها الملك إنّا لا نقول بهذا الشيء وإنما هذه مقالة أهل السنّة ، وعلى هذا فالقرآن عندنا معتمد عليه لكنّ القرآن عند السنّة لا يمكن الاعتماد عليه!

قال العبّاسي :

وقد وردت بعض الأحاديث في كتبكم وعن علمائكم (١)؟

قال العلوي :

تلك الأحاديث أولا : قليلة ، وثانيا : هي موضوعة ومزوّرة وضعها أعداء الشيعة لتشويه سمعة الشيعة ، وثالثا : رواتها وأسنادها غير صحيحة ، وما نقل عن بعض العلماء ، فلا يعتمد على كلامهم ، وإنما علماؤنا الذين نعتمد عليهم لا يقولون بالتحريف ، ولا يذكرون كما تذكرون أنتم حيث تقولون إن الله أنزل آيات في مدح الأصنام ، وحاشاه ذلك : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى».

قال الملك : دعوا هذا الكلام وتكلّموا في غيره.

قال العلوي : والسنّة ينسبون إلى الله تعالى ما لا يليق بجلال شأنه.

قال العبّاسي : مثل ما ذا؟

____________________________________

(١) قد عرفت ـ أخي القارئ ـ بما سبق من بحوث أن القول بعدم التحريف هو المتسالم عليه عند الشيعة الإمامية ، والقائل بالنقص قليل لا يعبّر عن رأي طائفة بأسرها.


قال العلوي : مثل أنّهم يقولون : إنّ الله جسم (١).

____________________________________

(١) اتفقت كلمة المسلمين الشيعة الإمامية «أيدهم المولى عزوجل» على أن الله ليس بجسم ، ويستحيل اتصافه تعالى بالآلات الجسمانية كالشم والذوق وبقية الحواس التي يتصف بها المخلوق ، وكذا يستحيل اتصافه تعالى بباقي الأعراض المفتقرة إلى الأجسام كالألوان والأضواء وغيرهما ؛ ودليلنا على الاستحالة : إن الضرورة قاضية بأن كل جسم لا ينفك عن الحركة والسكون ، وأنهما حادثان ، وأن كل حادث مفتقر إلى محدث وموجد ، فيكون واجب الوجود ـ على فرض كونه جسما ـ مفتقرا إلى مؤثر فيكون ممكنا فلا يكون واجبا ، وقد فرض أنه واجب.

وخالفنا في ذلك أكثر الأشاعرة ، لا سيّما الحنابلة منهم ، حيث إن من معتقداتهم القول بالتجسيم وأن الله تعالى جسم يجلس على العرش ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار وينادي إلى الصباح : هل من تائب ، هل من مستغفر؟

وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها دون أن يلجئوا إلى التأويل ، فالآيات التي ذكر فيها الاستواء والوجه واليدان والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، حملوها على ظاهرها من دون حاجة إلى تأويل ، وصرف عن ظاهر اللفظ.

وأيضا حملوا الأخبار على ظواهرها من دون تأويل ، فقالوا : إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الله آدم على صورته».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن النار تزفر ، وتتغيّظ تغيظا شديدا فلا تسكن حتى يضع الله قدمه فيها ، فتقول : قط ، قط إي : حسبي ، حسبي».

وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن».

وقوله : «خرّ طينة آدم بيده أربعين صباحا».


وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي حتى وجدت برد أنامله على كتفي» كلها أخبار حقيقية ـ بنظرهم ـ وليست مجازية تحمل على غير ظاهرها. وزادوا في الأخبار أكاذيب نسبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكثرها مقتبسة من أخبار اليهود والنصارى فإن التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : «اشتكت عيناه ـ أي عينيّ الله سبحانه وتعالى عمّا يقولون ـ فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وأن العرش ليئط (١) من تحته كأطيط الرّحل الحديد وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع» (٢).

وقد تمادى بعضهم فقال : «إن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض .. وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك ، وقال : إن معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين .. وقال أيضا : إن ربّه أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك ، وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط» (٣).

إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي يردّها حكم العقل السليم القائل بأن الله تعالى منزه عن الجسمية ولوازمها.

قال الشهرستاني : «إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤولون ذلك .. ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف ، فقالوا لا بدّ من إجرائها على ظاهرها ، فوقعوا في التشبيه الصرف .. ولقد كان التشبيه صرفا خالصا في اليهود.

وقال من توقف في التأويل : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك إلّا أنّا

__________________

(١) الأط : إحداث الصوت من ثقل ما يحمل.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٠٦ ، ط / دار المعرفة.

(٣) المصدر نفسه ج ١ / ١٠٥.


نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٣) ولسنا بمكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها» (٤).

والأغرب من ذلك سكوت الشهرستاني عمّن شبّه الخالق بالمخلوق ، كمالك بن أنس ، وهجومه على بعض الغلاة من الشيعة الواقفية لا الإمامية ، وليس معنى ذلك إلّا لإظهاره النصب والعداوة على بعض المنتسبين إلى التشيع لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام.

قال : «إن جماعة من السلف ممن لم يتعرّض للتأويل ولم يهدف التشبيه ، أمثال مالك بن أنس إمام المالكية إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومثله أحمد بن حنبل وسفيان الثوري ..» (٥).

ليت شعري ، كيف جمع أنس بين الأضداد ، إذ يعلم من عبارته «الاستواء معلوم» إنه يقول بتجسيم الباري عزوجل ، فكيف يمكن تبرئة ساحته بالقول أنه لم يهدف التشبيه وهو يقول به صراحة؟

إضافة إلى أنه لم يغمز ـ أي الشهرستاني ـ أحمد بن حنبل بمغمز ولا أشار إليه بكلمة سوء ، مع اعترافه أنه ممن يعتقد بالتجسيم ، في حين صبّ جام غضبه على بعض غلاة الشيعة ، مع أنهم يشتركون مع مالك وأحمد وسفيان بالتجسيم!!

وبالجملة فإن مسألة التجسيم من المسائل المتسالم عليها عند الأشاعرة (٦) ،

__________________

(١) سورة طه : ٥.

(٢) سورة ص : ٧٥.

(٣) سورة الفجر : ٢٢.

(٤) الملل والنحل ج ١ / ٩٢.

(٥) الملل والنحل ج ١ / ٩٣.

(٦) الأشاعرة : هم عامة الفرق السنّية ، يرجعون إلى أبي الحسن الأشعري في الأصول والاعتقادات.


وذلك لاتفاقهم أيضا على مسألة جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة بالبصر ، بل ادّعى أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين أن الله يرى بالبصر في الدنيا كما رآه موسى عليه‌السلام (١).

ومسألة التجسيم والرؤية البصرية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، وتأثّر جمهور العامة بها له جذوره التاريخية ، ولعلّ تسربها آل إلى أكثر فرق المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان والقساوسة ، فصار ذلك مصدرا لبعض الأحاديث في المقام ، مما سبّب جرأة طوائف من المسلمين للأخذ بها ، واستدعاء الأدلة عليها ، هذا مضافا إلى أن جمهور العامة لا يقرون بالحسن والقبح العقليين.

ويشهد لما قلنا ما ذكره العهدان «القديم والحديث» نؤرّخ بعضا منها : فقد ذكرت التوراة للربّ صفات كثيرة ، وهذه الصفات كلها صفات بشرية ، فهو من نوع البشر ، وجميع صفاته مأخوذة من صفات وأوصاف آلهة الوثنيين ، فها هو يصرّح بأنّ الإنسان صار كواحد من الآلهة البشريين.

«وقال الربّ الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منّا عارفا الخير والشر .. فأخرجه الربّ الإله من جنّة عدن ليعمل الأرض ... فطرد الإنسان وأقام شرقيّ جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة» (٢).

فهذه المقاطع التوراتية ـ والتي يسمونها آيات ـ صريحة في خوف الرب يهوه من أن يصبح آدم من الآلهة بأكله من شجرة الحياة ، فلذا أخرجه من الجنّة وجعل حرسا على تلك الشجرة.

والإنسان ـ بنظر التوراة ـ على صورة الإله «يهوه» :

__________________

(١) يجدر بالقارئ الرجوع إلى كتابنا «الفوائد البهية ج ١ / ١٢١ ـ ١٥٨» حيث عرضنا فيه جميع الآراء مع مناقشتها بطريقة فلسفية وكلامية على ضوء العقل والكتاب والسنّة المطهرة.

(٢) التكوين : الإصحاح ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.


«يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ـ أي خلقه ـ» (١). والرب الإله «يهوه» كان يمشي في الجنّة ولا يدري أين آدم ، بل لم يدر أن آدم أكل من الشجرة حتى أخبره آدم عليه‌السلام:

«وسمعا ـ أي آدم وحواء ـ صوت الربّ الإله ماشيا في الجنّة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإله في وسط شجر الجنّة ، فنادى الربّ الإله آدم وقال له أين أنت؟ فقال : سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأني عريان فاختبأت ، فقال من أعلمك أنك عريان ، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ، فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت ..» (٢).

وقد وصف التوراة الله تعالى بأنه طويل الروح : «الرّبّ طويل الرّوح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنّه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأنبياء إلى الجيل الثالث والرابع» (٣) وأنه عزوجل ـ وحاشاه ـ يحزن ويأسف ، كما حزن وتأسف في قلبه لأنه خلق الإنسان والحيوانات :

«ورأى الربّ أن شرّ الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن كلّ تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرير كلّ يوم. فحزن الربّ أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسّف في قلبه ، فقال الربّ امحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء ، لأني حزنت أني عملته»(٤). كما أنّ يهوه الإله ندم على تنصيبه لشاؤل ملكا :

«وكان كلام الرّبّ إلى صموئيل قائلا : ندمت على أنّي قد جعلت شاول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي» (٥).

__________________

(١) التكوين : ٥ / ١ والإصحاح ١ / ٢٨.

(٢) التكوين : ٣ / ٩ ـ ١٣.

(٣) العدد : ١٤ / ١٨.

(٤) التكوين : ٦ / ٥ ـ ٨.

(٥) صموئيل : ١٥ / ١٠ ـ ١١.


ولإله اليهود رأس ويركب سحابة : «هوذا الرّبّ راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها» (١).

وله يد : «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزّة يد ربّ الجنود التي يهزها عليها» (٢).

وله عين : «وجده ـ أي ليعقوب ـ في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب ، أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه» (٣).

وله أجفان : «الرّبّ في هيكل قدسه ، الربّ في السماء كرسيّه ، عيناه تنظران أجفانه تمتحن بني آدم» (٤).

له وجه والمستقيمون يبصرون وجهه : «المستقيم يبصر وجهه» (٥).

وله أنف وهو رجل حرب : «الربّ رجل الحرب ... وبريح أنفك تراكمت المياه ..» (٦).

وله فم : «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ ما يخرج من فم الرّب يحيا الإنسان»(٧).

وله أجنحة وخوافي ، وهي الريش الصغير من الأجنحة : «بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي» (٨).

__________________

(١) إشعيا : ١٩ / ٢.

(٢) إشعيا : ١٩ / ١٦.

(٣) تثنية : ٣٢ / ١١.

(٤) المزامير : ١١ / ٤ ـ ٥.

(٥) المزامير : ١١ / ٧.

(٦) الخروج : ١٥ / ٣ و ٨ والمزامير : ١٧ / ١٦.

(٧) التثنية : ٨ / ٤.

(٨) المزامير : ٩١ / ٤.


وله قدمان : «كان في قلبي أن ابني بيت قرار لتابوت عهد الرب ولموطئ قدمي إلهنا وقد هيأت للبناء» (١).

والإله يهوه عند اليهود يمشي على أجنحة الريح : «الماشي على أجنحة الريح» (٢).

ونسبوا إليه الجلوس على الكروبيم : «يا قائد يوسف كالضّان يا جالسا على الكروبيم أشرق» (٣).

وله أذنان ويركب على كروب ويطير : «في ضيقي دعوت الربّ وإلى إلهي صرخت ، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدّامه دخل أذنيه ، صعد دخان من أنفه ونار من فمه .. طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه ، ركب على كروب وطار وهفّ على أجنحة الرياح» (٤).

وعند غضب الإله يهوه لا يرى موضع قدميه : «ولم يذكر موطئ قدميه في يوم غضبه ..»(٥).

ويلتحف بالسحاب أيضا : «التحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصّلاة» (٦).

كل ما للإنسان هو عند الإله ، حتى العورة : «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ..» (٧).

له شفتان ولسان : «هوذا اسم الربّ يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق

__________________

(١) أخبار الأيام الأوّل : ٢٨ / ٣.

(٢) المزمور : ١٠٤ / ٤.

(٣) المزمور : ٨٠ / ١.

(٤) المزمور : ١٨ / ٦ ـ ١٠.

(٥) المراثي : ٢ / ٢.

(٦) المراثي : ٣ / ٤٥.

(٧) التكوين : ١ / ٢٧ ـ ٢٨.


عظيم ، شفتاه ممتلئتان سخطا ولسانه كنار آكلة ، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرّقبة» (١).

ونزل في السحاب ليخاطب موسى : «وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب .. فنزل الربّ في السحاب ، فوقف عنده ـ أي عند موسى ـ هناك ونادى باسم الرب» (٢).

هذه نبذة من أخبار اليهود حيث لا يؤمنون بتوحيد الربّ بل هم من حاربوا التوحيد بتعاونهم مع مشركي الجزيرة العربية فأقحموا الكثير من معتقداتهم في صفوف المسلمين ، لا سيّما عبر الأحبار الذين تظاهروا بالإسلام لضربه في الصميم.

فما قدّمنا من أخبار توراتية يبدو التجسيم فيها واضحا.

وأما التجسيد عند النصارى فواضح أيضا ، نورد قسما مما ذكروه في الإنجيل منها :

ما ورد في إنجيل يوحنا : الإصحاح العاشر / ٣٨ :

«إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الأب فيّ وأنا فيه».

وفي مقطع آخر قال : «أنا والأب واحد» (٣).

ونسبوا زورا إلى النبيّ عيسى عليه‌السلام أنه قال أيضا : «ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ، أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد ..» (٤).

__________________

(١) إشعيا : ٣٠ / ٢٧.

(٢) الخروج : ٣٢ / ٥.

(٣) إنجيل يوحنا : ١٠ / ٣٠.

(٤) يوحنا : ١٧ / ٢٤.


«ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ ، الكلام الذي أكلّمكم به لست أتكلم به من نفسي لكنّ الأب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال ، صدّقوني أني في الأب والأب فيّ» (١).

إلى غيرها من دعاوى الحلول والتجسيد الباطل بضرورة العقل.

إذن للمسألة جذور في العهدين تسربت إلى عقول السذج من أبناء العامة مع تنميقها وزخرفتها بما يسمى أدلة وبراهين ، بعيدة كل البعد عن منطق العقل والعلم.

وقد اتفق الأشاعرة على أن رؤيته تعالى تكون يوم القيامة ، كما عبّر عن ذلك أعلامهم ، منهم :

١ ـ الشيخ أبو الحسن الأشعري (٢) ، قال : «وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله» (٣).

وقال في موضع آخر : «إن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون ، قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٤) وأن موسى عليه‌السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ، وأن الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكا ، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل في الآخرة» (٥).

٢ ـ ما اعتقده أحمد بن حنبل إمام الحنابلة ، من جواز الرؤية البصرية في

__________________

(١) يوحنا : ١٤ / ١٢.

(٢) وأبو الحسن الأشعري إمام الفرق العاميّة في العقائد ، إليه ينتسبون ومنه يأخذون.

(٣) الإبانة ص ٢١.

(٤) سورة المطففين : ١٥.

(٥) مقالات الإسلاميين ص ٣٢٢.


الآخرة ، والرؤية تستلزم الجسمية كما لا يخفى.

قال : «والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبيّ محمّد : إن أهل الجنّة يرون ربّهم لا يختلف فيها أهل العلم ، فينظرون إلى الله» (١).

٣ ـ قال الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير : «احتج أصحابنا بهذه الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ..) على أنه تعالى تجوز رؤيته ، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة.

ثم قال :

وفي التمسّك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلت عليه هذه الآية (لا تدركه الأبصار ..) على تخصيص نفي إدراك الله بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا ، ولمّا ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أن الله تعالى يخلق حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه ..»(٢).

٤ ـ ما اعتقده البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه ، باب أن المؤمنين يرونه عزوجل يوم القيامة ، وروى عدة منها :

حديث رقم ٧٤٣٤ :

عن قيس عن جرير قال : كنّا جلوسا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا نظر إلى القمر ليلة البدر ، قال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا (٣).

__________________

(١) الرد على الزنادقة ص ٢٩.

(٢) تفسير الرازي ج ١٣ / ١٢٥ ذيل الآية المباركة.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٣٨ ، ط / الدار العلمية.


حديث رقم ٧٤٣٧ :

عن عطاء عن أبي هريرة : إن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟

قالوا : لا يا رسول الله. قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ، شكّ إبراهيم ، فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا ، فإذا جاءنا ربّنا عرفناه ، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ، ويضرب الصراط بين ظهري جهنم ...» (١).

حديث رقم ٧٤٣٥ :

عن جرير قال : قال النبيّ : «إنكم سترون ربكم عيانا» (٢).

حديث رقم ٧٤٣٩ :

عن يحيى بن بكير بسند معنعن إلى أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟

قلنا : لا ، قال : فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلّا كما تضارون في رؤيتهما. ثم قال : ينادي مناد ليذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون .. (إلى أن ساق الحديث إلى المسلمين) فيقال لهم : ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٣٨.

(٢) نفس المصدر ج ٨ / ٥٣٨.


فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنّا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال : فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربّنا فلا يكلّمه إلّا الأنبياء فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟

فيقولون : الساق ، فيكشف عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة ، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم ..» (١).

حديث رقم ٧٤٤٠ :

عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيقول لست هناكم ، قال : ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض ، ـ فيأتونه ويقول لهم مثل ما قال لهم آدم إلى أن تصل النوبة إلى النبيّ محمّد ـ فيأتونه فيستأذن على ربه في داره فيؤذن له فإذا رآه وقع ساجدا فيدعه الله ما شاء ثم يدعوه فيقول له : ارفع محمّد وقل يسمع واشفع تشفّع وسل تعطه قال : فارفع رأسي .. ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ..» (٢).

هذه نبذة من أخبار صحيح البخاري الذي هو عند العامة من حيث الحجية والاعتبار بعد كتاب الله تعالى ، أفيصح بعد هذا أن يقال أن هؤلاء هم أهل السنّة والجماعة ، وغيرهم ليسوا من سنة رسول الله؟ وهل سنة رسول الله كسنّة اليهود

__________________

(١) نفس المصدر السابق ص ٥٤٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٤٠.


والنصارى القائلين بالتجسيم والحلول؟ وهل هناك فرق بين اليهود والنصارى وبين من ينسب إلى رسول الله أنه يستأذن فيدخل دار الله تعالى ويطمئن المؤمنين بأنهم سيرون ربهم كما يرون القمر حال اكتماله؟!

٥ ـ قال محمّد رشيد رضا في تفسيره : «إن جواز الرؤية من مذاهب أهل السنّة والعلم بالحديث» (١).

٦ ـ قال ابن كثير في تفسيره تعقيبا على روايات البخاري : «وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين : إن أناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟

قال : هل تضارّون في رؤية الشمس .. الخ كما في الأحاديث المتقدمة.

ثم ساق الكلام مستشهدا بالصحيحين عن أبي موسى قال :

قال رسول الله : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن.

وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه : «أن الله يتجلّى للمؤمنين يضحك» يعني في عرصات القيامة ، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم في العرصات وفي روضات الجنان. إلى أن قال :

وقال الإمام أحمد ، حدّثنا أبو معاوية ، حدّثنا عبد الملك بن أبجر ، حدّثنا يزيد بن أبي فاختة عن ابن عمر قال :

قال رسول الله : إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وأن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين.

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ / ٦٥٣.


ثم عقّب ابن كثير بالقول : «لو لا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ...» (١) انتهى.

٧ ـ وقال الشافعي : «ما حجب الفجّار إلّا وقد علم أنّ الأبرار يرونه عزوجل ، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر إلى الخالق وحق لها أن تتضرع وهي تنظر إلى الخالق ..» (٢).

وعقّب ابن كثير عليه فقال : «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أي تراه عيانا كما رواه البخاري في صحيحه «أنكم سترون ربّكم عيانا». وقد تقدم استعراض كلامه فلاحظ.

٨ ـ وقال القوشجي مستدلا على جواز الرؤية البصرية بآيتي القيامة / ٢٣ ـ ٢٤ : «إن النظر إذا كان بمعنى الانتظار فإنه يستعمل بغير صلة ويقال : «انتظرت» وإذا كان بمعنى الرؤية فإنه يتعدى ب «إلى» والنظر في هذه الآية قد استعمل بلفظ «إلى» فيحمل على الرؤية» (٣).

٩ ـ ما اعتقده السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة القيامة حيث روى الكثير من أخبار الرؤية البصرية ، منها ما أخرجه عن ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله في قول الله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. ومنها ما أخرجه عن ابن المنذر عن الضحاك في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ..) قال : النضارة : البياض والصفاء (إِلى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ / ٣٩٣ ، ط / دار القلم.

(٢) المصدر السابق نفسه

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٣١ ، ط / حجري.


رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : ناظرة إلى وجه الله. ومنها عن ابن المنذر عن عكرمة تعقيبا على الآية قال : ناضرة إلى النعيم (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر إلى الله نظرا. ومنها ما أخرجه عن الدارقطني عن أبي هريرة أن النبيّ قال : ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر أو كما ترون الشمس ليس دونها سحاب.

هذا هو المشهور بل المتسالم عليه عند العامة ، بل إنّ الآمدي زاد على الرؤية البصرية الأخروية ، الرؤية لله تعالى في الدنيا فقال : (اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا ، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون)(١).

وقد ذكر الشهرستاني ما يؤكد مقالة الآمدي ، حاكيا عمّن يقول بالتشبيه قال : [إن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض ، وحكى عن الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوره ويزورهم ، وحكى عن داود الجواربي أنه قال :

«اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك»] (٢). إلى غير ذلك من المنكرات التي تشمئز منها النفوس ، وتتكهرب لها الأفئدة والعقول ، آخذين بظواهر النصوص من دون رجوع إلى المحكمات وأحكام العقول.

ولو قيل : إننا أردنا المجاز بهذا الكلام.

قلنا لهم : عليكم أن تأتوا بقرائن تبيّن المراد وتجلى غوامض الأسرار ، وإلّا فعند الإطلاق فلا يحمل الكلام إلّا على المتعارف من الأجسام ، هذا بالإضافة إلى أن ابن كثير والرازي والبخاري وغيرهم نصبوا قرينة على مرادهم وأنّ الرؤية البصرية جائزة ، فحينئذ لا مجال لدعوى المجاز.

__________________

(١) شرح المواقف ج ٨ / ١١٥.

(٢) الملل والنّحل ج ١ / ١٠٥.


وأنه مثل الإنسان يضحك ويبكي*.

____________________________________

(١) روى أحمد بن حنبل عن أبي رزين قال :

قال رسول الله : ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ، قال : قلت : يا رسول الله أويضحك الرب؟

قال : نعم. قلت : لن نعدم من ربّ يضحك خيرا (١).

وروى ابن خزيمة قال : «أي والذي نفسي بيده أنه ليضحك» (٢).

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن إسماعيل أبي معمر ، قال : حدّثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله : ضحك ربنا من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يصيران إلى الجنّة (٣).

وما رواه إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ قال : ... فيقول الله له ـ أي لمن أدخله الجنّة ثم لم يزل يطلب منزلة أرفع من أخرى ـ : لن ترضى أن أعطيك مثل الدنيا مذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقول : أتستهزئ بي وأنت ربّ العالمين؟

قال : فضحك الربّ من قوله. قال : فرأيت ابن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدّث هذا الحديث مرارا كلما بلغت هذا المكان من هذا الحديث ضحكت ، فقال ابن مسعود : إني سمعت رسول الله يحدّث بهذا الحديث مرارا ، كلما بلغ هذا المكان

__________________

(١) السنّة ص ٥٤ / عبد الله بن أحمد بن حنبل.

(٢) التوحيد ص ٢٣٥ / محمد بن إسحاق بن خزيمة.

(٣) السنة ص ١٦٦ ورواه ابن خزيمة بأسانيد مختلفة.


من هذا الحديث ضحك حتى تبدو آخر أضراسه ، الحديث (١).

ورواه ابن خزيمة عن ابن مسعود وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

وقد تأول ابن خزيمة صفة ضحك الرب تأويلا باردا فقال :

«لا يشبه ضحكه ضحك المخلوقين ، وضحكهم كذلك ، بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم النبيّ ونسكت عن صفة ضحكه جلّ وعلا ، إذ الله عزوجل استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك ، فنحن قائلون بما قال النبيّ مصدّقون بذلك بقلوبنا منصتون عمّا لم يبيّن لنا ، مما استأثر الله تعالى بعلمه» (٢).

يرد عليه :

أن المراد من ضحكه شيئان :

إما أن يكون كضحكنا الملازم لبدو الأسنان والفم.

وإما أن يكون مختلفا بالماهية عمّا ذكرنا ، ولا شيء آخر غيرهما ، لكون الأمر دائرا بين القبول تماما أو الرد كذلك ، والقول بأنه يضحك ولا نعلم حقيقته لا نعلم له وجها بل هو خلاف القسمة العقلية الدائرة بين النفي والإثبات ، وما ادّعاه ابن خزيمة تماما كدعوى التثليث عند النصارى ، حيث لمّا عجزوا عن تفسيره بما ينسجم مع منطق العقل ادّعوا : أن التثليث فوق مستوى عقول البشر ، قال صاحب معجم اللاهوت :

«الثالوث هو سر في المعنى الحصري ، ومن غير الممكن أن يعرف من دون وحي ، والذي لا يمكن حتى وإن أوحي به أن يسبر غوره العقل المخلوق» (٣).

وعليه فإن صاحب المعجم أراح أتباع الكنيسة من فهم الثالوث لكونها عقيدة

__________________

(١) السنة ص ٢٠٨.

(٢) التوحيد لابن خزيمة ص ٢٣١.

(٣) معجم اللاهوت ص ٩٧ مادة الثالوث.


لا يمكن فهمها حتى بالوحي على حدّ زعمه ، لذا فليس لأحد من البشر أن يفهمها حتى بالوحي ، فيجب أن تكون هذه العقيدة إما للمجانين الذين لا عقل لهم حتى ينهاهم عن قبول المتناقضات ، وإما لكائنات أخرى عقولها فوق عقول البشر ، وكذا ما صوّره لنا ابن خزيمة فهو إما للمجانين ، وإما لكائنات عقولها فوق مستوى عقولنا ، فلسنا بمكلّفين بالاطّلاع عليها ، فإذا كانت بهذه المثابة فلم ذكرتها الأحاديث بزعمهم ما دامت خارجة بفهمها عن إدراك العقل لها ، وهل يمكن للنبيّ أن يستعرض أفكارا أمام السذّج من المسلمين مع أنه قال : إنّا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم؟!

هذا من جهة الضحك ، وأما ما نسبوه إلى الربّ من البكاء ، فقد روى الشهرستاني عن بعضهم ، قالوا :

إن الله سبحانه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه (١).

* * * * *

__________________

(١) الملل والنحل ج ١ / ١٠٦.


وله يد ورجل وعين وعورة ، ويدخل رجله في النار يوم القيامة ، وأنه لينزل من السماوات إلى سماء الدنيا على حمار له (١).

____________________________________

(١) أما أن له يدا ، فهناك الكثير من الأخبار التي أوردها العامة ، منها ما أثبته عبد الله بن أحمد بن حنبل :

* عن عكرمة قال : إن الله لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس الجنّة بيده ، وكتب التوراة بيده (١).

* وعنه أيضا قال : قرأت على أبي ، حدّثنا إسحاق بن سليمان ، حدّثنا أبو الجنيد ـ شيخ كان عندنا ـ عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير أنهم يقولون : إن الألواح من ياقوتة لا أدري قال حمراء أو لا؟ وأنا أقول سعيد بن جبير يقول : إنها كانت من زمردة وكتابتها الذهب ، وكتبها الرحمن بيده ، ويسمع أهل السماوات صرير القلم (٢).

* وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة عن رسول الله قال : لمّا خلق الله الخلق كتب كتابا وجعله تحت العرش : إن رحمتي تغلب غضبي (٣).

* وعن ابن خزيمة أيضا قال ، قال رسول الله : إن الله تعالى يفتح أبواب السماء في ثلث الليل فيبسط يديه فيقول : ألا عبد يسألني فأعطيه (٤).

وقد روى ابن خزيمة أحاديث كثيرة في نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة ، ووصفها بأنها أخبار صحيحة السند والدلالة.

__________________

(١) السنّة ص ٢٠٩.

(٢) السنّة ص ٧٦.

(٣) التوحيد ص ٥٨.

(٤) التوحيد ص ٥٨ وصحيح البخاري ج ١ / ٢٠٠ باب الدعاء والصلاة وفي ج ٤ / ١٠١ الدعاء نصف الليل.


* وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل ، فينظر الله في الساعة الأولى منهنّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ، وينظر في الساعة الثانية في عدن وهي مسكنه التي يسكن ، لا يكون معه فيها إلّا الأنبياء والصدّيقون والشهداء ، فيها ما لم يخطر على قلب بشر ، ثم يهبط في آخر ساعة من الليل فيقول : ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له ، ألا سائل يسألني فأعطيه ، ألا داع يدعوني فأستجيب له ، حتى يطلع الفجر (١).

* وعن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمّد .. عن رسول الله قال : ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل إنسان إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشرك بالله(٢).

وأمّا أن له رجلا ، فالأخبار من مصادر العامة كثيرة منها ما رواه ابن حنبل وابن خزيمة ، وإليك ـ أخي القارئ ـ بعضا منها :

* قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ... عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله :

يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول : قط قط (٣).

* وروى ابن خزيمة ، عن أبي هريرة عن رسول الله قال : ... وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ (٤).

* وعن أبي هريرة (في حديث) : فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله

__________________

(١) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ / ٩٨.

(٢) ميزان الاعتدال ج ٢ / ٦٥٩.

(٣) السنّة ص ١٨٤.

(٤) التوحيد ص ٥٩ وصحيح مسلم ج ٢ / ٤٨٢.


(يعني الله تعالى) فتقول : قط قط فهناك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض (١).

* وعن مسلم عن أنس عن النبيّ قال :

لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد حتى يضع ربّ العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ، بعزتك وكرمك ، ولا يزال فضل الجنّة حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة (٢).

* وعن ابن حنبل قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : جاءت امرأة إلى النبيّ فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة ، قال : فعظم الرب وقال : وسع كرسيه السماوات والأرض ، إنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلّا قيد أربع أصابع وأن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب (٣).

وغيره كثير فلاحظ (٤).

وأمّا أن له عينا ، فما رواه ابن خزيمة فيه الكفاية ، قال :

نحن نقول لربّنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما من صغير وكبير .. إلى أن قال : كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه ، وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون لها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم مما لا حجاب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم ... ثم استطرد في ذكر نواقص عيون بني آدم ثم قال : فما الذي يشبه ـ يا ذوي الحجا ـ عين الله الموصوفة بما ذكرنا ، عيون بين آدم التي وصفناها

__________________

(١) التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للزبيري ج ٣ / ١١٣ ، ط / مصر.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ / ٤٨٢.

(٣) السنّة ص ٨٠.

(٤) السنّة لابن حنبل ، والتوحيد لابن خزيمة ، ومسند أحمد ج ١ / ٢٥٦ وتاريخ بغداد ج ١٣ / ٣١١ ، ط / مصر.


بعد (١). وعن معاذ بن عفراء أنّ النبيّ قال : رأيت ربي في صورة شاب عليه تاج يلتمع البصر(٢).

وأمّا أن له عورة ، فلما رواه الشهرستاني عن داود الجواربي حيث قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك.

وحكى عنه أيضا أنه قال : «هو أجوف من فيه إلى صدره».

أيضا فإن له اصبعا ، فقد روى ابن حنبل عن النبيّ قال : إن الله يمسك السماوات على إصبع ، قال أبي : وجعل يحيى يشير بأصابعه ، وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه يضع اصبعا حتى أتى على آخرها (٣).

* وروى أيضا : أن يهوديا أتى النبيّ فقال : يا محمّد إن الله يمسك السماوات على اصبع والأرضين على اصبع ، والجبال على اصبع ، والخلائق على اصبع ، ثم يقول : أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] حتى بدت نواجذه ؛ ثم قال : وما قدروا الله حق قدره (٤).

* وقال حدّثني أحمد بن إبراهيم سمعت وكيعا يقول : تسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف كنا ، ولا لم كذا ، يعني مثل حديث ابن مسعود «إن الله يحمل السماوات على إصبع والجبال على اصبع» وحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] قال : «قلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» ونحوها من الأحاديث (٥).

وأورد أخبارا مفادها أن الله تعالى حيث تجلّى للجبل فجعله دكّا إنما تجلّى باصبعه ، ضربه على رأس الجبل فاندكّ.

__________________

(١) التوحيد ص ٥١.

(٢) كنز العمال ج ١ / ٢٢٨ حديث رقم ١١٥٤.

(٣) السنّة ص ٦٣.

(٤) السنّة ص ٦٢ ـ ٦٤.

(٥) السنّة ص ٦٤.


* منها حدثني محمّد بن أبي بكر المقدسي : حدثنا هريم حدثنا محمّد بن سواء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] : «فلما تجلّى ربّه للجبل» قال : هكذا ، وأشار بطرف الخنصر يحكيه (١).

* ومنها ما ذكره ابن خزيمة قال : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] : «لما تجلّى ربّه للجبل» رفع خنصره وقبض على مفصل منها ، فانساخ الجبل. فقال له حميد : أتحدّث بهذا؟ فقال : حدّثنا أنس عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وتقول : لا تحدّث به (٢).

* كما أن لله عزوجل ذراعين وصدرا عند هؤلاء ، فقد روى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثني سريج بن يونس ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال :

ليس شيء أكثر من الملائكة ، إن الله خلق الملائكة من نور ، فذكره وأشار سريج بيده إلى صدره ، قال : وأشار خالد إلى صدره فيقول : كن الف الف ألفين فيكونون (٣).

* وعن عبد الله بن عمرو قال : خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر (٤).

وهكذا فإن لله تعالى وجها أيضا ، فمنها ما رواه عبد الله بن أحمد قال : حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل قبّح الله

__________________

(١) السنّة ص ٦٥.

(٢) التوحيد ص ١١٤.

(٣) السنّة ص ١٩٠.

(٤) السنّة ص ١٩٠.


وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإن الله خلق آدم على صورته (١).

* وعن ابن عمر قال : قال رسول الله : لا تقبّحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن (٢).

بل إن هذا الإله يلبس نعلين من ذهب ، فقد أخرج الخطيب البغدادي عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل ـ امرأة أبي ـ أنها سمعت النبيّ يذكر أنه رأى ربّه تعالى في المنام في أحسن صورة شابا موفرا رجلاه في خف عليه نعلان من ذهب ، على وجهه فراش من ذهب (٣).

وأما ما ذكره متن المؤتمر من أن الربّ عزوجل ينزل من السماوات إلى سماء الدنيا على حمار له ، فواضحة حيث ذكر ذلك العلّامة الحلي في نهج الحق أيضا ناقلا لها عن المصادر العامية ، ولم يستنكر عليه الفضل بن روزبهان الأشعري الذي ردّ على الحلي في كتابه المطبوع في إحقاق الحق ، حيث وافق على كلام الحلي بأن من مذهب أحمد بن حنبل ترك التأويل وتوكيل العلم بالمتشابهات إلى الله تعالى ، هذا مضافا إلى اعترافه أن المجسّمة فرقة باطلة وليسوا من الأشاعرة.

ونحن نسأل الناصبيّ ابن روزبهان :

هل أنّ البخاري وابن كثير والآمدي وأبا الحسن الأشعري وابن حنبل وأضرابهم من المجسّمة أيضا؟ أو أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟

ما هكذا تورد يا نحس الإبل!

هذا وقد أورد عليه العلّامة التستري من أن الكرامية ومقاتل ومضر وكهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من أهل السّنّة وهؤلاء قالوا : إن الله ـ جلّ وعلا ـ صورة

__________________

(١) السنّة ص ١٩٩ ، وكنز العمال ج ١ / ٢٢٧ رقم الحديث ١١٤٦.

(٢) السنّة ص ٦٤ ، وكنز العمال ج ١ / ٢٢٧ حديث رقم ١١٤٨.

(٣) تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣١١.


ذات أعضاء وأبعاض ، بل له عورة ، قال ابن أبي الحديد : قال بعضهم : سألت معاذ العنبري فقلت : أله ـ أي للرب ـ وجه؟ قال : نعم ، حتى عددت جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن ، واستحييت أن أذكر الفرج ، فأومأت بيدي إلى فرجي ، فقال : نعم ، فقلت : أذكر أم انثى؟ فقال : ذكر (١).

* * * * *

__________________

(١) محاورة حول الإمامة والخلافة ص ٨٠ نقلا عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط أولى ج ١ / ٢٩٤.


قال العبّاسي :

وما المانع من ذلك ، والقرآن يصرّح به (وَجاءَ رَبُّكَ) (الفجر / (٢)) ويقول (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم / (٢) (٤) ويقول (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح / ٠ (١) والسنّة أوردت ـ أحاديث ـ بأن الله يدخل رجله في النار (١).

قال العلوي :

أما ما ورد في السنّة والحديث فهو باطل عندنا وكذب وافتراء ، لأنّ أبا هريرة وأمثاله كذبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن عمر منع أبا هريرة (٢) عن نقل الحديث وزجره.

____________________________________

قد تقدم بعض الأحاديث الدالة على ذلك.

من هو أبو هريرة؟

أبو هريرة الدّوسي ، من دوس ، قبيلة يمنية ، نشأ يتيما وكان أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطنه ، فكان يخدم إذا نزلوا ويحدوا إذا ركبوا ، وكان في الإسلام من أصحاب الصفة (١).

وكنّي بأبي هريرة نسبة لهرة صغيرة كان يلعب بها على حدّ تعبيره معرّفا نفسه ، فعن عبد الله بن رافع قال :

قلت لأبي هريرة : لم اكتنيت بأبي هريرة؟ قال : أما تفرق مني؟

قلت : بلى ، والله إني لأهابك ، قال : كنت أرعى غنم أهلي ، وكانت لي

__________________

(١) «الصفة» موضع مظلل في مؤخرة مسجد النبيّ ، وأهل الصفة : أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر ، ينامون في المسجد ويظلون فيه ، وكان إذا تعشى رسول الله يدعو منهم طائفة يتعشون معه ، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم.


هريرة صغيرة ، فكنت أضعها بالليل في شجرة ، فإذا كان النهار ذهبت بها معي ، فلعبت بها ، فكنّوني أبا هريرة (١).

وقيل : رآه رسول الله وفي كمه هرة ، فقال : يا أبا هريرة (٢).

كان صحابيا ، أسلم عام خيبر (٣) ، وعليه تكون صحبته للنبيّ حدود سنتين أو ثلاث على أبعد التقادير.

وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا لا يحاط به ، ولا يضبط في الجاهلية والإسلام ، وقد غلبت عليه كنيته ، فهو كمن لا اسم له غيرها ، وقد نسي اسمه الأصلي نتيجة الاختلاف في الاسم. وكما قال ابن الأثير : «لم يختلف في اسم آخر مثله ولا ما يقاربه. فقيل : عبد الله بن عامر ، وقيل : برير بن عشرقة ، ويقال : سكين بن دومة ، وقيل : عبد الله بن عبد شمس ، وقيل : عبد شمس ، قاله يحيى بن معين ، وأبو نعيم ، وقيل : عبد نهم ، وقيل : عبد غنم.

وقال ابنه المحرّر بن أبي هريرة : اسم أبي ؛ عبد عمرو بن عبد غنم.

وقال عمرو بن علي الفلّاس : أصح شيء قيل فيه : عبد عمرو بن غنم.

وقال الهيثم بن عدي : كان اسمه في الجاهلية : عبد شمس ، وفي الإسلام : عبد الله» (٤).

وقد وقع الاختلاف في اسمه ، حتى بلغت إلى ثلاثين قولا (٥) ، وقال القطب الحلبي : اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا مذكورة في الكنى

__________________

(١) أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٦ / ٣١٤ وأخرجه الترمذي ج ٥ / ٦٤٤ ح ٣٨٤٠ وقال حسن غريب. وأضواء على السّنّة المحمّدية ص ١٩٦ / محمد أبو رية. والاستيعاب ص ٧١٨.

(٢) أسد الغابة ج ٦ / ٣١٤.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٤ / ٢٠٤.


للحاكم ، وقد اختلفوا في تاريخ إسلامه أيضا ، فمنهم من قال : أسلم في السنة السادسة للهجرة ، ومنهم من قال : في السنة السابعة. فبمقدار سني إسلامه حكموا بصحبته لرسول الله (١) ، لأن الصحابي عند العامة هو كل من رأى النبيّ أو سمع منه حديثا.

وكذا اختلفوا في أصله سوى أنه من عشيرة سليم بن فهم من قبيلة أزد ثم من دوس. قدم الدوسيون وفيهم أبو هريرة ورسول الله بخيبر ، فكلّم رسول الله أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة ففعلوا ، ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة بعد ما عاد إلى المدينة فعاش بها ما أقام بالمدينة.

وكان أبو هريرة صريحا في الإبانة عن سبب صحبته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان صريحا صادقا في الكشف عن حقيقة نشأته ، فلم يقل إنّه صاحبه للمحبة والهداية ، كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين وإنما قال :

«إنه قد صاحبه على ملء بطنه» ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : «إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني».

وفي رواية لمسلم : «كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله على ملء بطني» وسجّل التاريخ أنه كان أكولا نهما ، يطعم كل يوم في بيت النبيّ ، أو في بيت أحد أصحابه ، حتى كان بعضهم ينفر منه.

ومما رواه البخاري عنه أنه قال : كنت استقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني ، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب ، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته ، وروى الترمذي عنه : وكنت إذا سألت جعفر عن آية لم يجبني حتى يذهب إلى منزله ، ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا ، فقدّمه على أبي بكر وعمر وعثمان ، لذا أخرج الترمذي

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٢٠٦.


والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال : ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ، ولا وطئ التراب ، بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب (١).

قال ابن قتيبة في المعارف :

«وقال أبو هريرة : نشأت يتيما وهاجرت مسكينا ، وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، وعقبة رجلي ، فكنت أخدم إذا نزلوا ، وأحدوا إذا ركبوا ، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها» (٢).

ومن ألقابه : «شيخ (٣) المضيرة» وسبب تلقيبه بهذا أنه كان أكولا يحب الطعام وخصوصا المضيرة مع معاوية ، فإذا حضرت الصلاة صلّى خلف الإمام عليّ عليه‌السلام ، فإذا قيل له في ذلك قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف عليّ أفضل.

وكان يقول : ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار ، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر.

وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة ، فقد سئل : ما المروءة؟ قال : تقوى الله وإصلاح الصنيعة ، والغداء والعشاء بالأفنية (٤).

ورغم صحبته القليلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لم تتجاوز العامين (٥) ، فقد روى الجمّ الغفير من الروايات بحيث لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق ، وذكر أبو محمد ابن حزم أن مسند ابن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ١٩٧ بتصرف ببعض الألفاظ.

(٢) الإصابة ج ٤ / ٢٠٩ وفيه : «كنت أجيرا لبرة بنت غزوان».

(٣) «المضيرة» : طبيخ يتخذ من اللبن الماضر أي الحامض ، والمضيرة عند العرب أن تطبخ اللحم باللبن ، وربما خلطوا الحليب مع الحقين ـ اللبن ـ وهو حينئذ أطيب ما يكون. لاحظ لسان العرب ج ٥ / ١٧٨ ومجمع البحرين ج ٣ / ٤٨٢.

(٤) أضواء على السنة ص ١٩٩.

(٥) شيخ المضيرة / محمود أبو رية ، والبداية والنهاية ج ٨ / ٨٧ ، ط / دار الكتب العلمية.


وثلاثمائة وأربعة وسبعين (٥٣٧٤) حديثا ، روى البخاري منها أربعمائة وستة وأربعين (٤٤٦).

قال سعيد بن أبي الحسن : لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة ، وفي صحيح البخاري من طريق وهب بن منبه عن أخيه همام عن أبي هريرة قال : لم يكن من أصحاب رسول الله أكثر حديثا مني إلّا عبد الله بن عمر ـ عمرو ـ فإنه كان يكتب ولا أكتب (١) ، وما رواه ابن عمرو لا يتجاوز السبعمائة حديث عند ابن الجوزي ، وفي مسند أحمد حدود السبعمائة واثنين وعشرين حديثا ، وعند مسلم حدود العشرين.

وقد أفزعت كثرة روايته عمر بن الخطاب فضربه بالدرة التي كانت ملازمة له بليله ونهاره لفظاظته ، وقال له : أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبا على رسول الله ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده اليمن.

وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس.

ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة حتى قال أبو هريرة : إني أحدّثكم بأحاديث لو حدّثت بها زمن عمر لضربني بالدرة ـ وفي رواية : لشجّ رأسي ـ (٢).

والسر في ذلك ليس لأن عمر بن الخطّاب كان حريصا على الإسلام بل خوفا من نشر أحاديث في حق أناس كان النبيّ راضيا عنهم ، وآخرين كان ساخطا عليهم ، فكان عمر بن الخطاب يمنع من كتابة الحديث ، وكان يقول : اشتغلوا بالقرآن ، فإنّ القرآن كلام الله.

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٢٠٥ وفيه : عبد الله بن عمر ، وفي أضواء على السنة ص ٢١١ : عبد الله بن عمرو.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ج ٨ / ٨٧.


[وروى عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك بعض الصحابة فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له (وحاشا لله أن يعزم في إطفاء ما أوحاه لرسوله) فقال : إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا] (١).

وروى الطبري أن ابن الخطاب كان كلما أرسل حاكما أو واليا إلى قطر أو بلد يوصيه جملة ما يوصيه «جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد وأنا شريككم ..» (٢).

وذكر صاحب كتاب «تقييد العلم» عن القاسم بن محمد : إنّ عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به فأرى فيه رأيي. قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب. وقد تبعه على ذلك عثمان ثم معاوية وكان الأخير يقول : «أيها الناس اتّقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر في زمن عمر»(٣).

ونحن لا نستغرب من سيرة هؤلاء في منعهم لكتابة الحديث لأن في ذلك توطيدا لحكمهم وذلك لورود النصوص الكثيرة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرويها الثقات تذمّ مغتصبي الخلافة من أصحابها الشرعيين أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلاموآخرهم المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف). فكل حديث لا يوافق تصرفاتهم كانوا يمنعون من بثّه وترويجه بين الناس خوفا من النقمة الشعبية عليهم وهذا لا يخفى على المتصفح لتاريخ الإسلام خصوصا بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع عمر بن الخطّاب من تدوين الحديث ونشره وكتابته ومدارسته بعد وفاة النبي ليس أمرا

__________________

(١) الملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٧ نقلا عن تقييد العلم ص ٢٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣ ط / الأعلمي.

(٣) طبقات ابن سعد ج ٥ / ١٧٣ ، والملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٨.


جديدا حصل من عمر لأبي هريرة وأمثاله ، بل لقد فعل ذلك ابن الخطاب عند احتضار النبيّ عند ما قال : «آتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقالوا : إن النبي يهجر (١).

وبلفظ آخر : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لن تضلّوا من بعدي أبدا ، فقال عمر بن الخطاب : إن النبي ليهجر حسبنا كتاب الله (٢).

وروى البخاري عن ابن عباس قال محدّدا هوية القائل وهو عمر :

«لما حضر النبيّ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ، قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع وعندكم كتاب الله ، فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف ، قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (٣).

وفي رواية لعمر بن الخطاب ذكر كيفية تنازعهم قال :

كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله : اغسلوني بسبع قرب ، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، فقالت النسوة : ائتوا رسول الله بحاجته ، فقال عمر فقلت : اسكتن فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن وإن صحّ أخذتنّ بعنقه ، فقال رسول الله : هنّ خير منكم» (٤).

وفي رواية أخرى أن زينب زوج النبيّ قالت : ألا تسمعون النبيّ يعهد إليكم؟ فلغطوا فقال : قوموا فلمّا قاموا قبض النبيّ مكانه (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد ، وباب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجزية ، ومسلم في صحيحه : باب ترك الوصية ، وقد رواه مسلم بسبعة أسانيد.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠.

(٣) صحيح البخاري : كتاب العلم ، باب العلم.

(٤) طبقات ابن سعد ، ط / بيروت ج ٢ / ٢٤٣ باب الكتاب الذي أراد أن يكتبه الرسول لأمته. ونهاية الأرب ج ١٨ / ٣٥٧ ، وكنز العمال ط أولى ج ٣ / ١٣٨ وج ٤ / ٥٢.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٢ / ٢٤٤.


ويظهر من بعض الأحاديث أنهم نشطوا لمنع كتابة حديث الرسول قبل ذلك وفي صحة الرسول ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟

فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حق» (١).

قد كشفوا النقاب في حديثهم مع عبد الله عن سبب منعهم من كتابة حديث الرسول وهو خشيتهم من أن يروى عنه حديث في حقّ أناس قاله فيهم حال رضاه عنهم ، وفي حق آخرين ما قاله في حال غضبه عليهم.

ومن هنا نعرف سبب منعهم كتابة وصية الرسول في آخر ساعات حياته ، ولما ذا أحدثوا اللغط والضوضاء حتى توفي. وسبب منعهم من كتابة حديث الرسول عند ما ولوا الحكم ولم يبق مانع من ذلك.

إذن الغاية عند عمر في منعه من كتابة الحديث واحدة لا تتغير ، وحقيقتها أنه يريد أن ينعم بالخلافة ، فلا أحد يزعجه بأحاديث تروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلعن بها من اغتصب الخلافة من أصحابها الذين أمر الله باتباعهم ، أو فيها ذمّ للظالمين.

ولم يقتصر منع كتابة الحديث على عمر فحسب بل كان دارجا في عهد أبي بكر ، لذا روى الذهبي أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه» (٢).

__________________

(١) سنن الدارمي ج ١ / ١٢٥ وسنن أبي داود ج ٢ / ١٢٦ ، ومسند أحمد ج ٢ / ١٦٢ ، ومستدرك الحاكم ج ١ / ١٠٥.

(٢) تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر ج ١ / ٢ ـ ٣.


ثم سار على منهاجه كل من اعتقد بصحة خلافته أمثال قرظة بن كعب قال :

«لمّا سيّرنا عمر إلى العراق مشى معنا إلى صرار ، ثم قال : أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا : أردت أن تشيعنا وتكرمنا ، قال : إن مع ذلك لحاجة ، إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم ، قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله (١).

وهكذا عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص ممن تابعوا سنّة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنّة الرسول ، فعن الشعبي قال :

جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدّث عن رسول الله (صل الله عله وآله وسلم).

وفي رواية أخرى عنه ، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصف فما سمعته يحدّث عن رسول الله شيئا (٢).

وفي المقابل هناك فريق خالف سنّة خلفاء الجور ، فجهر بالحق ، فلقي من الإرهاق ما نذكر أمثلة منه في ما يأتي :

ففي كنز العمال :

عن عبد الرحمن بن عوف قال : ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذرّ وعقبة ابن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟

قالوا : تنهانا؟

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتى مات (٣).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) سنن الدارمي ج ١ / ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) كنز العمال : ط أولى ج ٥ / ٢٣٩ رقم الحديث ٤٨٦٥ ، ومنتخب الكنز ج ٤ / ٦١.


وروى الذهبي أن عمر حبس ثلاثة : ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري ، فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله (١).

وكان يقول للصحابة : أقلّوا الرواية عن رسول الله إلّا في ما يعمل به (٢).

وهكذا كان على عهد عثمان بن عفان الذي يسمونه بذي النورين كذبا وزورا ، فقد أقرّ منع كتابة الحديث ، فقال مرة :

«لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر» (٣).

وتطبيقا للخطة التي رسمها عمر في إطفاء أخبار رسول الله ، سار عثمان فوضع على الأفواه أوكية ، لذا شدّد النكير على الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري ، فمنعه من الحديث والجهر بالحق.

روى الدارمي وغيره من : «أن أبا ذر كان جالسا عند الجمهرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثم قال : ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ، فقال : أر قيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعت من رسول الله قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها» (٤).

وروى الأخنف بن قيس قال :

أتيت الشام فجمّعت (٥) ، فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا فرّ أهلها يصلّي

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ج ١ / ٧ بترجمة عمر.

(٢) تاريخ ابن كثير ج ٨ / ١٠٧.

(٣) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦٤.

(٤) سنن الدارمي ج ١ / ١٣٢ وطبقات ابن سعد ج ٢ / ٣٥٤ وصحيح البخاري : باب العلم قبل القول ج ١ / ١٦١.

(٥) فجمّعت : أي حضرت الصلاة يوم الجمعة.


ويخفّ صلاته ، قال : فجلست إليه ، فقلت له : يا عبد الله من أنت؟ قال : أنا أبو ذر ، فقال لي : فأنت من أنت؟ قال قلت : الأخنف بن قيس ، قال : قم عني لا أعديك بشرّ ، فقلت له : كيف تعديني بشرّ ، قال : إن هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه : ألا يجالسني أحد» (١).

ومن أجل مخالفته لأوامر السلطة ، نفي أبو ذر من بلد إلى بلد حتى لقي حتفه طريدا فريدا بالربذة عام ٣١ ه‍.

كل ذلك من أجل الإفصاح عن فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، هذه الفضائل التي أرعبت الخلفاء ، لذا منعوا من نشرها ، أما نشر أحكام الصوم والصلاة وبقية الفروع فلا بأس به ، أما فضائلهم فحيث تتصل بعقائدهم فيحرم نشرها كما أفاد عمر بقوله : «أقلوا الرواية عن رسول الله إلّا فيما يعمل به» ، أما فيما لا يعمل به كالعقائد والفضائل فهذه محرّمة على المسلمين يوم ذاك وما زالت إلى يومنا هذا حتى عند الذين يصبغون أنفسهم أنهم من شيعة آل البيت ، لا سيّما من مشايخ السوء الذين كثر سوقهم في زماننا هذا ، فباتوا ينعقون للزعيم والقائد من أجل حفنة من الدولارات ، أجارنا الله تعالى منهم ومما ينعقون ويصفرون.

ويشهد لما قلنا أن سبب المنع هو الفضائل ، ما ذكره معاوية للمغيرة بن شعبة لمّا استعمله على الكوفة عام ٤١ ه‍ وأمّره عليها ، استدعاه وقال له :

قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم ، فقال له المغيرة : قد جرّبت وجرّبت ، وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذمّ ، فقال : بل نحمد إن شاء الله (٢).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٤ / ١٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ١١٢ حوادث سنة ٥١ ه‍ وابن الأثير ج ٣ / ١٠٢.


وروى المدائني في كتاب الأحداث وقال :

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة (١).

وفي هذا السبيل قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ، وقتل وصلب رشيد الهجري وميثم التمار.

هكذا خنق خلفاء الجور أنفاس الصحابة والتابعين وقضت على من خالف سياستهم ، وفي مقابل ذلك فتحت الباب لآخرين أن يتحدثوا بين المسلمين كما يشاءون.

وبالجملة : فإن منع أبي هريرة من كتابة الحديث كان خوفا من المانعين من أن يبوح أبو هريرة بفضائل آل البيت ويذم بأعدائهم ، لا سيّما وأن أبا هريرة يتجه إلى الناحية التي يميل إليها طبعه وتتفق مع هوى نفسه ، وقد عرفنا سابقا أنه صحب النبيّ لملء بطنه ، لذا لم يبرز نجمه في عهدي أبي بكر وعمر اللذين كانا يتظاهران بالزهد ، بخلاف عثمان المعروف بالبذخ والسخاء على ذويه وأقاربه ، فأخذ أبو هريرة يظهر في زمن عثمان بعد انزوائه ، ويبدو للناس بعد خفائه ، ثم لمع نجمه في عهد معاوية الذي يملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لا يملكه أحد سواه يوم ذاك ، وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته ، أن يتنكب الطريق التي تؤدي إلى الإمام عليّ ، وأن يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية ، ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية.

وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخرّ مغشيا عليه ، فيضع الناس أرجلهم على عنقه! فهل تراه يدع دولة بين أمية ذات السلطان العريض والأطعمة الناعمة ، وينقلب إلى الإمام عليّ الزاهد الفقير الذي كان طعامه خبز الشعير؟!

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ / ١٥ ، ط / البابي الحلبي.


إن هذا لمما تأباه الطباع ولا يتفق والغرائز النفسية! اللهم إلا من عصم ربك ، وقليل ما هم.

ولقد عرف بنو أمية صنيعه معهم ، وقدروا موالاته لهم ، فأغدقوا عليه من إفضالهم ، وغمروه برفدهم وأعطيتهم ، فلم يلبث أن تحوّل حاله من ضيق إلى سعة ، ومن شظف العيش إلى دعة ، ومن فقر إلى ثراء ، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية ، صار يلبس الخز والكتان الممشق.

وكانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن ولاه بسر بن أرطاة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته بهم وبأموالهم وذراريهم ، وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة ، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة ، ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه.

ولقد استخفه اشره وزهوه ، ونم عليه أصله ونحيزته ، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة ، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به : «إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم ، والآن تزوجتها ، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني!».

ولم يكن ما قدّم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيفه أو بماله ، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار الإمام عليّ ويطعن فيها عليه ، ويجعل الناس يبرءون منه ، ويشيد بفضل معاوية ودولته.

ولقد روى أحاديث كثيرة في عثمان ومعاوية وغيرهما ، وهذه الأحاديث من مبتكراته ، روى البيهقي عنه أنه لمّا دخل دار عثمان وهو محصور ، استأذن في الكلام ولمّا أذن له قال : إني سمعت رسول الله يقول : إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا ، فقال له قائل من الناس فمن لنا يا رسول الله؟ أوما تأمرنا؟ فقال : عليكم


بالأمين وأصحابه ، وهو يشير إلى عثمان.

ومما وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه : ناول النبيّ معاوية سهما ، فقال : خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنّة.

وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه : سمعت رسول الله يقول : إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة : أنا وجبريل ومعاوية.

ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة وكانت مشهورة بالجمال الفائق فقال : سبحان الله!ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله.

والأخبار التي لفّقها على رسول الله كثيرة جدا ، كما أنه وضع أحاديث على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

قال أبو جعفر الإسكافي : إن معاوية حمل قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة على عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم في ذلك جعلا ، فاختلقوا له ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.

وروى الأعمش : لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة (١) ، جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسول الله وأحرق نفسي بالنار ، والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرما وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها ، فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة.

__________________

(١) هو العام الذي صالح فيه الإمام الحسن عليه‌السلام معاوية حقنا لدماء المسلمين سنة ٤١ ه‍ وسموه عام الجماعة وهو في الحقيقة كان عام الفرقة.


على أن الحق لا يعدم أنصارا ، وأن الصحابة إذا كان فيهم مثل أبي هريرة ممن يستطيع معاوية أن يستحوذ عليه ، فإن فيهم من لا يستهويه وعد ، ولا يرهبه وعيد ، فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أنّ أبا هريرة ، لمّا قدم الكوفة مع معاوية ، كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه ، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه ، فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله ، أسمعت رسول الله يقول لعليّ بن أبي طالب : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ فقال : اللهم نعم ، فقال : أشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه ، ثم قام عنه بعد أن لطمه هذه اللطمة الأليمة.

وروى مسلم :

أن معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال : أما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله؟ فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم! سمعت رسول الله يقول له لمّا خلفه في بعض مغازيه : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنه لا نبوة بعدي.

وسمعته يقول يوم خيبر : «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» فتطاولنا لها فقال : ادعوا عليّا ، فأتى به أرمد ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولمّا نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : اللهم هؤلاء أهلي.

ومن فضائل أمير المؤمنين عليّ أن النبيّ قال له : أنت مني وأنا منك ، وقال له : من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال أحمد بن حنبل ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن عليّ ، وقال هو والنسائي والنيسابوري وغيرهم : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء فيه.

وأخرج مسلم عن الإمام عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد إليّ


«أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وقد جمع النسائي في مناقبه كتاب الخصائص.

تدليسه للرواية :

لقد اشتهر أبو هريرة بكثرة نقولاته حتى بلغت (٥٣٧٤) ولو كانت كلها صحيحة لأخذ بها البخاري كلها ، مع أنه اقتصر على (٤٤٦) حديث من مجموع تلك الآلاف ، وقد عرفت موقف عمر من كثرة رواياته ، وهكذا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام حيث وقف منه موقف الشجب والإنكار ، لذا ورد عنه عليه‌السلام أنه قال : «أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة» ولمّا سمع أنه يقول : حدّثني خليلي! قال له : متى كان النبيّ خليلك؟.

قال العلّامة الكبير محمود أبو ريّة معرّفا عن أبي هريرة :

«ذكر علماء الحديث أنّ أبا هريرة كان يدلّس ، والتدليس كما عرفوه : أن يروي عمّن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمّن عاصره ولم يلقه ، موهما أنه سمعه منه ، والتدليس أنواع كثيرة ، وحكمه أنه مذموم كله على الإطلاق ، وقد كره التدليس جماعة من العلماء ، وكان شعبة (بن الحجاج ، إمام أهل الحديث) أشد الناس إنكارا لذلك حين قال : لأن أزني أحبّ إليّ من أن أدلّس! وقال أيضا : التدليس أخو الكذب.

ومن الحفاظ من جرّح من عرف بهذا التدليس من الرواة فردّ روايته مطلقا وإن أتى بلفظ الاتصال ، ولو لم يعرف أنه دلّس إلا مرة واحدة ، كما نصّ على ذلك الشافعي.

وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال : اتّقوا الله وتحفّظوا من الحديث ، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ويحدّثنا عن كعب الأحبار ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله! وفي رواية يجعل ما


قاله كعب عن رسول الله وما قاله رسول الله عن كعب! فاتقوا الله وتحفّظوا في الحديث.

وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلّس ـ أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ، ولا يميّز هذا من هذا ـ ذكره ابن عساكر ـ وكأنّ شعبة يشير بهذا إلى حديث : «من أصبح جنبا فلا صيام له» ، فإنه لما حوقق عليه قال : أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله.

وقال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» : ... وكان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه.

وقال ابن قتيبة أيضا في «تأويل مختلف الحديث» أنه «لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ما لم يأت بمثله من صحبه من جلّة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه» وممن اتّهم أبا هريرة بالكذب : عمر وعثمان وعليّ وغيرهم وبذلك كان ـ كما قال الكاتب الإسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي ـ «أول راوية اتّهم في الإسلام».

ولما قالت له عائشة : إنك لتحدّث حديثا ما سمعته من النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار : إذ قال لها ـ كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم المرآة والمكحلة! وفي رواية ـ ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ، ولكن أرى ذلك شغلك!!

على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه ، وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها ، ذلك أنه لما روى حديث «من أصبح جنبا فلا صوم له» أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت ؛ إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم ، وبعثت إليه بأن لا يحدّث بهذا الحديث عن رسول الله ،


فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان ، وقال : إنها أعلم مني ، وأنا لم أسمعه من النبي وإنما سمعته من الفضل بن العباس ـ فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، كما قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث».

وكان [الإمام] عليّ سيّئ الرأي فيه ، وقال عنه : إلا أنه أكذب الناس ـ أو قال : أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة. ولما سمع أنه يقول : «حدّثني خليلي! ...» قال له : متى كان النبي خليلك؟. ولما روى حديث : «متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ـ لم تأخذ به عائشة وقالت : كيف نصنع بالمهراس؟

ولما سمع الزبير أحاديثه قال : صدق ، كذب.

وعن أبي حسان الأعرج أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا : إن أبا هريرة يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» فطارت شفقا ثم قالت : كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ، من حدّث بهذا عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم! إنما قال رسول الله «كان أهل الجاهلية يقولون : إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار» ، ثم قرأت : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(١).

وأنكر عليه ابن مسعود قوله : «من غسّل ميتا ، ومن حمله فليتوضأ ـ وقال فيه قولا شديدا ثم قال : يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم.

وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال : أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر (أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك فقال : أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله ، وأنا

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٢.


لا أقلد عقله ، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ».

وروى أبو يوسف قال : قلت لأبي حنيفة : الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا ، ما نصنع به؟ فقال : إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي ، فقلت : ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال : ناهيك بهما. فقلت : وعليّ وعثمان؟ قال : كذلك. فلما رآني أعدّ الصحابة ـ قال : والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا. وعدّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.

وعن إبراهيم النخعي قال :

كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة ، ورواية الأعمش عنه : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة!

وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم : كانوا يرون في أحاديث رسول الله شيئا ، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار ، أو حث على عمل صالح ، أو نهى عن شر جاء في القرآن (١).

وروى أبو شامة عن الأعمش قال :

كان إبراهيم صحيح الحديث ، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه ، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال : دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه.

وقال أبو جعفر الإسكافي :

وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضى الرواية ، ضربه عمر وقال : أكثرت من الحديث وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٨ / ١٠٩.

(٢) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ٣٦٠.


وقال ابن الأثير : أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها (١).

وفي الأحكام للآمدي :

أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته ، وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرض لمن قلّت روايته.

وجرت مسألة المصراة (٢) في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها ، وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة ، فرد بعضهم الحديث وقال : أبو هريرة متّهم فيما يرويه ، ونحا نحوه الرشيد» (٣) انتهى.

وقال محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار :

«لو طال عمر عمر بن الخطاب حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة (٤)» وقال عن أحاديثه المشكلة : «لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين» (٥).

وقال محمّد رضا في موضع آخر :

«فأكثر أحاديثه ـ أي أبي هريرة ـ لم يسمعها من النبيّ ، وإنما سمعها من الصحابة والتابعين ، فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية ـ كما يقول جمهور المحدثين ـ فالتابعون ليسوا كذلك ، وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار ، وأكثر أحاديثه عنعنة ، على أنه صرّح بالسماع ـ أي أنه سمعه من رسول الله ـ في

__________________

(١) المثل السائر ص ٨١.

(٢) المصراة : هي الناقة أو البقرة يجمع اللبن في ضرعها ويحبس أياما بغير حلب ، لإيهام المشتري أنها غزيرة اللبن ، وسبب رد الحنفية لحديث «المصراة» أنه مخالف للأقيسة بأسرها ، فإن حلب اللبن تعد ، وضمان التعدي يكون بالمثل أو بالقيمة ، والصاع من التمر ليس بواحد منها.

(٣) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٤) أضواء ص ٢٠١ نقلا عن مجلة المنار ج ١٠ / ٨٥١.

(٥) نفس المصدر نقلا عن مجلة المنار ج ١٩ / ١٠٠.


حديث «خلق الله التربة يوم السبت» وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه من كعب الأحبار»(١).

وقال أيضا : «إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى والإرسال ، لأن الكثير منه قد سمعه من الصحابة وكذا بعض التابعين ، ورواية الحديث بالمعنى كانت مثارا لمشكلات كثيرة.

كما أنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظنته لغرابة موضوعها كأحاديث الفتن وأخبار النبي ببعض المغيبات التي تقع بعده ، ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه ، ولو انفرد بمثله غير صحابي لعدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته ـ كما هو المعهود عند نقاد الحديث ، أهل الجرح والتعديل ، ولذلك نرى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي هريرة (٢).

وما أروع ما قاله الأستاذ أبو ريّة في ختم كلامه عن أبي هريرة :

«هذه ترجمة مختصرة لأبي هريرة التزمنا فيها الناحية التقريرية ولم نسلك الطريقة التحليلية والموضوعية ، التي لا تكتمل التراجم الصحيحة إلا بها ، ولا تتم دراسة الرجال والأحداث إلّا باتباعها ، ذلك بأننا لم نصل بعد إلى احتمال سطوتها ، وبخاصة إذا كان الأمر يتصل بأحد الصحابة الذين قالوا فيهم «إنهم كلهم عدول» فلا يجوز لأحد أن ينتقد بالعلم والبرهان والحجة أحدا منهم ، لا في روايته ولا في شهادته ، ولا في سيرته ، ومما قالوه في ذلك أيضا «إن بساطهم قد طوى» كأن العدالة موقوفة عليهم وحدهم ، وكأنهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية ، فلا يعتريهم ما يعتري كل إنسان من سهو أو خطأ ، أو وهم أو نسيان ولا نقول [ولا يقول] الكذب والبهتان.

على أننا لو سلّمنا لهم بأنّ كل صحابي معصوم فيما يقع فيه غيره من بني الإنسان وأنه لا ينسى ولا يخطئ ولا يهمّ ، ولا يعتريه سوء فهم أو غلط ، وأنه لم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مجلة المنار ج ١٩ / ٩٧.


يكن في الصحابة منافقون ، ولم يرتكب أحد منهم كبيرة ولا صغيرة ولا وقع بينهم ما وقع ، ولا ارتدّ بعضهم بعد موت النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ولا غير ذلك كله مما حملته كتب التاريخ الصحيحة عنهم ـ فإن أمر أبي هريرة يباين أمر الصحابة جميعا ، فقد جرحه كبار الصحابة ومن جاء بعدهم وشكّوا في روايته.

ويعجبني قول علماء الكلام ـ أصحاب العقول الصريحة ـ في هذا الأمر نفسه ، فقد جاءت عنهم هذه الكلمة الحكيمة وهي «ومن عجيب شأنهم ـ أي رجال الحديث ـ أنهم ينسبون (الشيخ) إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدّثون ـ بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة ، وقد أكذبه عمر وعليّ [أمير المؤمنين] وعثمان وعائشة.

وما بيّناه من تاريخ أبي هريرة قد سقناه لك على حقيقته ، وأظهرنا شخصيته كما خلقها الله ولم نأت فيها بشيء من عند أنفسنا ، بل أتينا بالروايات الصحيحة فيها ، ورجعنا إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها ، ولا يدنو الريب منها. على أننا قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح ، لأن بعض الناس في دهرنا لا يزالون يخشون سطوة الحقّ ، ولا يحتملون قوة البرهان.

وأبو هريرة لم يكن له أي شأن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في عهد الخلفاء الأربعة ، ولم يستطع أن يفتح فاه بحديث واحد إلّا بعد قتل عمر ، ولم يجرؤ على الفتوى إلا بعد الفتنة الأولى وهي قتل عثمان وعلو شأن بني أمية ، وناهيك بالبخاري فإنه لم يذكره بين الصحابة الذين جاءت في فضلهم أحاديث عن رسول الله.

على أنه لا يفوتنا أن نذكر أن فيما رواه أحاديث يبدو منها شعاع من نور النبوة ، ينفذ إلى القلوب السليمة ، ولعلها مما يكون قد سمعه (وضبطه) والحديث الصحيح له ضوء كضوء النهار» انتهى كلامه (١).

__________________

(١) أضواء على السنة ص ٢٢١.


قال الملك : ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ

هل صحيح أن عمر منع أبا هريرة عن نقل الحديث؟

قال الوزير :

نعم ، منعه كما ـ جاء ـ في التواريخ (١).

قال الملك :

فكيف نعتمد على أحاديث أبي هريرة؟

قال الوزير :

لأن العلماء اعتمدوا على أحاديثه.

قال الملك :

إذن ، يجب أن يكون العلماء أعلم من عمر! لأن عمر منع أبا هريرة عن نقل الحديث لكذبه على رسول الله ، ولكنّ العلماء يأخذون بأحاديثه الكاذبة!

قال العبّاسي :

هب (أيّها العلوي) إن الأحاديث الواردة في السّنّة حول الله غير صحيحة ، ولكن ما ذا تصنع بالآيات القرآنية؟

__________________

(١) فليراجع : أعلام النبلاء للذهبي ج ٢ / ٤٣٣ ، البداية والنهاية لابن كثير ج ٨ / ٨٧ ، ط / الدار العلمية ، وقد ذكر ابن كثير العديد من روايات المنع ، وفيه أورد عن عمر قال لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس. وقال عمر لكعب الأحبار : لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.


قال العلوي :

القرآن فيه آيات محكمات هنّ أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، وفيه ظاهر وباطن ، فالمحكم الظاهر يعمل بظاهره.

وأما المتشابه فاللازم أن تنزله على مقتضى البلاغة من إرادة المجاز والكناية والتقدير ، وإلّا لا يصح المعنى لا عقلا ولا شرعا ، فمثلا :

إذا حملت قوله تعالى «وجاء ربك» على ظاهره ، فقد عارضت العقل والشرع لأن العقل والشرع يحكمان بوجود الله في كل مكان ، وأنه لا يخلو منه مكان أبدا ، وظاهر الآية تقول بجسمية الله ، والجسم له حيّز ومكان ، ومعنى هذا أن الله لو كان في السماء خلا منه الأرض ، ولو كان في الأرض خلا منه السماء ، وهذا غير صحيح لا عقلا ولا شرعا (١).

____________________________________

(١) أشار المتن إلى نقطتين الأولى : حجية ظواهر الكتاب الكريم.

الثانية : وجود المحكم والمتشابه.

أما النقطة الأولى :

فإن العمل بظواهر الكتاب كغيره من ظواهر اللغة العربية أو أية لغة أخرى ، حيث يأخذ بها كل خبير بألفاظها ومعانيها ، وإلا كيف يتعاملون فيما بينهم إن لم يكن هناك ما يبرز مقاصدهم وأهدافهم ، وليس ذاك إلا اللفظ الذي من خلاله يعبّرون عمّا يجيش في صدورهم. ومن هذا القبيل الأخذ بظاهر الكتاب الكريم من حيث كونه كتابا ربانيا نزل على رسول الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، فيتدبرون آياته ، يأخذون بما أمر به ، ويزدجرون بزواجره ، لذا قال تعالى : (أَفَلا


يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢).

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٣).

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤).

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.

وظواهر الكتاب حجة إلا المتشابه فلا يجوز العمل به من دون الرجوع إلى المحكم ، وهذا نظير ظواهر اللغة ، حيث إن ظاهر اللفظ يحمل على عدة معان ، فلا بدّ من تعيين المراد من قرينة تصرفه عن غيره.

واستدل على حجية ظواهر الكتاب ـ إلّا المتشابه ـ بأمور :

١ ـ أن القرآن نزل حجة من ربّ العالمين على قلب رسول الله محمّد

الذي تحدّى الجن والإنس على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ومعنى هذا : أنّ العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره ، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته ، ولم يثبت لهم إعجازه ، لأنهم ـ على هذه الحال ـ ليسوا ممن يستطيعون فهمه ، وهذا ينافي الغرض من إنزاله ودعوة البشر إلى الإيمان به والأخذ بمضامينه بتدبر آياته.

__________________

(١) سورة محمد : ٢٤.

(٢) سورة الزمر : ٢٧.

(٣) سورة الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٤) سورة آل عمران : ١٣٨.

(٥) سورة الدخان : ٥٨.


٢ ـ الروايات المتضافرة الآمرة بالتمسّك بالثقلين اللذين تركهما النبيّ في المسلمين ، ومن الواضح أن معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به ، والعمل بما يشتمل عليه ، ولا معنى له سوى ذلك.

٣ ـ الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب ، وأن ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار ، أو أنه باطل أو زخرف إلى ما هنالك من تعبيرات صدرت منهم عليهم‌السلام ، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب ، وأنه مما يفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب.

٤ ـ استدلالات الأئمة عليهم‌السلام على جملة من الأحكام الشرعية وغيرها بالآيات القرآنية ، معلّمين شيعتهم كيف يستنبطون الأحكام من الكتاب في غيبة قائمهم عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف منها :

قول الإمام الصادق عليه‌السلام ، حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ قالعليه‌السلام : لمكان الباء.

ومنها : قوله عليه‌السلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النّمام : أنه فاسق ، وقد قال الله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

ومنها قوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله ، أما سمعت قول الله عزوجل :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» مستدلا بقول الله عزوجل :

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.


(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام في تعليل نكاح العبد للمطلّقة ثلاثا «أنّه زوج» ، قال الله عزوجل :

(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحلّ بالعقد المنقطع : إن الله تعالى قال :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) (٣).

ولا طلاق في المتعة.

ومنها : قوله عليه‌السلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة : إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى :

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

ثم قال : امسح عليه.

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حليّة بعض النساء بقوله تعالى :

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٥).

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى :

(عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) (٦).

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٤) سورة الحج : ٧٨.

(٥) سورة النساء : ٢٤.

(٦) سورة النحل : ٧٥.


ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حليّة بعض الحيوانات بقوله تعالى :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) (١).

وغير ذلك من استدلالاتهم عليهم‌السلام بالقرآن في موارد كثيرة ، وهي متفرقة في أبواب الفقه وغيرها.

وهناك من أسقط حجية ظواهر الكتاب مستدلين على ذلك بوجوه :

الوجه الأول : اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.

فقد روى أصحاب هذه الدعوى أخبارا في ذلك ، منها :

رواية زيد الشحام ، قال :

«دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟

فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه‌السلام : بلغني أنك تفسّر القرآن؟ قال : نعم ، إلى أن قال : يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ـ ويحك ـ إنما يعرف القرآن من خوطب به.

والجواب :

١ ـ تضمنت الرواية على لفظ التفسير ، وهو بمعنى كشف القناع ، فلا يشمل ـ كشف القناع ـ الأخذ بظاهر اللفظ ، لأنه غير مستور ليكشف عنه القناع ، ويدل عليه ما ورد من وجوب عرض الأخبار على كتاب الله تعالى ، فلو لم يكن بوسع غير المعصوم عليه‌السلام فهم القرآن كيف يأمرون حينئذ بعرض أخبارهم على الكتاب؟!

٢ ـ يراد من هذه الرواية وأمثالها أن فهم القرآن حق فهمه ، ومعرفة ظاهره

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.


وباطنه ، وناسخه ومنسوخه مختص بمن خوطب به وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، ويؤيد هذا ما ورد في مرسلة شعيب بن أنس عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لأبي حنيفة :

«أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : فبأي شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيّه ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ورّثك الله تعالى من كتابه حرفا.

فالرواية صريحة في ذلك ، حيث كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته ، وتمييز الناسخ والمنسوخ وما شابه ذلك ، وكان توبيخ الإمام عليه‌السلام لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك.

هذا مضافا إلى أن رواية قتادة صريحة في حرمة تفسير القرآن بالرأي والقياس من دون الرجوع إلى من خوطب بهم القرآن ، لأنهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك نصيب ، هذا هو معنى الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة وقتادة لا يعرفان شيئا من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). وأمثال هذه الآية مما يكون صريحا في معناه.

الوجه الثاني : النهي عن التفسير بالرأي.

ادّعى «من تمسّك بعدم جواز الأخذ بظاهر اللفظ» بأنه من التفسير بالرأي ، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.

والجواب :

١ ـ إن التفسير هو كشف القناع ، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره ، لأنه ليس بمستور حتى يكشف ، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي لتشمله


الروايات الناهية المتواترة ، وإنما هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلا ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها ، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة ، لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي ، وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله : إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم.

٢ ـ إن معنى التفسير بالرأي ـ كما قلنا ـ هو الاستقلال بفهم الآية أو الفتوى من غير مراجعة الأئمة عليهم‌السلام ، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعمومات أو الاطلاقات الواردة في الكتاب ، ولم يأخذ بالتخصيص أو التقييد الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كان هذا من التفسير بالرأي.

وعليه فحمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنّة ، أو الدليل العقلي لا يعدّ من التفسير بالرأي بل ولا من التفسير نفسه ، لأن التفسير ـ كما قلنا ـ هو كشف القناع وليس منه حمل اللفظ على ظاهره.

هذا مضافا إلى أن الروايات دلت على الرجوع إلى الكتاب والعمل بما فيه ، ومن البيّن أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره ، وحينئذ فلا بدّ وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الأدلة.

الوجه الثالث : غموض معاني القرآن.

حيث اشتماله على معان شامخة ، ومطالب غامضة ، وكل ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه ، والإحاطة بما أريد منه.

والجواب :

إن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون ، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل البيت عليهم‌السلام من دون ريب ، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن


ظواهر يفهمها العارف باللغة العربية وأساليبها ، ويتعبّد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن.

الوجه الرابع : العلم بإرادة خلاف الظاهر.

حيث إننا نعلم ـ إجمالا ـ بورود مخصّصات لعمومات القرآن ، ومقيّدات لإطلاقاته ، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا ، وهذه العمومات المخصّصة ، والمطلقات المقيّدة والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها ، ليتوقف فيها بخصوصها ، ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض ، وإن لم تكن مجملة بالأصالة ، فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع في مخالفة الواقع.

والجواب :

إن هذا العلم الإجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الأخذ بالظواهر ، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد ، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلّف بوجوده إجمالا بين الظواهر ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي ، ويسقط عن التأثير ، ويبقى العمل بالظواهر بلا مانع ، ونظير هذا يجري في السنّة الشريفة أيضا ، فإنّا نعلم بورود مخصصات لعموماتها ، ومقيدات لمطلقاتها ، فلو كان العلم الإجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنّة أيضا ، بل ولكان مانعا عن إجراء أصالة البراءة في الشبهات الحكمية ، الوجوبية منها والتحريمية ، فإن كل مكلّف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدّسة ، ولازم هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية ، أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا.

النقطة الثانية : المحكم والمتشابه في القرآن.

لا يخفى أن في القرآن الكريم متشابها ومحكما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي


قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١).

فقد قسّمت الآية المباركة القرآن إلى قسمين : محكم ومتشابه ، في حين أن هناك آيات دلت على أن القرآن كله محكم كقوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٢) وآيات أخر دلت على أن القرآن كله متشابه بمعنى أن آياته على وتيرة واحدة في الجمال والرونق والأسلوب وحلاوة الإعجاز كقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (٣) ومعنى المحكم : هو اللفظ الذي لا يختلف العارفون في فهم معناه ، ولا يتردد في المراد منه خبراء اللسان من العلماء.

أو بعبارة هو : اللفظ الواضح لا يشتبه بغير المقصود ، فالمحكم القرآني هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، ومنه آية (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

ومعنى المتشابه : هو اللفظ الذي يتردد الذهن في بيان معناه ، وتختلف الأنظار في ترجيح المقصود من لفظه.

أو هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبّر عنه ب (التأويل) لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، ومنه قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فالعرش فيها مردد مفهومه بين أمرين : مادي وآخر معنوي. فالذين في قلوبهم زيغ أخذوا بالمعنى المادي للعرش ، بينما أهل البصائر أخذوا بالمعنى الآخر الذي دلت عليه المحكمات.

وقد يسأل المرء : إذا كان الكتاب المجيد كتاب هداية ورشاد ، فلما ذا ادخلت الآي المتشابهة إليه ، مع أن القرآن وصف نفسه بالنور والهدى والبينات ، وهذه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

(٢) سورة هود : ١.

(٣) سورة الزمر : ٢٣.


الأوصاف لا تتفق مع عدم معرفة المعاني والمداليل باللفظ المتشابه؟

هذا بالإضافة إلى أنه كيف يصح أن يكون التدبر في القرآن ـ كما في آيات عدة ـ رافعا لكل اختلاف مع أن فيه آيات متشابهات لا يمكن التوصل إلى معرفة معناها ، وعليه فما الحكمة من وجود المتشابه القرآني؟

والجواب :

صحيح أن الآية ٧ من آل عمران صريحة في نفي تأويله عن غير الله والراسخون في العلم ، وكذا وجود متشابه فيه لا يعني عدم كونه هاديا مهديا ، إذ إن نفي التأويل عما ذكره تعالى يستلزم الارتباط بمن وصفهم «بأنهم راسخون» الذي يحيطون ـ كما قلنا سابقا ـ بكنه معانيه وأسراره ، فعلى المؤمنين أن يقبسوا من هؤلاء ليضيئوا لهم الطريق ، ويفتحوا لبصائرهم الآفاق الروحية والسلوكية.

هذا مضافا إلى أن رجوع المتشابه إلى المحكم يجعله محكما بمعنى أن إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة لمعرفة معناها الحقيقي ، يجعل من المتشابه به محكما ، ويشهد لهذا أن الآية الكريمة عبّرت عن المحكمات بأنهنّ أم الكتاب ، ومعنى هذا أن الآية المحكمة تشتمل على أمهات ما في الكتاب من الموضوعات وبقية الآيات متفرعة عنها ، ولازم هذا أن الآيات المتشابهة ترجع إلى الآيات المحكمة في مداليلها والمراد منها ، مما يعني إرجاع المتشابهات إلى المحكمات لمعرفة معناها الحقيقي.

وعليه : «ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها ، بل الآية إما محكمة بلا واسطة شيء معها كالمحكمات نفسها أو محكمة مع الواسطة كالمتشابهات ، وأما الحروف المقطعة في فواتح السور فليس لها مدلول لفظي لغوي ، فهي ليست من المحكم والمتشابه ، ويمكن معرفة ما قلناه من عموم قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ

__________________

(١) سورة محمّد : ٢٤.


لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وما نفهمه من ملخص ما أثر عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هو نفي وجود آية متشابهة لا يمكن معرفة مدلولها الحقيقي ، بل الآيات التي لم تستقل في مداليلها الحقيقية يمكن معرفة تلك المداليل بواسطة آيات أخرى ، وهذا معنى إرجاع المتشابه إلى المحكم ، فإن ظاهر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) وقوله (وَجاءَ رَبُّكَ) (٣) يدل على الجسمية وأن الله تعالى مادة ، ولكن لو أرجعناهما إلى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) علمنا أن الاستواء والمجيء ليسا بمعنى الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان إلى آخر.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب ما روي عنه وهو يصف القرآن الكريم : «وإن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا ، ولكن نزل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به» (٥).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : «يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض» (٦).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله» (٧).

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم» ثم قال : «إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا» (٨).

__________________

(١) سورة النساء : ٨٢.

(٢) سورة طه : ٥.

(٣) سورة الفجر : ٢٢.

(٤) سورة الشورى : ١١.

(٥) الدر المنثور ج ٢ / ٩.

(٦) الدليل على موضوعات نهج البلاغة ص ٢٤٨.

(٧) تفسير العياشي ج ١ / ٢٢ و ٢٣.

(٨) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٨٢ ح ٢٢.


«إن هذه الأحاديث وخاصة الأخير منها صريحة في أن الآيات المتشابه هي الآيات التي لا تستقل في مدلولها بل لا بد من ردّها إلى الآيات المحكمة ، ومعنى هذا أنه ليس في القرآن آية لا يمكن معرفة معناها بطريق من الطرق» (١).

يرد عليه :

أنّ هناك آيات مهما حاولنا أن نضم إليها آيات أخر لا يمكننا أن نرفع الإبهام الموجود فيها ، فتبقى على إجمالها ، حتى فسّرها المعصوم عليه‌السلام كالآيات التي تبخر بالإجمال عن العوالم المادية والروحية ، وكبعض آيات الأحكام ، منها قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٢).

فبعض المتشابهات لها محكم يفسّرها ، وبعض يبقى على إجماله حتى يرد له تفسير من المعصوم عليه‌السلام ، وإلا لو قلنا إن المتشابه دائما له محكم في القرآن لاستغنى الناس عن المعصوم عليه‌السلام ، وللغى قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) وقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤) (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥) ، اللهم إلّا أن يقال : إن المتشابه المفسّر بالمحكم موجود في القرآن لكن العقول البشرية العادية لا تدركه ، عدا المعصوم فإن عنده الإحاطة به وتفسيره ، وبما وضّحنا يثبت ما ادّعاه سيدنا الطباطبائي «أعلى الله مقامه» من أن القرآن كله محكم ، فالمتشابهات بالقياس إلى أهل الذكر هي محكمات ، وبالقياس إلى غيرهم ممن لا يأخذ منهم تبقى على حالها حتى يرد عليها المحكم.

__________________

(١) القرآن في الإسلام ص ٤٥ ـ ٤٦ العلامة محمد حسين الطباطبائي (قدس‌سره).

(٢) سورة الإسراء : ٧٨.

(٣) سورة الحشر : ٧.

(٤) سورة النساء : ٥٩.

(٥) سورة النور : ٥٤.


فإنكار وجود المتشابه بحجة أن القرآن كتاب هداية لا يصلح علاجا لواقعية لا محيص عنها ، نعم لا يصطدم وجود المتشابه في القرآن مع كونه كتاب هداية لعموم المكلّفين وذلك لأمرين :

الأول : ضآلة جانب المتشابه ، بحيث كان الطريق أمام المستهدين بهدى القرآن الكريم فسيحا جدا.

الثاني : هداية الكتاب تعني كونه المصدر الأول للتشريع وتنظيم الحياة العامة ، وهذا لا يعني إمكان مراجعة الأفراد ـ بالذات ـ للقرآن في جميع أحكامه وتشريعاته ، إذ لمثل ذلك اختصاصيون يعرفون من الكتاب ما لا تعرفه العامة ، وهم يشكّلون قيادة الأمة على هدى الكتاب ، وبذلك أصبح القرآن مصباحا ينير درب الحياة على ركب الإنسانية بشكل عام.

فالآي المتشابهة متشابهة بالذات ، وإنما يعرف الراسخون في العلم تأويلها الصحيح ، بفضل جهودهم وتعمّقهم في أغوار هذا الدين ، ليستنبطوا من كنوزه المستورة لئالي وهّاجة تبهر العقول.

والسر في وجود المتشابه في القرآن مع أنه كتاب هداية يرجع إلى أمور ، منها :

١ ـ إن الأحاديث (١) الشريفة المتواترة دلت على أن القرآن بآياته بحاجة إلى تفسير من أهل بيت النبوة ، وذلك لمواكبة القرآن لكل العصور والأزمنة ، فكل إمام يتولّى تفسير كل آية بما يناسب عصره ، لكون القرآن كتاب هداية ، تشمل هدايته القرون والأجيال.

٢ ـ إن الأمم لا بدّ أن تدين بالإسلام في كل زمان ومكان ومن أي لسان ، وعليها أن تتعلم القرآن ، وهذا التعليم يختلف حسب اختلاف المترجمين والمفسرين ، ودرجات علومهم وحلومهم ، ومعارف عصورهم ، ولا بدّ لهم أن

__________________

(١) كأخبار ربط القرآن بالعترة لا يفترقان حتى يردا الحوض ، وخبر السفينة وما شابه ذلك.


يقرءوا القرآن ، فربّ آية محكمة عند قوم هي متشابهة عند آخرين وبالعكس نظير قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) فإنها محكمة في عصرنا بينما كانت متشابهة منذ مئات السنين.

٣ ـ الحكمة من وجود المتشابه هو ألّا يتفرد الإنسان بعقله في فهم كلام الله سبحانه ، لأن كلامه عميق ، يحتوي على معارف عالية جدا ، فهو حمّال ذو وجوه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يحتوي على تعابير بلاغية متنوعة من المجاز والاستعارة والتشبيه ، فأكسبه ذلك خاصية أن تعطف كل طائفة بما يروقها من آيات لغرض تأميلها إلى الوجه الذي يؤيد مذهبها ، لذا نهى الإمام عليعليه‌السلام عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البدع والأهواء ، لأنهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة ، حيث قال لابن عبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج : «لا تخاصمهم بالقرآن ، فإن القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا».

٤ ـ إن وقوع التشابه في القرآن ـ الكتاب السماوي الخالد ـ شيء لا محيص عنه ، ما دام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم ، في سمو فحواه عن مستواهم الهابط.

فقد جاء القرآن بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك ، ولا سيّما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات ، في حين التزامه ـ في تعبيراته الكلامية ـ نفس الأساليب التي كانت دارجة ذلك العهد ، الأمر الذي ضاق بتلك الألفاظ ، وهي موضوعة لمعان مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق ، من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق ، كانت الألفاظ والكلمات ـ التي كانت العرب تستعملها في تعبيراتها ـ محدودة في نطاق ضيّق حسبما كانت العرب

__________________

(١) سورة النمل : ٨٨.


تألفه من معان محسوسة أو قريبة من الحس ومبتذلة إلى حدّ ما ، فجاء استعمالها من قبل القرآن ـ الكتاب الذي جاء للبشرية على مختلف مستوياتهم إلى الأبد ـ غريبا عن المألوف العام.

ومن ثم قصرت أفهامهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير ، إذ كانت الألفاظ تقصر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها ، ومن ثمّ كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات ، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات ، الأمر الذي قرّب المفاهيم القرآنية إلى مستوى أفهام العامة من جهة ، وبعدها من جهة أخرى ، قربها من جهة إخضاعها لقوالب لفظية كانت مألوفة لدى العرب ، وبعدها حيث سمو المعنى ، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعة لمثله ، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولغ في إخضاعه ، إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالبا له ولا يتطابقه تماما.

هذه الوجوه هي السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات ككثير من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شئون المبدأ تعالى والمعاد ، ومسائل شئون الخليفة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس.

* * * * *


ارتبك العبّاسي أمام هذا المنطق الصائب وتحيّر في الجواب ، ثم قال : إني لا أقبل هذا الكلام ، وما علينا أن نأخذ بظواهر آيات القرآن.

قال العلوي :

فما نصنع بالآيات المتشابهات؟ ثم إنك لا يمكنك أن تأخذ بظاهر كل القرآن ، وإلّا لزم أن يكون صديقك الجالس إلى جنبك الشيخ أحمد عثمان (وهو من علماء السنّة وكان أعمى البصر) من أهل النار؟

قال العبّاسي :

ولما ذا؟

قال العلوي :

لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء / (٢) ٧) ، فحيث إنّ الشيخ أحمد أعمى الآن في الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، فهل ترضى بهذا يا شيخ أحمد؟

قال الشيخ : كلا ، كلا ، فإنّ المراد ب (الأعمى) في الآية : المنحرف عن طريق الحق.

قال العلوي :

إذن ثبت أنه لا يتمكن الإنسان أن يعمل بكل ظواهر القرآن.

وهنا اشتدّ الجدال حول ظواهر القرآن ، هذا والعلوي يفحم العبّاسي بالأدلة والبراهين حتى قال الملك :

دعوا هذا الموضوع وانتقلوا إلى غيره.


قال العلوي :

ومن انحرافاتكم وأباطيلكم ـ أنتم السنّة (١) ـ حول الله سبحانه أنكم تقولون : إنّ الله يجبر العباد على المعاصي والمحرّمات ثم يعاقبهم عليها؟

قال العبّاسي :

هذا صحيح لأن الله يقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الزمر / (٢٣) ، ويقول : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة / (٩٣).

____________________________________

(١) مصطلح «أهل السّنّة والجماعة» مبتدع لا أساس له قبل ظهور الدولة الأموية ، لذا قال العلّامة الكبير الشيخ محمود أبو رية :

إننا لا نعرف شيئا اسمه (أهل السّنّة) ولا شيئا آخر يقابلها من سائر الفرق أو المذاهب التي استحدثت بين المسلمين لتعريفهم ، وبخاصة فإن وصف أهل السنّة هذا لم يكن معروفا قبل معاوية بن أبي سفيان ، وقد استحدثوه في عهده في العام الذي وصفوه بأنه «عام الجماعة» نفاقا للسياسة لعنها الله ، وما كان إلّا عام الفرقة (١).

وقال الأستاذ صالح الورداني في كتابه «أهل السنّة شعب الله المختار» مجيبا على سؤالين مفادهما : متى ظهر لفظ أهل السّنّة والجماعة ، ومتى ظهرت عقيدتهم؟ :

«إن الإجابة على هذين السؤالين لا وجود لها عند أهل السنّة ، أو بمعنى أصح هم يجيبون إجابة مبهمة وغير مقنعة محاولين إلصاق أنفسهم بالرسول وبالصحابة لأجل إضفاء الشرعية على عقيدتهم وإعطاءها الامتداد التاريخي العميق الذي يبدد صور الشك من حولهم.

__________________

(١) هامش محاورة حول الإمامة ص ٩٢ للمحقّق السيد مرتضى الرضوي.


وليس من السهل الحكم بأنّ الصحابة في زمن الرسول وبعده كانوا يسيرون على نهج واحد ويلتزمون بعقيدة واحدة ، فهذا أمر لا تؤيده النصوص القرآنية والنصوص الواردة على لسان الرسول ، تلك النصوص التي تؤكد وجود قطاع من المنافقين وقطاع من القبليين وقطاع من المتشيعين لعليّ بن أبي طالب ..

إن أهل السنّة لم يستطيعوا البرهنة على كونهم امتدادا لخط الرسول وأنهم الفرقة الناجية وأصحاب الحق ، وإلّا فما معنى تسمية أنفسهم بأهل السنة والجماعة؟ هل يعني أن الآخرين بلا سنّة وبلا جماعة؟

وأنهم الذين تلقفوا الدين والسنّة من الرسول دون غيرهم؟

فأهل السنّة يريدون إلزام الآخرين بنهجهم وتفسيراتهم وطريقة نقلهم للرواية ، والروايات التي تبنوها وإلّا أصبحوا من الفرقة الهالكة ولن يشموا رائحة الجنّة ...» (١).

وقال الأستاذ محمد التيجاني السماوي :

«أهل السّنّة هم الطائفة الإسلامية الكبرى التي تمثّل ثلاثة أرباع المسلمين في العالم ، وهم الذين يرجعون في الفتوى والتقليد إلى أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل.

وقد تفرّع عنها فيما بعد ما يسمّى بالسلفية التي جدّد معالمها ابن تيمية الذي يسمّونه مجدّد السنّة ، ثم الوهابية التي ابتدعها محمد بن عبد الوهاب ، وهو مذهب السعودية ، وكل هؤلاء يسمّون أنفسهم ب «أهل السنّة» وفي بعض الأحيان يضيفون كلمة الجماعة فيقال «أهل السنّة والجماعة» ..

وكأنّ هذا الاصطلاح ـ يعني «أهل السنّة والجماعة» ـ قد وضع في مقابل عليّ وشيعته وهو حسب اعتقادي السبب الرئيسي في تقسيم الأمة الإسلامية بعد

__________________

(١) أهل السنّة شعب الله المختار ص ٩ ـ ١٠ ، ط / كنّوتة.


وفاة الرسول إلى سنّة وشيعة.

وأهل السنّة والجماعة لا يعملون بقاعدة الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله ، بل يلقون بالمودة للجميع ويترضون على معاوية بن أبي سفيان كما يترضّون على عليّ بن أبي طالب.

وقد بهرتهم هذه التسمية البرّاقة (أهل السنّة والجماعة) ولم يعرفوا خفاياها ودسائسها التي وضعها دهاة العرب ولو علموا يوما بأنّ عليّ بن أبي طالب هو محض السّنّة المحمّدية وهو بابها الذي يؤتى منه للدخول إليها ، قد خالفوه في كل شيء وخالفهم ، لتراجعوا عن موقفهم ولبحثوا الموضوع بجدّ ، ولما وجدت «أهل السنّة» إلّا شيعة لعليّ وللرسول ، ولكل ذلك لا بدّ من كشف حقيقي لتلك المؤامرة الكبرى التي لعبت أخطر الأدوار في إقصاء السنّة المحمّدية ، وإبدالها ببدع جاهلية سبّب نكسة المسلمين وارتدادهم عن الصراط المستقيم وتفرقهم واختلافهم ..» (١).

* * * * *

__________________

(١) الشيعة هم أهل السنّة ص ٢٤.


قال العلوي :

أمّا كلامك إنه في القرآن ، فجوابه :

إن القرآن فيه مجازات وكنايات يجب المصير إليها ، فالمراد (بالضلال) إنّ الله يترك الإنسان الشقي ويهمله حتى يضلّ ، وذلك مثل قولنا :

«إن الحكومة أفسدت الناس» فالمعنى أنها تركتهم لشأنهم ولم تهتم بهم ، هذا أولا ، وثانيا : ألم تسمع قول الله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / (٨٢)) وقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان / ٣)) وقوله (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد / ٨ ـ ٠ ١).

وثالثا : لا يجوز عقلا أن يأمر الله بالمعصية (١) ثم يعاقب عليها ، إنّ هذا بعيد من عوام الناس ، فكيف من الله العادل المتعال سبحانه وتعالى عمّا يقول المشركون والظالمون علوّا كبيرا.

____________________________________

مسألة الهدى والضلال من المسائل العقيدية الهامة التي كثر الكلام حولها لأهميتها في الإسلام سيّما أنّ القرآن الكريم ذكرها في مواضع عدة ، لذا ومن خلال هذه الآيات التي ظاهرها نسبة الهدى والضلال إلى الله سبحانه انقسم المسلمون إلى فرقتين :

الفرقة الأولى : وتسمّى بالجبرية ، وهذه الفرقة تعتقد بأنّ الإنسان مجبر على أفعاله ، خيرها وشرّها ، ولا دخل له في تقرير مصيره ما دام الله سبحانه وتعالى هو ـ


الهادي والمضلّ ، واستدلوا بآيات منها قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) ، وقالوا ـ حسبما ورد على لسان أبي الحسن الأشعري إمام الأشاعرة في العقائد ـ أنّه لا خالق إلا الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدّرة ، واستدلّ على مدعاه بقوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢).

وأما الفرقة الثانية : وتسمّى بالعدليّة تمييزا لها عن الجبرية. والفرقة العدلية هي الفرقة الوحيدة من بين فرق المسلمين التي نزّهت الله سبحانه وتعالى عن الظلم والجور ، وأنه تعالى يعطي كل ذي حقّ حقه ، فلا يحيف بحكمه وأمره ، وأنّ كل شيء واقع تحت قدرته يصدر عن أمره ، إلّا أنّ أفعال العباد خيرها وشرّها ليست من صنع الله ولا أنه تعالى أجبرهم عليها ، بل الإنسان بنظر العدليّة مخيّر بأفعاله ، وذلك لما وهبه الله سبحانه وتعالى من العقل وحرية الاختيار.

فالخلاف بين العدليّة والأشاعرة يرجع بالأصل إلى التساؤل التالي :

* هل أمر الهداية والضلال بيد الله سبحانه وتعالى فلا يكون للعبد أي دور في الهداية أو الضلالة ، ـ فالضّال يعصي بلا اختيار منه والمهتدي يطيع بلا اختيار منه أيضا ، معتمدين على ظواهر بعض الآيات المتشابهة ـ أم أنّ المسألة بجوهرها تختلف عن ذلك البتة؟

والجواب :

صحيح أنّ هناك آيات قرآنية مفادها حصر الهداية والضلالة بالله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّه لا يمكننا الأخذ بظواهر هذه الآيات ، وعزل قدرة العبد على الهداية والضلال ، فيبطل الثواب والعقاب والجنّة والنار.

هذا مضافا إلى أنّ هذه الآيات التي ظاهرها نسبة الهداية والضلال إليه

__________________

(١) سورة القصص : ٥٦.

(٢) سورة الصافات : ٩٦.


سبحانه وتعالى لها تأويل وجيه يناسب القواعد والأصول العقلية والشرعية مع التأكيد على وجود آيات صريحة تفيد حرية الاختيار للإنسان ، وكونه قادرا على الهداية ونقيضها.

ولكي نفهم الآيات التي ظاهرها نسبة الضلال إليه تعالى علينا أن نوضح أقسام الهداية والضلال ، فنقول :

إن الاستقراء اللغوي والاصطلاحي يشير إلى معان عدة للضلالة هي ما يلي :

ـ المعنى الأول للضلالة :

هو التخلية على وجه العقوبة ، وترك المنع والقهر ومنع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم ، وسبب المنع ليس من الله سبحانه وتعالى ، وإنما سببه الإنسان حيث منع اللطف من الوصول إليه ، فيكون بذلك قد أضلّ نفسه عن الطريق الصحيح ، وهذا كمن يقال بحق من لا يصلح سيفه أنه «أفسده» ، بمعنى أنه لم يحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والتّسنين.

أمّا المعنى الثاني للضلال :

فهو الإهلاك والعذاب والتدمير ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)(١).

وقوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣) أي لم ولن يبطل أعمالهم.

وأمّا المعنى الثالث للضلال :

__________________

(١) سورة القمر : ٤٧.

(٢) سورة السجدة : ١٠.

(٣) سورة محمد : ٤.


فهو التحيّر والتشكيك.

... هذه المعاني الثلاثة للضلال ذكرها القرآن الكريم ، والمعنى الأخير من هذه المعاني لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى لنسبة الجبر إليه تعالى وهو عين الظلم الذي يتنزّه عنه الحكيم المتعال.

ويأتي الضلال لغة بمعنى : «عدم الاهتداء إلى السبيل» ، كما لو قيل : «فلان ضلّ عن قومه» إذا لم يعرفوا مكانه ؛ ويقال : «ضلّ البعير» إذا لم يعرف مكانه. ويأتي بمعنى إخفاء الذكر ، ف «ضل : الشيء» إذا خفي ذكره. والمعنى الأخير ينطبق على الآيات التي حرّمت نسبة الضلال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) (١) لمخالفة الضلال لأدلّة العصمة.

وفي مقابل الضلال هناك الهداية وتطلق على معان متعددة في القرآن الكريم :

أولا :

أن تكون الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد. يقال : «هداه الطريق» أي دلّه عليه ؛ وهذا الوجه عام لجميع المكلّفين ، فإنه سبحانه وتعالى هدى كل مكلّف إلى الحق بأن دلّه عليه وأرشده إليه ، فلو لم يدلّه عليه لكان قد كلّفه بما لا يطيق ، ويدلّ على ما قلنا قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣) (٢) وقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (٣).

ثانيا :

أن تكون الهداية بمعنى زيادة الألطاف الإلهية التي بها يثبت المؤمن على

__________________

(١) سورة الضحى : ٧.

(٢) سورة الإنسان : ٣.

(٣) سورة البقرة : ١٨٥.


الهدى نتيجة عمله الصالح ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (١).

ثالثا :

أن تكون الهداية بمعنى الإثابة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٣).

فهنا ربط الله سبحانه وتعالى دخول الجنّة وإصلاح البال بالإيمان والعمل الصالح والهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة ، وفي مقابل هذا حرّم الله سبحانه وتعالى دخول الجنّة على الكفار لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) ـ (أي تولّى إبليس) ـ (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥).

رابعا :

أن تكون الهداية بمعنى إيجادها في القلوب بإلقاء العلوم الضرورية فيها ، وهذا يشترك فيه جميع العقلاء.

خامسا :

أن تكون الهداية بمعنى الإمضاء والتنفيذ لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٦) أي لا يمضيه ولا ينفّذه أو لا يصلحه.

__________________

(١) سورة محمد : ١٧.

(٢) سورة يونس : ٩.

(٣) سورة محمد : ٤ ـ ٥.

(٤) سورة الحج : ٤.

(٥) سورة النحل : ١٠٤.

(٦) سورة يوسف : ٥٢.


... هذه أهم معاني الهداية ؛ وأما أقسامها فهي على نحوين :

الأول : الهداية العامّة.

الثاني : الهداية الخاصة.

* أمّا الهداية العامة : فهي الهداية الإلهية الشاملة لكلّ الموجودات ، وهذه تنقسم إلى قسمين :

الأول :

الهداية العامة التكوينية ، وهي التي أعدّها الله سبحانه وتعالى في طبيعة كلّ موجود حيث تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها ، فالفأرة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة ، والنّمل يهتدي إلى تشكيل جمعية وحكومة ، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه. فكلّ شيء في الوجود مجهّز بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها ؛ قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) ، وقال أيضا : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) ، وقال عزّ اسمه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٣).

فالهداية التكوينية ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع فيه من الأجهزة والإلهام حيث يوصلاه إلى الغاية التي خلقه الله سبحانه لأجلها.

الثاني :

الهداية العامة التشريعية ، وهي الهداية الشاملة تشريعا وتقنينا لكلّ موجود عاقل ، مفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته كالأنبياء والأولياء والكتب ،

__________________

(١) سورة طه : ٥٠.

(٢) سورة الأعلى : ١ ـ ٣.

(٣) سورة الشمس : ٧ ـ ١٠.


وكل ما يدعو إلى الله عزوجل كالعلماء الربّانيين ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) وهذا القسم من الهداية يشمل كافة المكلّفين من الجن والإنس ، ولا يختصّ بطائفة دون أخرى ، ولا بجيل دون آخر ، والهداية العامة بكلا قسميها قد منحهما الله سبحانه للمكلّفين تكوينا وتشريعا على نحو الجبر والاختيار ، فالهداية التكوينية جبرية وليس للإنسان فيها صنع ، كحركات الأعضاء الداخلية (القلب ، الرئتين ..) وبقية الأعضاء التي تعمل دون اختيارنا وإرادتنا.

والهداية التشريعية اختيارية بمعنى أنّ بمقدور الإنسان أن يعمل بأوامر الشريعة ، أو لا يعمل ، فهو مختار لأن يسلك طريق الشريعة أو لا يسلكها.

* وأمّا الهداية الخاصة فلا قسيم لها ، بل هي عبارة عن عناية ربّانية يهبها الله سبحانه لخاصّة عبيده ، حسبما تقتضيه حكمته ، فيهيئ لهم ما به يهتدون إلى كمالهم ، ويصلون بواسطته إلى مقصودهم. والهداية الخاصة مشروطة ومعلّقة على الهداية العامة ، ومنها قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

فيكون معنى الإضلال الوارد في بعض الآيات القرآنية هو منعهم من هذه المواهب والألطاف الخاصة ، وخذلانهم في الحياة الدنيا منها ، لأنهم هم الذين منعوا من وصولها إليهم نتيجة تركهم العمل بالهداية العامة ، ولو عملوا بها لأفاض عليهم من ألطافه وإكرامه ، لأنّ الارتياض الروحي المعبّر عنه بالجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس الأمّارة بالسوء لازمه أن يمدّه الله سبحانه بهداية السبيل والوصول إلى شاطئ الأمان ، قال تعالى واعدا العاملين بإخلاص أن يفيض عليهم من التوفيقات الخاصة بقوله عزّ اسمه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٣).

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٣) سورة محمد : ١٧.


وفي مقابل آيات الهداية الخاصة ، هناك آيات تشعر باستحقاق الفرد المنحرف الضلال والحرمان من الهداية الخاصة ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (١) ، وقال أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٢) ، وقال عزّ اسمه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٣) ، وقوله: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٤) ، وقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) ، وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (٦) ، وقوله أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧) ، وقوله عزّ اسمه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٨) ، وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٩).

.. فالكافر والظالم والفاسق والخائن والمسرف .. كل هؤلاء يستحقون الحرمان من الهداية الخاصة ، والسبب كما قلنا هو تركهم العمل بالهداية العامة ؛ فهذه الآيات وأمثالها تثبت استحقاق الحرمان والضلال لمن تخلّى عن الهداية العامة ، فحرم من الهداية الخاصة.

وأما الضلال الذي ينسب إليه تعالى كما في بعض الآيات فيمكن صرفه بقرينتين :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦.

(٢) سورة النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٣) سورة الجمعة : ٥.

(٤) سورة ابراهيم : ٢٧.

(٥) سورة الصف : ٥.

(٦) سورة الأعراف : ١٤٨.

(٧) سورة النحل : ١٠٤.

(٨) سورة غافر : ٢٨.

(٩) سورة يوسف : ٥٢.


الأولى : إنّ الضلال المذكور يراد منه الضلال من الهداية الخاصة لا العامة ، وهذا الضلال أو الحرمان من الهداية الخاصة مسبوق دائما بظلم من العبد أو فسق صدر منه أو كفر أو تكذيب أو خيانة كما مرّ معك آنفا.

الثانية : الدليل العقلي المحكم الذي ينزّه الله سبحانه عن الظلم ، مضافا إلى ذلك وجود آيات كثيرة تبعد عن ساحته المقدّسة الظلم للعباد ، وتذمّ الظالمين ، كقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١) ، وقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٢) ، وقوله عزّ اسمه : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (٣) ، وقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٤).

فعدم هداية الله تعالى لبعض العباد المستحقين للهداية الخاصة يعدّ ظلما يتنزّه عنه سبحانه ، إذ كيف يعاقب الظالمين ويتوعدهم بالعذاب كما في الآيات المتقدّمة وهو في نفس الوقت يفعل الظلم وقد نهى عنه عزوجل.

* إذا عرفت ما ذكرنا تقف على حقيقة وهي :

إنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع ومقدور كل إنسان أن يهتدي بهداها ، ومن هنا لا يمكن لأحد أن يتشدّق ويقول : «إنّ الله ما هداني لكي التزم بأوامره ، فعند ما يهديني فسوف أفعل ما يطلبه مني» وهذا هو الشائع عند أغلب السّذج من الناس فإذا قلنا : «اتّق الله!» يجيبك على الفور «إن الله ما هداني بعد!».

إذن فالهداية الخاصة والعناية الزائدة التي يوليها الله سبحانه وتعالى لبعض العباد المخلصين الذين أفنوا أعمارهم في طاعته عزّ اسمه إنما هي نوع تسديد لهم

__________________

(١) سورة غافر : ٣١.

(٢) سورة الكهف : ٢٩.

(٣) سورة ابراهيم : ١٣.

(٤) سورة مريم : ٧٢.


ونافذة فيض عليهم ، إذ إنّ جوده وفيضه ينزل على من اتّسعت قابليته بالعلم والعمل (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١).

فالمشيئة الإلهية العامة تعلّقت بكل مكلّف ، والمشيئة الخاصة تعلّقت بصنف دون صنف ، ولم تك مشيئته جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص من البشر هو قابليته وسعة صدره كما قلنا آنفا ، لأنه قد استفاد من الهدايتين التكوينية والتشريعية ، فاستحق بذلك اللطف الزائد منه عزوجل ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٢).

* * * * *

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة فصلت : ٣٠ ـ ٣٢.


قال الملك : لا ، لا يمكن أن يجبر الله الإنسان على المعصية ثم يعاقبه ، إنّ هذا هو الظلم بعينه والله منزّه عن الظلم والفساد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران / ١٨٢) ولكن لا أظن أنّ أهل السنّة يلتزمون بمقالة العباسي؟

ثم وجّه خطابه إلى الوزير وقال :

هل أهل السنّة يلتزمون بذلك؟

قال الوزير : نعم ، المشهور(١) بين أهل السنّة ذلك!

قال الملك : كيف يقولون بما يخالف العقل؟

قال الوزير : لهم في ذلك تأويلات واستدلالات.

قال الملك : ومهما يكن من تأويل واستدلال ، فلن يعقل ولا أرى إلّا رأي السيّد العلوي : بأن الله لا يجبر أحدا على الكفر والعصيان ، ثم يعاقبه على ذلك؟

____________________________________

(١) القول بالجبر هو عقيدة جمهور العامة ، أخذوها من عمر بن الخطّاب ، حيث روي عنه أنه أول من قال بالجبر الافعالي ، يروون أن عمر خرج إلى الشام غازيا عام ١٧ للهجرة حتى إذا كان بسرغ لقيه الأمراء ، فأخبروه أن الأرض سقيمة ، فارجع بالناس فإنه بلاء وفناء.

فقال : أيها الناس إني راجع فارجعوا.

فقال له أبو عبيدة الجرّاح : أفرارا من قدر الله؟

قال : نعم ، فرارا من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له ـ


عدوتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله ، ثم قال : لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة ، فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف ، وقال : سمعت رسول الله يقول إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه ولا يخرجنّكم إلا ذلك ثم انصرف عمر وانصرفوا (١).

وروى الواقدي أيضا عن أم الحارث الأنصارية أنها رأت عمر بن الخطّاب في وقعة حنين عند ما انهزم المسلمون ، فقالت له : ما هذا؟

قال عمر : أمر الله (٢).

ولم يقتصر القول بالجبر على عمر ، بل تعدّاه إلى جماعة كمعاوية وبعض من أزواج النبي كعائشة ، فيروى أن عائشة قالت عند ما تعرّض الخوارج للإمام عليّ عليه‌السلام في النهروان : «ما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبيّ يقول : تفترق أمتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم يحفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى الله ، فقال لها قتادة : يا أمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا ، فلم كان الذي منك؟

قالت : يا قتادة (وكان أمر الله قدرا مقدورا) وللقدر أسباب ...» (٣).

ولمّا اعترض عبد الله بن عمر على معاوية عند ما نصّب ولده يزيد خليفة من بعده قال له : «إني أحذّرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم» (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ١٥٩ باختصار.

(٢) المغازي للواقدي ج ٣ / ٦٠٤.

(٣) الأوائل ج ٢ / ١٢٥.

(٤) الإمامة والسياسة ج ١ / ٢١٠.


فالقول بالجبر عند بعض الصحابة يعبّر عن المصلحة السلوكية والازدواجية الشخصية التي كان يسلكها بعض الصحابة لتبرير أفعالهم الشريرة ، فابتدعوا نصوصا حلّلوا من خلالها الحرام ، وحرّموا الحلال تحقيقا لأغراضهم وإشباعا لرغباتهم ، ويكفي في ذلك ما فعله ابن الخطّاب عمر وصاحبه من اجتهادات واستحسانات قلبت موازين الشرع المبين ، وأسوأ شاهد على ما ذكرنا ما فعلاه يوم السقيفة وغصبهما للخلافة ولنحلة سيّدة نساء العالمين واتهامهما إياها بالكذب ، وقد طهّرها الله سبحانه في محكم آية التطهير ، والدخول عليها عنوة وجهرة أمام المسلمين ، وتوهينهم لها بضربها وكسر ضلعها ، وتسويد متنها إلى ما هنالك من مخازي يخجل القلم عن سردها.

وكان الحافز لاعتقاد هؤلاء بالجبر ـ كما اعتقده مشركو الجزيرة العربية (١) ـ هو تدعيم شرورهم بمنطق الدين والأمر الإلهي لهم ، وليصبغوا الشرعية على سلطنتهم وملكهم ، ولإخماد كل ثورة تطلّ عليهم بين الحين والآخر.

ويرجع الفضل في تثبيت دعائم فكرة الجبر إلى معاوية بن أبي سفيان لتدعيم حكمهم ـ كما أسلفنا ـ فبالغوا في ترويجها حتى ألجأهم الأمر إلى قتل من يرفضها ، فيروى أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي اللذان رفضا فكرة الجبر قتلا على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي وهشام بن عبد الملك.

ثم تسلسلت فكرة الجبر إلى أن تسلّمها أبو الحسن الأشعري وقلّده فيها جمهور العامة ، لذا ينسبون إليه بالعقائد فيقال : إنهم أشعريون أصولا وأحناف أو مالكون أو حنبليون أو شافعيون فروعا.

أمّا المنكرون منهم لمسألة الجبر قليلون أمثال :

__________________

(١) كما قصّ القرآن الكريم حالهم بقوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / ٢٨) وليراجع الفوائد البهية ج ١ / ١٩٦.


أبو المعالي الجويني الشافعي المتوفى عام ٤٧٨ ه‍ ، والشيخ الشعراني المتوفى عام ٩٧٣ ه‍ ، والشيخ محمد عبده المتوفى عام ١٣٢٣ ه‍.

والجبر : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى.

الفرق الجبرية :

الجبرية على أقسام :

الأولى : خالصة في الجبرية.

الثانية : متوسطة فيها.

الثالثة : كسبية.

ـ الخالصة : هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا.

ـ والمتوسطة : هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا.

ـ والكسبية : هي التي أثبتت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل (أي أن أعمال العباد مخلوقة له تعالى وهم فاعلون لها).

وأهم فرق الجبر ثلاث :

الفرقة الأولى : «الجهمية» ـ أصحاب جهم بن صفوان ـ ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله مسلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية ، وكان المذكور يخرج بأصحابه فيوقفهم على المجذومين ويقول : انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا منه لرحمة الله تعالى كما أنكر حكمته ، وقد وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء ، من جملتها أنه لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيها ، فنفى كونه تعالى حيا عالما ، وأثبت كونه قادرا فاعلا خالقا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق.

ومن جملة ما زاد : قوله في القدرة الحادثة ، حيث رأى أن الإنسان لا يقدر


على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنّما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات .. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف كان أيضا جبرا (١).

الفرقة الثانية : «النّجارية» ـ أصحاب حسين بن محمّد النّجّار ـ قال بخلق الأعمال خيرها وشرّها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ، وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة ، ويسمى ذلك كسبا ، حسبما يثبته الأشعري (٢).

الفرقة الثالثة : «الضّرارية» ـ أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد ـ قالا : «إن أفعال العباد مخلوقة للباري حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة» (٣).

فالفرقتان الأخيرتان تقرّان بالكسب ، وحقيقة الكسب ترجع إليهما ، وتبعهما على ذلك أبو الحسن الأشعري ، لتقدّمهما على الأخير المتوفى سنة ٣٢٤ ه‍ ، ثم تبعه من أتى بعده.

وفي الواقع لا يختلف الكسب عن الجبر بشيء سوى بالاسم ، لأن حقيقة الجبر والكسب واحدة ، وهي أن العبد أداة وظرف للفعل الإلهي ولا علاقة لفعل العبد بصدور الفعل منه ، بل المصدر هو الله ، والمحل هو العبد. لذا عرّف القوشجي وهو أحد أعلام المذهب الأشعري :

«المراد بكسبه إياه ، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له» (٤).

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٨٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر ص ٩١.

(٤) شرح كشف المراد للقوشجي ص ٤٤٥ ط / قم.


يرد عليه :

أولا : إن ما ادّعاه أصحاب الكسب من أن قدرة العبد مقارنة لقدرة الرب يستدعي أن يكون وجود القدرة عند العبد وعدم وجودها سيّان ما دامت غير صالحة للتأثير ومغلوبة بقدرة الرب ، لذا قال ابن رشد :

لا فرق بين القول بالكسب وقول الجبرية إلّا باللفظ ، والاختلاف باللفظ لا يوجب الاختلاف في المعنى (١).

ثانيا : إن تحقق الفعل منه سبحانه وتعالى مقارنا لقدرة العبد لا يصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه كيف يتحمّل مسئوليته إن لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه ، وعليه ، تكون الحركات الاختيارية تماما كالحركات الجبرية.

ثالثا : دعوى الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله تعالى وهو ظلم عظيم ، لأن الاعتقاد بالمقارنة عين الشرك وخلاف التوحيد الأفعالي لله سبحانه وتعالى.

استدلال الأشاعرة على صحة الجبر :

استدلوا على ذلك بأدلة عقلية وأخرى نقلية ، ومن العجيب استدلالهم بالعقل على صحة الجبر مع اعتقادهم بالحسن والقبح العقليين بل هما شرعيان عندهم ، فما أمر به الشرع هو حسن ، وما نهى عنه فهو قبيح ولا مدخل للعقل بذلك.

ونحن هنا سنتطرق إلى أدلتهم النقلية ، لعدم الاعتداد بأدلتهم العقلية لأن من لا يؤمن بأدلة العقل على قبح الجبر كيف يستدل ـ بنفس الوقت ـ على صحته؟ أليس هذا عين التهافت والتناقض؟ ومع هذا فقد تعرّضنا لأدلتهم العقلية في غير هذا الكتاب وأبطلناها من أساسها ببركة مواليّ الكرام عليهم‌السلام فراجع (٢).

__________________

(١) الفوائد البهيّة ج ١ / ٣٢٠.

(٢) الفوائد البهيّة ج ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢٦.


الأدلة النقلية :

استدل الأشاعرة على الجبر بظواهر الآيات والروايات مع معارضتها لأدلة العقل القاضي بنفي الجبر عن ساحة المولى ، لاستلزامه الظلم الذي يجب أن ينزّه عنه عزوجل ، إذ كيف يجبرنا على الأفعال ثم يعذّبنا عليها؟

وفي باب العقائد لا بدّ للمرء من حجة يستند إليها لتفيده القطع والاطمئنان ، ولا اعتداد بظواهر الأدلة السمعية إمّا لكونها من المتشابهات التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى المحكم العقلي والنقلي ، وإمّا لعدم إفادتها القطع المذكور ، أو معارضتها للدليل القطعي ، فلا تخلو عن كونها ظنّا وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، فإذا كان كذلك فلا يمكن بل لا يجوز طرح الآيات المتشابهة التي اعتمدها القوم من أجل المصادقة المذكورة ، بل لا بدّ حينئذ من تأويلها بما يوافق العقل السليم والآيات الأخر في القرآن المجيد ، بحيث تخرج تلك الطائفة من الآيات عمّا أراده الجبريون.

من الآيات المعتمدة عندهم :

١ ـ الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١).

ومفاد الآية ـ بنظرهم ـ أنّ «ما» مصدريّة وليست اسما موصولا فيكون المعنى : الله خلقكم وأعمالكم أي «وخلق أعمالكم معكم» ومنها عبادة الأصنام وما شابهها.

لكنّ الظاهر والصحيح أنّ «ما» تعدّ اسما موصولا بلا إشكال ، وبقرينة ما قبلها كقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ف «ما» في هذه الآية موصولة ، فالمعنى : أن الله سبحانه استنكر على المشركين ووبّخهم لعبادتهم أصناما هي من

__________________

(١) سورة الصافات : ٩٦.


صنع أيديهم ، وكذا في الآية المستشهد بها فالمعنى أنه سبحانه خلقكم أيّها المشركون وخلق الأصنام التي صنعتموها بأيديكم ثم اتخذتموها أربابا من دونه تعالى.

وما استدل به الأشاعرة مخدوش لأمور :

أولا : إن قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) مرتبط بقوله تعالى : (ما تَنْحِتُونَ) فحيث إنّ «ما» في تنحتون موصولة فكذلك «ما» في الآية المذكورة أيضا موصولة ، ف «ما» في الآيتين منتظمتان ولا يصار إلى تفكيك النظم إلا بدليل قاطع وهو مفقود في البين (١).

ثانيا : الآية في صدد بيان تقريع صدر من النبيّ إبراهيم عليه‌السلام لعبدة الأوثان لما صنعوه ، فلو كان ذلك من فعله تعالى لما توجّه عليهم العيب والعتاب والتقريع ، بل كان عليهم أن يقولوا : (لم توبّخنا على عبادتنا الأصنام والله الفاعل لذلك) فتكون الحجة لهم لا عليهم!.

ثالثا : إنّ «الخلق» في أصل اللغة هو التقدير للشيء وترتيبه ، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول : إنّ الله خالق أفعالنا بمعنى أنه قدّرها للثواب والعقاب فلا تعلق للقوم على حال (٢).

٢ ـ الآية الثانية :

قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٣).

استدل أبو الحسن الأشعري (حفيد أبي موسى الأشعري) بهذه الآية على حصر خلق الأفعال به تعالى ، ونفيه عن غيره حتى على نحو الطولية أي أن الأشعري حصر الخلق والإيجاد على وجه الإطلاق به سبحانه ونفاه عن غيره بتاتا

__________________

(١) تفسير الكشاف للزمخشري ج ٤ / ٤٩.

(٢) تفسير التبيان للشيخ الطوسي ج ٨ / ٥١٤.

(٣) سورة فاطر : ٣.


بدعوى إنكار تأثير الظواهر الطبيعية بعضها ببعض ورفض مبدأ السببية والمسببيّة كما مرّ معنا سابقا.

ولكن ما ادّعاه الأشعري مردود :

أولا : بما ورد من الآيات الأخرى التي تنسب الخلق إلى غيره بإذنه تعالى كما في قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (١) ، (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٢) ، (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣).

فدلالات الآيات واضحة على نوعين من الخلق :

الأول : خلق الأجساد.

الثاني : خلق الأعمال.

فالإنسان قد يخلق الأجساد من العدم بإذنه تعالى وقدرته ، وكذا يمكنه أن يخلق أفعالا حسنة وشريرة بما أعطاه سبحانه من القدرة التي بها فعل القبيح ولكن ليس معنى ذلك أنه أمره بالقبيح ، وإنما أساء استعمالها في موردها الصحيح.

كما ويمكن للإنسان أن تصدر منه أفعال هي من مختصات الباري إلّا أنه أجازها لغيره تبعا لقدرته عزوجل أمثال الرزق والزرع الغلبة والنصر ، فإنه وإن وردت آيات في حصر هذه الأمور به تعالى لكن في مقابلها آيات تفيد إمكان الإنسان أن يزرق غيره بإذنه تعالى وأن يزرع وأن ينصر ، كل ذلك بتوسط القدرة التي حباها الله لعباده.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٤).

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٠.

(٢) سورة آل عمران : ٤٩.

(٣) سورة العنكبوت : ١٧.

(٤) سورة الذاريات : ٥٨.


هنا حصر الرازقية به تعالى دون غيره. ولكنه في آية أخرى فوّضها إلى بعض العباد بإذنه وبطول إرادته كما في قوله عزّ اسمه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١) ، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢).

وكذا حصر الزراعة به تعالى بقوله : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣) ، وفي نفس الوقت يعدّ الإنسان زارعا كما في قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٤).

ثانيا : إنّ ما استدل به الأشعري وأتباعه على صحة الجبر ونسبة إيجاد الأفعال إليه تعالى معارضة بغيرها من الآيات ، فتصرف التي ظاهرها الجبر عن ظاهرها.

وهناك أصناف من الآيات المعارضة لتلك الظاهرة في الجبر وهي :

ـ الصنف الأول : الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٥).

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (٦).

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٧).

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٨).

__________________

(١) سورة النساء : ٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٧٢.

(٣) سورة الواقعة : ٦٤.

(٤) سورة الفتح : ٢٩.

(٥) سورة البقرة : ٧٩.

(٦) سورة الأنعام : ١١٦.

(٧) سورة الرعد : ١١.

(٨) سورة يوسف : ١٨.


(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (١).

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢).

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣).

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٤).

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) (٥).

ـ الصنف الثاني : الآيات الدالة على مدح المؤمنين على إيمانهم وذمّ الكفّار على كفرهم :

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٦).

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧).

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٨).

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٩).

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠).

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١١).

__________________

(١) سورة المائدة : ٣٠.

(٢) سورة النساء : ١٢٣.

(٣) سورة المدثر : ٣٨.

(٤) سورة الطور : ٢١.

(٥) سورة ابراهيم : ٢٢.

(٦) سورة غافر : ١٧.

(٧) سورة الجاثية : ٢٨.

(٨) سورة الأنعام : ١٦٤.

(٩) سورة طه : ١٥.

(١٠) سورة النمل : ٩٠.

(١١) سورة الأنعام : ١٦٠.


(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) (١).

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) (٣).

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤).

ـ الصنف الثالث : الآيات الدالة على التهديد والتغيير :

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٥).

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٦).

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٧).

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٨).

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٩).

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (١٠).

ـ الصنف الرابع : الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١١).

__________________

(١) سورة طه : ١٢٤.

(٢) سورة البقرة : ٨٦.

(٣) سورة آل عمران : ٩٠.

(٤) سورة فصلت : ٤٦.

(٥) سورة فصلت : ٤٠.

(٦) سورة الكهف : ٢٩.

(٧) سورة المدثر : ٣٧.

(٨) سورة المدثر : ٥٥.

(٩) سورة الإنسان : ٢٩.

(١٠) سورة النبأ : ٣٩.

(١١) سورة آل عمران : ١٣٣.


(أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (١).

(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٢).

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٣).

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٤).

ـ الصنف الخامس : الآيات الحاثّة والمشجعة على الاستعانة به تعالى :

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٥).

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٦).

ـ الصنف السادس : الآيات الدالة على استغفار الأنبياء من تركهم الأولى :

(رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٧) إشارة إلى آدم وحواء عليهما‌السلام.

(سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨) إشارة إلى النبي يونس عليه‌السلام.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٩) إشارة إلى النبيّ موسى عليه‌السلام.

ـ الصنف السابع : الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم :

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٣١.

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

(٣) سورة الزمر : ٥٥.

(٤) سورة الزمر : ٥٤.

(٥) سورة النحل : ٩٨.

(٦) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٧) سورة الأعراف : ٢٣.

(٨) سورة الأنبياء : ٨٧.

(٩) سورة القصص : ١٦.


(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (١).

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٢).

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) (٣).

ـ الصنف الثامن : الآيات الدالة على تحسّر الكافرين وندامتهم على المعصية :

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٤).

(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) (٥).

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات العديدة المعارضة لما ذكروه ، على أنّ ما قالوه دونه خرط القتاد لا يصلح أن يعتبر دليلا ، فالحق ما قاله الإمامية وتبعهم المعتزلة من أنّ التكليف يتمّ بإضافة الأفعال إلينا.

__________________

(١) سورة سبأ : ٣١.

(٢) سورة المدثر : ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) سورة الملك : ٨.

(٤) سورة فاطر : ٣٧.

(٥) سورة المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٦) سورة السجدة : ١٢.


قال العلوي :

ثم إنّ السنّة يقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شاكّا في نبوته.

قال العبّاسي : هذا كذب صريح.

قال العلوي : ألستم تروون في كتبكم أن رسول الله قال : «ما أبطأ عليّ جبرائيل مرة إلّا ظننت أنه نزل على ابن الخطّاب» مع العلم أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الله أخذ الميثاق من النبيّ محمّد على نبوّته؟ (١).

____________________________________

(١) من الآيات التي دلت على أخذ الميثاق من الأنبياء على نبوة سيّد المرسلين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١).

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢).

وقد روى ابن أبي الحديد بابا خاصا في فضائل عمر ، فقال :

«أما الحديث الوارد في فضل عمر ، فمنه ما هو مذكور في الصحاح ، ومنه ما هو غير مذكور فيها. فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك ما روت عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال : «كان في الأمم محدّثون ، فإن يكن في أمّتي فعمر» أخرجاه في الصحيحين.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨١.

(٢) سورة الأحزاب : ٧.


وروى سعد بن أبي وقاص ، قال : استأذن عمر على رسول الله ، وعنده نساء من قريش يكلّمنه ، عالية أصواتهن ، فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب ، فدخل رسول الله يضحك ، قال : أضحك الله سنّك يا رسول الله! قال : عجبت من هؤلاء اللواتي كنّ عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر : أنت أحقّ أن يهبن ، ثم قال : أي عدوات أنفسهنّ ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن : نعم ، أنت أغلظ وأفظّ ، فقال رسول الله : «والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قطّ سالكا فجّا إلا سلك فجّا غير فجك». أخرجاه في الصحيحين.

وقد روى في فضله من غير الصحاح أحاديث :

منها : «إنّ السكينة لتنطق على لسان عمر».

ومنها : «إنّ الله تعالى ضرب بالحقّ على لسان عمر وقلبه».

ومنها : «إنّ بين عيني عمر ملكا يسدّده ويوفّقه».

ومنها : «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر».

ومنها : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر».

ومنها : «لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر».

ومنها : «ما أبطأ عني جبرائيل إلا ظننت أنه بعث إلى عمر».

ومنها : «سراج أهل الجنّة عمر».

ومنها : أن شاعرا أنشد النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم شعرا ، فدخل عمر فأشار النبيّ إلى الشاعر أن اسكت ، فلما خرج عمر ، قال له : عد فعاد ، فدخل عمر فأشار النبيّ بالسّكون مرة ثانية ، فلمّا خرج عمر سأل الشاعر رسول الله عن الرجل ، فقال : «هذا عمر بن الخطاب ، وهو رجل لا يحبّ الباطل».

ومنها : أن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] قال : «وزنت بأمتي فرجحت ، ووزن أبو بكر بها فرجح ، ووزن عمر بها فرجح ، ثم رجح ، ثم رجح».


وقد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا ، ولكنا ذكرنا الأشهر (١).

وروى مسلم أيضا بعض ما يسمى بفضائل عمر بن الخطّاب في كتاب فضائل الصحابة فقال :

إن أبا سعد قال : استأذن عمر على رسول الله وعند نساء من قريش يكلّمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهن ، فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله ، ورسول الله يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنّك يا رسول الله! فقال رسول الله : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر : فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن ، ثم قال عمر : أي عدوّات أنفسهنّ ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن : نعم ، أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله ، قال رسول الله : «والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قطّ سالكا فجّا إلا سلك فجّا غير فجك» (٢).

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم تعقيبا على الخبر المذكور :

«هذا الحديث محمول على ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكا فجّا هرب هيبة من عمر وفارق ذلك الفجّ ، وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل به شيئا ، قال القاضي : ويحتمل أن ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد خلاف ما يأمر به الشيطان ، والصحيح الأول» (٣).

انظر أخي القارئ إلى هذه الترّهات ، فهل يعقل أن يهرب الشيطان من الإنسان؟ ولو كان صحيحا لم لم يهرب من أبينا آدم عليه‌السلام عند ما حاوره في الجنّة البرزخية؟! ولو كان عمر بهذه المنقبة لم لم يهرب منه عند ما اعترض على النبيّ لمّا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٣ حديث رقم ٢٣٩٦ وصحيح البخاري ج ٤ / ٤٣٦ حديث رقم ٣٢٩٤.

(٣) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٤.


أراد أن يصلّي على عبد الله بن أبي سلول (١) أو عند ما اعترض على النبيّ لمّا عقد الصلح مع المشركين؟!

ولما ذا خاف وهو على فراش الموت من العذاب ، روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال : «لما طعن عمر جعل يألم ، فقال له ابن عبّاس ـ وكأنه يجزّعه ـ يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك ، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون ، قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منّ من الله تعالى منّ به عليّ ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله جلّ ذكره منّ به عليّ ، وأمّا ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عزوجل قبل أن أراه» (٢).

ليت شعري إذا كان عمر بهذا المستوى من رضا رسول الله عليه فلم الجزع حينئذ؟! وهل يجزع من كان النبيّ ناصره ومعينه والمسدّد له؟!

وهل يجزع عمر على صحابة النبيّ وعلى ابن عبّاس الذين أخبر عنهم الرسول أنهم سيرتدون على أدبارهم القهقرى ويضرب بعضهم رقاب بعض ويلعن بعضهم بعضا؟!

وهل أن الجزع على أمة رسول الله محمّد تستلزم ـ بنظر عمر ـ أن لو قدر

__________________

(١) تروي القصة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول جاء النبيّ يسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول الله ليصلّي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ، وقال : يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه؟ فقال النبيّ : إنما خيرني الله فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وسأزيد على السبعين ، قال : إنه منافق. صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٦ حديث رقم ٢٤٠٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٦٩ حديث رقم ٣٦٩٢.


على أن يفتدي طلاع الأرض ذهبا حرصا على أن لا يعذّبه الله تعالى؟! وهل الخوف على الصحابة جزاؤه عند الله تعالى أن يدخل عمر النار؟! أم أنه يخاف النار لأنه اعتدى على الحرمات وغيّر وبدّل بشريعة النبيّ وفعل ما فعل بوصي رسول الله ، وكسّر ما كسّر من أضلاع بضعته الطاهرة فاطمة البتول وقرة عينه ومهجة كبده وتفاحة الفردوس ، وأمّ المصطفى وحبيبة المرتضى؟!! هيهات أن ينجو بما فعل ، قال تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (١).

وكيف لا يزال الشيطان يسلك فجّا غير فجّه ، وقد فرّ فرارا من الزحف في أحد وحنين وخيبر ، والفرار من الزحف من عمل الشيطان وإحدى الكبائر الموبقة! وكيف يدّعى له أن السكينة تنطق على لسانه! أترى كانت السكينة تلاحي رسول الله يوم الحديبية حتى أغضبه؟!

ولو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده ويوفّقه ، أو ضرب الله بالحق على لسانه وقلبه ، لكان نظيرا لرسول الله بل لكان أفضل منه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤدي الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة ، وعمر قد كان ينطق على لسانه ملك ، بل كان هناك ملك آخر بين عينيه يسدّده ويوفقه ، فالملك الثاني مما قد فضّل به على رسول الله ، وقد كان حكم في أشياء فأخطأ فيها حتى فهّمه إياها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، حتى قال : لو لا عليّ لهلك عمر ، وكان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عبّاس : غص يا غوّاص (٢) ، فيفرج عنه ، فأين كان الملك الثاني المسدّد له! وأين الحق الذي ضرب به على لسان عمر؟ ومعلوم أن رسول الله كان ينتظر في الوقائع نزول الوحي ، وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه ، لأن الملكين معه في كل وقت وكل حال ، ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه يسدّده ويوفقه ، وقد عزّزا بثالث وهي السكينة ، فهو إذا أفضل من رسول الله!!

__________________

(١) سورة ص : ٣.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٠٨.


ويلزم من الحديث الملفّق على رسول الله «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر» أن يكون الرسول عذابا على عمر ، وأذى شديدا له ، لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيّا ورسولا ، ولم تعلم رتبة أجلّ من رتبة الرسالة إلّا الإمامة المطلقة ، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة ، ينبغي ألّا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه!

ومقتضى كونه «سراجا لأهل الجنّة» أنه لو لم يكن تجلّى عمر لكانت الجنّة مظلمة لا سراج لها. وكيف يجوز أن يقال : لو نزل العذاب لم ينج منه إلّا عمر ، والله تعالى يقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

وكيف يجوز أن يقال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسمع الباطل ويحبّه ويشهده ، وعمر لا يسمع الباطل ولا يشهده ولا يحبه ، أليس هذا تنزيها لعمر عمّا لم ينزّه عنه رسول الله؟!

ولو كان محدّثا وملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام ، ولكان الله تعالى قد ألهمه وحدّثه بما يواقع من القبائح والمنكرات والبغي والتغلب على الخلافة ، والاستئثار بمال الفيء ، وغير ذلك من المعاصي الظاهرة!

وقد ذبّ (٢) ابن أبي الحديد عمّا نسب إلى عمر من فضائل ، فقال :

«إنه ليس يجب فيما كان محدّثا ملهما أن يكون محدّثا ملهما في كل شيء بل الاعتبار بأكثر أفعاله وظنونه وآرائه ، ولقد كان عمر كثير التوفيق ، مصيب الرأي في جمهور أمره ، ومن تأمّل سيرته علم صحة ذلك ، ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنّه في القليل من الأمور».

يرد عليه :

١ ـ إذا كان الإلهام بأكثر أفعاله وظنونه فلم اعترض على رسول الله في كثير

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٣.

(٢) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.


من الأحكام ثم نعته بالهجر على فراش الموت ثم ما صدر منه من تغيير الأحكام لأعظم شاهد على أن خذلانه أكثر من توفيقه حسبما يدّعي ابن أبي الحديد ، فدعواه مصادرة على المطلوب.

٢ ـ دعوى أنه كان كثير التوفيق تكذّبها سيرة عمر برجوعه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ـ حسبما نص ابن أبي الحديد نفسه في شرحه الجزء الأول ولكنه في الجزء الثاني عشر نسي ما ذكره في الأول وما أنساه إلا الشيطان أن يذكره ـ قال في الجزء الأول : «وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر ، وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عبّاس ، وكلاهما أخذ عن عليّ عليه‌السلام ، أمّا ابن عبّاس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة «لو لا عليّ لهلك عمر» وقوله «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» وقوله «لا يفتين أحد في المسجد وعليّ حاضر ..» (١).

فمن كان كثير التوفيق لا يحتاج في أكثر مسائله إلى غيره ، فما ادّعاه ذاك المعتزلي الناصبيّ دونه خرط القتاد.

وقال أيضا :

«وأما الفرار من الزحف فإنه لم يفرّ إلا متحيّزا إلى فئة ، وقد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الإثم» (٢).

يرد عليه :

إن التحيّز إلى فئة إنما يكون مستثنى من الإثم إذا حصل مرة لا في كل مرة لا سيّما في المعارك العظمى كأحد وحنين وخيبر ، هذا مضافا أن التحيّز يكون جائزا إذا كان بأمر النبيّ لا أن يترك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معرّضا للقتل ليس معه أحد سوى أمير المؤمنين

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ٢٣ ، ط / الأعلمي.

(٢) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.


وبعض المخلصين من الصحابة ، هذا مع التأكيد على أنه لم لم يحصل التحيّز إلى فئة لبقية من ثبت مع رسول الله في أغلب المعارك؟!

وقال :

«وأما باقي الأخبار فالمراد بالملك فيها الإخبار عن صحة ظنه ، وصدق فراسته وهو كلام يجري مجرى المثل ، فلا يقدح فيه ما ذكروه» (١).

يرد عليه :

١ ـ ما أوردنا عليه آنفا ، مضافا إلى أن ما ادّعاه خلاف المتبادر من كلمة «ملك» والتبادر علامة الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلّا بقرينة صارفة وهي غير موجودة.

٢ ـ ولو سلّمنا بما قاله المذكور ، فلم احتاج إلى غيره ما دام يملك صدق الفراسة وصحة الظن؟

وقال : «وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر» فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر ، فإن عمر لم يشر عليه ونهاه عنه ، فأنزل الله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢) وإذا كان القرآن قد نطق بذلك وشهد ، لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر» (٣).

يرد عليه :

إن الحديث مناهض لما روي أن الحق يدور مع أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الذي قال عنه النبيّ أيضا «أقضاكم علي» وقد اعترف (٤) به ابن أبي الحديد فكيف

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.

(٢) سورة الأنفال : ٦٨.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٠.

(٤) قال ابن أبي الحديد : «وقد روت العامة والخاصة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقضاكم عليّ» لاحظ شرح النهج ج ١ / ٢٣.


غفل عنه أيضا؟!

فكيف يعمّ العذاب على المسلمين آنذاك وفيهم (عدا عن رسول الله) مولى الثّقلين وسفينة النجاة وباب حطة المرتضى عليّ عليه‌السلام؟!!

فأين الصدّيق أبو بكر ـ كما يزعمون ـ وذو النورين عثمان ، أليسوا ممن يؤمن بهم من العذاب؟

وقال أيضا :

«وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سراح أهل الجنّة عمر» فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنّة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر ، أي يستضيئون بعلمه ، كما يستضاء بالسراج»(١).

يرد عليه :

إن الأولى بهذا اللقب هو الإمام عليّ عليه‌السلام الذي كان يرجع إليه عمر بن الخطّاب نفسه ، فكيف يكون سراجا لغيره وفي نفس الوقت كان فقيرا إلى غيره (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٠.

(٢) سورة يونس : ٣٥.


قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ : هل صحيح ما يقوله العلوي من أن هذا الحديث موجود في كتب السنّة؟

قال الوزير : نعم يوجد في بعض الكتب (١).

قال الملك : هذا هو الكفر بعينه.

قال العلوي : ثم إن السنّة ينقلون في كتبهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحمل عائشة على كتفيه لتتفرّج على المطبّلين (٢) والمزمّرين ، فهل هذا يليق بمقام رسول الله ومكانته؟

قال العبّاسي : إنه لا يضر.

قال العلوي : وهل أنت تفعل هذا ، وأنت رجل عادي ، هل تحمل زوجتك على كتفك للتفرّج إلى الطبّالين؟!

قال الملك : إنّ من له أدنى حياء وغيرة لا يرضى بهذا فكيف برسول الله وهو مثال الحياء والغيرة والإيمان. فهل صحيح أن هذا موجود في كتب أهل السنّة؟

قال الوزير : نعم موجود في بعض الكتب! (٣).

____________________________________

(١) ذكر ذلك ابن أبي الحديد ـ كما قدمنا لك آنفا ـ وادّعى أن ذلك في الصحاح مشهور.

(٢) الطبل : آلة يشدّ عليها الجلد ونحوه ، ينقر عليه ، والطبّال : صاحب الطبل وفعله التطبيل.

(٣) أخرج البخاري عن عروة عن عائشة قالت : دخل عليّ رسول الله وعندي


جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبيّ! فأقبل عليه رسول الله فقال : «دعهما». فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب السودان بالدّرق والحراب ، فإمّا سألت النبيّ وإمّا قال : تشتهين تنظرين فقلت ؛ نعم ، فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ، حتى إذا مللت قال : حسبك؟ قلت : نعم ، قال : فاذهبي (١).

وأخرج البخاري أيضا عن عائشة قالت :

رأيت النبيّ يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم ـ أي أبو بكر ـ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «دعهم. أمنا بني أرفدة» يعني من الأمن (٢).

وعن عروة عن عائشة قالت :

إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدفّفان وتضربان ـ والنبيّ متغش بثوبه ـ فانتهرهما أبو بكر ، فكسف النبيّ عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد ، وتلك الأيام أيام منى» (٣).

وأخرج عن عروة عن عائشة أنها قالت :

رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم فأقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، الحريصة على اللهو (٤).

وعن عائشة قالت :

سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم ، وهم يلعبون في يوم عاشوراء ، فقال لي رسول الله: أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ / ٢٨٧ حديث رقم ٩٤٨.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٢٩٩ حديث رقم ٩٨٨.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢٩٩ حديث رقم ٩٨٧.

(٤) صحيح البخاري مشكول ج ٣ / ٣٦٦ ومسند أحمد ج ٦ / ٣٧٠.


قلت : نعم ، فأرسل إليهم فجاءوا وقام رسول الله فوضع كفّه على الباب ، ومدّ يده ، ووضعت ذقني على يده ، وجعلوا يلعبون ، وأنظر ، وجعل رسول الله يقول : حسبك ، وأقول : اسكت مرتين أو ثلاثا ثم قال :

يا عائشة حسبك ، فقلت : نعم ، فأشار إليهم فانصرفوا (١).

وأخرج عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ، قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله؟

وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله : يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا (٢).

وأخرج الغزالي عن عائشة أنها قالت :

قال النبيّ لي يوما : أتحبين أن تنظري إلى زفن (٣) الحبشة» (٤).

وأخرج أحمد عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات ، فكان النبيّ يأتي بصواحبي يلعبن معي (٥).

كما روى الغزالي أيضا أنه دفعت إحداهنّ في صدر رسول الله فزبرتها أمّها فقال عليه‌السلام : دعيها فإنهنّ يصنعن أكثر من ذلك».

وجرى بينه وبين عائشة كلام ، حتى أدخلا بينهما أبا بكر حكما واستشهده ،

__________________

(١) إحياء علوم الدين ج ٤ / ١٣٧ طبعة لجنة الثقافة الإسلامية بمصر عام ١٣٥٦ ه‍ ، ومحاسن التأويل ج ٣ / ٧٥ ط / مصر / محمد جمال الدين القاسمي.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٢٨٨ حديث رقم ٩٥٢ ، وصحيح مسلم ج ٦ / ١٥٩ حديث رقم ٨٩٢.

(٣) الزفن : هو الرقص والضرب بالأرجل.

(٤) إحياء علوم الدين ج ٦ / ١٩٧ ط / لجنة الثقافة الإسلامية بمصر.

(٥) مسند أحمد ج ٦ / ٢٣٣.


فقال لها رسول الله : «تكلّمين أو أتكلم» فقالت : بل تكلّم أنت ، ولا تقل إلا حقا ، فلطمها أبو بكر حتى دمى فوها وقال : يا عدّية نفسها أو يقول غير الحق؟! فاستجارت برسول الله وقعدت خلف ظهره ، فقال له النبيّ : «لم ندعك لهذا ، ولا أردنا منك هذا».

وقالت له مرة في كلام غضبت عنده :

أنت الذي تزعم أنك نبيّ الله ، فتبسم رسول الله واحتمل ذلك حلما وكرما (١).

وأخرج أحمد بن حنبل عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

خرجت مع النبيّ في بعض أسفاره ، وأنا جارية لم أحمل اللّحم ، ولم أبدن ، فقال للناس تقدّموا ، فتقدّموا ثم قال لي تعالي أسابقك ، فسابقته فسبقته فسكت عني ، وحتى إذا حملت اللحم وبدنت ، ونسيت ، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدّموا فتقدّموا ، ثم قال تعالي حتى أسابقك فسابقته ، فسبقني فجعل يضحك وهو يقول : هذه بتلك (٢).

وأخرج أحمد عن السائب بن يزيد : أن امرأة جاءت إلى رسول الله ، فقال : يا عائشة أتعرفين هذه؟

قالت : لا يا نبيّ الله ، فقال : هذه قينة بني فلان ، تحبين أن تغنيك؟

قالت : نعم ، قال : فأعطاها طبقا فغنّتها ، فقال النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نفخ الشيطان في منخريها (٣).

وأخرج عن عائشة :

__________________

(١) إحياء علوم الدين ج ٤ / ١٣٦.

(٢) مسند أحمد ج ٦ / ٢٦٤ ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بسند صحيح.

(٣) مسند أحمد ج ٣ / ٤٤٩.


أن الحبشة لعبوا لرسول الله فدعاني ، فنظرت من فوق منكبه حتى شبعت (١).

وروى مسلم العديد من هذه الأحاديث في باب الرخصة في اللعب أيام العيد ، أذكرها بتمامها :

روى عن عروة ، عن عائشة : أن أبا بكر دخل عليها ، وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان ، ورسول الله مسجّى بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف رسول الله عنه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد ، وقالت : رأيت رسول الله يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ، وأنا جارية ، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السنّ (٢).

وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : والله! لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي ، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ، يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقوم من أجلي ، حتى أكون أنا التي انصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، حريصة على اللهو (٣).

وعن عروة عن عائشة قالت : دخل رسول الله وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمار الشيطان عند رسول الله! فأقبل عليه رسول الله فقال : «دعهما ...» (٤).

وعن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

جاء حبش يزفنون ـ أي يرقصون ـ في يوم عيد في المسجد ، فدعاني النبي فوضعت رأسي على منكبه ، فجعلت أنظر إلى لعبهم ، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٦ / ٢٣٣.

(٢) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦٠ ح ١٧ هامش حديث ٨٩٢.

(٣) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦١ ح ١٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦١ ح ١٩ وقد تقدم عن بعض المصادر أيضا.

(٥) نفس المصدر ح ٢٠.


وعن عطاء قال : أخبرني عبيد بن عمير قال : أخبرتني عائشة أنها قالت للعابين : وددت أني أراهم ، قالت : فقام رسول الله وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه وهم يلعبون في المسجد (١).

وعن ابن المسيّب عن أبي هريرة قال :

بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله بحرابهم ، إذ دخل عمر بن الخطاب ، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ، فقال له رسول الله «دعهم يا عمر» (٢).

هكذا ينظر كبار علماء العامة إلى رسول الله ، أنه ـ عندهم ـ رجل هزيل يلعب مع الجواري لأن زوجته جارية آنذاك ليرضيها ، بل يحملها على عاتقه لتنظر إلى لعب السودان وخده على خدها ، حتى أنه كان يسابقها فتسبقه مرة ، ويسبقها أخرى ، ولم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليه الخطأ في الرأي لما استشار أصحابه بالأسرى يوم بدر ، فيبدي رأيا ثم تنزل الآيات مصوبة لرأي غيره ، فيقعد ليبكي وينوح على ما فرط منه (٣) ، إلى غير ذلك من المخازي والمآسي التي يتنزّه عنها المؤمن العادي ، فكيف بسيّد الخلق رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النموذج الفذ لإرادة الله تعالى على الأرض ، إنه أبو القاسم الذي قال عنه الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

فإعطاء تلك الصورة القاتمة عن نبيّ الإسلام المعظّم والقدوة والأسوة الحسنة لهو الخيانة العظمى للتاريخ وللأمة وللإنسانية جمعاء.

__________________

(١) نفس المصدر ح ٢١.

(٢) نفس المصدر ح ٢٢.

(٣) ذكرها عامة مفسري العامّة في سورة الأنفال آية ٦٨.


قال الملك : فكيف نؤمن بنبيّ يشك في نبوته؟

قال العبّاسي : لا بدّ من تأويل هذه الرواية!

قال العلوي : وهل تصلح هذه الرواية للتأويل؟

أعرفت أيّها الملك : إنّ أهل السنّة يعتقدون بهذه الخرافات والأباطيل والخزعبلات؟!

قال العبّاسي :

وأي أباطيل وخرافات تقصد؟

قال العلوي : لقد بيّنت لك أنكم تقولون :

(١) ـ إن الله كالإنسان له يد ورجل وحركة وسكون.

(٢) ـ إن القرآن محرّف فيه زيادة ونقصان.

(٣) ـ إن الرسول يفعل ما لا يفعله حتى الناس العاديون من حمل عائشة على كتفه.

(٤) ـ إن الرسول كان يشك في نبوته.

٥ ـ إن الذين جاءوا إلى الحكم قبل «الإمام» عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام استندوا إلى السيف والقوة في إثبات أنفسهم ولا شرعيّة لهم.

٦ ـ إن كتبهم ـ أي كتب العامة ـ تروي عن أبي هريرة وأمثاله من الوضّاعين والدجالين ، إلى غير ذلك من الأباطيل.

قال الملك : دعوا هذا الموضوع وانتقلوا إلى موضوع آخر.


قال العلوي : ثم إن السّنّة ينسبون إلى رسول الله ما لا يجوز حتى على الإنسان العادي.

قال العبّاسي : مثل ما ذا؟

قال العلوي : مثل أنهم يقولون : إن سورة «عبس وتولّى» نزلت (١) في شأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

____________________________________

(١) هل صحيح أن السورة نزلت في حق النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهل تصدّق ـ أخي القارئ ـ أن النبيّ عليه وآله السلام عبس بوجه ذاك البائس الفقير الذي جاء إلى رسول الله يسأله عن معالم دينه؟

بل نترقى أكثر ، هل بإمكانك أن تفعل ذلك بوجه مؤمن فقير جاءك يطلب حاجة وعندك أناس أثرياء؟

أسئلة تطرح على كل ذي فكر نيّر وضمير حيّ وقلب سليم فلا يصدّق أن النبيّ صاحب الخلق العظم عبس في وجه رجل فقير من أجل أراذل من المشركين ، لكن هناك الكثير من علماء العامة اعتقدوا أن سورة «عبس» نزلت في الرسول.

قال فخر الدين الرازي ـ وهو من أكابر علماء العامة ـ :

«أجمع المفسرون (١) على أن الذي عبس وتولّى هو الرسول ، وأجمعوا على أن الأعمى هو ابن مكتوم عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعبّاس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) اقرئني وعلمني مما علمك الله ،

__________________

(١) يقصد مفسري العامة وإلا فالمسألة مورد اتفاق عند الإمامية من أن العابس هو رجل من بني أمية.


وكرّر ذلك ، فكره رسول الله قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله يكرمه ، ويقول إذا رآه «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين» (١).

وفي لفظ آخر : «وجعل يناديه ويكرر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس رسول الله وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ...» (٢).

ولنا ملاحظات هي ما يلي :

١ ـ إنّ تلكم المرويات ضعيفة الأسانيد ، وأخبار آحاد لا يعوّل عليها ، ولا توجب علما ولا عملا ، فقد رواها أنس بن مالك وعائشة وابن عبّاس ، وهؤلاء لم يدرك أحد منهم القضية أصلا ، لأنه إمّا كان حينها طفلا أو لم يكن ولد بعد ..

٢ ـ اضطراب نصوصها ، بحيث لم يتفق راو مع الآخر بشأن الحاضرين عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى ابن كثير عن عائشة في رواية أنه كان عنده رجل من عظماء المشركين ، وفي رواية أخرى عنها : عتبة وشيبة. كما روى ابن عبّاس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يناجي عتبة وعمّه العبّاس وأبا جهل ، وفي رواية ابن عباس في تفسيره أنهم : العباس ، وأمية بن خلف ، وصفوان بن أمية. وعن مجاهد : صنديد من صناديد قريش ، وفي رواية أخرى عنه : عتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف.

.. هذا بالغضّ عن تناقض دلالاتها مع بعضها البعض في ذلك ، وفي نقل ما جرى ، وفي نصّ كلام الرسول وكلام ابن أم مكتوم.

٣ ـ إن ظاهر الآيات المدّعى نزولها في النبيّ هو أن العابس كان من عادته

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٣١ / ٥٤.

(٢) أسباب النزول ص ٣٦٥ للواحدي ، وفي لفظ روح المعاني ج ١٦ / ٦٨ : «ولم يعلم تشاغله بالقوم».


وسجيّته وطبعه أن يتصدّى للغنيّ ولو كان كافرا دون المؤمن الفقير ، غير مبال به حتى لو أراد أن يتزكّى ، ونحن نعلم أنّ هذا لم يكن من صفات وسجايا النبيّ ولا من طبعه وخلقه! ..

هذا مضافا إلى أن العبوس في وجه الفقراء والإعراض عنهم لم يكن من صفاته حتى مع أعدائه ، فكيف بالمؤمنين من أصحابه وأودّائه وقد وصفه الله تعالى بأنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

فسياق الآيات المعاتبة لا يليق بمنصب النبوّة ، لا سيّما وأنّ لسان هذه الآيات هو الذمّ والتوبيخ لمن يترفّع على الفقراء ويتواضع لأصحاب الجاه والثراء ، وهذه صفات يتنزّه عنها المؤمن العادي فكيف بنبيّ الله محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي بعث رحمة للعالمين (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢) ولم يعهد من أخلاقه الرفيعة أن ينزع يده من يد مصافحه حتى ينزعها الآخر ، وكان حياؤه أشدّ من حياء المرأة ، وكان من صفاته قبل النبوّة وبعدها معاهدته ومجالسته للفقراء والمساكين وكان أكثر الناس تبسّما في وجوه أصحابه إلى ما هنالك من صفات جميلة ساءت أهل الشرف والجاه حتى طالبه الملأ من قريش بأن يبعد هؤلاء عنه ليتبعوه ، وقد أشار عليه بعضهم بطردهم فنزل قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(٣).

فمن كانت هذه صفاته ، فهل يتصوّر أن يقطّب ويعبس في وجه أعمى جاءه طالبا معرفة الحلال والحرام؟ ..

وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم ، والإقبال على جماعة مترفين سيّما أمثال هؤلاء الذين ذكروا في الرواية.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٨.

(٢) سورة الأنبياء : ١٠٧.

(٣) سورة الأنعام : ٥٢.


هذا مضافا إلى أنّ العبوس في وجه ضرير لا يبصر ما حوله خلاف الحكمة ، لأن الضرير هذا ما رأى عبوس العابس وتقطيبه ، فلا يخلو الأمر حينئذ من شيئين :

ـ إمّا أن يكون عبوس النبيّ بوجه ذاك الضرير لحكمة راجعة إليه ، وهي منتفية هنا لانعدام الرؤيا عند الضرير ، فلا يترتب على عبوس النبيّ له أي فائدة تذكر.

ـ وإمّا أن يكون عبوسه بوجه الضرير ما هو إلا حالة طيش وخفّة عقل لا يمكن أن تصدر من النبيّ ، هذا بالإضافة إلى أنه يجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتروّى ويتصف بالحلم والأناة لكونه أسوة حسنة للأنام.

٤ ـ إنّ الله تعالى مدح نبيّه بأفضل الصفات فقال عزّ اسمه في سورة القلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) ؛ وقد نزلت هذه السورة قبل سورة عبس وتولّى ، فإذا كان كذلك ، فكيف يصدر عنه هذا الأمر المشين ، والموجب لعتاب رب العالمين ، فهل كان الله (حاشاه عزّ اسمه) جاهلا بحقيقة أخلاق نبيّه؟!! أم أنّ نبيّه لم يعمل بما أمره به سبحانه من قبل ، وقد أخذ عليه الميثاق بالعلم والعمل ، فصدور ما ينافي الخلق الكريم خلاف ميثاق ربّ العالمين ، هذا مضافا إلى أنه تعالى خاطبه وأراد غيره بقوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٢) ، والعبوس والتولّي عن المؤمن الفقير من أبرز مصاديق الفظاظة والغلظة وقد تنزّه عنها الأنبياء والأوصياء والدعاة إلى الله لأنهما من المنفّرات التي تخلّ بفائدة البعثة والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، هذا مع أنه لم يعهد من نبيّ مطلقا أن صدر منه مثل ما صدر من النبي بحسب زعمهم.

والآية ١٥٩ من آل عمران وإن كانت مدنية إلّا أنها تعكس عن الحالة التي كان عليها رسول الله مذ كان يافعا إلى آخر حياته ، لقد كان وجه الحق ، والمرآة

__________________

(١) سورة القلم : ٤ «مكيّة».

(٢) سورة آل عمران : ١٥٩ «مدنيّة».


التي تنعكس عليها أشعة الحق سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها ، لقد نفى عزوجل عن نبيّه الرحيم الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه لا سيّما عن المؤمنين الأتقياء المبصرين فكيف بابن أم مكتوم حيث حرم من نعمة البصر ، فإن الأولى أن يقف النبيّ منه موقف اللين والشفقة والرحمة بحيث لا يساويه بأحد من المبصرين رأفة به وتطييبا لخاطره.

قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة :

«وفي هذه الآية دلالة على اختصاص نبيّنا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومن عجيب أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم ، وهذه كلها من دواعي الترفع ، ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك ويجلس في الأرض ويأكل عليها ، وكان يدعو إلى الله من غير زئر ولا كهر ولا زجر ، ولقد أحسن من مدحه في قوله :

فما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبرّ وأوفى ذمّة من محمّد

وفي الآية دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبّه على أنه لو لا رحمته لم يقع اللين والتواضع ، ولو لم يكن كذلك لما أجابوه ، فبيّن أن الأمور المنفرة منفية عنه وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق ..» (١).

والتعبير ب «ولو كنت فظا» لدلالة قطعية على عدم اتصافه بما لصقه القوم به حيث تفيد الجملة المذكورة التعليق على الشرط المستحيل تحققه في شخصية من جعله الله رحمة للعالمين ، كما أن ضمير «كنت» لإشارة واضحة إلى ما ذكرنا فتأمّل.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٢ / ٣٢٩ ط / دار الكتب العلمية.


٥ ـ إنّ ما صدر من التوبيخ بقوله تعالى : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) لا يناسب عمومية رسالته وكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوثا للتزكية والأخلاق الفاضلة ، وقد انحصرت مهمّته بتزكية الناس وتعليمهم مكارم الأخلاق ، قال صلوات الله تعالى عليه وآله : «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». وهل من المكارم أن يعبس في وجه مؤمن فقير؟! وهل العبوس من التزكية الإلهية لنبيّه الكريم؟! ألم يقل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

٦ ـ إنّ المرويات الدالة على عبوسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبار آحاد لم ترو في مصادر الشيعة ، ومعلوم عند عامة فقهاء الشيعة أنهم لا يعوّلون على الخبر الواحد في باب الاعتقادات .. هذا مضافا إلى أنّ هذه الأخبار تصادم حكم العقل باستحالة صدور القبيح عن الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ولا سيّما في التبليغ. فصدور الخطأ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد القصّة يعدّ خطأ في التبليغ ، وقد أجمعت الأمة على خلافه سوى بعض الأشاعرة ، فالتمسّك بقصّة لم يثبت صحّتها مع مخالفتها لما ذكرنا لا يكون دليلا على المدّعى ، هذا مضافا لمخالفتها قوله تعالى في سورة الشعراء : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) التي نزلت في بدء الدعوة النبوية العام الثالث من البعثة ، ونزلت قبل سورة عبس بسنتين ؛ فعلى هذا كيف يتصوّر عاقل العبوس منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإعراض عن المؤمنين ومخالفة أوامر الله التي حثّته على احترام المؤمنين وخفض الجناح لهم ، فهل نسي النبيّ أوامر ربه وأنه مأمور بخفض الجناح لمن اتّبعه؟! وإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نسي ذلك فما الذي يؤمننا من أن لا يكون قد نسي غير ذلك أيضا؟! وإذا لم يكن قد نسي ، فلما ذا تعمّد أن يعصي هذا الأمر الصريح؟!.

٧ ـ إنّ أيّ خبر إذا صادم الظاهر القرآني (كموردنا هذا) يطرح في حال لم

__________________

(١) سورة الجمعة : ٢ «مدنيّة».

(٢) سورة الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥ «مكيّة».


يتوافق مع ذاك الظاهر القرآني حيث لا يمكننا تأويل الظاهر. وهنا لا يمكننا تأويل عبوسه مع مخالفته لقانون الرحمة ، ودعوى أنه كان يرجو بإسلام صناديد قريش إسلام غيرهم مردودة لأنه بفعله ذاك لم يدخل أحد منهم ولا غيرهم في الإسلام نتيجة ما فعله بابن أم مكتوم ، هذا مع أنّ العبوس في وجه الضرير لا يترتب عليه فائدة تذكر عند الضرير ، فكان الحريّ أن يرحم ويخصّ بمزيد الإقبال والتعطّف لا أن ينقبض ويعرض عنه.

إذن ، فعبوسه لم يترتب عليه أي فائدة ، لأنه وقع في مورد لا يصحّ أن يقع فيه ، وذلك لأن الضرير لم ير تقطيب حاجبيّ النبيّ ، فيكون عبوسه «عبثا» وهو ما يتنزّه عنه الأنبياء.

٨ ـ إنّ صدور العبوس من النبيّ أيسر ما يقال عنه أنه ذنب صغير لا يجوز عقلا للأنبياء ارتكابه لا حال التبليغ ولا بعده ، وحيث إنّ العبوس وقع حال التبليغ دلّ ذلك على وقوع ذنب صغير أجمع الشيعة على امتناع صدوره عن الأنبياء والأولياء حال التبليغ وبعده. هذا مضافا إلى أنّ الاعتقاد بعبوسه بوجه ذاك المؤمن يعدّ خطأ في الرأي والتشخيص لأن النبيّ ـ بحسب هذه الدعوى ـ أراد أن يؤلّف بين قلوب المشركين ليستميلهم إلى الإسلام مع أنهم لم يدخلوا ، فيكون بهذا قد وقع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطأ ، والخطأ من الرجس ، وهو ما قد تنزّه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ آية التطهير (١).

فالصحيح أن العابس هو رجل من بني أمية ـ أي عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (٢) ـ كما دلت عليه الروايات الصحيحة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام ، وقد أيّد ذلك جلّ علماء الإمامية ، والقائل منهم بعكس ذلك شاذ ، والشاذ لا يعوّل عليه.

__________________

(١) «هل العابس هو النبيّ» كتاب مخطوط للمؤلف.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٨٤ باب ذكر نسب عثمان وصفته.


قال المحدّث (١) القمي عليه الرحمة ، توفى عام ٣٠٧ ه‍ :

«نزلت السورة في عثمان وابن أم مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله وكان أعمى ، وجاء إلى رسول الله وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدّمه رسول الله على عثمان فعبس (أي عثمان) بوجهه وتولّى عنه ، فأنزل الله تعالى «عبس وتولّى» يعني عثمان بن عفان ..»(٢).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي عليه الرحمة : (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍).

«قال كثير من المفسرين وأهل الحشو أن المراد بالعابس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وهذا فاسد لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أجلّ الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب ، وقد وصفه بأنه «على خلق عظيم» ، وقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، وكيف يعرض عمّن تقدّم وصفه مع قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ومن عرف النبيّ وحسن أخلاقه وما خصه الله به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحدا قط فينزع يده من يده ، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده ، فمن هذه صفته كيف يقطّب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام ، على أن الأنبياء منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم ، ولا يجوّز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.

وهذه الآيات نزلت في رجل من بني أميّة كان واقفا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا أقبل ابن أم مكتوم تنفر منه ، وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله تعالى ذلك وأنكره معاتبة على ذلك» (٣).

__________________

(١) ثقة جليل ، أكثر ثقة الإسلام الكليني الرواية عنه في الكافي ، وقال عنه في أعلام الورى : إنه من أجلّ رواة أصحابنا ، كان في عصر مولانا الإمام العسكري عليه‌السلام.

(٢) تفسير القمي : علي بن إبراهيم ج ٢ / ٤٣٠.

(٣) تفسير التبيان للطوسي ج ١٠ / ٢٦٩.


وقال السيّد علي بن الحسين الموسوي المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍):

«فإن قيل أليس قد عاتب الله تعالى نبيّه في إعراضه عن ابن أم مكتوم لمّا جاءه وأقبل على غيره بقوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) وهذا أيسر ما فيه أن يكون صغيرا.

والجواب : قلنا أمّا ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبيّ ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هي خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه وفيها ما يدل عند التأويل على أن المعنيّ بها غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبيّ في قرآن ولا خبر مع الأعداء المنابذين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ثم وصفه بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء وهذا مما لا يصف به نبينا عليه‌السلام من يعرفه فليس هذا مشبها لأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسعة وتحننه على قومه وتعطفه وكيف يقول له وما عليك ألّا يزكّى وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث للدعاء والتنبيه وكيف لا يكون ذلك عليه ، وكان هذا القول إغراء بترك الحرص على إيمان قومه ، وقد قيل إن هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن إن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك في أنها لم يعن بها النبيّ ، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزّه الله تعالى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما دون هذا في التنفير بكثير» (١).

وقال الشيخ الطبرسي (٤٦٢ ـ ٥٢٣ ه‍):

«قال المرتضى علم الهدى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي ـ ... ـ بعد أن استعرض كلام المرتضى قال : وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي فجاء ابن أم مكتوم

__________________

(١) تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى ص ١١٩.


فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه»(١).

وقال المولى محسن الملقّب ب «الفيض الكاشاني» (١٠٠٧ ـ ١٠٩١ ه‍) :

«نزلت في عثمان وابن أم مكتوم .. وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ذكر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ويشبه أن يكون من مختلقات أهل النفاق خذلهم الله تعالى» (٢).

وقال السيّد محمّد حسين الطباطبائي (١٣٢١ ـ ١٤٠٢ ه‍):

«وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره ... إلى أن قال :

وقد عظّم الله خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : وهو قبل نزول هذه السورة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والآية واقعة في سورة «ن» التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك ، فكيف يعقل أن يعظّم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا ، والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا. وقال تعالى أيضا : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) فأمره بخفض الجناح للمؤمنين ، والسورة من السور المكية ، والآية في سياق قوله «وانذر عشيرتك الأقربين» النازل في أوائل الدعوة.

وكذا قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) وفي سياق الآية قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ١٠ / ٢١٠.

(٢) تفسير الصافي ج ٥ / ٢٨٥.

(٣) سورة الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٤) سورة الحجر : ٨٨.


الْمُشْرِكِينَ) (١) النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصوّر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.

على أن قبح ترجيح غنى الغني ـ وليس ملاكا لشيء من الفضل ـ على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.

وبهذا وما تقدمه يظهر الجواب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلّا بعده ، وأما قبل النهي فلا.

وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلّا في هذا الوقت تحكّم ممنوع ، ولو سلّم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق ، وقد عظّم الله خلقه (ص وآله) قبل ذلك إذ قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وأطلق القول ، والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها ...»(٢).

* * * * *

__________________

(١) سورة الحجر : ٩٤.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.


قال العبّاسي : وما المانع من ذلك؟

قال العلوي : المانع قول الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / ٤). وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٠٧).

فهل يعقل أن الرسول الذي يصفه الله تعالى بالخلق العظيم ورحمة للعالمين أن يفعل بذلك الأعمى المؤمن هذا العمل اللاإنساني؟؟.

قال الملك : غير معقول أن يصدر هذا العمل من رسول الإنسانية ونبيّ الرحمة ، إذن : أيّها العلوي فيمن نزلت هذه السورة؟

قال العلوي :

الأحاديث الصحيحة الواردة عن أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين نزل القرآن في بيوتهم تقول : إنها نزلت في عثمان بن عفّان ، وذلك لمّا دخل عليه ابن أم مكتوم فأعرض عنه عثمان وأدار ظهره إليه.

وهنا انبرى السيّد جمال الدين (وهو من علماء الشيعة وكان حاضرا في المجلس) وقال : وقد وقعت لي قصة مع هذه السورة وذلك :

أن أحد علماء النصارى قال لي :

إن نبيّنا عيسى أفضل من نبيكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت له : ولما ذا؟

قال : لأن نبيّكم كان سيئ الأخلاق ، يعبس للعميان ويدير إليهم ظهره ، بينما عيسى كان حسن الأخلاق يبرئ الأكمه والأبرص.

قلت : أيّها المسيحي ، اعلم أننا نحن الشيعة نقول إن السورة نزلت


في عثمان بن عفان لا في رسول الله ، وإن نبيّنا محمّد كان حسن الأخلاق ، جميل الصفات ، حميد الخصال ، وقد قال فيه تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / ٤) وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٧).

قال المسيحي : لقد سمعت هذا الكلام الذي قلته لك من أحد خطباء المسجد في بغداد!

قال العلوي : المشهور عندنا أنّ بعض رواة السوء وبائعي الضمائر نسبوا هذه القصة إلى رسول الله ليبرّءوا ساحة عثمان بن عفّان فإنهم نسبوا الكذب إلى الله والرسول حتى ينزّهوا خلفاءهم وحكّامهم!

قال الملك : دعوا هذا الكلام وتكلّموا في غيره.

قال العبّاسي : إنّ الشيعة تنكر إيمان الخلفاء الثلاثة ، وهذا غير صحيح إذ لو كانوا غير مؤمنين فلما ذا صاهرهم رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم؟

قال العلوي : الشيعة يعتقدون أنهم ـ أي الثلاثة ـ كانوا غير مؤمنين قلبا وباطنا وإن أظهروا الإسلام لسانا وظاهرا ، والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل إسلام كلّ من تشهّد بالشهادتين ولو كان منافقا واقعا وكان يعاملهم معاملة المسلمين ، فمصاهرة النبيّ لهم ومصاهرتهم للنبيّ من هذا الباب!

قال العبّاسي : وما هو الدليل على عدم إيمان أبي بكر؟ (١).

__________________

(١) أخرج الخطيب البغدادي عن محبوب بن موسى الأنطاكي قال : سمعت أبا إسحاق يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد ، قال إبليس يا رب ، وقال أبو بكر : يا رب. تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣٧٣ ، ط / القاهرة.


قال العلوي : الأدلة القطعية على ذلك كثيرة جدا ، ومن جملتها أنه خان الرسول في مواطن كثيرة ، منها : تخلّفه عن جيش أسامة ، ومعصية أمر الرسول في ذلك ؛ والقرآن الكريم نفى الإيمان عن كلّ من يخالف الرسول ، بقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / ٦٥).

فأبو بكر عصى أمر الرسول وخالفه فهو داخل في الآية التي تنفي إيمان مخالف الرسول.

وأضف إلى ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المتخلّف عن جيش أسامة وقد ذكرنا سابقا أنّ أبا بكر تخلّف عن جيش أسامة ، فهل يلعن رسول الله المؤمن؟ طبعا لا!

قال الملك : إذن يصحّ كلام العلويّ أنه لم يكن مؤمنا!

قال الوزير : لأهل السنّة في تخلّفه تأويلات.

قال الملك : وهل التأويل يدفع المحذور! ولو فتحنا هذا الباب لكان لكلّ مجرم أن يأتي لأجرامه بتأويلات!! فالسارق يقول : سرقت لأني فقير ، وشارب الخمر يقول : شربت لأنني كثير الهموم ، والزاني يقول : كذا وهكذا ... يختل النظام ويتجرّأ الناس على العصيان ، لا .. لا .. التأويلات لا تنفعنا.

فاحمرّ وجه العبّاسيّ وتحيّر ما ذا يقول ، وأخيرا تلعثم وقال : وما هو الدليل على عدم إيمان عمر؟


قال العلويّ : الأدلة كثيرة جدا منها : أنه صرّح بنفسه بعدم إيمانه!

قال العبّاسيّ : في أي موضع؟

قال العلويّ : حيث قال : «ما شككت في نبوّة محمّد مثل شكي يوم الحديبية» وكلامه هذا يدل : على أنه كان شاكا دائما في نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان شكه يوم الحديبية أكثر وأعمق وأعظم من تلك الشكوك ، فهل ـ أيّها العبّاسي ـ قل لي بربك :

الشاك في نبوّة محمّد يعتبر مؤمنا؟

سكت العبّاسي وأطرق برأسه خجلا.

فقال الملك موجّها الخطاب إلى الوزير :

هل صحيح قول العلوي أن عمر قال هكذا؟

قال الوزير : هكذا ذكر الرواة (١)!

[تشكيك عمر بن الخطاب في فعل النبيّ يوم الحديبية]

____________________________________

(١) قال ابن إسحاق ، قال الزهري :

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله وقالوا له : ائت محمّدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنّا عامه هذا ، فو الله لا تحدّث العرب عنّا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ؛ فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مقبلا ، قال : قد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تكلّم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

فلمّا التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله؟ قال : بلى ؛ قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال :


بلى ؛ قال : أوليسوا بالمشركين ، قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدّنيّة (١) في ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه (٢) ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله ، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقال : يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال ؛ بلى ؛ قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ؛ قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيّعني! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ! مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا.

قال : ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال : اكتب :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اكتب : (باسمك اللهم) ، فكتبها ؛ ثم قال : اكتب : (هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو) ؛ قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ؛ قال : فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اكتب :

(هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وإن بيننا عيبة مكفوفة (٣) وأنه لا إسلال ولا إغلال (٤) ، وأنه من

__________________

(١) الدّنية : الذلّ والأمر الخسيس.

(٢) الزم غرزه : أي الزم أمره. والغرز للرجل بمنزلة الركاب للسّرج.

(٣) أي صدور منطوية على ما فيها ، لا تبدي عداوة ، وضرب العيبة مثلا.

(٤) الإسلال : السرقة الخفية ، والإغلال : الخيانة.


أحبّ أن يدخل في عقد محمّد ومهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (١)).

وقال السيوطي :

أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : خرج رسول الله زمن الحديبية في بضع عشر مائة من أصحابه .. (إلى أن اجتمعوا مع سهيل بن عمرو وعقدوا الصلح) فقال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبيّ فقلت : ألست نبيّ الله؟ قال : بلى ، فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال : إنّي رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أوليس كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، فأتيت أبا بكر ، فقلت يا أبا بكر : أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟

قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصر فاستمسك بغرزه تفز حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق ، قلت : أوليس كان يحدثنا إنّا سنأتي البيت ، ونطوف به؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا ...» (٢).

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري ، ومسلم والنسائي ، وابن جرير

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٣ / ٣٣١.

(٢) الدر المنثور ج ٦ / ٧٤ ، وتفسير ابن كثير ج ٤ / ١٧٦ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٢٠٤ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٠.


والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين :

اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية نرجئ الصلح الذي كان بين النبيّ وبين المشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع لما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال : يا ابن الخطّاب إني رسول الله ولن يضيّعني الله أبدا ، فرجع متغيظا لم يصبر حتى جاء أبو بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ ...» (١).

وقال علي بن إبراهيم القمي :

حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «... ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو إلى رسول الله وقالا : يا محمّد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحد على دينه فدعا رسول الله بالمكتب ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : اكتب ، فكتب أمير المؤمنين عليه‌السلام :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فقال سهيل بن عمرو : لا نعرف الرحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك : باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله : اكتب : باسمك اللهمّ فإنه اسم من أسماء الله ، ثم كتب : (هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول الله والملأ من قريش ؛ فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك ، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد الله ، أتأنف من نسبك يا محمّد! فقال رسول الله : أنا رسول الله وإن لم تقروا ، ثم قال : امح يا عليّ! واكتب محمّد بن عبد الله ، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما أمحو اسمك من النبوة أبدا ، فمحاه رسول الله بيده ثم كتب :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ / ٧٧.


«هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو ، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكف بعض عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد وعقده فعل ، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ...» (١).

ثم قال رسول الله : يا عليّ! إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة فو الذي بعثني بالحق نبيا لنجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد ، فلمّا كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول الله بذلك ...» (٢).

وبعد عقد الصلح أمر رسول الله أصحابه لينحروا ويحلقوا فامتنعوا وقالوا كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة ، فاغتمّ رسول الله من ذلك وشكا ذلك إلى أم سلمة ، فقالت : يا رسول الله انحر أنت واحلق ، فنحر رسول الله وحلق ..» (٣) ولما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما (٤).

هذا حال عمر بن الخطّاب وأكثر الأصحاب ، فعمر شك في فعل النبيّ ، لذا لم يقتنع بما قاله له الرسول ، فأعاد سؤاله وتشكيكه على أبي بكر ، وهكذا فعل أكثر الأصحاب حيث كاد يقتل بعضهم بعضا غما مما فعل النبيّ.

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ / ٣١٩ سورة الفتح.

(٢) تفسير القمي ج ٢ / ٣٢٠ وبحار الأنوار ج ٢٠ / ٣٣٣.

(٣) تفسير القمي ج ٢ / ٣٢٠.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٤ / ١٧٦ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٢٠٥.


لقد عاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالة الاضطهاد من أصحابه ، إلا القليل ممن وفى الحق معه ، من هنا لم يمتثلوا أمره لا في الحديبية ولا على فراش الموت عند ما أمرهم بإحضار الكتف والدواة.

لقد نفث عمر عن لسان الشيطان عند ما شكّك بالنبيّ ، وما ذاك بغريب عنه حيث عرف بطيشه وغلظته ، فها هم بعض علماء العامة يتحدّثون عن شخصية عمر بن الخطاب.

١ ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، قال :

«أخرج الخطيب البغدادي عن عبد الله بن أبي الحجاج قال : حدّثنا عبد الوارث أنه قال : كنت بمكة وبها أبو حنيفة فأتيته وعنده نفر فسأله رجل عن مسألة فأجاب فيها ، فقال له الرجل : فما رواية عن عمر بن الخطاب؟ قال : ذلك قول شيطان» (١).

وما شيطان عمر إلّا ما عبّر عنه أبو بكر حينما قال : «إن لي شيطانا يعتريني أحيانا فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ..» (٢).

٢ ـ ابن قتيبة الدينوري ، قال :

«وكان عمر رجلا شديدا قد ضيّق على قريش أنفاسها ...» (٣).

وقال في موضع آخر : «لمّا توفي أبو بكر وولي عمر وقعد في المسجد مقعد الخلافة ، أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أدنو منك فإنّ لي حاجة؟ قال عمر : لا ، قال الرجل : إذا أذهب فيغنيني الله عنك ، فولّى ذاهبا ، فاتبعه عمر ببصره ثم قام فأخذه بثوبه ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال الرجل : بغضك الناس وكرهك الناس ، قال عمر : ولم ويحك؟ قال الرجل : للسانك وعصاك ؛ قال : فرفع عمر يديه فقال :

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣٨٨.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ / ٣٤ ، ط / إيران وص ١٦ ط / مصر.

(٣) نفس المصدر ج ١ / ٢٧ ط / مصر.


اللهم حبّبهم إلي وحبّبني إليهم ؛ قال الرجل : فما وضع يديه حتى ما على الأرض أحب إليّ منه ..» (١).

٣ ـ أحمد بن تيمية ، قال :

ذكر الشيخ محمد بخيت المصري الحنفي عن ابن تيمية أنه قال : «إنّ عمر له غلطات وبليّات ، وأي بليّات!» (٢).

٤ ـ الشيخ محمود أبو رية ، قال :

«ولم يمت عمر حتى ملّته قريش ...» (٣).

٥ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، قال :

«.. أم من ذا الذي يسعه أن يغتفر لابن الخطاب تصدّيه لمعارضة رسول الله معارضة أدّت إلى منعه عليه الصلاة والسلام ـ قبيل احتضاره ببضعة أيام ـ أن يمارس حقّه الشرعي في الإيصاء بما يشاء لمن يشاء!! ..» (٤).

٦ ـ عبد الكريم الخطيب ، قال :

«وأوضح ما في عمر صفتان :

ـ أولاهما : الصرامة ، والشدة التي تبلغ مبلغ العنف في معالجة الأمور. ولم يتخلّ عمر أبدا عن هذا الأسلوب العمري .. وطبيعي أن يبدو عمر في الناس فظّا غليظا ، وأن تنطوي كثير من القلوب على الخوف منه ، والرهبة له فلا يلقاه الناس إلّا على هذا الإحساس الممتزج بالقطيعة والجفوة! وطبيعي أيضا ألّا يوادّ الناس عمر إلّا على ترقّب وحذر ... وبدا عمر للناس أنه فظّ غليظ تنخلع لمرآة القلوب ،

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٣٨ ط / أمير ـ قم.

(٢) تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد ص ١١.

(٣) شيخ المضيرة ص ٨٥ ، ط / دار المعارف بمصر.

(٤) السقيفة والخلافة ص ٢٤٣ ط / مصر.


وتنقبض له الصدور ، وتزوّر عنه العيون ..» (١).

... فهذا هو عمر بن الخطاب في مفهوم من والاه! وللبيب الحكم على هذه الشخصية بناء على ذلك!!

إشكال :

جاء في خبر الحديبية أن أمير المؤمنين لم يمح لقب رسول الله من بنود الصلح ، أليس هذا تخلّفا عن امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وإذا جاز عدم الامتثال هنا ، جاز التخلّف حينئذ عن الاتيان بالدواة والكتف ليكتب للمسلمين الكتاب فلا يضلون أبدا!

والجواب :

فرق واضح بين الأمرين ، إذ إنّ تخلّفهم عن الإتيان بالدواة والكتف تعقّبه التنازع فيما بينهم وسخط رسول الله على المتخلّفين ، وهكذا سخطه عليهم لمّا تخلّفوا عن جيش أسامة ، ولعنه على المتخلّفين ، أما ما ورد في صلح الحديبيّة فيختلف تماما عمّا ذكرنا آنفا ، إذ لم يتعقّبه سخط منه ، ولا أن المسلمين تنازعوا في الأمر ، كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بإمكانه أن يأمر أحدا غير الإمام علي عليه‌السلام ليمحى لقبه الشريف ، ويظهر أن أمره كان على نحو الإباحة لا على الوجوب وإلّا لكان أمير المؤمنين عليّ أوّل الممتثلين لأدائه كغيره من الوظائف التي لم يتخلّف في امتثالها عن رسول الله.

ولعلّ وجه عدم الامتثال فيه أمران :

الأول : ليشير أمير المؤمنين ـ فديته بنفسي ـ أن إزالة جبل من مكانه أهون عنده عليه‌السلام من إزالة لقب أطلقه الله على رسوله الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : ليدفع ـ وبإيحاء من رسول الله ـ عمّا علق في نفوس الناس من أنه لا

__________________

(١) عمر بن الخطاب لعبد الكريم الخطيب ص ٥٥ ـ ٥٦ بتصرف ، ط / دار الفكر العربي.


يعرف القراءة والكتابة ، فأراد إزالة هذا التوهم ليعطي صورة جلية عن شخصية كريمة عند الله عزوجل وأن من كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى لا تخفى عليه الحروف والكلمات ، لذا جاء في الخبر (١) أنه لمّا [قال له الأمير عليه‌السلام : «لا أمحوك أبدا» فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب فكتب ..].

مضافا إلى أنه قد يكون عدم الامتثال تكليفا خاصا بالإمام عليه‌السلام من قبل رسول الله حتى يتسنّى له أن يظهر للناس من أن ابن عمه ووصيّه سيبتلى بمثلها لأنه أحق بهذا الأمر حسبما جاء في الأخبار ، والله أعلم.

كلّ هذا في حال سلّمنا بصحة صدور هذا المقطع عن رسول الله وإلّا فما يدريك لعلّه من فعل الدساسين ليبرّروا مخالفات كبرائهم وخلفائهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٢٠٤ ، والمراد ب «ليس يحسن» أي لا يعرف ـ بنظر الناس ـ القراءة والكتابة لكونه لا يتعاطاهما ، فتأمل.


قال الملك : عجيب .. عجيب جدا ، إني كنت أعتبر عمر من السابقين إلى الإسلام ، وأعتبر إيمانه إيمانا مثاليا ، والآن ظهر لي في أصل إيمانه شك وشبهة.

قال العبّاسي :

مهلا أيّها الملك ، ابق على عقيدتك ، ولا يخدعك هذا العلويّ الكذّاب.

فأعرض الملك بوجهه عن العبّاسي وقال مغضبا :

إنّ الوزير نظام الملك يقول :

إنّ العلوي صادق في كلامه ، وإن قول عمر وارد في الكتب ، وهذا الأبله ـ يعني العبّاسي ـ يقول إنه كاذب ، أليس هذا العناد بعينه؟

ساد المجلس سكون رهيب ، فقد غضب الملك وانزعج من كلام العبّاسي وأطرق العبّاسي وسائر علماء السنّة.

وصمت الوزير .. وبقي العلوي رافعا رأسه ينظر في وجه الملك ليرى النتيجة!

مرت لحظات صعبة على العبّاسي ، تمنّى فيها أن تنشق الأرض تحته فيغيب فيها ، أو يأتيه ملك الموت فيقبض روحه فورا من شدة الخجل وحرج الموقف ، فلقد ظهر بطلان مذهبه ، وظهرت خرافة عقيدته أمام الملك ووزيره وسائر العلماء والأركان ..

ولكن ما ذا يصنع؟


لقد أحضره الملك للسؤال والجواب ، ولتمييز الحق من الباطل ، ولهذا استجمع قواه ورفع رأسه وقال :

وكيف تقول أيّها العلوي أنّ عثمان لم يكن مؤمنا في قلبه ، وقد زوّجه الرسول ابنتيه رقيّة وأم كلثوم؟ (١).

____________________________________

(١) زواج رقيّة وأم كلثوم من عثمان بن عفّان من المشهورات في التاريخ الإسلامي عند الخاصة والعامة ، وربّ مشهور لا أساس له ، سيّما وأن الذين قالوا بصحة هذا الزواج أناس انتشر صيتهم ، وعرفوا بالتحقيق في فترة زمنية قل فيها العلماء المتخصصون ، والناس عادة مع ما شاع واشتهر وإن كان خطأ ، فيرسلونه إرسال المسلمات.

ومنشأ الاعتقاد بهذا الزواج هو وجود روايتين تدلان على ذلك رواهما صاحب البحار (١) نقلا عن قرب الإسناد والخصال ، وهما ـ وبالغض عن سنديهما ـ موافقان للعامة القائلين بزواج تينك المرأتين من عثمان بن عفان الذي أصبغوا عليه لقب «ذو النورين» في حين لم يصبغوه على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي اقترن بأفضل امرأة عرفتها البشرية منذ آدم إلى ولادتها بل إلى يوم البعث ، مع اعتراف العامة أن الصدّيقة سيّدة نساء العالمين ، وأصبغ عليها ألقابا لم يصبغها على أية امرأة في العالم ، كالزهراء والطاهرة وتفاحة الفردوس ومهجة فؤاد المصطفى وأم أبيها الخ ..

والشيخ المفيد ممن اعتقدوا بصحة هذا الزواج ، معتمدا ـ بحسب دعواه ـ على أن الزواج كان على ظاهر الإسلام ، فقال :

«وليس ذلك بأعجب من قول لوط عليه‌السلام ـ كما حكى الله تعالى عنه ـ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥١.


(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (١) فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفّار ضلّال قد أذن الله تعالى في هلاكهم.

وقد زوّج رسول الله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام ، أحدهما : عتبة بن أبي لهب ، والآخر : أبو العاص بن الربيع.

فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرّق بينهما وبين ابنتيه ، فمات عتبة على الكفر ، وأسلم أبو العاص بعد إبانة الإسلام ، فردّها عليه بالنكاح الأول.

ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال من الأحوال مواليا لأهل الكفر وقد زوّج من تبرّأ من دينه ، وهو معاد له في الله عزوجل.

وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفّان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص ، وإنما زوّجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ظاهر الإسلام ، ثم إنه تغيّر بعد ذلك ، ولم يكن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعة فيما يحدث في العاقبة ، هذا على قول بعض أصحابنا.

وعلى قول فريق آخر : أنه زوّجه على الظاهر ، وكان باطنه مستورا عنه ، وليس بمنكر أن يستر الله عن نبيه نفاق كثير من المنافقين وقد قال سبحانه (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ) (٢) فلا ينكر أن يكون في أهل مكة كذلك ، والنكاح على الظاهر دون الباطن على ما بيّناه» (٣).

يرد عليه :

إن عرض لوط عليه‌السلام لبناته على قومه يعتبر حكما اضطراريا وعنوانا ثانويا دفعا لفاحشة اللواط التي كانت سائدة يوم ذاك في قومه ، فقياسها على تزويج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبناته من كافرين مع الفارق ، هو أنه لا يوجد عنوان اضطراري حتى يلجأ النبيّ ليزوّج ابنتيه منهما.

__________________

(١) سورة هود : ٧٨.

(٢) سورة التوبة : ١٠١.

(٣) المسائل السروية / المسألة العاشرة.


هنا أمران وأمّا دعواه ـ كغيره ممن تبعه عليها ـ من أن رقية وزينب تزوّجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص ، فلا تكون صحيحة إلّا بعد التسليم بأمرين :

١ ـ أن تينك الفتاتين قد تزوجتا بذينك الكافرين.

٢ ـ التسليم بكونهنّ ابنتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما الأمر الأول :

فالشيخ المفيد عليه الرحمة ، أشار إلى أن الفتاتين هما رقية وزينب ـ حسبما أفاد في «المسألة الخمسون» من المسائل الحاجبية ؛ وهما اللّتان تزوّجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة ، وموت أبي العاص ـ حسبما أفاد في المسائل السروية. وما اعتمده الشيخ المفيد هو بعينه ما ذكره الشيخ أبو القاسم (١) الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍ في كتاب الاستغاثة.

ولكنّ ما وجدناه في قرب الإسناد (لمؤلفه الثقة أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري من أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام ، وقد تشرف بمكاتبات من الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف) أن عثمان تزوّج أولا بأم كلثوم ، وثانيا برقية ، قال : حدّثني مسعدة بن صدقة ، قال : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال :

«ولد لرسول الله من خديجة : القاسم والطاهر ، وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب ، فتزوج عليّ عليه‌السلام فاطمة عليها‌السلام ، وتزوّج أبو العاص بن ربيعة ـ وهو من بني أمية ـ زينب ، وتزوّج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت ، وزوّجه رسول الله مكانها رقية ...» (٢).

كما روى الصدوق الخبر المتقدم نفسه بسند آخر (٣) :

__________________

(١) صاحب الاستغاثة متقدم زمنا على الشيخ المفيد.

(٢) قرب الإسناد ص ٩ ح ٢٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥١ ح ٣ نقلا عن الخصال للصدوق.


فواحدة متفق عليها ـ وهي رقية ـ وأخرى مختلف فيها ـ وهي بنظر المفيد زينب وبنظر الحميري والصدوق ، أم كلثوم ـ ولا نعلم المستند الذي اعتمده الشيخ أبو القاسم الكوفي في الاستغاثة ، لذا لا يمكن لروايته أن تعارض رواية الحميري.

وعلى فرض المعارضة ـ لوجود رواية اعتمدها صاحب الاستغاثة ـ لا يمكن تقديم روايته على رواية الحميري والصدوق إلّا إذا كانت بنحو مستفيض ، وشيء من هذا ليس حاصلا. ومهما يكن ، فالإشكال يبقى على حاله ـ سواء قدّمنا رواية الحميري أم رواية أبي القاسم الكوفي ـ وهو : هل أن الفتاتين المنسوبتين إلى رسول الله قد تزوّجتا بعتبة وأبي العاص أم لا؟.

ويشهد أنهنّ لم يتزوجن بعتبة وأبي العاص ما يلي :

١ ـ أن أغلب المصادر التاريخية تذكر أن جميع أولاد النبيّ ولدوا في الإسلام إلا عبد مناف ولد في الجاهلية حسبما ورد في رواية عامية ضعيفة.

قال المقدسي : «عن سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، قال :

ولدت خديجة لرسول الله : عبد مناف في الجاهلية ، وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات : القاسم ، وبه كان يكنى أبا القاسم ، فعاش حتى مشى ثم مات وعبد الله مات صغيرا ، وأم كلثوم وزينب ورقية ، وفاطمة» (١).

وقال القسطلاني والديار بكري : «وقيل ولد له قبل المبعث ولد يقال : عبد مناف فيكونون على هذا اثني عشر ، وكلهم سوى هذا ولدوا في الإسلام بعد المبعث» (٢).

وقال الزبير بن بكار وغيره : بأن عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، قد ولدوا كلهم بعد الإسلام.

__________________

(١) البدء والتاريخ ج ٥ / ١٦.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ / ٢٧٢.


وقال السهيلي : «كلهم ولدوا بعد النبوة» (١).

فإذا كانتا ـ أي رقية وأم كلثوم ـ قد ولدتا بعد الإسلام ، فكيف يصح أن يقال أنهما تزوجتا في الجاهلية بكافرين؟!

٢ ـ تشير بعض المصادر : أن رقية كانت أصغر بنات النبي ، حتى من الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام (٢) ، بل إن بعضهم يعتقد أن أم كلثوم كانت هي الأصغر من الكل (٣).

فإذا صح ذلك فكيف يقال إنهما تزوجتا قبل الإسلام ، لا سيّما أن أشهر الروايات نصت أن الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة ، وعليه «فكيف تكون رقية قد تزوجت في الجاهلية بابن أبي لهب ، ثم لمّا بعث رسول الله أسلمت ، فطلقها زوجها ليتزوجها عثمان ، فتحمل وتسقط في السفينة حين الهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة بعد البعثة»؟ (٤).

٣ ـ يوجد اضطراب في الأخبار بشأن أم كلثوم ورقية ، فبعض منها ينصّ على أن عثمان تزوج أم كلثوم فماتت ولم يدخل بها ، ثم زوّجه النبيّ اختها رقية بعد معركة بدر ، وبعض ينصّ على أنه تزوج رقية في مكة وهاجر بها إلى الحبشة ، وهذا الاضطراب يوجب الاختلال في تقديم طائفة على طائفة ، لكون الطائفتين من الروايات أخبار آحاد لا يعوّل عليها.

هذا مضافا إلى اضطراب ما ذكروا : من أن أبا لهب قد أمر ولديه بطلاق بنتي النبي بعد نزول سورة «تبت يد أبي لهب» بحجة أن هاتين البنتين قد صبتا إلى دين أبيهما ، ثم إن عثمان تزوّج رقية وهاجر بها إلى الحبشة ، وهذا بدوره يتنافى مع قولهم أن السورة قد نزلت حينما كان المسلمون محصورين في شعب أبي طالب ،

__________________

(١) بنات النبي أم ربائبه ص ٣٣ نقلا عن المصادر العامية.

(٢) الإصابة ج ٤ / ٣٠٤ ودلائل النبوة ج ٢ / ٧٠.

(٣) زاد المعاد لابن القيم ج ١ / ٢٥ والطبقات الكبرى ج ١ / ١٣٣.

(٤) بنات النبي للسيّد المحقّق أخي العلّامة جعفر مرتضى ص ٦٢.


لأن بداية الحصار في الشعب كان في السنة السادسة من البعثة أي بعد الهجرة إلى الحبشة بسنة!

وعليه ، إذا كانت رقية وأم كلثوم قد ولدتا بعد البعثة ، وإذا كان أبو لهب قد أمر ولديه بطلاق البنتين بعد نزول سورة «المسد» في العام السادس للبعثة أي يوم حصار شعب أبي طالب ، فكيف يمكن الجمع بين ولادة البنتين بعد البعثة وبين نزول السورة في العام السادس للبعثة؟!!

بل الأعجب من ذلك كيف يمكن أن يجمع العامة بين ولادة البنتين بعد البعثة وبين الزواج من ابني أبي لهب ، ثم الطلاق منهما ، ثم زواج رقية من عثمان ومهاجرتها إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة؟!!

هذا مضافا إلى وجود روايات (١) تشير إلى أن نزول سورة «تبت» في السنة الثالثة للبعثة بعد نزول آية إنذار العشيرة (وانذر عشيرتك الأقربين) ، فعلى هذا القول أيضا ، يتأكد استحالة الجمع المذكور.

٤ ـ إن القول بزواج رقية وأم كلثوم بابني أبي لهب يتوقف على أن تكون خديجة قد تزوّجت برسول الله وفي وقت مبكر قبل البعثة ، والآراء في ذلك ستة :

١ ـ قبل البعثة : بعشرين سنة.

٢ ـ قبل البعثة : بستة عشر سنة.

٣ ـ قبل البعثة : بخمسة عشر سنة.

٤ ـ قبل البعثة : بعشر سنين.

٥ ـ قبل البعثة : بخمس سنين.

__________________

(١) أسباب النزول ص ٣٧٨ قال الواحدي : لما أنزل الله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى رسول الله الصفا فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع إليه الناس. فقال : يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني لؤي ، لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ما دعوتنا إلا لهذا ، فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ).


٦ ـ قبل البعثة : بثلاث سنين.

أرجح الأقوال هو السادس وذلك لأن عمر خديجة عليها‌السلام يوم وفاتها خمسون سنة على الأصح (١). وبقية الأقوال لا تساعد عليها القرائن وذلك : أما على الرأي الأول فيكون عمرهاعليها‌السلام يوم ماتت ٧٢ عاما لأن عمرها يوم تزوجت ـ حسبما عليه جمهور العامة ـ أربعون عاما ، يضاف إليها عشرون قبل البعثة ، ثم اثنا عشر ما بعد البعثة ، فيكون المجموع ما ذكرنا ، وهو خلاف المشهور من أن عمرها يوم ماتت خمسون عاما.

وعلى الرأي الثاني يكون مجموع عمرها يوم ماتت ٦٨ عاما ، وعلى الرأي الثالث ، عمرها ٦٧ عاما ، وعلى الرابع ٦٢ عاما. وعلى الخامس ٥٧ عاما ، فيكون عمر رقية وأم كلثوم حدود الأربعة أو خمسة سنين.

ويرجح ما قلنا أنهم قالوا : إنها عليها‌السلام لم تلد في الجاهلية سوى عبد مناف. هذا مضافا إلى «تأكيد الدولابي والدياربكري : أن عثمان قد تزوّج رقية في الجاهلية. ومعنى ذلك أن ما يذكرونه من زواج بنتي رسول الله بابني أبي لهب لا يصح ، إذا لوحظ ما يذكرونه من سبب طلاقهما إياهما.

فالقول بأن رقية وأم كلثوم قد ولدتا في الجاهلية ، ثم كبرتا ، وتزوجتا بابني أبي لهب ، ثم بعثمان ، يصبح موضع شك وريب» (٢). بل هو باطل قطعا لأن زواج عثمان متأخر عن زواج ابني أبي لهب وذلك بملاحظة ما ورد من أن رقيّة وأم كلثوم كانتا أصغر من الصدّيقة الطاهرة التي ولدت في السنة الخامسة من البعثة على أرجح الأقوال. هذا مضافا إلى أنّ جماعة من المؤرخين ـ أمثال القسطلاني والمقدسي والسهيلي ـ نصوا على أن أولاد النبيّ كلّهم قد ولدوا بعد النبوة باستثناء عبد مناف بحسب بعض الأقوال.

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ١ / ٧١.

(٢) بنات النبي ص ٧٥.


٥ ـ لم يرو التاريخ أن أم كلثوم أو زينب اللتان يدّعى أنهما ابنتا النبيّ وأنهما طلّقتا وأن عثمان قد تزوّج بإحداهنّ بعد الهجرة بسنوات ، إن لهاتين ذكرا حين الهجرة إلى المدينة ، وحينما حمل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام معه الفواطم وأم أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين.

وليس ثمة أية إشارة إلى أم كلثوم أو زينب ، فهل هاجرتا قبل ذلك أو بعده؟ ومع من؟ ولما ذا؟ أم أنها قد جعلت في جملة الضعفاء؟ فلما ذا إذن أفردت عن أختها الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام ، وعن أم أيمن ، وجعلت في جملة ضعفاء المؤمنين؟ وهل أن أم أيمن أفضل من بنات النبي حتى أفردت عنهنّ؟!

٦ ـ دلت الأخبار المستفيضة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفى مصاهرة غير أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، حيث ورد انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

يا عليّ أوتيت ثلاثا لم يؤتهنّ أحد ولا أنا ، أوتيت صهرا مثلي ولم أوت أنا مثلي ، وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي ولم أوت مثلها ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما ولكنّكم مني وأنا منكم (١).

فلو كان عثمان أو أبو العاص قد تزوجا بنات رسول الله لم يصح منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك القول ، لا سيّما وأن هذا الكلام قد صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ولادة الحسنين عليه‌السلام فلا مجال لدعوى : أن عثمان قد يكون تزوّج بإحدى بناته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد صدور هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

قد يقال : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أوتيت صهرا مثلي ولم أوت أنا ..» يراد منه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرزق بصهر يحمل صفات روحية لا يحملها أحد من الناس حتى أصهرته الآخرين كعثمان.

قلنا : هذا التوجيه مردود وإلا لكان قال : أوتيت صهرين لم أوت مثلهما ـ لا

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٥ / ٧٤ نقلا عن مناقب الشافعي.

(٢) بنات النبي ص ١٠٠.


سيّما وأن القوم أصبغوا عليه لقب ذي النورين. هذا مضافا إلى أن عبد الله بن عمر احتجّ على من قال له في فتنة ابن الزبير : «... فما قولك في عليّ وعثمان؟!

قال : أمّا عثمان ، فكان الله عفا عنه ، وأمّا أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه ، وأمّا عليّ ، فابن عم رسول الله وختنه ، وأشار بيده ، فقال : هذا بيته حيث ترون» (١).

فلو كان عثمان صهرا لرسول الله لكان المناسب لابن عمر أن يستدل به على السائل ، بل كان أنسب من غيره ، وذلك للحاجة الماسة إلى كل ما من شأنه أن يظهر قربه من النبي ومقامه منه ـ لو كان ـ بغية دفع الشبهة عن عثمان حين فرّ في أحد. فلو كان عثمان صهرا للنبيّ كأمير المؤمنين عليّ لما أجلّ ابن عمر ذكر هذه المنقبة لعثمان؟!

وأما الأمر الثاني :

فلا نقطع بصحة ما قيل من أن لرسول الله بنات غير الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، وما ورد في خبر واحد في مصادرنا لا يعوّل عليه بعد ما عرفت من القرائن في الأمر الأول ، هذا مضافا إلى موافقته لأخبار العامة القائلين بصحة ذلك لينسبوا فضيلة لعثمان بن عفّان ، وما كان موافقا لأخبارهم لا حجية فيه عندنا ، بل على فرض التسليم بصحة الخبر الذي دل على وجود بنات لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحمل على كونهنّ ربائب قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتربيتهنّ ، وقد كان العرب يطلقون على ربيبة الرجل : إنها ابنته ، كما هو معروف ، ولو قلنا بأنهنّ بنات له حقيقة لا ادعاء «فلعلهنّ متن وهن صغار» (٢) ، مما حمل القصاصون الأمويون على أن ينسبوا أمر تزويجهنّ لعثمان.

لكنّ الأخير غير سديد لعدم وجود دليل عليه ، فالأرجح أنهنّ ربائبه وذلك لأمور :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ٦٨.

(٢) بنات النبي أم ربائبه ص ١١٤.


الأول : ما أفاده المحدّث الثقة الجليل أبو القاسم الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍ : «روى مشايخنا من أهل العلم عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، والرواية صحيحة عندنا عنهم ، أنه كانت لخديجة بنت خويلد من أمها أخت يقال لها «هالة» قد تزوجها رجل من بني مخزوم ، فولدت بنتا اسمها هالة ، ثم خلف عليها بعد أبي هالة رجل من تميم يقال له أبو هند ، فأولدها ابنا كان يسمى هندا ابن أبي هند ، وابنين ، فكانتا هاتان الابنتان منسوبتين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زينب ورقية من امرأة أخرى قد ماتت ، ومات أبو هند ، وقد بلغ ابنه مبالغ الرجال ، والابنتان طفلتان ، وكان في حدثان تزويج رسول الله بخديجة بنت خويلد ، وكانت هالة أخت خديجة فقيرة ، وكانت خديجة من الأغنياء الموصوفين بكثرة المال ، فأما هند ابن أبي هند فإنه لحق بقومه وعشيرته بالبادية وبقيت الطفلتان عند أمهما هالة أخت خديجة ، فضمت خديجة أختها هالة مع الطفلتين إليها ، وكفلتهم.

وكانت هالة أخت خديجة هي الرسول بين خديجة وبين رسول الله في حال التزويج ، فلما تزوّج رسول الله بخديجة ، ماتت هالة بعد ذلك بمدة يسيرة ، وخلفت الطفلتين زينب ورقية في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحجر خديجة فربياهما ، وكان من سنّة العرب في الجاهلية من يربّي يتيما ينسب ذلك اليتيم إليه ، وإذا كانت كذلك فلم يستحل لمن يربيها تزويجها لأنها كانت عندهم بزعمهم بنت المربي لها ، فلما ربّى رسول الله وخديجة هاتين الطفلتين الابنتين ، ابنتي أبي هند زوج أخت خديجة ، نسبتا إلى رسول الله وخديجة ولم تزل العرب على هذه الحال ..» (١).

وقال ابن شهرآشوب :

«تزوّج ـ أي النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بمكة أولا خديجة بنت خويلد .. وروى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبيّ تزوّجبها وكانت عذراء ، ويؤكد ذلك ما ذكر في

__________________

(١) الاستغاثة ص ٨٠ ـ ٨١ ، ط / قم.


كتابي الأنوار والبدع ، أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة» (١).

ونقل صاحب البحار عن المناقب قال : «وفي الأنوار والكشف واللمع وكتاب البلاذري أن زينب ورقيّة كانتا ربيبتيه من جحش ..» (٢).

فما ذكره أبو القاسم الكوفي وغيره يكفي في إثبات كون البنتين ربيبتين وأمهما هالة أخت خديجة ، وأن خديجة لم تتزوج بأحد قبل البعثة سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ادّعاه القوم من زواجها برجل غير النبي مخدوش به لا يصلح أن يكون دليلا لاضطراب المعلومات التي يقدّمها مدّعو تزويجها بغير النبيّ ، فقد جاءت هذه المعلومات متناقضة ومتضاربة ، هل اسم أبي هالة الذي تزوجته خديجة هو «النباش بن زرارة» أو «زرارة بن النباش» أو اسمه «هند» أو «عتيق» (٣) أو مالك بن النباش بن زرارة التميمي الأسدي ، إلى ما هنالك من اختلافات (٤) واضطرابات كثيرة لا يمكن الجمع بينها ، مما يستلزم سقوطها عن الحجية.

الثاني : قال أبو القاسم الكوفي أيضا :

«إن خديجة لم تتزوج بغير رسول الله ، وذلك أن الإجماع من الخاص والعام من أهل الآنال (الآثار ظ) ونقلة الأخبار على أنه لم يبق من إشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم إلّا من خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك ، فلما تزوجها رسول الله غضب عليها نساء قريش وهجرنها وقلن لها خطبك إشراف قريش وأمراؤهم ، فلم تتزوجي أحدا منهم؟ وتزوجت محمّدا يتيم أبي طالب ، فقيرا ، لا مال له؟

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم ، وتمتنع من سادات قريش وإشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذو التمييز والنظر أنه

__________________

(١) المناقب ج ١ / ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥٢ نقلا عن المناقب.

(٣) لاحظ : المناقب ج ١ / ١٥٩ ، وأسد الغابة ج ٧ / ٨٠ ترجمة خديجة بنت خويلد.

(٤) لاحظ : الأقوال المختلفة التي ذكرها ابن الأثير الجزري في أسد الغابة ج ٧ / ٨١.


من أبين المحال ، وأفظع المقال؟! ولما وجب هذا عند ذوي التحصيل ثبت أن خديجة لم تتزوج غير رسول الله ..» (١).

وعليه فكيف تقبل خديجة الزواج من أعرابي مجهول الحسب ، وتترك ذوي الشرف والمكانة من قبيلة قريش المعروفة بغطرستها وجبروتها ، ألم تكن الفرصة سانحة يوم ذاك لكي تنتقم قريش من امرأة لم تكترث بهم ولا بزعامتهم ، ورفضت عروضهم ، وتقربهم منها؟!

الثالث : دعوى أن خديجة قد تزوجت برجلين قبل النبيّ خطة صنعتها السياسة الأموية لتكريس فضيلة لعائشة أم المؤمنين التي لم يتزوج رسول الله بكرا عليها ، لذا نلاحظ الإطراء والمديح من أصحاب التراجم على عائشة عند ما يصنفها بالبكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى تسجيلهم منقبة لعثمان حيث حرص محبوه على إبقاء هاتين البنتين باكرتين فلا يدخل بهما ابنا أبي لهب ـ حسبما تفيد بعض مروياتهم ـ رغم أهلية البنتين وأهلية زوجيهما لذلك ، وعدم وجود أي مانع أو رادع.

نعم ، لا بدّ من إبقائهما كذلك لينال عثمان الشرف الأوفى في هذا المجال (٢)!! لذا يروون أنه لما ماتت أم كلثوم قال رسول الله : «لو كنّ عشرا لزوجتهنّ عثمان» (٣) أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر : لو أن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة (٤).

أو قوله فيما جاء به ابن عساكر من طريق أبي هريرة قال : إن رسول الله لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال :

__________________

(١) الاستغاثة ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) بنات النبي أم ربائبه ص ١٢١.

(٣) الطبقات الكبرى ج ٨ / ٣٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ / ٢٥٣ والغدير ج ٨ / ٢٣٤.

(٤) الغدير ج ٨ / ٢٣٤ نقلا عن تاريخ ابن كثير ج ٧ / ٢١٢.


يا عثمان! هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوّجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها (١).

وكما في رواية عن أبي هريرة قال : «دخلت على عقبة ، فأخبرته : أن رسول الله كان عندها آنفا ، وسألها كيف تجد عثمان؟ فقالت : بخير ، قال : أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا» (٢).

ليت شعري! كيف يصف النبيّ عثمان بهذه الأوصاف التي قل نظيرها في البشر ، ثم في نفس الوقت يحرّم عليه الدخول في قبر رقية ، لأنه رفث جارية في نفس ليلة وفاتها (٣)؟ أو ليس عثمان هو الذي قتل رقية (٤)؟ وهل من الأخلاق النبوية أن يختلي عثمان بجارية ليلة وفاة حليلته ومعقد شرفه بصهر رسول الله ، حتى ولو كانت مقارفة النساء على الوجه المحلّل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاظة والغلظة ، فأي إنسان تحبّذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرّم مجده ، وانقطاع فخره وانفصام عرى شرفه ، فكيف هان ذلك على الخليفة عثمان؟! وحيث إن رسول الله منع عثمان من النزول في قبر رقيّة وكان أحقّ الناس بذلك لأنه كان بعلها ، وسكت عثمان ولم يقل أنا عند ما قال النبيّ : «أيكم لم يقارف الليلة أهله» لأن عثمان كان قد قارف ليلة ماتت رقية بعض نساءه ولم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المقارفة ، فحرم بذلك ما كان حقا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره ممن نزل في قبرها ليدفنها ، حسبما ادّعى العامة (٥) ، وإن كنّا نشك بصحة ذلك ، إذ كيف يسمح النبيّ لرجل أجنبي أن يلامس جسد امرأة مسلمة حتى ولو كان من وراء الثوب ، فلم لم ينزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبرها ما دامت رقية هي ابنته؟!

__________________

(١) الغدير ج ٨ / ٢٣٤ نقلا عن تاريخ ابن كثير.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ / ٤٨ ، ومجمع الزوائد ج ٩ / ٨١.

(٣) الغدير ج ٨ / ٢٣١ نقلا عن صحيح البخاري باب : يعذّب الميت ببكاء أهله.

(٤) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٦٠ ، ح ٢٢ نقلا عن فروع الكافي.

(٥) الغدير ج ٨ / ٢٣٢ نقلا عن البخاري وابن سعد في الطبقات والبيهقي في السنن إلخ ..


وزبدة المقال : أن رقية وأم كلثوم هما ربيبتا رسول الله من غير خديجة ، وقد كان العرب يطلقون على ربيبة الرجل : إنها ابنته ، وعليه يصح أن يقال لمن يتزوج تلك الربيبة : أنه صهر لذلك الرجل.

من هنا يتضح لنا وجه القول الذي نسب إلى أمير المؤمنين ـ على فرض صحته ـ حينما قرّر لعثمان أن نسبته إلى رسول الله أكثر من نسبة سلفيه أبي بكر وعمر إليه ، فقال له : «وقد نلت من صهره ما لم ينالا» (١).

ومع هذا لم يقم ذاك الصهر على تينك الربيبتين بواجبه تجاه الرجل الذي أكرمه بتزويج ربيبتيه له.

فإن قيل : كيف يجوز أن ينكح النبيّ ربيبتيه من يعرف من باطنه خلاف الإيمان؟

قلنا : أن تزويجه ربيبتيه لعثمان مع ما علم من حاله على فرض حصول ذلك الزواج لا يخلو من أمرين :

١ ـ إما أن يكون زوّجه على ظاهر الإسلام ، بمعنى أن الله تعالى قد أباح له مناكحة من ظاهره الإسلام وأن علم من باطنه النفاق ، وخصّه بذلك ورخّص له فيه كما خصّه في أن يجمع بين أكثر من أربع حرائر في النكاح ، وأباحه أن ينكح بغير مهر ، ولم يحظر عليه المواصلة في الصيام ولا في الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء ، وأشباه ذلك مما خصّ به وحظر على غيره من عامة الناس.

٢ ـ وإما أن يكون زوّجه إياها تألفا له على الإسلام ، كما تزوّج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفصة وعائشة وبنت أبي سفيان ، فكان زواجه منهنّ تأليفا للقلوب إلى الإسلام فما الضير أن يزوّج من عرف من باطنه خلاف الإيمان لما ذكرنا ، ولمصلحة لم ندرك كنهها؟

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ / ٨٥ والبداية والنهاية ج ٧ / ١٦٨.


إذن ، ربما يكون إصرار الآخرين على بنوة رقية وأم كلثوم وزينب لرسول الله وإرسال ذلك إرسال المسلمات من دون أي تحقيق أو تمحيص ، رغم وجود ما يقتضي التأمل والاحتياط ، ربما يكون ذلك راجعا إلى الحرص على إيجاد منافسين لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في فضائله الخارجية ، لذا نجد العامة قد أطلقوا على عثمان لقب «ذي النورين» ولم يطلقوه على سيّدة النساء فاطمة مع اعترافهم بأنها أفضل من رقية وأم كلثوم وزينب بل وخديجة أمها عليها‌السلام. فلم لم يطلقوا على الإمام عليّ عليه‌السلام لقب «ذي النور» كما فعلوا بعثمان؟! إنّا لا نشك أن وراء تلك النسبة أصابع سياسية اختلقت تلك المنقبة كما اختلقوا منقبة أخرى لعمر بن الخطاب حيث أضافوا على سجل مناقبه زواجه من أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

شبهة زواج عمر من أم كلثوم :

من المسائل التي انتشر صيتها كسابقتها ، زواج عمر بن الخطّاب من ابنة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وربّ مشهور لا أصل له ، ونحن نشك بصدور هذا الزواج ، لا سيّما أن الأخبار تشير إلى أن زواجه منها كان قهرا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من هنا نستنكر كما استنكر من قبلنا أمثال المفيد وغيره ما نسب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بشأن هذا الزواج المفتعل ، ونحن لا نطمئن إلى خصوص خبر الثقة لوحده من دون الرجوع إلى القرائن والشواهد التي تثبت فحواه ، وذلك لكثرة الدّس الموجود بين رواياتهم الصحيحة الصادرة عنهم عليهم‌السلام ، لا سيّما وأن بني أمية ركّبوا الأسانيد على المتون ، من هنا ورد عنهم عليهم‌السلام : «أعرضوا أخبارنا على كتاب الله ، فإن لم تجدوا شاهدا من كتاب الله فأعرضوه على أخبار العامة ، فما وافقها فاضربوا به عرض الجدار».

لذا ، فإن خبر الثقة لوحده غير كاف للأخذ به ، بل لا بدّ من عرضه على الكتاب وأخبار العامة ، وما نميل إليه هو الأخذ بالخبر الموثوق صدوره عن المعصوم عليه‌السلام لا خصوص خبر الثقة للنكتة التي ذكرتها ، ولأنه لا ملازمة بين


وثاقة الراوي وكون الخبر موثوقا بالصدور ، بل ربما يكون الراوي ثقة ، ولكنّ القرائن والإمارات تشهد على عدم صدور الخبر من الإمام عليه‌السلام وأن الثقة قد التبس عليه الأمر ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن المناط هو كون الخبر موثوق الصدور ، إذ عندئذ تكون وثاقة الراوي من إحدى الإمارات على كون الخبر موثوق الصدور ، ولا تنحصر الحجية بخبر الثقة ، بل لو لم يحرز وثاقة الراوي ودلت القرائن على صدق الخبر وصحته يجوز الأخذ به ، وهذا غير بعيد بالنظر إلى سيرة العقلاء على الأخذ بالخبر الموثوق الصدور وإن لم تحرز وثاقة المخبر ، لأن وثاقة المخبر طريق إلى إحراز صدق الخبر.

وعليه ، لا نعوّل على صحة السند ما دامت هناك قرائن تثبت عكس فحواه ، ومن هذا القبيل ما ورد من أن أمير المؤمنين زوّج ابنته أم كلثوم لعمر فقد ورد في مصادرنا خبران حسنان سندا ، قد أوردهما ثقة الإسلام الكليني في الكافي باب تزويج أم كلثوم هما :

١ ـ روى حمّاد عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في تزويج أم كلثوم فقال : إن ذلك فرج غصبناه (١).

٢ ـ روى محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا خطب إليه ، قال له أمير المؤمنين إنها صبيّة ، قال : نلقي العبّاس فقال له : ما لي أبي بأس؟

قال : وما ذاك؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردّني أما والله لأعوّرنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلّا هدمتها ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولأقطعنّ يمينه ، فأتاه العبّاس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه (٢).

__________________

(١) فروع الكافي ج ٥ / ٣٤٦ ح ١.

(٢) فروع الكافي ج ٥ / ٣٤٦ ح ٢ ، رواهما زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، والطريق إليه هشام بن سالم.


والجواب :

١ ـ ورد في بعض الأخبار ما ينافي الخبرين المتقدمين ، مثل ما رواه القطب الراوندي (١) عن الصفّار بإسناده إلى عمر بن أذينة ، قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يحتجون علينا ويقولون : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام زوّج فلانا ـ أي عمر ـ ابنته أم كلثوم وكان متّكئا فجلس ، وقال: أيقولون ذلك؟

إن قوما يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل ، سبحان الله ما كان يقدر أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحول بينه وبينها فينقذها ، كذبوا ولم يكن ما قالوا ، إنّ فلانا خطب إلى عليّعليه‌السلام بنته أمّ كلثوم فأبى عليّ عليه‌السلام ، فقال للعبّاس : والله لئن لم تزوّجني لأنتزعنّ منك السقاية وزمزم ، فأتى العبّاس عليّا فكلّمه فأبى عليه فألحّ العبّاس فلمّا رأى أمير المؤمنين مشقّة كلام الرجل على العبّاس ، وأنه سيفعل بالسقاية ما قال ، أرسل أمير المؤمنين إلى جنّية من أهل نجران يهوديّة يقال لها سحيقة بنت جريريّة فأمرها فتمثّلت في مثال أم كلثوم ، وحجبت الأبصار عن أمّ كلثوم وبعث بها إلى الرجل ، فلم تزل عنده حتّى أنه استراب بها يوما ، فقال : ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم ، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس فقتل ، وحوت الميراث وانصرفت إلى نجران ، وأظهر أمير المؤمنين عليه‌السلام أم كلثوم (٢).

قال الشيخ المجلسي :

«هذان الخبران لا يدلّان على وقوع تزويج أم كلثوم رضي الله عنها من عمر ضرورة وتقية وورد في بعض الأخبار ما ينافيه ـ ثم استشهد بما رواه عن القطب الراوندي ـ إلى أن قال : ولا تنافي بينها وبين سائر الأخبار لأنها قصة مخفيّة اطلعوا عليها خواصهم ، ولم يكن يهتمّ به ، لا لاحتجاج على المخالفين ، بل ربّما كانوا يحترزون عن إظهار أمثال تلك الأمور لأكثر الشيعة أيضا لئلا تقبله عقولهم ، ولئلا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٨٨ ح ١٦ نقلا عن الخرائج للراوندي.

(٢) مرآة العقول ج ٢٠ / ٤٢ كتاب النكاح.


يغلوا فيهم ، فالمعنى : غصبناه ظاهرا وبزعم الناس أن صحّت تلك القصة (١).

استنكار وردّ :

استنكر السيّد علي الميلاني في كرّاسة له على مفاد هذا الخبر بحجة أن الناس لا يصدّقون بها فقال : «يشتمل ـ أي الحديث المذكور ـ على ما لا نصدّق به ، أو لا يصدّق به كثير من الناس ، وذلك أن المرأة التي تزوّج بها عمر كانت من الجنّ ، ولمّا خطب عمر أمّ كلثوم ، أرسل الله سبحانه جنيّة وسلّمت إلى عمر ، وهذه الأشياء لا يصدّق بها كثير من الناس على الأقل» (٢).

يرد عليه :

أولا : لم يأتنا صاحب الاستنكار بحجة على نفيه حتى نسلّم به مذعنين ، وعدم تصديقه له ، وكذا عدم تصديق الكثير من الناس بمفاده ، واستبعادهم له ، لا يصلح دليلا على النفي ، ومتى كان الاستبعاد الاعتباري الناتج عن ضعف الإيمان دليلا عند المتشرعة حتّى يتمسّك به صاحب الدعوى؟! ولو كان الاستبعاد دليلا على المدّعى لاستلزم ذلك طرح الكثير من الكرامات والمعاجز التي جرت على أياديهم الطاهرة ، ومتى كان استبعاد الأكثرية ميزانا ومناطا لقبول الأخبار والتسليم بالكرامات؟ وهل يستبعد المستنكر المذكور ولايتهم التكوينية التي دلت عليها الآيات والأخبار؟ وإذا كان الجنّ مسخّرا لسليمان عليه‌السلام فلم لا يسخّر لمولى الثقلين عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيّد الخلق أجمعين؟!

ثانيا : وهل خرج العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي والصفّار والراوندي ومن حذا حذوهم عن طور العقل لمّا رووا هذا الخبر وأذعنوا بفحواه؟ بل إن المجلسي أعلى الله مقامه جعل خبر الجنيّة معارضا للخبرين المتقدمين ، ولو لا صحة اعتقاده به لما جعله معارضا لهما.

__________________

(١) مرآة العقول ج ٢٠ / ٤٢ وفي البحار ج ٤٢ / ١٠٧ جاء فيه : «ولم يكن يتمّ به الاحتجاج على المخالفين».

(٢) تزويج أم كلثوم من عمر ص ٢٧ ط / مركز الأبحاث العقائدية ـ قم.


هذا مضافا إلى أنه لو دار الأمر بين الأخذ بالخبر المذكور وبين الظنون والاستحسانات الشخصية ، وجب حينئذ تقديم الخبر على المظنونات ما دام لا يخالف ـ أي الخبر المذكور ـ أحكام العقل والكتاب المجيد ، فعدم التصديق بالخبر يستلزم إنكار المعجزة أو الكرامة ولو بنسبة ضئيلة تجره إلى أعلى منها ، وهذا بدوره مؤشر خطير يترتب عليه طرح الكثير من المفاهيم الغيبيّة التي جاء بها الأولياء والأنبياء عليهم‌السلام مما يعني إلغاء المئات من النصوص المبثوثة في أسفارنا ومصادرنا التاريخية ، ولا يوافق على هذا إلّا مغرض أو ضعيف الإيمان بكرامات أولياء الله تعالى.

وصدق صاحب البحار حينما قال : «إنّها قصة مخفيّة اطّلعوا عليها خواصهم لئلا تقبله عقولهم ولئلا يغلوا فيهم».

وفي موثقة أبي عبيدة الحذّاء قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا» (١).

وفي معتبرة عمّار بن مروان عن جابر قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : قال رسول الله إن حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمّد وإنّما الهالك أن يحدّث أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول : والله ما كان هذا ، والله ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢٣.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٠١ ح ١.


وصدق الرسول إذ يقول : «من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ..» (١) وقال تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (٢).

٢ ـ قد دلت القرائن والشواهد على بطلان ما ذكر :

أ ـ كان بمقدور الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يرفض طلب عمر للزواج من أم كلثوم رضي الله عنها بحجة أن ابنته كارهة له ، والإكراه على الزواج مبطل له ، ولا يجوز في شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن لعمر أن يصرّ حينئذ على الزواج منها ، لأنه لو فعل لكان ذلك حجة للإمام عليه‌السلام على عمر بن الخطّاب أمام جموع المسلمين ، ولا يمكن لعمر ـ لو فعل الإمام عليه‌السلام ما قلنا ـ أن يخالف إرادة الله ورسوله ـ ظاهرا ـ أمام المسلمين.

ب ـ كما أن أمّ كلثوم بنت أبي بكر رفضت الزواج من عمر ، وكذا غيرها ، كان يمكن لأمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين أن ترفض ويحتج حينئذ والدها على عمر بذلك ، ولمّا ذلك لم يحصل علمنا أن القضية لفّقها بنو أمية ، لينسبوا فضيلة مصاهرة عمر للإمام عليّ عليه‌السلام ، فيحرفوا وجهة الخلاف بينه وبينه عليه‌السلام ، حتى لا يقال أن عمر غصب الخلافة ، ولو كان الإمام غاضبا عليه كيف يزوّجه ابنته؟

قال ابن الأثير :

«وخطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصدّيق إلى عائشة ، فقالت أمّ كلثوم : لا حاجة لي فيه ، إنه خشن العيش شديد على النساء ، فأرسلت عائشة إلى عمرو ابن العاص ، فقال : أنا أكفيك ، فأتى عمر فقال : بلغني خبر أعيذك بالله منه ، قال : ما هو؟

قال : خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر؟ قال : نعم ، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال : ولا واحدة ، ولكنّها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق ، وفيك غلظة ، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ، فكيف

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٣ ح ٩.

(٢) سورة يونس : ٣٩.


بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك (١).

وأخرج ابن الأثير الجزري عن معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن : أن عمر بن الخطّاب خطب إلى قوم من قريش بالمدينة فردوه ، وخطب إليهم المغيرة بن شعبة ، فزوجوه (٢).

وقال ابن عبد ربّه :

«إن عمر خطب امرأة من ثقيف ، وخطبها المغيرة ، فزوّجوها المغيرة» (٣).

قال ابن الأثير :

«وخطب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته ، وقالت : يغلق بابه ، ويمنع خيره ، ويدخل عابسا ويخرج عابسا» (٤).

وقال ابن قتيبة :

قال أبو اليقظان : خطب عمر بن الخطاب أم أبان بنت عتيبة بن ربيعة بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان ، فقالت : لا يدخل إلا عابسا يغلق بابه ، ويقل خيره (٥).

وأخرج المتقي الهندي عن علي بن يزيد أن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، فمات عنها واشترط عليها ألّا تزوّج بعده فتبتلت وجعلت لا تزوّج ، وجعل الرجال يخطبونها ، وجعلت تأبى فقال عمر لوليّها : اذكرني لها فذكره لها ، فأبت على عمر أيضا ، فقال عمر :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٥٤ والطبري في تاريخ الأمم والملوك ج ٥ / ١٧.

(٢) أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٤ / ١٥٢ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٣) العقد الفريد ج ٢ / ٢٠٩.

(٤) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٥٥ وتاريخ الطبري ج ٥ / ١٧.

(٥) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٤ / ١٧.


زوجنيها ، فزوّجه إياها ، فأتاها عمر فدخل عليها فعاركها حتى غلبها على نفسها .. فلما فرغ قال :

اف اف اف ثم خرج من عندها وتركها لا يأتيها فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال فإني سأتهيأ لك (١).

* فإذا جاز لهؤلاء النسوة أن يرفضن عمر لخشونته ورعونته ، ويبدين رأيهن فيه ، فتعبر عنه بنت أبي بكر أم كلثوم بأنه خشن العيش ، شديد على النساء ، جاز أيضا لابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تستشار وتبدي رأيها ، لا سيّما وأن الأمير عليه‌السلام لم يكن موافقا على مثل هذا الزواج ، فكان إبداء رأيها فرصة سانحة له عليه‌السلام للتملّص من طلب عمر. فرفضها رضي الله عنها كاللاواتي رفضنه ، فما بال الخليفة يفرض سلطته على الإمام عليه‌السلام ليزوّجه ابنته قهرا ، ولا يفرضه على غيره ، مع أن مدينة علم رسول الله لا تخفى عليه خافية ، كيف وهو المحنّك المدرّب؟ لا أظن أن تنطلي هكذا أمور على مولى الثّقلين وباب حطة وقاضي الأمة والعروة الوثقى؟

فإذا لم يكن الإمام عليه‌السلام راضيا ـ حسبما جاء في الأخبار ـ ولا ابنته كذلك ، فما هو وجه الصحة في إيكاله الأمر إلى العبّاس بن عبد المطلب؟ وهل يصحّح الوكيل عدم الرضا عند الموكّل؟ وهل عدم الرضا بالزواج يحتاج إلى توكيل لإمضاء الزواج؟! لا أظن عاقلا يصدّق ذلك.

ت ـ الاضطراب والاختلاف في الأحاديث ، وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث ، من أجل هذا أنكر الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى أصل هذا الزواج ، فقال : (إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه‌السلام ابنته من عمر غير ثابت ، وطريقه من الزبير بن بكار ، ولم يكن موثوقا به في النقل ، وكان متّهما فيما يذكره ، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وغير مأمون فيما يدّعيه على بني هاشم. وإنما نشر الحديث إثبات أبي محمّد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه ،

__________________

(١) كنز العمال للمتقي الهندي ج ١٣ / ٦٣٣.


فظن كثير من الناس أنه حقّ لرواية رجل علويّ له ، وهو إنما رواه عن الزبير بن بكار.

والحديث بنفسه مختلف ، فتارة يروى : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تولّى العقد له على ابنته.

وتارة يروى أن العبّاس تولّى ذلك عنه.

وتارة يروى : أنه لم يقع العقد إلّا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم.

وتارة يروى : أنه كان عن اختيار وإيثار.

ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا أسماه زيدا.

وبعضهم يقول : إنه قتل قبل دخوله بها.

وبعضهم يقول : إن لزيد بن عمر عقبا.

ومنهم من يقول : إنه قتل ولا عقب له.

ومنهم من يقول : إنه وأمّه قتلا.

ومنهم من يقول : إنّ أمّه بقيت بعده.

ومنهم من يقول : إن عمر أمهر أمّ كلثوم أربعين ألف درهم.

ومنهم من يقول : مهرها أربعة آلاف درهم.

ومنهم من يقول : كان مهرها خمسمائة درهم.

وبدوّ هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث ، فلا يكون له تأثير على حال ثم أنه لو صحّ لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أحدهما : أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو : الشهادتان ، والصلاة إلى الكعبة ، والإقرار بجملة الشريعة.


وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان ، وترك مناكحة من ضمّ إلى ظاهر الإسلام ضلالا لا يخرجه عن الإسلام ، إلّا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضالّ مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك ، وساغ ما لم يكن بمستحب مع الاختيار. وأمير المؤمنين عليه‌السلام كان محتاجا إلى التأليف وحقن الدماء ، ورأى أنه إن بلغ مبلغ عمر عمّا رغب فيه من مناكحته ابنته أثّر ذلك الفساد في الدين والدنيا ، وأنه إن أجاب إليه أعقب صلاحا في الأمرين ، فأجابه إلى ملتمسه لما ذكرناه.

والوجه الآخر : أن مناكحة الضال (كجحد الإمامة ، وادّعائها لمن لا يستحقها) حرام إلّا أن يخاف الإنسان على دينه ودمه ، فيجوز له ذلك ، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر المضادة لكلمة الإيمان ، وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات ، وإن كان ذلك محرّما مع الاختيار.

وأمير المؤمنين عليه‌السلام كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدّده ويواعده ، فلم يأمنه أمير المؤمنين عليه‌السلام على نفسه وشيعته ، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما قلنا إن الضرورة تشرّع إظهار كلمة الكفر قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١).

وبالغض عن ذلك ، فقد روى اليعقوبي (٢) : أن عمر أمهرها عشرة آلاف دينار. وقال العسقلاني : «إن عمر أمهرها أربعين ألفا ، وأنها ولدت لعمر ابنيه : زيد ورقيّة ، وبعد وفاة عمر تزوجها عوف (عون ظ) بن جعفر بن أبي طالب ، وذكر الدارقطني في كتاب الأخوة أن عوفا مات عنها فتزوّجها أخوه محمّد ثم مات عنها فتزوّجها أخوه عبد الله بن جعفر فماتت عنده ، وذكر ابن سعد نحوه وقال في آخره ، فكانت تقول إني لأستحي من أسماء بنت عميس مات ولداها عندي فأتخوف على

__________________

(١) المسائل السروية للشيخ المفيد / المسألة العاشرة.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٥٠.


الثالث قال : فهلكت عنده ولم تلد لأحد منهم» (١). ومما يزيد في القضية اضطرابا ما يروى أن الإمام عليه‌السلام بعث ابنته أمّ كلثوم ليراها ولم يأت عمر إليها بل هي زحفت إليه لتريه جمالها فإن وافق قبلت به وإلّا فالخيار له وليس لها ، قال ابن الأثير الجزري : «خطبها عمر بن الخطّاب إلى أبيها عليّ ، قال : إنها صغيرة ، فقال عمر : زوّجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد ، فقال له عليّ : إني أبعثها إليك ، فإن رضيتها فقد زوجتكها ، فبعثها إليه ببرد ، وقال لها : قولي له : هذا البرد الذي قلت لك ، فقالت ذلك لعمر ، فقال : قولي له : قد رضيت رضي الله عنك ، ووضع يده عليها ، فقالت : أتفعل هذا؟ لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك ، ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر ، وقالت له : بعثتني إلى شيخ سوء ، قال : يا بنية إنه زوجك ، فجاء عمر فجلس إلى المهاجرين في الروضة ـ وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون ـ فقال : رفئوني ، فقالوا : بما ذا يا أمير المؤمنين؟ قال : تزوجت أمّ كلثوم بنت علي سمعت رسول الله يقول : «كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي وصهري» وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب ، فأردت أن أجمع إليه الصهر فرفئوه ، فتزوّجها على مهر أربعين ألفا ، فولدت له زيد بن عمر الأكبر ورقية» (٢).

وقال العسقلاني :

«قال ابن أبي عمر المقدسي ، حدّثني سفيان عن عمرو عن محمد بن علي : على أن عمر خطب إلى عليّ ابنته أمّ كلثوم ، فذكر له صغرها ، فقيل له : إنه ردّك فعاوده ، فقال له عليّ : أبعث بها إليك ، فإن رضيت فهي امرأتك ، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها ، فقالت : مه! لو لا أنك أمير المؤمنين للطمت عينيك» (٣).

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٤٩٢.

(٢) أسد الغابة ج ٧ / ٣٧٧.

(٣) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٤ / ٤٩٢ ، هذه الأخبار معارضة لأخبار أخر مفادها : أن عمر خطب أم كلثوم إلى الإمام علي فاعتلّ بصغرها ، فقال له : لم أكن أريد الباه ولكن سمعت رسول الله يقول : كل حسب ونسب ينقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي. البحار ج ٤٢ / ٩٧ ح ٢٩.


وا عجباه!

لا أصدّق ما أقرأ ، أن عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام يصل به الحال والاضطرار ـ كما يدّعي الحشوية ـ إلى أن يرخص عنده الشرف والغيرة ، فيعرض ابنته ـ التي طالما حرص على أن لا يراها رجل ـ على عمر ، فيكشف ساقها ليرى هل هو أبيض أم أسمر ضعيف أو سمين؟ ولا أصدّق أن أم كلثوم التي لم يبرد غليلها مما فعله ابن الخطّاب بأمها الصدّيقة الطاهرة ـ حينما دخل دارها وهتك سترها ولطم خدها حتى تناثر قرطها وهشّم أضلاعها ـ أن تقبل به زوجا ، وتشاطره البسمات! وهل أن أمّ كلثوم نسيت كل هذا؟!

والله إن شيئا من هذا لم يحصل ، حاشا أمير المؤمنين عليّ الذي ما عرف إلّا الحق والشهامة والغيرة والحمية على العرض والدين ، وحاشا أم كلثوم ابنة الطهر وسيّدة العفاف كأمها الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام.

والأنكى من ذلك أنها لم تستأمر لزواجها من عمر ، ثم بعد ذلك يستأمرها أبوها لزواجها من عون بن جعفر فلا تقبل به حتى يقهرها أبوها على القبول حيث قال لها : «أي بنية ، أن الله عزوجل قد جعل أمرك بيدك ، فأنا أحب أن تجعليه بيدي ، فقالت : أي أبة ، إني لامرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء ، وأحب أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا ، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي ، فقال : لا والله يا بنيّة ما هذا من رأيك ، ما هو إلا رأي هذين ـ أي الحسن والحسين ـ ثم قام فقال : والله لا أكلم رجلا منهما أو تفعلين ، فأخذا بثيابه ، فقالا : اجلس يا أبه ، فو الله على هجرتك من صبر ، اجعلي أمرك بيده ، فقالت : قد فعلت ، قال : فإني قد زوجتك من عون بن جعفر وأنه لغلام» (١).

وفي أخبار أخرى يوجد خلط واضطراب ، فخبر (٢) يقول أنها تزوجت بعد

__________________

(١) أسد الغابة ج ٧ / ٢٧٨ والإصابة ج ٤ / ٤٩٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٩١ نقلا عن المناقب.


عمر بثلاثة رجال هم : عون بن جعفر ثم محمّد بن جعفر ثم عبد الله بن جعفر.

وخبر (١) يقول : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام زوّجها من كثير بن عبّاس بن عبد المطلب ، لكنّ المشهور والمتسالم عليه أنها لم تتزوج بعد عون أحدا ، وذلك لأن محمدا وعونا قتلا في كربلاء مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكان عون آنذاك زوجا لها ، زوّجه إياها أمير المؤمنين لمّا بلغ مبلغ الرجال (٢) فكيف ينسب الخبران المتقدمان أنها تزوّجت بمحمّد وبكثير؟

بل إن الشهيد الثاني يعتقد أن محمّد بن جعفر قتل في صفين (٣).

وعليه ، لمّا علمنا أن الإمام عليه‌السلام زوّجه ابنته لابن أخيه عون بن جعفر وهو يافع وبقي معها إلى زمن شهادته مع الإمام الحسين هو وأخوه محمّد ، فنقطع حينئذ أن ما جاء خلاف ذلك باطل.

إذن هذا الاضطراب يستلزم نسف القضية من أساسها ، ولو سلّمنا جدلا وقوعها ، فإن تهديد عمر بن الخطّاب ـ بأنه سيعور زمزم ولا يدع لآل البيت مكرمة إلا هدمها ، وليقطعن يد الإمام عليّ لتهمة السرقة ـ كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ، حيث اجتثته قدرة الإمام عليه‌السلام بتضرعه إلى الله تعالى ليصرف عنه كيد من أراد به وبأهله سوءا ، وكان الذي كان من ضربة أبي لؤلؤة الموفّقة فلم يبق إلّا ليال.

إشكال :

لقد جاء بواسطة خبرين ـ صحيحين سندا ـ إن أم كلثوم رضي الله عنها تزوّجها عمر ، فكيف لم يطّلع عليهما الشيخ المفيد ومن حذا حذوه حيث أنكر أصل الواقعة؟

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٩٢.

(٢) تنقيح المقال في معرفة الرجال ج ٢ / ٣٥٥ ترجمة عون بن جعفر.

(٣) تنقيح المقال ج ٣ / ٩١.


والجواب :

هنا احتمالات :

(١) إمّا أن الشيخ ومن وافقه لم يطّلعوا على هذين الخبرين ، وهذا بعيد جدا في حق مشايخ الطائفة ، لا سيّما وأن لهم مصنفات في جمع الأخبار.

(٢) وإمّا أن يكونوا قد اطّلعوا ولكنّهم لم يأخذوا بمفادهما.

(٣) وإمّا أن الخبرين لم يكونا.

أوجه هذه الاحتمالات هو الثاني ، أما الأول فقد عرفت وجهه ، وأما الثالث فمدفوع بالأصل حيث لو لم يكونا قبل عصر المفيد ثم وجدا في بعض الكتب بعده لبان وظهر من خلال المقارنة بالنسخ القديمة السابقة على عصره ، مع أن الخبرين رواهما الشيخ الكليني في الكافي وهو متقدّم زمنا على الشيخ المفيد ، فالاحتمال ساقط من أساسه.

فلا يبقى مجال إلّا أن نقول : إن الشيخ وأمثاله لم يأخذوا بنظر الاعتبار صحة هذين الخبرين لأحد أمرين :

إمّا لاعتقادهم بأنّ هذين الخبرين مصدرهما العامة ، وأن الراوي لهما بالأصل هو أبو محمّد الحسن بن يحيى صاحب النسب ـ حسبما عبّر الشيخ المفيد نفسه عن ذلك ـ وإمّا لكثرة الاختلاف والاضطراب في أصل القضية المروية بالأخبار المختلفة ، مما أوجب اختلالها وعدم الوثوق بشيء منها ، وذلك يستلزم سقوطها عن الحجية.

ث ـ إنّ الخبرين المتقدّمين يتعارضان أيضا مع ما أورده صاحب البحار (١) نقلا عن النوبختي في كتابه «الإمامة» من أن أمّ كلثوم كانت صغيرة ومات عمر قبل

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٩١.


أن يدخل بها ؛ وكذا ما رواه الزرقاني المالكي ـ وهو من علماء العامة ـ من أن عمر مات عنها قبل بلوغها (١). هذا بالإضافة إلى معارضة ما رواه الزرقاني وغيره لما ورد في مصادرهم (٢) من أن عمر تزوّجها وبنى بها وأنجب منها ولدا. والحاكم النيسابوري قال إنه تزوّج بها (٣). فمع هذا التعارض الموجود في مصادرهم ، بل وفي مصادرنا حيث يتعارض خبر سليمان بن خالد وصحيحة (٤) عمار مع صحيحة هشام بن سالم حيث ورد فيها أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام تعلّل بالمنع من تزويجها بأنها صبيّة وحرمة نكاح الصغيرة من أبده البديهيات في شريعتنا والشرائع السماوية برمتها بل حرمته مقطوع بها عند عامة العقلاء ، فما بال أمير المؤمنين ـ وحاشاه ـ يزوّج ابنته الصغيرة لشيخ هدّده بتهمة السرقة ضاربا كل القيم عرض الجدار!! لا أظن عاقلا ينسب لأمير المؤمنين (الذي لا تأخذه في الله لومة لائم) ما نسبت إليه هذه المرويات ، اللهم إلّا أن يقال : أنّ تزوّجه منها كان لأجل حصول البركة ومصاهرة النبيّ ـ حسبما جاء في الرواية المتقدمة عن ابن الأثير الجزري والقسطلاني ـ لكنّه مردود لأن البركة لا تطلب عن طريق الحرام ، ومن يدّعي محبة رسول الله محمّد فيحبّ مصاهرته لا يقهر حفيدته على القبول به رغما عنها وعن أبيها ويتوعده بأليم العذاب وسوء العقاب. هذا مضافا إلى أن هذا القول يصطدم مع النقولات المضطربة والمشوشة والتي ألصقت بها ما لم يلصق بجارية أو أمّة من الاماء ، كما ألصقوا بأبيها ما لم يلصقوه بأرذل الناس حيث عرض ابنته وزيّنها ببردة وهي صبيّة صغيرة لكي يهواها عمر بن الخطّاب وتنال إعجابه ويكشف عن ساقها ويضع يده عليها!!

__________________

(١) شرح المواهب اللدنيّة ج ٧ / ٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٠ ، الطبقات الكبرى ج ٨ / ٤٦٣ ، الاستيعاب ج ٤ / ٤٩١ ، أسد الغابة ج ٥ / ٦١٥.

(٣) المستدرك ج ٣ / ١٤٢.

(٤) وكلا الروايتين في فروع الكافي ج ٦ / ١١٥ باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها.


تنبيه :

قد يقال إن المراد من كونها صغيرة هو عدم نضجها بحيث لا يؤهلها للزواج وإن كانت بالغة آنذاك لكونها ولدت بعد العام الخامس الهجري وقبل الثامن ، فهي بالقياس إلى عمره آنذاك الذي كان بحدود ابن ثلاث وستين عاما وأشهرا ـ حسب رواية المشهور عند العامة ـ لا تصلح حينئذ للزواج منه ، ولكنّ هذا التعليل الوارد في الرواية من أنها صغيرة غير ناجع ، ولا أظن أن أمير المؤمنين عليّا قصده لعلمه الرباني بأنّ ابن الخطاب سيردّه ، بل لا أعتقد أن الإمام عليه‌السلام يخفى عليه التعليل بكونها كارهة له وغير راضية بأن يكون لها زوجا بعد أن رأت ما ذا فعل بأبيها وأمهاعليهم‌السلام.

وزبدة المقال :

أن قصة التزويج هذه من المفتعلات ولا أساس لها من الصحة لقيام القرائن على كذبها ، ووجود خبرين أو ثلاث في مصادرنا وإن كانت أسانيدها صحيحة إلّا أن ذلك لا يصحّح نسبة دلالتها إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لكثرة الدّس في أخبارهم ، لذا ورد عنهم وجوب عرض (١) الأخبار المنسوبة إليهم على كتاب الله وأخبار العامة «فما وافق أخبارهم وكان أميل إلى حكّامهم وقضاتهم فيترك لأن الرشد في خلافهم» فكيف يمكن حينئذ الاعتماد على هكذا أخبار لها خلفيات أموية ، ألم يركّب بنو أميّة الأسانيد على المتون؟! ألم يقلبوا كلّ فضيلة كانت لأمير المؤمنين عليّ إلى ضدها إلّا ما حفظته الصدور الأمينة؟ ألم يغلوا في أبي بكر حتى جعلوه الصدّيق وجعلوا عمر الفاروق وعثمان ذي النورين ، بل «جعلوا أبا بكر وعمر سيدي كهول أهل الجنّة ووزيري رسول الله في الأرض كما أن جبرائيل وميكائيل وزيراه في السماء ، ولو كان بعده نبي لكان عمر بن الخطاب وأن الشيطان ليخاف من عمر» (٢) إلى ما هنالك من فضائل ومكرمات لم تكن لأحد من الأولين

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٧٥ ح ١ باب وجوه الجمع بين الأحاديث.

(٢) أسد الغابة ج ٤ / ١٥٠ ـ ١٥٢.


والآخرين ... بعد كلّ هذا كيف يمكن الاطمئنان إلى قصة التزويج (١) تلك؟!! لا ندري كيف انطلت اللعبة على البعض فصدّق بما نفثه بنو أميّة في أخبارنا ، اللهم أنت الحكم والفصل يوم تشخص فيه القلوب والأبصار.

__________________

(١) لعلّ أم كلثوم التي زعموا أنّها زوجة عمر بن الخطاب هي أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي والدة عبيد الله وزيد ، لا سيّما وأنهم نسبوا إلى ابنة أمير المؤمنين بأن لها من عمر ولدين هما : رقية وزيد ، فأحبّ بنو أميّة إلصاق هذه المنقبة بعمر بن الخطّاب.


قال العلويّ : الأدلة في عدم إيمانه كثيرة ، ويكفي في ذلك.

إن المسلمين ـ وفيهم الصحابة ـ اجتمعوا عليه فقتلوه ، وأنتم تروون أن النبيّ قال : (لا تجتمع أمتي على خطأ) فهل يجتمع المسلمون ـ وفيهم الصحابة ـ على قتل (١) مؤمن؟

____________________________________

(١) استدلال العلويّ بالقول المنسوب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تجتمع أمتي على خطأ» على صحة قتل الناس عثمان بن عفان ، وكون ذلك دليلا على عدم إيمانه ، غير تام وذلك : لعدم وجود ملازمة بين استحقاق القتل وبين سلب صفة الإيمان عن مستحق القتل ، وإلّا لحكمنا بعدم إيمان كل من وجب عليه الحد أو القصاص ، ولا أحد قائل بهذا ، نعم إن ارتكاب المعصية ـ حسبما جاء في النصوص (١) ـ يسلب الإيمان ، وكلّما ازداد المرء معصية كلّما تناقص منه روح الإيمان إلى أن يضمحل ، وقد يكون مراد العلويّ بعدم الإيمان ، هو عدم الاعتقاد بما جاء به النبيّ بشأن خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ولكثرة ما ارتكبه عثمان من جرائر بحق المسلمين الآمنين ، فخانه التعبير ، فجعل ملازمة بين القتل وبين سلب الإيمان عنه ، وكان الأولى الاستدلال بأخبار ارتداد أصحابه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

وفي خبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بينا أنا على الحوض ، إذ مرّ بكم زمرا فتفرق بكم الطرق ، فأناديكم : ألا هلمّوا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي ، إنهم بدّلوا بعدك فأقول ألا سحقا ، ألا سحقا» وقد رواهما العامة في مصادرهم.

__________________

(١) ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : إن الكذب هو خراب الإيمان. ميزان الحكمة ج ٦ / ٣٦٧٤ ، وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إن القلب ليواقع الخطيئة ، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله. ميزان الحكمة ج ٣ / ٩٩٤.


وقد استدل البعض ـ بهذا المقطع من المحاورة وبعض المقاطع الأخرى ـ على أن المحاورة فرضية ، وليس لها وجود خارجي ، فقال :

(إنه ـ أي العلوي ـ استدل بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمتي على خطأ» على صحة قتل الناس عثمان بن عفان ، وجعل ذلك دليلا على عدم إيمانه.

وغني عن البيان : أن الإجماع على قتل من ارتكب جريمة يستحق لأجلها القتل ، لا يعني الإجماع على سلب صفة الإيمان عنه ، لأن الإيمان شيء ، وارتكاب الجرائم الموجبة للقتل شيء آخر ، قد يجتمعان ، وقد يختلفان.

والحديث الشريف إنما يدل على استحقاقه للعقوبة ، ولا يدل على إجماعهم على عدم إيمانه. وعدم إيمانه إنما يثبت بدلائل أخرى ، لا بد من تلمّسها ، والتأمل فيها ، هذا كله بالإضافة إلى أن عليّا ، وكثيرا ممن كانوا معه لم يشاركوا في قتله ، وذلك معروف ومشهور ، وإن كان قتله لم يسر عليا ولم يسؤه كما روي عنه عليه‌السلام) (١).

ما قاله جيد إلّا أن فيه ملاحظتين :

الأولى : عدم مشاركة الأكثرية في قتل عثمان ، لا تلغي استحقاقه للقتل ، وما رواه عن الإمام عليّ عليه‌السلام (٢) بأن قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه ـ فهو بالغض عن سنده ـ ضعيف دلالة ، فلا يصلح أن يكون دليلا على عدم استحقاق عثمان للقتل ، أو لا يكشف على عدم الرضا الواقعي عند الإمام عليه‌السلام ، كيف لا ، وقد ارتكب عثمان الكثير من الجرائر التي تستلزم إقامة الحد عليه ، وهذا قطعا مما يسر الإمام عليه‌السلام لكونه مرغوبا به عند المولى عزوجل ، وليس قتله برزخا بين السرور

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام : ج ١ / ٣٧٣.

(٢) وهي ما رواه الواقدي من العامة عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمّار بن ياسر عن أبيه قال : رأيت عليّا عليه‌السلام على منبر رسول الله حين قتل عثمان وهو يقول : «ما أحببت قتله ولا كرهته ولا أمرت به ولا نهيت عنه» وفي رواية قال : «ولا مالأت على قتله ، ولا ساءني ولا سرني».


والحزن ـ حسبما ادّعي ـ بل هو إما سرور لكونه أقيم عليه الحد ، وإما حزن باعتباره ـ أي عثمان ـ غير مستحق للقتل.

هذا مضافا إلى معارضة الخبر لأخبار أخر كقول الإمام عليه‌السلام : «ألا من كان سائلا عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه» وكيفية الجمع بين قوله عليه‌السلام : ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه» وبين ما تقدم ، أن قاتلي عثمان لم يرجعوا في قتله إلى الإمام عليه‌السلام ولم يكن منه قول في ذلك بأمر ولا نهي ، ومعنى أن الله قتله» إن الله حكم بقتله وأوجب وأنا كذلك ، وقد جمع الشيخ الطوسي بين هذه الوجوه المتعارضة في تلخيص الشافي.

الثانية : من أين أثبت سماحة السيّد «أن الحديث شريف»؟ مع أن الحديث المذكور ضعيف من الناحية السندية والدلالتية ، أما من حيث السند فلكونه من المراسيل (١) الضعاف ، وأما من حيث الدلالة فلكونه من مبتدعات أبي بكر عند ما احتج أمير المؤمنين عليه‌السلام بثلاث وأربعين خصلة ، فقد ورد عن مولانا الإمام السجّاد عليه‌السلام قال : لمّا كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه انقباضا فكبر ذلك على أبي بكر فأحبّ لقاءه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لمّا اجتمع الناس إليه وتقليدهم إياه أمر الأمّة وقلّة رغبته في ذلك وزهده فيه ، أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة وقال له : والله يا أبا الحسن ما كان هذا الأمر مواطاة منّي ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصا عليه ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمّة ولا قوّة لي لمال ولا كثرة العشيرة ولا ابتزاز له دون غيري فمالك تضمر عليّ ما لم أستحقّه منك وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه وتنظر إليّ بعين السأمة مني؟ قال : فقال له عليه‌السلام : فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ولا حرصت عليه ولا وثقت بنفسك في القيام به ، وبما يحتاج منك فيه ، فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول الله :

__________________

(١) لاحظ ما قاله المحقق الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ / ١٣٩.


«إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال» ولما رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيّ وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى وأعطيتهم قود الإجابة ولو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت. قال: فقال عليّ عليه‌السلام : أمّا ما ذكرت من حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال» أفكنت من الأمة أو لم أكن؟ قال : بلى ، قال عليه‌السلام : وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟ قال : كلّ من الأمّة ، فقال علي عليه‌السلام : فكيف تحتجّ بحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك وليس للأمّة فيهم طعن ولا في صحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصيحته منهم تقصير ، قال : ما علمت بتخلّفهم إلّا من بعد إبرام الأمر وخفت إن دفعت عني الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدّين عن الدّين وكان ممارستكم إليّ أن أجبتم أهون مئونة على الدّين وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعوا كفّارا ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم ..» (١).

وهل شرافة الحديث مقتبسة من رواية أبي بكر له أم هناك شيء لم يطلعنا عليه صاحب الدعوى؟!

إن الحديث المذكور يوجب عصمة الأمة من الخطأ ، وقد قام الدليل على بطلان ذلك لعدم اختصاص الأمة بالإمامية كما هو ظاهر في نفسه ، ويظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة» ، ولو سلّمنا اختصاصه بالإمامية فلا نعتقد أحدا يدّعي اجتماع كلّ أفرادها حول الحق ، بل فيها الشرير والسكّير والصالح والطالح ، وهل يجتمع كل هؤلاء على الهدى وقد انقسموا إلى صنفين وجبهتين؟!.

وللشيخ المفيد كلام في هذا المجال نعرضه لأهميته قال :

[فإن قال : أفليس قد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما كان الله ليجمع أمتي

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق ص ٥٤٨.


على ضلال» فكيف يصحّ اجتماع الأمة على دفع المستحق عن حقه والرضا بخلاف الصواب ، وذلك ضلال بلا اختلاف؟

قيل له : أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني والألفاظ ، وقد دفع صحّتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار ، وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيّار النظّام.

وبعد : فلو ثبت ما ضرّنا فيما وصفناه ، لأنّا لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدّمون على أمير المؤمنين عليه‌السلام فكيف نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا ـ كالاضطرار ـ خلاف الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين ، وإنكار بني هاشم واتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد جاءت الأخبار مستفيضة بأقاويل جماعة من وجوه الصحابة في إنكار ما جرى ، وتظلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذلك برفع الصوت والإجهار؟!

وكان من قول العبّاس بن عبد المطلب عمّ رسول الله ما قد عرفه الناس ، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوّام أيضا ما لا يخفى على من سمع الأخبار ، وكذلك من عمّار بن ياسر وسلمان وأبي ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات يطول بذكرها الكلام.

وهذا يبطل ما ظنّه الخصم من اعتقاد الإجماع على إمامة المتقدّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام على أنه لا شبهة تعرض في إجماع الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلّا وهي عارضة في قتل عثمان بن عفان ، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه‌السلام ، وطاعة يزيد بعد الحرّة ، وإمامة بني أميّة وبني مروان.

فإن وجب لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتّى تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم في الإمامة ، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان ، إذ العلة واحدة فيما أوجب لهم ذلك ، فهو ظاهر التسليم


والانقياد على الاجتماع ، وترك النكير والخلاف ، وهذا ما يأباه أهل العلم كافّة ، ولا يذهب إليه أحد من أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد.

فإن قال قائل : أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثم الذين يلونه».

وقال عليه‌السلام : «إن الله تعالى اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وقال عليه‌السلام : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فكيف يصحّ مع هذه الأحاديث أن يقترف أصحابه السيئات ، أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات؟

قيل له : هذه أحاديث آحاد ، وهي مضطربة الطرق والإسناد ، والخلل ظاهر في معانيها والفساد ، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الإجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات ، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد ، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار ، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق ، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان :

فمنها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم ، فقالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن إذن.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفّي فيه : «أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الأولى».

وقال عليه‌السلام في حجة الوداع لأصحابه : «ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفارا ، يضرب بعضكم


رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم» (١).

وبالجملة فإن الأمة أجمعت على استحقاق عثمان القتل ، وقد شارك في قتله ثلة من الصحابة والتابعين ، قال ابن أبي الحديد :

«.. وكثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير : زيد ابن ثابت ، وأبو أسيد الساعدي ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت» (٢).

وقد ذكر المؤرخون مسير من سار إلى حصر عثمان فلاحظ (٣).

__________________

(١) الإفصاح في الإمامة للشيخ المفيد ص ٤٧ ـ ٥٠.

(٢) شرح النهج ج ٢ / ١٤٠ ط / دار المعارف بمصر ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٣٩٩ حوادث عام ٣٥ ه‍.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٥٤ ـ ١٧٩ حوادث عام ٣٥ ، وكذا تاريخ الطبري.


ولقد كانت عائشة تشبّهه باليهود وتأمر بقتله وتقول : اقتلوا نعثلا (١) ـ اسم رجل يهودي ـ فقد كفر ، اقتلوا نعثلا قتله الله ، بعدا لنعثل وسحقا.

____________________________________

(١) «النّعثل» : الشيخ الأحمق ، والنّعثلة : أن يمشي الرجل مفاجّا ويقلب قدميه كأنه يغرف بهما وهو من التبختر. ونعثل : رجل من أهل مصر كان طويل اللحية ، قيل : إنه كان يشبه عثمان ، وشاتمو عثمان يسمونه نعثلا تشبيها بالرجل المصري ، وفي حديث عائشة : اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا! تعني عثمان ، وكان هذا منها لمّا غاضبته وذهبت إلى مكة (١).

يروي الطبري عن عثمان بن الشريد ، قال : مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة ، فقال : يا نعثل والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنّك إلى حرة النار ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه (٢).

وروى أيضا عن عبد الرحمن بن محمّد : أن محمّد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف فتقدمهم محمّد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال قد أخزاك الله يا نعثل ، فقال عثمان : لست بنعثل ولكني عبد الله وأمير المؤمنين ، قال محمّد ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، فقال عثمان : يا ابن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه ، فقال محمّد : لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك ..» (٣).

إذن ، لقب «نعثل» كان السمة البارزة في شخصية عثمان ، ويظهر أن سبب تلقيبه به هو تبختره في مشيه ، وإلا فإن طول اللحية ليست علة تامة للتسمية بذاك

__________________

(١) لسان العرب ج ١١ / ٦٦٩ مادة نعثل.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٣٩٩.

(٣) نفس المصدر ص ٤٢٣.


اللقب لعدم اقتصارها على عثمان ، ويشهد لما قلنا من أن التبختر هو المناط ما ورد من أن سورة عبس وتولّى نزلت به ، حيث جمع ثيابه وتأفف عند ما جلس بقربه ابن أم مكتوم ، وجمع الثياب عادة من علائم الكبر والتبختر.

وعائشة كانت من ألد الخصوم لعثمان ثم لمّا قتل طالبت بدمه لأن الناس بايعوا الإمام عليّاعليه‌السلام!!

قال ابن الأثير :

(وخرجت عائشة من مكة تريد المدينة بعد ما خرجت منها لحاجة ، فلما كانت بسرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة ، وهو ابن أمّ كلاب ، فقالت له : مهيم؟

قال : قتل عثمان وبقوا ثمانيا. قالت : ثم صنعوا ما ذا؟ قال : اجتمعوا على بيعة عليّ. فقالت : ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوما ، والله لأطلبن بدمه! فقال لها : ولم؟ والله إن أوّل من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأول ، فقال لها ابن أمّ كلاب :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرّياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنّه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم ينكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرؤ

يزيل الشّبا ويقيم الصّعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر

فانصرفت إلى مكّة فقصدت الحجر فسترت فيه ، فاجتمع الناس حولها ، فقالت : أيّها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة


اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنّه ، وقد استعمل أمثالهم قبله ، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها ، فلمّا لم يجدوا حجّة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام ، والله لإصبع من عثمان خير من طاق الأرض أمثالهم! وو الله لو أن الذي اعتدّوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلّص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء ، أي يغسل) (١).

وذكر ابن قتيبة الدينوري :

(إن عائشة لمّا أتاها أنه بويع لعليّ عليه‌السلام ، وكانت خارجة عن المدينة ، فقيل لها : قتل عثمان ، وبايع الناس عليّا ، فقالت : ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قتل والله مظلوما ، وأنا طالبة بدمه ، فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لأنت ، ولقد قلت : اقتلوا نعثلا فقد فجر (٢) ، فقالت عائشة : قد والله قلت وقال الناس ، وآخر قولي خير من أوله ، فقال عبيد : عذر والله ضعيف يا أمّ المؤمنين) (٣) ثم أنشد الشعر المتقدم.

قال ابن أبي الحديد :

(قال كلّ من صنّف في السير والأخبار : إن عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان حتى إنّها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته ، قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلا عائشة ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا) (٤).

وفي لفظ الطبري :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٢٠٦ وتاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٦.

(٢) في فتوح ابن الأعثم ج ٢ / ٢٤٩ : «فقد كفر».

(٣) الإمامة والسياسة ص ٧١ باب خلاف عائشة على عليّ عليه‌السلام.

(٤) الغدير ج ٩ / ٨١ نقلا عن ابن أبي الحديد في شرح النهج.


«فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت واجتمع إليها الناس ، فقالت : يا أيّها الناس إن عثمان قتل مظلوما وو الله لأطلبن بدمه» (١).

وقال البلاذري :

(كانت عائشة وأمّ سلمة حجّتا ذلك العام «عام قتل عثمان» وكانت عائشة تؤلّب على عثمان ، فلمّا بلغها أمره وهي بمكة أمرت بقبتها فضربت في المسجد الحرام وقالت : إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر).

وأخرج الطبري عن عمر بن شبة من طريق عبيد بن عمرو القرشي قال : خرجت عائشة وعثمان محصور ، فقدم عليها مكة رجل يقال له : اخضر ، فقالت : ما صنع الناس؟ فقال : قتل عثمان المصريين ، قالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أيقتل قوما جاءوا يطلبون الحقّ وينكرون الظلم؟ والله لا نرضى بهذا ، ثم قدم آخر فقالت : ما صنع الناس؟ قال : قتل المصريّون عثمان)(٢).

وقال أبو مخنف : جاءت عائشة إلى أمّ سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها : يا بنت أبي أميّة أنت أقل مهاجرة من أزواج رسول الله ، وأنت كبيرة أمّهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا من بيتك ، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك. فقالت أمّ سلمة : لأمر ما قلت هذه المقالة؟ فقالت عائشة : إنّ عبد الله أخبرني أنّ القوم استتابوا عثمان فلمّا تاب قتلوه صائما في شهر حرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعلّ الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا. فقالت : أنا أمّ سلمة ، إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا ، وإنك لتعرفين منزلة عليّ بن أبي طالب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الحديث (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٧.

(٢) الغدير ج ٩ / ٧٩.

(٣) الغدير ج ٩ / ٨٣.


وقال أبو الفداء :

(كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه ، وكانت تخرج قميص رسول الله وشعره وتقول : هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه).

قال العلّامة الأميني (قدس‌سره):

(هذه الروايات تعطينا درسا ضافيا بنظرية عائشة في عثمان وأنّها لم تكن ترى له جدارة تسنّم ذلك العرش ، وبالغت في ذلك حتى ودّت إزالته عن مستوى الوجود. فأحبّت له أن يلقى في البحر وبرجله رحى تجرّه إلى أعماقه ، أو أنّه يجعل في غرارة من غرائرها وتشدّ عليه الحبال فيقذف في عباب اليمّ فيرسب فيه من غير خروج ، أو أن يؤدي به حراب المتجمهرين عليه فتكسح عن الملأ معرّة أحدوثاته ، ولذلك كانت تثير الناس عليه بإخراج شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثوبه ونعله ، ولم تبرح تؤلّب الملأ الدينيّ عليه وتحثّهم على مقته وتخذّلهم عن نصرته في حضرها وسفرها ، وإنّها لم تعدل عن تلكم النظريّة حتّى بعد ما أجهز على عثمان إلا لمّا علمت من انفلات الأمر عن طلحة الذي كانت عائشة تتهالك دون تأميره وتضمر تقديمه منذ كانت ترهج النقع على عثمان ، وتهيّج الأمة على قتله ، فكانت تروم أن تعيد الإمرة تيميّة مرّة أخرى ، ولعلّها حجّت لبثّ هاتيك الدعاية في طريقها وعند مجتمع الحجيج بمكّة ، فكان يسمع منها قولها في طلحة : «إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه يا ابن عمّ! لكأنّي أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له» ، وقولها : «إيه ذا الإصبع! لله أبوك ، أما أنّهم وجدوا طلحة لها كفوا».

وقولها في عثمان : «اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر» ، وقولها لابن عبّاس : «إيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية» ، وقولها بمكّة : «بعدا لنعثل وسحقا» ، وقولها لمّا بلغها قتله : «أبعده الله ، ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلّام للعبيد».

لكنّها لمّا علمت أنّ خلافة الله الكبرى عادت علويّة واستقرّت في مقرّها الجدير بها ـ ولم يكن لها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام هوى ـ قلبت عليها ظهر المجنّ ، فطفقت تقول : لوددت أنّ السماء انطبقت على الأرض إن تمّ هذا! وأظهرت


الأسف على قتل عثمان ورجعت إلى مكّة بعد ما خرجت منها ، ونهضت ثائرة تطلب بدم عثمان لعلّها تجلب الإمرة إلى طلحة من هذا الطريق ، وإلا فما هي من أولياء ذلك الدم ، وقد وضع عنها قود العساكر ومباشرة الحروب لأنّها امرأة خلقها الله لخدرها ، وقد نهيت كبقيّة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة عن التبرّج ، وقد أنذرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذّرها عن خصوص واقعة الجمل ، غير أنّها أعرضت عن ذلك كلّه لما ترجّح في نظرها من لزوم تأييد أمر طلحة ، وتصاممت عن نبح كلاب الحوأب ، وقد ذكره لها الصّادق الأمين عند الإنذار والتحذير ، ولم تزل يقودها الأمل حتى قتل طلحة فألمّت بها الخيبة ، وغلب أمر الله وهي كارهة) (١).

قال البلاذري في الأنساب :

(خرجت عائشة باكية تقول : قتل عثمان رحمه‌الله ، فقال لها عمّار بن ياسر : أنت بالأمس تحرضين عليه ثم أنت اليوم تبكينه) (٢).

ما صدر من عائشة صاحبة الجمل لا يغدو مستغربا لدى الباحث في شخصيتها التي طالما ألّبت الناس على إمام زمانها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك لضغن في صدرها كما عبّر عن ذلك الإمام عليه‌السلام بقوله :

(فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل ، وإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنّة وإن كان ذا مشقة شديدة ، ومذاقة مريرة ، وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على الله!) (٣).

وللضغن أسباب منها :

حنو النبيّ على ابنته فاطمة عليها‌السلام وحبه الشديد لها ، فأكرمها إكراما عظيما

__________________

(١) الغدير ج ٩ / ٨٥.

(٢) الأنساب ج ٥ / ٧٠. طبقات ابن سعد ج ٥ / ٢٥ ، ط / ليدن ، الإمامة والسياسة ج ١ / ٤٣.

(٣) خطبة ١٥٦ من نهج البلاغة. وشرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ١٢٨.


أكثر مما كان الناس يظنونه ، حتى خرج بها عن حدّ الآباء للأولاد ، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد : إنها سيّدة نساء العالمين ، وإنها أفضل من مريم بنت عمران ، وأنها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش : يا أهل الموقف : غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد ، وأن تزويجها للإمام عليّ عليه‌السلام ما كان إلّا بعد أن زوّجه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة ، كم قال : يؤذيني ما يؤذيها ، ويغضبني ما يغضبها ، وأنها بضعة مني ، يريبني ما رابها. فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل ، والنفوس البشرية تغيّظ على ما هو دون هذا ، فكيف هذا!

ومنها : أن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات ولم تلد هي ولدا ، وأن رسول الله كان يقيم ابني فاطمة مقام بنيه ، ويسمى الواحد منهما «ابني» ويقول : «دعوا لي ابني» «وما فعل ابني» فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ، ثم رأت البعل يتبنّى بني ابنته من غيرها ، ويحنو عليهم حنوّ الوالد المشفق! هل تكون محبّة لأولئك البنين ولأمهم ولأبيهم ، أم مبغضة! وهل تودّ دوام ذلك واستمراره ، أم زواله وانقضاءه!

ومنها : أنّه اتفق أن رسول الله سدّ باب أبيها إلى المسجد ، وفتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ، ثم عزله عنها بصهره ، فقدح ذلك أيضا في نفسها ، وولد لرسول الله إبراهيم من مارية ، فأظهر الإمام عليّ عليه‌السلام بذلك سرورا كثيرا ، وكان يتعصّب لمارية ، ويقوم بأمرها عند رسول الله ميلا على غيرها ، وجرت لمارية نكبة ـ كالتي ينسبها العامة إلى عائشة ـ فبرأها الإمام عليّ منها ، وكشف الله بطلانها على يده ، كل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه ، ويؤكد ما في نفسها منه ، ثم مات ابراهيم فأبطنت شماتة وإن أظهرت كآبة.

هذه الأسباب وغيرها أدت إلى وقوع الشحناء من طرف عائشة على أمير المؤمنين وزوجه الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، ويؤكد ما قلنا إن عائشة لم تحضر عزاء بني


هاشم لما استشهدت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام بل «نقل إلى مولانا عليّ عليه‌السلام عنها كلام يدل على السرور» (١).

والحسد أعظم سبب أدّى إلى إظهار ضغينتها على آل البيت ، فاستلزم إنكار خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام لذا قال عليه‌السلام بما ذكرناه سابقا : «ولو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إليّ لم تفعل» أي : لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه ، والوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه ، ونسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله ، أو يحرّض عليه ـ ودعيت عائشة إلى أن تخرج عليه من عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام ، تثير فتنة وتنقض البيعة ـ لم تفعل ، وهذا حق ، لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على الإمام عليّ عليه‌السلام ، وحال الإمام ليس كحال عمر.

لكنها جمعت الجيوش على مولى الثّقلين الذي حربه حرب الله ، مع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفرّس بها يوما بمحضر من نسائه ، فقال : «ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب (٢) ، تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة ، كلّهم في النار وتنجو بعد ما كادت» (٣).

لذا لمّا وصلت إلى الحوأب وهي منطقة قبل البصرة وهو ماء لبني عامر بن صعصعة ، نبحتها الكلاب ، فنفرت صعاب إبلها ومعها طلحة والزبير ، فقال قائل منهم : لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! بكت وقالت : أهذا ماء الحوأب؟ قالوا : نعم ، قالت : ردّوني ردّوني ، فسألوها ما شأنها؟ ما بدا لها؟ فقالت : إني سمعت رسول الله يقول : كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب ، قد نبحت بعض نسائي ، ثم قال لي : «إياك يا حميراء أن تكونيها» فقال لها الزبير : مهلا يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة ، فقالت : أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ١٣٤.

(٢) الجمل الأدبب : الكثير شعر الوجه.

(٣) شرح النهج ج ٩ / ٢٠٤ ، والإمامة والسياسة ج ١ / ٨٢ والبداية والنهاية / ابن كثير ج ٧ / ١٨٥.


على ماء الحوأب؟ فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا ، فحلفوا لها ، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، فكانت أول شهادة زور في الإسلام ، ثم سارت عائشة لوجهها(١).

تراكمت كل هذه الأسباب لتشنّ عائشة حربا لا هوادة فيها على الإمام عليّ حبيب الله ورسوله ، بحجة المطالبة بدم عثمان ، وكأنّ الإمام عليه‌السلام ـ بنظر عائشة ـ هو القاتل لعثمان ، ولكنّه عذر يخفي ضغائن تغلي في الصدور ، وهل قتل عثمان بالبصرة ليطلب دمه فيها؟ فقتلة عثمان كانوا في المدينة مع عائشة فلم لم تقتص منهم عائشة هناك؟! مع أنّ عائشة وجماعتها كانوا من أشدّ الناس على عثمان ، وأعظمهم إغراء بدمه. ولكنها الخلافة التي نغّصت العيش عليها كيف وصلت إلى ابن أبي طالب عليه‌السلام بل يجب أن يبقى بعيدا عنها لأنها محرّمة على الهاشميين حيث لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد ـ حسبما صرّح عمر بن الخطاب لابن عبّاس ـ.

والعجب ثم العجب من الزبير الذي ذهب للبصرة للطلب بدم عثمان ، مع أنه بايع أمير المؤمنين يوم مات رسول الله وهو آخذ قائم سيفه يقول : ما أحد أحقّ بالخلافة من عليّ عليه‌السلام ولا أولى بها منه ، وامتنع من بيعة أبي بكر!

لقد نفثت عائشة عمّا يجول في صدرها يوم أقبلت على جملها ، فنادت بصوت مرتفع : «أيّها الناس ، أقلّوا الكلام واسكتوا ، فأسكت الناس لها ، فقالت : إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر وبدّل ، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا ، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط ، وتأميره الشبّان ، وحمايته موضع الغمامة ، فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل ، ألا وإنّ قريشا رمت غرضها بنبالها ، وأدمت أفواهها بأيديها ، وما نالت بقتلها إياه شيئا ، ولا سلكت به سبيلا قاصدا ، أما والله ليرونّها بلايا عقيمة تنبّه النائم ، وتقيم

__________________

(١) نفس المصدر.


الجالس ، وليسلّطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم ويسومونهم سوء العذاب.

أيّها الناس ، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه! مصتموه كما يماص الثوب الرخيص ، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه ، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ، ابتزازا وغصبا ، تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم!

ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته ، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان»(١).

إن مبايعة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ـ بنظر عائشة صاحبة الجمل ـ تعتبر ابتزازا وغصبا من غير مشورة ، وهو صاحب الحق ، لكنها تغافلت عن خلافة أبيها كيف تمت غصبا وقهرا ، بل لم تنظر إلى خلافة عمر التي تمت بمرسوم من أبيها؟! إنها الضغينة كما قال مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام!

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ٢٠٧.


وقد ضرب عثمان عبد الله بن مسعود الصحابي (١) الجليل حتى أصيب بالفتق ، وصار طريح الفراش ومات.

____________________________________

قال البلاذري (١) :

حدّثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف وعوانة في إسنادهما : أنّ عبد الله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال : من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ، أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولّى الوليد؟ وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو :

«إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار».

فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمر بإشخاصه ؛ فاجتمع الناس فقالوا : أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه ، فقال : «إنّ له عليّ حق الطاعة ولا أحبّ أن أكون أوّل من فتح باب الفتن». وفي لفظ أبي عمر : «إنها ستكون أمور وفتن لا أحبّ أن أكون أوّل من فتحها». فردّ الناس وخرج إليه (٢).

وقال البلاذري أيضا :

وشيّعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن فقالوا له : جزيت خيرا فلقد علّمت جاهلنا ، وثبّت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، فنعم أخو الإسلام أنت ونعم الخليل ؛ ثم ودّعوه وانصرفوا. وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فلما رآه قال : ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوى من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، فقال ابن مسعود :

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٥ / ٣٦.

(٢) الاستيعاب ج ١ / ٣٧٣.


لست كذلك ولكني صاحب رسول الله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ، ونادت عائشة : أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا ، وضرب به عبد الله بن زمعة الأرض ، ويقال : بل احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه ، فقال عليّ عليه‌السلام : يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد بن عقبة؟ فقال : ما بقول الوليد فعلت هذا ولكن وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ، فقال عليّ عليه‌السلام : أحلت عن زبيد على غير ثقة.

وفي لفظ الواقدي : أنّ ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال : أيّها الناس أنه قد طرقكم الليلة دويبة ، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، فقال ابن مسعود : لست كذلك ولكني صاحب رسول الله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان وصاحبه يوم حنين ، قال : وصاحت عائشة : يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ فقال عثمان : اسكتي! ثم قال لعبد الله بن زمعة : أخرجه إخراجا عنيفا ، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض ، فكسر ضلعا من أضلاعه ، فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان!

قال البلاذري : وقام عليّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك وقال له مروان : إنّ ابن مسعود أفسد عليك العراق ، افتريد أن يفسد عليك الشام؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين ، وكان مقيما بالمدينة ثلاث سنين.

وقال قوم إنه كان نازلا على سعد بن أبي وقاص ، ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا أدعوا لك طبيبا؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال :


أفلا آمر لك بعطائك؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه!! قال : يكون لولدك ، قال : رزقهم على الله ، قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن ، قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي. وأوصى أن لا يصلّي عليه عثمان فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم فلمّا علم غضب ، وقال : سبقتموني به؟ فقال له عمّار بن ياسر : إنه أوصى أن لا تصلّي عليه ، فقال ابن الزبير :

لأعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي

وفي لفظ ابن كثير (١) قال : جاءه عثمان في مرضه عائدا فقال له : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا آمر لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : ألا آمر لك بعطائك؟ ـ وكان قد تركه سنتين ـ فقال : لا حاجة لي ، فقال : يكون لبناتك من بعدك ، فقال : أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة وإني سمعت رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] يقول : من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا.

وقال البلاذري : كان الزبير وصيّ ابن مسعود في ماله وولده ، وهو كلّم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده ، وأوصى ابن مسعود أن يصلّي عليه عمّار بن ياسر ؛ وقوم يزعمون أنّ عمارا كان وصيّه ووصيّة الزبير أثبت.

وأخرج البلاذري أيضا من طريق أبي موسى القروي بإسناده أنه دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه فاستغفر كل واحد منهما لصاحبه ، فلما انصرف عثمان قال بعض من حضر : إنّ دمه لحلال. فقال ابن مسعود : ما يسرّني أنني سددت إليه سهما يخطئه وأنّ لي مثل أحد ذهبا.

وقال الحاكم وأبو عمرو وابن كثير : أوصى ابن مسعود إلى الزبير بن العوام فيقال : إنه هو الذي صلّى عليه ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه بذلك إليه ولم يعلم

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٧ / ١٦٣.


عثمان بدفنه ، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك ، وقيل : بل صلّى عليه عثمان ، وقيل : عمّار(١).

وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي (٢) أنه لمّا حضر ابن مسعود الموت قال : من يتقبّل مني وصيّة أوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها ، فقال عمّار : أنا أقبلها ، فقال ابن مسعود : أن لا يصلّي عليّ عثمان ، قال : ذلك لك. فيقال أنه لمّا دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل : إنّ عمارا وليّ الأمر ، فقال لعمّار : ما حملك على أن لم تؤذنّي؟ فقال: عهد إليّ أن لا أوذنك ....

وفي لفظ اليعقوبي (٣) : اعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده فقال له : ما كلام بلغني عنك؟ قال : ذكرت الذي فعلته بي أنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر ومنعتني عطائي ، قال : فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك ، قال : ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء ، قال : فهذا عطاؤك فخذه ؛ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا غنيّ عنه ، لا حاجة لي به! فانصرف ، فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي.

وأخرج محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه لأبي ذر (٤).

وفي تاريخ الخميس (٥) : حبس (عثمان) عبد الله بن مسعود وأبي ذر عطاءهما وأخرج أبا ذرّ إلى الربذة وكان بها إلى أن مات. وأوصى (عبد الله) إلى الزبير وأوصاه أن يصلّي عليه ولا يستأذن عثمان لئلّا يصلّي عليه ، فلما دفن وصل عثمان

__________________

(١) المستدرك ج ٣ / ٣١٣ والاستيعاب ج ١ / ٣٧٣ وتاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ١ / ٢٣٦ ط / مصر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٤٧.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ج ١ / ٢٣٧.

(٥) نفس المصدر ج ٢ / ٢٦٨.


ورثته بعطاء أبيهم خمس سنين. وأجاب بأن عثمان كان مجتهدا ولم يكن من قصده حرمانه وإنّما التأخير إلى غادية أدبا ، أما مع حصول تلك الغاية أو دونها وصل به ورثته ولعله كان أنفع له.

وفي السيرة الحلبية (١) من جملة ما انتقم به على عثمان أنه حبس عبد الله بن مسعود وهجره ، وحبس عطاء أبيّ بن كعب ، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية ، وضرب عمّار بن ياسر وكعب بن عبده ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال ، وقال لعبد الرحمن بن عوف : إنك منافق ...».

وابن مسعود الذي فعل به عثمان حوبا كبيرا ليس له مبرر هو من نزل بحقهم قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) وهو من ضمن الثمانية عشر رجلا ممن نزل فيهم قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

وورد عن الإمام عليّ عليه‌السلام مرفوعا قال :

«عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أحد».

وفي لفظ آخر : «والذي نفسي بيده لهما ـ يعني ساقي ابن مسعود ـ أثقل في الميزان من أحد» (٤).

وعن علقمة وعمر في حديث عن رسول الله قال : من سرّه أن يقرأ القرآن

__________________

(١) نفس المصدر ج ٢ / ٨٧.

(٢) سورة الأنعام : ٥٢ وراجع تفسير الطبري ، وتفسير القرطبي وابن كثير والدر المنثور والخازن والشربيني والشوكاني.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٢ ولاحظ تفسير ابن كثير والخازن.

(٤) مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٧ ، حلية الأولياء ج ١ / ١٢٧ ، الاستيعاب ج ١ / ٣٧١ ، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٣ ، الإصابة ج ٢ / ٣٧٠.


غضّا أو رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد (١) ـ أي ابن مسعود ـ.

وأخرج أحمد في مسنده من طريق عمرو بن العاص قال :

مات رسول الله وهو يحب عبد الله بن مسعود وعمّار بن ياسر (٢).

وأخرج الشيخان والترمذي عن أبي موسى قال : قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلّا أنه رجل من أهل بيت النبيّ لما نرى من دخوله ودخول أمّه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وفي لفظ البخاري عن حذيفة بن اليمان قال :

«ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا برسول الله من ابن أمّ عبد» (٤).

هذا هو ابن مسعود ، ذو العلم والهدى والسمت والصلاح ، كانت سيرته الدءوب على نشر علم القرآن وسنّة الرسول وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل وتثبيت القلوب ، وشدّ أزر الدين ، في كل ذلك هو شبيه رسول الله في هديه وسمته ودلّه ، فلا تجد فيه مغمزا لغامز ، ولا محلا للمز وهمز ، وقد بعثه عمر إلى الكوفة ليعلّمهم أمور دينهم ، وبعث عمّارا أميرا وكتب إليهم : إنهما من النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر ، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (٥).

وقد يسأل سائل : لما ذا يحرم هذا البدريّ العظيم عطاؤه سنين؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن

__________________

(١) حلية الأولياء ج ١ / ١٢٤. مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٨.

(٢) مسند أحمد ج ٤ / ٢٠٣.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٤ ، مصابيح السنّة ج ٢ / ٢٨٤ ، تيسير الوصول ج ٣ / ٢٧٩ نقلا عن الشيخين والترمذي ، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٢ ، الإصابة ج ٢ / ٣٦٩.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المناقب.

(٥) الاستيعاب ج ١ / ٣٧٣ والإصابة ج ٢ / ٣٦٩.


مسعود وهو في منصرم عمره ، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه ، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل ، موصيا بأن لا يصلّي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع. لما ذا فعل به هذا؟ ولما ذا شتم على رءوس الأشهاد؟ ولما ذا أخرج من مسجد رسول الله مهانا عنفا ، ولما ذا ضرب به الأرض فدقّت أضالعه؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين؟!

كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال الكوفة يوم كان عليه ما أمر به ، فألقى مفاتيح بيت المال لمّا لم يجد من الكتاب والسنّة ـ وهو العليم بهما ـ مساغا لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها ، وعلم أنها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرّها كتاب ولا سنّة ، فتسلل عن عمله وتنصّل ، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم ، فلهج بما علم ، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح ، فغاظ تلكم الأحوال داعية الشهوات وشاخص الهدى الوليد بن عقبة ، فكتب في حقه ونمّ وسعى ، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت ، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الإسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه ، فضلا على أن يشكر على ذلك كله ، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه ، وإنكار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وصيحة عائشة في خدرها ، ولم تزل البغضاء محتدمة على هذه وأمثالها حتى كان في مغبّة الأمر ما لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جرّوا إليه الويلات.

ولو ضرب المسيطر على الأمر صفحا عن الفظاظة في الانتقام ، أو أعار لنصح صلحاء الأمة أذنا واعية ، أو لم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنكي الرجال ، أولم ينبذ كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره ، لما استقبله ما جرى عليه وعلى من اكتنفه من الوأد والهوان لكنّه لم يفعل ففعلوا ، ولمحكمة العدل الإلهي غدا حكمها البات.

ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخرى وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر ، لما ذا كان ذلك؟ لأنه دفن أبا ذر لمّا حضر موته في حجته ، وجد بالربذة في


ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.

وجد صحابيا عظيما كان رسول الله يقرّبه ويدنيه قد فارق الدنيا .. وجد مثالا للقداسة والتقوى ، فتمثّل أمام عينيه تلك الصورة المكبّرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.

وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا ، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الإسلام.

وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا .. وجد في قارعة الطريق جثمان طيّب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس ، وتسفي عليه الرياح ، وذكر قول رسول الله : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويحشر وحده. فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله ، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى ، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الإنسان المبجّل ، فلما هبطوا يثرب ، نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر ، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا ، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا ، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطمّ جيفته ، فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة ، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم وموئل التقوى ومنبثق الإيمان ، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.


وقد سفّر أبا ذر الغفاري (١) ، ذلك الصحابي الجليل الذي قال فيه الرسول : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ونفاه وأبعده من المدينة إلى الشام مرة أو مرتين ثم إلى الربذة ـ وهي أرض جرداء بين مكة والمدينة ـ حتى مات أبو ذر في الربذة جوعا وعطشا ، في الوقت الذي كان عثمان يتقلّب في بيت مال المسلمين ويوزّع الأموال على أقاربه من الأمويين والمروانيين!

____________________________________

(١) قال ابن الأثير :

[جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، وقيل غير ذلك ، كنيته أبو ذر الغفاري ، وأسلم والنبيّ بمكّة أول الإسلام ، فكان رابع أربعة ، وهو أول من حيّا رسول الله بتحية الإسلام ، ولمّا أسلم رجع إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى هاجر النبيّ فأتاه بالمدينة وصحبه إلى أن مات ، وكان يعبد الله قبل مبعث النبيّ بثلاث سنين ، وبايع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق وإن كان مرّا.

أخبرنا إبراهيم بن محمّد ... عن عبد الله بن عمرو قال : «سمعت رسول الله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر».

وروي أن النبيّ قال : «أبو ذر يمشي على الأرض في زهد عيسى بن مريم»] (١).

استقدمه عثمان من الشام لشكوى معاوية منه ، فأسكنه الربذة حتى مات بها.

وروى إبراهيم بن الأشتر ، عن أبيه ، عن زوجة أبي ذر ، أن أبا ذر حضره

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ٥٦٢.


الموت وهو بالربذة ، فبكت امرأته ، فقال : ما يبكيك؟ فقالت : أبكي أنه لا بدّ لي من تكفينك وليس عندي ثوب يسع لك كفنا ، فقال : لا تبكي ، فإني سمعت رسول الله ذات يوم ، وأنا عنده في نفر يقول : «ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين» فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق ، فإنك سوف ترين ما أقول لك ، وإني والله ما كذبت ولا كذّبت ، قالت : وأنى ذلك وقد انقطع الحاج! قال : راقبي الطريق ، فبينما هي كذلك إذ هي بقوم تخب بهم رواحلهم كأنهم الرّخم ...» (١).

أخرج ابن سعد من طريق عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : صليت قبل الإسلام قبل أن ألقى رسول الله ثلاث سنين ، فقلت : لمن؟ قال : لله ، فقلت : أين توجّه؟ قال : أتوجّه حيث يوجهني الله.

وأخرج من طريق أبي معشر نجيح قال : كان أبو ذر يتألّه في الجاهلية ويقول : لا إله إلا الله ، ولا يعبد الأصنام ، فمرّ عليه رجل من أهل مكة بعد ما أوحي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا ذر: إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول : لا إله إلا الله ، ويزعم أنه نبي (٢).

مدحه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا وفي مواضع متعددة ، وتكفي مقالته المشهورة فيه : «ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين أصدق من أبي ذرّ» (٣).

وأخرج الطبراني مرفوعا إلى النبيّ قال :

«من سرّه أن ينظر إلى شبه عيسى خلقا وخلقا فلينظر إلى أبي ذر» (٤).

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ٥٦٤.

(٢) الطبقات ج ٤ / ١٦١.

(٣) لفظ ابن ماجة في السنن ج ١ / ٦٨.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ / ٣٣٠ وكنز العمال ج ٦ / ١٦٩.


روى البلاذري فقال :

«لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلا مولاه : أن انته عمّا بلغني عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله؟ فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ، فأغضب عثمان ذلك فصيّره إلى الشام ، ولكن معاوية بالشام لم يعجبه وجود أبي ذر ، فبعث إلى عثمان مكاتبا يقول له : إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك.

فكتب إليه عثمان : يحمله. فحمله على بعير قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، فقيل له : إنك تموت من ذلك ، فقال : هيهات لن أموت حتى أنفى.

فلما دخل إلى عثمان وعنده جماعة قال :

بلغني أنك تقول ؛ سمعت رسول الله يقول : إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا؟ فقال : نعم سمعت رسول الله يقول ذلك ، فقال لهم : أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟

فبعث إلى الإمام عليّ عليه‌السلام فأتاه فقال : يا أبا الحسن! أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقصّ عليه الخبر ، فقال الإمام عليّ : نعم ، قال : فكيف تشهد؟ قال لقول رسول الله: ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٤.


من أبي ذر ، فلم يقم بالمدينة إلّا أياما حتى أرسل إليه عثمان فقال له : والله لتخرجنّ عنها ، قال : أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال : نعم وأنفك راغم ، قال : فإلى مكّة؟ قال : لا ، قال : فإلى البصرة؟ قال : لا ، قال : فإلى الكوفة؟ قال : لا ، ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها ، يا مروان! اخرجه ولا تدع أحدا يكلّمه حتى يخرج فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته ، فخرج الإمام عليّ والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ينظرون ، فلمّا رأى أبو ذر الإمام عليّا قام إليه فقبّل يده ثم بكى وقال : إني إذ رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي ، فذهب الإمام عليّ يكلّمه ، فقال مروان : إن أمير المؤمنين عثمان قد نهى أن يكلّمه أحد ، فرفع الإمام عليه‌السلام السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال : تنحّ نحاك الله إلى النار ، ثم شيّعه وكلّمه بكلام يطول شرحه .. ثم ودّع الإمام عليه‌السلام أبا ذر وقال له : «يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والأكثر حسدا ، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا ، لا يؤنسنّك إلا الحق ، ولا يوحشنّك إلّا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك» (١).

وواقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة ، أحد الأحداث التي نقمت على عثمان. ولقد جاء الخليفة عثمان ببدعة عند ما استأثر بمال المسلمين ووزعه على أقربائه وبني عمومته وأخواله ، وهذه سيرة لم يسبقه إليها أحد ممن تقدّمه وإن كانوا كرماء مع من يسايرهم ويسير في ركبهم ، لكنّ عثمان كان أكرمهم مع أقربائه الأمويين ، فقد خالف كتاب الله وسنّة رسوله في العطاء ، حيث إن الله يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ / ١٧ خطبة ١٢٧ محمّد عبده.


(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٣).

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم ، ولكل فرد من المسلمين منه حق معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ في شرعه الحق وناموس الإسلام المقدس حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.

جاء عن رسول الله في الغنائم : لله خمسه ، وأربعة أخماس للجيش ، وما أحد أولى به من أحد ، ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم (٤).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جاءه فيء قسّمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظين ، وأعطى العزب حظا (٥).

والسنّة الثابتة في الصدقات أن أهل كل بيئة أحقّ بصدقتهم ما دام منهم ذو حاجة ، وليست الولاية على الصدقات للجباية إلى عاصمة الخلافة ، وإنما هي للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالّها.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

(٢) سورة التوبة : ٦٠.

(٣) سورة الحشر : ٦ ـ ٧.

(٤) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٢٤.

(٥) سنن أبي داود ج ٢ / ٢٥ ، مسند أحمد ج ٦ / ٢٩ ، سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٦.


ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس يوم كان عامله على مكّة : «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلّات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا» (١).

وقال عليه‌السلام لعبد الله بن زمعة لمّا قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا : «إن هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنما هو فيء للمسلمين وحلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم وإلّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم» (٢).

وأتى عليّا أمير المؤمنين مال من أصبهان فقسمه بسبعة أسباع ، ففضل رغيف فكسره بسبع فوضع على كل جزء كسرة ثم أقرع بين الناس أيّهم يأخذ أوّل (٣).

وأتته عليه‌السلام امرأتان تسألانه : عربيّة ومولاة لها ، فأمر لكل واحد منها بكرّ من طعام وأربعين درهما أربعين درهما ، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت ، وقالت العربية : يا أمير المؤمنين! تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها «الإمام» عليّ رضي الله عنه : إني نظرت في كتاب الله عزوجل فلم أر فيه فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق (٤).

ولذلك كلّه كانت الصحابة لا ترتضي من عمر بن الخطّاب تقديمه بعضا من الناس على بعض في الأموال بمزيّة معتبرة كان يعتبرها فيمن فضّله على غيره كتقديم زوجات النبيّ أمهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدري على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والمجاهدين على القاعدين من دون حرمان أي أحد

__________________

(١) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٤٥٧ خ ٦٧.

(٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٣٥٣ خ ٢٣٢.

(٣) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٨.

(٤) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٩.


منهم ، وكان يقول على صهوات المنابر : من أراد المال فليأتني فإن الله جعلني له خازنا (١).

وسنّة الله وسنة رسوله تأمران بالعدل في توزيع الثروة ، فيعطى المستحق ، لكن الخليفة عثمان نسي ما في الكتاب ، وشذّ عمّا جاء به النبيّ الأقدس في الأموال ، وتزحزح عن العدل والنصفة ، وقدّم أبناء بيته الساقط ، أثمار الشجرة الملعونة في كتاب الله ، رجال العيث والعبث ، والخمور والفجور ، من فاسق إلى لعين ، إلى حلّاف مهين همّاز مشاء بنميم ، وفضّلهم على أعضاء الصحابة وعظماء الأمة الصالحين ، وكان يهب من مال المسلمين لأحد قرابته قناطير مقنطرة من الذهب والفضة من دون كيل ووزن ، ويؤثرهم على من سواهم كائنا من كان من ذي قربى رسول الله وغيرهم ، ولم يكن يجرأ أحد عليه بالأمر المعروف والنهي عن المنكر لما كان يرى من سيرته الخشنة مع اولئك القائمين بذلك الواجب ، ويشاهد فيهم من الهتك والتغريب والضرب بدرّة كانت أشدّ من الدرّة العمريّة مشفوعة بالسوط والعصا.

لقد تمخّض عن سياسة عثمان أمران :

(الأول) : ابتداعه للأحكام اجتهادا منه في مقابل النص ، وقد سبقه إليه من تقدّمه ، ومن لهما الفضل عليه لاستلامه السلطة ، منها :

(اتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه): والحمى هي منابت العشب من مساقط الغيث والمروج ، وهي شرع سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص ، كما هو الأصل في المباحات الأصلية من أجواز الفلوات وأطراف البراري ، فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أي مزاحمة بينهم ، وليس لأيّ أحد أن يحمي لنفسه حمى فيمنع الناس عنه ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«المسلمون شركاء في ثلاث : في الكلأ والماء والنار» ،

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد ص ٢٢٤.


وقال : ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار.

وقال : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ. وفي لفظ : لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلا.

وقد كان في الجاهلية يحمي الشريف منهم ما يروقه من قطع الأرض لمواشيه وإبله خاصة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم ، وكان هذا من مظاهر التجبر السائد عندئذ ، فاكتسح رسول الله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت وتقاليد الجبابرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حمى إلّا لله ولرسوله (١).

وقال الشافعي في تفسر الحديث : كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته ، استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله ، قال : فنهى النبيّ أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. قال : وقوله : إلا لله ولرسوله : أي إلّا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدّة في سبيل الله» (٢).

كان هذا الناموس متسالما عليه بين المسلمين حتى تقلّد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة ، ولبني أمية. قال ابن أبي الحديد : حمى عثمان الرعى حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلهم إلّا عن بني أمية (٣).

وقال الواقدي : كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع ، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أميّة حتى كان آخر الزمان ، فكان يحمي الشرف لإبله ، وكانت ألف بعير ، ولإبل الحكم بن أبي العاص ، ويحمي الربذة لإبل

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ١١٣ والأموال لأبي عبيد ص ٢٩٤.

(٢) كتاب الأم للشافعي ج ٣ / ٢٠٨ ، معجم البلدان ج ٣ / ٣٤٧ ، نهاية ابن الأثير ج ١ / ٢٩٧.

(٣) شرح النهج ج ١ / ٦٧.


الصدقة ، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أميّة.

نقم ذلك المسلمون على عثمان فيما نقموه عليه ، وعدّته عائشة مما أنكروه عليه ، فقالت: «وإنّا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة وضربه بالسوط والعصا ، فعمدوا إليه حتى إذا ما صوه كما يماص الثوب».

قال ابن منظور في لسان العرب في ذيل الحديث :

الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلا إذا لم يكن مملوكا فلذلك عتبوا عليه.

كانت في اتخاذ الخليفة الحمى جدّة وإعادة لعادات الجاهلية الأولى التي أزاحها نبيّ الإسلام وجعل المسلمين في الكلا مشتركين ، وقال : ثلاثة يبغضهم الله ، وعدّ فيهم! من استنّ في الإسلام سنّة الجاهلية (١).

وكان حقا على الرجل أن يحمي حمى الإسلام قبل حمى الكلا ، ويتخذ ما جاء به الرسول سنّة متبعة ولا يحيي سنّة الجاهلية ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.

ومنها : (اقتطاع عثمان منطقة فدك لمروان بن الحكم).

قال أبو الفداء :

مما نقم الناس على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله التي طلبتها فاطمة ميراثا ، فروى أبو بكر ـ كذبا ـ عن رسول الله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة ، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه إلى أن تولّى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردّها صدقة (٢).

__________________

(١) بهجة النفوس / الحافظ ابن أبي حمزة ج ٤ / ١٩٧.

(٢) تاريخ أبي الفداء ج ١ / ١٦٨ وزاد في العقد الفريد ج ٢ / ٢٦١ بقوله : وافتتح افريقيا وأخذ خمسه فوهبه لمروان بن الحكم.


قال ابن أبي الحديد :

وأقطع عثمان مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليه‌السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

ونحن لا نعرف كنه هذا الإقطاع وحقيقته ، حيث لا مبرر له سوى غضب أموال الناس باسم الإسلام والحكومة الإسلامية ، فإن فدكا إن كانت فيئا للمسلمين كما ادّعاه أبو بكر ، فما وجه تخصيصه بمروان؟ وإن كانت ميراثا لآل رسول الله كما احتجت له الصديقة الطاهرة في خطبتها الشريفة ، واحتج له أئمة الهدى عليهم‌السلام وفي مقدمتهم سيّد الخلق أمير المؤمنين عليه وعليهم‌السلام ، فليس مروان منهم ، ولا كان للخليفة فيه رفع ووضع ، وإن كان نحلة من رسول الله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها كما ادّعته ـ ودعواها عين الحقيقة وشرفها ـ وشهد لها أمير المؤمنين وابناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردّت شهادتهم بما لا يرضي الله ولا رسوله ، وإذا ردّت شهادة أهل آية التطهير فبأي شيء يعتمد؟ وعلى أي حجة يعوّل؟ فإن كانت فدك نحلة فأي مساس بها لمروان؟ وأيّ سلطة عليها لعثمان حتى يقطعها لمروان؟.

(الثاني) : ومما تمخّض عن سياسة عثمان هو قضمه للأموال والصدقات وتوزيعها كما يحلو له فكره ، حيث كان يحسب نفسه وليّ المسلمين على مال الله ، يضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد ، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين : «نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع» (١).

وكان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم ، ولكلّ فرد من أفراد الأمة حق معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ شرعا وعقلا حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.

__________________

(١) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٤٩ خطبة ٣.


لقد أسبغ عثمان على الحكم بن أبي العاص ـ وهو طريد رسول الله ـ الكثير من العطاء ، مع تقرّبه منه ، «فقد أعطى صدقات قضاعة الحكم بن أبي العاص عمه طريد النبيّ بعد ما قرّبه وأدناه وألبسه يوم قدم المدينة ، وعليه فزر (١) خلق وهو يسوق تيسا والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه حتى دخل دار الخليفة ثم خرج وعليه جبّة خز وطيلسان» (٢).

وقال البلاذري :

إن ابن عبّاس قال : كان مما أنكروا على عثمان أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثة مائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها (٣).

وقال ابن قتيبة وابن عبد ربّه والذهبي :

ومما نقم الناس على عثمان أنه آوى طريد النبيّ الحكم ولم يأوه أبو بكر وعمر وأعطاه مائة ألف.

والحكم بن أبي العاص كان خصّاء يخصي الغنم ، وأحد جيران رسول الله بمكة ، من اولئك الأشداء عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبالغين في إيذاءه ، شاكلة أبي لهب كما قاله ابن هشام في سيرته ج ٢ / ٢٥ ، وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال : كان الحكم يجلس عند النبيّ فإذا تكلم اختلج ، فبصر به النبيّ فقال : كن كذلك ، فما زال يختلج حتى مات.

وفي لفظ مالك بن دينار : مر النبيّ بالحكم فجعل الحكم يغمز بالنبيّ باصبعه ، فالتفت فرآه فقال : اللهم اجعل به وزغا (٤) ، فرجف مكانه وارتعش. وزاد الحلبي : بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه (٥).

__________________

(١) الفزر : الثوب البالي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ٤١.

(٣) الأنساب ج ٥ / ٢٨.

(٤) الوزغ : الارتعاش والرعدة.

(٥) الإصابة ج ١ / ٣٤٥ ، السيرة الحلبية ج ١ / ٣٣٧.


وروى البلاذري :

إن الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله في الجاهلية وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام ، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة ، وكان مغموصا عليه في دينه ، فكان يمرّ خلف رسول الله فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلّى قام خلفه فأشار بأصابعه ، فبقي على تخليجه وأصابته خبلة ، واطّلع على رسول الله ذات يوم وهو في بعض حجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة وقال : من عذيري من هذا الوزغة اللعين؟ ثم قال : لا يساكنني ولا ولده فغرّبهم جميعا إلى الطائف ، فلما قبض رسول الله كلّم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردّهم فأبى ذلك ، وقال : ما كنت لآوي طرداء رسول الله ، ثم لمّا استخلف عمر كلّمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر ، فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال : قد كنت كلّمت رسول الله فيهم وسألته ردّهم فوعدني أن يأذن لهم فقبض قبل ذلك ، فأنكر المسلمون عليه إدخاله إياهم المدينة (١).

وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان :

سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدّك «أبي العاص بن أمية» إنكم الشجرة الملعونة في القرآن (٢).

وقالت عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنه الله ، ثم قالت : والشجرة الملعونة في القرآن.

وهلمّ نسائل عثمان في إيواء لعين رسول الله وطريده (الحكم) وبمسمع منه ومرأى نزول القرآن فيه واللعن المتواصل من مصدر النبوة عليه وعلى من تناصل منه عدا المؤمنين ، وقليل ما هم ، ما هو المبرّر لعمله هذا وردّه إلى مدينة الرسول؟ وقد طرده رسول الله وأبناءه منها تنزيها لها من تلكم الأرجاس والأدناس الأمويّة ،

__________________

(١) الأنساب ج ٥ / ٢٧.

(٢) الدر المنثور ج ٤ / ١٩١ وسيرة الحلبي ج ١ / ٣٣٧.


وقد سأل أبا بكر وبعده عمر أن يردّاه فقال كل منهما : لا أحلّ عقدة عقدها رسول الله (١).

ألم تكن للخليفة أسوة في رسول الله؟ والله يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢).

أو كان قومه وحامّته أحبّ إليه من الله ورسوله؟ ثم ما هو المبرّر لتخصيص الرجل بتلك المنحة الجزيلة من حقوق المسلمين وأعطياتهم؟ بعد تأمينه على أخذ الصدقات المشترط فيه الثقة والأمانة ، واللعين لا يكون ثقة ولا أمينا.

ثم نسائل الخليفة عثمان على تقريره لما ارتكبه من حمل صدقات قضاعة إلى دار الخلافة وقد ثبت في السنّة أنها تقسّط على فقراء المحلّ وعليها أتت الأقوال ، قال أبو عبيد : والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها : إن أهل كل بلد من البلدان ، أو ماء من المياه أحقّ بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك ، بذلك جاءت الأحاديث مفسرة» (٣).

ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيعطى؟ أو لم يكن في المدينة الطيبة من فقراء المسلمين أحد فيقسّم ذلك المال الطائل بينهم بالسوية؟ وإنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، فتخصيصها للحكم لما ذا؟

وهلمّ معي إلى المسكين صاحب المال تؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم مصبّ تلكم الأموال ومدرّها من أيدي اولئك الجبابرة أو الجباة أصحاب الجباه السود نظراء الحكم ومروان والوليد وسعيد وما يرتكبونه من فجور ومجون ، وبعد لم ينقطع من أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن الوليد سيف الشيطان المسلول مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه وما يملكه ، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله

__________________

(١) الأنساب للبلاذري ج ٢ / ٢٧ والرياض النضرة ج ٢ / ١٤٣ وأسد الغابة ج ٢ / ٣٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٢١.

(٣) الأموال : ص ٥٩٦.


تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١).

فهل يرى المسلمون أن هذا الأخذ يطهّره ويزكّيه؟ لا حكم إلا لله.

فإعطاء الصدقات لاولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان. ثم إن الصدقات كضرائب مالية في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأمة ، قال مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

إن الله عزوجل فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء ، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء ، وحق على الله تبارك وتعالى أن يحاسبهم ويعذّبهم (٢).

وفي لفظ آخر قال عليه‌السلام :

إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني ، والله سائلهم عن ذلك (٣).

ثم إن عثمان يدّعي أن رسول الله وعده ردّ الحكم بعد أن فاوضه في ذلك ، إن كان هذا الوعد صحيحا فلم لم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان قبله ، وهلّا رواه لهما حين كلّمهما في رده فجبهاه بما عرفت؟ أو أنهما لم يثقا بتلك الرواية؟ فهذه مشكلة أخرى.

كما أن عثمان أعطى مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمه وصهره من ابنته أمّ أبان خمس غنائم افريقية وهو خمسمائة ألف دينار (٤).

وروى البلاذري :

عن عبد الله بن الزبير قال : أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين افريقية ، فأصاب

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٣.

(٢) الأموال لأبي عبيد ص ٥٩٥ ، المحلّى لابن حزم ج ٦ / ١٥٨.

(٣) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ص ٥٣٣ رقم الكلمة ٣٢٨.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج ١ / ١٦٨.


عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم.

وفي رواية الطبري عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن ابن كعب قال :

لمّا وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى افريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق افريقية (جرجير) الفي ألف دينار وخمسمائة الف دينار وعشرين الف دينار ، فبعث ملك الروم رسولا وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد ، إلى أن قال : كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم (١).

وروى البلاذري وابن سعد : أن عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه المال وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال : إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإني أخذته فقسّمته في أقربائي ، فأنكر الناس عليه ذلك (٢).

وقال ابن أبي الحديد :

«فإنه ـ أي عثمان ـ أوطأ بني أميّة رقاب الناس ، وولّاهم الولايات وأقطعهم القطائع ، وافتتحت افريقية في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان ، وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة الف درهم وأعاد الحكم ابن أبي العاص ، بعد أن كان رسول الله قد سرّه ثم لم يردّه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم.

وتصدّق رسول الله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٥ / ٥٠.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٤٤ ط / ليدن ، الأنساب للبلاذري ج ٥ / ٢٥.


وأقطع مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليها‌السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلّا عن بني أميّة.

وأعطى عبد الله بن سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي الف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته أم أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلت رحمي! قال: لا ، ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ، والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ، فقال : ألق المفاتيح يا ابن أرقم ، فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلها في بني أمية ، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبي ذر رحمه‌الله تعالى إلى الربذة ، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه ، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود ورد المظالم ، وكف الأيدي العادية ، والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ، واجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه» (١).

من هنا قال مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٥٣.


«ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق» (١).

وقد بلغت أعطيات عثمان (من المال ما يعدّ بمئات الملايين ، عدا عن الكنوز المكتنزة التي اقتناها من رجال سياسة الوقت وأصحاب الفتن والثورات من جراء الفوضى في الأموال) ضياعا عامرة ، ودورا فخمة وقصورا شاهقة ، وثروة طائلة ، ببركة تلك السيرة الأموية في الأموال الشاذة عن الكتاب والسنّة الشريفة ، من هؤلاء :

(١) الزبير بن العوّام : خلّف كما في صحيح البخاري (٢) إحدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كل امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا الف. قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن الهائم: بل الصواب أن جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون الف الف وثمانمائة الف (٣). وصرّح ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما بأن الصواب ما قاله ابن الهائم وأنّ البخاري غلط في الحساب.

كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيّدة بالدرهم أو الدينار غير أنّ في تاريخ ابن كثير (٤) قيّدها بالدرهم.

وقال ابن سعد (٥) : كان للزبير بمصر خطط ، وبالاسكندرية خطط ، وبالكوفة

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٠١.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٢١ ، كتاب الجهاد ، باب بركة الغازي في ماله.

(٣) ذكره شرّاح البخاري فراجع : فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، وشذرات الذهب ج ١ / ٤٣.

(٤) البداية والنهاية ج ٧ / ٢٤٩.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٧٧ ط / ليدن.


خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلّات تقدم عليه من أعراض المدينة.

وقال المسعودي (١) : خلّف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا.

(٢) طلحة بن عبيد الله التيمي : ابتنى دارا بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كل يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة (٢) أكثر مما ذكر ، وشيّد دارا بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج.

وعن محمّد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة الف ، ويغلّ بالسّراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته في كل يوم ألف وافيا (الوافي وزنه وزن الدينار).

وعن موسى بن طلحة أنه ترك ألفي ألف درهم ومائتي الف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.

وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، قال : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناضّ (٣) ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

وعن سعدى أمّ يحيى بن طلحة : قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا الف درهم ، وقوّمت أصوله وعقاره ثلاثين الف الف درهم.

وعن عمرو بن العاص أنّ طلحة ترك مائة بهار (٤) في كل بهار ثلاث قناطر ذهب.

__________________

(١) المروج ج ١ / ٤٣٤.

(٢) تقع «سراة» بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء.

(٣) الناضّ : الدرهم والدينار.

(٤) «البهار» : الحمل ، قيل إنّه : ثلاثمائة رطل ، وقيل أربعمائة ، وقيل : ستمائة رطل ، وقيل : ألف. لسان العرب ج ٤ / ٨٤.


وفي لفظ ابن عبد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.

وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهبا.

وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي الف دينار (١).

(٣) عبد الرحمن بن عوف الزهري :

قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا.

وقال : وكان فيما خلّفه ذهب قطّع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. وعن صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن قال : صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفا.

وقال اليعقوبي : ورّثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار ، وقيل : ثمانين الف.

وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا (٢).

(٤) سعد بن أبي وقاص :

__________________

(١) من أراد المزيد فليراجع : طبقات ابن سعد ج ٣ / ١٥٨ ط / ليدن ؛ الأنساب للبلاذري ج ٥ / ٧ ؛ مروج الذهب ج ١ / ٤٣٤ ؛ العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩ ؛ الرياض النضرة ج ٢ / ٢٥٨ ؛ دول الإسلام للذهبي ج ١ / ١٨ ؛ الخلاصة للخزرجي ص ١٥٢.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ / ٩٦ ؛ مروج الذهب ج ١ / ٤٣٤ ؛ تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٤٦ ، صفوة الصفوة لابن الجوزي ج ١ / ١٣٨ ؛ الرياض النضرة لمحب الطبري ج ٢ / ٢٩١.


قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين الف درهم ، ومات في قصره بالعقيق.

وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّع فضاءها وجعل أعلاها شرفات (١).

(٥) يعلى بن أمية : خلّف خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته ألف دينار (٢).

(٦) زيد بن ثابت «المدافع الوحيد عن عثمان» : قال المسعودي : خلّف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (٣).

هذه نبذ مما وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان ، ومن المعلوم أن التاريخ لم يحص كلّما كان هناك من عظائم شأنه في أكثر الحوادث والفتن.

وأما ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدّث عنه ولا حرج ، كان ينضّد (٤) أسنانه بالذهب ويتلبّس بأثواب الملوك.

قال محمد بن ربيعة : رأيت عثمان ، مطرف خزّ ثمنه مائة دينار ، فقال : هذا لنائلة كسوتها إياه ، فأنا ألبسه أسرّها به. وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان بردا ثمنه مائة دينار (٥).

وقال البلاذري :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٣ / ١٠٥ ومروج الذهب ج ١ / ٤٣٤.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ١ / ٤٣٤.

(٣) نفس المصدر والجزء والصفحة.

(٤) نضد الشيء : جعل بعضه على بعض متّسقا أو بعضه.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٤٠ ط / ليدن ؛ أنساب البلاذري ج ٣ / ٤ ، الاستيعاب ج ٢ / ٤٧٦ ترجمة عثمان.


كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليّ وجوهر ، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم.

وفي لفظ : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام. فقال له علي : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.

وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (١).

وقال ابن سعد : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ، وخمسون ومائة الف دينار ، فانتهبت وذهبت.

وترك الف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمته مائتي الف دينار (٢).

وقال المسعودي : بنى في المدينة وشيّدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة ، وذكر عبد الله بن عتبة : إن عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة الف دينار والف الف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة الف دينار ، وخلّف خيلا كثيرا وإبلا (٣).

وقال الذهبي :

كان قد صار له أموال عظيمة وله الف مملوك (٤).

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٩٨ ، السيرة الحلبية ج ٢ / ٨٧.

(٢) الطبقات ج ٣ / ٥٣.

(٣) المروج ج ١ / ٤٣٣.

(٤) دول الإسلام ج ١ / ١٢.


وبقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على نفسه وأقربائه ومن جرى مجراهم من زبانيته ، أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أن الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ونظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدّة ، ويعانوا البلاء ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان ، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول : [إن بني أميّة ليفوّقونني تراث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويقا ـ أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة ـ والله لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة](١).

هل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه (٢) من سويق غيره كما كان يفعل الخليفة؟ ليتنا وجدنا من يحيرنا جوابا عن مسئلتنا هذه؟ أمّا الخليفة فلم ندركه حتى نستحفي منه الخبر ، ولعلّه لو كنا مستحفين منه لسبقت الدرّة الجواب.

كان مزيج نفس الخليفة حب بني أبيه آل أميّة الشجرة الملعونة في القرآن وتفضيلهم على الناس ، وقد تنتسب ذلك في قلبه وكان معروفا منه من أوّل يومه ، وعرفه بذلك من عرفه ، قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (٣).

ولو صدق صدوره من عمر فلم جعل الانتخاب شورى بين أربعة ، ثلاثة يميلون إلى عثمان ، وواحد ـ وهو الزبير ـ إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام؟ اللهم إلّا إذا كان عمر يريد قتله ولكن بطريقة خفية ، وشيء من هذا ليس عندنا أي مستند عليه ، بل الأخبار عكس ذلك ، حيث لا نزاع بين عمر وعثمان حتى يدبّر عمر له

__________________

(١) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ص ١٠٤ خطبة ٧٧.

(٢) يقال : جدح جوين من سويق غيره ، مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.

(٣) أنساب البلاذري ج ٥ / ١٦.


مكيدة لقتله ، فالذي ثبّت حكم الأمويين في الشام إنما هو الشيخان ، ثم بعدهما عثمان لكونه من بني أميّة.

كان عثمان يبذل كل جهده في تأسيس حكومة أمويّة قاهرة في الحواضر الإسلامية كلّها تقهر من عداهم ، أراد أن تكون كلمة الأمويين هي العليا ، وكلمة من عداهم هي السفلى ، غير أنّ القدر الحاتم راغمه على منوياته ، فجعل الذكر الجميل الخالد والبقية المتواصلة في الحقب والأجيال كلّها لآل عليّ أمير المؤمنين عليه وعليهم‌السلام ، وأما آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوار بانتسابه ، متخافت عند ذكر نسبه ، فكأنهم حديث أمس الدابر ، فلا ترى لهم ذكرا ، ولا تسمع لأحد منهم ركزا.

كان الخليفة عثمان يمضي وراء نيّته هاتيك قدما ، وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف : فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية.

فولّى على الأمر في المراكز الحساسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أمية ، وشبابهم المترف المتبختر في شرخ الشبيبة وغلوائها ، وأمر فتيانهم الناشطين للعمل ، الذين لم تحنّكهم الأيام ولم يأدبهم الزمان ، وسلّطهم على رقاب الناس ، ووطد لهم السبل ، وكسح عن مسيرهم العراقيل ، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلامية ، وجرّ الويلات بيد اولئك الطغام على نفسه وعلى الأمة ، هؤلاء الذين لم يغنوا عنه شيئا يوم ضحّى نفسه وجاهه وملكه لأجلهم حتى قتل من جراء ذلك ، ولا أحسب أنهم مغنون عنه شيئا غدا عند الله يوم لا يغني عنه مال ولا بنون.

وهؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل ، ولا يكترث لما يقول ، والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي ، ولا يعي عذل أي عاذل ، ومن اولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف كان يقول على صهوة المنبر : «إن السواد بستان لأغلمة من قريش» (١).

__________________

(١) الطبقات لابن سعد ج ٥ / ٢١ وتاريخ ابن عساكر ج ٦ / ١٣٥.


وهؤلاء الأغلمة هم ومن نصبهم هم المخصوصون بالحديث عن رسول الله بقوله : «إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش» (١).

لقد كان الخليفة وراء تسلط تلك العصابة من آل أمية ، وكان له أمل بأنه لو بيده مفاتيح الجنّة ليعطيها بني أمية حتى يدخلوها من عند آخرهم حسب ما عبّر عثمان نفسه عن هذا ، حيث أخرج أحمد من طريق سالم بن أبي الجعد قال : دعا عثمان ناسا من أصحاب رسول الله فيهم عمّار بن ياسر فقال : إني سائلكم وإني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله كان يؤثر قريشا على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم فقال عثمان : لو أن بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم (٢).

فكأن الخليفة يحسب أن الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرّب معه إلى باب الجنّة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال ، فما حظى الخليفة بما أحبّ لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا ، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم ، وأما الآخرة فإن بينهم وبين الجنّة لسدا بما اقترفوه من الآثام ، فلا أرى الخليفة يحظى بأمنيته هنالك.

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١٠ / ١٤٦ كتاب الفتن ، المستدرك للحاكم ج ٤ / ٤٧٠.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٦٢.


قال الملك للوزير :

وهل يصدّق العلويّ في كلامه هذا؟

قال الوزير : ذكر ذلك المؤرخون!

قال الملك : فكيف اتخذه المسلمون خليفة؟

قال الوزير ؛ بالشورى.

قال العلوي :

إن الوزير أخطأ في كلامه ، إنّ عثمان لم يأت إلى الحكم إلّا بوصيّة من عمر وانتخاب ثلاثة من المنافقين فقط وفقط. وهم : طلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ، فهل هؤلاء المنافقون الثلاثة يمثّلون المسلمين جميعا؟!

ثم إنّ التواريخ تذكر أنّ هؤلاء المنتخبين عدلوا عن عثمان عند ما رأوا طغيانه وهتكه لأصحاب رسول الله ومشورته في أمور المسلمين مع كعب الأحبار اليهودي وتوزيعه أموال المسلمين بين بني مروان ، فبدأ هؤلاء الثلاثة بتحريض الناس على قتل عثمان!

قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ : هل صحيح كلام العلوي؟!

قال الوزير : نعم ، كذا يذكر المؤرّخون!

قال الملك : فكيف قلت إنه جاء إلى الخلافة بالشورى؟!

قال الوزير : كنت أقصد شورى هؤلاء الثلاثة!


قال الملك : وهل اختيار ثلاثة أشخاص يصحّح الشورى؟

قال الوزير : إنّ هؤلاء الثلاثة شهد لهم رسول الله بالجنّة!!

قال العلوي : مهلا أيها الوزير ، لا تقل ما ليس بصحيح ، إن حديث (العشرة المبشرة بالجنّة) (١) كذب وافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

قال العبّاسي : وكيف تقول أنه كذب وقد رواه الرواة الموثّقون؟

قال العلوي : هناك أدلة كثيرة على كذب هذا الحديث وبطلانه ، أذكر لك منها ثلاثة :

(الأول) : كيف يشهد رسول الله بالجنّة لمن آذاه وهو طلحة؟

فقد ذكر بعض المفسرين (٢) والمؤرخين أن طلحة قال : «لئن مات محمّد لننكحنّ أزواجه من بعده ـ أو ـ لأتزوجنّ عائشة» فتأذّى رسول الله من كلام طلحة ، وأنزل الله تعالى قوله :

(كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (الأحزاب / ٥٣).

____________________________________

(١) حديث «العشرة المبشرة بالجنّة» من الأحاديث المختلقة والمكذوبة على رسول الله ، وقد تقدم في أول شرحنا هذا ، النقض عليه ، وقد أسقطناه عن الحجيّة سندا ودلالة.

(٢) قال ابن أبي حاتم ، حدّثنا عليّ بن الحسين ، حدثنا محمّد بن أبي حمّاد ، حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن هند عن عكرمة عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...) قال : نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبيّ لله بعده ، قال رجل لسفيان أهي عائشة؟ ـ


قال : قد ذكروا ذلك.

وكذا قال مقاتل ابن حيّان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك (١).

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة ، أن طلحة بن عبيد الله قال: لو قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوجت عائشة ، فنزلت الآية (وما كان لكم ...) (٢).

وقال فخر الدين الرازي :

«قيل سبب نزوله هو طلحة بن عبيد الله قال : لئن عشت بعد محمّد لأنكحنّ عائشة»(٣).

وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عبّاس قال : قال رجل من أصحاب النبيّ : لو قد مات رسول الله تزوجت عائشة أو أم سلمة ، فأنزل الله (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (٤).

وقال الواحدي :

قال ابن عبّاس ، في رواية عطاء : قال رجل من سادة قريش : لو توفي رسول الله لتزوجت عائشة ، فأنزل الله تعالى ما أنزل (٥).

وفي مروياتنا وقع الاتفاق على أن القائل ذلك هو طلحة بن عبيد الله.

قال علي بن إبراهيم :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤٣١.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٢ / ١٠٦ وتفسير الدر المنثور ج ٥ / ٤٠٤.

(٣) تفسير الرازي ج ٢٥ / ٢٢٥.

(٤) الدر المنثور للسيوطي ج ٥ / ٤٠٤.

(٥) أسباب النزول ص ٣٠٠.


[«إن سبب نزولها ـ أي الآية المباركة ـ أنه لما أنزل الله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، وحرّم الله نساء النبي على المسلمين ، غضب طلحة فقال :

يحرّم محمّد علينا نساءه ويتزوج هو نساءنا لئن أمات الله عزوجل محمّدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نساءنا ، فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...)] (١).

لنا على كلام ابن كثير ملاحظة مفادها :

إذا كان القائل «إن مات محمّد لنتزوجنّ بعض نسائه من بعده» لله تعالى ، فلا يعدّ قوله أذية للنبيّ ما دام ـ بنظر الرواية التي عرضها ابن كثير ـ قوله ذاك لله تعالى ، فلما كان ذلك يؤذي النبيّ دل ذلك على أن قول طلحة لم يكن لله تعالى ، وإلا لما تأذّى منه النبيّ ، لأنه لا يتأذى من الحق وما يرجع إلى الحق ، ولما كان ذلك عند الله عظيما.

وما هذه التبرئة لساحة طلحة سوى لأنه مرضي عنه عند أم المؤمنين عائشة سيّدة الجمل ، وإلا لو كان بجانب أمير المؤمنين عليّ لما وجدنا هذا الحمل على الصحة بحقه ، وحسن الظن به ، وهل أن رضا عائشة عنه أو كونه صحابيا ـ كما قد يحسب ذلك البعض ـ يعصمه عن الخطأ وارتكاب الذنوب؟! وهل أن الصحبة ملازمة عقلا وشرعا للعصمة؟ لا أظن عاقلا يقول بالملازمة.

إشكال وحل :

مفاد الإشكال :

كيف حرّم الله تعالى على نساء رسول الله الزواج من بعده ، أليس هذا إجحافا بحقهنّ لا سيّما بالشابات منهنّ حيث يملكن الرغبة الجنسية التي لا يمكن إكباتها

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم المعروف بالقمي ج ٢ / ١٩٥ ونور الثقلين ج ٤ / ٢٨٨.


أو إسكاتها إلّا بالتصبر وما شابه ذلك.

والجواب :

(أولا): علمنا فيما تقدّم من سبب النزول ، أن طلحة ورجلا آخر معه قد صمما على الزواج من نساء النبيّ من بعده كإجراء انتقامي أو لهوى في نفس بعضهم بإحدى نساء النبيّ ، وهذا بدوره يعدّ إهانة لقدسية النبيّ ، فكان هذا الفريق من الناس يريد أن ينزل بكيان النبيّ ضربة تشكّل إضعافا للمؤمنين.

هذا مضافا إلى أن زواج بعضهم من نساء النبيّ كان من الممكن أن يستغل لتحقيق بعض المآرب والوصول إلى مقامات اجتماعية مرموقة ، يبدأ من خلالها تحريف الإسلام على أساس أنهم يمتلكون معلومات خاصة صادرة من داخل بيت رسول الله ، أو أن يبث المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوة ، وقد صرّح بذلك طلحة عند ما قال : «لنركضنّ بين خلاخيل نسائه» لذا فإن الله تعالى جعلهنّ بمثابة الأمهات لا يجوز بحال من الأحوال الزواج منهنّ تأكيدا للقداسة ، وتنزيها عن الدناءة والخسة.

(ثانيا): أن الافتخارات العظيمة تصاحبها مسئوليات خطيرة ، ولا شك أن أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسبن فخرا لا يضاهى وعزا لا يسامى بزواجهن من رسول الله ، واكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.

هذا مضافا إلى أن اقترانهن برسول الله يقتضي منهنّ الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ليكونن قدوة لغيرهن من النساء حال لم يجدن الأزواج بعد فقد رجالهن ، وقد يكون الحكم تأديبيا يتناول بعضهن ، وإن كان الجلّ لا يرغب في الزواج بعد وفاة النبيّ. وقد يكون امتحانا واختبارا لنواياهن وهل هن صادقات بادعائهن صحبة الله ورسوله ، «فإن المرأة في الجنّة لآخر أزواجها في الدنيا ، فأزواج النبيّ في الدنيا أزواجه في الجنّة» (١). والله العالم بأسرار أحكامه.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ / ٤٠٤.


(الثاني) : إن طلحة والزبير قاتلا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليّ عليه‌السلام : «يا علي حربك حربي وسلمك سلمي» (١).

وقال : «من أطاع عليّا فقد أطاعني ومن عصى عليّا فقد عصاني» (٢).

وقال : «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٣).

وقال : «عليّ مع الحق والحق مع علي يدور الحق معه حيثما دار» (٤).

فهل : محارب الحق والقرآن يكون مؤمنا؟

__________________

(١) روى العلّامة أبو الحسن علي بن محمد الشافعي المعروف بابن المغازلي في مناقب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بإسناده إلى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا علي سلمك سلمي وحربك حربي».

وقد رواه العلّامة التستري بعدة طرق من مصادر العامة ، فرواه عن ابن أبي الحديد بنفس اللفظ المتقدم ، وبلفظ آخر قال رسول الله للإمام عليّ في ألف مقام : أنا حرب لمن حاربت وسلّم لمن سالمت (إحقاق الحق ج ٦ / ٤٤٠ وج ٤ / ٢٥٨.). وفي لفظ آخر مثل الأول مع زيادة قوله : ومحبّك في الجنة وإن عدوك في النار.

(٢) المستدرك ج ٣ / ١٢٤ ط / حيدرآباد الدكن ، المناقب للخوارزمي ص ١٠٧ ط / تبريز ، وفرائد السمطين ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٦٤.

(٣) ينابيع المودة ص ٢٥٧ ط / اسلامبول ، ذخائر العقبى ص ٦٥ ط / مكتبة القدسي بمصر ، والمستدرك ج ٣ / ١٢١ ، وإحقاق الحق ج ٦ / ٤١٩.

(٤) تقدم مصادر هذه الأحاديث لاحظ : كنز العمال والصواعق المحرقة والمستدرك وينابيع المودة وإحقاق الحق ج ٥ / ٦٢٣.


(الثالث) : أن طلحة والزبير سعيا في قتل عثمان ، فهل من الممكن أن يكون عثمان وطلحة والزبير كلهم في الجنة ، وقد قاتل بعضهم بعضا ، ويقول رسول الله ـ في حديث له ـ القاتل والمقتول كلاهما في النار؟ (١).

قال الملك متعجّبا :

هل كل ما يقوله العلويّ صحيح؟

هنا سكت الوزير ، ولم يقل شيئا.

وسكت العبّاسي وجماعته ولم ينطقوا شيئا.

ما ذا يقولون؟ أيقولون الحق؟ وهل يسمح الشيطان بالاعتراف بالحق؟ وهل ترضى النفس الأمّارة بالسوء أن تخضع للحق والواقع؟

أتظن أن الاعتراف بالحق أمر سهل وبسيط؟

كلا! إنه صعب جدا ، لأنه يستدعي سحق العصبيّة الجاهلية ومخالفة الهوى ، والناس أتباع الهوى والباطل إلّا المؤمنين ، وقليل ما هم!

... مزّق السيّد العلويّ ستار الصمت والسكوت فقال :

أيّها الملك :

إن الوزير والعبّاسي وكلّ هؤلاء العلماء يعلمون صدق كلامي

__________________

(١) الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل له : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه. صحيح البخاري ، كتاب الديات. ومسند أحمد ج ٤ / ٤٠١ وج ٥ / ٤٣ ـ ٤٧.


وصحة مقالتي ، وحقيقة حديثي ، ولو أنكروا (١) ذلك ، فإن في بغداد من العلماء من يشهد على صدق كلامي وصحته وحقيقته ، وإنّ في خزانة هذه المدرسة كتب تشهد بصدق كلامي ، ومصادر معتبرة تصرّح بصحة مقالتي وحقيقته ، فإن اعترفوا بصدق كلامي فهو المطلوب ، وإلّا فأنا مستعد الآن أن آتي (٢) إليك بالكتب والمصادر والشهود!

قال الملك (متوجّها إلى الوزير):

هل كلام العلويّ صحيح من أن الكتب والمصادر تصرّح بصحة مقالته وصدق حديثه؟

قال الوزير : نعم.

قال الملك : فلما ذا سكتّ في أوّل الأمر؟

قال الوزير : لأني أكره أن أطعن في أصحاب رسول الله!

قال العلويّ :

عجيب! أنت تكره ذلك ، والله ورسوله لم يكرها ذلك ، حيث إن الله تعالى عرّف بعض الصحابة بالمنافقين (٣) ، وأمر رسوله بجهادهم كما يجاهد الكفار ، والرسول نفسه لعن بعض أصحابه (٤)!

__________________

(١) في نسخة أخرى : «ولم ينكروا» محاورة حول الإمامة ص ١٢٦ السيّد مرتضى الرضوي.

(٢) الأفصح أن يقال : «أن آتيك» ولعل ما في المتن تصحيف لما قلنا.

(٣) في نسخة الرضوي : «حيث إن الله رمى بعض أصحاب الرسول بالنفاق».

(٤) ثبت أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعن من تخلّف عن جيش أسامة ، والذين تخلّفوا هم أبو بكر وعمر وعثمان وخالد ونظائرهما ، وقد أشار إلى ذلك جلّ المؤرخين. لاحظ الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٣ وغيره من المصادر قد ذكرناها سابقا فلا نعيد.


قال الوزير :

ألم تسمع أيّها العلويّ قول العلماء : إنّ كل أصحاب الرسول عدول؟

قال العلوي :

سمعت ذلك ، ولكني أعرف أنه كذب وافتراء ، إذ كيف يمكن أن يكون كلّ أصحاب الرسول عدولا وقد لعن الله بعضهم ، ولعن الرسول بعضهم ، ولعن بعضهم (١) بعضا وقاتل بعضهم (٢) بعضا ، وشتم بعضهم بعضا ، وقتل بعضهم بعضا.

____________________________________

(١) قال النقيب أبو جعفر : «لقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة كان تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن الله نعثلا ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية عليّ بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق وهو يلعنهم بالشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة ..» شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٢٠ / ٢٧٢.

قد تقدم لعن الله والرسول على من تخلّف عن جيش أسامة ، كما أن الرسول كان يلعن أبا سفيان والحرث بن هشام وسهل بن عمرو وصفوان بن أمية ـ حسبما جاء في رواية السيوطي في الدر المنثور ج ٢ / ٧٧١ ط / مصر.

وأما قتل بعضهم ، فإن عمر قتل سعد بن عبادة ، وأشاعوا بين الناس أن الجن قتله ، وذلك لأنه رفض البيعة يوم السقيفة لأبي بكر وكادوا يطئونه ، فقال لهم : ـ


قتلتموني ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله (١).

وأيضا قتل عمر الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام عند ما كسّر أضلاعها وأسقط جنينها ، وهي ابنة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحيدة لديه ، فلم تحفظ حرمتها مع أن المرء يحفظ بعياله وولده ، هذا مضافا إلى أنها أشرف خلق الله تعالى.

كما قتل أبو بكر مالك بن نويرة الخ .. قد ذكرنا ذلك سابقا.

وأما الزبير وطلحة وعائشة فقد حاربوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقتل طلحة في المعركة ـ أي صفين ـ.

وأما الشتم ، فقد سبّ عثمان بن عفان لمّا بلغه موت أبي ذر بالربذة ، فترحم عليه ، فقال عمّار : نعم فرحمه‌الله من كل أنفسنا.

فقال عثمان : يا عاض (وذكر عورة الرجل) أبيه ، ندمت على تسييره؟

وأمر فدفع في قفاه ، وقال : الحق بمكانه ، فلمّا تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى مولانا الإمام عليّ عليه‌السلام فسألوه أن يكلّم عثمان ، فكلّمه ، فهدده عثمان بالنفي ، فقال له الإمامعليه‌السلام : رم ذلك إن شئت ، واجتمع المهاجرون فقالوا لعثمان إلخ .. (٢).

وقال علي بن برهان الدين الحلبي :

«وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالد أميرا ، فلما جاءا إليه (صلي الله عليه وآله وسلم) استبا عنده فقال خالد : يا رسول الله أيسرّك أن هذا العبد الأجدع يشتمني فقال (صلي الله عليه وآله وسلم) : يا خالد لا تسبّ عمارا ، فإن من سبّ عمارا فقد سب الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ٢٧ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٢) قد ذكرنا التفاصيل سابقا.

(٣) السيرة الحلبيّة ج ٢ / ٧٣ ط مصر.


وهنا وجد العبّاسي الباب مسدودا أمامه ، فجاء من باب آخر وقال :

أيّها الملك :

قل لهذا العلويّ إذا لم يكن الخلفاء مؤمنين ، فكيف اتخذهم المسلمون خلفاء ، واقتدوا بهم؟

قال العلويّ :

(أولا) : لم يتخذهم كلّ المسلمين خلفاء ، وإنما أهل السنّة فقط.

(ثانيا) : إن هؤلاء الذين يعتقدون بخلافتهم ينقسمون إلى قسمين : جاهل ومعاند ، أما الجاهل فلا يعرف فضائحهم وحقائقهم ، وإنما يتصورهم أناسا طيبين مؤمنين ، وأما المعاند فلا ينفعه الدليل والبرهان ما دام قد أصرّ على العناد واللجاج ، يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (يونس / ٩٦ ـ ٩٧).

ويقول : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة / ٦).

(ثالثا) : إن هؤلاء الذين اتخذوهم خلفاء أخطئوا في الاختيار ، كما أخطأ المسيحيون حيث قالوا : «المسيح ابن الله» وكما أخطأ اليهود حيث قالوا : «عزير ابن الله» فالإنسان يجب عليه أن يطيع الله والرسول وأن يتبع الحق لا أن يتبع الناس على الخطأ والباطل يقول تعالى:(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / ٥٩).

قال الملك :


دعوا هذا الكلام ، وتكلّموا حول موضوع آخر.

قال العلوي :

ومن اشتباهات أهل السنّة وأخطائهم أنهم تركوا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتبعوا كلام الأوّلين.

قال العبّاسي : ولما ذا؟

قال العلوي :

لأن عليّ بن أبي طالب عيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واولئك الثلاثة لم يعيّنهم الرسول ، ثم أردف قائلا :

أيّها الملك :

إنك لو عيّنت في مكانك ، ولخلافتك إنسانا فهل يجب أن يتبعك الوزراء وأعضاء الحكومة؟ أم يحق لهم أن يعزلوا خليفتك ، ويعيّنوا إنسانا آخر مكانك؟

قال الملك :

بل الواجب أن يتّبعوا خليفتي الذي عيّنته أنا ، وأن يقتدوا به ويطيعوا أمري فيه!

قال العلوي :

وهكذا فعل الشيعة ، فقد اتّبعوا خليفة رسول الله الذي عيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتركوا غيره.

قال العبّاسي :


لكنّ عليّ بن أبي طالب لم يكن أهلا للخلافة ، حيث إنّه كان صغير (١) العمر ، بينما كان أبو بكر كبير العمر.

____________________________________

(١) ليس صغر السنّ عائقا لتسلّم القيادة العليا في المجتمع ، وبتعبير آخر : ليس شرطا لتسلّم الخلافة الربانيّة في الإسلام وذلك لأمور :

١ ـ لأن القيادة تحتاج إلى رشد عقلي ممتاز وكما نفسي وروحي يؤهل صاحبه لقيادة الناس إلى سبيل الرشاد ، ومن الواضح أن الرشد العقلي لم يكن متوفرا بأقصى حدوده عند أحد غير مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام باعتراف عمر بن الخطّاب حينما قال :

«لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

وليس ثمة استحالة عقلية في أن يتسنّم الصغير سدة الخلافة ما دام الأمر يدور مدار النبوغ العقلي ، وهذا كان متوفرا في مولانا عليّ المرتضى عليه‌السلام ، وقد برز في التاريخ نوابغ شهدت لهم البشرية ، منهم على سبيل المثال لا الحصر :

أ ـ أسامة بن زيد بن حارثة ، «أمه أم أيمن حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو وأيمن اخوان لأم ، استعمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، ذكر ابن مندة أن النبيّ أمر أسامة بن زيد على الجيش وأمره أن يسير إلى الشام وفيهم عمر بن الخطاب ، فلما اشتد المرض برسول الله أوصى أن يسير جيش أسامة ، فساروا بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

ب ـ هشام بن الحكم ، أحد أكابر أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ، فتق علم الكلام ، وكان مبرّزا عند مولانا الصادق عليه‌السلام ومن المقربين وهو لا يزال فتى صغيرا لم تخطّ لحيته ، وكان الإمام عليه‌السلام يحترمه ويقدّمه على أصحابه ، يروي

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ١٩٥ والإصابة في تمييز الصحابة ج ١ / ٣١.


يونس بن يعقوب بخبر طويل يقول فيه : [.. فلما استقر بنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد اللهعليه‌السلام في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام فأخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب قال : هشام ورب الكعبة.

قال : وكنا ظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل ، وكان شديد المحبة لأبي عبد الله عليه‌السلام ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنّا ، فوسّع له أبو عبد الله عليه‌السلام وقال : «ناصرنا بقلبه ولسانه ويده» ...] (١).

ج ـ الطفل النابغة السيّد محمد حسين الطباطبائي من مواليد قم المقدّسة حيث رزقه الله سبحانه حفظ القرآن المجيد ، وأفاض عليه فهم أسراره ومعانيه ولم يتجاوز بعد الرابعة من عمره ، ويجلس تحت منبره العلماء والمفكرون ، وقد نال درجة الدكتوراه الفخرية بامتياز من إحدى جامعات بريطانيا. وكذا الطفل (٢) الافريقي «شريفو» الذي رزق أيضا معارف القرآن وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره.

د ـ ما اشتهر عن العلّامة الحلي من أنه بلغ درجة الاجتهاد قبل البلوغ ، وان ابن سينا أفتى الناس في بخارى وهو ابن اثنتي عشر سنة ، وأنه أحاط بعلوم عصره كلها وهو يافع ، وكان اينشتاين ابن أربع سنوات حين رأى البوصلة وإبرتها الممغنطة وقال : إن ثمة أشياء في الطبيعة وراء هذه العودة المتحركة ، وكان في سن الاثني عشر حين أتى بأول نظرية جديدة ، وهي التي فرّق فيها بين ما هو هندسي وما هو طبيعي.

ومن نوابغ القادة الملك كارلوس الثاني السويدي ، الذي قاد وهو في الثامنة عشرة من عمره جيشا قوامه ثمانية آلاف جندي ، ضد جيش روسي مؤلف من

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ / ١٢٣.

(٢) مجلة «المجلة» السعودية : العدد ١٠٠٧.


ثمانين ألفا ، وهزمه بأقل من ساعة ، وكان ذلك عام ١٧٠٠ م في معركة نارفا (١).

إذن لا غرابة في تنصيب أسامة بن زيد قائدا على جيش كبير يريد صدّ جيش الروم في أطراف الجزيرة العربية آنذاك ، وتخلّف أبو بكر وعمر وجماعة معهما عن السير معه ، بحجة أنه صغير والقوم مشايخ كبار ، وأيضا لا غرابة في تنصيب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خليفة على المسلمين بأمر منه سبحانه وتعالى.

٢ ـ لو كان الصغر عائقا فلم أرسل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليّا عليه‌السلام خلف أبي بكر وأخذ منه سورة براءة؟!! فمن لم يكن أهلا لأن يبلّغ سورة براءة فليس أهلا لأن يبلّغ الرسالة ويقود مجتمعا بكامله!! وليس لنا أن نردّ حكم رسول الله.

٣ ـ تعتبر الخلافة في الإسلام مركزا إلهيا وسفارة ربانية تنوب مناب النبوّة في التبليغ وإقامة الحدود الخ ... وليست كما يتصوّر العامة أنها مركز اجتماعي دنيوي تعيينه بيد أهل الحل والعقد ، بل الأمر أخطر مما نتصور ، فإن الإمامة عهد الله تعالى تعيينها بيده سبحانه كما عيّن ابراهيمعليه‌السلام إماما بعد أن كان نبيّا. فإذا اختار سبحانه شخصا لأن يكون خليفة وإماما فلا رادّ لحكمه ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢). إضافة إلى أنه تعالى جعل بعض الناس أنبياء في صغرهم كعيسى بن مريم عليهما‌السلام حيث حكى عزوجل عنه بقوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣) ، فكان نبيا وهو صغير وأرسل إلى الناس بعد بلوغه، وظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب والنبوة لا أنّ ذلك إخبار بما سيقع (٤).

__________________

(١) غرائب وأسرار / بديع الزين ص ٣٠ ط / دار الفكر العربي.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٣) سورة مريم : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) تفسير الميزان ج ١٤ / ٤٧.


والنبيّ يحيى عليه‌السلام أتاه الله تعالى الحكم ، وسواء فسّر (١) «الحكم» بالفهم والعقل والحكمة أو بالنبوّة فالمناط واحد وهو الحكم بين الناس وإصابة الواقع بواسطة ولد صغير إلا أنه عظيم بعقله وقلبه وروحه ، فلا غرابة أن يكون ذلك لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي حارت فيه عقول العظماء والمفكرين ويقف العظماء إجلالا لذكر اسمه.

٤ ـ لو كان المناط في تسلّم الخلافة التقدّم بالسنّ فثمة من هو أكبر من أبي بكر من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكان الأجدر لأبي بكر ألّا يتقدّم على واحد منهم كالعبّاس بن عبد المطلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد قبل النبيّ بسنتين أو ثلاث (٢) ، وكعدي بن حاتم الذي عاش مائة وثمانين عاما وكان أكثر عمره في الجاهلية (٣) .. ولو غضضنا النظر عن مسألة التقدم بالسنّ فهل لنا أن نسأل القوم عن وجه الفضيلة في كبر السنّ؟ أوليس في الأمم والأجيال من طعنوا في السنّ فبلغوا من العمر عتيا وفيهم صاحب الفضائل والعاطل عنها؟! وإذا مدح أحدهم فإنما يمدح بمآثره لا بطول عمره .. ومهما طال عمر أبي بكر فإن أكثره انقضى في الجاهلية ، فلقد بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأبي بكر ثمان وثلاثون سنة .. وصلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصلّ معه غير عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام!!

إذن فلأبي بكر عند إسلامه خمس وأربعون عاما ، ومات وهو ابن ثلاث وستين ، فقد أشغل في الإسلام ثمان عشرة سنة ، وهذه المدة الأخيرة هي التي يمكن أن تزدان بشيء من المناقب. ولو سلّمنا أنها ازدانت ببعض المناقب ولكنها بالقياس إلى مناقب مولى المؤمنين عليّ عليه‌السلام لا تعادل واحد بنسبة ألف أو قطرة في مقابل بحر!! وقد ردّد عمر بن الخطاب ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : لو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ١٠٠ ، وتفسير الرازي ج ٣١ / ١٩٣ ، ومجمع البيان ج ٦ / ٣٣٣.

(٢) الإصابة ج ٢ / ٢٧١.

(٣) نفس المصدر.


اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق الله النار (١).

ولو لم يكن الإمام عليّ أهلا للخلافة لصغر سنّه ، فكيف قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلامه في بدء البعثة وكيف يجعله النبيّ وزيرا له ووصيّا وخليفة في بدء البعثة؟ وهل يصح أن يضع النبيّ يده في يد ابن عمّه ويعطيه صفقة بمينه بالأخوة والوصية والخلافة إلّا وهو أهل لذلك؟!

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٢٩٩ ط / قم.


وكان عليّ بن أبي طالب قد قتل صناديد العرب ، وأباد شجعانهم فلم تكن العرب ترضى به ، ولم يكن أبو بكر كذلك!

قال العلوي :

أسمعت أيّها الملك أن العبّاسي يقول : إن الناس أعلم من الله ورسوله في تعيين الأصلح ، لأنه لا يأخذ بكلام الله ورسوله في تعيين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويأخذ بكلام بعض الناس في أصلحية أبي بكر ، كأن الله العليم الحكيم لا يعرف الأصلح والأفضل حتى يأتي بعض الناس الجهّال فيختارون الأصلح؟ ألم يقل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب / ٣٦).

ألم يقل سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال / ٢٤).

قال العبّاسي :

كلا ، إني لم أقل إنّ الناس أعلم من الله ورسوله.

قال العلوي :

إذن ، لا معنى لكلامك ، فإن كان الله والرسول قد عيّنا إنسانا واحدا للخلافة والإمامة ، فاللازم أن تقتدي به ، سواء رضي به الناس أم لا!

قال العبّاسي :

لكن المؤهلات في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كانت قليلة.


قال العلوي :

(أولا) : معنى كلامك أن الله لم يكن يعرف عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حق المعرفة فلم يكن يعلم أن مؤهلاته قليلة ولهذا عيّنه خليفة ، وهذا هو الكفر الصريح.

(ثانيا) : إن الواقع أن مؤهلات الخلافة والإمامة كانت متوفرة كاملا في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، بينما لم تكن متوفرة في غيره!

قال العبّاسي : وما هي تلك المؤهلات ـ مثلا ـ؟

قال العلوي :

إن مؤهلاته عليه‌السلام كثيرة جدا ، فأوّل المؤهلات تعيين الله (١) وتعيين رسوله له عليه‌السلام.

وثانيها : أنه كان أعلم الصحابة على الاطلاق ، فهذا رسول الله يقول : «أقضاكم عليّ».

____________________________________

(١) قد بسطنا الأدلة على ذلك فيما سبق فلا نعيد ، ولكنّا نذكر بعضها استئناسا ، فمنها ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمولاتنا فاطمة عليها‌السلام :

«أما ترضين إني زوجتك أول المسلمين إسلاما وأعلمهم علما» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعلم أمتي من بعدي عليّ بن أبي طالب» (٢).

__________________

(١) مستدرك الحاكم وكنز العمال.

(٢) المناقب للخوارزمي ص ٤٩ ومقتل الحسين ص ٤٣.


وقوله : «علي خازن علمي» (١).

وقوله : «أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب» (٢).

وقوله : «وأنا دار العلم وعليّ بابها» (٣).

وقوله : «ما علمت شيئا إلّا علّمته عليّا فهو باب مدينة علمي» (٤).

وقوله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل عن الإمام عليّ : «قسّمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطي عليّ تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا» (٦).

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٢ / ٤٤٨.

(٢) تاريخ بغداد ج ١١ / ٢٠٤ ط / السعادة بمصر. والمناقب للشافعي ص ١٢٤ وفرائد السمطين.

(٣) ذخائر العقبى ص ٧٧ ؛ الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٣ ، وينابيع المودة ص ٢١٠.

(٤) المناقب للمغازلي.

(٥) المناقب وكفاية الطالب ص ٩٨ وميزان الاعتدال ج ١ / ٥١ وغيره من المصادر الكثيرة فلاحظ : إحقاق الحق ج ٥ / ٤٦٨ الباب التاسع.

(٦) حلية الأولياء ج ١ / ٦٤ والمناقب للمغازلي.


ويقول عمر بن الخطّاب : (أقضانا علي) (١) ويقول رسول الله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة والحكمة فليأت الباب».

وقال هو عليه‌السلام :

«علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب» (٢).

ومن الواضح أن العالم مقدّم على الجاهل ، يقول الله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣).

وثالثها : أنه عليه‌السلام كان مستغنيا عن غيره ، وغيره كان محتاجا إليه ، ألم يقل أبو بكر : «أقيلوني فلست بخير فيكم وعليّ فيكم» (٤)!

ألم يقل عمر في أكثر من سبعين موضعا : «لو لا عليّ لهلك

__________________

(١) صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...) وطبقات ابن سعد ج ٦ / ١٠٢ والاستيعاب ج ١ / ٨ وج ٢ / ٤٦١ وحلية الأولياء ج ١ / ٦٥ ، ومطالب السئول ص ٢٣ ومواقف الإيجي ج ٣ / ٢٧٦ وشرح ابن أبي الحديد ج ٢ / ٢٣٥ ، الغدير ج ٣ / ٩٦.

(٢) ورد بألفاظ متعددة ، وبطرق كثيرة في مصادر الخاصة والعامة ناهزت الخمسين.

(٣) سورة الزمر : ٩.

(٤) الموجود في المصادر هكذا : «لست بخيركم وعلي فيكم» ويظهر أن ما في المتن تصحيف لما قلنا. ولاحظ شرح التجريد للقوشجي ص ٣٧١ ، ط / حجري ، أو أن تكون العبارة هكذا : «لست بخير وعليّ فيكم» أي ما دام فيكم ، لذا حاولوا قتله مرارا ، كان آخرها لمّا وكّل أبو بكر خالدا ، وقد ذكرنا القصة في البحوث السابقة فلتراجع.


عمر» (١) «ولا أبقاني الله لمعضلة لست فيها يا أبا الحسن» و «لا يفتينّ أحدكم في المسجد وعليّ حاضر»؟

____________________________________

(١) لعمر بن الخطاب كلمات مشهورة تعرب عن غاية احتياجه في العلم إلى أمير المؤمنين منها قوله مرارا :

«لو لا عليّ لهلك عمر».

«وعليّ أقضانا».

«اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب».

«لا أبقاني الله بأرض لست فيها أبا الحسن».

«لا أبقاني الله بعدك يا عليّ».

«أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها».

«أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن».

«أعوذ بالله أن أعيش في قوم ليس فيهم أبو الحسن».

«اللهم لا تنزل بي شديدة إلّا وأبو الحسن إلى جنبي».

«لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

«لا أبقاني الله إلى أن أدرك قوما ليس فيهم أبو الحسن» (١).

وقالت عائشة : عليّ أعلم الناس بالسنّة (٢).

وقال ابن مسعود : أعلم أهل المدينة بالفرائض عليّ بن أبي طالب (٣).

__________________

(١) أخرج الحديث المصادر التالية : حلية الأولياء ج ١ / ٦٥ ، الطبقات ص ٤٥٩ ، الاستيعاب ج ٤ / ٣٨ ، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٨ ، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ٣٥٩ ، المناقب ص ٦٠ ، تذكرة السبط ص ٨٨ ، فيض القدير ج ٤ / ٣٥٧.

(٢) الاستيعاب ج ٣ / ٤٠ ؛ الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٣ ؛ مناقب الخوارزمي ص ٥٤ ؛ الصواعق المحرقة ص ٧٦ ؛ تاريخ الخلفاء ص ١١٥.

(٣) الاستيعاب ج ٣ / ٤١ والرياض النضرة ج ٢ / ١٩٤.


وقال أيضا : كنّا نتحدث أن أفضل أهل المدينة عليّ (١).

وقال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن (٢).

وقال هشام بن عتيبة في الإمام عليّ عليه‌السلام : هو أول من صلّى مع رسول الله وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله (٣).

وسئل عطاء أكان في أصحاب محمّد أحد أعلم من عليّ؟ قال : لا والله ما أعلمه (٤).

وقال عديّ بن حاتم في خطبة له : والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنّة أنه ـ يعني عليا ـ لأعلم الناس بهما ، ولئن كان إلى الإسلام أنه لأخو نبي الله والرأس في الإسلام ، ولئن كان إلى الزهد والعبادة أنه لأظهر الناس زهدا ، وأنهكهم عبادة ، ولئن كان إلى العقول والنحائز (٥) أنه لأشدّ الناس عقلا وأكرمهم نحيزة (٦).

وقد امتدح جمع من الصحابة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في شعرهم بالأعلمية كحسان بن ثابت ، وفضل بن عبّاس ، وتبعهم في ذلك أمة كبيرة من شعراء القرون الأولى.

والأمة بعد اولئك كلهم مجمعة على تفضيل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام على غيره بالعلم والتقى والزهد ، إذ هو الذي ورث علم النبيّ ، وقد ثبت عنه بعدة طرق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه وصيّه ووارثه ، وفيه قال الإمام عليّ : وما أرث منك يا نبيّ الله؟ قال :

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ، الاستيعاب ج ٣ / ٤١ ، أسنى المطالب للجزري ص ١٤ ، الصواعق ص ٧٦.

(٢) حلية الأولياء ج ١ / ٦٥.

(٣) كتاب صفين / نصر بن مزاحم ص ٤٠٣.

(٤) الاستيعاب ج ٣ / ٤٠.

(٥) النحائز ، جمع نحيزة : الطبيعة.

(٦) جمهرة خطب العرب ج ١ / ٢٠٢.


ما ورث الأنبياء من قبلي ، قال : وما ورث الأنبياء من قبلك؟ قال : كتاب الله وسنّة نبيهم.

قال الحاكم في المستدرك ج ٣ / ٢٢٦ في ذيل حديث وراثته النبيّ دون عمّه العباس ما نصه : لا خلاف بين أهل العلم أن ابن العمّ لا يرث مع العمّ ، فقد ظهر بهذا الإجماع أن الإمامعليه‌السلام ورث العلم من النبيّ دونهم.

وبهذه الوراثة الثابتة صحّ عن الإمام عليّ عليه‌السلام قوله : والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه ، فمن أحقّ به مني (١)؟.

وهذه الوراثة هي المتسالم عليها بين الصحابة ، وقد وردت في كلام كثير منهم ، وكتب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية فيما كتب : يا لك الويل ، تعدل نفسك بعليّ؟ وهو وارث رسول الله ووصيه (٢).

بل هو قاضي الأمة ـ حسبما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقضى أمتي علي» (٣) أو «أقضاكم علي» (٤) و «أعلم أمتي من بعدي عليّ بن أبي طالب» (٥).

__________________

(١) خصائص النسائي ص ١٨ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٢٦ وصححه هو والذهبي.

(٢) كتاب صفين / نصر بن مزاحم ص ١٣٣ ، مروج الذهب ج ٢ / ٥٩.

(٣) المعجم الصغير للطبراني ص ١١٥ وأخبار القضاء ج ١ / ٨٨ ط / القاهرة ، والمناقب للخوارزمي ص ٤٨.

(٤) التبصير في الدين للاسفرايني ص ١٦١ ط / مصر ، مصابيح السنّة ج ٢ / ٢٣ للبغوي.

(٥) المناقب للخوارزمي ص ٤٩ وكفاية الطالب ص ١٩٠ ط / الغري.


ورابعها : أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لم يكن قد عصى الله ، ولم يكن قد عبد غير الله ، ولم يكن قد سجد للأصنام طيلة حياته أبدا ، وهؤلاء الثلاثة كانوا قد عصوا الله ، وعبدوا غيره ، وسجدوا للأصنام ، وقد قال الله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

ومن الواضح أن العاصي ظالم ، فلا يكون مؤهلا لنيل عهد الله أي : النبوة والخلافة.

وخامسها : أن عليّ بن أبي طالب كان ذا فكر سليم ، وعقل كبير ورأي صائب منبعث من الإسلام ، بينما كان غيره ذا رأي سقيم منبعث من الشيطان ، فقد قال أبو بكر : إن لي شيطانا يعتريني (٢) ، وقد خالف عمر رسول الله في مواضع عديدة (٣) ، وكان عثمان ضعيف الرأي تؤثر فيه حاشيته السيئة أمثال : الوزغ بن الوزغ الذي لعنه رسول الله ولعن من في صلبه ـ إلّا المؤمن وقليل ما هم ـ مروان بن الحكم وكعب الأحبار اليهودي وغيرهما!

قال الملك (موجّها الخطاب إلى الوزير):

هل صحيح أن أبا بكر قال : «إن لي شيطانا يعتريني»؟

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) تاريخ الخلفاء ، السيوطي ص ٧١ ط قم ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة ، ص ٣٤ ، تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٤٦٠ وكان يقصد بالشيطان ـ حسب تعبير بعضهم ـ عمر بن الخطاب ، مستدلا على ذلك بما ورد عن الخطيب البغدادي عن عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج قال : حدثنا عبد الوارث قال : كنت بمكة وبها أبو حنيفة فأتيته وعنده نفر ، فسأله رجل عن مسألة فأجاب فيها ، فقال له الرجل : فما رواية عن عمر؟ قال : ذلك قول شيطان. لاحظ محاورة في الإمامة ، ص ١٤.

(٣) ذكرنا بعضا منها فيما سبق ، وسيستعرض العلوي البقية فتابع.


قال الوزير :

هذا موجود في كتب الروايات.

قال الملك : وهل صحيح أن عمر خالف رسول الله؟

قال الوزير : نستفسر من العلوي ما ذا يقصد من هذا الكلام؟

قال العلوي : نعم ذكر علماء السنّة في الكتب المعتبرة أن عمر ردّ على رسول الله في موارد عديدة ، وخالفه في مواطن كثيرة ، منها :

١ ـ حين أراد النبيّ أن يصلّي على عبد الله بن أبي ، فقد ردّ عمر على رسول الله ردا نابيا(١) وقاسيا حتى تأذّى منه رسول الله ، والله يقول : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢).

٢ ـ حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفصل بين عمرة التمتع وحج التمتع وجوّز مقاربة الرجل زوجته بين العمرة والحج ، فاعترض عليه عمر وقال هذه العبارة البشعة : «أنحرم ومذاكيرنا تقطر منيّا» (٣)؟

فيردّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : إنك لم تؤمن بهذا أبدا ، وبهذه العبارة عرّفه النبيّ بأنه ـ أي عمر ـ ممن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ج ٢ / ٣٢٧ ، تفسير الرازي : ج ١٦ / ١٥٢.

(٢) التوبة : ٦١.

(٣) صحيح البخاري : ج ١ / ٢١٣ و ٤ / ١٦٦ كتاب التمني باب لو استقبلت من أمري ما استدبرت وسنن أبي داود ج ٢ / ١٥٦ باب أفراد الحج ، الحديث ١٧٨٩ باختلاف يسير ، ومسند أحمد : ج ٣ / ٣٠٥ وسنن البيهقي : ج ٥ / ٣ باب من اختار الأفراد. وفتح الباري : ١٧ / ١٠٨ باب نهي النبي على التحريم من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، وصحيح مسلم : ج ٨ / ١٣١ ح ١٤١ باب وجوه الإحرام ، وسنن ابن ماجة باب التمتع بالعمرة.


٣ ـ في متعة النساء ، حيث لم يؤمن بها ، ولمّا جاء إلى الحكم ، وغصب كرسي الخلافة قال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما» بينما يقول الله تعالى في القرآن الكريم : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (١).

حيث ذكر المفسّرون أنها نزلت في جواز المتعة ، وقد كان عمل المسلمين على هذه حتّى أيام عمر ، فلمّا حرّمها عمر كثر الزنا والفجور بين المسلمين ، وبهذا العمل عطّل عمر حكم الله وسنّة رسول الله ، وروّج الزنا والفجور! وصار مشمولا للآية : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .. (الْفاسِقُونَ) .. (الْكافِرُونَ) (٢).

٤ ـ في صلح الحديبية ـ كما مرّ ـ

إلى غيرها من الموارد التي كان عمر يخالف فيها رسول الله ويؤذيه بقساوة كلامه!

قال الملك :

وفي الحقيقة أني أيضا لا أرضى بمتعة النساء!

قال العلوي : هل أنت تعترف بأنه تشريع إسلامي أم لا؟

قال الملك : لا أعترف.

قال العلوي : فما معنى الآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وما معنى قول عمر : «متعتان كانتا ..» ألا يدل قول عمر

__________________

(١) النساء : ٢٤ وقد فصّلنا القول بالمتعتين في مثالب عمر بن الخطّاب فراجع.

(٢) المائدة : ٤٥ ، ٤٧ ، ٤٤.


على أن متعة النساء كانت جائزة وجارية في عهد رسول الله ، وفي أيام حكم أبي بكر ، وفي جزء من حكم عمر ثم نهى عنها ومنعها؟

بالإضافة إلى سائر الأدلة وهي كثيرة أيها الملك : إن عمر نفسه كان يتمتع بالنساء ، وإن عبد الله بن الزبير ولد من المتعة (١)!

قال الملك :

ما ذا تقول يا نظام الملك؟

قال الوزير :

حجة العلوي سليمة وصحيحة ، ولكن حيث إن عمر نهى ، يلزم علينا اتباعه.

قال العلوي : هل الله والرسول أحقّ بالاتباع أم عمر؟!

ألم تقرأ أيّها الوزير قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢).

وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي) (٣).

وقوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٤).

__________________

(١) ذكر الراغب الأصفهاني : إن عبد الله بن الزبير عيّر ابن عبّاس بتحليله المتعة ، فقال له ابن عبّاس : سل أمك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك ، فسألها فقالت : والله ما ولدتك إلّا بالمتعة. (المحاضرات طبع مصر ج ٢/٩٤ ، ومروج الذهب ، ج ٣ / ٨١ وفي خبر آخر : فاسأل أمك عن بردي عوسجة).

(٢) الحشر : ٧.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) الأحزاب : ٢١.


والحديث المشهور : (حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة (١).

قال الملك :

إني أؤمن بكلّ تشريعات الإسلام ، لكن لا أفهم وجه العلّة في تشريع المتعة ، فهل يرغب أحدكم أن يعطي بنته أو أخته لرجل كي يتمتع بها ساعة ، أليس هذا قبيحا؟

قال العلوي :

وما تقول في هذا أيّها الملك : هل يرغب الإنسان أن يزوّج بنته أو أخته [٢] عقدا دائما لرجل ، وهو يعلم أنه يطلّقها بعد ساعة من الاستمتاع بها؟

قال الملك : لا أرغب ذلك.

قال العلوي : مع أن أهل السنّة يعترفون بأنّ هذا العقد الدائم صحيح ، والطلاق بعده صحيح أيضا ، فليس الفارق بين عقد المتعة والعقد الدائم إلّا أن المتعة تنتهي بانتهاء مدّتها ، والعقد الدائم ينقطع بالطلاق ، وبعبارة أخرى : عقد المتعة بمنزلة الإجارة ، وعقد الدوام

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ / ١٢٤ ح ٤٧ باب صفات القاضي.

(٢) حدثني أحد الثقات أن رجلا متدينا زوّج ابنته البالغة من العمر خمسة عشر عاما أحد المؤمنين لما رأى منها الحاجة إلى زوج ، ولمّا عقد الشاب عليها ، أحبها وأحبته ، فحوّلاه إلى عقد دائم. وقد حصل معي أيضا أنّ أحدهم طلب مني أن أزوّجه بالعقد المنقطع أختي المطلّقة ، فوافقت وذهبت بنفسي لإخبارها ، لكنها ـ لظروف ـ رفضت ، وقد تعجّب ذاك الشاب إكبارا وإجلالا لي كيف فعلت ذلك! فقلت له : المتعة حكم الله تعالى ، وأنا أمتثل حكمه بدون ترديد.


بمنزلة الملك ، حيث إن الإجارة تنتهي بانتهاء المدة ، والملك ينتهي بالبيع ـ مثلا – (١).

إذن : فتشريع المتعة سليم وصحيح لأنه قضاء حاجة من حاجات الجسد ، كما أن تشريع الدوام الذي ينقطع بالطلاق سليم وصحيح لأنه قضاء لحاجة من حاجات الجسد.

ثم أسألك ـ أيّها الملك ـ ما تقول في النساء الأرامل اللّاتي فقدن أزواجهن ولم يتقدّم أحد لخطبتهنّ : أليس عقد المتعة هو العلاج الوحيد لصيانتهن من الفساد والفجور؟

أليس بالمتعة يحصلن على مقدار من المال لمصارف أنفسهن وأطفالهنّ اليتامى؟

وما تقول في الشباب والرجال الذين لا تسمح لهم ظروفهم بالزواج الدائم [أليست المتعة هي الحل الوحيد لهم للخلاص من القوة الجنسية الطائشة؟! وللوقاية من الفسق والميوعة؟ (٢).

أليست المتعة أفضل من الزنا الفاحش واللواط والعادة السريّة؟ إنني أعتقد ـ أيّها الملك ـ أن كل جريمة زنا أو لواط أو استمناء تقع بين الناس ، يعود سببها إلى عمر ، ويشترك في إثمها عمر ، لأنه الذي منعها ، ونهى الناس عنها! وقد ورد في أخبار متعددة : أن الزنا كثر بين الناس منذ أن منع عمر المتعة!

__________________

(١) هذه الكلمة يحتمل زيادتها على النص من قبل الناسخين ، أو لعلّ ما بعدها عبارة محذوفة.

(٢) ما بين المعقوفتين غير موجود في نسخة الرضوي ، ولا يبعد زيادتها من الناسخين أيضا لأن مصطلح «القوة الجنسية» حديث لم يكن متداولا في تلك العصور.


أما قولك ـ أيّها الملك ـ إني لا أرغب .. الخ ، فالإسلام لم يجبر أحدا على هذا ، كما لم يجبرك على أن تزوّج بنتك لمن تعلم أنه يطلّقها بعد ساعة من عقد النكاح ، بالإضافة إلى أن عدم رغبتك ورغبة الناس في شيء لا يقوم [ظ : لا يكون] دليلا على حرمته ، فحكم الله ثابت لا يتغيّر بالأهواء والآراء!

قال الملك ـ موجّها الخطاب للوزير ـ

حجة العلوي في جواز المتعة قوية!

قال الوزير :

لكنّ العلماء اتبعوا رأي عمر.

قال العلوي :

أولا : إن الذين اتّبعوا رأي عمر هم علماء السنّة فقط لا كل العلماء.

ثانيا : حكم الله ورسوله أحقّ بالاتباع أم قول عمر؟

وثالثا : إن علماءكم ناقضوا بأنفسهم قول عمر وتشريعه.

قال الوزير : كيف؟

قال العلوي : لأن عمر قال : (متعتان كانتا في عهد رسول الله أنا أحرّمهما : متعة الحج ومتعة النساء (١) ، فإن كان قول عمر صحيحا فلماذا

__________________

(١) في خبر آخر قال عمر : أيّها لناس ، ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهن : متعة النساء ، ومتعة الحج وحيّ على خير العمل.

لاحظ : شرح القوشجي مبحث الإمامة ، وقد تقدمت مصادره.


لم يتبع علماؤكم رأيه في متعة الحج؟ حيث إن علماءكم خالفوا عمر وقالوا : بأن متعة الحج صحيحة ، على الرغم من تحريم عمر! وإن كان قول عمر باطلا فلما ذا اتّبع علماؤكم رأيه في حرمة متعة النساء ، ووافقوه؟

الوزير : سكت ولم يقل شيئا.

قال الملك ـ موجّها الكلام إلى الحاضرين ـ لما ذا لا تجيبون العلوي؟

فقال أحد علماء الشيعة واسمه الشيخ حسن القاسمي : الإيراد والإشكال وارد على عمر وعلى من تبعه ، ولهذا ليس لهؤلاء ـ أيها الملك ـ جواب على إيراد سيّدنا العلوي حفظه الله تعالى.

قال الملك :

إذن دعوا هذا الموضوع وتكلّموا حول موضوع آخر.

قال العبّاسي :

إن هؤلاء الشيعة يزعمون أنه لا فضل لعمر ، وكفاه فضلا أنه فتح تلك الفتوحات الإسلامية.

قال العلوي :

عندنا لذلك أجوبة :

أولا : إن الحكام والملوك يفتحون البلاد لأجل توسعة أراضيهم وسلطانهم ، فهل هذه فضيلة؟


ثانيا : لو سلّمنا أن فتوحاته فضيلة ، لكن هل الفتوحات تبرّر غصبه لخلافة الرسول؟ والحال أن الرسول لم يجعل الخلافة له ، وإنما جعلها لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١) .. فإذا أنت ـ أيّها الملك ـ عيّنت خليفة لمقامك ، ثم جاء إنسان وغصب الخلافة من خليفتك وجلس مجلسه ، ثم فتح الفتوحات وعمل الصالحات ، فهل ترضى أنت بفتوحاته أم تغضب عليه ، لأنه خلع من عيّنته ، وعزل خليفتك وجلس مجلسك بغير إذنك؟

قال الملك :

بل أغضب عليه ، وفتوحاته لا تغسل جريمته!

قال العلوي :

وكذلك عمر ، غصب مقام الخلافة ، وجلس مجلس الرسول بغير إذن من الرسول!

ثالثا : إن فتوحات عمر كانت خاطئة وكان لها نتائج سلبية معكوسة ، لأن رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يهاجم أحدا ، بل كانت حروبه دفاعية ولذلك رغب الناس في الإسلام ودخلوا في دين الله أفواجا لأنّهم عرفوا أن الإسلام دين سلّم وسلام ، أما عمر فإنه هاجم البلاد وأدخلهم في الإسلام بالسيف والقهر ، ولذلك كره الناس الإسلام واتهموه بأنه دين السيف والقوة ، لا دين المنطق واللّين وصار ذلك سببا لكثرة أعداء الإسلام.

__________________

(١) لا بدّ من القول : أن الجاعل للخلافة هو الله تعالى وليس الرسول ، فما ذكره العلوي من أن الرسول جعلها للإمام أمير المؤمنين فيه تسامح ، ولكنّه يقصد أنه جعلها له عليه‌السلام بأمر من الله تعالى ، لأن الخلافة تعيين من الله تعالى وليست ترشيحا.


إذن : فتوحات عمر شوّهت سمعة الإسلام ، وأعطت نتائج سلبية معكوسة (١).

____________________________________

إن التشدق بالفتوحات الإسلامية ليس إلّا مظهرا من مظاهر العصبيّة التي نبذها الإسلام تحت قدميه ، هذه الفتوحات التي جعلوها مفخرة عظمى لما يسمى بالخلفاء الراشدين قد صبت علينا الويلات ، حتى نعت الغربيون الإسلام بأنه دين قسوة يعتمد على السيف أكثر من اعتماده على منطق العقل والعلم والدراية!! .. فأغلب هذه الفتوحات إنما كانت من أجل توسيع رقعة الحكم الغاصب للخلافة من أصحابها الحقيقيين أمير المؤمنين وأبنائه الميامين عليهم‌السلام ، بل كانت ضررا على الإسلام ووبالا عليه ، وذلك لأمور :

الأول : لو كانت تلك الفتوحات لله تعالى لكان اتّبعها اهتمام القائمين بها من الحكّام والساسة بإرشاد الناس ـ في تلك البلاد المفتوحة ـ وتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم تربية دينية صالحة ، بحيث يتحول الإسلام في نفوسهم إلى طاقة عقائدية تشحذ الهمم نحو الفضيلة والتكامل ، وتبنّيهم لأحكام الإسلام والدفاع عنها ، فلما لم يكن شيء من هذا حاصلا في تلك البلاد ، علمنا أن فتوحاتهم لم تكن فتحا للإسلام ، بل فتحا للعداء عليه. فها هو رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يكتفي من الناس بإظهار الإسلام والتلفظ بالشهادتين ثم ممارستهم السطحية لبعض الشعائر والظواهر الإسلامية فحسب وإنما كان يرسل لهم من يعلّمهم ويرشدهم إلى عقائد الإسلام وأحكامه ، بخلاف هذه الفتوحات التي تمت على يد الثلاثة المتقدّمين على مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فإن الكثير من البلدان فتحت ثم عادت إلى الكفر والعصيان.

قال الطبري :

إن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان وكانوا يجبون أحيانا مائة ألف.


ويقولون هذا صلحنا ، وأحيانا مائتي ألف ، وأحيانا ثلاثمائة ألف وكانوا ربما أعطوا ذلك وربما منعوه ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجا حتى أتاهم يزيد بن المهلب فلم يعازه أحد حين قدمها ، فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص (١).

فكان همّ خلفاء الفتوحات جلب النفائس والحلي والدراهم والجواري (٢).

قال ابن الأثير :

«إن معاوية بن أبي سفيان عزل معاوية بن حديج عن إفريقية ، واستعمل عليها عقبة بن نافع الفهري ، وكان مقيما ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص ، ... فلما استعمله معاوية سيّر إليه عشرة آلاف فارس ، فدخل إفريقية وانضاف إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه ، ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام ، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتدّ من أسلم» (٣).

وهكذا نجد عدم اهتمام كثير من الصحابة بالإسلام كعقيدة ثابتة ، لذا قال موسى بن يسار : «إن أصحاب رسول الله كانوا أعرابا جفاة ، فجئنا نحن أبناء فارس فلخصنا هذا الدين»(٤).

الثاني : أدت سياسة التمييز في العطاء ، وتفضيل العرب على العجم ، والهيمنة والسيطرة التي كانت سائدة بين أواسط الحكام وأتباعهم ، مضافا إلى وفور النعم ، إلى الإعجاب بالنفس والغرور ، مع عدم وجود روادع دينية أو وجدانية لديهم ، فنال الأمة منهم كل مكروه ، وأصيب الإسلام على أيديهم في مقاتله. لقد

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٣٢٥ حوادث عام ٣٠ ه‍.

(٢) نفس المصدر ج ٣ / ٣٥٨ ، والكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٩٢.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٤٦٥ وج ٢ / ٤٤٨ ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٣٦٠ والفتوحات الإسلامية لدحلان ، الجزء الأول.

(٤) ميزان الاعتدال ج ٤ / ٢٢٧.


انبهر أصحاب تلك الفتوحات بالمناصب التي كانوا فيها ، وأسالت لعابهم الجواري الحسان ، وتملك البلدان ، فشمخ كل منهم بأنفه ، ونظر في عطفه ، وتكبّر وتجبّر ، لأنه لم يتعامل مع الواقع الجديد بعقلية الرجل المسلم الواعي والهادف ، بل بعقلية الجاهلية ، التي تعتبر القبيلة لا الأمة أساسا ، والفرد لا الجماعة ميزانا ومنطلقا لتعامله مع الآخرين ، فكان جلّ اهتمامهم بتقوية أمرهم ، وتثبيت سلطانهم ، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال وبالإغراء بالمناصب وغير ذلك من سياسات ، ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلّا واحدا منها ، واستمروا في بسط نفوذهم وسلطانهم على أساس أنه ملك قبلي.

«وإذا كان أبو بكر ، وكذلك عمر لا يدري : أخليفة هو أم ملك ، فإن معاوية بن أبي سفيان كان يعتبر نفسه ملكا بالفعل ، وكذلك كان يعتبره الكثيرون ، بل أن عمر نفسه قد اعتبر نفسه ملكا في بعض المناسبات».

لقد اعتبر معاوية والأمويون أنفسهم ملوكا قيصريين ، وأن الدين عندهم مجرد شعار يخدم هذا الملك ويقويه ، وكل ما كان مانعا من الوصول إلى ما يبتغون ، كانوا يدمرونه ويستأصلونه من جذوره.

فالمستفيدون الحقيقيون من تلك الفتوحات هم خصوص هذه الطبقة من المترفين المتجبّرين من أدعياء الإسلام ، كانوا يكيدون للإسلام باسمه ، فهم أصحاب القرار لذا عبّر العامة عنهم ب «أهل الحل والعقد» يحلّون ويعقّدون بأنفسهم من دون استشارة أحد من المسلمين ، لأن القرار بأيديهم ، والله تعالى سلّطهم على عبيده فهم خدم عندهم لا يلوون على شيء إلا بإشارتهم ، فهذا النمط من الحكّام هم المستفيدون حقا ، لذا قد بلغت الثروات في عهد الخلفاء الثلاثة الأول أرقاما خيالية ، حسبما أفادت النصوص التاريخية (١) ، فقد نجد أن عمر بن الخطّاب الذي يقال عنه أنه من أزهد الناس ـ وربّ قول مشهور لا أساس له ـ وأنه

__________________

(١) الغدير ج ٨ / ٢٣٤ ـ ٢٨٩ ، التراتيب الإدارية ج ٢ / ٣٢ وما بعدها ، والبداية والنهاية ج ٧ / ١٦٤.


كان يرتزق من بيت المال ، وغيرها من الفضائل التي أصبغوها عليه ، نجده قد أصدق زوجته أربعين ألف درهم أو دينار ، وقيل مائة ألف ، كما أنه أعطى صهرا له قدم عليه من مكّة عشرة آلاف درهم من صلب ماله ، وقد ملك أربعة آلاف فرس ، إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لمسيرة الثلاثة.

كما أن عمر بن الخطّاب قد حاول أخذ الجزية من رجل أسلم ، على اعتبار أنه : إنما أسلم متعوذا ، فقال له ذلك الشخص : إن في الإسلام لمعاذا! فقال عمر : صدقت أن في الإسلام لمعاذا.

وها ذاك خالد بن الوليد ـ سيف الشيطان المسلول على المؤمنين الموحّدين لا سيّما الصدّيقة الطاهرة الزكية فاطمة عليها‌السلام ـ لعن الله من ظلمها وآذاها ـ يخاطب جنوده ويرغّبهم بأرض السواد : «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب؟ وبالله ، لو لم يلزمنا الجهاد في الله ، والدعاء إلى اللهعزوجل ، ولم يكن إلّا المعاش لكان الرأي : أن نقارع على هذا الريف ، حتى نكون أولى به ، ونولي الجوع والإقلال من تولّى ، ممن إثّاقل عما أنتم عليه» (١).

وعلى كل حال ، فإن الحرب من أجل الغنائم والأموال (٢) ، كانت هي الصفة المميزة لأكثر تلك الفتوحات ، ويشهد له ما رواه أبو نعيم والحسن بن سفيان عن الحارث بن مسلم التميمي : أن النبيّ أرسل بعض الصحابة في سرية وأنا معهم ، فلمّا بلغنا المغار استحثثت فرسي وسبقت أصحابي ، واستقبلنا الحي بالرنين ، فقلت لهم : قولوا لا إله إلا الله تحرزوا؟ فقالوها. فجاء أصحابي ، فلاموني ، وقالوا : حرمتنا الغنيمة بعد أن بردت في أيدينا ، فلمّا قفلنا ، ذكروا ذلك لرسول الله ، فدعاني ، فحسّن ما صنعت وقال : أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا ..»(٣).

__________________

(١) العراق في العصر الأموي ص ١١. والرّفغ : سعة العيش وطيبه.

(٢) لاحظ الكامل في التاريخ ج ٢ تجد الكثير فيه.

(٣) كنز العمال ج ١٥ / ٣٣٠.


وقال الزبير للذي سأله عن مسيره لحرب الإمام عليّ عليه‌السلام «حدثنا أن هاهنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير ـ فجئنا لنأخذ منها» (١).

الثالث : إن تربية كثير من الأشراف والرؤساء على أيدي غير المسلمات ، له دور كبير في تكوين الشخصية المهزوزة والتي ليس في قلبها متسع للرحمة ، لأن الإسلام دين رحمة ، فمن لم يتصف بتلك الرحمة فلا قيمة لإسلامه ولو تشهد بالشهادتين ألف مرة كل يوم.

لذا فقد كان :

١ ـ لأولاد سعد بن أبي وقّاص معلم نصراني (٢).

٢ ـ يوسف بن عمرو كانت أمه نصرانية (٣).

٣ ـ خالد القسري ، بنى لأمه كنيسة (٤) ، وكان خالد يهدم المساجد ، ويبني البيع والكنائس ، ويولّي المجوس (٥) ، وكان جد خالد من يهود تيماء (٦).

٤ ـ وتزوّج طلحة بيهودية في زمن عمر (٧).

٥ ـ تزوّج عبد الله بن أبي ربيعة بنصرانية في زمن عمر (٨).

٦ ـ كان لعمر بن الخطاب غلام نصراني لم يسلم وقد أعتقه حين وفاته (٩).

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٢ / ٢٧١.

(٢) أنساب الأشراف ج ٢ / ٢٩٢.

(٣) أنساب الأشراف ج ٣ / ٨٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٠.

(٥) العراق في العصر الأموي ص ٢٤٠.

(٦) الأغاني ج ١٩ / ٥٧.

(٧) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ١٧٧ وتفسير الخازن ج ١ / ٤٣٩.

(٨) نسب قريش ص ٣١٨.

(٩) التراتيب الإدارية ج ١ / ١٠٢.


٧ ـ تزوّج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية (١) وغيرهم كثير(٢).

وعلى كل حال ، «فإن تربية تلك الجواري للنشء الجديد قد كان من شأنه أن يخفض من المستوى الديني ، ومن مستوى الالتزام بالأحكام الإسلامية لدى ذلك النشء بالذات ، وهذا بطبيعة الحال من شأنه أن يشكّل خطرا جديا على الإسلام والمسلمين ، ولذلك فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام يهتمون بتربية العبيد والجواري تربية إسلامية صالحة ثم عتقهم.

وقد شجّع الإسلام العتق على نطاق واسع ، وجعل له من الأسباب الإلزامية والراجحة الشيء الكثير ، الذي من شأنه أن يقضي على ظاهرة العبودية من أساسها» (٣).

الرابع : عدم اشتراك أمير المؤمنين وولديه العظيمين الإمامين الحسن والحسين عليهم‌السلام في تلك الفتوحات التي طالما تشدق بها العامة وجعلوها من الأدلة على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ، مع أنهم تناسوا فتوحات أمير المؤمنين عليّ في بدر وخيبر وأحد وحنين وكل المعارك التي خاضها الإسلام مع الكفر وخرج منها منتصرا ببركة ساعد مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

فسبب عدم مشاركته عليه‌السلام في تلك الفتوحات يرجع إلى أمرين :

الأول : حرمة دعم هؤلاء لكونهم مالوا عن الحقّ واعتدوا على الحرمات ، لأنّ في دعمهم تضعيف عقائد المؤمنين وتوهين شريعة سيّد المرسلين وإغراء بالقبيح ، هذا مضافا إلى أنّهم لم يطلبوا بهذه الفتوحات وجه الله والقرب منه بل كان

__________________

(١) تفسير الخازن ج ١ / ٤٣٩.

(٢) فليراجع : المحبّر ص ٣٠٥ لابن حبيب ط / عام ١٣٦١ ه‍ ، والأعلاق النفيسة ص ٢١٣ لابن رستة ط / ليدن ، وربيع الأبرار ج ١ / ٣٤٨. ، ونسب قريش لمصعب ص ٣١٩ ، والحياة السياسية للإمام الحسن / جعفر مرتضى ص ١٥٢ ؛ والمنمق لابن حبيب ط / الهند عام ١٣٨٤ ه‍ ، ص ٥٠٦.

(٣) الحياة السياسية للإمام الحسن ص ١٥٧.


كلّ همّهم الحصول على النفائس وصوافي الغنائم والاختصاص بالحسناوات من النساء بعنوان سبايا وجواري ... وعلى كلّ حال فإنّ الحرب من أجل بسط نفوذهم وتقوية أمورهم ، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال وبالإغراء بالمناصب وبغير ذلك من سياسات ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلّا واحدا منها ..

إذن ، فالحرب من أجل الغنائم والأموال كانت هي الصفة المميّزة لأكثر تلك الفتوحات ، ويشهد لهذا ما فعلوه بأمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّى على الفراش ، ثم انتهاكهم لحرمة ابنته الزهراء البتول ومنعها من الخمس واغتصابهم لفدك وغير ذلك لأكبر شاهد على ما قلنا. هذا مضافا إلى أنّ ظاهرة الطمع في الأموال والنفائس كانت سائدة بين بعض المسلمين على عهد رسول الله ممّا سبّب انكسار المسلمين في معركة أحد ، وبقيت هذه الظاهرة إلى ما بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لا نبالغ إذا ما قلنا أنها ازدادت عمّا كانت عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إنّ ضعف الإيمان في نفوس المسلمين وعدم معرفتهم بأكثر أحكام دينهم استدعى عدم مشاركته عليه‌السلام في تلك الفتوحات ، هذا علاوة على أنّه لم يأمر أحدا من أصحابه بالمشاركة فيها ، لأنّ مهمّته عليه‌السلام وأصحابه معه هي تثقيف الناس بعقائدهم وتثبيت الإيمان في نفوسهم ونشر فكر الإسلام الصحيح للأمّة ، وللمتصدّين لإدارة شئونها على حدّ سواء وقد نوّه بذلكعليه‌السلام في خطبة له فقال : «أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ... ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، قد ركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا تتغلغل إليه الفكر ...» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ج ١ / ١٥٣ (الخطبة ٨٣) بشرح محمد عبده ، و (الخطبة ٨٧) بشرح صبحي الصالح.


وبالجملة : فإن أئمة الهدى عليهم‌السلام كانوا لا يرون في الاشتراك في هذه الفتوحات أو الحروب مصلحة ، بل لا يرون نفس تلك الحروب خيرا ، فقد روي عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال لعبد الملك بن عمرو : «يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال : قلت : وأين؟ قال عليه‌السلام : جدّة وعبادان والمصيصة وقزوين ، فقلت : انتظارا لأمركم والاقتداء بكم ، فقال عليه‌السلام : أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، قال : قلت له : فإن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلّا أنه لا يرى الجهاد ، فقال عليه‌السلام : أنا لا أراه! بلى والله إني لأراه ولكنني أكره أن أدع علمي إلى جهلهم» (١).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال :

لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ، ولا ينفذ في الفيء أمر الله عزوجل ، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقنا والإشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية(٢).

وثمة روايات أخرى تدل على أنّهم عليهم‌السلام كانوا لا يشجّعون شيعتهم بل ويمنعونهم من الاشتراك في تلك الحروب ، ولا يوافقون حتى على المرابطة في الثغور أيضا ، ولا يقبلون منهم حتى ببذل المال في هذا السبيل ولو كان نذرا (٣) ، وشرّعوا لشيعتهم أنهم إذا دخلوا في حكومات الجائرين اضطرارا لدفع هجوم العدو عليهم أن يدخلوا دفاعا عن بيضة الإسلام لا عن أولئك الحكّام (٤).

فالأئمة عليهم‌السلام يرون حرمة الجهاد مع غير الإمام العاقل كما هو مفاد الخبر المتقدّم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهم روحي وأرواح العالمين لهم الفداء أحرص

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ / ٣٢ ح ٢ باب ١٢ (اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وإذنه).

(٢) نفس المصدر ج ١١ / ٣٤ ح ٨.

(٣) نفس المصدر ج ١١ / ٢١ ح ١ باب ٧ (حكم من نذر مالا للمرابطة).

(٤) نفس المصدر ج ١١ / ٢١ باب ٧ ح ٢.


الناس على توسعة رقعة الإسلام ونشره ليشمل الدنيا بأسرها ، ولكنّ الطريقة والأسلوب الذي كان يتم ذلك بواسطته كان حراما ومضرا بنظرهم المقدّس.

وما ادّعاه بعضهم (١) (من أن الإمامين الحسن والحسين شاركا في كثير من الفتوحات الإسلامية وكان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين وغيرهم) غير مقبول وذلك :

١ ـ لم يرد ذلك في أخبارنا ، بل ما ذكره الحسني إنما هو من مصادر العامة ، ولا حجية لأخبارهم عندنا نحن الإمامية لا سيّما التي تخالف أخبارنا الصحيحة ، وليت شعري كيف أخذ بأخبار عليها علائم الدّس والتحريف وقامت القرائن القطعية على بطلانها؟ هذا مضافا إلى إرسالها وضعفها مع معارضتها لأخبارنا الصحيحة ـ والتي عرضنا قسما منها ـ.

٢ ـ إنّ عمله بهذه الأخبار ـ على ضعفها وشواذها ـ لا يعبّر عن رأي الشيعة الإمامية ، للأسباب التي ذكرناها سابقا ، مضافا إلى أنه لو كان ـ ما ذكره الحسني ـ صحيحا فلم جلس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خمسا وعشرين سنة في بيته؟! وولداه لم يفارقاه أصلا ، مع التأكيد على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام وولديه عليهما‌السلام لو كانوا ـ والحالة هذه ـ مكان سعد بن أبي وقاص ـ هل يكونون مأمونين من أن يرجعوا بذاك الجيش فيما لو كانوا قادة فيه ، وما ذا لو كانوا تحت إمرة الفسّاق ، فما هو موقفهم من أولئك القادة ، وهل يرضى الحسني أن ينضوي أئمتهعليهم‌السلام الحسن والحسين تحت إمرة خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وغيرهما؟! بل ما ادعاه المذكور مخالف لما ورد من أن القوم عرضوا عليه المشاركة فرفض (٢).

__________________

(١) هو السيد هاشم معروف الحسني في سيرة الأئمة عليهم‌السلام ج ١ / ٤٨٣.

(٢) مروج الذهب ج ٢ / ٣٠٩ وفتوح البلدان ص ٣١٣.


ولو لم يغصب أبو بكر وعمر وعثمان الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ عليه‌السلام ، وكان الإمام يتسلم مهام الخلافة بعد الرسول مباشرة لكان يسير بسيرة الرسول ويقتفي أثره ، ويطبّق منهاجه الصحيح ، وكان ذلك موجبا لدخول الناس في دين الإسلام أفواجا ، ولكانت رقعة الإسلام تتسع حتى تشمل وجه الكرة الأرضية!

ولكن ، لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.

وهنا تنفّس السيّد العلوي تنفسا عميقا ، وتأوّه من صميم قلبه ، وضرب بيد على الأخرى أسفا وحزنا على ما حلّ بالإسلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب غصب الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ عليه‌السلام.

قال الملك ـ موجّها الكلام إلى العبّاسي ـ :

ما هو جوابك على كلام العلوي؟

قال العبّاسي : إني لم أسمع بمثل هذا الكلام من ذي قبل!

قال العلوي :

الآن وحيث سمعت هذا الكلام ، وتجلّى لك الحق فأترك خلفاءك ، واتّبع خليفة رسول الله الشرعي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم أردف العلوي قائلا :

عجيب أمركم معاشر السنّة تنسون وتتركون الأصل وتأخذون بالفرع.


قال العبّاسي : وكيف ذلك؟

قال العلوي : لأنكم تذكرون فتوحات عمر ، وتنسون فتوحات عليّ بن أبي طالب!

قال العبّاسي :

ـ وما هي فتوحات عليّ بن أبي طالب؟

قال العلوي :

أغلب (١) فتوحات الرسول حصلت وتحققت على يد الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مثل : بدر وفتح خيبر وحنين وأحد والخندق وغيرها .. ولو لا هذه الفتوحات التي هي أساس الإسلام لم يكن عمر ، ولم يكن هنالك إسلام ولا إيمان ، والدليل على ذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمّا برز الإمام عليّ لقتل عمرو بن ودّ في يوم الأحزاب «الخندق» : (برز الإيمان كلّه إلى الشرك (٢) كلّه) (إلهي إن شئت أن لا تعبد فلا تعبد) (٣).

أي إن قتل عليّ تجرّأ المشركون على قتلي وقتل المسلمين جميعا فلا يبقى بعده إسلام ولا إيمان.

__________________

(١) بل نؤكد أكثر : أن كل الفتوحات شارك فيها أمير المؤمنين وكان فيها المنتصر ، إلّا في وقعة تبوك فلم يحضر فيها ، لأن الرسول تركه يحمي المدينة من المنافقين ، ومن غير الإمام عليه‌السلام بقادر على التصدي لهم غيره عليه‌السلام؟!

(٢) شرح النهج ، ابن أبي الحديد ، ج ٤ / ٣٤٤ وبحار الأنوار : ج ٣ / ٣٩.

(٣) قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر الكبرى راجع تفسير القمي علي بن إبراهيم ج ١ / ٢٩٣ الآية : ٩ من سورة الأنفال. وقد جاءت بلفظ آخر هكذا : «اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» راجع تفسير مجمع البيان ج ٤ / ٣٣٨ والبرهان في تفسير القرآن ج ٢ / ٦٩ ، وتفسير الكشاف للزمخشري ج ٢ / ١٩٤ ، وبحار الأنوار ج ١٩ / ٣٢٤.


وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين) (١) فصحّ أن نقول : إن الإسلام محمّدي الوجود ، علوي البقاء ، وإن الفضل

__________________

(١) مصادره كثيرة : انظر المواقف / الإيجي ، ص ٦١٧ ، نهاية العقول في دراية الأصول / فخر الدين الرازي ، ص ١١٤. شرح المقاصد / التفتازاني : ج ٢ / ٢٣٠ ط الآستانة. نفحات اللاهوت / الكركي ص ٩١ ط. الينابيع / القندوزي ، ص ٩٥ وص ١٣٧ ط اسلامبول ، تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي : ج ١٣ / ١٩. مقتل الحسين / الخوارزمي ، ص ٤٥. فرائد السمطين / الحمويني : ج ١ / ٢٥٥ ح ١٩٧ ، شواهد التنزيل / الحسكاني : ج ٢ / ٥ ، مستدرك الحاكم : ج ٣ / ٣٢ السيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية : ج ٢ / ٣٢٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ / ٢١٦.

عن علي بن الحكيم الأودي قال : سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول : لقد ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها ، (أي يوم الخندق) ولقد ضرب ضربة ما ضرب في الإسلام أشأم منها أي ضربة ابن ملجم للإمام عليه‌السلام. بحار الأنوار : ج ٢٠ / ٢٥٨. والمراد من الثقلين :

إما الجن والإنس ، وإما العالم العلوي والسفلي ، فالعلوي : يشمل جميع الملائكة حتى الكروبيين وروح القدس ، والسفلي : ويشمل الجن والإنس. فالعلوي ثقل ، والسفلي ثقل. ولا يبعد الأمرين معا ، وإن كان الأظهر الثاني لسعة إحاطتهم للمعارف والكمالات ، ولكونهم أفضل ما خلق الله تعالى على الإطلاق.

سؤال :

لما ذا صارت ضربة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب روحي فداه وعليه‌السلام أفضل من عبادة الثقلين؟

والجواب :

صارت كذلك لأمرين :

(١) لأن ضربته كانت خالصة لله تعالى ، فهي مصداق قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

(٢) لأنها أدخلت العزّ للإسلام والمسلمين ، فلو لا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يوم الخندق لانطفأت شعلة الدين ، فعليّ المرتضى قائد الغر المحجلين أبقاها متوقدة ، فله عليه‌السلام فضل على عبادة المؤمنين إلى قيام يوم الدين ، فضربته سببا لعبادتهم لله رب العالمين.

والتخصيص بالضربة بقوله «ضربته» إشارة إلى جنبة العمل الصادر منه عليه‌السلام ، حيث يتفاضل بتفاضل المعرفة وكمالها ، فكلما كان العمل مخلصا لله تعالى دل ذلك على عظمة العلم لدى صاحبه ، فضربته أثر من آثار معرفته بالله تعالى التي لا يرقى إليها مخلوق على الإطلاق إلّا سيّد الرسل محمّد وفاطمة الصدّيقة الشهيدة وأولادها الأنوار المقدّسين الطاهرين ، فلمّا كانت معرفته بالله أرقى من معارف الثقلين ، كانت ضربته أعظم وأفضل من عبادة الثقلين. تأمل وتدبر.


لله تعالى ولعليّ عليه‌السلام في بقاء الإسلام.

قال العبّاسي :

هب إنّ قولكم في أخطاء عمر ، وأنه غير صحيح ، وأنّه غيّر وبدّل ، لكن لما ذا تكرهون أبا بكر؟

قال العلوي : نكرهه لعدة أمور ، أذكر لك منها أمرين :

الأول : ما فعله بفاطمة الزهراء بنت رسول الله ، وسيّدة نساء العالمين عليها‌السلام.

الثاني : رفعه الحدّ عن المجرم الزاني : خالد بن الوليد.

قال الملك ـ متعجبا ـ وهل خالد بن الوليد مجرم؟

قال العلوي : نعم.

قال الملك : وما هي جريمته؟

قال العلوي :

جريمته أنه : أرسله أبو بكر إلى الصحابي الجليل «مالك بن نويرة» الذي بشّره رسول الله أنه من أهل الجنّة ، وأمره أي : أمر أبو بكر خالدا ، أن يقتل مالك وقومه ، وكان مالك خارج المدينة المنوّرة ، فلمّا رأى خالدا مقبلا إليه في سريّة من الجيش ، أمر مالك قومه بحمل السلاح ، فحملوا السلاح ، فلمّا وصل خالد إليهم احتال وكذب عليهم ، وحلف لهم بالله أنه لا يقصد بهم سوءا ، وقال : إننا لم نأت لمحاربتكم بل نحن ضيوف عليكم الليلة ، فاطمأن مالك ـ لمّا حلف خالد بالله ـ بكلام خالد ، ووضع هو وقومه السلاح ، وصار وقت الصلاة ، فوقف مالك وقومه


للصلاة ، فهجم عليهم خالد وجماعته وكتّفوا مالكا وقومه ثم قتلهم المجرم خالد عن آخرهم ، ثم طمع خالد في زوجة مالك (لما رآها جميلة) وزنى بها في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها ، ووضع رأس مالك وقومه أثافي (١) للقدر ، وطبخ طعام الزنا وأكل هو وجماعته!! ولمّا رجع خالد إلى المدينة أراد عمر أن يقتص منه لقتله المسلمين ويجري عليه الحدّ لزناه بزوجة مالك ، ولكنّ أبا بكر (المؤمن؟!) منع عن ذلك منعا شديدا ، وبعمله هذا أهدر دماء المسلمين وأسقط حدّا من حدود الله!

قال الملك (متوجها إلى الوزير):

هل صحيح ما ذكره العلوي في حقّ خالد وأبي بكر؟

قال الوزير :

نعم ، هكذا ذكر المؤرخون (٢).

____________________________________

(١) الأثافي : هو الحجر الذي يوضع عليه القدر.

(٢) قال عز الدين ابن الأثير الجزري (المتوفي سنة ٦٣٠ ه‍) :

مالك بن نويرة بن حمزة بن شدّاد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع التميمي اليربوعي ، أخو متمم بن نويرة.

قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلم واستعمله رسول الله على بعض صدقات بني تميم ، فلمّا توفى النبيّ وارتدت العرب ، وظهرت سجاح وادّعت النبوة ، صالحها إلّا أنه لم تظهر عنده ردة ، وأقام بالبطاح ، فلمّا فرغ خالد من بني أسد وغطفان ، سار إلى مالك وقدم البطاح ، فلم يجد به أحدا ، كان مالك قد فرّقهم ونهاهم عن الاجتماع ، فلمّا قدم خالد البطاح بث سراياه ، فأتي بمالك بن نويرة ونفر من قومه ،


فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة ، وكان فيمن شهد أنهم أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فحبسهم في ليلة باردة ، وأمر خالد فنادى : ادفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فقتلوهم ، فسمع خالد الواعية فخرج وقد قتلوا ، فتزوج خالد امرأته ، فقال عمر لأبي بكر : سيف خالد فيه رهق (١)! وأكثر عليه ، فقال أبو بكر : تأوّل فأخطأ ، ولا أشيم (٢) سيفا سلّه الله على المشركين ، وودى مالكا ، وقدم خالد على أبي بكر ، فقال له عمر : يا عدوّ الله ، قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته لأرجمنّك ...

ثم قال الجزري :

فهذا جميعه ذكره الطبري وغيره من الأئمة ، ويدل على أنه لم يرتد ، .. وقد اختلف في ردته ، وعمر يقول لخالد : «قتلت امرأ مسلما ، وأبو قتادة يشهد أنهم أذّنوا وصلوا ، وأبو بكر يردّ السبي ويعطي دية مالك من بيت المال ، فهذا جميعه يدل على أنه مسلم» (٣).

وقال الطبري : «.. وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال أن في سيفه رهقا فقال : لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.

وعن عثمان بن سويد قال : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرا وأن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلّا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره .. فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطّاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته وأقبل خالد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه

__________________

(١) الرّهق : جهل في الإنسان ، وخفّة في عقله ، ويقال به رهق : سريع الشر ، سريع الحدة. وذلة وسفها وطغيانا وظلما ، لسان العرب ج ١٠ / ١٣٠ مادة رهق.

(٢) شام السيف شيما : سلّمه وأغمده. لسان العرب مادة شيم.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٨ ترجمة مالك بن نويرة.


عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال : أرئاء قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك ..» (١).

لنا إيرادات على ما تقدّم :

١ ـ ما رواه الطبري من أن القدر نضج وما نضح رأس مالك من كثرة شعره ، أظنه مزحة لا يصدّقها عاقل ، إذ كيف تعمل النار بالقدر ولا تعمل برأسه من كثرة شعره ، وهل كان شعره من خشب الساج أو الأرز حيث لا تعمل به النار سريعا؟ إن عدم نضج رأسه بالنار إنما هو لإيمانه بالله تعالى ورسوله ووليّه ، حيث حرّم الله تعالى جسده ورأسه على النار ، ومن كان مع الله ، كان الله تعالى معه ، فأكرم مثواه ، وهذه شهادة من الله العزيز الحكيم لمالك بن نويرة بأنه كان مؤمنا تقيّا وليس مشركا كما ادّعى مبغضوه.

٢ ـ إذ لو كان ما قاله أبو بكر صحيحا من أن خالدا تأوّل فأخطأ بقتله مالك ، فلما ذا نزا على زوجة الشهيد مالك ، وهل أن خالدا تأوّل بها أيضا فأخطأ؟

ولو كان خطؤه مغفورا لما أكدّ عمر على الاقتصاص منه ، إذ لا يخفى أن من أخطأ في تشخيص حكم لا يقام عليه الحدّ ، لأن الخطأ شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، وعليه فإن ما فعله خالد بمالك وأصحابه وزناه بزوجته جريمة مع سابق الإصرار عليها ، وهو يستحق عليها القتل بلا إشكال في شريعة الإسلام ، ولكنّ السياسة ـ وما أدراك ما السياسة ـ لا تبقى ولا تذر شيئا من أحكام الدين.

٣ ـ هل من الإسلام في شيء من يجعل رأس مالك وأصحابه (الذين أذّنوا وأقاموا وصلّوا) أثافي للقدور؟ ما هذه القسوة والفظاظة والعنف والتزحزح عن طقوس الإسلام ، وإحراق رءوس أمّة مسلمة ، وجعلها أثفية للقدر؟ فويل للقاسية قلوبهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ، وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٥٧.


ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه ، وسوّلته نفسه ، وأضلّته شهوته ، وأسكره شبقه؟ فهتك حرمات الله ، وشوّه سمعة الإسلام المقدّس ، ونزى على زوجه مالك قتيل غيّه في ليلته ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ، ولم يكن قتل الرجل إلّا لذلك السفاح ، وكان أمرا مشهودا وسرّا غير مستسر ، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله لها : أقتلتني ، فقتل الرجل مظلوما غيرة ومحاماة على ناموسه ، وفي المتواتر من قتل دون أهله فهو شهيد.

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرّئ خالدا من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيه الأقدس ، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون ، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن؟ لاها الله. أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبيّ الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ أيجوز أن يحكم على أولئك الأطهار بالسبي والقتل الذريع والإغارة على ما يملكون ، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟

إن تسليط الخليفة المزعوم أبو بكر أمثال خالد وضرار بن الأزور شارب الخمور وصاحب الفجور على الأنفس والدماء ، وعلى الأعراض ، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردّة وقد نهت السنّة الشريفة عنه.

هل يرتاب أحد في أن سيفا سلّه المولى سبحانه لا يكون فيه قطّ رهق ولا شغب ، ولا تسفك به دماء محرّمة ، ولا تهتك به حرمات الله ، ولا يرهف لنيل الشهوات ، ولا ينضى للشبق ، ولا يفتك به ناموس الإسلام؟ فما خالد وما خطره حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفا سلّه الله على أعدائه ، وهو عدو الله بنص من الخليفة الثاني ، أليست هذه كلها تحكّما وسرفا في الكلام ، وزورا في القول ، واتخاذ الفضائل في دين الله مهزئة ومجهلة؟


وليست هذه بأوّل قارورة كسرت في الإسلام بيد خالد ، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول الله ، وتبرّأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صنيعه ، قال ابن إسحاق : بعث رسول الله فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عزوجل ، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممّن بعث خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ، ولم يبعثه مقاتلا ، ومعه قبائل من العرب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر ، فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.

قال : حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال : لمّا أمرنا خالد أن نضع السلاح ، قال رجل منّا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد ، والله ما بعد وضع السلاح إلّا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبدا ، قال : فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم! أتريد أن تسفك دمائنا إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس؟ فلم يزالوا به حتّى نزعوا سلاحه ، ووضع القوم السلاح لقول خالد ، فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتّفوا ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (١).

وقد كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن ابن عوف : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام (٢).

فهذا الرّهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهلية ، وهذه سيرته من أوّل يومه ، فأنّى لنا أن نعدّه سيفا من سيوف الله ، وقد تبرّأ منه نبي الإسلام غير مرة ، مستقبل القبلة شاهرا يديه ، وأبو بكر ينظر إليه من كثب.

__________________

(١) الاستيعاب ج ١ / ١٥٣ وفيه قال : هذا من صحيح الأثر.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٥٣ ، طبقات ابن سعد ، ط / مصر ، رقم التسلسل ٦٥٩.


قال الملك : فلما ذا يسمي بعض الناس خالدا ب «سيف الله المسلول»؟

قال العلوي :

إنّه سيف الشيطان المسلول ولكن حيث إنّه كان عدوا للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وكان مع عمر لمّا حرق باب دار «الصدّيقة» فاطمة الزهراء عليها‌السلام سمّاه بعض السنّة بسيف الله!

قال الملك :

وهل أهل السنّة أعداء عليّ بن أبي طالب؟

قال العلوي :

إذا لم يكونوا أعداءه فلما ذا مدحوا من غصب حقه والتفوا حول أعدائه وأنكروا فضائله ومناقبه حتى بلغ بهم الحقد والعداء إلى أن يقولوا : (إن أبا طالب مات كافرا) والحال أن أبا طالب كان مؤمنا وهو الذي نصر الإسلام في أشد ظروفه ودافع عن النبيّ في رسالته!

قال الملك : وهل أن أبا طالب أسلم؟

قال العلوي : لم يكن أبو طالب كافرا حتى يسلم ، بل كان مؤمنا يخفي إيمانه ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر أبو طالب الإسلام على يده ، فهو ثالث المسلمين : أولهم : الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والثاني : السيّدة خديجة الكبرى زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثالث : هو أبو طالب عليه‌السلام.


قال الملك للوزير :

هل صحيح كلام العلوي في حق أبي طالب؟

قال الوزير : نعم ذكر ذلك بعض المؤرخين (١).

____________________________________

(١) لقد شنّ المخالفون حملة عظيمة على سيّد البطحاء «أبي طالب» وزوجه الطاهرة فاطمة بنت أسد عليهما‌السلام، فنسبوا إليهما أنهما كانا مشركين ، بل إن أبا طالب مات على الكفر بعد المبعث ، كل ذلك لأنهما والدا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

ونحن سنتطرق إلى إيمانهما قبل البعثة وبعدها من خلال نقطتين :

الأولى : فيما يتعلق بإيمان السيّدة المطهّرة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام.

الثانية : فيما يتعلق بإيمان الصدّيق الوصي أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب عليهم‌السلام.

أما بيان النقطة الأولى :

إن السيّدة الصدّيقة المباركة مولاتنا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية والدة أمير المؤمنين عليّ وطالب وعقيل وجعفر.

قال الزهري : هي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وهي أيضا أول هاشمية ولدت خليفة ، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله ولدت الحسن عليه‌السلام (١).

ولها بنتان : الأولى : أم هانئ واسمها جعدة ، وقيل : فاختة (٢) وقيل : هند ، وهي التي صلّى رسول الله في بيتها يوم الفتح.

والثانية : قيل اسمها ريطة (٣) ، وقيل أسماء أخرى.

__________________

(١) أسد الغابة ج ٧ / ٢١٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٢ / ١٢١ وتذكرة الخواص ص ٢٢.

(٣) تذكرة الخواص ص ٢٢.


وكانت فاطمة عليها‌السلام قبل الإسلام تدين بدين الحنيفية الإبراهيمية ، كما كانت من أوائل المؤمنات برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي أول امرأة آمنت برسول الله قبل خديجة عليها‌السلام وذلك : لمّا جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ فقال لها أبو طالب : اصبري سبتا أبشرك بمثله إلّا النبوّة (١). فيدل على إيمانها بالنبيّ قبل ولادته ، نعم جددت إسلامها أو أكّدته بعد مبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كما كانت أول امرأة هاجرت إلى النبيّ من مكة إلى المدينة (٢) على قدميها ، وكانت من أبرّ الناس برسول الله (٣).

* قال ابن الجوزي الحنفي : وهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أسلمت وهاجرت إلى المدينة ، وتوفيت بها سنة أربع من الهجرة ، وشهد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم جنازتها ، وصلّى عليها ودعا لها ، ودفع لها قميصه فألبسها إياه عند تكفينها.

ثم قال : وقال الزهري : وكان رسول الله يزورها ويقيل عندها في بيتها وكانت صالحة.

ثم قال : عن ابن عباس : وفيها نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

قال : وهي أول امرأة هاجرت من مكة إلى المدينة ماشية حافية ، وهي أول امرأة بايعت محمّدا رسول الله بمكة بعد خديجة (٥).

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ ح ١.

(٢) تذكرة الخواص ص ١٠ وأصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.

(٤) سورة الممتحنة : ١٢.

(٥) تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي ص ٢٠.


* قال الزهري : سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : يحشر الناس يوم القيامة عراة ، فقالت : وا سوأتاه! ، فقال لها رسول الله : فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

قال : وسمعته يقول ـ أو يذكر ـ عذاب القبر ، فقالت : وا ضعفاه! فقال : إني أسأل الله أنّ يكفيك ذلك (١).

قال ابن الصباغ المالكي : أمّه (أي أم الإمام عليّ عليه‌السلام) ؛ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف تجتمع هي وأبو طالب في هاشم ، أسلمت وهاجرت مع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وكانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الأمّ من النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فلما ماتت كفّنها النبيّ بقميصه وأمر أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود فحفروا قبرها ، فلما بلغوا لحدها حفره رسول الله بيديه وأخرج ترابه ، فلما فرغ اضطجع فيه وقال : «الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، اللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيّك محمّد والأنبياء الذين من قبلي ، فإنك أرحم الراحمين». فقيل : يا رسول الله ، رأيناك وضعت شيئا (الأصح : صنعت) لم تكن وضعته (صنعته) بأحد قبلها؟

فقال صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليخفف عنها من ضغطة القبر ، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعا إليّ بعد أبي أبي طالب عليه‌السلام (٢).

قال الشيخ المفيد : وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت كالأم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكرا لبرّها ، وآمنت به في الأوّلين وهاجرت معه في جملة المهاجرين ، ولمّا قبضها الله تعالى إليه ، كفّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الفصول المهمة ص ٣١ ، وروى نحوه الحمويني في فرائد السمطين ج ١ / ٣٢٨ ح ٣٠٨.


بقميصه ليدرأ عنها هوام الأرض وتوسّد في قبرها لتأمن بذلك ضغطة القبر ، ولقّنها الإقرار بولاية ابنها أمير المؤمنين عليه‌السلام لتجيب به عند المسألة بعد الدفن ، فخصّها بهذا الفضل العظيم لمنزلتها من الله عزوجل ومنه عليه‌السلام ، والخبر بذلك مشهور (١).

* قال العلامة الأربلي : وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت من رسول الله بمنزلة الأمّ ، ربّته في حجرها ، وكانت من السابقات إلى الإيمان وهاجرت معه إلى المدينة ، وكفنها النبيّ بقميصه ... (٢).

وقال ابن الأثير الجزري :

«إن رسول الله كفّن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها ، وجزّاها خيرا ، وروي عن ابن عبّاس نحو هذا ، وزاد ، فقالوا : ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه؟ قال : «إنه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر» (٣).

وقال الكليني رضي الله عنه :

«سمعت ـ أي فاطمة ـ رسول الله يقول : إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت : وا سوأتاه ، فقال لها رسول الله ؛ فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

وسمعته يذكر ضغطة القبر ، فقالت ؛ وا ضعفاه ، فقال لها رسول الله : فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك ، وقالت لرسول الله يوما : إني أريد أن أعتق جاريتي هذه ، فقال لها : إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ... فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يبكي فقال له رسول الله ما يبكيك؟

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٨ الباب ١ من الفصل ١.

(٢) كشف الغمة ج ١ / ٨٢ باب المناقب.

(٣) أسد الغابة ج ٧ / ٢١٣.


فقال : ماتت أمي فاطمة ، فقال رسول الله : وأمي والله وقام مسرعا حتى دخل فنظر إليها وبكى ، ثم أمر النساء أن يغسّلنها وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا فرغتنّ فلا تحدثن شيئا حتى تعلمنني ، فلمّا فرغن أعلمنه بذلك ، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده وأمرهنّ أن يكفنها فيه وقال للمسلمين : إذا رأيتموني قد فعلت شيئا لم أفعله قبل ذلك فسلوني لم فعلته ، فلما فرغن من غسلها وكفنها ، دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل جنازتها على عاتقه ، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها ، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه ، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر ثم انكب عليها طويلا يناجيها ويقول لها :

ابنك ابنك ابنك ثم خرج ، وسوّى عليها ، ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول : لا إله إلا الله ، اللهم إني أستودعها إياك ، ثم انصرف ، فقال له المسلمون إنّا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم ، فقال : اليوم فقدت برّ أبي طالب ، إذ كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها وإني ذكرت القيامة وإن الناس يحشرون عراة ، فقالت : وا سوأتاه ، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية ، وذكرت ضغطة القبر فقالت : وا ضعفاه ، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك ، فكفنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك ، وانكببت عليها فلقنتها ما تسأل عنه .. وسئلت عن وليها وإمامها ، فارتج عليها ، فقلت : ابنك ..» (١).

ملاحظة :

«قوله في الخبر (ارتج عليها) غير صحيح بل هو من صنع الدساسين في الأخبار ، لأن هذا مخالف لمروياتنا الصحيحة أنها كانت على علم بوصيّها وإمامها وهو ابنها عليّ بن أبي طالب ، لا سيّما ما ورد من أن أبا طالب بشّرها بأنّها ستلد صبيا هو بمثابة رسول الله» (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٣.

(٢) نفس المصدر ج ١ / ٤٥٢ ح ١.


وفي خبر آخر قال لها : وتتعجبين من هذا أنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره (١).

وحديث الدار فيه دلالة قطعية على إمامة أمير المؤمنين في السنة الثالثة للبعثة حينما رفع النبيّ يد الإمام عليه‌السلام وقال : هذا أخي وحبيبي ووصيي عليكم فاسمعوا له وأطيعوا. إنها أمّ النبيّ حسبما عبّر عنها ذلك هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال لما ماتت : «جزاك الله من أمّ خيرا ، لقد كانت خير أم ، وكانت ربت النبيّ» (٢) كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبّر عليها أربعين تكبيرة (٣).

وروى صاحب مرآة العقول بإسناده عن أنس بن مالك قال : لمّا ماتت فاطمة بنت أسد دخل إليها رسول الله فجلس عند رأسها وقال :

رحمك الله يا أمي ، كنت أمي بعد أمي ، تجوعين وتشبعينني ، وتعرين وتكسينني ، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني ، تريدين بذلك وجه الله والآخرة (٤).

والسؤال المطروح :

هل صحيح ما يقوله أعداء آل البيت عليهم‌السلام أنها كانت كافرة قبل الإسلام «معاذ الله»؟

والجواب :

لم يثبت عندنا ـ نحن الإمامية ـ ذلك ، بل الثابت هو العكس لقرائن وشواهد كثيرة أهمها :

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٤٥٤ ح ٣.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٨ ، الإصابة ج ٤ / ٣٨٠ ؛ الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ص ٣٥٨ ؛ تذكرة الخواص ص ١٠ ؛ الفصول المهمة للمالكي ص ١٣ ، تاريخ الخميس ج ١ / ٤٦٨ ، وبحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٠ ، وأصول الكافي ج ١ / ٤٥٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٠.

(٤) مرآة العقول في شرح أخبار الرسول ج ٥ / ٢٧٨ ط / دار الكتب الإسلامية ، تهران.


١ ـ أنها كانت على دين الحنيفية ، بدليل أنها كانت زوجة أبي طالب عليه‌السلام وصي الأنبياء ، ومن كان هكذا يبعد في حقه أن يتزوج مشركة ، تماما كما كان آباء النبيّ وأجداده كانوا جميعهم موحدين وصدّيقين (١).

٢ ـ أنها لمّا ولد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استبشرت بمولده ، مما يدل على أنها كانت من المنتظرين لمجيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى الكليني والصدوق والمجلسي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب عليه‌السلام تبشّره بمولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها أبو طالب : اصبري سبتا آتيك بمثله إلّا النبوة. وقال : السبت ثلاثون سنة ، وكان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة (٢).

٣ ـ ما ورد بالمستفيض من مناجاتها مع الله عزوجل عند ما أتاها الطلق حول بيت الله وهي حامل بمولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فقالت : «أي ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت ، وبحق المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي ..».

وهنا أتبرك بما ورد عنها عليها‌السلام رزقني الله شفاعتها ، فأروي عن كشف الغمة عن بشائر المصطفى ، والبحار عن غيبة النعماني ومعاني الأخبار وعلل الشرائع ، عن سعيد بن جبير قال :

قال يزيد بن قعنب : كنت جالسا مع العبّاس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وكانت حاملة به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي ابراهيم الخليل ... إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي.

__________________

(١) راجع كتابنا : الفوائد البهية ج ١ / ٤٧٥ ط ثانية.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ ، بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٧ ح ١ عن معاني الأخبار.


قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ عن ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله والتزق الحائط فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزوجل ، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ثم قالت : إني فضّلت على من تقدّمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزوجل سرا في موضع لا يحب الله أن يعبد فيه إلا اضطرارا ، وأن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا ، وأني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة ، سمّيه عليّا ، فهو عليّ والله العليّ الأعلى ، يقول إني شققت اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسّر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي ويقدّسني ويمجدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه.

قالت : فولدت عليّا ولرسول الله ثلاثون سنة ، وأحبّه رسول الله حبا شديدا وقال لها : اجعلي مهده بقرب فراشي ، وكان يلي أكثر تربيته ، وكان يطهّر عليّا في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي ، وكان رسول الله يحمله دائما ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها صلّى الله على الحامل والمحمول» (١).

وهل يفتح الله تعالى جدار الكعبة ـ مع أن للكعبة بابا يمكن الدخول والخروج منه ـ لكافرة ـ حاشاها ـ؟

وهل أن الله تعالى يعجزه أن يضع نطفة عليّ المرتضى خليفة الله وخليفة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٩ عن كشف اليقين وكشف الحق وبشائر المصطفى ، وكشف الغمة ج ١ / ٨٢ ، والمناقب ج ٢ / ١٧٤ بلفظ آخر.


رسوله في رحم طاهرة؟ معاذ الله إنه ربها أحسن مثواها إنه على كل شيء قدير.

(٤) إن إبا طالب عليه‌السلام دعا وزوجته فاطمة ربّهما في أن يلهمهما في اسم وليدهما الذي سوف يولد ، حينما كانت تسميه وهو في بطنها باسم أبيها «أسد» فلم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال : هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلا ، وندعوا خالق الخضراء ، فلعله أن ينبئنا في اسمه ، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ، ودعيا الله تعالى ، فأنشأ أبو طالب شعرا :

يا رب هذا الغسق الدجي

والفلق المبتلج المضي

بيّن لنا عن أمرك المقضي

لما نسمي ذلك الصبي

فإذا خشخشة من السماء ، فرفع أبو طالب طرفه ، فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتا يديه وضمّه إلى صدره ضما شديدا ، فإذا مكتوب :

خصصتما بالولد الزكيّ

والطاهر المنتجب الرضي

وسامه من قاهر العليّ

عليّ اشتق اسمه من العليّ

فسر أبو طالب عليه‌السلام سرورا عظيما ، وخرّ ساجدا لله تعالى وعقّ بعشرة من الإبل وكان اللوح معلّقا في البيت الحرام يفتخر به بنو هاشم على قريش حتى غاب زمان قتال الحجاج ابن الزبير (١).

وليس صحيحا ما روي في خبر ضعيف : أن فاطمة سمّت ابنها باسم أبيها (٢) بعد خروجها من الكعبة ، فإن ذلك يعتبر تحريفا لمضامين الأخبار المتضافرة التي دلت على أن الله تعالى أمرها وهي في الكعبة أن تسميه عليا ، فالأولى طرح ذاك

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٢٥٥ وكفاية الطالب / الكنجي الشافعي ص ٢٦٠.

(٢) اسم أبيها «أسد» وحيدر من أسماء الأسد ، والإمام علي عليه‌السلام كان يقول فيما نسب إليه في وقعة خيبر :

«أنا الذي سمتني أمي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

أكيلكم بالسيف كيل السندره»


الخبر بتقديم ما أشرنا إليه ، أو أننا نجمع بين الأخبار المتعارضة بحمل ذاك الخبر على أنها سمته باسم أبيها قبل أن تلد الإمام عليه‌السلام ، ثم لمّا دخلت الكعبة سماه الله عليّا ، أو أن أبا طالب بعد ولادة زوجته جاءه التأكيد مرة أخرى من الله على تسميته بعليّ. أو يكون «حيدر» من ألقابه الشريفة ، فكانت أمه تناديه بحيدر لما عرفت منه القوة والشجاعة والبطولة والحمية ، وهل هناك مثل أمير المؤمنين عليّ إلّا رسول الله محمّد؟ صلّى الله على محمّد وعليّ وآلهما.

(٥) كشف المعصوم عليه‌السلام عن طهارة آباء الإمام الحسين عليه‌السلام وأجداده ومنهم فاطمة بنت أسد ، بقوله عليه‌السلام :

«يا مولاي يا أبا عبد الله أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها ..» (١).

إن التقلّب في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة يستلزم أن تكون ـ أي هذه الأرحام والأصلاب ـ مؤمنة بالله تعالى لا مشركة ، قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢).

ومعناها : تقلّبك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا (٣). وكذا أئمة آل البيتعليهم‌السلام تقلبوا في الأصلاب والأرحام المطهّرة عن السفاح والكفر والفسق والفجور وما شابه ذلك.

(٦) دلت السيرة العقلائية القريبة من عصر النص ، على طهارتها قبل الإسلام ، لذا مدحها الشعراء والأدباء بقصائدهم للتدليل على علو شأنها ، وممن أنشد الشاعر الكبير «الحميري» في قصيدة قال فيها :

__________________

(١) رواها الشيخ الطوسي في «المصباح» وكذا ابن قولويه في كتاب «المزار».

(٢) سورة الشعراء : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) تفسير مجمع البيان ج ٧ / ٢٠٧ ، وتفسير القمي ج ٢ / ٢٥ ، والفوائد البهية ج ١ / ٤٧٦.


ولدته في حرم الله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها

وبدت مع القمر المنير الأسعد

ما لفّ في خرق القوابل مثله

إلا ابن آمنة النبيّ محمّد (١)

وأما النقطة الثانية :

لا ريب أن أبا طالب عليه‌السلام كان مؤمنا قبل البعثة وبعدها ، وهذا ما أجمع عليه شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، بل يظهر من الأخبار أنه كان من الأوصياء حسبما ورد في بعضها عن الإمام السبط الحسين بن عليّ عن والده أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «... والذي بعث محمّدا بالحق أن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار : نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة ، ألا إن نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(٢).

وجلّ الأدلة التي سيقت على إيمان زوجه فاطمة بنت أسد ، هي بنفسها حجة على إيمانه ، «وقد ألف في إثبات إيمانه الكثير من السنّة والشيعة ، وقد أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كتابا ، ومنها كتاب : أبو طالب مؤمن قريش للأستاذ عبد الله الخنيزي ، الذي كاد أن يدفع حياته ثمنا لهذا الكتاب ، حيث حاول الوهابيون في السعودية تنفيذ حكم الإعدام فيه ، بسبب كتابه هذا.

وقد نقل العلّامة الأميني أسماء الكتب في إثبات ذلك ، كالبرزنجي في أسنى المطالب ، والأجهوري والإسكافي ، وأبي القاسم البلخي ، وابن وحشي في شرحه لكتاب : شهاب الأخبار ، والتلمساني في حاشية الشفاء ، والشعراني وسبط ابن الجوزي ، والقرطبي والسبكي ، وأبي طاهر ، والسيوطي وغيرهم.

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ٢ / ١٧٤.

(٢) الغدير ج ٧ / ٣٨٧ وبحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ حديث ٣٩.


«بل حكم جماعة منهم كأحمد بن الحسين الموصلي الحنفي المشهور بابن وحشي في شرحه على الكتاب المسمى بشهاب الأخبار للعلّامة القضاعي المتوفى ٤٤٥ ه‍ : إن بغض أبي طالب كفر ، ونص على ذلك أيضا من المالكية العلّامة الأجهوري في فتاويه ، والتلمساني في حاشيته على الشفاء قال : لا ينبغي أن يذكر إلّا بحماية النبيّ لأنه حماه ونصره بقوله وفعله ، وفي ذكره بمكروه أذية للنبيّ ، ومؤذي النبيّ كافر ، والكافر يقتل ، وقال أبو طاهر : من أبغض أبا طالب فهو كافر» (١).

ومن الأدلة على إيمان أبي طالب ما يلي :

١ ـ ما ورد من المديح على لسان المعصومين عليهم‌السلام دلالة عظمى على جلالة خطره وعظم أمره وعلو شأنه ، وأهل البيت عليهم‌السلام أدرى بأجدادهم من كل أحد ، من هذه الأخبار ما رواه المجلسي بإسناده عن الكراجكي بسند معنعن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنه كان جالسا في الرحبة والناس حوله ، فقام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك معذّب في النار ، فقال : مه فضّ الله فاك ، والذي بعث محمّدا بالحق نبيّا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله فيهم ، أبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟ والذي بعث محمّدا بالحق إن نور أبي طالب ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار : نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة ، ألا إن نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(٢).

وعن الكراجكي بإسناده إلى أبان بن محمّد قال :

كتبت إلى الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب قال : فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن يبتغ عير سبيل المؤمنين

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ٣٨١.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ ح ٣٩.


نولّه ما تولّى» إما إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار (١).

* وعن محمد ابن عليّ بن بابويه مثله (٢).

ملاحظة :

إن الحكم بالمصير إلى النار لأجل الشك بإيمان أبي طالب عليه‌السلام دلالة كبرى على أن الاعتقاد بإيمانه هو من صلب العقيدة ، ولو لم يكن على درجة عالية من الإيمان واليقين بل والعصمة لما كان الشك بإيمانه موجبا لدخول النار ، وهل الشك بإيمان رجل عادي موجب للدخول في النار؟!

* وعن ليث المرادي قال :

قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : سيدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام : كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (٣).

إلى غيرها من الأخبار الكثيرة بفضله ، ويكفي أن الله تعالى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج من مكة لما مات أبو طالب ، فليس بعده ناصر (٤).

٢ ـ الأخبار الدالة على أنه كان من المنتظرين لولادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنه الوصي عليّ لمّا جاءت فاطمة بنت أسد تبشّره ، فقال لها : اصبري سبتا يأتيك مثله ، وقد تقدّم الحديث (٥).

وما ورد في روضة الكافي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان حيث

__________________

(١) نفس المصدر ج ٣٥ / ١١٠ ح ٤٠.

(٢) نفس المصدر ح ٤١.

(٣) نفس المصدر ج ٣٥ / ١١٢ ح ٤٤.

(٤) نفس المصدر ح ٤٣.

(٥) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.


طلقت آمنة بنت وهب ، وأخذها المخاض بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب ، فلم تزل معها حتى وضعت ، فقالت إحداهما للأخرى : هل ترين ما أرى؟ فقالت : وما ترين؟

قالت : هذا النور قد سطع ما بين المشرق والمغرب ، فبينما هما كذلك ، إذ دخل عليهما أبو طالب ، فقال لهما : ما لكما؟ من أي شيء تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت ، فقال لها أبو طالب : ألا أبشّرك؟ فقالت : بلى ، فقال : إما أنك ستلدين غلاما يكون وصي هذا المولود (١).

وهذان الحديثان يدلان على أن أبا طالب عليه‌السلام كان وصيّا من أوصياء الأنبياء ، ويؤكد ما قلنا ما رواه الصدوق : «من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه» (٢). ولما رواه الكليني : إن أبا طالب كان مستودعا للوصايا فدفعها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

٣ ـ لو كان أبو طالب كافرا لكان شنّع معاوية وحزبه والزبيريون وأعوانهم على الإمام عليّ المرتضى عليه‌السلام مع أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يذمهم ويزري عليهم بكفر الآباء والأمهات ورذالة النسب.

٤ ـ ورد في نصوص عدة أن أبا طالب أمر ولده جعفرا أن يصل جناح ابن عمه رسول الله محمّد في الصلاة ، كما أمر حمزة بالثبات على الدين ، هذا مضافا إلى أنه أظهر سروره بالنبيّ عند ما جهر بدعوته ، فكان المدافع القوي عن ابن أخيه النبيّ محمّد والمحامي الوحيد له من المشركين ، كما أنه أطاع النبيّ عند ما أمر أعمامه باتباع مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يوم الدار في السنة الثالثة للبعثة.

٥ ـ لو كان أبو طالب كافرا لما أمر ابنه المؤمن ـ بل الإيمان متجسد به ـ

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢٥٠ رقم الحديث ٤٦٠.

(٢) اعتقادات الصدوق ص ١١٠ وبحار الأنوار ج ١٥ / ١١٧.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٤٥ ، وبحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٣ ح ٨.


بتولية أمره ، ولكان الكافر حينئذ أحقّ به ، مع أن الخبر قد ورد مستفيضا بأن جبرائيل قال لرسول الله عند موت أبي طالب : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : اخرج من مكة فقد مات ناصرك(١) ، وهذا يبرهن عن إيمانه لتحققه بنصرة رسول الله.

٦ ـ ترحم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه عند ما مات ، واستغفاره له باستمرار ، وجزعه عليه ، وواضح أنه لا يصح الترحم ولا الاستغفار للمشركين ، من هنا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسفانة بنت حاتم الطائي : «لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه» (٢).

هذا مضافا إلى مرثيات أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بأبيه لدلالة على إيمانه ، منها ما ورد :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظلم

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ

فصلّى عليك وليّ النعم

ولقّاك ربك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم (٣)

فلو كان كافرا ما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يرثيه بعد موته ، ويدعو له بالرضوان من الله تعالى.

٧ ـ لو كان كافرا لما أبقاه مع زوجه فاطمة بنت أسد مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرّق بين ربائبه وأزواجهن عتبة وعتيبة على ما تقدم. ورد متواترا أن الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟

فقال : نعم ، فقيل له : إن هاهنا قوما يزعمون أنه كافر ، فقال : وا عجباه! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله؟ وقد نهاه الله أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن ، ولا يشك أحد أن بنت أسد من المؤمنات السابقات ، وأنها لم

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢٨١ رقم ٥٣٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٠٥.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٤.


تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه (١).

٨ ـ الأشعار الصادرة عن عبد مناف بن عبد المطلب «أبو طالب» تدل على إيمانه بالله تعالى وبرسوله. ومن شعره في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطمئنا إياه من أنه لا يسلمه للأعداء ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال :

خليليّ ما أذني لأوّل عاذل

بصغواء في حق ولا عند باطل

ولمّا رأيت القوم لا ودّ فيهم

وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنّة

يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة

وأبيض عضب من تراث المقاول

أعوذ برب الناس من كل طاعن

علينا بسوء أو ملحّ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة

ومن ملحق في الدين ما لم نحاول

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه

وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حقّ البيت من بطن مكة

وبالله إنّ الله ليس بغافل

وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه

إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

كذبتم وبيت الله نترك مكة

ونضعن إلّا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وينهض قوم بالحديد إليكم

نهوض الرّوايا تحت ذات الصلاصل

وحتى نرى ذا الضّغن يركب ردعه

من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنّا لعمر الله إن جدّ ما أرى

لنلتبسن أسيافنا بالأماثل

بكفّي فتى مثل الشهاب سميدع

أخي ثقة حامي الحقيقة باسل

شهورا وأياما وحولا مجرّما

علينا وتأتي حجّة بعد قابل

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٤ حديث ٥٢.


وما ترك قوم ـ لا أبا لك ـ سيّدا

يحوط الذّمار غير ذرب مواكل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في رحمة وفواضل

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدّلوا

بني خلف قيضا بنا والغياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم

وآل قصيّ في الخطوب الأوائل

وسهم ومخزوم تمالوا وألّبوا

علينا العدا من كلّ طمل وخامل

فعبد مناف أنتم خير قومكم

فلا تشركوا في أمركم كلّ واغل

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذّب

لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل؟

أشمّ من السّمّ البهاليل ينتمي

إلى حسب في حومة المجد فاضل

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد

وأحببته حبّ الحبيب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها

وزينا لمن والاه ربّ المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة

تقصّر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته

ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيّده ربّ العباد بنصره

وأظهر دينا حقّه غير باطل (١)

وأنشد مرة مطيّبا قلب ابن أخيه واعدا له بالنصر :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

فلقد صدقت وكنت أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه

من خير أديان البريّة دينا

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ٣٣٨ نقلا عن ابن هشام في السيرة ج ١ / ٢٨٦ وقال ابن أبي الحديد في شرحه ج ٢ / ٣١٥ بعد ذكر جملة من شعر أبي طالب : فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر. وقال ابن كثير في تاريخه ج ٣ / ٥٧ : هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلّا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلّقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعا ، راجع الغدير ج ٧ / ٣٤٠.


لو لا المخافة أن يكون معرة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا (١)

ولمّا جمع أبو طالب بني هاشم وبني عبد المطلب في شعبه وكانوا أربعين رجلا ، فحلف أبو طالب لئن شاكت محمّدا شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار ، وفي ذلك يقول :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

وأن الذي علّقتم من كتابكم

يكون لك يوما كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى

ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (٢)

هذه جملة من شعر أبي طالب عليه‌السلام الطافح من كلّ شطره الإيمان الخالص ، والإسلام الصحيح. قال العلّامة ابن شهرآشوب المازندراني في كتابه متشابهات القرآن عند قوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) في سورة الحج : إن أشعار أبي طالب الدالة على إيمانه تزيد على ثلاثة آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبيّ ويصحّح نبوته.

والعجب كيف لا تكون كثرة أشعاره دليلا ـ عند المعاندين ـ على إيمانه وإسلامه؟ ولو وجد واحد منها في شعر أي واحد من كبرائهم وساداتهم أو نثره لأصفق الكلّ على إسلامه ، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب بنظر المعاندين.

ولا عجب من هذا أن القوم زمّروا لإسلام أبوي أبي بكر دون أبوي رسول الله والإمام عليّ ، وذلك بعد أن عجزوا عن الوقيعة في الولد فوجّهوها إلى والديه ، مع أن سيرته لو اتصف بشطر منها أبو قحافة لعلّقوها على الأعواد تتلى على الناس سرا وجهرا ، ولكنّه أبو طالب سيّد البطحاء وكفيل صاحب الرسالة ، ودرعه من كل سوء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٨٧.

(٢) نفس المصدر ص ٩٢.


وعادية ، حيث أبى الباطل إلا أن يكون ضدا للحق والحقيقة.

٩ ـ تواتر عنه عليه‌السلام أنه استسقى بالنبيّ يوم أصاب مكة قحط ، أخرج ابن عساكر في تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا أبا طالب! أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلمّ واستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بإصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هنا وهناك وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي ، ففي ذلك قال أبو طالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزّان صدق وزنه غير هائل (١)

مضافا إلى سروره عند ولادة ابنه الإمام علي وما فعله على جبل أبي قبيس.

١٠ ـ ما قاله النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معظّما ومبجّلا لأبي طالب بقوله : «يا عم كفّلت يتيما وربّيت صغيرا ونصرت كبيرا ، فجزاك الله عني خيرا ، ثم أمر عليّا بغسله».

ويروى أن أبا طالب عليه‌السلام قال لرسول الله : أتفقه الحبشة؟ قال : يا عمّ إن الله علّمني جميع الكلام ، قال : «يا محمّد اسدن لمصافا قاطالاها» يعني اشهد مخلصا : إن لا إله إلا الله ، فبكى رسول الله وقال : إن الله أقرّ عيني بأبي طالب (٢).

__________________

(١) شرح البخاري للقسطلاني ج ٢ / ٢٢٧ والمواهب اللدنية ج ١ / ٤٨ ، الخصائص الكبرى ج ١ / ٨٦ ، ١٢٤ ، شرح بهجة المحافل ج ١ / ١١٩ ، السيرة الحلبية ج ١ / ١٢٥ السيرة النبوية / زيني دحلان هامش الحلبية ج ١ / ٨٧ ، طلبة الطالب ص ٤٢ ، الشهرستاني في الملل والنحل ، الفصل ٣ / ٢٢٥ والغدير ج ٧ / ٣٤٦.

(٢) البحار ج ٣٥ / ٧٨ نقلا عن المناقب لابن شهرآشوب.


والحزن الذي صدر من النبيّ عند ما توفى أبو طالب ، حتى أنه سمّى ذاك العام بعام الحزن حبا له ولخديجة ، لدلالة مهمة على أهمية أبي طالب كركن من أركان الرسالة يوم ذاك.

الشبهات الواهية :

قد استدل القائلون بكفر أبي طالب ـ وحاشاه أن يكون كذلك ـ بشبهات واهية ، نذكر أهمها ، وهي :

الشبهة الأولى :

ما رواه هؤلاء عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر عنده عمه ، فقال : «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه».

وفي لفظ آخر من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الحارث قال : حدّثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال : قلت للنبيّ : ما أغنيت عن عمّك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال : «هو» في ضحضاح من نار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل (١).

يورد عليه :

أ ـ حديث الضحضاح متهافت ، فرواية تقول إنه في ضحضاح من نار بالفعل ، وأخرى تنص على أنه سيكون في ضحضاح يوم القيامة ، وهذا التعارض والتهافت يوجب سقوط روايات الضحضاح عن الاعتبار.

هذا مضافا إلى المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري والمغيرة بن شعبة وأمثالهما من روايات أهل الضلال وموضوعات بني أمية.

__________________

(١) صحيح البخاري / أبواب المناقب ـ باب قصة أبي طالب. صحيح مسلم ج ٩ / ٩٢ : كتاب الإيمان / باب كنية المشرك. طبقات ابن سعد ج ١ / ١٠٦ ط / مصر ، مسند أحمد ج ١ / ٢٠٧ ، تاريخ ابن كثير ج ٣ / ١٢٥.


ب ـ أفاد حديث الضحضاح أن الشفاعة قد تنفع أبا طالب يوم المعاد ، مع أن المشرك لا تناله الشفاعة ، ولو سلّمنا أنه مات مشركا ، فكيف يرجو النبيّ أن يتشفع لعمّه يوم القيامة والشفاعة رحمة وقد نهاه عزوجل أن يترحم على مشرك؟.

قد يقال :

إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من أبي طالب عليه‌السلام النطق بالشهادتين حتى تناله الشفاعة يوم الآخر ، كما هو مفاد بعض الأخبار (١) : «من أن النبيّ طلب منه النطق بهما ليستحل له بها الشفاعة» فلم يعطه إياها.

قلنا : إن الشفاعة لا تحل لمشرك ، فلما ذا حلّت لهذا المشرك بالذات ، ولو فرضنا أن أبا طالب مات على غير الإسلام ، فلا مجال لقول النبيّ «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة» وذلك لأن الشرك ينفي حكم الشفاعة ، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم ، وهنا هكذا ، فحيث إنّ الشفاعة حكم يدور مدار وجود المسلم ، فالحكم معلّق بموضوعه وهو هنا المسلم ، فلا شفاعة حينئذ لكافر.

ولو مات كافرا ـ حسبما يدّعون ـ كيف تناله الشفاعة يوم القيامة ، فلمّا دل الخبر على الشفاعة له ، استلزم ذلك أنه مات مؤمنا.

ج ـ إن عدم نطق أبي طالب بالشهادتين ، ليس دليلا على كفره ، لأن التشهد طريق لإظهار الإيمان والإسلام ، وقد يكون أبو طالب مأمورا بذلك لحكم منها دفاعه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا قال : «ما تجرأ عليّ المشركون إلّا بعد موت أبي طالب». هذا مضافا إلى أن التشهد يكون مسبوقا دائما بحالة عدم الإيمان لا سيّما في بداية البعثة ، أما بعدها أو في وسطها ، فالتشهد حينئذ يعتبر تأكيدا لحالة الإسلام واعترافا بفضله أمام الناس.

__________________

(١) الغدير ج ٨ / ٢٤.


د ـ من كان قادرا على إخراج أبي طالب من الدرك الأسفل إلى الضحضاح ، هو قادر على إخراجه أيضا من الضحضاح ، وإخراجه من الدرك الأسفل يعتبر شفاعة ، فلما لا يكمل لعمّه هذه الشفاعة فيخرجه من أصل الجحيم؟

الشبهة الثانية :

ما رواه البخاري ومسلم عن ابن المسيب عن أبيه قال : حضرت أبا طالب الوفاة ، أتى إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النبيّ : يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فالتفت أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا : أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟ وكرّر النبيّ قوله ، إلّا أن أبا جهل وعبد الله منعاه من ذلك ، وكان آخر ما قاله أبو طالب : على دين عبد المطلب ، وامتنع عن قول : لا إله إلا الله ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١).

وأنزل الله في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٢).

والجواب :

إن المسيب الناقل للرواية متهم ببغض الإمام عليّ عليه‌السلام كما نصّ عليه البعض (٣) ، فالرواية مضافا إلى ذلك من المراسيل ، ولا حجيّة فيها ، فهي من دسائس بني أمية.

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٣.

(٢) سورة القصص : ٥٦ ، والرواية أخرجها البخاري في الصحيح من كتاب التفسير في القصص ج ٧ / ١٨٤.

(٣) الغارات للثقفي ج ٢ / ٥٦٩.


إن الآية ١١٣ من سورة التوبة نزلت على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة على ما هو المشهور بين المحدثين والمفسرين ، بل إن بعض (١) المفسرين يرى أنها نزلت آخر ما نزلت من القرآن ، مع أن مشهور (٢) المؤرخين ينص على أن وفاة أبي طالب كان في السنة العاشرة للبعثة.

قال ابن إسحاق :

«إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله المصائب بهلك خديجة ، وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ، وبهلك عمّه أبي طالب ، وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا» (٣).

٣ ـ إن الله تعالى نهى المسلمين عن مودة الكفار في آيات عدة نزلت قبل سورة التوبة وقبل موت أبي طالب كما في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (٤). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٥).

ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق المودة والمحبّة للكافر ، وقد نهى الله عن مودتهم في الآيات المتقدّمة وغيرها ، فكيف يمكن ـ والحال هذه ـ أن

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ / ٦٧ في آخر سورة النساء ، الكشاف ج ٢ / ٤٩ وتفسير القرطبي ، والاتقان ، وتفسير الشوكاني.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٩٠ ، سيرة ابن هشام ج ٢ / ٥٧.

(٣) سيرة ابن هشام ج ٢ / ٥٧ ، والكامل في التاريخ ج ٢ / ٩٠.

(٤) سورة المجادلة : ٢٢ قال في الاتقان ج ١ / ١١ انّها نزلت قبل التوبة بسبع سور.

(٥) سورة النساء : ١٤٤.


يرحل أبو طالب من الدنيا ، ويقسم النبيّ بأنه سيستغفر له حتى ينهاه الله تعالى عن ذلك؟

إن إلقاء نظرة على أسباب نزول الآية ١١٣ من سورة التوبة ، يدفع ما ظنه العامة بشأن طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاستغفار للمشركين ، فقد ورد في أسباب نزولها : أن جماعة من المسلمين كانوا يقولون للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت الآية ونظيرها تنذرهم بأن لا حق لأحد أن يستغفر للمشركين حتى لو كان المستغفر هو رسول الله.

الشهبة الثالثة :

استدل المنكرون (١) لإيمان أبي طالب عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢).

بدعوى أن هناك فريقا من المكّيين المدافعين عن رسول الله ، ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه.

وبعبارة أخرى : إن الآية المباركة ـ بنظر هؤلاء ـ نزلت بأبي طالب الذي كان ينهى الناس عن أذى الرسول ، وينأى عن أن يدخل في الإسلام.

يورد عليه :

١ ـ إن هذه الآية ليست صريحة في المدّعى ، بمعنى أنها ليست نصا قطعيا للدلالة على دعواهم هذه ، بل هي مجملة من حيث التطبيق على سيّد البطحاء أبي طالب ، فلا بدّ من الرجوع ـ في حال وجود إجمال في آية ما ـ إلى النصوص التي توضّح المراد ، وقد دلت ـ أي النصوص الصحيحة ـ على عكس ما يدّعون ، فقد ذكر الطبرسي عن ابن عبّاس ومحمّد ابن الحنفية والحسن والسدي وقتادة ومجاهد

__________________

(١) أمثال العسقلاني في الإصابة ج ٤ / ١١٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ١٢٧ وتفسير الخازن ج ٢ / ١١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ / ٣٤٠.

(٢) سورة الأنعام : ٢٦.


والجبائي : من أن المراد بالآية هم الكفار كانوا ينهون الناس عن إتباع النبيّ ويتباعدون عنه فرارا منه(١). بل إن الروايات التي فسّرت الآية بأبي طالب مروية بواسطة عطاء ومقاتل (٢) ، وهذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها وما تأخر عنها معطوف عليها ، وكلها في ذم الكفار المعاندين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوله تعالى في الآية المتقدمة على الآية موضع البحث (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣) ، وكذا الآية المتأخرة عن الآية ٢٦ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) لا ينطبق شيء من أوصافها على سيّدنا أبي طالبعليه‌السلام الذي لم يعهد أو يعرف منه إلّا التشجيع على اتّباع النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنصرة له باليد واللسان ، فكان كثير الطلب من غيره ممن تربطه به علاقة حميمة أو نسبية أن يدخل في هذا الدين ، وأن يتمسك به ويصبر عليه ، والأخبار بهذا الصدد كثيرة يشهد له بها العامة والخاصة.

٢ ـ إن قوله تعالى في سورة القصص : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) نزلت في أبي طالب بعد وفاته فيما زعموه عن الصحيحين ، وهذا لا يتم مع قوله تعالى : (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ) النازلة في أناس أحياء ـ أي في أبي طالب ـ فإن سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوث عنها نزلت جملة واحدة بعد سورة القصص بخمس سور (كما في الاتقان ج ١ / ١٧) فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى ، وقد توفي قبل نزول الآية ببرهة طويلة (٥).

وبعبارة أخرى :

إن الآية ٢٦ من سورة الأنعام ، والآية ٥٦ من القصص نزلتا ـ بحسب زعم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٤ / ٢٢ ، والغدير ج ٨ / ٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سورة الأنعام : ٢٥.

(٤) سورة الأنعام : ٢٧.

(٥) الغدير ج ٨ / ٥ ـ ٦ بتصرف في بعض ألفاظه.


بعض العامة ـ بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام ، مع أن الآية ٥٦ / القصص نزلت قبل الأنعام ـ التي نزلت جملة واحدة ـ بخمس سور ، وهذا دليل على أن سورة الأنعام قد نزلت بعد وفاة أبي طالب بمدة ، فكيف يدّعى إذن أنها نزلت حين وفاته عليه‌السلام؟

ومما يؤكد أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة ما رواه ثلة من المفسرين (١) من أن أسماء بنت يزيد كانت ممسكة بزمام ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بعد بيعة العقبة ، التي كانت بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام بمدة طويلة.

٣ ـ كيف ينهى أبو طالب عليه‌السلام عن رسول الله وقد كان معتقدا به مذ كان ابن أخيه صغيرا ، ففي أخبارنا أن أبا طالب كان من المنتظرين مجيء النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي أخبار العامة ، كان يعلم بنبوة النبيّ بواسطة الراهب بحيرا ونصيحته لأبي طالب بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا مضافا إلى ما أورده الطرفان ـ الخاصة والعامة ـ من أن أبا طالب عليه‌السلام كان يستسقي برسول الله عند ما تجدب سماء مكة بمطرها.

٤ ـ أن ما استدل به المنكرون لإيمانه بالآية المتقدّمة ، مخالف لسيرة سيّدنا أبي طالبعليه‌السلام المدافع عن رسالة الإسلام ، ويكفي ما فعله مؤمن قريش ـ سيد العرب والعجم آنذاك ـ من النصرة والتأييد لرسول الله عند ما حاصر المشركون ابن أخيه حصارا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، وظل في تلك الفترة فيها المحامي والناصر والمعين ، ترك فيها كلّ أعماله وسلك ببني هاشم إلى واد بين جبال مكة يعرف بشعب أبي طالب حيث بنى الأبراج الخاصة في الشعب للوقوف بوجه أيّ هجوم قد تشنه قريش عليهم ، وكان في كل ليلة يوقظ رسول الله من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر بعده ، ويجعل ابنه الحبيب إليه أمير المؤمنين عليّ روحي فداه في مكانه ، ألا يدل هذا على أنه كان مؤمنا بالنبيّ ورسالته؟!

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ / ٢ ، عن الطبراني ، وابن مردويه وقد ذكر فيه نزولها جملة واحدة في مكة أو باستثناء آية أو آيتين ليست الآية المذكورة واحدة منها. والاتقان ج ١ / ٣٧ ، السيرة الحلبية ج ١ / ٢٦٠.


لم يكن لأبي طالب ذنب سوى أنه أبو عليّ بن أبي طالب إمام المتقين وقائد الغر المحجّلين وقسيم الجنّة والنار ، وباب حطة الذي من دخله فهو مؤمن ومن لم يدخله فهو كافر.

وصاية أبي طالب عليه‌السلام

كان أبو طالب عليه‌السلام وصيّا من أوصياء الأنبياء ، ومعنى كونه وصيا أي أنه كان منبئا من قبل الله عزوجل حسبما استظهرناه من الأخبار ، وكذا كان أبوه عبد المطلب حيث كان منبئا في نفسه من الله تعالى ، لما روي من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه عليه‌السلام (١).

ومفهوم الحجة وإن كان يشمل كل ما يحتج به على الآخرين سواء كان معصوما أم لا ، إلّا أنه هنا يصرف إلى خصوص المعصوم بقرينة أن هناك وصيّا من بعده ، هذا مضافا إلى القرائن الخارجية الدالة على نبوتهما التسديدية ، لأن النبوة من «النبأ» أي الخبر ، فالمنبئ أي المخبر ، لذا قال الله تعالى للملائكة : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) أي اخبروني إن كنتم صادقين بدعواكم أنكم أحقّ بالأمر من آدم. ثم قال الله لآدم : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (٣) فالإنباء هو الإخبار ، ونبوة أبي طالب كنبوة أبيه من قبل هي النبوة التسديدية التوفيقية وهكذا أغلب أنبياء بني إسرائيل كانوا مسددين من قبل الباري عزوجل وأما الموحى إليهم بالتشريع فكانوا قليلين كالأنبياء أولي العزم وزد عليهم قليلا.

وبالجملة فإن نبوة عبد المطلب وابنه عبد مناف مما لا يجب أن يرتاب بها ذو مسكة ، ولهما بأمّ موسى أسوة وهي التي أوحى الله إليها (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ

__________________

(١) الاعتقادات للصدوق ص ١١٠ وبحار الأنوار ج ١٥ / ١١٧.

(٢) سورة البقرة : ٣١.

(٣) سورة البقرة : ٣٣.


أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

فقد عيّن الله لأمّ موسى الوظيفة العملية ، وهكذا بالنسبة إلى عبد المطلب وعبد مناف فقد أراد الله بحكمته أن يبرز فضلهما على سائر الناس في الفترة ما بين عيسى ونبيّنا محمّد عليه وآله السلام.

كما أن لهما أسوة بمريم عليها‌السلام ، وبالخضر عليه‌السلام الذي أفاض الله تعالى عليه العلم اللدني مع أنه ليس بنبيّ بل وليّ صالح على قول المشهور حسبما جاءت به الأخبار ، وعلى فرض كونه نبيّا ـ حسبما استفاده بعض لنون العظمة في قوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا (٢) ـ فلا يراد منها التشريعية في مقابل شريعة موسى عليه‌السلام ، بل هي نبوة تسديدية ، وعلى فرض سلّمنا بكونها تشريعية فلا تناهض تشريع موسى عليه‌السلام وذلك لأن النبيّ موسى مكلّف بالظاهر ، والخضر عليه‌السلام مكلّف بالباطن ، وكذا عبد المطلب وأبو طالب عليهما‌السلام طبق القذة بالقذة.

وهكذا حدّثنا التاريخ عن خالد بن سنان العبسي فقد ذكر المؤرخون :

[أنه كان في الفترة ـ أي ما بين النبيين الكريمين عيسى ومحمّد عليهما‌السلام ـ قيل : كان نبيا ، وكان من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون ، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرّقها ، وهو يقول : بدّا بدّا كل هدى مؤدّى (٣) ، لأدخلنّها وهي تلظّى ولأخرجنّ منها وثيابي تندى ، ثم أنها طفئت وهو في وسطها.

فلما حضرته الوفاة قال لأهله : إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمير يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره ، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع

__________________

(١) سورة القصص : ٧.

(٢) سورة الكهف : ٦٥ لاحظ تفسير الميزان للطباطبائي ج ١٣ / ٣٤٢.

(٣) في نسخة الأعلام للزركلي : يدا يدا كل هادي مورا إلى الله الأعلى ، لأدخلنّها وثيابي تندا.


ما هو كائن ، فلما مات ودفنوه رأوا ما قال ، فأرادوا نبشه ، فكره ذلك بعضهم قالوا : نخاف إن نبشناه أن تسبّنا العرب بأنّا نبشنا ميتا لنا فتركوه.

فقيل إنّ النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال فيه : ذلك نبيّ ضيّعه قومه ، وأتت ابنته النبيّ فآمنت به] (١).

وقد عبّرت النصوص المتضافرة عن أئمة آل البيت عليهم‌السلام بالرؤيا الصالحة بأنها جزء من سبعين جزء من النبوة ، ولا يراد منها النبوة التشريعية بل التسديد والإخبارات التكوينية.

فقد ورد عن رسول الله قال : الرؤيا الصالحة يبشّر بها المؤمن وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الرؤيا الصالحة بشرى من الله وهي جزء من أجزاء النبوة (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن رأي المؤمن رؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة ، ومنهم من يعطى على الثلاث.

وعنه عليه‌السلام : رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة.

وعن محمد بن كعب وعائشة : أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح (٤).

فإذا كان رؤيا المؤمن جزءا من أجزاء النبوة ، فليكن رؤيا عبد المطلب وأبي

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١ / ٣٧٦.

(٢) ميزان الحكمة / ري شهري ج ٣ / ١٠١١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مصدر كل هذه الأحاديث : ميزان الحكمة ج ٣ / ١٠١١.


طالب من هذا القبيل ولكن بمستوى أرقى مما هو عليه المؤمنون الصالحون ، وليس معنى صوابية رؤيا المؤمن أنه صار نبيّا مشرّعا بل رؤياه من قبيل التسديد والتوفيق ، وهكذا ورد عن عبد المطلب انه نبىء في المنام أن احفر طيبة ، قال : قلت : وما طيبة؟ قال : ثم ذهب ـ أي من أتاه في المنام ـ فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت ، فجاءني فقال : احفر برّة ، قال : قلت : وما برّة؟ ثم جاءه مرة ثالثة ، فقال له : احفر المضنونة ، قلت : وما المضنونة؟ ثم جاءه مرة رابعة ، فقال له : احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لا تندم ، قلت : وما زمزم؟ قال : تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم ، .. فلما بيّن له شأنها ودلّ على موضعها وعرف أنه قد صدق ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره ، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها ، وقد رأى الغراب ينقر هناك ، فلمّا بدا له الطويّ كبّر ، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا : إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك ، قال : ما أنا بفاعل ، هذا أمر خصصت به دونكم ، قالوا : فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم ، قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بمشارف الشام ، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف ، فلما أشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ ، ركب عبد المطلب راجعا إلى دياره ، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عين عذبة من ماء ، فكبّر وكبّر أصحابه وشربوا وملئوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش فقال : هلمّوا إلى الماء فقد سقانا الله ، ثم قالوا لعبد المطلب : والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا (١).

ويروى أن عبد المطّلب أوّل من تحنث بحراء ، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر (٢).

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ١٢ ـ ١٣ بتصرف.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ١٥.


ويروى له كرامات تدل على علو مقامه ، منها دعاؤه على جيش أبرهة لما جاء إلى مكة ليهدم الكعبة ، فقام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقال :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا فناكا

وقال أيضا :

لا همّ إنّ العبد يمنع

رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم غدرا محالك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرّزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.

ولمّا هجم جيش أبرهة ، ألقى الفيل نفسه إلى الأرض ، وكلما حاولوا إلى أن ينهضوه أبى ، ثم بعد ذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار ، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك» (١).

ورد عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (٢).

وعنه أيضا قال عليه‌السلام : إن عبد المطلب أول من قال : بالبداء يبعث يوم القيامة أمّة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (٣).

بيان :

قوله عليه‌السلام : أمّة وحده ، إشارة إلى أنه يعادل أمة بكاملها يوم القيامة عند ما

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٤٤٤.

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧ نقلا عن أصول الكافي.

(٣) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧.


يحشر الناس فوجا فوجا هو يحشر وحده ليس لأنه كان في زمانه متفردا بدين الحق من بين قومه ـ حسبما ادّعى (١) العلّامة المجلسي عليه الرحمة ـ بل لأن إيمانه يوازي أمة بكاملها ، ويؤيد ما قلنا ما ورد عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام بقوله لمن قال له : إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام : كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (٢).

وروي عن ابن مسكان عن مولانا الإمام جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : سألته عن القائم في طريق الغريّ ، فقال : نعم إنه لمّا جازوا بسرير أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام انحني أسفا وحزنا على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكذلك سرير أبرهة لمّا دخل عليه عبد المطلب انحنى ومال (٣).

ولا يخفى أن انحناء السرير له دلالة مهمة على علو شأنه ، وانحناء الجماد له إشارة إلى كونه قبلة إلى الله تعالى ، فلو لا أنه معصوم لما سجدت الكائنات له ، ضرورة أنها لا تنحني لمؤمن عادي مهما بلغ شأنه بالتقى والورع.

وفي خبر آخر عن الكافي عن الحسن بن راشد عن الإمام أبي ابراهيم عليه‌السلام قال : «... فأتاه الله بالنوم ـ أي أنامه ـ فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول : يا شيبة الحمد أحمد ربك ، فإنه سيجعلك لسان الأرض ويتبعك قريش خوفا ورهبة وطمعا .. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان ، فقالوا له : نحن أتباع ولدك ، ونحن من سكّان السماء السادسة ، السيوف ليست لك ، تزوّج في مخزوم تقوي (تقو : نسخة) .. فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية : إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبد الله ، فصار لأبي

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٢ ح ٤٤.

(٣) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٦٠ نقلا عن أمالي الطوسي.


طالب من ذلك أربعة أسياف ، سيف لأبي طالب ، وسيف لعليّ ، وسيف لجعفر ، وسيف لطالب ..» (١).

وورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط ، قيل : فما كانوا يعبدون؟ قال : كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به (٢).

وروى صاحب المناقب فقال :

لما قصد أبرهة بن الصباح لهدم الكعبة أتاه عبد المطلب ليسترد منه إبله ، فقال : تعلمني في مائة بعير ، وتترك دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه؟ فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وإن للبيت ربّا سيمنعه منك ، فردّ إليه إبله ، فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأخذ بحلقة الباب قائلا :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إلى آخر الأبيات وقد تقدمت.

فانجلى نوره على الكعبة ، فقال لقومه : انصرفوا ، فو الله ما انجلى من جبيني هذا النور إلّا ظفرت ، والآن قد انجلى عنه ، وسجد الفيل له ، فقال للفيل : يا محمود ، فحرّك الفيل رأسه ، فقال له : تدري لم جاءوا بك؟

فقال الفيل برأسه : لا ، فقال : جاءوا بك لتهدم بيت ربّك ، أفتراك فاعل ذلك؟ فقال الفيل برأسه : لا (٣).

ومما يشهد أن عبد المطلب نبيّ ما جاء في الأخبار المتضافرة من أن نور رسول الله والأئمة الأطهار الميامين كان يتنقل من صلب نبيّ إلى صلب نبيّ آخر

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) نفس المصدر ص ١٤٤.

(٣) نفس المصدر ص ١٤٥.


حتى وصل نور النبيّ إلى صلب عبد الله ، ونور الوحي إلى صلب عبد مناف «أبي طالب».

فعن أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : خلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من نور واحد نسبّح الله تعالى عند العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام فلمّا أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه ، ولقد سكن الجنّة ونحن في صلبه ..» (١).

وعن الطبرسي (قدس‌سره) قال في تفسير قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) معناه : تقلّبك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا ، عن ابن عبّاس في رواية عطا وعكرمة ، وهو المروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا : في أصلاب النبيّين ، نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه‌السلام» (٢).

وقال الطوسي (قدس‌سره):

(الذي يراك) يا محمّد (وتقلّبك في الساجدين) أي أنه أخرجك من نبيّ إلى نبيّ حين [حتى : ظ] أخرجك نبيّا ... إلى أن قال : وقال قوم من أصحابنا : إنه أراد تقلّبه من آدم إلى أبيه عبد الله في ظهور الموحدين ، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله» (٣).

وقال القمي (قدس‌سره):

حدّثني محمّد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر عليه‌السلام : (الذي يراك حين تقوم ، وتقلّبك في الساجدين) أي أصلاب النبيين (٤).

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٣ / ١٩٣ ط / دار الهادي ـ بيروت.

(٢) تفسير مجمع البيان ج ٧ / ٢٠٧.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ج ٨ / ٦٨.

(٤) تفسير القمي ج ٢ / ٢٥ وورد بطريق آخر في كنز الفوائد ، لاحظ البحار ج ١٥ / ٣ ح ٢.


بيان :

نستظهر من هذه النصوص أن كلّ آباء النبيّ والولي أنبياء من لدن آدم عليه‌السلام إلى والد النبي عبد الله ، ووالد الإمام عليه‌السلام لاتحاد نور النبيّ والوصيّ ، هذا مضافا إلى أن تسلسل أنوار رسول الله وعترته في أصلاب النبيين دلالة القدرة الإلهية على الإعجاز حيث شاءت حكمته أن لا يكون صلب غير معصوم محيطا بنطفة معصوم.

إن قيل : لا ملازمة بين النبيّ والوليّ ، فحيث إن نبوة آباء النبيّ ثبتت بقوله : من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا ، إلا أن نبوة أبي طالب تحتاج إلى دليل!

قلنا : إن الحكم بنبوته (١) يستند إلى قرائن أخر منها :

١ ـ ما رواه الصدوق : من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه.

والوصاية وإن كانت أعم من النبوة ، إذ قد يكون الوصي نبيّا كما في أوصياء الأنبياء وقد يكون غير نبيّ كالعلماء الأتقياء وأمثالهم ، لكن لمّا ثبت نبوة عبد المطلب بما تقدم ، ثبتت نبوة أبي طالب للملازمة بين النبوة والوصاية ، إذ إن كل الأنبياء كانوا يوصون إلى أنبياء مثلهم ، لذا أطلق عليهم تسمية «الوصي» تمييزا لهم عن غيرهم ممن قد يدّعي النيابة عن الأنبياء في مواريثهم وما جاءوا به من عند الله تعالى.

وعليه ، فحيث يوجد مائة وأربع وعشرون ألف نبيّ ، يوجد مثلهم مائة وأربع وعشرون ألف وصي ، وهؤلاء الأوصياء ـ في نفس الوقت ـ أنبياء يوحى إليهم كما كان يوحى لمن أوصى لهم. فهارون وصي موسى وكذا يوشع بن نون ، فهل يتصوّر

__________________

(١) دائما نقصد من النبوة ، النبوة التسديدية وهي عبارة عن إيحاءات ربانية لأبي طالب وآبائه الميامين عليهم‌السلام ، أما النبوة التشريعية فهي مخصوصة بأصحاب الشرائع المقدّسة فقط ، وقد فصّلنا ذلك في تعاليقنا على مراجعات العلّامة المحقّق الكبير السيّد عبد الحسين شرف الدين (قدس‌سره) فليراجع.


أنهم ليسوا بأنبياء مع أن الأخبار دلت على أنهم أوصياء وأنبياء معا ، وهنا هكذا ، فبما أن عبد المطلب نبي لا بد أن يوصي إلى نبي مثله تماما.

ومن هنا أيضا قال العلّامة محمّد باقر المجلسي (قدس‌سره):

[وقد أجمعت الشيعة على إسلامه ـ أي أبي طالب عليه‌السلام ـ وأنه قد آمن بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل الأمر ، ولم يعبد صنما قط ، بل كان من أوصياء إبراهيم عليه‌السلام واشتهر إسلامه من مذهب الشيعة حتى إنّ المخالفين كلّهم نسبوا ذلك إليهم ، وتواترت الأخبار من طرق الخاصة والعامة في ذلك وصنّف كثير من علمائنا ومحدثينا كتبا مفردة في ذلك كما لا يخفى على من تتبع كتب الرجال] (١).

وقال في موضع آخر :

«اتفقت الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) على أن والديّ الرسول ، وكلّ أجداده إلى آدم عليه‌السلام كانوا مسلمين ، بل كانوا من الصدّيقين : إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعلّ بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية ، وما روي : أن عبد المطلب كان حجة وأبو طالب كان وصيّه» (٢).

وقال في موضع ثالث :

«... قد آمن ـ أي أبو طالب ـ وأقرّ ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء ، وكان أمينا على وصايا الأنبياء وحاملا لها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..» (٣).

ويشهد لما قلنا من أن الوصاية ملازمة للنبوة بحكم الالتحام بين الأنبياء والأوصياء من ناحية الخصائص الروحية والكمالية ، أنه ورد عن درست بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول عليه‌السلام: أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب؟

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١٣٩.

(٢) نفس المصدر ج ١٥ / ١١٧.

(٣) نفس المصدر ج ٣٥ / ٧٤.


فقال عليه‌السلام : لا ، ولكن كان مستودعا للوصايا فدفعها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قلت : فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال : لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية ، قال : فقلت : فما كان حال أبي طالب؟

قال : أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه (١).

بيان :

يفهم من الخبر أن أبا طالب عليه‌السلام معه مواريث الأنبياء ، وقبل موته سلّمها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ضرورة أن احتفاظه بمواريث الأنبياء دليل عصمته وطهارته من الدنس ، لأن مواريث الأنبياء دائما بيد الأوصياء لم تتخلف هذه السنّة منذ آدم عليه‌السلام إلى غياب مولانا وإمامنا الحجّة ابن الحسن المهدي عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف. من هنا ظن السائل أن أبا طالب حجّة على رسول الله! فأجابه الإمام عليه‌السلام بالنفي ، وظنّ السائل في محله وذلك : لأن القاعدة تقتضي أن يوصي الأعلى رتبة إلى الأدون منه أي يوصي النبيّ إلى وصيه ، فلمّا سلّم أبو طالب المواريث والوصايا ظن السائل أن أبا طالب أفضل من رسول الله وأعلى منه درجة ، لذا قال له الإمامعليه‌السلام: دفع الوصايا لا يستلزم كون أبي طالب حجة على رسول الله بل ينافيه بمعنى لو كان أبو طالب حجة على رسول الله (أي أعلى درجة) لما كان على أبي طالب أن يقدّم إلى رسول الله ليدفع إليه الوصايا ، بل كان على النبيّ أن يقدّم إليه لأخذ الوصايا كما هو سيرة الأوصياء كالكعبة تزار دائما.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٣ ح ٨ وأصول الكافي ج ١ / ٤٤٥. وقوله عليه‌السلام : ومات من يومه أي يوم الدفع لا يوم الإقرار ، ويحتمل تعلقه بهما ، ويكون المراد الإقرار الظاهر الذي اطّلع عليه غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤيد الاحتمال الثاني ما ورد عن ابن عبّاس قال : أخبرني العبّاس بن عبد المطّلب أن أبا طالب شهد عند الموت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، هامش الفصول المائة في حياة الأئمة ج ١ / ٧٤ السيّد أصغر ناظم زاده القمي.

أقول : المراد من الإقرار هنا تأكيد الاعتراف برسول الله كما كان يفعل الأئمة عليهم‌السلام حينما يوصون إلى بعضهم كانوا يؤكدون هذا المعنى ، وإلا فلا ملازمة بين الإقرار يوم الممات وبين إنكار رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


قال العلّامة المجلسي (قدس‌سره):

«هل كان أبو طالب حجّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماما له؟ فأجاب عليه‌السلام بنفي ذلك ، معلّلا بأنه كان مستودعا للوصايا ، دفعها إليه لا على أنه أوصى إليه وجعله خليفة له ليكون حجّة عليه ، بل كما يوصل المستودع الوديعة إلى صاحبها ، فلم يفهم السائل ذلك وأعاد السؤال ، وقال: دفع الوصايا مستلزم لكونه حجّة عليه؟ فأجاب عليه‌السلام بأنه دفع إليه الوصايا على الوجه المذكور ، وهذا لا يستلزم كونه حجّة بل ينافيه ، وقوله هل كان الرسول محجوجا مغلوبا في الحجة بسبب أبي طالب حيث قصّر في هدايته إلى الإيمان ولم يؤمن ، فقال عليه‌السلام : ليس الأمر كذلك ، لأنه كان قد آمن وأقرّ ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء ، وكان أمينا على وصايا الأنبياء وحاملا لها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال السائل : هذا موجب لزيادة الحجّة عليهما حيث علم نبوّته بذلك ولم يقرّ ، فأجاب عليه‌السلام بأنه لو لم يكن مقرّا لم يدفع الوصايا إليه (١).

٢ ـ روى الكليني (قدس‌سره) عن عبد الله بن مسكان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو طالب : اصبري سبتا ، أبشّرك بمثله إلّا النبوة (٢).

يدل هذا الحديث على تقدّم إيمان أبي طالب ، وأنه كان من الأوصياء وأمينا على أسرار الأنبياء (٣).

أقول : إن كلّ وصي نبيّ ، وليس كلّ وصي نبيّا مشرّعا ، فبينهما خصوص وعموم من وجه ، فوصاية أبي طالب من مقتضيات نبوته التسديدية لا التشريعية ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٤.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ وكذا حديث رؤية فاطمة بنت أسد للنور عند ولادة النبي وقد أثبتناه سابقا ، ولاحظ : روضة الكافي ص ٢٥٠ رقم ٤٦٠.

(٣) الفصول المائة ج ١ / ٧٣.


فمثلا أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أوصياء النبيّ محمّد إلّا أنهم ليسوا أنبياء مشرّعين وإن كانت مقتضيات النبوة فيهم.

إن قيل : لا ملازمة بين الوصاية والنبوة فكيف قلتم إن وصايته عليه‌السلام دليل نبوته؟

قلنا : إن عدم الملازمة صحيحة في غير موضع المواريث والوصايا ، لكنّ الملازمة بينهما في موضع المواريث والوصاية صحيحة وثابتة ، إذ لم يعهد ـ حسبما جاء في أخبارهم عليهم‌السلام ـ للأنبياء أنهم أوصوا لغير الأوصياء المعصومين الذين هم في الواقع أنبياء أيضا لكن أدنى درجة ممن تقدّمهم ، لذا فإن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ظاهرهم الوصاية والخلافة ، لكنّ واقعهم نبوة ، إلّا أنه ورد عنهم النهي (١) عن اعتقاد النبوة فيهم ، بمعنى أنه لا يهبط عليهم جبرائيل بالحلال والحرام بعد وفاة جدهم رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا قالوا : نحن محدّثون ؛ أي أن الله تعالى يحدّثهم ويلهمهم ويوحي إليهم بالخيرات ، وهذا لا يفرق بشيء عن النبوة سوى أنّ الثانية عبارة عن هبوط الملك بالحلال والحرام ، والأولى هي الإخبار عن الحوادث والمجريات.

٣ ـ وفي البحار عن الاحتجاج عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان ذات يوم جالسا في الرحبة والناس حوله مجتمعون ، فقام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت بالمكان الذي أنزلك الله به ، وأبوك معذّب في النار؟!!

فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : مه فضّ الله فاك ، والذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله فيهم ، أأبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟!!

__________________

(١) يحمل هذا النهي على الكراهة.


والذي بعث محمّدا بالحق نبيّا إن نور أبي يوم القيامة يطفئ أنوار الخلائق كلّهم إلّا خمسة أنوار : نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونوري ونور الحسن ونور الحسين ونور تسعة من ولد الحسين ، فإنّ نوره من نورنا الذي خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام (١).

٤ ـ وفي كنز الفوائد ، عن ابان بن محمّد ، قال : كتبت إلى الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب؟

قال : فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ، إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب ، كان مصيرك إلى النار» (٢).

بيان :

الشك بإيمان مؤمن لا يوجب الدخول إلى النار ، إلّا إذا كان هذا المؤمن معصوما وله ما للأنبياء عليهم‌السلام ، فالشك حينئذ موجب لدخول النار.

٥ ـ وفي البحار أيضا عن محمّد بن يونس ، عن أبيه ، عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : يا يونس ، ما يقول الناس في إيمان أبي طالب؟

قلت : جعلت فداك ، يقولون : هو في ضحضاح من نار يغلي منها أمّ رأسه.

فقال عليه‌السلام : كذب أعداء الله ، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا (٣).

٦ ـ وعن ليث المرادي قال :

قلت للإمام أبي عبد الله عليه‌السلام : سيّدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠.

(٢) كنز الفوائد ج ١ / ١٨٣ ط / دار الذخائر ، والبحار ج ٣٥ / ١١٠.

(٣) كنز الفوائد ج ١ / ١٨٣ ، وروى عنه في البحار ج ٣٥ / ١١١.


كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (١).

بيان :

إن رجحان إيمان أبي طالب على إيمان هذا الخلق لدلالة على عصمته ، والعصمة ملازمة للنبوة والوصاية ، فتأمل.

وقد يقال : إن ما ورد في الحديث الخامس ليس دليلا على متعلق العصمة (أعني النبوة أو الوصاية) إذ قد يكون أبو طالب رفيقا للأنبياء والأوصياء وليس هو منهم.

قلنا : إن سماته وهيبته وسيرته هي سيرة الأنبياء والأوصياء ، وهو بدوره مستلزم لأن يكون منهم ، تماما كما ورد في الأخبار أن عليّا أمير المؤمنين له شبه بالأنبياء كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في عزمه وإلى ابراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب (٢). هذا مضافا إلى القرائن الأخرى الدالة على أن له ما للأئمة إلّا ما أخرجه الدليل.

٧ ـ روى الحافظ القندوزي الحنفي قال : عن عبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : لمّا ولدت فاطمة بنت أسد عليّا سمّته باسم أبيها أسد ولم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال : هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلا وندعو خالق الخضراء لعلّه ينبئنا في اسمه ، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ودعيا الله تعالى فأنشأ أبو طالب شعرا :

يا ربّ هذا الغسق الدّجيّ

والفلق المنبلج المضيّ

بيّن لنا عن أمرك المقضيّ

بما نسمّي ذلك الصبيّ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٢.

(٢) ينابيع المودة ص ١٤٢ باب ٤٠.


فإذا خشخشة من السماء فرفع أبو طالب طرفه ، فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتي يديه وضمّه إلى صدره ضما شديدا فإذا مكتوب :

خصصتما بالولد الزكيّ

والطاهر المنتجب الرضيّ

واسمه من قاهر العلى

عليّ اشتقّ من العليّ

فسر أبو طالب سرورا عظيما وخرّ ساجدا لله تبارك وتعالى وعقّ بعشر من الإبل ، وكان اللوح معلّقا في بيت الله الحرام يفخر به بنو هاشم على قريش حتى غلب الحجاج ابن الزبير (١).

بيان :

يستفاد من هذا الحديث أن أبا طالب كان صدّيقا موحّدا بل كان وصيّا محدّثا ملهما من الله تعالى.

وما ورد في الحديث الثالث : من أن نور أبي طالب يطفئ أنوار الخلائق إلّا أنوار النبيّ والعترة الطاهرة ، كما أن الله خلق نوره من نور الأئمة عليهم‌السلام دلالة عظمى على عصمته وطهارته ، ولم يخلق من نورهم إلّا الملائكة والمرسلين والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام أجمعين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢) (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٣).

* * * * *

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٣٠٤ ، المودة الثامنة.

(٢) سورة النازعات : ٢٦.

(٣) سورة يوسف : ١١١.


قال الملك :

فلما ذا اشتهر بين أهل السّنّة أن أبا طالب مات كافرا؟

قال العلوي :

لأن أبا طالب أبو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فحقد أهل السنة على عليّ بن أبي طالب أوجب أن يقولوا : إن أباه مات كافرا ، كما أنّ حقد السنّة على عليّ عليه‌السلام أوجب أن يقتلوا ولديه الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، حتى قال أهل السنّة الذين حضروا كربلاء لقتل الحسين عليه‌السلام : نقاتلك بغضا منّا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!

قال الملك ـ موجّها الكلام إلى الوزير ـ :

هل قال هذا الكلام قتلة الحسين عليه‌السلام؟

قال الملك للعبّاسي :

فما جوابك عن قصة خالد بن الوليد.

قال العبّاسي :

إن أبا بكر رأى المصلحة في ذلك!

قال العلوي ـ متعجّبا ـ :

سبحان الله! وأيّ مصلحة تقتضي أن يقتل خالد الأبرياء ويزني بنسائهم ثمّ يبقى بلا حدّ ولا عقاب ، بل يفوّض إليه قيادة الجيش ، ويقول فيه أبو بكر إنه سيف سلّه الله ، فهل سيف الله يقتل الكفّار أو المؤمنين؟


وهل سيف الله يحفظ أعراض المسلمين أو يزني بنساء المسلمين؟؟

قال العبّاسي :

هب ـ أيّها العلوي ـ أن أبا بكر أخطأ ، لكنّ عمر تدارك الأمر!

قال العلوي :

تدارك الأمر هو أن يجلد خالدا لزناه ، ويقتله لقتله الأبرياء المؤمنين ، ولم يفعل ذلك عمر ، فعمر أخطأ كما أخطأ أبو بكر من قبله.

قال الملك :

إنك أيّها العلوي قلت في أول الكلام إنّ أبا بكر أساء إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هي إساءته إلى فاطمة عليها‌السلام؟

قال العلوي :

إن أبا بكر بعد ما أخذ البيعة لنفسه من الناس بالإرهاب والسيف والتهديد والقوّة أرسل عمرا وقنفذا وخالد بن الوليد وأبا عبيدة الجراح وجماعة أخرى ـ من المنافقين ـ إلى دار عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وجمع عمر الحطب على باب بيت فاطمة (ذلك الباب الذي طالما وقف عليه رسول الله وقال : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وما كان يدخله إلّا بعد الاستئذان) وأحرق الباب بالنار ، ولما جاءت فاطمة عليها‌السلام خلف الباب لتردّ عمر وحزبه ، عصر عمر فاطمة بين الحائط والباب عصرة شديدة قاسية حتى أسقطت جنينها ونبت مسمار الباب في صدرها وصاحت فاطمة عليها‌السلام : أبتاه يا رسول الله أنظر ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة! فالتفت عمر إلى من حوله وقال : أضربوا فاطمة ،


فانهالت السياط على حبيبة رسول الله وبضعته حتى أدموا جسمها (١)! وبقيت آثار هذه العصرة القاسية والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة ، فأصبحت مريضة عليلة حزينة حتى فارقت الحياة بعد أبيها بأيام ـ ففاطمة شهيدة بيت النبوة ـ فاطمة قتلت بسبب عمر بن الخطّاب!

____________________________________

(١) عاشت سيّدة النساء المعظّمة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام مأساة بعد مأساة مذ وفاة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جرى عليها يكاد يخلع الأفئدة من مواقعها ، ويدهش العقول المتزنة ، فمن أصبغوا على أنفسهم ألقاب «الصدّيق والفاروق وسيف .. المسلول وذي النورين» حيث هجموا على دار من قام النبيّ إجلالا لها وقبّل يدها ، وقد يسأل المنصف : لما ذا هذا الهجوم؟ وهل دخل دارها ـ الذي هو دار الله ، وبابها باب الله فمن هتكه فقد هتك حجاب الله (١) ـ مشرك أو كافر حربي ، فحاولوا إخراجه ، أم أنّ الدخول كان لشيء آخر؟

كلا وحاشاها لم يكن في دارها من ذكرنا حتى يكون مبرّرا لاقتحامه ، ولم يكن فيه مال ـ حسبما ادّعى ذلك ابن تيمية ـ (٢) بل فيها عترة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين طهّرهم الله تعالى في محكم القرآن المجيد (٣) ، وأمر بإطاعتهم ، وأنهم مع

__________________

(١) ورد عن رسول الله أنه قال : «ألا إن فاطمة بابها بابي ، وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ، قال الراوي عيسى بن المستفاد : بكى الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام طويلا وقال : هتك والله حجاب الله هتك والله حجاب الله ، هتك والله حجاب الله يا أمه صلوات الله عليها. بحار الأنوار ج ٢٢ / ٤٧٧.

(٢) ذكر هذا الناصبي : «أن أبا بكر كبس بيت الإمام عليّ لينظر هل فيه شيء من مال الله ليعطيه لمستحقه». لاحظ : منهاج السنّة ج ٨ / ٢٩١ الطبعة الحديثة. أقول : متى كان أبو بكر حريصا على فقراء المسلمين حتى تنسب إليه هذه المثلبة ـ لا المنقبة ـ وهل هو أحرص من أمير المؤمنين عليّ يوم تصدّق بخاتمه في الصلاة ليعطيه لمستحقه؟! كلا وألف كلا. وهل الصدقة على المسلمين تجيز ترويع وإهانة وقتل ابنة أحب الخلق إلى الله تعالى؟!

(٣) بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقد تقدم البحث فيها فليراجع.


الحق ، يدور معهم حيثما داروا ، في الدار فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، فاطمة الصدّيقة التي يسخط الله لسخطها ويرضى لرضاها ، فاطمة التي طالما قال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فداك أبوك (١) وفاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها (٢).

فاطمة روحي التي بين جنبيّ من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (٣).

فاطمة التي : لمّا زفت كان النبيّ أمامها وجبرائيل عن يمينها وميكائيل عن يسارها (٤).

فاطمة التي : كان يشم النبيّ منها رائحة الجنّة (٥).

وهنا نحاول باقتضاب أن نسلّط الضوء على جانب من جوانب حياتها المباركة الطاهرة ، ألا وهو الجانب المأساوي الحزين ، الذي ما برح التاريخ يردّده بأنين لا ينقطع ، ويدوّنه بحروف قاتمة على صفحات سوداء لما أصابها من غبن وحيف ، وما لحقها من تعسّف واضطهاد ، رائيا حال أولئك الذين تهافتوا على حطام الدنيا البالية ، وانقادوا للأباطيل التي منّت بها أنفسهم الأمارة بالسوء ، واتبعوا شهواتهم الفانية ، وغرّهم بالله الغرور.

والبحث في الجانب المأساوي ذو شقين :

الأول : الجانب النفسي.

الثاني : الجانب الحقوقي.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك ج ٣ / ٥٦ ط / حيدرآباد ، والخوارزمي في مقتل الإمام الحسين ص ٦٦ ط / الغري.

(٢) رواه مسلم في صحيحه ج ٧ / ١٤٠ ط / محمد صبح بمصر ، السنن الكبرى للبيهقي ج ١٠ / ٢٠١ ط / حيدرآباد.

(٣) منتخب كنز العمال / علي متقي الهندي (المطبوع بهامش المسند ج ٥ / ٩٦ ط / الميمنية بمصر).

(٤) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج ٥ / ٨٧.

(٥) ينابيع المودة ص ٢٠٤.


فالشق الأول : يتناول الاعتداء على جسدها الطاهر وروحها الزكية المطهّرة.

والشق الثاني : ويتناول الاعتداء على متعلقاتها وحقوقها المالية.

وقد تقدّم الكلام في البحوث السابقة ، عن الشق الثاني.

أما الشق الأول :

فهو عرض موجز لدراما مفجعة ، صبّت أحداثها الممضة على شخصية عظيمة مباركة ، أحبّها الله ورسوله ، مستلّا أخبارها مما تناقله الرواة الثقات والمحدّثون في بطون مصادر الخاصة والعامة ، ومنتزعا أحداثها مما رواه لنا التاريخ بصدق وأمانة ، لنضعها بين يدي الباحث عن الحقّ ، ليطّلع عليها بصدر واسع رحيب ، ويطالعها بعلمية وموضوعية ، ثم ينتهج الصراط المستقيم.

هذه المأساة الكبرى مع ما لها من دلالات واضحة ، تكشف عن وعورة صدور القوم اتجاه إمام الحق وزوجه البتول عليهما‌السلام ، صدور امتلأت حقدا وحسدا ، غلّقها الرين ، فعمت عن رؤية الحقّ ، فلم تتورع عن الإتيان بأخزى الأعمال ، وممارسة أنكر الأفعال ، بل وهتك أقدس المقدّسات ، وهو ما حدّثنا التاريخ عن شرذمة ضالة ، تمادى بها الغي ، وطال بها الضلال للتجاوز على امرأة هي سيّدة نساء العالمين ـ بل «ما ساوى الله قط امرأة برجل إلّا ما كان من تسوية الله فاطمة بعلي عليهما‌السلام وإلحاقها به وهي امرأة ، بأفضل رجال العالمين ـ» (١) فكسر الفظّ صاحب الدرة (٢) عمر بن الخطّاب ضلعها وأسقط جنينها ، مع ما له من سوابق هو وزميله ابن أبي قحافة ، حيث استغلا صحبتهما لرسول الله فتبوءا قيادة الأمة رغما

__________________

(١) الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ١ / ٢٥٩ ح ٢٧١.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٢ : «إن عمر أحرق بيت رويشد الثقفي ، وكان نبّاذا ، وأول من حمل الدرّة وأدّب بها ، وقيل بعده : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج» وقال في موضع آخر : «وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة ، بل مفارقة دار الإسلام كلها ، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية» شرح النهج ج ١ / ١٤٢ ، وقال أيضا : «وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة. شرح النهج ج ١ / ١٤٢.


عنها ، فقلّبا الأحكام وغيّرا السنن ، فما فعله عمر بالخصوص كاعتدائه على الصدّيقة الطاهرة ورفسه على بطنها حتى ألقت جنينها ، لأكبر شاهد على فظاظته وسوء عشرته ، وكذا ما ثبت عنه من صلافة على رسول الله تهكّمها حتى نعته وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فراش الموت بالهجر (١). ومع وفور الأدلة على مسألة الاعتداء على سيّدة الطهر مولاتنا فاطمة روحي فداها لم يثبت عند (٢) من التقى بكثير من عقائده ومنهجه الفقهي بمرتكزات الأشاعرة ، بأن عمر بن الخطّاب فعل ما فعل بالسيّدة فاطمة عليها‌السلام ، حيث أنكر مسألة الاعتداء عليها ، مدّعيا بذلك أنه من البعيد جدا أن يدخل بعض الصحابة على الصدّيقة ـ بأبي هي وأمي ـ ويضربوها أمام حشود المسلمين ، وله تعبيرات في مواضع عدة أن القوم لم يكسروا ضلعها ولا أنهم أسقطوا جنينها ، بل ادّعى أن إسقاط الجنين كان بفعل عامل طبيعي لا غير تحريفا منه للمسألة برمتها ، وكأن لسان حاله يقول للعامة «اشهدوا لي عند الأمير إني أول رام رمى بنت محمد في عصر التطور والحداثة والمرجعية المتطورة».

ففي الوقت الذي يؤكد فيه عن رأيه بإسقاط الجنين بفعل عامل طبيعي ، يعلن تراجعه عن ذلك في رسالة (٣) مؤرخة ب : ٣ / ٦ / ١٤١٤ ه‍ ، ثم تراه يكذّب كل من نسب إليه إنكاره لكسر الضلع والاعتداء ، وفي الوقت نفسه ينسف كلّ ما قاله في تلك الرسالة ، بل يناقض نفسه حيث يقول :

«أنا من الأساس لم أقل إنه لم يكسر ضلع الزهراء عليها‌السلام وكلّ ما ينسب إليّ ذلك فهو كاذب ، أنا استبعدت الموضوع استبعادا ، رسمت علامة استفهام على أساس التحليل التأريخي ، قلت : أنا لا أتفاعل مع هذا ، لأن محبة المسلمين للزهراء عليها‌السلام كانت أكثر من محبتهم لعليّ وأكثر من محبتهم للحسن والحسين ،

__________________

(١) روى القصة الشهرستاني في الملل والنحل ج ١ / ٢٢ ، والبخاري في باب العلم ، وابن الأثير في تاريخه ج ٢ / ٣٢٠.

(٢) عنيت به السيد محمد حسين فضل الله.

(٣) جوابه على رسالة بعثها إليه السيد جعفر مرتضى. لاحظ الحوزة تدين الانحراف ص ٩٠.


وفوقها محبتهم لرسول الله ، قلت : إنه من المستبعد أن يقدم أحد على فعل ذلك ، مع الإقرار بوجود نوايا سيئة ومبيتة ، ليس لبراءة فلان من الناس ، بل خوفا من أن يهيّج الرأي العام الإسلامي. وفي هذا المجال ، هناك روايات مختلفة ، فبعضهم يقول : دخلوا المنزل ، والبعض الآخر يقول : لم يدخلوا ، فقلت : أنا أستبعد ذلك ولا أتفاعل مع الكلمة نفسها ..» (١).

وفي موضع آخر يقول : «وكانت هناك مشاكل أحاطت ببيت عليّ عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام يختلف المؤرخون في طبيعتها مما أساء القوم فيه إليهما» (٢).

هذا مضافا إلى تشكيكه «بوجود ارتباك في الروايات حول وقوع الإحراق أو التهديد به ، مع تأكيده إلى أن شخصية الزهراء عليها‌السلام كانت الشخصية المحترمة عند المسلمين بحيث إنّ التعرض لها بهذا الشكل قد يثير الكثير من علامات الاستفهام وذلك من خلال ما نلاحظه من تعامل الجميع معها في أكثر من خبر» (٣).

يتمخّض عن كلامه أمور :

١ ـ إنكاره للاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام.

٢ ـ تراجعه عن ذلك.

٣ ـ ثم تأكيده على أن القوم لم يدخلوا عليها بحجة أن ذلك يثير استفهاما.

وله تشكيك آخر برواية الطبري في دلائل الإمامة ـ التي من خلالها اعترف بتلك الرسالة أن القوم أسقطوا جنينها ـ مدّعيا أن راويها محمّد بن سنان وفي وثاقته محل نظر ، إذ لو كان عبد الله بن سنان فهو ثقة ، ولكنه محمّد بن سنان ، والأغلبية لا يأخذون بأقواله (٤).

__________________

(١) الزهراء المعصومة ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) نفس المصدر ص ٢٣.

(٣) الحوزة تدين الانحراف ص ٩٠ نقلا عن جواب رسالة.

(٤) شريط مسجّل بصوته بتاريخ ١ / ١٠ / ١٩٩٨.


يورد عليه :

١ ـ تشكيكه بالراوي محمد بن سنان لا يقدح بحدوث الاعتداء على الصدّيقة (١) فاطمةعليها‌السلام ، لأن الحادثة رويت بطريق آخر غير عبد الله بن سنان ، وليس محمّد ابن سنان مع أن الموجود في سند دلائل الإمامة هو عبد الله بن سنان الثقة.

٢ ـ إن عدم تفاعله مع كل ما جرى على الصدّيقة الطاهرة يعني أنه غير معتقد بحصول الظلم عليها ، مما يستلزم القول بنفي كسر الضلع وإسقاط الجنين وضربها ، في حين قد صرّح بأنه لم يقل بأن الضلع لم ينكسر بل نعت كل من نسب إليه ذلك بالكذب. ومما يؤكد ذلك ما ورد عنه : بأن القضية ليست من المهمات التي تهمني ، سواء قال القائلون : أن ضلعها كسر ، أو لم يقل القائلون ، هذا لا يمثّل بالنسبة لي أية سلبية أو أية إيجابية ، هي قضية تاريخية ، تحدثت عنها في دائرة خاصة ، ولم أتحدث عنها في الهواء الطلق .. فهذه القضية ليست من المهمات التي اهتم بإثباتها ونفيها ، لا من ناحية علمية ولا من ناحية سياسية» (٢).

__________________

(١) مما يلاحظ في أكثر كتابات وخطابات صاحب الشبهة أنه لا يذكر الألقاب المخصوصة بالأئمة والصدّيقة الطاهرة في حين أن أتباع «معاليه» يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ما ذكر «أميرهم» دون تزيين اسمه بعبارات «صاحب السماحة .. آية الله العظمى .. المرجع .. الإمام ..» ومن طريف ما وقع لي في لبنان هذا أني هوجمت بشراسة من قبل عشّاقه محاولين الاعتداء عليّ بالضرب في قاعة مسجد مطر التابع للمجلس الشيعي ـ وللأسف لم يتخذ ضدهم أيّ عقوبة ـ وذنبي أنني تعرّضت لأفكاره ومعتقداته بالنقد والإبرام وهكذا جرى لي في بعض الأماكن خلال محاضرة تناولت خلالها أفكار الرجل بدون ذكر الألقاب الفخمة التي اعتاد عليها المتزلّفون من الناس ..! ترى! .. أفهناك مظلوميّة أعظم من مظلوميّة أهل البيت عليهم‌السلام في بلد كلبنان يدّعي بعض شيعته ـ ويا للأسف ـ أنّهم على خطى عترة رسول الله ، ولا تحرّكهم الغيرة عليهم والحماس لذواتهم المقدّسة في حين أنهم مستعدون لسفك الدماء من أجل داعية العامة ومروّج أفكارها؟ اللهم احكم بيننا وبينهم بالحق وأنت الحكم الفصل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم!!.

(٢) خلفيات ج ٦ / ١٢٣.


ويقول أيضا : «أنا لا أتفاعل مع كثير من الأحاديث التي تقول بأن القوم كسروا ضلعها أو ضربوها على وجهها أو ما إلى ذلك ، إنني أتحفظ في كثير من هذه الروايات» (١).

نعم! إن ذلك لا يمثّل له شيئا ، إذ لو كانت المضروبة أو المعتدى عليها إحدى بناته ، لكانت المسألة من أعظم اهتماماته ، ولأدّى تفاعله بها أن يأمر أجهزته الأمنية بالاقتصاص ممن همّ بضربها أو الإساءة إليها.

هذا مضافا إلى أنه إذا كان ذلك لا يدخل في دائرة اهتماماته ، فلما ذا كان مهتمّا ببحث هذا الأمر؟ حسبما سجله في رسالة منه لأحدهم بتاريخ ٣ / ٦ / ١٤١٤ ه‍ حيث يقول : «إن لدي تساؤلات تاريخية تحليلية في دراستي الموضوع ، كنت أحاول إثارتها في بحثي حول هذا الموضوع».

فإذا كان الاعتداء على الصدّيقة المظلومة غير داخل في دائرة اهتماماته ، فأي شيء من تاريخها ـ يا ترى ـ يدخل في دائرة اهتماماته ـ اللهم إلّا ما كان موافقا للعامة ـ وهل أن التشكيك بتاريخنا ـ تحت عنوان الاجتهاد المتطور والمرجعية الرشيدة ـ هو من صلب اهتماماته وتفاعلاته؟! اللهم أشهد أنه كذلك.

٣ ـ إن استبعاده وعدم تفاعله ، فيه تبرئة لساحة الظالمين ، إذ إن إنكار النصوص من الطرفين (والتي دلت على حصول الاعتداء على أمير المؤمنين عليّ وزوجه الطاهرة فاطمة عليهما‌السلام) يستلزم إنكار المسلّمات التاريخية ، معتمدا بإنكاره هذا على الاستحسانات العقلية في استكشاف الأمور التاريخية الماضية ، مع أن الذين نفى عنهم صدور الظلم أناس لهم سوابق معروفة بالظلم والعدوان ـ لا سيّما مع أبيها على فراش الموت ثم سلبهم للخلافة وحقوق آل البيت عليهم‌السلام ـ مع تأكيده على أن القوم دخلوا الدار وأخرجوا منها الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) نفس المصدر والصفحة.


٤ ـ إن إنكار الاعتداء يعني حسن الظن بأعداء الله وأعداء رسوله وعترته الطاهرة ، وحسن الظن بالمنافقين والمشركين والكافرين حرام نهى الله عزوجل عنه بقوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (١) ومن اعتدى على أهل البيت عليهم‌السلام لا ريب أنه من أعداء الله ورسوله ، فيحرم أن يحسن الظن بهم.

إن الاعتقاد بمسألة الاعتداء على سيّدة الطهر فاطمة عليها‌السلام ليست مسألة تاريخية محضة حتى يدّعى أنها لا تدخل في دائرة اهتماماته وتفاعلاته ، لأن موضوعا كهذا يدخل في سلّم الأولويات العقيدية والتشريعية والأخلاقية ، كيف لا ، وهو موضوع يترتب عليه حكم ، لأن الاعتداء عليها وسلب حقوقها عليها‌السلام من أعظم المحرّمات في الشريعة المقدّسة ، لأن حرمة أذية المؤمن من صلب الضروريات لما يشكّل الاعتداء من انتهاك لحرمات الله ومقدساته ، فكيف لو كان هذا المؤمن هو الصدّيقة الطاهرة التي قامت الأدلة من الكتاب والسنّة المباركة على طهارتها وعصمتها وقداستها ، ألا يشكّل الأمر ـ بنظر من شكّك بمظلوميتها ـ حيزا من اهتماماته وتفاعلاته؟! وهل البحث في أشعار العرب وقصص الماضين أهم من البحث في مظلومية سيّدة نساء العالمين التي طالما يتشدق المشكّك المذكور بأنه أحد أحفادها؟!! أم أن البحث في مشكلة أفغانستان والحركة الأصولية في الجزائر وولاية الفقيه .. الخ أعظم أجرا عند الله تعالى من الدفاع عن مظلومية آبائه وأجداده الميامين؟!

لقد عانت مولاتنا سيّدة النساء فاطمة روحي فداها المصائب الجمّة ، جراء ما فعله بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى ثقاة المؤرخين أن أبا بكر وعمر وحلفهما قد تطاولوا على بضعة الرسول إرغاما لزوجها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام كي يبايع أبا بكر بن أبي قحافة ، فدخلوا الدار وضربوا حبيبة المصطفى سيّد الرسل محمّد وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها الذي سماه النبيّ «محسنا» قبل أن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧٣.


يولد (١).

ولأهمية الموضوع عندنا معشر الإمامية ولأن من أنكره ممن ينسب إلى الإمامية لا يعبّر عن وجهة نظرنا ، لا بأس بالتطرق إلى عدة أمور :

الأمر الأول : الاعتداء على سيّدة النساء الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله واقتحام دارها.

الأمر الثاني : إجماع الإمامية على حصول الاعتداء.

الأمر الثالث : ردّ الشبهات الطارئة على المسألة.

أما الأمر الأول :

مما لا ريب يعتريه أن أصحاب السقيفة اعتدوا على أمير المؤمنين عليّ المرتضى وزوجه البتول فاطمة عليها‌السلام ، وقد دلت على ذلك الأخبار المتواترة من الفريقين ، ويكفي ما أظهره أمير المؤمنينعليه‌السلام من التفجع على عظيم المصاب بسيّدة الطهر فاطمة عليها‌السلام حيث قال :

[السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة

__________________

(١) شاع في الفترة الأخيرة لفظ «المحسن» أو «المحسّن» أو «المحسّن» بالكسر والفتح والتخفيف مع لام التعريف ، مع أنه لم يرد شيء من ذلك في الأخبار ، بل ما ورد إنما هو من دون لام التعريف والتشديد ، كل ما هنالك أن ابن الأثير الجزري وأمثاله من مؤرخي العامة أثبتوا اللفظ مشددا ومكسورا قياسا على الحديث المروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أروني ابني ، ما سميتموه؟ قالوا : حربا ، قال : «بل هو محسّن» ثم قال : سميتم بأسماء ولد هارون : شبّر وشبّير ومشبّر» أسد الغابة ج ٥ / ٧٠ هذا مع أن القندوزي الحنفي في الينابيع ص ٢٠٨ و ٢٦١ أثبت النص من دون تشديد. وعليه فإن التشديد بالكسر والفتح وإضافة اللام من دون حاجة للإضافة يعتبر مخالفا للأخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وها هم المؤرخون القريبون من عصر النص أمثال الطبري في دلائل الإمامة ، والمسعودي في إثبات الوصية والخصيبي في الهداية الكبرى وغيرهم يثبتون الاسم كما ذكرنا ، هذا مضافا إلى أننا سألنا أهل الخبرة باللغة العبرانية عن تشكيل الكلمات الواردة في الحديث : «شبر شبير مشبر» فأجابوا : إن «مشبر» بالتخفيف هكذا «مشبر» فمن أين جاء التشديد؟!


اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلّا أنّ لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع ، لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقيم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين] (١).

هذه الشكوى منه عليه‌السلام لحبيبه رسول الله تكشف عن واقع الأمة المتخاذلة بعد وفاة نبيّها ، فبدلا من أن تقف لتدافع عن أعزّ الخلق إلى محمّد رسول الله ، وقفت وتعاونت وتضافرت على هضم ابنته والاعتداء عليها ، مع أن المرء يحفظ في ولده ، مما يستلزم القول أن الأمة ارتدت عن بكرة أبيها إلّا خمسة آنذاك ، فسكوت الأمة على الظلم يعني أنها راضية به ، لأن حلف النفاق في ذاك اليوم لم يكن بمقدورهم الاعتداء على بضعة المصطفى لو وجدت ـ بنفسي هي وأبي وأمي ـ أنصارا يدفعون عنها درّة عمر بن الخطّاب وسوط خالد وقنفذ.

لو أن الأمة وقفت إلى جنبها عليها‌السلام لما تربع أصحاب السقيفة على سدّة الخلافة!؟ إن تخاذل الأمة أدى إلى كل ذلك ، مما يعني أن الأمة كلّها هضمت سيّدة الطهر حقّها ، وستنبّأ أباها تأكيدا بما جرى عليها من أمته ، مع أنه لم يطل بموته العهد ، ولم يخل منه الذكر.

وهنا نبحث في عدة نقاط :

__________________

(١) نهج البلاغة / محمد عبده ص ٢٠٧ خطبة ١٩٧ وشرح النهج / صبحي الصالح ص ٣١٩ خطبة ٢٠٢ وشرح النهج / العلّامة الميرزا حبيب الله ج ١٣ / ٣.


النقطة الأولى : إحراق الباب على سيّدة النساء عليها‌السلام.

النقطة الثانية : الدخول عنوة إلى دارها.

النقطة الثالثة : ضربها وإسقاط جنينها محسن وكسر ضلعها.

والسر الذي دعاني لذكر هذه النقاط هو تشكيك (١) من مال ببعض معتقداته ـ إن لم يكن جلّها ـ إلى العامة ، حيث لم يثبت لديه ـ تبعا للدكتور سهيل زكار ـ وجود أبواب لبيوت المدينة ، وكذا لم يدخلوا البيت ، فكيف يحصل الضرب حينئذ؟

أما النقطة الأولى :

فحديث التهديد بالإحراق بل إحراق الباب رواه معظم المؤرخين :

فقد روى ابن قتيبة الدينوري (٢١٣ ـ ٢٧٦ ه‍) وهو من أكابر علماء العامة بأنّ أبا بكر تفقّد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر بن الخطّاب فناداهم وهم في دار عليّ عليه‌السلام فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال :

والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلّا عليّا عليه‌السلام فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن (٢).

وقال في موضع آخر :

«.. قام عثمان بن عفان ومن معه من بني أميّة فبايعوه ـ أي أبا بكر ـ وقام

__________________

(١) ليس «السيد محمد حسين فضل الله» الوحيد الذي مال وانحرف إلى العامة ببعض معتقداته ، وإنما يوجد مثله من العلماء انحرفوا ببعض المسائل ، إلّا أن ما يميزه عنهم أنه تبنّى الكثير من تلك الشطحات ، فصارت منهجا له وطريقا يسلكه.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٠.


عبد الرحمن بن عوف وجماعة من بني زهرة فبايعوا ، وأما عليّ والعبّاس بن عبد المطّلب ومن معهما من بني هاشم ، فانصرفوا إلى رجالهم ومعهم الزبير بن العوّام ، فذهب إليهم عمر في عصابة إلى بيت فاطمة ، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم ، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، وانطلقوا به فبايع ..» (١).

* وقال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍):

«فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلّا عليّا ، فأتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه ..» (٢).

وقال في موضع آخر :

«قال عمر أبسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك ، فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها مني ، قال : وكان عمر أشدّ الرجلين ، قال وكان كلّ واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده ، يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر ، وقال : إن لك قوتي مع قوتك ، قال : فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلّف عليّ والزبير ، واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع عليّ ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر ، قال : فانطلق إليهم عمر ، فجاء بهما تعبا وقال : لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان فبايعا ..» (٣).

ملاحظة : لم يبايع أمير المؤمنين أحدا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن البيعة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٧.

(٢) تاريخ الأمم والملوك / الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٤٤٤.


تعني الالتزام بأحقية المعقود له البيعة ، وشيء من هذا لم يكن حاصلا عند المغتصبين ، هذا بالإضافة إلى أن الخلافة تعيين من الله تعالى ، وقد بايعا ـ أي أبو بكر وعمر ـ أمير المؤمنين عليّاعليه‌السلام في غدير خم ، يظهر أن بيعتهما له عليه‌السلام كانت نفاقا.

* وقال عز الدين الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي (٥٨٦ ـ ٦٥٦ ه‍):

«إنه عليه‌السلام لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه ، وكان يحمل فاطمةعليها‌السلام ليلا على حمار ، وابناها معها ، وهو عليه‌السلام يسوقه ، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ، ويسألهم النصرة والمعونة ، أجابه أربعون رجلا ، فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلّقي رءوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلّا أربعة : الزبير ، والمقداد ، وأبو ذر وسلمان ، ثم أتاهم من الليل ، فناشدهم ، فقالوا : نصبّحك غدوة ، فما جاء منهم إلّا أربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ، وكان الزبير أشدّهم له نصرة ، وأنفذهم في طاعته بصيرة ، حلق رأسه ، وجاء مرارا وفي عنقه سيفه ، وكذلك الثلاثة الباقون ، إلّا أن الزبير هو كان الرأس فيهم ، وقد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة عليه‌السلام وكسر سيفه في صخرة ضربت به ، ونقلوا اختصاصه بعليّ عليه‌السلام وخلواته به ، ولم يزل مواليا له ، متمسكا بحبه ومودته ، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب ، فنزع به عرق من الأم ومال إلى تلك الجهة وانحرف عن هذه ..» (١).

وقال : «روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن أبي الأسود قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير ، فدخلا بيت فاطمة ، معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١١ / ١٢. ملاحظة : لقد تجاهل ابن أبي الحديد دور عمّار بن ياسر وأنه كان من الثابتين على الولاء لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.


وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما ..»(١).

وقال : جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ عليكم ، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا ..» (٢).

وقال أبو بكر بن عبد العزيز قال أحد الطالبيين :

«يا أبا حفص الهوينى وما

كنت مليّا بذاك لو لا الحمام

أتموت البتول غضبى ونرضى

ما كذا يصنع البنون الكرام!

يخاطب عمر ويقول له : مهلا ورويدا يا عمر ، أي ارفق واتّئد ولا تعنف بنا ، وما كنت مليّا ، أي وما كنت أهلا لأن تخاطب بهذا أو تستعطف ، ولا كنت قادرا على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه ، لو لا أن أباها الذي كان بيتها يحترم ويصان لأجله ، مات فطمع فيها من لم يكن يطمع ، ثم قال : أتموت أمّنا وهي غضبى ونرضى نحن! إذا لسنا بكرام ، فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأمه ويغضب لغضبهما.

والصحيح عندي أنّها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر ، وأنها أوصت ألّا يصلّيا عليها ، وكان الأولى بهما إكرامها واحترام منزلها ..» (٣).

وقال أبو بكر : أخبرني أبو بكر الباهلي عن إسماعيل بن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : قال أبو بكر : يا عمر ، أين خالد بن الوليد؟ قال : هو هذا ، فقال :

__________________

(١) شرح النهج ج ٦ / ٢٠٥.

(٢) نفس المصدر ج ٦ / ٢٠٦.

(٣) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٦ / ٢٠٧.


انطلقا إليهما ـ يعني عليّا والزبير ـ فأتياني بهما ، فانطلقا ، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج ، فقال عمر للزبير ، ما هذا السيف؟ قال : أعددته لأبايع عليّا ، قال : وكان في البيت ناس كثير ، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير ، فأقامه ثم دفعه فأخرجه ، وقال : يا خالد ، دونك هذا ، فأمسكه خالد ، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس ، أرسلهم أبو بكر ردءا لهما ، ثم دخل عمر ، فقال لعليّ : قم فبايع ، فتلكّأ واحتبس فأخذ بيده ، وقال : قم ، فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، ثم أمسكهما خالد ، وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلى باب حجرتها ، ونادت : يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله ..» (١).

وهكذا مضى القوم في تعنّتهم وظلمهم من أجل أخذ البيعة لأبي بكر ، وها هو البراء بن عازب يصف شناعة القوم يوم السقيفة فيقول :

لم أزل لبني هاشم محبّا ، فلمّا قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله فكنت أتردّد على بني هاشم وهم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجرة ، وأتفقّد وجوه قريش ، فإني كذلك ، إذ فقدت أبا بكر وعمر ، وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ، فلم البث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانيّة لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه ، وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى ، فأنكرت عقلي ، وخرجت أشتدّ حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب

__________________

(١) نفس المصدر ج ٦ / ٢٠٦.


ضربا عنيفا ، وقلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة ، فقال العبّاس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ..» (١).

* قال أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني : (٤٧٩ ـ ٥٤٨ ه‍).

«انفرد النظّام عن أصحابه بمسائل منها :

ميله إلى الرفض ، ووقيعته في كبار الصحابة قال : أولا : لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا ، وقد نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليّ رضي الله عنه في مواضع ، وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة ، إلّا أن عمر كتم ذلك ، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال : ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال : نعم ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال هذا شك وتردد في الدين ، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم ، وزاد في الفرية فقال :

إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين ..» (٢).

قال أبو الفداء إسماعيل :

«لمّا قبض الله نبيه ، قال عمر بن الخطّاب : من قال إن رسول الله مات ، علوت رأسه بسيفي هذا ، وإنما ارتفع إلى السماء! فقرأ أبو بكر (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٣).

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٦٨.

(٢) الملل والنحل ج ١ / ٥٧ الفصل الأول. ورواه بألفاظه صلاح الدين الصفدي الشافعي المتوفى ٧٦٤ في ترجمة النظّام في كتابه «الوافي بالوفيات» ج ٥ / ٣٤٧.

(٣) سورة آل عمران : ١٤٤.


فرجع القوم إلى قوله ، وبادروا سقيفة بني ساعدة ، فبايع عمر أبا بكر ، وانثال الناس عليه يبايعونه في العشر الأوسط من ربيع سنة إحدى عشرة خلا جماعة من بني هاشم ، والزبير ، وعتبة بن أبي لهب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ، ومالوا مع عليّ بن أبي طالب ، وقال في ذلك عتبة بن أبي لهب :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف

عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

عن أوّل الناس إيمانا وسابقة

واعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبيّ ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

ومن فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن

وكذلك تخلّف عن بيعة أبي بكر : أبو سفيان من بني أمية.

ثم أن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى عليّ ومن معه يخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها ، وقال : إن أبوا عليك فقاتلهم.

فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار ، فلقيته فاطمة رضي الله عنها ، وقالت : إلى أين يا ابن الخطاب ، أجئت لتحرق دارنا!!

قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت به الأمة!! (١).

* روى البلاذري بإسناده عن سليمان التيمي ، وعن ابن عون :

إن أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد بيعته ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقّته فاطمة على الباب ، فقالت :

يا ابن الخطّاب! أتراك محرقا عليّ بابي؟

قال : نعم ، وذلك أقوى مما جاء به أبوك (٢).

__________________

(١) المختصر في أخبار البشر ج ١ / ١٥٦.

(٢) أنساب الأشراف ج ١ / ٥٨٦ ح ١١٨٤ ط / دار المعارف ، ونقل عنه المجلسي في البحار ج ٢٨ / ٣٨٩ ط / دار الوفاء.


* وروى ابن عبد ربّه : إن الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر هم : عليّ «أمير المؤمنين» والعبّاس والزبير ، وسعد بن عبادة.

فأمّا عليّ «أمير المؤمنين» والعبّاس والزبير ، فقعدوا في بيت فاطمة «الصدّيقة» عليها‌السلام حتّى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطّاب ليخرجوا من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة ، فقالت :

يا ابن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟

قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة ..» (١).

* وروى المتقي الهندي عن أسلم أنّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله كان عليّ «أمير المؤمنين» والزبير يدخلون على «سيّدة النساء» فاطمة بنت رسول الله ويشاورونها ويرتجعون في أمرهم ، فلمّا بلغ عمر بن الخطاب ، خرج حتّى دخل على فاطمة «سيّدة النساء» فقال :

يا بنت رسول الله! والله ما من الخلق أحد أحبّ إليّ من أبيك .. وأيم الله ما ذاك بمانعي أن أجمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم الباب. فلما خرج عمر ، جاءوها ، قالت : تعلمون أن عمر قد جاءني ، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقنّ عليكم البيت ، وأيم الله ليمضينّ لما حلف عليه (٢).

قال ابن أبي الحديد :

«وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال :

__________________

(١) العقد الفريد ج ٥ / ١٢ ط / مكتبة الرياض الحديثة.

(٢) كنز العمال ج ٥ / ٦٥١ ، ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٢ / ١٧٤ ، والسقيفة وفدك / أبو بكر الجوهري ص ٣٨ و ٥٠. نهاية الأرب / النويري ج ١٩ / ٣٩ ، تشييد المطاعن وكشف الضغائن ج ١ / ٢٢٣ ، وقرة العين / الدهلوي ص ٧٨ ط / بيشاور.


اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة «الصدّيقة» عليها‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (١).

وقال عمر رضا كحالة :

«تفقد أبو بكر قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ بن أبي طالب كالعبّاس ، والزبير ، وسعد بن عبادة ، فقعدوا في بيت فاطمة ، فبعث أبو بكر عمر بن الخطاب ، فجاءهم عمر فناداهم ، وهم في دار فاطمة «الصديقة» فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ، وقال :

والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها!!

فقيل له : يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة!!

قال : وإن (٢)!!

* قال حافظ إبراهيم شاعر النيل ، رافعا عقيرته بعد مضي قرون على تلكم المعرّات ، مبتهجا متبجحا بقوله في القصيدة (العمرية) تحت عنوان : عمر وعليّ :

وقولة لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها (٣)

وقد علّق أحمد أمين في هامش الديوان المذكور : بأن حافظ يشير بهذه

__________________

(١) شرح النهج / ج ١ / ١٣٥.

(٢) أعلام النساء ج ٤ / ١١٤.

(٣) ديوان حافظ إبراهيم ج ١ / ٧٥ ط / دار الكتب المصرية بالقاهرة. الغدير ج ٧ / ٨٦ ، والمراجعات ص ٣٦٦ المراجعة ٨٣ ط / الأعلمي ، بتحقيقنا ، ودلائل الصدق ج ٣ / ٩٢.


الأبيات إلى امتناع الإمام عليّ عليه‌السلام عن البيعة لأبي بكر يوم السقيفة ، وتهديد عمر إياه بتحريق بيته إذا استمر على امتناعه ، وكان فيه زوجة «الإمام» عليّ فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).

* وقدح الذهبي في أحمد بن محمّد بن السري بن يحيى بن أبي دارم المحدّث ، بأنه كوفي رافضي كذّاب ، وروى عنه الحاكم وقال : رافضي ، غير ثقة.

وقال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ ـ بعد أن أرّخ موته : كان مستقيم الأمر عامة دهره ، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : إن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن ..» (١).

* ونقل ابن قتيبة الدينوري عن أبي بكر قال على فراش الموت :

«والله ما آسى إلّا على ثلاث فعلتهن ، ليتني كنت تركتهنّ ، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن ، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهنّ ، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن ، فليتني تركت بيت عليّ وإن كان أعلن علي الحرب ، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر ، فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير ، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا ، ولم أكن أحرقته بالنار ..» (٢).

* نقل ابن خيزرانة في غرره ، قال زيد بن أسلم :

كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليّ وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا ، فقال عمر لفاطمة : أخرجي من في البيت وإلّا أحرقته ومن فيه ، قال : وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه [وآله] ، فقالت فاطمة : تحرق على ولدي؟ قال : أي والله أو

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣٩ ط / دار المعرفة ، ورواه بألفاظه أيضا ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ج ١ / ٢٦٨.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ / ٣٦ ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني في ترجمة علوان ج ٤ / ١٨٩.


ليخرجنّ وليبايعنّ (١).

* قال الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود : ... فهلّا كان عليّ كابن عبادة حريّا في نظر ابن الخطّاب بالقتل حتى لا تكون فتنة ولا يكون انقسام؟! كان هذا أولى بعنف عمر إلى جانب غيرته على وحدة الإسلام ، وبه تحدّث الناس ولهجت الألسن كاشفة عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجرى اليقين ... وكذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار ، وهو يسير في جمع من صحبه ومعاونيه إلى دار فاطمة ، وفي باله أن يحمل ابن عمّ رسول الله ـ إن طوعا وإن كرها ـ على إقرار ما أباه حتى الآن ، وتحدّث أناس بأنّ السيف سيكون وحده متن الطاعة! .. وتحدّث آخرون بأنّ السيف سوف يلقى السيف! .. ثم تحدّث غير هؤلاء بأنّ «النار» هي الوسيلة المثلى إلى حفظ الوحدة وإلى الرضا والإقرار! .. وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصة حطب أمر به ابن الخطّاب فأحاط بدار فاطمة ، وفيها عليّ وصحبه ، ليكون عدة الإقناع أو عدة الإيقاع؟ ..

أقبل الرجل محنقا مندلع الثورة على دار عليّ وقد ظاهره معاونوه ومن جاء بهم ، فاقتحموها أو أوشكوا على اقتحام ، فإذا وجه كوجه رسول الله يبدو بالباب حائلا من حزن ، على قسماته خطوط آلام ، وفي عينيه لمعات دمع ، وفوق جبينه عبسة غضب فائر وحنق ثائر ..

وراحت الزهراء وهي تستقبل المثوى الطاهر ، تستنجد بهذا الغائب الحاضر : يا أبت يا رسول الله! .. ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟! فما تركت كلماتها إلّا قلوبا صدعها الحزن وعيونا جرت دمعا ..» (٢).

* قال المسعودي :

وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بني هاشم في الشّعب ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٠٥ ، تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ج ٧ / ١٦٤ ، ونهج الحق وكشف الصدق ص ٢٧١.

(٢) الغدير ج ٣ / ١٠٣.


وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول : إنما أراد بذلك ألّا تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فإنه أحضر الحطب ليحرّق عليهم الدار» (١).

* وقال النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري (عام ٦١١ ه‍) في معرض رده على أبي المعالي الجويني في أمر الصحابة :

«فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه ، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتلته ولعنتموهم ، وكيف لم تحفظوا أبا بكر في محمّد ابنه فإنكم لعنتموه وفسّقتموه ، ولا حفظتم عائشة في أخيها محمّد المذكور ، ومنعتمونا أن خوض وندخل أنفسنا في أمر أمير المؤمنين عليّ والإمامين الحسن والحسين ، ومعاوية الظالم له ولهما ، المتغلّب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنّة عندكم ، ولعن ظالم الإمام عليّ والحسن والحسين تكلّفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ، ومن القائل لها : حميراء ، أو إنما هي حميراء ، ولعنته بكشفه سترها ، ومعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها.

فإن قلتم : إن بيت فاطمة إنما دخل ، وسترها إنما كشف حفظا لنظام الإسلام ، وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.

قيل لكم : وكذلك ستر عائشة إنما كشف ، وهودجها إنما هتك لأنها نشرت حبل الطاعة ، وشقت عصا المسلمين ، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى البصرة ، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٢٠ / ٣٥١ نقلا عن مروج الذهب للمسعودي ج ٣ / ٩.


وما تنطق به كتب التواريخ والسّير ، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق ، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار ، والبراءة من فاعله من أوكد عرى الإيمان ، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها ، وتهدّدها بالتّحريق من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ، ومما أعزّ الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة ، والحرمتان واحدة ، والسّتران واحد ، وما نحبّ أن نقول لكم : إن حرمة فاطمة أعظم ، ومكانها أرفع ، وصيانتها لأجل رسول الله أولى ، فإنها بضعة منه ، وجزء من لحمه ودمه ، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج ، وإنما هي وصلة مستعارة ، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة ، وكما يملك رقّ الأمة بالبيع والشراء ... وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة ، وقد أجمع المسلمون كلّهم من يحبّها ومن لا يحبّها منهم أنها سيّدة نساء العالمين! ..» (١).

هذه نبذة مما ورد في كتب العامة حول التهديد بالإحراق ، وهناك الكثير يحصل عليه المتتبع.

وأما ما يدل على ذلك من كتب الشيعة الإمامية فكثير جدا ، على الرغم من حساسية الموضوع ، لظروف قاسية وأليمة ، عانى مؤرخو الإمامية منها الكثير يوم ذاك ، ومع هذا وصلنا الجم الغفير من تلكم النصوص الصحيحة والصريحة منها :

(١) قال سليم بن قيس «رضي الله عنه» (ولد عام ١١ للبعثة ، وتوفى ٧٦ ه‍):

«وانطلق ـ أي قنفذ لعنه الله تعالى ـ فاستأذن على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فأبى أن يأذن لهم ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر ، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما ، فقالوا : لم يؤذن لنا ، فقال عمر : اذهبوا فإن أذن لكم

__________________

(١) شرح النهج ج ٢٠ / ٢٧١.


وإلّا فادخلوا بغير إذن.

فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت «الصدّيقة» فاطمة عليها‌السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن ، فرجعوا وثبت قنفذ الملعون ، فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا ، فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء؟! ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب ، فحملوا الحطب ، وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة وابناهما ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّا وفاطمة عليها‌السلام : والله لتخرجنّ يا عليّ ، ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، وإلّا أضرمت عليك النار! فقالت فاطمة عليها‌السلام : يا عمر! ما لنا ولك؟ فقال : افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم ، فقالت : يا عمر أما تتقي الله ، تدخل عليّ بيتي؟!

فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ..» (١).

وقال في موضع آخر :

«فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين ، فلم يبق إلّا عليّ وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير ، قال عمر لأبي بكر : يا هذا إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر ، فابعث إليه ، فبعث إليه ابن عمّ لعمر يقال له قنفذ ، فقال : انطلق إلى عليّ فقل له : أجب خليفة رسول الله فانطلق فأبلغه فقال عليّ عليه‌السلام : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله وارتددتم ، والله ما استخلف رسول الله غيري ، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول ، فقل له قال لك عليّ : والله ما استخلفك رسول الله وأنك لتعلم من خليفة رسول الله ، فأقبل قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة ، فقال أبو بكر : صدق عليّ! ما استخلفني رسول الله ، فغضب عمر ووثب وقام ، فقال أبو بكر : اجلس ثم قال لقنفذ : اذهب إليه ... إلى أن قال :

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي ص ٧٥ ط / دار الإرشاد الإسلامي ـ بيروت ١٩٩٤ م.


فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر ، فوثب عمر غضبان ، فنادى خالد بن الوليد وقنفذا ، فأمرهما أن يحملا حطبا ونارا ، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب عليّ وفاطمة عليها‌السلام ، وفاطمة قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله ، فأقبل عمر ، حتى ضرب الباب ثم نادى : يا ابن أبي طالب! افتح الباب ، فقالت فاطمة : يا عمر ، ما لنا ولك ، لا تدعنا وما نحن فيه؟!

قال : افتحي الباب وإلّا أحرقناه عليكم! فقالت : يا عمر أما تتقي الله عزوجل ، تدخل بيتي وتهجم على داري؟! فأبى أن ينصرف.

ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب ، ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله! فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت ، فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت : يا أبتاه! فوثب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأخذ بتلابيب عمر ، ثم هزّه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته ، وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول الله وما أوصى به من الصبر والطاعة ، فقال : والذي كرّم محمّدا بالنبوة يا ابن صهاك ، لو لا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وسلّ خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة عليها‌السلام فحمل عليه بسيفه ، فأقسم ـ أي خالد ـ على عليّ عليه‌السلام إلّا كف ...»(١).

(٢) قال المؤرخ والنسّابة المسعودي الهذلي (المتوفى عام ٣٤٦ ه‍):

«وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر ، وصفق على يديه ، ثم بايعه قوم ممن قدم المدينة ذلك الوقت من الأعراب والمؤلفة قلوبهم (٢) ، وتابعهم على ذلك غيرهم ،

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ص ٢٣١ ط / دار الإرشاد ، وج ٢ / ٨٦٢ تحقيق محمد باقر الأنصاري ط / قم نشر الهادي ١٤١٦ ه‍.

(٢) من هنا يعرف أن الحلف الثنائي جلب الأعوان والأنصار للانقلاب على خليفة الله أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث إن قدوم هؤلاء إلى المدينة كان مخططا له قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


واتصل الخبر بأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد فراغه من غسل رسول الله وتحنيطه وتكفينه وتجهيزه ودفنه بعد الصلاة عليه مع من حضر من بني هاشم ، وقوم من صحابته مثل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وأبي بن كعب وجماعة نحو أربعين رجلا ، فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

إن كانت الإمامة في قريش فأنا أحق قريش بها ، وإن لم تكن في قريش فالأنصار على دعواهم ، ثم اعتزلهم ودخل بيته ، فأقام فيه ومن اتبعه من المسلمين وقال : إن لي في خمسة من النبيّين أسوة ، نوح إذ قال : إني مغلوب فانتصر ، وابراهيم إذ قال : واعتزلكم وما تدعون من دون الله ، ولوطا إذ قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، وموسى إذ قال : ففررت منكم لمّا خفتكم ، وهارون إذ قال : إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. ثم ألّف عليه‌السلام القرآن وخرج إلى الناس ، وقد حمله في إزار معه .. فقال لهم : هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله كما أنزل ، فقال له بعضهم : اتركه وامض ، فقال لهم : إن رسول الله قال لكم : إني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فإن قبلتموه فاقبلوني معه أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله ، فقالوا ؛ لا حاجة لنا فيه ولا فيك ، فانصرف به معك ، لا تفارقه ولا يفارقك ، فانصرف عنهم فأقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله فوجهوا إلى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيّدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا ، وأخذوه بالبيعة فامتنع ، وقال : لا أفعل ، فقالوا : نقتلك ، فقال : إن تقتلوني فإني عبد الله وأخو رسوله ، وبسطوا يده فقبضها ، وعسر عليهم فتحها ، فمسحوا عليها وهي مضمومة ...» (١).

(٣) وقال أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي (٢٥٨ ـ ٣٣٤ ه‍):

«ثم تبتدئ فاطمة عليها‌السلام بشكوى ما نالها من أبي بكر وعمر من أخذ فدك

__________________

(١) إثبات الوصية ص ١٥٤ ط / دار الأضواء.


منها ومشيها إليهم في مجمع الأنصار والمهاجرين وخطابها إلى أبي بكر في أمر فدك وما ردّ عليها من قوله إن الأنبياء لا وارث لهم واحتجاجها بقول الله عزوجل بقصة زكريا ويحيى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (١) وقوله بقصة داود وسليمان : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٢) وقول عمر لها هاتي صحيفتك التي ذكرت إن أباك كتبها لك على فدك وإخراجها الصحيفة وأخذ عمر إياها منها ونشره لها على رءوس الأشهاد من قريش والمهاجرين والأنصار وسائر العرب وتفله فيها وعركه لها وتمزيقه إياها وبكاءها ورجوعها إلى قبر أبيها باكية تمشي على رمضاء وقد أقلقتها ، واستغاثتها بأبيها وتمثلها بقول رقية بنت صفية :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ أهلك (٣) واختلّت بها الرّيب

أبدى رجال لنا ما في صدورهم

لما نأيت وحالت دونك الحجب

لكلّ قوم لهم قربى ومنزلة

عند الإله عن الأدنين مقترب

يا ليت بعدك كان الموت حلّ بنا

أملوا أناس [أناسا] ففازوا بالذي طلبوا

وتقص عليه قصة أبي بكر وإنفاذ خالد بن الوليد وقنفذ وعمر جميعا لإخراج أمير المؤمنينعليه‌السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة واشتغال أمير المؤمنين وضمّ أزواج رسول الله وتعزيتهنّ وجمع القرآن وتأليفه وإنجاز عداته وهي ثمانون ألف درهم باع فيها تالده وطارفه وقضاها عنه وقول عمر له : «اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون من البيعة لأمر أبي بكر فما لك أن تخرج عمّا اجتمعنا عليه فإن لم تخرج قتلناك». وقول فضة جارية فاطمة عليها‌السلام : «إنّ أمير المؤمنين عنكم

__________________

(١) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٢) سورة النمل : ١٦.

(٣) في نسخة الاحتجاج ج ١ / ١٢٣ و ١٤٥ : «واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب» مع وجود اختلاف ببعض الألفاظ ببقية الأبيات ، وما في الاحتجاج أضبط.


مشغول والحقّ له لو أنصفتموه واتقيتم الله ورسوله» وسبّ عمر لها وجمع الحطب الجزل على النار لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب ورقية وأم كلثوم وفضّة وإضرامهم النار على الباب وخروج فاطمة عليها‌السلام وخطابها لهم من وراء الباب وقولها : «ويحك يا عمر ما هذه الجرأة على الله ورسوله ، تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه وتطفئ نور الله والله متمّ نوره» وانتهاره لها وقوله : «كفى يا فاطمة فلو أنّ محمّدا حاضر والملائكة تأتيه بالأمر والنهي والوحي من الله وما عليّ إلا كأحد من المسلمين فاختاري إن شئت خروجه إلى بيعة أبي بكر وإلّا أحرقكم بالنار جميعا». وقولها له : «يا شقي عديّ ، هذا رسول الله لم يبل له جبين في قبره ولا مسّ الثرى أكفانه» ، ثم قالت وهي باكية : «اللهم إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك وارتداد أمته ومنعهم إيانا حقّنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيّك بلسانه» وانتهار عمر لها وخالد بن الوليد وقولهم : «دعي عنك يا فاطمة حماقة النساء فكم يجمع الله لكم النبوة والرسالة» وأخذ النار في خشب الباب وأدخل قنفذ لعنه الله يده يروم فتح الباب وضرب عمر لها بسوط أبي بكر على عضدها حتى صار كالدملج الأسود المحترق وأنينها من ذلك وبكاها وركل عمر الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستة أشهر وإسقاطها وصرختها عند رجوع الباب وهجوم عمر وقنفذ وصفقة عمر على خدها حتى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر وهي تجهر بالبكاء تقول : «يا أبتاه يا رسول الله ابنتك فاطمة تضرب ويقتل جنين في بطنها وتصفق ، يا أبتاه ، ويسقف خدّ [لما] لها كنت تصونه من ضيم الهوان يصل إليه من فوق الخمار» وضربها بيدها على الخمار لتكشفه ورفعها ناصيتها إلى السماء تدعو الله تعالى ..» (١).

وقال في موضع آخر :

«وروي أنها تكفنت من بعد غسلها وحنوطها وطهارتها لا دنس فيها ، وأنها لم يكن يحضرها إلا أمير المؤمنين والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة

__________________

(١) الهداية الكبرى / الخصيبي ص ٤٠٦.


جاريتها وأسماء ابنة عميس ، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام جهّزها ومعه الحسن والحسين في الليل ، وصلّوا عليها وأنها وصّت ، وقالت لا يصلّي عليّ أمة نقضت عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يعلم بها أحدا ، ولا حضر وفاتها أحد ، ولا صلّى عليها من سائر الناس غيرهم ، لأنها وصّت عليه‌السلام ، وقالت : لا يصلّي عليّ أمة نقضت عهد الله وعهد أبي رسول الله وأمير المؤمنين بعلي وظلموني وأخذوا وراثتي وحرقوا صحيفتي التي كتبها أبي بملك فدك والعوالي ، وكذّبوا شهودي وهم والله جبرائيل وميكائيل وأمير المؤمنين وأم أيمن ، وطفت عليهم في بيوتهم ، وأمير المؤمنين يحملني ومعي الحسن والحسين ليلا ونهارا إلى منازلهم يذكرهم بالله ورسوله لئلا يظلمونا ويعطونا حقنا الذي جعله الله لنا فيجيبون ليلا ويقعدون عن نصرتنا نهارا ، ثم ينفذون إلى دارنا قنفذا ومعه خالد بن الوليد ليخرجا ابن عمي إلى سقيفة بين ساعدة لبيعتهم الخاسرة ، ولا يخرج إليهم متشاغلا بوصية رسول الله وأزواجه وتأليف القرآن وقضاء ثمانين ألف درهم وصّاه بقضائها عنه عدات ودينا ، فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت فأخذت بعضادتي الباب ، وقلت : ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفّوا عنا وتنصرفوا ، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر ، فضرب به عضدي ، فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فردّه عليّ وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر ، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني ، وجاءني المخاض ، فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم ، فهذه أمة تصلي عليّ؟ وقد تبرأ الله ورسوله منها وتبرأت منها ..» (١).

(٤) وقال السيد المرتضى (المتوفى ٤٣٦ ه‍) في ردّه على أبي عليّ القاضي عبد الجبار المعتزلي الذي أنكر ضرب عمر للصدّيقة الطاهرة الزكية :

«وبعد ، فلا فرق بين أن يهدّد بالإحراق للعلة التي ذكرها وبين ضرب فاطمة عليها‌السلام لمثل هذه العلّة ، فإن إحراق المنازل أعظم من ضربه بالسوط وما يحسن الكبير ممن أراد الخلاف على المسلمين أولى بأن يحسن الصغير فلا وجه

__________________

(١) الهداية الكبرى ص ١٧٨ و ١٧٩ ط / مؤسسة البلاغ ١٩٩١ الطبعة الرابعة.


لامتعاض صاحب الكتاب من ضربة السوط وتكذيب ناقلها وعنده مثل هذا الاعتذار» (١).

(٥) وروى الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) بسند معنعن إلى مروان بن عثمان قال :

لمّا بايع الناس أبا بكر دخل عليّ عليه‌السلام والزبير والمقداد بيت فاطمة عليها‌السلام ، وأبوا أن يخرجوا ، فقال عمر بن الخطاب : أضرموا عليهم البيت نارا ، فخرج الزبير ومعه سيفه ، فقال أبو بكر ؛ عليكم بالكلب فقصدوا نحوه ، فزلّت قدمه وسقط إلى الأرض ووقع السيف من يده ، فقال أبو بكر : اضربوا به الحجر ، فضرب بسيفه الحجر حتى انكسر ، وخرج عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام نحو العالية ، فلقيه ثابت بن قيس شمّاس ، فقال : ما شأنك يا أبا الحسن؟ فقال : أرادوا أن يحرقوا عليّ بيتي وأبو بكر على المنبر يبايع له ، ولا يدفع عن ذلك ، ولا ينكره ، فقال له ثابت : ولا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك ، فانطلقا جميعا حتى عادا إلى المدينة ، وإذ فاطمة عليها‌السلام واقفة على بابها ، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول : لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم ، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا وصنعتم ما صنعتم ولم تروا لنا حقا (٢).

وروى المفيد أيضا عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه ، عن جده قال : ما أتى على عليّعليه‌السلام يوم قط أعظم من يومين أتياه ، فأمّا أوّل يوم ، فاليوم الذي قبض فيه رسول الله ، وأمّا اليوم الثاني فو الله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه إذ قال له عمر : يا هذا لم تصنع شيئا ما لم يبايعك عليّ فابعث إليه حتى يأتيك فيبايعك ، قال : فبعث قنفذا ، فقال له : أجب خليفة رسول الله ، قال عليّ عليه‌السلام : لأسرع ما كذبتم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما خلّف رسول الله أحدا غيري ، فرجع قنفذ وأخبر أبا بكر بمقالة عليّ عليه‌السلام ، فقال أبو بكر : انطلق

__________________

(١) الشافي للمرتضى ج ٤ / ١٢٠ ط / مؤسسة الصادق ، طهران.

(٢) أمالي المفيد / المجلس السادس ص ٤٩ ح ٩.


إليه فقل له : يدعوك أبو بكر ويقول : تعال حتى تبايع ، فإنما أنت رجل من المسلمين ، فقال عليّ عليه‌السلام : أمرني رسول الله أن لا أخرج بعده من بيتي حتى أؤلّف الكتاب ، فإنه في جرائد النخل وأكتاف الإبل فأتاه قنفذ وأخبره بمقالة عليّ عليه‌السلام ، فقال عمر : قم إلى الرجل ، فقام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة ، وقمت معهم ، وظنت فاطمة عليها‌السلام أنه لا تدخل بيتها إلّا بإذنها ، فأجافت الباب وأغلقته ، فلما انتهوا إلى الباب ضرب عمر الباب برجله فكسره ـ وكان من سعف ـ فدخلوا على عليّ عليه‌السلام وأخرجوه ملبّبا.

فخرجت فاطمة عليها‌السلام فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترملاني من زوجي ، والله لئن لم تكفّا عنه لأنشرنّ شعري ولأشقنّ جيبي ولآتينّ قبر أبي ولأصيحنّ إلى ربي ، فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين عليهما‌السلام متوجهة إلى القبر ، فقال عليّ عليه‌السلام لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمّد فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان (١) ، فو الله لئن فعلت لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها ، قال : فلحقها سلمان فقال : يا بنت محمّد إن الله تبارك وتعالى إنما بعث أباك رحمة فانصرفي ، فقالت : يا سلمان ما عليّ صبر فدعني حتى آتي قبر أبي ، فأصيح إلى ربي (٢) ، قال سلمان : فإن عليّا عليه‌السلام بعثني إليك وأمرك بالرجوع ، فقالت : أسمع له وأطيع (٣) فرجعت ، وأخرجوا عليّا ملبّبا قال : وأقبل الزبير مخترطا سيفه وهو يقول : يا معشر بني عبد المطلب أيفعل بعليّ وأنتم أحياء وشدّ على عمر ليضربه بالسيف فرماه خالد بن الوليد بصخرة فأصاب قفاه ، وسقط السيف من يده فأخذه

__________________

(١) كيف لا تكفئان والله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها؟!

(٢) أي والله ـ بنفسي هي وأبي وأمي ـ حق لها أن تصيح لشدة ما لاقت من الظلم ولا ناصر لها ولا معين!

(٣) لا يظنن أحد أن سلمان أراد أن يعلّمها فأمرها بالرجوع إلى دارها ، وإنما كان مأمورا من قبل أمير المؤمنين بأن يبلغ الصدّيقة الطاهرة ، من هنا عند ما قال لها سلمان إن الإمام عليه‌السلام بعثني إليك ، قالت : سمعا له وطاعة ، دفعا للتصور المذكور.


عمر وضربه على صخرة فانكسر ومرّ عليّ عليه‌السلام على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اي ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، وأتي بعليّ عليه‌السلام إلى السقيفة إلى مجلس أبي بكر ، فقال له عمر : بايع ، قال : فإن لم أفعل فمه؟ قال : إذا والله نضرب عنقك ، قال عليّ عليه‌السلام : إذا والله أكون عبد الله وأخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقتول ، فقال عمر : أما عبد الله المقتول فنعم ، وأما أخا رسول الله فلا ـ حتى قالها ثلاثا ـ وأقبل العبّاس فقال : يا أبا بكر ارفقوا بابن أخي ، فلك عليّ أن يبايعك ، فأخذ العبّاس بيد «الإمام» عليّ عليه‌السلام فمسحها على يدي أبي بكر ، وخلّوا عليّا مغضبا فرفع رأسه إلى السماء ثم قال : اللهم إنك تعلم أن النبيّ الأمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي : إن تمّوا عشرين فجاهدهم ، وهو قولك في كتابك (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) اللهم إنهم لم يتمّوا ـ حتى قالها ثلاثا ـ ثم انصرف (١).

(٦) قال شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (قدس‌سره) (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍):

«ومما أنكر عليه ـ أي أبي بكر ـ ضربهم لفاطمة عليها‌السلام ، وقد روي : أنهم ضربوها بالسياط ، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة : أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ، فسمي السقط (محسنا) ، والرواية بذلك مشهورة عندهم ، وما أرادوا من إحراق البيت عليها ، حين التجأ إليها قوم وامتنعوا عن بيعته ..» (٢).

وروى أعلى الله مقامه الشريف في موضع آخر عدة نصوص منها :

ما عن البلاذري والمدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التميمي عن أبي عون : أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه‌السلام يريده على البيعة ، فلم يبايع ـ ومعه قبس ـ فتلقته فاطمة عليها‌السلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب ، أتراك محرقا عليّ بابي؟ قال : نعم وذلك أقوى فيما جاء به أبوك ، وجاء عليّ فبايع (٣).

__________________

(١) الاختصاص / الشيخ المفيد ص ١٨٥ حديث سقيفة بني ساعدة.

(٢) تلخيص الشافي ج ٣ / ١٥٦ ط / دار الكتب الإسلامية ، الطبعة الثالثة ، قم.

(٣) تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٦ ، والمراد بالبيعة : أي الالتزام بمصافحة أبي بكر ، وإلّا فإن البيعة لا تتم ـ


ـ ومنها ما رواه ابراهيم بن سعيد الثقفي قال : حدثني أحمد بن عمرو البجلي قال : حدثنا أحمد بن حبيب العامري عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمد قال : والله ما بايع عليّ حتى رأى الدخان قد دخل بيته (١).

٧ ـ وروى الشيخ الطبرسي (المتوفى عام ٦٢٠ ه‍):

«فقال ـ أي عمر ـ إن أذن لكم ـ (أي أمير المؤمنين عليه‌السلام) ـ وإلّا فادخلوا عليه بغير إذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذن ، فرجعوا وثبت قنفذ ، فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا فحرّجتنا أن ندخل البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء ، ثم أمر أناسا حوله فحملوا حطبا وحمل معهم فجعلوه حول منزله وفيه عليّ وفاطمة وابناهما عليهم‌السلام ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّا عليه‌السلام : والله لتخرجنّ ولتبايعنّ خليفة رسول الله أو لأضرمنّ عليك بيتك نارا ، ثم رجع فقعد [ظ : قنفذ] إلى أبي بكر وهو يخاف أن يخرج عليّ بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته ، ثم قال لقنفذ : إن خرج وإلّا فاقتحم عليه ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا.

فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر عليّ إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ، فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلا أسود ، وحالت فاطمةعليها‌السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج (٢) من ضرب قنفذ إياها ، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ : اضربها فألجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها وألقت جنينا من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها.

__________________

ـ إلا عن اختيار ورضا ، وهما غير حاصلين عند أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأن الخلافة نص وليست ترشيحا.

(١) تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٦.

(٢) الدملوج : حلي يلبس في المعصم.


ثم انطلقوا بعليّ عليه‌السلام ملببا بحبل حتى انتهوا به إلى أبي بكر وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسائر الناس قعود حول أبي بكر عليهم السلاح ، وهو يقول أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إليّ ، هذا جزاء مني وبالله لا ألوم نفسي في جهد ولو كنت في أربعين رجلا لفرقت جماعتكم ، فلعن الله قوما بايعوني ثم خذلوني ، فانتهره عمر فقال : بايع ، فقال : وإن لم أفعل؟ قال : إذا نقتلك ذلا وصغارا ..» (١).

٨ ـ وروى الشيخ محمد باقر المجلسي أعلى الله مقامه الشريف (١٠٣٧ ـ ١١١١ ه‍) أخبارا كثيرة نقلا عن المصادر المعتبرة كأمالي الشيخ والشافي والتلخيص والاحتجاج وتفسير العياشي والاختصاص وبصائر الدرجات.

فقد روي عن العياشي عمّن روى عنه قال :

«.. فلما قبض نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان الذي كان ، لما قد قضي من الاختلاف ، وعمد عمر فبايع أبا بكر ، ولم يدفن رسول الله بعد ، فلمّا رأى ذلك عليّ عليه‌السلام ورأى الناس قد بايعوا أبا بكر ، خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله وأخذ يجمعه في مصحف ، فأرسل أبو بكر إليه أن تعال فبايع ، فقال عليّ عليه‌السلام : لا أخرج حتّى أجمع القرآن ، فأرسل إليه مرة أخرى فقال : لا أخرج حتى أفرغ ، فأرسل إليه الثالثة عمر رجلا يقال له قنفذ ، فقامت بنت رسول الله صلوات الله عليها تحول بينه وبين عليّ عليه‌السلام فضربها ، فانطلق قنفذ ، وليس معه عليّ ، فخشي أن يجمع عليّ الناس ، فأمر بحطب فجعل حوالي بيته ثم انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على عليّ بيته وعلى فاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، فلما رأى عليه‌السلام ذلك خرج فبايع كارها غير طائع(٢).

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٢٣١ ح ١٦.


وفي رواية المفضل بن عمر قال : قال عمر : اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلّا قتلناك ، وقول فضة جارية فاطمة : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام مشغول والحقّ له إن أنصفتم من أنفسكم وأنصفتموه ، وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة ، وإضرامهم النار على الباب ، وخروج فاطمة إليهم وخطابها لهم من وراء الباب (١).

٩ ـ وروي عن العلّامة الحسن بن يوسف المطهر الحلي قدس‌سره (٦٤٨ ـ ٧٣٦ ه‍) قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ عليه‌السلام فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ للبيعة (٢).

ثم روى (٣) الحلي أعلى الله مقامه الشريف عدة أخبار عن الطبري والواقدي وابن خيزرانة وابن عبد ربه.

وبالجملة : إن هجوم عمر على دار سيّدة الطهر مولاتنا فاطمة عليها‌السلام وعزمه على إحراقها بمن فيها لا مجال لنكرانه ، فقد رواه عامة المؤرخين من العامة ـ حسبما تقدم في بحثنا هذا ـ ومما يدل أيضا على ذلك : اعتراف الخصم بذلك ، فذاك القاضي عبد الجبّار شيخ المعتزلة يردّ على الشيعة معترضا عليهم بقوله : «إن حديث الإحراق ما صح ، ولو صح لم يكن طعنا لأن له ـ أي لعمر ـ أن يهدّد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين» (٤).

وردّ عليه السيّد المرتضى عليه الرحمة في الشافي :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ١٨.

(٢) نفس المصدر ج ٢٨ / ٣٣٨ ح ٥٩ ونهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص ٢٧٠ ط / مؤسسة دار الهجرة ، قم.

(٣) كشف الصدق ص ٢٧١.

(٤) الشافي ج ٤ / ١١٩.


أولا : بأن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممن لا يتّهم على القوم ، وأن دفع الروايات من غير حجة لا يجدي شيئا ، فروى البلاذريّ وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة ، والضبط لما يرويه معروفة ، عن المدائني عن سلمة بن محارب عن سليمان التيمي عن ابن عون : أن أبا بكر أرسل إلى عليّ عليه‌السلام يريده على البيعة فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه قبس فلقيته فاطمةعليها‌السلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب أتراك محرقا عليّ داري؟ قال : نعم وذلك أقوى فيما جاء به أبوك ..

وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة ، وإنما الطريف أن يرويه شيوخ محدّثي العامة.

وروى إبراهيم بن سعيد الثقفي بإسناده عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال : والله ما بايع عليّعليه‌السلام حتى رأى الدخان قد دخل بيته.

ثانيا : بأن من اعتذر به من حديث الإحراق إذا صحّ ، طريف وأيّ عذر لمن أراد أن يحرق على أمير المؤمنين وفاطمة عليهما‌السلام منزلهما ، وهل يكون في ذلك علّة تصغى إليه ، وإنما يكون مخالفا للمسلمين ، وخارقا لإجماعهم ، إذا كان الإجماع قد تقرّر وثبت ، وإنما يصحّ لهم الإجماع متى كان أمير المؤمنين ومن قعد معه عن البيعة ممن انحاز إلى بيت فاطمة عليها‌السلام داخلا فيه وغير خارج عنه ، وأيّ إجماع يصح من خلاف أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده فضلا عن أن يتابعه غيره ، وهذه زلته من صاحب الكتاب ـ أي كتاب المغني ـ وممن حكى احتجاجه (١).

ثالثا : إن التهديد بإحراق الدار من أجل البيعة غير جائز عقلا ونقلا :

أمّا عقلا : فلأن المبايعة قهرا توجب كبت الحريات وقمع الأفكار ، وتقديم المفضول على الأفضل وهو قبيح. وأمّا شرعا : فلأن أبا بكر ليس منصوصا عليه ،

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ وبحار الأنوار ج ٢٨ / ٣١١.


فكيف تؤخذ له البيعة ، وهو نفسه قد بايع أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام يوم غدير خم ، هذا مضافا إلى أن إكراه الناس لا سيّما سيّدهم وأميرهم عليّ المرتضى وزوجه المطهّرة فاطمة عليها‌السلام اللذين يدور الحق معهما حيثما دارا يوجب الكفر والارتداد ، عدا عن أنه لا يحق إكراه الناس على قبول الدين حتى اليهود والنصارى وعبدة الأوثان (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فكيف إذا كانت البيعة لغير الدين ، وهل يأمر الدين الشيخين أبا بكر وعمر أن يجبرا الناس على مبايعتهما في حين أن الله لم يكره الناس على الدين ، وإذا كان كذلك فلم لم يجبرا اليهود والنصارى على غير البيعة ، وهل أن الله سبحانه فوّض أمر دينه للشيخين؟ وهل البيعة أهم من الدعوة إلى نبذ الوثنية ، وإذا كان كذلك فما بال الشيخين لم يشاركا في معركة أيام الدعوة إلى الإسلام ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام؟!!

فإن قيل : إن البيعة لأجل إقامة الدين.

قلنا : إن البيعة التي تمت في عهد أبي بكر لم يأمر الله تعالى بها حتى يدّعى أنها لإقامة الدين ، بل هي بهذا الوصف لإبليس اللعين ، مع أن الله تعالى قد أمر يوم غدير خم بالبيعة لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فإقامة بيعة أخرى بالقهر والاضطهاد بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

وعلى فرض أن بيعة أبي بكر كانت للدين ـ وحاشا أن تكون كذلك ـ فهل كان قهر أمير المؤمنين ومن أحبّ الله ورسوله ، وأحبه الله ورسوله من إقامة الدين؟ وكذا قهر زوجه الزهراء التي كان رسول الله يقبّل يدها ويقوم من مجلسه لها ويغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها؟!

فإذا كانت البيعة للدين ، فأهل البيت عليهم‌السلام الذين أراد قهرهم أبو بكر على البيعة هم أساس الدين ، وفي بيتهم نزل الكتاب المبين وطهّرهم في محكم التنزيل ، فكيف يسوغ لعمر بن الخطاب أن يهدّدهم بالإحراق وبيوتهم مهبط الوحي والتنزيل؟!


تبا ليد حملت قبس نار لتحرق بيوت الله تعالى ، وتعسا لسواعد أرادت طمس معالم الحق ، وهي تدّعي أنّها على سنّة نبيّه وهديه!

النقطة الثانية :

الدخول إلى الدار.

وهو متفق عليه بين جميع المؤرخين من الطرفين ، وأظن أنّ الشاكّ فيه يكون شاكا في المسلّمات التاريخية! ..

(١) قال ابن قتيبة الدينوري :

«... وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليّا عليه‌السلام فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع ..» (١).

والإخراج ملازم لدخول الدار بلا إشكال.

(٢) وقال الطبري :

«أن عمر أتى منزل عليّ عليه‌السلام وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ..».

وقال في موضع ثان :

«فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال : لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان ..» (٢).

ومعلوم أن انطلاقة عمر إنما كانت إلى منزل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لا لمكان آخر سواه.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ج ١ / ٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.


(٣) قال ابن الأثير :

«.. إن جماعة من الأنصار قالوا : لا نبايع إلّا عليّا وقد تخلّف عليّ عليه‌السلام وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة ، وقال الزبير : لا أغمد سيفا حتى يبايع عليّ ، فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر ، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة ..» (١).

(٤) روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن أبي زيد عمر بن شبّة ، عن إبراهيم بن المنذر ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير ، فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش ، وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ، ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، فاعتذر إليهم وقال : إن بيعتي كانت فتلة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة» (٢).

وروى مثله عن الشعبي وقد تقدم مصدره.

(٥) قال اليعقوبي :

«وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في منزل فاطمة بنت رسول الله فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار وخرج الإمام عليّعليه‌السلام .. فخرجت فاطمة عليها‌السلام وقالت : والله لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري ولأعجنّ إلى الله ، فخرجوا وخرج من كان في الدار» (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٦ / ٢٠٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٦.


ملاحظة :

ليس المقصود من كشف شعرها روحي فداها أنها أرادت أن تكشفه أمام الرجال المقتحمين دارها ـ حسبما سمعته من بعض المشكّكين ـ حاشاها ـ بأبي وأمي ـ كيف! وهي الكاملة الطاهرة المطهّرة ، تتنزه عن هذا الفعل أبسط النساء المتدينات ، فكيف بسيّدة نساء العالمين!

(٦) اعتراف أبي بكر بكشفه دار الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، حيث ندم وهو على فراش الموت على فعلته الشنعاء فقال :

«إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث أني تركتهنّ ... إلى أن قال : فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب» (١).

إن مقاله الأخير «وإن كانوا قد غلّقوه ..» يكشف عن سوء عقيرته ، وأنه ينفث عن حقد على آل بيت النبوة ، إنّ أبا بكر يقلب الحقائق بذيل كلامه ، إذ لو غلّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بيته على حرب لما كان أمكنهم الدخول إلى داره ، وهم يعلمون شدة بطشه وقوة جنانه ، ومن ذا يقدر على مواجهة مولى الثّقلين عليّ المرتضى عليه‌السلام إلّا إذا كان متهورا ويحب الانتحار ، لكنّ القوم لمّا عرفوا أنه موصى تجرءوا على ذلك الطود الشامخ ، هيكل القداسة والعظمة أمير المؤمنين عليّ روحي فداه ، لذا قادوه كما يقاد الجمل المخشوش ، من هنا كان سوقه إلى أبي بكر سوقا عنيفا امتحانا لهذه الأمة المتخاذلة التي وقفت تنظر إلى المظلومية بعين الرضا والطمع والتملق إلى خليفتهم أبي بكر (إن الطيور على أشكالها تقع) ، ولا أحد يحرّك ساكنا ليرفع الضيم عن ذاك الطود العظيم الذي طالما أعزّ به الإسلام والمسلمين ، وطالما أعطى كل ما لديه لنصرة الدين ، لكنه كوفئ بالقهر

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٩ والأموال لأبي عبيد ص ١٣١ والإمامة والسياسة ج ١ / ٣٦ والمسعودي في مروج الذهب ج ١ / ٤١٤ والعقد الفريد لابن عبد ربه ج ٢ / ٢٥٤.


والاعتداء ، وصدق عدي بن حاتم حينما قال :

«والله ما رحمت أحدا قط رحمتي على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين أتي به ملبّبا بثوبه ، يقودونه إلى أبي بكر ..» (١).

وقد روى قصة الاقتحام إلى دار الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام عامة مؤرخي الإمامية ، بل إننا ندّعي الإجماع على ذلك ، وما تقدّم في النقطة الأولى يجري هنا في هذه النقطة بالذات ، ونؤكد أن:

١ ـ الشيخ الجليل سليم بن قيس «أعلى الله مقامه الشريف» قال :

«قال عمر للصدّيقة الطاهرة : افتحي الباب وإلّا أحرقنا عليكم بيتكم ، فقالت : يا عمر أما تتقي الله ، تدخل عليّ بيتي؟

فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمةعليها‌السلام وصاحت : يا أبتاه! يا رسول الله ، فرفع السوط فضرب به ذراعها ..» (٢).

٢ ـ الشيخ الجليل أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي قال :

«قالت ـ أي مولاتنا المعظّمة فاطمة عليها‌السلام ـ أنفذوا إلى دارنا قنفذا ومعه خالد بن الوليد ليخرجا ابن عمي إلى سقيفة بني ساعدة لبيعتهم الخاسرة .. فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت فأخذت بعضادتي الباب وقلت : ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفّوا عنا وتنصرفوا ، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فردّه عليّ ..» (٣).

__________________

(١) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى ج ٢ / ٥٤٤ أحمد الرحماني الهمداني ، ط / مؤسسة النعمان ، وتلخيص الشافي ج ٣ / ٧٩ وأعلام النساء ج ٣ / ١٢٠٦ وشرح النهج ج ٢ / ٨ و ١٩.

(٢) كتاب سليم بن قيس ص ٧٥ و ٢٣١.

(٣) الهداية الكبرى ص ١٧٩ وص ٤٠٧.


٣ ـ الشيخ المؤرخ المسعودي الهذلي قال :

«فوجهوا إلى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ..» (١).

٤ ـ الشيخ أبي محمّد الحسن بن محمّد الديلمي قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأما ابنتي فاطمة فإنها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهي بضعة مني ونور عيني وثمرة فؤادي .. وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي كأني بها ، وقد دخل الذل بيتها وغصب حقها وكسر جنبها وأسقطت جنينها ..» (٢).

٥ ـ الشيخ المفيد قال :

«.. فأجافت الباب وأغلقته ، فلمّا انتهوا إلى الباب ، ضرب عمر الباب برجله فكسره ـ وكان من سعف ـ فدخلوا على عليّ عليه‌السلام وأخرجوه ملبّبا» (٣).

وقال في موضع آخر :

«.. وإذا فاطمة عليها‌السلام واقفة على بابها ، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول : لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم ..» (٤).

٦ ـ الشيخ أبي منصور الطبرسي قال :

«.. فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر عليّ إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ..» (٥).

__________________

(١) إثبات الوصية ص ١٥٥.

(٢) إرشاد القلوب ج ٢ / ٢٦٣ نقلا عن أمالي الشيخ الصدوق ص ١٠٠ المجلس ٢٤ ح ٢ ط / قم.

(٣) الاختصاص ص ١٨٦.

(٤) أمالي الشيخ المفيد ص ٥٠ المجلس السادس.

(٥) الاحتجاج ج ١ / ١٠٩.


وهكذا رواه عامة المؤرخين (١) من الصدر الأول إلى يومنا هذا.

النقطة الثالثة :

ضرب الصديقة الزكية فاطمة وتكسير أضلاعها وإسقاط جنينها.

وهذه النقطة بعناصرها الثلاثة متفرّعة على دخول الدار ، لوجود قرائن وشواهد تثبت ذلك ، وحيث وكما عرفت ـ أخي القارئ ـ أن دخولهم إلى الدار ثابت عند الفريقين فلا مجال للتشكيك بالقضية إرضاء للعامة.

أما الضرب : فقد رواها من العامة ثلة منهم أمثال :

(١) ما رواه ابن سعد ، عن يزيد بن هارون ، عن ابراهيم بن سعد ، عن محمّد بن إسحاق عن عليّ بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن سلمى ، قالت : مرضت فاطمة عليها‌السلام .. ثم قالت: يا أمّه ، إني مقبوضة الساعة ، وقد اغتسلت ، فلا يكشفن أحد لي كتفا. قالت : فماتت ، فجاء عليّ عليه‌السلام فأخبرته ، فقال : لا والله ، لا يكشف لها أحد كتفا إلخ ..» (٢).

وروى المجلسي عليه الرحمة نفس الحديث مرفوعا إلى سلمى أم أبي رافع قالت : كنت عند فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكواها التي ماتت فيها ، قالت : فلما كان في بعض الأيام وهي أخفّ ما نراها ، فغدا عليّ بن أبي طالب في حاجته وهو يرى يومئذ أنها أمثل ما كانت ، فقالت : يا أمّه اسكبي لي غسلا ، ففعلت ، فاغتسلت كأشد ما رأيتها ، ثم قالت لي : إني قد فرغت من نفسي فلا أكشفن أني مقبوضة الآن ثم توسدت يدها اليمنى واستقبلت القبلة فقبضت.

فجاء عليّ عليه‌السلام ونحن نصيح فسأل عنها فأخبرته فقال : إذا والله لا تكشف

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ١٢٠ ، تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٩ ، تفسير العياشي ج ٢ / ٧٠ والبحار ج ٥٣ / ١٩ وج ٢٨ / الباب الرابع. فاطمة بهجة قلب المصطفى ج ٢ / فصل ٣١ ، ومأساة الزهراء.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٨ / ٢٧ ط / صادر وص ١٨ ط / ليدن وسير أعلام النبلاء ج ٢ / ١٢٩.


فاحتملت في ثيابها فغيّبت (١).

(٢) ما اعترضه القاضي عبد الجبار أحد أكابر المعتزلة في كتابه «المغني» ، واعتراضه على الشيعة دليل على شهرة القضية وأنها من المسلّمات عندنا ، قال :

«ومن جملة ما ذكروه من الطعن (على أبي بكر وعمر) ادعاؤهم أن فاطمة عليها‌السلام لغضبها على أبي بكر وعمر وصّت أن لا يصلّيا عليها ، وأن تدفن سرا عنهما ، فدفنت ليلا ، وادّعوا برواية عن جعفر بن محمّد عليها‌السلام وغيره أن عمر ضرب فاطمة عليها‌السلام بالسوط وضرب الزبير بالسيف ، وذكروا أن عمر قصد منزلها ، وعليّ والزبير والمقداد وجماعة ممن تخلّف عن بيعة أبي بكر مجتمعون هناك» (٢).

(٣) ابن أبي الحديد المعتزلي يستنكر على الشيعة أمورا مستهجنة منها :

أن عمر ضرب الزهراء عليها‌السلام بالسوط فصار في عضدها كالدملج ، وبقي أثره إلى أن ماتت وأن عمرا ضغطها بين الباب والجدار فصاحت : «يا أبتاه يا رسول الله وألقت جنينا ميتا ..»(٣).

(٤) الدينوري في المعارف ـ حسبما نقل عنه ابن شهرآشوب ـ قال :

«أن محسنا فسد من زخم قنفذ العدوي» وقد لعبت يد الدّس والتحريف في الكتاب ، فأثبتوا فيه غير ذلك (٤).

(٥) النقيب أبو جعفر العلوي البصري قال :

«.. إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباح دم هبّار الأسود لأنه روّع زينب بنت محمّد فألقت ذات بطنها ، فظهر الحال أنه لو كان حيّا لأباح دم من روّع فاطمة حتى ألقت

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣ / ١٨٧.

(٢) الشافي ج ٤ / ١١٠ نقلا عن المغني.

(٣) شرح النهج ج ٢ / ٦٠ تحقيق أبو الفضل ابراهيم ، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة / الميرزا حبيب الله ج ٣ / ٣٧٢ ط / الوفاء.

(٤) المناقب ج ٣ / ٣٥٨.


ذا بطنها» (١).

(٦) إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام قال :

«إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح أحرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام» (٢).

ونقل الأسفرائيني معترضا على النظّام لأنه :

«طعن على الفاروق عمر وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه ، وشك في وفاة النبيّ وأنه كان ممن نفر بالنبيّ ليلة العقبى وأنه ضرب فاطمة» (٣).

(٧) وقال العسقلاني :

«أن محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي الحافظ بعد أن أرّخ موته قال : كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته يقرأ عليه : أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن» (٤).

(٨) روى الجويني في خبر طويل :

«كأني لها ـ والناظر هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها وغصب حقها ومنعت إرثها وكسر جنبها وأسقطت جنينها» (٥).

وقد أثبتت هذه النصوص إسقاط الجنين أيضا.

(٩) ونقل الذهبي في ترجمة أحمد بن محمد بن السري ، عن محمد بن أحمد بن حمّاد الكوفي أنه أرّخ موت السري وقال : كان مستقيم الأمر عامة دهره

__________________

(١) شرح النهج ج ١٤ / ١٩٢.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٥٧.

(٣) الفرق بين الفرق ص ١٠٧.

(٤) لسان الميزان ج ١ / ٢٩٣.

(٥) فرائد السمطين ج ٢ / ٣٦.


ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن (١).

وأمّا النصوص من كتب الشيعة فكثيرة ، وفيما يلي زيادة على ما تقدّم :

١ ـ ما رواه الشيخ الصدوق ، حيث ذكر المسألة بعناصرها الثلاثة : الضرب والكسر والإسقاط (٢).

٢ ـ ما رواه الشيخ المجلسي ، حيث تعرّض لذكر القضية بالعناصر الثلاثة ، تعقيبا على ما ورد في صحيحة محمّد بن يحيى عن أبي الحسن عليه‌السلام : أن فاطمة صدّيقة شهيدة (٣) ، فقال : «إن هذا الخبر يدل على أن فاطمة صلوات الله عليها كانت شهيدة وهو من المتواترات ، وكان سبب ذلك أنهم لما غصبوا الخلافة وبايعهم أكثر الناس ، بعثوا إلى أمير المؤمنين ليحضر للبيعة ، فبعث عمر بنار ليحرق على أهل البيت بيتهم وأرادوا الدخول عليه قهرا ، فمنعتهم فاطمة عند الباب ، فضرب قنفذ غلام عمر الباب على بطن فاطمة فكسر جنبيها ، وأسقطت لذلك جنينا كان سمّاه رسول الله محسنا ، فمرضت لذلك وتوفيت صلوات الله عليها في ذلك المرض (٤).

ملاحظة هامة :

أشار هذا الخبر إلى أن جنبيّ الصديقة الطاهرة قد تكسرا ، مما يعني أن أضلاعا قد تكسّرت ويشهد له ما ورد بالمستفيض : «وكسر جنبها» (٥) ، وما ورد في خبر أن ضلعها قد كسر ، إشارة إلى ضلع الصدر ، فلا منافاة بين كسر الضلع وبين

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣٩ في ترجمة أحمد بن محمّد السري ، وقد عبّر عنه الذهبي : «بأنه رافضي كذّاب».

(٢) أمالي الصدوق ص ٩٩.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٨ ح ٢ باب مولد الصدّيقة الزهراء ح ٢.

(٤) مرآة العقول ج ٥ / ٣١٨.

(٥) إرشاد القلوب ج ٢ / ٢٦٣ وأمالي الصدوق ص ١٠٠ وكتاب سليم ص ٧٥ و ٢٣١.


تكسير أضلاع الجنبين ، فيكون هناك ثلاثة كسور : كسر في وسط صدرها من جراء مسمار الباب ، وكسران على الأطراف.

(٣) وروى الخصيبي عليه الرحمة :

«وركل عمر برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستة أشهر ، وإسقاطها وصرختها عند رجوع الباب ، وهجوم عمر وقنفذ وخالد ، وصفقة عمر على خدها حتى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر وهي تجهر بالبكاء وتقول : يا أبتاه يا رسول الله ابنتك فاطمة تضرب ويقتل جنين في بطنها وتصفق يا أبتاه ، ويسقف [ويصفق] خد لها لما كانت تصونه من ضيم الهوان يصل إليه من فوق الخمار ..» (١).

وفي موضع آخر قال : فصاح أمير المؤمنين بفضة : إليك مولاتك فاقبلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة وردة الباب فأسقطت محسنا عليه قتيلا (٢).

(٤) ما رواه الشيخ أبي عبد الله محمد بن النعمان العكبري البغدادي :

«فأبت أن تدفعه (٣) إليه ، فرفسها برجله وكانت حاملة بابن اسمه المحسن (محسن) فأسقطت محسنا من بطنها ثم لطمها ، فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نقفت ، ثم أخذ الكتاب فخرقه ، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوما مريضة مما ضربها عمر ، ثم قبضت ..» (٤).

وما جاء في خبر إثبات الوصية للمسعودي : من أن القوم أحرقوا بابها وضغطوا سيّدة النساء الباب حتى أسقطت محسنا». وكذا خبر دلائل الإمامة (٥)

__________________

(١) الهداية الكبرى ص ٤٠٧.

(٢) الهداية الكبرى ص ٤٠٨.

(٣) أي الكتاب الذي اعترف لها فيه أبو بكر أن فدكا حقّ لها عليها‌السلام.

(٤) الاختصاص ص ١٨٥.

(٥) دلائل الإمامة ص ٤٦ وإثبات الوصية ص ١٥٥.


الصحيح السند الدال على «أن عمر بن الخطاب لكزها بنعل سيفه فأسقطت محسنا» لدلالة كبرى على ثبوت الاعتداء على الصدّيقة الطاهرة ، ويؤيد هذا ما ورد أيضا :

١ ـ أن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام قال للمغيرة بن شعبة : وأنت ضربت فاطمة بنت رسول الله حتى أدميتها وألقت ما في بطنها ، استذلالا منك لرسول الله ومخالفة منك لأمره ، وانتهاكا لحرمته ، وقد قال لها رسول الله : «أنت سيّدة نساء أهل الجنّة» ، والله مصيرك إلى النار ..»(١).

٢ ـ ما ورد عن المفضل قال : وضرب عمر لها بالسوط على عضدها ، حتى صار كالدملج الأسود ، وركل الباب برجله ، حتى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستة أشهر وإسقاطها إياه (٢).

٣ ـ ما ذكره ابن طاوس بزيارة لها عليها‌السلام جاء فيها : «وصلّ على البتول الطاهرة .. المغصوبة حقها ، الممنوعة إرثها ، المكسورة ضلعها ، المظلوم بعلها ، المقتول ولدها ..» (٣).

٤ ـ ما ذكره الشيخ محمّد باقر المجلسي نقلا عن الشيخ الطوسي في زيارة للصدّيقة الطاهرة جاء فيها :

«السلام عليك يا بنت رسول الله ، السلام عليك يا بنت نبيّ الله ، السلام عليك يا بنت حبيب الله ، السلام عليك يا بنت خليل الله ، السلام عليك يا بنت صفيّ الله ، السلام عليك يا بنت أمين الله ، السلام عليك يا بنت أفضل أنبياء الله ورسله وملائكته ، السلام عليك يا بنت خير البريّة ، السلام عليك يا سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، السلام عليك يا زوجة ولي الله وخير الخلق بعد رسول الله ، السلام عليك يا أمّ الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، السلام

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٤ / ٨٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٣ / ١٩.

(٣) إقبال الأعمال ص ٦٢٥.


عليك أيتها الصدّيقة الشهيدة ، السلام عليك أيتها الرضيّة المرضيّة ، السلام عليك أيتها الزكية ، السلام عليك أيتها الحوراء الإنسيّة ، السلام عليك أيتها التقية النقيّة ، السلام عليك أيتها المحدّثة العليمة ، السلام عليك أيتها المغصوبة المظلومة ، السلام عليك أيتها المضطهدة المقهورة ، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله ورحمة الله وبركاته ...» (١).

٥ ـ وورد في زيارة أخرى لها ذكرها الشيخ الكفعمي في البلد الأمين جاء فيها :

«السلام عليك يا رسول الله ، السلام على ابنتك الصدّيقة الطّاهرة ، السلام عليك يا فاطمة يا سيّدة نساء العالمين ، السلام عليك أيتها البتول الشهيدة ، لعن الله مانعك إرثك ودافعك عن حقّك والرادّ عليك قولك ، لعن الله أشياعهم وأتباعهم وألحقهم بدرك الجحيم ، صلّى الله عليك وعلى أبيك وبعلك وولدك الأئمة الراشدين وعليهم‌السلام ورحمة الله وبركاته» (٢).

٦ ـ وأورد الشيخ المفيد زيارة لها عليها‌السلام جاء فيها :

«السلام عليك يا رسول الله ، السلام على ابنتك الصدّيقة الطّاهرة ، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله ، السلام عليك أيتها البتول الشهيدة الطاهرة ، لعن الله من ظلمك ومنعك حقك ودفعك عن إرثك ، ولعن الله من كذّبك وأعنتك وغصّصك بريقك وأدخل الذلّ بيتك ، ولعن الله أشياعهم وألحقهم بدرك الجحيم ، وصلّى الله عليك يا بنت رسول الله وعلى أبيك وبعلك وولدك الأئمة الراشدين عليك وعليهم‌السلام ورحمة الله وبركاته» (٣).

٧ ـ وروى السيد ابن طاوس زيارة للصدّيقة الشهيدة تزار بها في اليوم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٧ / ١٩٥ ورواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج ٦ / ١٢ ط / دار الأضواء.

(٢) بحار الأنوار ج ٩٧ / ١٩٧ نقلا عن البلد الأمين.

(٣) كتاب المقنعة ص ٤٥٩ ط / دار المفيد ، وكتاب المزار ص ١٧٩ المطبوع مع تصحيح الاعتقاد.


العشرين من جمادى الآخرة وهي :

«السلام عليك يا بنت رسول الله ، السلام عليك يا بنت نبيّ الله ، السلام عليك يا بنت حبيب الله ، السلام عليك يا بنت خليل الله ، السلام عليك يا بنت صفيّ الله ، السلام عليك يا بنت أمين الله ، السلام عليك يا بنت خير خلق الله ، السلام عليك يا بنت أفضل أنبياء الله ، السلام عليك يا بنت خير البريّة ، السلام عليك يا سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، السلام عليك يا زوجة ولي الله وخير خلقه بعد رسول الله ، السلام عليك يا أمّ الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، السلام عليك يا أمّ المؤمنين ، السلام عليك أيتها الصدّيقة الشهيدة ، السلام عليك أيتها الرضيّة المرضيّة ، السلام عليك أيتها الصادقة الرشيدة ، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكية ، السلام عليك أيتها الحوراء الإنسيّة ، السلام عليك أيتها التقية النقيّة ، السلام عليك أيتها المحدّثة العليمة ، السلام عليك أيتها المعصومة المظلومة ، السلام عليك أيتها الطاهرة المطهّرة ، السلام عليك أيتها المضطهدة المغصوبة ، السلام عليك أيتها الغرّاء الزهراء ، السلام عليك يا فاطمة بنت محمّد رسول الله ورحمة الله وبركاته ، صلّى الله عليك يا مولاتي وبنت مولاي وعلى روحك وبدنك ، أشهد أنك مضيت على بيّنة من ربّك ، وأنّ من سرّك فقد سرّ الله ، ومن جفاك فقد جفا رسول الله ، ومن آذاك فقد آذى رسول الله ، ومن وصلك فقد وصل رسول الله ، ومن قطعك فقد قطع رسول الله لأنك بضعة منه وروحه التي بين جنبيه كما قال عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام ، أشهد الله وملائكته أنّي وليّ لمن والاك ، وعدوّ لمن عاداك وحرب لمن حاربك. أنا يا مولاتي بك وبأبيك وبعلك والأئمة من ولدك موقن وبولايتهم مؤمن ولطاعتهم ملتزم ، أشهد أنّ الدين دينهم ، والحكم حكمهم ، وهم قد بلّغوا عن الله عزوجل ودعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة لا تأخذهم في الله لومة لائم ، صلوات الله عليك وعلى أبيك وبعلك وذريّتك الأئمة الطاهرين. اللهم صلّ على محمد وأهل بيته ، وصلّ على البتول الطاهرة الصدّيقة المعصومة التقيّة النقيّة الرضيّة المرضيّة الزكيّة الرشيدة


المظلومة المقهورة ، المغصوبة حقّها ، الممنوعة إرثها ، المكسور ضلعها ، المظلوم بعلها ، المقتول ولدها فاطمة بنت رسول الله وبضعة لحمه وصميم قلبه وفلذة كبده والنخبة منك له والتحفة خصصت بها وصيّه وحبيبه المصطفى وقرينه المرتضى وسيّدة النساء ومبشّرة الأولياء حليفة الورع والزهد ، وتفّاحة الفردوس والخلد ، التي شرّفت مولدها بنساء الجنّة ، وسللت منها أنوار الأئمة ، وأرخيت دونها حجاب النبوّة ، اللهم صلّ عليها صلاة تزيد في محلها عندك وشرفها لديك ومنزلتها من رضاك وبلّغها منّا تحيّة وسلاما وآتنا من لدنك في حبّها فضلا وإحسانا ورحمة وغفرانا إنك ذو العفو الكريم».

قال السيّد ابن طاوس : ثم تصلي صلاة الزيارة وإن استطعت أن تصلّي صلاتها (صلّى الله عليها) فافعل وهي ركعتان تقرأ في كل ركعة الحمد مرة وستين مرّة قل هو الله أحد ، وإن لم تستطع فصلّ ركعتين بالحمد وسورة الإخلاص والحمد وقل يا أيها الكافرون ، فإذا سلّمت قلت : اللهم إني أتوجّه إليك بنبيّنا محمّد وبأهل بيته صلواتك عليهم واسألك بحقّك العظيم عليهم الذي لا يعلم كنهه سواك ، وأسألك بحقّ من حقّه عندك عظيم ، وبأسمائك الحسنى التي أمرتني أن أدعوك بها ، وأسألك باسمك الأعظم الذي أمرت به إبراهيم أن يدعو به الطير فأجابته ، وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت بردا ، وبأحبّ الأسماء إليك وأشرفها وأعظمها لديك وأسرعها إجابة وأنجحها طلبة وبما أنت أهله ومستحقه ومستوجبه وأتوسّل إليك وأرغب إليك وأتضرّع وألحّ عليك ، وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم فإنّ فيها اسمك الأعظم وبما فيها من أسمائك العظمى أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تفرّج عن آل محمّد وشيعتهم ومحبّيهم وعني وتفتح أبواب السماء لدعائي وترفعه في علّيين وتأذن في هذا اليوم وفي هذه الساعة بفرجي وإعطاء أملي وسؤلي في الدنيا والآخرة ، يا من لا يعلم أحد كيف هو وقدرته إلّا هو ، يا من سدّ الهواء بالسماء ، وكبس الأرض


على الماء ، واختار لنفسه أحسن الأسماء ، يا من سمّى نفسه بالاسم الذي يقضى به حاجة من يدعوه ، أسألك بحقّ ذلك الاسم فلا شفيع أقوى لي منه أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تقضي لي حوائجي وتسمع بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعليّ بن موسى ومحمّد بن عليّ وعليّ بن محمّد والحسن بن عليّ والحجّة المنتظر لإذنك صلواتك وسلامك ورحمتك وبركاتك عليهم صوتي ليشفعوا لي إليك وتشفّعهم فيّ ولا تردّني خائبا بحق لا إله إلّا أنت.

وتسأل حوائجك تقضى إن شاء الله تعالى (١).

٨ ـ وورد في زيارتها عليها‌السلام أيام الأسبوع ومما جاء فيها :

«السلام والصلاة على السيّدة فاطمة الزهراء الرشيدة ، السلام على سيّدة نساء العالمين ، وبنت سيّد النبيّين ، وأمّ الأئمة الطاهرين ، فاطمة بنت محمّد الأكرم ، وشقيقة البتول مريم ، أطهر النساء ، وبنت خير الأنبياء ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته.

اللهم صلّ على السيّدة المفقودة ، الكريمة المحمودة ، الشهيدة العالية الرشيدة أمّ الأئمة ، وسيّدة نساء الأمة ، بنت نبيّك ، صاحبة وليّك ، سيّدة النساء ووارثة سيّد الأنبياء ، وقرينة سيّد الأوصياء ، المعصومة من كل سوء ، صلاة طيبة مباركة ، مرفوعة مذكورة ترفع بها ذكرها في محل الأبرار الأخيار ، في أشرف شرف النبيين في أعلا عليّين ، في الدرجات العلى ، في الرفيع الأعلى.

اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وأعل كعبها وأكرم مآبها ، وأجزل ثوابها وادن منك مجلسها ، وشرّف لديك مكانها ومثواها ، وانتقم لها من عدوها ، وضاعف العذاب على من ظلمها ، والنقمة على من غصبها ، وخذ لها يا ربّ

__________________

(١) إقبال الأعمال ص ١٠٠ ـ ١٠٢ وبحار الأنوار ج ٩٧ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ وذكرناها بتمامها ليزورها بها المحبون من شيعتها.


بحقّها ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وأبلغها منّا التحيّة ، واردد علينا منها التحيّة ، والسلام عليها ورحمة الله وبركاته» (١).

٩ ـ وجاء في دعاء صنمي قريش الذي كان يدعو به أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في كلّ صلاة: اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وافكيها وابنتيهما اللذين أكلا أنعامك وجحدا آلائك وخالفا أمرك وأنكرا وحيك وعصيا رسولك وقلّبا دينك وحرّفا كتابك وعطّلا أحكامك وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك وعاديا أوليائك وواليا أعدائك وأفسدا عبادك وأضرّا ببلادك ، اللهم العنهما وأنصارهما فقد أخربا بيت النبوّة وردما بابه ونقضا سقفه وألحقا سمائه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه ، واستأصلا أهله وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله وأخليا منبره من وصيه ووارث علمه وجحدا نبوته وأشركا بربّهما ، فعظّم ذنبهما وخلّدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ، اللهم العنهم بعدد كلّ منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومؤمن أردوه ومنافق ولوه ووليّ أذوه وطريد أووه وصاحب طردوه وكافر نصروه وإمام قهروه وفرض غيّروه وأثر أنكروه وشر أضمروه ودم أراقوه وخبر بدّلوه وحكم قلّبوه وكفر أبدعوه وكذب دلسوه وإرث غصبوه وفيء اقتطعوه وسحت أكلوه وخمس استحلوه وباطل أسسوه وجور بسطوه وظلم نشروه ووعد أخلفوه وعهد نقضوه وحلال حرّموه وحرام حلّلوه ونفاق أسرّوه وغدر أضمروه وبطن فتقوه وضلع كسروه وصك مزّقوه وشمل بدّدوه وذليل أعزوه وعزيز أذلوه وحق منعوه وإمام خالفوه ، اللهم العنهما بكلّ آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيّروها وأحكام عطلوها وأرحام قطعوها وشهادات كتموها ووصية ضيعوها وأيمان نكثوها ودعوى أبطلوها وبيعة أنكروها وحيلة أحدثوها وخيانة أوردوها وعقبة ارتقوها ودباب دحرجوها وأزياف لزموها ، اللهم العنهما في مكنون السرّ وظاهر العلانية لعنا دائما دائبا سرمدا لا انقطاع لأمده ولا نفاد لعدده لعنا يغدو أوله ولا يروح آخره لهم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٩ / ٢٢٠.


ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلّمين عليهم والمائلين إليهم والناهضين باحتجاجهم والمقتدين بكلامهم والمصدّقين بأحكامهم.

ثم قل أربع مرات : اللهم عذّبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين ربّ العالمين (١).

١٠ ـ وورد عن السيّد ابن طاوس في كتاب الطرف نقلا عن كتاب الوصية للشيخ عيسى بن المستفاد الضرير عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عليهم‌السلام قال : لمّا حضرت رسول الله الوفاة دعا الأنصار وقال : يا معشر الأنصار قد حان الفراق .. ثم أوصاهم بوصايا منها قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ـ أيّها الأنصار ـ فاسمعوا ومن حضر ، «أن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله» قال عيسى : فبكى الإمام أبو الحسن عليه‌السلام طويلا ، وقطع بقية حديثه وأكثر البكاء ، ثم قال : هتك والله حجاب الله ، هتك والله حجاب الله ، هتك والله حجاب الله يا أمّه صلوات الله عليها (٢).

١١ ـ قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام: «إن لك كنزا في الجنّة وأنت ذو قرنيها».

قال : قد سمعت بعض المشايخ يذكر أن هذا الكنز هو ولده محسن عليه‌السلام وهو السقط الذي ألقته فاطمة عليها‌السلام لما ضغطت بين البابين (٣).

وحصيلة الأخبار تفيد :

__________________

(١) الصحيفة العلوية / عبد الله بن صالح السماهيجي رحمه‌الله ص ٢٨٣ ـ ٢٨٦.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٢ / ٤٧٦ ح ٢٧.

ملاحظة : ما قرأ هذا الحديث مؤمن إلا وستقطر الدمعة من عينه ، كيف لا؟ وقد هتك حجاب الله بضرب الصدّيقة الطاهرة الزكية وتهشيم أضلاعها وصفعها على خدها الذي طالما قبّله رسول الله ، وإنبات المسمار في صدرها الشريف الذي طالما وضع رسول الله خدّه عليه التماسا للبركة لكونه موضع المسمار ، وإسقاط جنينها ، وسبّها وشتمها الخ ..

(٣) معاني الأخبار ص ٢٠٦ ط / مؤسسة النشر ـ قم.


١ ـ إحراق بابها عليها‌السلام.

٢ ـ اقتحام دارها.

٣ ـ ضربها على خدّها وعضدها وركلها على بطنها حتى أسقطت جنينها.

٤ ـ ضغطها بين الحائط والباب.

٥ ـ تكسير أضلاع جنبيها وضلع صدرها الشريف.

٦ ـ إخراج أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ملبّبا بالحبل.

٧ ـ نفي الأخوة بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٨ ـ تكذيب الصدّيقة الطاهرة في ملكيتها لفدك.

٩ ـ تمزيق عمر للكتاب (١) الذي اعترف فيه أبو بكر أن فدكا لها وتوهينها أمام جموع المسلمين ، وفي رواية أنه مزّق الصحيفة التي شهد فيها أبوها رسول الله بأن فدكا حق لها ، ولا تعارض بين الروايتين ، إذ لا تنافي بين المثبتات ، وعليه : فإن عمر مزّق الكتابين معا إذلالا منه لمولاتنا فاطمة عليها‌السلام.

وها نحن ـ زيادة على ما قدّمنا ـ سنؤرّخ ما أثبته المؤرخون القدامى عمّا جرى على بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصدّيقة الشهيدة مولاتنا فاطمة الزهراء بنفسي هي وأبي وأمي ، من خلال ثلاثة نصوص تاريخية صحيحة ، أحدها عامي ، والآخران مثبتان في أهم المصادر التاريخية عند الشيعة الإمامية.

وهذه النصوص هي :

١ ـ نص ابن قتيبة الدينوري أحد أكابر علماء العامة قال :

كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه*

«وأن أبا بكر تفقّد قوما تخلّوا عن بيعته عند عليّ كرّم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال :

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ٩٨.


والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص ، إن فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلّا عليّا فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي علي عاتقي حتى أجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تسأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا ، فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليّا ، قال : فذهب إلى عليّ ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال عليّ : لسريع ما كذّبتم على رسول الله ، فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلا. فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه ، فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ ، فأدّى ما أمر به ، فرفع عليّ صوته فقال : سبحان الله؟ لقد ادّعى ما ليس له ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة ، فبكى أبو بكر طويلا ، ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة عليها‌السلام ، فدقّوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليّا ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال ؛ إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق عليّ بقبر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يصيح ويبكي ، وينادي : يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة عليها‌السلام ، فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّا فكلماه ، فأدخلهما عليها ، فلما


قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها ، فلم ترد التحية (السلام) عليهما ، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إن قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أني متّ ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : «لا نورّث ، ما تركنا فهو صدقة» ، فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي ، حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها ، ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس ، فقال لهم : يبيت كلّ رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي. قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم ، وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة (١).

ـ وقال في موضع آخر تحت عنوان : إبانة عليّ كرّم الله وجهه بيعة أبي بكر.

«ثم إن عليّا كرّم الله وجهه أتي به إلى أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم

__________________

(١) الإمامة والسياسة المعروف ب «تاريخ الخلفاء» ج ١ / ٣١.


أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إنّ كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له عليّ : احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعليّ كرّم الله وجهه : يا بن عمّ إنك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال عليّ كرّم الله وجهه : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحقّ الناس به ، لأنا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، المدافع عنهم في الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان. قال : وخرج عليّ كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم على دابّة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع


رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (١).

٢ ـ وروى الخصيبي ، وهو أحد أكابر علماء الإمامية أنّ الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام قالت : لا يصلّي عليّ أمّة نقضت عهد الله وعهد أبي رسول الله وأمير المؤمنين بعلي وظلموني وأخذوا وراثتي وحرقوا صحيفتي التي كتبها أبي بملك فدك والعوالي وكذّبوا شهودي وهم والله جبريل وميكائيل وأمير المؤمنين وأم أيمن وطفت عليهم في بيوتهم وأمير المؤمنين يحملني ومعي الحسن والحسين ليلا ونهارا إلى منازلهم يذكرهم بالله ورسوله لئلا يظلمونا ويعطونا حقّنا الذي جعله الله لنا فيجيبون ليلا ويقعدون عن نصرتنا نهارا ثم ينفذون إلى دارنا قنفذا ومعه خالد بن الوليد ليخرجا ابن عمي إلى سقيفة بين ساعدة لبيعتهم الخاسرة ولا يخرج إليهم متشاغلا بوصاة [بوصايا] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأزواجه وتأليف القرآن وقضاء ثمانين ألف درهم وصّاه بقضائها عنه عدات ودينا فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت فأخذت بعضادتي الباب وقلت : ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفّوا عنّا وتنصرفوا ، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر ، فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فرده عليّ وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر ، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني وجاءني المخاض فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم فهذه أمّة تصلّي عليّ ، وقد تبرّأ الله ورسوله منها وتبرّأت منها.

فعمل أمير المؤمنين بوصيتها ، ولم يعلم بها أحدا وأصبح الناس في البقيع ليلة دفن فاطمةعليها‌السلام أربعون قبرا جددا وأن المسلمين لمّا علموا وفاة فاطمة ودفنها أتوا أمير المؤمنين عليه‌السلام يعزّونه بها ، فقالوا : يا أخا رسول الله أمرت بتجهيزها وحفر تربتها ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قد ووريت ولحقت بأبيها صلّى

__________________

(١) الإمامة والسياسة ج ١ / ٢٨ ـ ٢٩ ـ ٣٠.


الله عليهما فقالوا : أنّا لله وإنّا إليه راجعون تموت بنت محمّد ولم يخلف ولدا غيرها ولا يصلّى عليها ، إن هذا لشيء عظيم.

فقال عليه‌السلام : حسبكم ما جئتم به على الله ورسوله من أهل بيته ولم أكن والله أعصيها في وصيتها التي وصّت بها أن لا يصلّي عليها أحد منكم وما بعد العهد غدر.

فنفض القوم أثوابهم وقالوا : لا بدّ من الصلاة على بنت نبيّنا ومضوا من فورهم إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبرا جددا ، فاستشكل عليهم قبرها بين تلك القبور ، فضجّ الناس ، ولام بعضهم بعضا ، وقالوا : لم تحضروا وفاة بنت نبيّكم ولا الصلاة عليها ولا تعرفون قبرها فتزورونها.

فقال أبو بكر : أتوا نساء المسلمين من ينشر هذه القبور حتى تجدوا فاطمة فتصلّوا عليها ويزار قبرها ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج من داره مغضبا وقد احمرّت عيناه ودارت أوداجه وعلى يده قباه الأصفر الذي لم يكن يلبسه إلّا في كريهة ، يتوكأ على سيفه ذي الفقار ، حتى ورد على البقيع ، فسبق إلى الناس النذير فقال لهم : هذا عليّ قد أقبل كما ترون يقسم بالله لئن بحث من هذه القبور حجر واحد لأضعنّ سيفي على غابر الأمة ، فولى القوم ولم يحدثوا أحداثا.

ـ وقال الخصيبي قدس‌سره في موضع آخر في بيان شكوى سيّدتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ألمّ بها بعد وفاته ، هذا وقد أسلفنا فيما مرّ جزءا من الكلام الوارد هنا نعيد تسطيره دعما للمطلب :

... وتقصّ عليه قصة أبي بكر وإنفاذ خالد بن الوليد وقنفذ وعمر جميعا لإخراج أمير المؤمنين عليه‌السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة واشتغال أمير المؤمنين وضمّ أزواج رسول الله وتعزيتهنّ وجمع القرآن وتأليفه وإنجاز عداته وهي ثمانون ألف درهم باع فيها تالده وطارفه وقضاها عنه وقول عمر له : اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون من البيعة لأمر أبي بكر فما لك أن تخرج عمّا اجتمعنا


عليه فإن لم تفعل قتلناك وقول فضة جارية فاطمة عليها‌السلام : إن أمير المؤمنين عنكم مشغول والحقّ له لو أنصفتموه واتقيتم الله ورسوله ، وسبّ عمر لها وجمع الحطب الجزل على النار لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب [ورقية] (١) وأم كلثوم وفضّة وإضرامهم النار على الباب وخروج فاطمة عليها‌السلام وخطابها لهم من وراء الباب وقولها : ويحك يا عمر ما هذه الجرأة على الله ورسوله تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه وتطفئ نور الله والله متمّ نوره ، وانتهاره لها وقوله : كفّي يا فاطمة فلو أن محمّدا حاضر والملائكة تأتيه بالأمر والنهي والوحي من الله وما عليّ إلّا كأحد المسلمين فاختاري إن شئت خروجه إلى بيعة أبي بكر وإلّا أحرقكم بالنار جميعا ، وقولها له : يا شقيّ عديّ هذا رسول الله لم يبل له جبين في قبره ولا مسّ الثرى أكفانه ، ثم قالت وهي باكية : اللهم إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك وارتداد أمّته ومنعهم إيّانا حقنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيك بلسانه ، وانتهار عمر لها وخالد بن الوليد وقولهم : دعي عنك يا فاطمة حماقة النساء فكم يجمع الله لكم النبوّة والرسالة ، وأخذ النار في خشب الباب ، وأدخل قنفذ لعنه الله يده يروم فتح الباب ، وضرب عمر بها بسوط أبي بكر على عضدها حتى صار كالدملج الأسود المحترق وأنينها من ذلك وبكاها ، وركل عمر الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستة أشهر وإسقاطها وصرختها

__________________

(١) رقيّة هذه بنت أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام من الصهباء أو أمّ حبيب التغلبية التي تزوّجها الأمير عليه‌السلام بعد شهادة الصدّيقة الطاهرة بسنين ، فلم يرو أنه تزوّج في حياة مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ، ولا أن له بنتا باسم رقيّة منها ، فما ورد في المتن من أنها كانت ضمن أولاده من الصدّيقة مخالف للأخبار عندنا ، لذا لا يخلو إقحامها في المتن من أمور هي : إمّا أنّها رقيّة بنت خالتها وهو مردود لأنها توفّت قبل شهادة مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، وإمّا أنها واحدة من نساء المؤمنات كانت في ضيافة الصدّيقة يوم ذاك ، وإمّا دسّ ليحرفوا النّص عن مساره ، وهو الصحيح ويشهد لما قلنا أن النّص عندنا تعرّض لأولادها عليها‌السلام لمّا حملهم أمير المؤمنين وأمهم عليها‌السلام يدور بهم في سواد الليل إلى دور المهاجرين والأنصار ولم يذكر معهم رقيّة هذه ، فتدبّر (من الشارح).


عند رجوع الباب ، وهجوم عمر قنفذ وخالد ، وصفقة عمر على خدّها حتى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر وهي تجهر بالبكاء تقول : يا أبتاه يا رسول الله ابنتك فاطمة تضرب ويقتل جنين في بطنها وتصفق يا أبتاه! ويسقف خدّ لها كنت تصونه من ضيم الهوان يصل إليه من فوق الخمار ، وضربها بيدها على الخمار لتكشفه ورفعها ناصيتها إلى السماء تدعو إلى الله وخروج أمير المؤمنين من داخل البيت محمّر العينين دائر الحدقتين حاسر حتى ألقى ملاءته عليها وضمّها لصدره وقال : يا ابنة رسول الله قد علمتي أن الله بعث أباك رحمة للعالمين فالله الله أن تكشفي أو ترفعي ناصيتك فو الله يا فاطمة لئن فعلت ذلك لا يبقي الله على الأرض من يشهد أن محمّدا رسول الله ولا موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا نوح ولا آدم ولا دابة تمشي علي وجه الأرض ولا طائر يطير في السماء إلّا هلك ، ثم قال لابن الخطاب : لك الويل كل الويل بالكيل من يومك هذا وما بعده وما يليه اخرج قبل أن أخرج سيفي ذا الفقار فأفني غابر الأمة ، فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمن بن أبي بكر وصاروا من خارج الدار ، فصاح أمير المؤمنين بفضّة : إليك مولاتك فاقبلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة وردّة الباب فسقطت محسنا عليه قتيلا وعرّفت أمير المؤمنين إليه التسليم فقال لها : يا فضة لقد عرّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرّفني وعرّف الحسن وعرّف الحسين اليوم بهذا الفعل ونحن في نور الأظلة أنوار عن يمين العرش فواريه بقعر البيت فإنه لاحق بجدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتشكو حمل أمير المؤمنين لها في سواد الليل والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم إلى دور المهاجرين والأنصار يذكرهم بالله ورسوله وعهده الذي بايعوا الله ورسوله عليه في أربع مواطن في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليمهم عليه بإمرة المؤمنين جميعهم فكلّ يعده النصرة ليومه المقبل فلما أصبح قد جمعهم عنده ثم يشكو إليه أمير المؤمنين المحن السبعة التي امتحن بها بعده ونقض المهاجرين والأنصار قولهم لمّا تنازعت قريش في الإمامة والخلافة قد منع لصاحب هذا الأمر حقّه فإذا منع فنحن أولى به من قريش الذين قتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبسوه في فراشه


حتى خرج منهم هاربا إلى الغار إلى المدينة فآويناه ونصرناه وهاجرنا إليه فقالت الأنصار حتى قال من الحزبين منّا أمير ومنكم أمير ، فقام [فأقام] عمر أربعين شاهدا قسامة شهدوا على رسول الله زورا وبهتانا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الأئمة من قريش ، فأطيعوهم ما أطاعوا الله فإن عصوا فالحوهم لحي هذا القضيب ، ورمى القضيب من يده ، فكانت أوّل قسامة زور شهدت في الإسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن رقبوا الأمر إلى أبي بكر وجاءوا يدعوني إلى بيعته فامتنعت إذ لا ناصر لي ..» (١).

٣ ـ وروى ابان بن أبي عياش عن سليم بن قيس وكلاهما ثقتان جليلان من عيون أصحاب الأئمة عليهم‌السلام :

قال سليم رضي الله عنه تعالى : سمعت سلمان الفارسي قال : لمّا قبض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصنع الناس ما صنعوا ، جاء أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح فخاصموا الأنصار ، فخصموهم بحجة عليّ عليه‌السلام فقالوا : يا معشر الأنصار! قريش أحق بالأمر منكم ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريش ، والمهاجرون خير منكم ، لأن الله بدأ بهم في كتابه وفضّلهم ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من قريش ، وقال سلمان : فأتيت عليّا عليه‌السلام وهو يغسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى عليّا أن لا يلي غسله غيره ، فقال : يا رسول الله! من يعينني على ذلك؟ فقال : جبرائيل. فكان عليّ عليه‌السلام لا يريد عضوا إلا قلب له.

فلما غسّله وحنطه وكفنه ، أدخلني فأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فتقدّم عليّ عليه‌السلام وصفّنا خلفه ، وصلّى عليه وعائشة في الحجرة لا تعلم ، قد أخذ الله ببصرها ، ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار ، فكانوا يدخلون ويدعون ويخرجون ، حتى لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلّا صلّى عليه.

__________________

(١) الهداية الكبرى ص ١٧٨ وص ٤٠٦ ـ ٤٠٧.


قال سلمان الفارسي : فأخبرت عليّا عليه‌السلام ، وهو يغسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما صنع القوم وقلت : إن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما يرضون يبايعونه بيد واحدة ، وإنهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه وشماله! فقال عليّ عليه‌السلام : يا سلمان! وهل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله؟ قلت : لا ، إلا أني رأيته في ظله بني ساعدة ، حيث خصمت الأنصار. وكان أول من بايعه المغيرة بن شعبة ، ثم بشير بن سعيد ، ثم أبو عبيدة بن الجراح ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم سالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل.

قال عليه‌السلام : لست أسألك عن هؤلاء ، ولكن تدري من أول من بايعه حين صعد المنبر؟ قلت : لا ، ولكن رأيت شيخا كبيرا يتوكأ على عصاه ، بين عينيه سجادة شديدة التشمير ، صعد المنبر أول من صعد وهو يبكي ويقول : الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك في هذا المكان ، ابسط يدك ، فبسط يده فبايعه ثم قال : يوم كيوم آدم! ثم أنزل فخرج من المسجد فقال عليّ عليه‌السلام : يا سلمان أتدري من؟ قلت : لا ، ولقد ساءتني مقالته ، كأنه شامت بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال عليّ عليه‌السلام : فإن ذلك إبليس ، أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياي يوم غدير خم بأمر الله ، وأخبرهم بأني أولى بهم من أنفسهم ، وأمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ، فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا : إن هذه الأمة أمة مرحومة معصومة ، فما لك ولا لنا عليهم سبيل ، وقد أعلموا مفزعهم وإمامهم بعد نبيّهم ، فانطلق إبليس كئيبا حزينا.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يبايع الناس أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقنا وحجتنا ، ثم يأتون المسجد فيكون أوّل من يبايعه على منبري إبليس بصورة شيخ كبير مشمر يقول كذا وكذا ، ثم يخرج فيجمع شياطينه وأبالسته ، فيخرون سجّدا فيقولون : يا سيّدنا ويا كبيرنا! أنت الذي أخرجت آدم من الجنّة! فيقول أي أمة لا تضل بعد نبيّها؟! كلا زعمتم أن ليس لي


عليهم سبيل ، فكيف رأيتموني صنعت بهم حيث تركوا ما أمرهم الله به من طاعته ، وأمرهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

قال سلمان : فلمّا أن كان الليل حمل عليّ عليه‌السلام فاطمة على حمار ، وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار ، إلا أتاه في منزله فذكرهم حقه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون رجلا ، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رءوسهم ، معهم سلاحهم ليبايعوا على الموت ، فأصبحوا فلم يواف منهم أحد إلا أربعة ، فقلت لسلمان : من الأربعة؟ فقال : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام. ثم أتاهم عليّ عليه‌السلام من الليلة المقبلة ، فناشدهم فقالوا : نصبحك بكرة فما منهم أحد أتاه غيرنا ، ثم أتاهم الليلة الثالثة ، فما أتاه غيرنا ، فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم له ، لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع. فلما جمعه كلّه وكتبه بيده ، تنزيله وتأويله ، والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه عليّ عليه‌السلام : إني لمشغول وقد آليت على نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء ، إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه. فسكتوا عنه أياما ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنادى علي عليه‌السلام بأعلى صوته : أيها الناس! إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشغولا بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية إلا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ، وعلمني تأويلها ثم قال لهم علي عليه‌السلام : لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين.

__________________

(١) سورة سبأ : ٢٠.


ثم قال لهم الإمام عليّ عليه‌السلام : لا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ، ولم أذكّركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ، فقال له عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه! ثم دخل عليّ عليه‌السلام بيته.

وقال عمر لأبي بكر : أرسل إلى عليّ فليبايع ، فإنّا لسنا في شيء حتى يبايع ولو قد بايع أمناه ، فأرسل إليه أبو بكر أجب خليفة رسول الله ، فأتاه الرسول فقال له ذلك ، فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام : سبحان الله ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! إنه ليعلم ويعلم الذين حوله ، أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري! وذهب الرسول فأخبره بما قال له ، قال : اذهب فقل له : أجب أمير المؤمنين أبا بكر فأتاه فأخبره بما قال ، فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : سبحان الله ما والله طال العهد فينسى! والله إنه ليعلم أن الاسم لا يصلح إلا لي ، ولقد أمره رسول الله وهو سابع سبعة فسلموا عليّ بإمرة المسلمين ، فاستفهم هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالوا : أمن الله ورسوله؟ فقال لهما رسول الله : نعم حقا من الله ورسوله ، إنه أمير المؤمنين وسيّد المرسلين وصاحب لواء الغرّ المحجلين ، يتعهده الله عزوجل يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أولياءه الجنّة وأعداءه النار! فانطلق الرسول فأخبره بما قال ، قال فسكتوا عنه يومهم ذلك.

فلما كان الليل حمل عليّ عليه‌السلام فاطمة عليها‌السلام على حمار ، وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسينعليهما‌السلام ، فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أتاه في منزله ، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب منهم رجل غيرنا الأربعة ، فإنّا حلقنا رءوسنا وبذلنا له نصرتنا ، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته ، فلما رأى عليّ عليه‌السلام خذلان الناس إياه ، وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته ، فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع فإنه لم يبق أحد إلا قد بايع غيره ، وغير هؤلاء الأربعة.


وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا ، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما ، فقال له أبو بكر : من نرسل إليه؟ فقال عمر : نرسل إليه قنفذا وهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء ، أحد بني عدي بن كعب ، فأرسله وأرسل معه أعوانا ، وانطلق فاستأذن على عليّ عليه‌السلام ، فأبى أن يأذن لهم فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر ، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما ، فقالوا لم يؤذن لنا ، فقال عمر : اذهبوا فإن أذن لكم وإلا فادخلوا بغير إذن.

فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا علي بيتي بغير إذن ، فرجعوا وثبت قنفذ الملعون ، فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء! ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب ، فحملوا الحطب ، وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة وابناهما ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّا عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام : والله لتخرجنّ يا علي ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، وإلّا أضرمت عليك النار! فقالت فاطمة عليها‌السلام : يا عمر! ما لنا ولك؟! فقال : افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم فقالت عليها‌السلام : يا عمر أما تتقي الله ، تدخل عليّ بيتي؟!

فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمةعليها‌السلام وصاحت : يا أبتاه! يا رسول الله! فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها ، فصرخت يا أبتاه! فرفع السوط فضرب به ذراعها ، فنادت يا رسول الله! لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر! فوثب علي عليه‌السلام فأخذ بتلابيبه ، ثم نثره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته ، وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أوصاه به ، فقال : والذي كرّم محمّدا بالنبوّة يا ابن صهّاك ، لو لا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله لعلمت أنك لا تدخل بيتي.

فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وثار علي عليه‌السلام إلى سيفه ، فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوف أن يخرج علي عليه‌السلام بسيفه ، لما قد


عرف من بأسه وشدته ، فقال أبو بكر لقنفذ : ارجع فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم النار.

فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار عليّ إلى سيفه ، فسبقوه إليه ، وكاثروه وهم كثيرون ، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه فألقوا في عنقه حبلا ، وحالت بينهم وبينه فاطمة عليها‌السلام ، عند باب البيت فضربها قنفذ الملعون بالسوط ، فماتت حين ماتت وإنّ في عضدها كمثل الدملوج من ضربته لعنه الله.

ثم انطلق بعليّ عليه‌السلام يعتل عتلا ، حتى انتهى به إلى أبي بكر وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسائر الناس حول أبي بكر عليهم السلاح.

قال : قلت لسلمان : أدخلوا على فاطمة عليها‌السلام بغير إذن؟!

قال : أي والله وما عليها خمار! فنادت : يا أبتاه! يا رسول الله! فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر ، وعيناك لم تتفقأ في قبرك (١) ، تنادي بأعلى صوتها ، فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون ، ما فيهم إلا باك غير عمر وخالد والمغيرة بن شعبة ، وعمر يقول : إنّا لسنا من النساء ورأيهن في شيء.

قال فانتهوا بعليّ عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو يقول أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لم تصلوا إلى هذا أبدا ، أما والله لا ألوم نفسي في جهادكم ، ولو

__________________

(١) قوله : «وما عليها خمار ، وعيناك لم تتفقأ في قبرك» ، هذان المقطعان نتحفظ بالأخذ بهما وذلك ، أما الأول فلمخالفته للأخبار الأخر الدالة على وجود خمار عليها ، ومنها ما تقدم من خبر الخصيبي من أن عمر ضربها حتى أبرى قرطها تحت خمارها ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلمها بما سيجري عليها ، فعلى أقل تقدير كانت مهيأة لمثل تلك الحالة. وأما الثاني فلمنافاته للأخبار التي دلت على أن الله حافظ لأجسادهم تكريما لها من التغير والحدثان ، وتفقأ العينين مخالف للتكريم ، إلّا إذا كان المراد من «التفقؤ» التغير الجزئي لكنه خلاف معناه اللغوي. وبالجملة : هذان الاعتراضان لا يخلّان بالتواتر الإجمالي للقضية.


كنت استمكنت من الأربعين رجلا لفرقت جماعتكم ، ولكن لعن الله أقواما بايعوني ثم خذلوني. ولما أن بصر به أبو بكر صاح : خلّوا سبيله ، فقال علي عليه‌السلام : يا أبا بكر! ما أسرع ما توثبتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأيّ حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله؟!

وكان قنفذ لعنه الله ، حين ضرب فاطمة عليها‌السلام بالسوط ، حين حالت بينه وبين زوجها ، وأرسل إليه عمر إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها ، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها ، فكسر ضلعها من جنبها ، فألقت جنينا من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت ، صلّى الله عليها من ذلك شهيدة.

قال : ولمّا انتهي بعليّ عليه‌السلام إلى أبي بكر انتهره عمر وقال له : بايع ودع عنك هذه الأباطيل! فقال له عليّ عليه‌السلام : فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا : نقتلك ذلا وصغارا ، فقال له عليّ عليه‌السلام : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال أبو بكر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخا رسول الله فما نقر بهذا. قال : أتجحدون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بيني وبينه؟! قال : نعم ، فأعاد ذلك عليه ثلاث مرات ، ثم أقبل عليهم عليّ عليه‌السلام فقال : يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار! أنشدكم الله أسمعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، فلم يدع عليه‌السلام شيئا قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية للعامة ، إلا ذكّرهم إياه ، قالوا : نعم.

فلمّا تخوّف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه ، بادرهم فقال : كلّ ما قلت حق قد سمعنا بآذاننا ووعته قلوبنا ، ولكن قد سمعت رسول الله يقول بعد هذا إنّا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة. فقال عليّعليه‌السلام ؛ هل أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهد هذا معك؟ فقال عمر : صدق خليفة رسول الله ، قد سمعته منه كما قال ، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل ؛ قد سمعنا ذلك من رسول الله.


فقال عليّ عليه‌السلام : لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاقدتم عليها في الكعبة ، إن قتل الله محمّدا أو مات لتزونّ هذا الأمر عنا أهل البيت! فقال أبو بكر فما علمك بذلك؟ ما أطلعناك عليها! فقال عليه‌السلام : أنت يا زبير ، وأنت يا سلمان ، وأنت يا أبا ذر ، وأنت يا مقداد ، أسألكم بالله وبالإسلام ، أما سمعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ذلك ، وأنتم تسمعون أن فلانا وفلانا حتى عدّ هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتابا ، وتعاهدوا فيه وتعاقدوا على ما صنعوا ، فقالوا : اللهم نعم ، قد سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ذلك لك ، إنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ، وكتبوا بينهم كتابا إن قتلت أو متّ أن يزووا عنك هذا يا عليّ! قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ونابذهم ، وإن أنت لم تجد أعوانا فبايع واحقن دمك.

فقال عليّ عليه‌السلام : أما والله لو أن اولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني وفوا لي ، لجاهدتكم في الله ، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة! وفيما يكذّب قولكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (١) فالكتاب النبوّة ، والحكمة السنّة ، والملك الخلافة ، ونحن آل إبراهيم.

فقام المقداد فقال : يا عليّ! بما تأمرني ، والله إن أمرتني لأضربنّ بسيفي ، وإن أمرتني كففت. فقال عليّ عليه‌السلام : كفّ يا مقداد واذكر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أوصاك به ، فقمت وقلت : والذي نفسي بيده لو لي أني أعلم أني أدفع ضيما وأعزّ لله دينا ، لوضعت سيفي على عنقي ، ثم ضربت به قدما قدما ، أتثبون على أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيّه وخليفته في أمته وأبي ولده؟! فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء.

وقام أبو ذر فقال : أيّتها الأمة المتحيّرة بعد نبيّها ، المخذولة بعصيانها ، إن

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.


الله يقول : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) وآل محمّد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم ، والصفوة السلالة من إسماعيل ، وعترة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة ، والكعبة المستورة والعين الصافية ، والنجوم الهادية والشجرة المباركة ، أضاء نورها وبورك زيتها ، محمّد خاتم الأنبياء وسيّد ولد آدم ، وعليّ وصيّ الأوصياء وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجلين ، وهو الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم ، ووصيّ محمّد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ، كما قال الله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢) فقدّموا من قدّم الله ، وأخّروا من أخّر الله ، واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله.

فقام عمر فقال لأبي بكر وهو جالس فوق المنبر : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك ، أوتأمر به فنضرب عنقه! والحسن والحسين عليهما‌السلام قائمان ، فلمّا سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمّهما عليه‌السلام إلى صدره فقال : لا تبكيا فو الله ما يقدران على قتل أبيكما ، وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : يا أبا بكر! ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم! فأمر بها عمر ، فأخرجت من المسجد وقال : ما لنا وللنساء.

وقام بريدة الأسلمي وقال : أتثب يا عمر على أخي رسول الله وأبي ولده ، وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك؟!

ألستما اللذين قال لكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلقا إلى عليّ وسلّما عليه بإمرة المؤمنين فقلتما : أعن أمر الله وأمر رسوله؟ قال : نعم ، فقال أبو بكر : قد كان

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٣ و ٣٤.

(٢) سورة الأحزاب : ٦.


ذلك ، ولكن رسول الله قال بعد ذلك ، لا يجتمع لأهل بيتي النبوّة والخلافة ، فقال : والله ما قال هذا رسول الله ، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير! فأمر به عمر فضرب وطرد.

ثم قال : قم يا ابن أبي طالب ، فبايع! فقال : فإن لم أفعل؟ قال : إذا والله نضرب عنقك! فاحتج عليهم ثلاث مرات ، ثم مدّ يده من غير أن يفتح كفه ، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه ، فنادى عليّ عليه‌السلام قبل أن يبايع والحبل في عنقه : (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (١).

وقيل للزبير : بايع ، فأبى ، فوثب إليه عمر وخالد والمغيرة بن شعبة في أناس ، فانتزعوا سيفه فضربوا به الأرض حتى كسروه ، ثم لبّبوه ، فقال الزبير وعمر على صدره : يا ابن صهّاك! أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني ، ثم بايع.

قال سلمان : ثم أخذوني فوجئوا عنقي حتى تركوها كالسلعة ، ثم أخذوا يدي فبايعت مكرها ، ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين ، وما بايع أحد من الأمة مكرها غير عليّ عليه‌السلام وأربعتنا ، ولم يكن منا أحد أشدّ قولا من الزبير ، فإنه لمّا بايع قال : يا ابن صهّاك! أما والله لو لا هؤلاء الطغاة الذين أعانوك ، لما كنت تقدم عليّ ومعي سيفي ، لما أعرف من جبنك ولؤمك ، ولكن وجدت طغاة تقوى بهم وتصول.

فغضب عمر وقال : أتذكر صهّاك؟ فقال : [ومن صهّاك] وما يمنعني من ذكرها؟ وقد كانت صهّاك زانية ، أو تنكر ذلك؟! أو ليس كانت أمة حبشية لجدّي عبد المطلب فزنى بها جدّك نفيل فولدت أباك الخطّاب فوهبها عبد المطلب لجدّك بعد ما زنى بها فولدته ، وأنه لعبد لجدّي ولد زنى؟ (٢).

ثم إن مولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام بلغها أن أبا بكر قبض فدك ، فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، تريد أن تأخذ

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥٠.

(٢) كتاب سليم ص ٧٠ ـ ٨٠ ، وص ٢٣١ ط / دار الإرشاد ، وج ٢ / ٥٧٧ ـ ٥٩٤.


مني أرضا جعلها لي رسول الله وتصدّق بها عليّ من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب؟ أما كان قال رسول الله المرء يحفظ في ولده ، وقد علمت أنه لم يترك لولده شيئا غيرها؟! فلمّا سمع أبو بكر مقالتها والنسوة معها ، دعا بدواة ليكتب به لها ، فدخل عمر فقال : يا خليفة رسول الله! لا تكتب لها حتى تقيم البيّنة بما تدّعي ، فقالت مولاتنا فاطمة : نعم أقيم البيّنة ، قال : من؟ قالت : عليّ وأم أيمن ، فقال عمر : لا تقبل شهادة امرأة عجمية لا تفصح ، وأما عليّ فيجوز النار إلى قرصه.

فرجعت فاطمة عليها‌السلام وقد جرعها من الغيظ ما لا يوصف فمرضت ، وكان عليّ عليه‌السلام يصلّي في المسجد الصلوات الخمس ، فلما صلّى ، قال له أبو بكر وعمر : كيف بنت رسول الله إلى أن ثقلت فسألا عنها وقالا : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت ، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا ، قال ذاك إليكما ، فقاما فجلسا بالباب ، ودخل عليّ على فاطمة ، فقال لها : أيّتها الحرة فلان وفلان بالباب يريدان أن يسلّما عليك فما ترين؟ قالت عليها‌السلام : البيت بيتك والحرة زوجتك ، وافعل ما تشاء ، فقال ؛ شدي قناعك فشدت قناعها وحوّلت وجهها إلى الحائط.

فدخلا وسلّما وقالا : ارضي عنا رضي الله عنك ، فقالت : ما دعاكما إلى هذا؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك ، فقالت : فإن كنتما صادقين فأخبراني عمّا أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلّا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما ، قالا : سلي عما بدا لك ، قالت : نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله يقول : فاطمة بعضة مني فمن آذاها فقد آذاني؟ قالا : نعم ، فرفعت يدها إلى السماء ، فقالت : اللهم إنهما قد آذياني فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك ، لا ، والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله ، وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم.

فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور ، وجزع جزعا شديدا ، فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة؟!


قال : فبقيت فاطمة بعد وفاة أبيها أربعين ليلة ، فلما اشتد بها الأمر دعت عليّا وقالت : يا ابن عم ، ما أراني إلا لما بي ، وأنا أوصيك أن تتزوج بنت أختي زينب ، تكون لولدي مثلي ، واتخذ لي نعشا فإني رأيت الملائكة يصفونه لي ، وأن لا يشهد أحد من أعداء الله جنازتي ولا دفني ولا الصلاة عليّ.

قال ابن عبّاس ـ وهو قول أمير المؤمنين ـ أشياء لم أجد إلى تركهنّ سبيلا لأن القرآن بها أنزل على قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، الذي أوصاني فيّ وعهد إليّ خليلي رسول الله بقتالهم ، وتزويج أمامة بنت زينب أوصتني بها فاطمة.

قال ابن عبّاس : فقبضت فاطمة من يومها ، فارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله ، فأقبل أبو بكر وعمر يعزّيان عليّا ويقولان له : يا أبا الحسن! لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله. فلما كان في الليل دعا عليّ عليه‌السلام العبّاس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذرّ وعمارا ، فقدم العبّاس فصلّى عليها ودفنوها ، فلمّا أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها‌السلام ، فقال المقداد : قد دفنّا فاطمة البارحة ، فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال : ألم أقل لك إنهم سيفعلون؟!

قال العبّاس : إنها أوصت أن لا تصلّيا عليها ، فقال عمر : لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبدا ، إنّ هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب ، والله لقد هممت أن أنبشها فأصلّي عليها! فقال عليّ عليه‌السلام : والله لو رمت ذلك يا ابن صهّاك لأرجعت إليك يمينك ، لئن سللت سيفي لأغمدنه دون إزهاق نفسك فرم ذلك! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن عليّا إذا حلف صدق. ثم قال عليّ عليه‌السلام : يا عمر ألست الذي همّ بك رسول الله وأرسل إليّ فجئته متقلدا بسيفي ، ثم أقبلت نحوك لأقتلك فأنزل الله عزوجل : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (١).

__________________

(١) سورة مريم : ٨٤.


قال ابن عبّاس : ثم إنهم توامروا وتذاكروا فقالوا : لا يستقيم لنا أمر ما دام هذا الرجل حيّا ، فقال أبو بكر : من لنا بقتله؟ فقال عمر : خالد بن الوليد ، فأرسلا إليه ، فقالا : يا خالد ما رأيك في أمر نحملك عليه؟ قال : احملاني على ما شئتما فو الله إن حملتماني على قتل ابن أبي طالب لفعلت! فقالا : والله ما نريد غيره! قال : فإني لها ، فقال أبو بكر : إذا قمنا في الصلاة صلاة الفجر فقم إلى جانبه ومعك السيف فإذا سلمت فاضرب عنقه ، قال : نعم ، فافترقوا على ذلك.

ثم إن أبا بكر تفكّر فيما أمر به من قتل عليّ عليه‌السلام وعرف إن فعل وقعت حرب شديدة وبلاء طويل ، فندم على أمره فلم ينم ليلته تلك حتى أتى المسجد وقد أقيمت الصلاة ، فتقدّم فصلّى بالناس مفكّرا لا يدري ما يقول ، وأقبل خالد بن الوليد متقلدا بالسيف ، حتى أقام إلى جانب عليّ وقد فطن عليّ ببعض ذلك ، فلمّا فرغ أبو بكر من تشهّده صاح قبل أن يسلّم : يا خالد! لا تفعل ما أمرتك فإن فعلت قتلتك ، ثم سلّم عن يمينه وشماله ، فوثب عليّ عليه‌السلام فأخذ بتلابيب خالد وانتزع السيف من يده ، ثم صرعه وجلس على صدره وأخذ سيفه ليقتله ، واجتمع عليه أهل المسجد ليخلصوا خالدا فما قدروا عليه ، فقال العبّاس : حلّفوه بحق القبر (١) لمّا كففت فحلفوه وقام ، فانطلق إلى منزله.

وجاء الزبير والعباس وأبو ذرّ والمقداد وبنو هاشم واخترطوا السيوف وقالوا : والله لا تنتهون حتى يتكلم ويفعل ، واختلف الناس وماجوا واضطربوا وخرجت نسوة بني هاشم فصرخن وقلن : يا أعداء الله! ما أسرع ما أبديتم العداوة لرسول الله وأهل بيته! ولطالما أردتم هذه من رسول الله فلم تقدروا عليه ، فقتلتم

__________________

(١) أي قبر هذا الذي بسببه تخلّى أمير المؤمنين عن خالد؟ هل هو قبر رسول الله أو قبر رفيقة دربه ومهجة كبده فاطمة الزهراء الصدّيقة الشهيدة؟! لا أدري أيّ القبرين أراد مولى الثقلين؟ وإن كانا عزيزين على قلبه إلّا أن قبر مولاتنا الزهراء ـ فديتها بنفسي ـ له ميّزة عند مولانا المرتضى عليّ حيث غاب الطهر الحبيب تحت الثرى يحمل في طياته آهات الفراق وزفرات الألم والاضطهاد من أمة الإسلام؟!!


ابنته بالأمس ، ثم تريدون اليوم أن تقتلوا أخاه وابن عمه ووصيّه وأبا ولده. كذبتم وربّ الكعبة ما كنتم تصلون إلى قتله حتى تخوّف الناس أن تقع فتنة عظيمة (١).

الأمر الثاني : إجماع الإمامية على حصول الاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام.

لا ريب أن الشهادة في سبيل الله أرفع وسام يكرم به الله أولياءه ، ونعمة عظيمة يهبها لخاصة عبيده المقرّبين ، وما أحلاها إن كانت على يد أجلاف عتاة ، نزعت الرحمة من قلوبهم ، فغدوا بهائم ناطقين (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢).

وهم كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «فالصورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان»(٣).

والصدّيقة الطاهرة ـ فديتها بنفسي ـ مضت شهيدة مظلومة ، وقد وصفها أئمة آل البيتعليهم‌السلام بالشهيدة ، وبأنها المقهورة المغصوبة حقّها ، المكسور ضلعها ، فهذه الظلامات التي عانتها سيّدة الطهر روحي فداها ، أثارت شجون كل غيور وطالب للحقيقة ، فبكتها العيون والقلوب الصادقة دما على مرّ العصور ، ودوّنها التاريخ بحروف قاتمة ، ونظمها الشعراء في قصائد فاضت بالحزن والألم ، كما استفاضت بها الأخبار ، وانعقد عليها الإجماع ، وكل من كتب عن حياة الصدّيقة عليها‌السلام فإنه تعرّض لتلك الظلامات والمصائب التي كابدتها ، ومن لم يتعرّض لها صريحا لكنه أشار إليها تلميحا ، وقد تكون حجّته عدم توفر الظروف الموضوعية لذكرها حرصا على الأجواء العامة ، أو خوفا من الأعداء النواصب.

وعليه فإن ثمة إجماعا على مظلومية الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام وأنها قد ضربت

__________________

(١) كتاب سليم ص ٢٣٥ ـ ٢٣٧.

(٢) سورة الفرقان : ٤٤.

(٣) نهج البلاغة ، خطبة ٨٧ بشرح صبحي الصالح ص ١١٩ ، وخطبة ٨٣ بشرح محمد عبده ج ١ / ١٥٢.


وأسقط جنينها ، لكن تيار الحداثة والتجديد والوحدة بين المذاهب لم يعجبهم دعوى الإجماع بل لم يقنعهم وجود هذا الكم الهائل من الأخبار الكاشفة عن مظلوميتها ، تشكيكا منهم لأصل القضية ، فيسهل إسقاطها وتمييعها بغية تأسيس القاعدة الصلبة التي يلتقي عليها الجميع سنّة وشيعة ، وكأن الالتقاء مقصور على أن يتنازل الشيعة الإمامية عن معتقداتهم ، وأن يغضوا الطرف عن ظلامات أئمتهم عليهم‌السلام لا سيّما ما جرى على مولاتنا سيّدة نساء العالمين فاطمة عليها‌السلام.

وبالإضافة إلى دعوى الإجماع من المرتضى والطوسي «عليهما الرحمة» فإن مظلوميتها من المتواترات القطعية التي لا يمكن التشكيك بصحة مضمونها ـ من الضرب والإسقاط والكسر ـ ولو لم يكن هناك تواتر لما صحّ دعوى الإجماع على ما ذكرنا. وظني أنّ من يشكّك بقطعيتها لا يمكنه أن يقطع بأمثالها ، إذ التشكيك بالإجماع في هذا المورد ، يستلزم التشكيك بالمتواتر القطعي الدال على هضمها وظلاماتها.

وهاك قائمة مسجّلة بأسماء من اطّلعنا عليهم من العلماء الأعلام المتقدّمين والمتأخرين حيث هم العمدة في تحقق الإجماع :

(١) الثقة الجليل أبي الفضل شاذان بن جبرائيل القمي (متوفى عام ٢٦٠ ه‍):

روى ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فقال : كان رسول الله ذات يوم جالسا ، إذ أقبل الحسن عليه‌السلام فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ إليّ يا بنيّ فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيمن ، ثم أقبل الحسين عليه‌السلام فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ إليّ يا بنيّ فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيسر ثم أقبلت فاطمة عليها‌السلام فلما رآها بكى ثم قال : إليّ إليّ يا بنيّة فما زال يدنيها حتى أجلسها بين يديه ، ثم أقبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ إليّ يا أخي فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى


جانبه الأيمن ، فقال له أصحابه : يا رسول الله ما ترى أحدا من هؤلاء إلا بكيت أو ما فيه من تسرّ برؤيته؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي بعثني بالحق نبيّا وبشيرا ونذيرا واصطفاني على جميع البرية إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عزوجل ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم ، أمّا عليّ بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي وصاحي لوائي في الدنيا والآخرة وصاحب حوضي وشفاعتي وهو مولى كلّ مؤمن وقائد كلّ تقي وهو وصيي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد مماتي ، محبته محبتي ، ومبغضه مبغضي وبولايته صارت أمتي مرحومة ، وبعد وفاتي صارت بالمخالفة له ملعونة ، فإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي حتى أنه ليزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان ، وأمّا ابنتي فاطمة فإنها سيّدة نساء العالمين الأولين والآخرين وهي بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبيّ وهي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله زهر نورها للملائكة في السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض فيقول الله عزوجل للملائكة : يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة نساء خلقي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي ، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار ، وأني لمّا رأيتها تذكرت (١) ما يصنع بها بعدي وكأني وقد دخل عليها الذل في بيتها وانتهكت حرمتها وغصبت حقّها ومنعت إرثها ، وكسر جنبها ، وسقط جنينها وهي تنادي وا محمداه فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية ... إلى أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي ، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة ،

__________________

(١) ليس معنى «تذكره» عليه وآله السلام أنه كان غافلا عمّا سيجري عليها ، لأن الغفلة رجس دفعه الله تعالى عن النبي وعترته الطاهرة ، لكن المعنى : تجدّد أو تأكد حزني عليها ، فتأمل.


فأقول عند ذلك : اللهم العن ظالمها وعاقب من غصبها حقها ، وأذلّ من أذلها ، وخلّد في النار من ضربها على جنبها حتى ألقت ولدها ، فتقول الملائكة عند ذلك آمين ..» (١).

(٢) أبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (المتوفى عام ٣٠٧):

قال : حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :

لمّا بويع لأبي بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك فأخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، فجاءت فاطمة عليها‌السلام إلى أبي بكر ، فقالت : يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر الله ، فقال لها : هاتي على ذلك شهودا فجاءت بأم أيمن فقالت : لا أشهد حتى أحتجّ يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : أنشدك الله ، ألست تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن أم أيمن من أهل الجنّة ، قال : بلى ، قالت : فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فجعل فدك لفاطمة بأمر الله وجاء عليّ عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك فكتب لها كتابا بفدك ودفعه إليها فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب؟ فقال أبو بكر : إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه وقال : هذا فيء المسلمين وقال : أوس ابن الحدثان وعائشة وحفصة يشهدون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة ، فإن عليا زوجها يجر إلى نفسه ، وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه.

فخرجت فاطمة عليها‌السلام من عندهما باكية حزينة فلمّا كان بعد هذا جاء

__________________

(١) مناقب وفضائل الإمام علي عليه‌السلام / ابن شاذان القمي ص ٨ فصل في إخبار النبي بفضائل أهل بيته.


عليّ عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار ، فقال : يا أبا بكر! لما منعت فاطمة ميراثها من رسول الله؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو بكر : هذا فيء المسلمين فإن أقامت شهودا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله لها وإلا فلا حقّ لها فيه ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ فقال : لا ، قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إياك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين ، قال : فإذا كان في يدي شيء وادّعى فيه المسلمون فتسألني البيّنة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادّعوا عليّ شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم! فسكت أبو بكر ثم قال عمر : يا عليّ دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حججك فإن أتيت بشهود عدول وإلا فهو فيء المسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال : نعم ، قال : فأخبرني عن قول الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فيمن نزلت أفينا أم في غيرنا؟ قال : بل فيكم ، قال : فلو أن شاهدين شهدوا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال : كنت أقيم عليها الحدّ كما أقيم على سائر المسلمين ، قال : كنت إذا عند الله من الكافرين ، قال : ولم؟ قال : لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها فدك وقبضته في حياته ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبه عليها فأخذت منها فدك وزعمت أنه فيء المسلمين وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادعي عليه ، قال : فدمدم الناس وبكى بعضهم فقالوا : صدقت والله عليّ ، ورجع عليّ عليه‌السلام إلى منزله.

قال ودخلت فاطمة إلى المسجد وطافت بقبر أبيها عليه وعليها‌السلام وهي تبكي وتقول :


إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنّا وكلّ الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

فقمصتنا رجال واستخفّ بنا

إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فكل أهل له قرب ومنزلة

عند الإله على الأدنين يقترب

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الكثب

فقد رزينا بما لم يزرأه أحد

من البريّة لا عجم ولا عرب

وقد رزينا به محضا خليقته

صاني الضرائب والأعراق والنسب

فأنت خير عباد الله كلّهم

وأصدق الناس حين الصدق والكذب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منّا العيون بهمال لها سكب

سيعلم المتولي ظلم خامتنا

يوم القيامة أنّى ينقلب

قال فرجع أبو بكر إلى منزله وبعث إلى عمر فدعاه ثم قال : أما رأيت مجلس عليّ منّا اليوم ، والله لأن قعد مقعدا مثله ليفسدنّ أمرنا فما الرأي؟ قال عمر : الرأي أن تأمر بقتله ، قال : فمن يقتله؟ قال : خالد بن الوليد. فبعثا إلى خالد فأتاهما فقالا : نريد أن نحملك على أمر عظيم ، قال : حملاني ما شئتما ولو قتل عليّ بن أبي طالب ، قالا : فهو ذاك ، فقال خالد : متى أقتله؟ قال أبو بكر : إذا حضر المسجد فقم بجنبه في الصلاة فإذا أنا سلّمت فقم إليه فاضرب عنقه ، قال : نعم ، فسمعت أسماء بنت عميس ذلك وكانت تحت أبي بكر فقالت لجاريتها : اذهبي إلى منزل علي وفاطمة فاقرئيهما السلام وقولي لعلي (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) فجاءت الجارية إليهما فقالت لعليّ عليه‌السلام : إن أسماء بنت عميس تقرأ عليكما السلام وتقول : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ، فقال عليعليه‌السلام : قولي لها : إن الله يحيل بينهم وبين ما يريدون.


ثم قام وتهيأ للصلاة وحضر المسجد ووقف خلف أبي بكر وصلّى لنفسه وخالد بن الوليد إلى جنبه ومعه السيف ، فلما جلس أبو بكر في التشهّد ندم على ما قال وخاف الفتنة وشدة علي وبأسه فلم يزل متفكرا لا يجسر أن يسلّم حتى ظنّ الناس أنه قدسها ، ثم التفت إلى خالد فقال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك به ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا خالد ما الذي أمرك به؟ قال : أمرني أن أضرب عنقك ، قال : وكنت تفعل؟ قال : إي والله لو لا أنه قال لي : «لا تفعل» لقتلتك بعد التسليم ، قال : فأخذه عليّ عليه‌السلام فضرب به الأرض واجتمع الناس عليه ، فقال عمر : يقتله وربّ الكعبة! فقال الناس : يا أبا الحسن ، الله الله بحق صاحب هذا القبر ، فخلّى عنه ، قال : فالتفت إلى عمر وأخذ بتلابيبه وقال : يا بن الصهاك لو لا عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقلّ عددا ، ثم دخل منزله (١).

(٣) تقدّم ما ذكره الثقة الجليل الحسين بن حمدان الخصيبي (المتوفى عام ٣٣٤ ه‍) فلا نعيد.

(٤) ذكر الثقة الجليل محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (المتوفى عام ٣٢٨ ه‍): أن السيّدة فاطمة عليها‌السلام صدّيقة شهيدة ، كما أنه روى ظلاماتها عليها‌السلام. قال : حدثنا علي بن محمّد الهرمزاني عن الإمام أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليهما‌السلام قال : لمّا قبضت فاطمة عليها‌السلام دفنها أمير المؤمنين سرّا وعفا على موضع قبرها ، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

السلام عليك يا رسول الله عني ، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائنة في الثرى ببقعتك والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي ، إلّا أن لي في التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعزّ .. إلى أن قال :

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٨ ، باب تفسير آية (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)


قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة وأخلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله ، أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهّد وهمّ لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيّح ، وهمّ مهيج ، سرعان ما فرق بيننا ، وإلى الله أشكو وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا .. إلى أن قال عليه‌السلام : فبعين الله تدفن ابنتك سرّا وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر ، وإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء صلّى الله عليك وعليها‌السلام والرضوان (١).

وروي عن عبد الله بن محمد الجعفي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : إن فاطمة عليها‌السلام لمّا أن كان من أمرهم ما كان ، أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها ، ثم قالت : أما والله يا ابن الخطاب لو لا إني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له ، لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة (٢).

(٥) ذكر الثقة الشيخ أبي القاسم الكوفي (المتوفى عام ٣٥٢ ه‍) بعض ظلاماتهاعليها‌السلام فقال : «ثم إن أبا بكر عمد إلى الطامة الكبرى والمصيبة العظمى في ظلم فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبض دونها تركات أبيها مما خلّفه عليها من الضياع والبساتين وغيرها وجعل ذلك كلّه بزعمه صدقة للمسلمين وأخرج أرض فدك من يدها فزعم هذه الأرض كانت لرسول الله إنما هي في يدك طعمة منه لك ، وزعم أن رسول الله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا ، فهو صدقة ، فذكرت فاطمة عليها‌السلام برواية جميع أوليائه أن رسول الله قد جعل لي أرض فدك هبة وهدية ، فقال لها : هات بيّنة تشهد لك بذلك فجاءت أم أيمن فشهدت لها ، فقال : امرأة لا نحكم بشهادة امرأة ، وهم رووا جميعا أن النبيّ قال : أم أيمن من أهل

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٩.

(٢) نفس المصدر ج ١ / ٤٦٠ ح ٥.


الجنّة فجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام يشهد لها ، فقال : هذا بعلك وإنما يجر إلى نفسه ، وهم قد رووا جميعا أن رسول الله قال : عليّ مع الحق ، والحق مع عليّ يدور معه حيث دار ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، هذا مع ما أخبر الله به من تطهيره لعليّ وفاطمة عليها‌السلام من الرجس ، وجميع الباطن بجميع وجوهه رجس ، فمن توهم أن عليّا وفاطمة عليها‌السلام يدخلان من بعد هذا الإخبار من الله في شيء من الكذب والباطل على غفلة أو تعمد فقد كذّب الله ، ومن كذّب الله فقد كفر بغير خلاف ، فغضبت فاطمة عليها‌السلام عند ذلك فانصرفت من عنده وحلفت أنها لا تكلمه وصاحبه حتى لتقى أباها فتشكو إليه ما صنعا بها فلمّا حضرتها الوفاة أوصت عليّا عليه‌السلام أن يدفنها ليلا لئلا يصلّي عليها أحد منهم ، ففعل ذلك ، فجاءوا من الغد يسألون عنها فعرفهم أنه قد دفنها ، فقالوا له : ما حملك على ما صنعت؟ قال عليه‌السلام : أوصتني بذلك فكرهت أن أخالف وصيّتها وهم قد رووا جميعا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل ...» (١).

وقال قدّس الله سرّه الشريف : «ورووا كذلك جميعا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمةعليها‌السلام: يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ، فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر أنّ الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها وأنّ من آذاها فقد آذى رسول الله ومن آذى رسول الله فقد آذى الله ، وقد دلّ دفنها بالليل من غير أن يصلّي عليها أحد منهم أو من أوليائهم أنّ ذلك كان منها غضبا عليهم بما اجترءوا عليها وظلموها ، وإذا كان ذلك كذلك فقد غضب الله عليهم الأمر بعد أن آذوها فإذا قد آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأذاهم إياها وقد آذوا الله عزوجل بأذاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٢).

__________________

(١) كتاب الاستغاثة ص ١٢ ـ ١٤.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٧.


وروى مشايخنا أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر حين لم يقبل شهادته : يا أبا بكر أصدقني عمّا أسألك ، قال : قل ، قال عليه‌السلام : أخبرني لو أنّ رجلين احتكما إليك في شيء في يد أحدهما دون الآخر أكنت تخرجه من يده دون أن يثبت عندك ظلمه ، قال : لا ، قال : فممّن كنت تطلب البيّنة منهما أو على من كنت توجب اليمين منهما ، قال : أطلب البيّنة من المدّعي وأوجب اليمين على المنكر ، قال رسول الله : البينة على المدّعي واليمين على المنكر ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أفتحكم فينا بغير ما تحكم به في غيرنا؟! قال : فكيف ذلك؟ قال : إنّ الذين يزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما تركناه فهو صدقة وأنت ممّن له في هذه الصدقة إذا صحّت نصيب وأنت فلا تجيز شهادة الشريك لشريكه فيما يشاركه فيه وتركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم الإسلام في أيدينا إلى أن تقوم البيّنة العادلة بأنها لغيرنا فعلى من ادّعى ذلك علينا إقامة البيّنة ممّن لا نصيب له فيما يشهد به علينا وعلينا اليمين فيما ننكره ، فقد خالفت حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قبلت شهادة الشريك في الصدقة وطالبتنا بإقامة البيّنة على ما ننكره مما ادّعوه علينا فهل هذا إلا ظلم وتحامل!

ثم قال عليه‌السلام : يا أبا بكر أرأيت لو شهد عندك شهود من المسلمين المعدلين عندك على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال : كنت والله أقيم عليها حدّ الله في ذلك ، قال له : إذا كنت تخرج من دين الله ودين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لم؟ قال : لأنك تكذّب الله وتصدّق المخلوقين إذ قد شهد الله لفاطمة بالطهارة من الرجس في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقلت أنت أنك تقبل شهادة من شهد عليها بالرجس إذ الفواحش كلها رجس وتترك شهادة الله لها بنفي الرجس عنها ، فلمّا لم يجد جوابا قام من مجلسه ذلك وترك عليّا عليه‌السلام.

فانظروا يا أهل الفهم هل جرى في الإسلام بدعة أظلم وأظهر وأفظع وأعظم وأشنع من طالب ورثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة البيّنة على تركة الرسول أنّها لهم مع


شهادة الله لورثة الرسول بإزالة جميع الباطل عنهم وذلك كلّه بحكم الإسلام في أيديهم وقد رووا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نحن أهل بيت لا تحلّ علينا الصّدقة» ؛ أفيجوز لمسلم أن يتوهّم على أهل بيت الرسول عليهم‌السلام أنهم طلبوا شيئا من الحرام؟!! ..» (١).

(٦) ما ذكره الشيخ الصدوق (المتوفى عام ٣٨١ ه‍) وقد تقدم قوله فلا نعيد.

(٧) ما اعتقده الشيخ المفيد من أن الصدّيقة الطاهرة ماتت شهيدة ، وأن قاتلها وقاتل جنينها يتعذّب في النار ، فقد روى عن عبد الله بن بكر الأرجاني قال :

صحبت أبا عبد الله عليه‌السلام في طريق مكة من المدينة فنزل منزلا يقال له : عسفان ثم مررنا بجبل أسود على يسار الطريق .. فقلت : يا ابن رسول الله ما أوحش هذا الجبل ما رأيت في الطريق جبلا أوحش منه ، فقال : يا ابن بكر تدري أيّ جبل هذا؟ قلت : لا ، قال : هذا جبل يقال له: الكمد ، وهو على واد من أودية جهنم ، فيه قتلة أبي الحسين بن عليّ عليهما‌السلام استودعوه ، يجري من تحته مياه جهنم من الغسلين والصديد والحميم الآن ، وما يخرج من جهنم ، وما يخرج من الفلق ، وما يخرج من آثام ، وما يخرج من طينة خبال ، وما يخرج من لظى ، وما يخرج من الحطمة ، وما يخرج من سقر ، وما يخرج من الجحيم ، وما يخرج من الهاوية ، وما يخرج من السعير ، وما مررت بهذا الجبل قط في مسيري فوقفت إلّا رأيتهما يستغيثان بي ويتضرّعان إليّ وإني لأنظر إلى قتلة أبي فأقول لهما : إن هؤلاء إنما فعلوا بنا ما فعلوا لمّا أسّستما لم ترجمونا لمّا وليتم وقتلتمونا وحرمتمونا ووثبتم على حقّنا واستبددتم بالأمر دوننا ، فلا رحم الله من يرحمكما صنعتما وما الله بظلّام للعبيد ، وأشدّهما تضرّعا واستكانة الثاني ، فربما وقفت عليهما ليتسلّى عني بعض ما يعرض في قلبي ، وربما طويت الجبل الذي هما فيه وهو جبل الكمد ، قلت : جعلت فداك ، فإذا طويت الجبل فما تسمع؟ قال : أسمع أصواتهم ينادون عرّج إلينا

__________________

(١) كتاب الاستغاثة ص ١٥ ـ ١٧.


نكلّمك فإنّا نتوب ، وأسمع صارخا من الجبل يقول : لا تكلّمهم وقل لهم : اخسئوا فيها ولا تكلّمون ، قلت : جعلت فداك ومن معهم؟ قال : كلّ فرعون عتا على الله وحكى الله عنه فعاله، وكلّ من علّم العباد الكفر ، قلت : من هم؟ قال : نحو قورس [بولس] الذي علّم اليهود أنّ عزيرا ابن الله ، ونحو نسطور الذي علّم النصارى أن المسيح ابن الله ، وقال لهم : هم ثلاثة ، ونحو فرعون موسى الذي قال : أنا ربّكم الأعلى ، ونحو نمرود الذي قال : قهرت الأرض وقتلت من في السماء ، وقاتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقاتل فاطمة عليها‌السلام وقاتل المحسن [ظ : محسن] وقاتل الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فأما معاوية وعمرو بن العاص فما يطمعان في الخلاص ومعهم كلّ من نصب لنا العداوة وعاون علينا بلسانه ويده ..» (١).

(٨) وقال علم الهدى السيد المرتضى (المتوفى عام ٤٣٦ ه‍):

«قد روى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ـ وحاله في الثقة عند العامة ، والبعد عن مقاربة الشيعة ، والضبط لما يرويه معروف ـ : حدّثني بكر بن الهيثم ، قال : حدّثنا عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى عليّ حيث قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمّا أتاه جرى بينهما كلام ، فقال عليّ : احلب حلبا لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلّا ليؤمّرك غدا ، وما تنفّس على أبي بكر هذا الأمر ، لكنّا أنكرنا ترككم مشاورتنا وقلنا : إن لنا حقا لا تجهلونه.

وهذا الخبر يتضمّن ما جرت عليه الحال وما يقوله الشيعة بعينه ، وقد أنطق الله به رواتهم ، وقد روى البلاذري ، عن المدائني عن مسلمة بن محارب ، عن سليمان التميمي ، وعن ابن عون أنّ أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد بيعته فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقّته فاطمة على الباب ، فقالت فاطمة : يا بن الخطاب! أتراك محرقا عليّ بابي؟! قال : نعم وذلك أقوى مما جاء به أبوك ، وجاء عليّ فبايع.

__________________

(١) الاختصاص ص ٣٤٤ ط / المفيد بيروت وص ١٨٥ ـ ١٨٦ ، ولاحظ أيضا : أماليه ص ٤٩.


وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة وإنما الطريف أن يرويه شيوخ محدّثي العامة ، لكنهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة ، وربما تنبّهوا على ما في بعض ما يروونه عليهم فكفّوا عنه ؛ وأيّ اختيار لمن يحرق عليه بابه حتى يبايع؟!

وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي ، قال : حدّثنا أحمد بن عمرو البجلي ، قال : حدّثنا أحمد بن حبيب العامري ، عن حمران بن أعين ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : والله ما بايع عليّ عليه‌السلام حتى رأى الدخان قد دخل بيته (١).

وقال قدس‌سره في موضع آخر من كتابه الشافي :

فأما قوله ـ أي قاضي القضاة المعتزلي ـ : «إنّ حديث الإحراق ما صحّ ، ولو صحّ لم يكن طعنا لأن له أن يهدّد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين»! فقد بيّنا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ـ ممّن لا يتّهم على القوم ـ وإنّ دفع الروايات بغير حجّة أكثر من نفس المذاهب المختلف فيها لا يجدي شيئا ، والذي اعتذر به من حديث الإحراق إذا صح ظريف ، وأي عذر لمن أراد أن يحرق على أمير المؤمنين وفاطمة منزلهما؟! وهل يكون في مثل ذلك علّة يصغى إليها أو تسمع؟ وإنما يكون مخالفا للمسلمين وخارقا لإجماعهم إذا كان الإجماع قد تقرر وثبت ، وإنما يصحّ لهم الإجماع متى كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن قعد عن البيعة ممّن انحاز إلى بيت فاطمة سلام الله عليها داخلا فيه وغير خارج عنه ؛ وأيّ إجماع يصحّ مع خلاف أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده ، فضلا عن أن يبايعه على ذلك غيره ، وهذه زلة من صاحب الكتاب وممن حكى احتجاجه.

وبعد ، فلا فرق بين أن يهدّد بالإحراق للعلّة التي ذكرها ، وبين ضرب فاطمة سلام الله عليها لمثل هذه العلّة ، فإنّ إحراق المنازل أعظم من ضربه بالسوط ، وما

__________________

(١) الشافي في الإمامة ص ٢٠٤ طبعة حجرية ، إيران ، تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٥ ط / دار الكتب ـ إيران ، والبحار ج ٢٨ / ٣٨٩.


يحسن الكبير ممن أراد الخلاف على المسلمين أولى بأن يحسن الصغير ، فلا وجه لامتعاض صاحب الكتاب من ضربة السوط وتكذيب ناقلها وعنده مثل هذا الاعتذار (١).

(٩) ما أفاده شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (المتوفى عام ٤٦٠ ه‍) بدعواه الإجماع على مظلوميتها عليها‌السلام ، فقال :

«ومما أنكر عليه ـ أي أبي بكر ـ ضربهم لفاطمة عليها‌السلام ، وقد روي : إنهم ضربوها بالسياط ، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة ، أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ، فسمي السقط (محسنا) ، والرواية بذلك مشهورة عندهم وما أرادوا من إحراق البيت عليها ـ حين التجأ إليها قوم ، وامتنعوا من بيعته ـ وليس لأحد أن ينكر الرواية بذلك ، لأنّا قد بيّنا الرواية الواردة من جهة العامة من طريق البلاذري وغيره ، ورواية الشيعة مستفيضة به ، لا يختلفون في ذلك ..» (٢).

وهكذا تسالم على مظلوميتها كلّ من جاء بعد الطوسي عليه الرحمة أمثال الشيخ الطبرسي في الاحتجاج (٣) والديلمي في الإرشاد (٤) ، والطبري في دلائل الإمامة (٥) ، والخواجه نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد (٦) ، والحلّي في كشف المراد ونهج الحق (٧) ، والمجلسي الأول في روضة المتقين (٨) ، والمجلسي الثاني في البحار (٩).

__________________

(١) نفس المصدر ج ٤ / ١١٩ ط / مؤسسة الصادق ـ طهران ؛ وص ٢٤٠ طبعة حجرية ، إيران.

(٢) تلخيص الشافي للطوسي ج ٣ / ١٥٦ ط / دار الكتب الإسلامية ـ قم.

(٣) ج ١ / ١٠٩.

(٤) ج ٢ / ٢٦٣.

(٥) ص ٤٦.

(٦) ص ٤٠٢.

(٧) ص ٤٠٢.

(٨) ج ٥ / ٣٤٢ ـ ٣٤٦.

(٩) ج ٢٣ / ٢٣٥ وج ٢٨ / ٢٦١.


وهكذا ذكرها السيوري في شرح باب حادي عشر (١) ، والاربلي في كشف الغمة (٢) ، والنباطي البياضي في الصراط المستقيم (٣) ، والمحقق الكركي في نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت (٤) ، والشهيد القاضي التستري في إحقاق الحق (٥) ، والفيض الكاشاني في علم اليقين(٦) ، والحر العاملي في إثبات الهداة (٧).

كما أن العلّامة الأميني قد ذكرها في الغدير (٨) ، وشرف الدين في المراجعات (٩) والمجالس الفاخرة (١٠) ، والمظفر في دلائل الصدق (١١) ..

وبالجملة ، فكل من كتب بإنصاف في مسألة فدك والخلافة فقد تطرق إليها عدا من غلبت عليه التقية والمداراة ، فأخفى مظلوميتها روحي فداها ، وهذه الشرذمة ـ وإن أخفت ظلاماتها ـ إلّا أن ما ظهر بشأن ذلك كان كنور الشمس في رابعة النهار ، وهل يخفى على ذي حجى؟! لا وربّ الراقصات.

كما لا يخفى أن سيرة المتدينين كانت جارية وما زالت على الحزن على الصدّيقة الطاهرة الزكية بسبب ما جرى عليها من الظلم والحيف من قبل أبي بكر وعمر وأتباعهما ، هذا مضافا إلى ما نظمه الشعراء والأدباء في مظلوميتها وشكايتها

__________________

(١) ص ١١١ ط / دار الأضواء.

(٢) ج ٢ / ١٣٢.

(٣) ج ٣ / ١٢.

(٤) ص ٧٨ ، مخطوطة.

(٥) ج ٢ / ٣٧٠.

(٦) ج ٢ / ٦٨.

(٧) ج ٢ / ٣٦٠ ح ١٦٦.

(٨) ج ٧ / ٧٤ و ٨٥ و ٨٦.

(٩) المراجعة رقم ٨٣.

(١٠) ص ٣٥.

(١١) ج ٣ / ٥٣.


من بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرة كهذه تعتبر دليلا على صحة وقوع القضية ، وإلا فإن التشكيك أيضا في السيرة مع توفر النصوص المتواترة على ظلامتها ، دليل آخر على عدم إيمان ذاك المشكّك بمظلومية الصدّيقة الطاهرة الشهيدة.

وها باقة من شعر محبي أهل البيت عليهم‌السلام حيث تفجرت قرائحهم على مآسي أئمتهم ، حيث آلمهم المصاب الجلل على مصيبة سيّدة النساء فاطمة البتول عليها‌السلام عامة ، وفي خبر المسمار خاصة ، وظل خبر المسمار الدامي الذي نبت في صدر الصدّيقة تتذاكره الشيعة جيلا بعد جيل. وأشعار هؤلاء يعتبر سندا تاريخيا قويا ، ومضمونه يؤكد ما رواه المحدثون والمؤرخون لا سيما أن بعضهم كان معاصرا للأئمة عليهم‌السلام أو كان قريبا من عصرهم ، مما يجعل القضية في دائرة المسلمات عند الإمامية.

فها هو الشيخ الكبير المحقّق محمّد حسين الأصفهاني الغروي النجفي أعلى الله مقامه الشريف (المتوفى عام ١٣٦١ ه‍) يقول في قصيدة طويلة له :

أيضرم النار بباب دارها

وآية النور على منارها

وبابها باب نبيّ الرحمة

وباب أبواب نجاة الأمّة

بل بابها باب العليّ الأعلى

فثمّ وجه الله قد تجلّى

ما اكتسبوا بالنار غير العار

ومن ورائه عذاب النار

ما أجهل القوم فإنّ النار لا

تطفئ نور الله جلّ وعلا

لكنّ كسر الضلع ليس ينجبر

إلا بصمصام عزيز مقتدر

إذ رضّ تلك الأضلع الزكية

رزية لا مثلها رزيّة

ومن نبوع الدم من ثدييها

يعرف عظم ما جرى عليها

وجاوزوا الحدّ بلطم الخدّ

شلّت يد الطغيان والتعدّي

فاحمرّت العين وعين المعرفة

تذرف بالدمع على تلك الصفة

ولا تزيل حمرة العين سوى

بيض السيوف يوم ينشر اللوى

وللسياط رنّة صداها

في مسمع الدهر فما أشجاها


والأثر الباقي كمثل الدّملج

في عضد الزهراء أقوى الحجج

ومن سواد متنها اسودّ الفضا

يا ساعد الله الإمام المرتضى

ووكز نعل السيف في جنبيها

أتى بكلّ ما أنى عليها

ولست أدري خبر المسمار

سل صدرها خزانة الأسرار

وفي جنين المجد ما يدمي الحشى

وهل لهم إخفاء أمر قد فشى

والباب والجدار والدماء

شهود صدق ما به خفاء

لقد جنى الجاني على جنينها

فاندكّت الجبال من حنينها

أهكذا يصنع بابنة النبيّ

حرصا على الملك فيا للعجب

أتمنع المكروبة المفروحة

عن البكاء خوفا من الفضيحة

تالله ينبغي لها تبكي دما

ما دامت الأرض ودارة السما

لفقد عزّها أبيها السّامي

ولاهتضامها وذلّ الحامي

أتستباح نحلة الصدّيقة

وإرثها من أشرف الخليقة

كيف يردّ قولها بالزّور

إذ هو ردّ آية التطهير

أيؤخذ الدّين من الأعرابي

وينبذ المنصوص في الكتاب

فاستلبوا ما ملكت يداها

وارتكبوا الخزية منتهاها

يا ويلهم قد سألوها البيّنة

على خلاف السنّة المبيّنة

وردّهم شهادة الشهود

أكبر شاهد على المقصود

ولم يكن سدّ الثغور غرضا

بل سدّ بابها وباب المرتضى

صدّوا عن الحق وسدّوا بابه

كأنّهم قد آمنوا عذابه

أبضعة الطهر العظيم قدرها

تدفن ليلا ويعفى قبرها

ما دفنت ليلا بستر وخفا

إلا لوجدها على أهل الجفاء

ما سمع السامع فيما سمعا

مجهولة بالقدر والقبر معا

يا ويلهم من غضب الجبّار

بظلمهم ريحانة المختار (١)

__________________

(١) ديوان الأصفهاني المعروف ب «الأنوار القدسية».


وقال السيّد باقر بن السيّد محمّد الهندي (المتوفى عام ١٣٢٩ ه‍) :

أوتدري لم أحرقوا الباب

بالنار أرادوا إطفاء ذاك النور

أوتدري ما صدر فاطم ما

المسمار ما حال ضلعها المكسور

ما سقوط الجنين ما حمرة العين

وما بال قرطها المنثور

دخلوا الدار وهي حسرى بمرأى

من عليّ ذاك الأبي الغيور

واستداروا بغيا على أسد الله

فأضحى يقاد قود البعير

والبتول الزهراء في إثرهم تعثر

في ذيل بردها المجرور

بأنين أورى القلوب ضراما

وحنين أذاب صمّ الصخور

ودعتهم : خلوا ابن عمي عليّا

أو لأشكو إلى السميع البصير

ما رعوها بل روّعوها ومرّوا

بعليّ ملبّبا كالأسير

وعليّ يرى ويسمع والسيف

رهيف والباع غير قصير

قيدته وصية من أخيه

حمّلته ما ليس بالمقدور

أفصبرا يا صاحب الأمر والخطب

جليل يذيب قلب الصبور

كم مصاب يطول فيه بياني

قد عرى الطهر في الزمان القصير

كيف من بعد حمرة العين منها

يا ابن طه تهنى بطرف قرير

فابك وازفر لها فإنّ عداها

منعوها من البكا والزفير

وكأني به يقول ويبكي

بسلوّ نزر ودمع غزير

لا تراني اتخذت لا وعلاها

بعد بيت الأحزان بيت السرور

فمتى يا ابن فاطم تنشر الطاغوت

والجبت قبل يوم النشور (١)

وقال الشيخ مفلح الصيمري (المتوفى عام ٩٠٠ ه‍) :

فجاءوا إليها يهرعون فأقبلت

عليهم وقالت فاسمعوا ثم افهموا

صداقي عليكم ظلم آل محمد

وشيعتهم أهل الفضائل منهم

__________________

(١) رياض المدح والرثاء ص ١٩٧.


فقالوا رضينا بالصداق وأسرجوا

على حربهم خيل الضلال وألجموا

وشنوا بها الغارات من كل جانب

وخصوا بها آل النبي وصمموا

أزالوهم بالقهر عن إرث جدهم

عنادا وما شاءوا أحلوا وحرموا

وقادوا عليّا في حمائل سيفه

وعمار دقوا ضلعه وتهجموا

على بيت بنت المصطفى وإمامهم

ينادي ألا في بيتها النار أضرموا

وتغصب ميراث النبيّ محمّد

وتوجع ضربا بالسياط وتلطم (١)

وقال السيّد صدر الدين الصّدر (المتوفى عام ١٣٧٣ ه‍) في إحدى مرثياته :

من سعى في ظلمها من راعها

من علا فاطمة الزهراء جارا

من غدا ظلما على الدار التي

اتخذتها الإنس والجن مزارا

طالما الأملاك فيها أصبحت

تلثم الأعتاب فيها والجدارا

ومن النار بها ينجو الورى

من على أعتابها أضرم نارا

والنبيّ المصطفى كم جاءها

يطلب الإذن من الزهراء مرارا

وعليها هجم القوم ولم

تك لاذت لا وعلياها الخمارا

لست أنساها ويا لهفي لها

إذ وراء الباب لاذت كي توارا

فتك الرجس على الباب ولا

تسألن عمّا جرى ثم وصارا

لا تسلني كيف رضّوا ضلعها

واسألنّ الباب عنها والجدارا

وسألن لؤلؤ قرطيها لما

انتثرت والعين لم تشكو احمرارا

وهل المسمار موتور لها

فغدا في صدرها يطلب ثارا (٢)

وقال الأديب المعاصر يحيى عبد الأمير شامي العاملي (المولود عام ١٩٣٧ م) :

__________________

(١) المنتخب للطريحي ص ١٣٧ ط / الأعلمي.

(٢) الأسرار الفاطمية ص ١٢٦ محمد فاضل المسعودي ؛ والكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام للسيد محمد باقر الموسوي ج ٧ / ٢٣.


ما شئت قل فيها ، ألا ، قل فيها

ما شئت ، فهي الطّهر أمّ أبيها

فطمت محبيها عن النار التي

يصلّى بها مترنحا صاليها

زهراء ، ما هذي النجوم الزّهر ما

شمس ، وما قمر هناك يليها

حوراء ما حمل النساء كمثلها

لقب البتول لوحده يكفيها

ما لي إذا ذكروا البتول فأدمعي

فاضت على الخدّين ما أخفيها

وتفطّرت كبدي أسى ، ألأنّهم

همّوا بحرق الدار إذ هي فيها

أم لانكسار الضّلع ، واها ما الذي

فعلوه ، واها ، ثم إيها إيها

أم للجنين السّقط سال دماغه

من فرط ضغط الباب ما ينجيها

منهم قرابتها لأحمد ، ويحهم

يا بئس ما اقترفت يدا جانيها

قد أسخطوا الباري بسخط نبيّهم

وهو الذي يؤذيه ما يؤذيها

ولكم بها أوصى وقبّل نحرها

يستاف ريح جنانها من فيها

يشكو إليها ما تلاقي بعده

وإليه كم أفضت بما يشجيها

أمّ المصائب يا بتول. وكم شج

لشجاك فهو مدلّه تدليها

ما كان أعظم ما أصابك من أذى

أدناه كم كبد لظى يكويها

هضموك أرضا عن أبيك ورثتها

زعما بأنّك لست من أهليها

عجبا ، وهل بخلاف شرع محمد

يقضى ، فوا عجباه من قاضيها

يا بنت أشرف والد ، يا زوج من

هزم الصفوف بسيفه يفريها

يا أمّ سادات الورى من حبّهم

منجى ومن قد نزّهوا تنزيها

لي يا بتول أمانة أودعتها

ذخرا لديك لحاجة أقضيها

أن تشفعي في الحشر لي كم زلّة

قارفتها سفها وما أحصيها

فبحق جاهك عند ربّك فاشفعي

ردّي عليّ أمانتي ردّيها (١)

وللسيّد محمّد نجل السيّد جمال الدين الكلبايكاني (المتوفى عام ١٣٩٧ ه‍) :

شعّت فلا الشمس تحكيها ولا القمر

زهراء من نورها الأكوان تزدهر

__________________

(١) ديوان «محض الولاء» / الاستاذ يحيى شامي ص ٤١.


بنت الخلود بها الأجيال خاشعة

أم الزمان إليها تنتهي العصر

روح الحياة فلو لا لطف عناصرها

لم تأتلف بيننا الأرواح والصور

سمت عن الأفق لا روح ولا ملك

وفاقت الأرض لا جن ولا بشر

مجبولة من جلال الله طينتها

يرف لطفا عليها الصّون والخفر

خصالها الغر جلّت أن تلوك بها

منا المقاول أو تدنو لها الفكر

معنى النبوّة سرّ الوحي قد نزلت

في بيت عصمتها الآيات والسّور

حوت خلال رسول الله أجمعها

لو لا الرسالة ساوى أصله الثمر

تدرّجت في مراقي الحقّ عارجة

لمشرق النور حيث السر مستتر

ثم انثنت تملأ الدنيا معارفها

تطوي القرون عياء وهي تنتشر

قل للذي راح يخفي فضلها حسدا

وجه الحقيقة عنّا كيف ينستر

أتقرن النور بالظلماء من سفه

ما أنت في القول إلا كاذب أشر

بنت النبيّ الذي لو لا هدايته

ما كان للحق عين ولا أثر

هي التي ورثت حقا مفاخره

والعطر فيه الذي في الورد مدخر

في عيد ميلادها الأملاك حافلة

والحور في الجنّة العليا لها سمر

تزوّجت في السماء بالمرتضى شرفا

والشمس بقرنها في الرتبة القمر

على النبوّة أضفت في مراتبها

فضل الولاية لا تبقي ولا تذر

أمّ الأئمة من طوعا لرغبتهم

يعلو القضاء بنا أو ينزل القدر

قف يا يراعي عن مدح البتول ففي

مديحها تهتف الألواح والزّبر

وارجع لتستخبر التاريخ عن نبأ

قد فاجأتنا به الأنباء والسّير

هل أسقط القوم ضربا حملها فهوت

تأنّ مما بها والضلع منكسر

وهل كما قيل قادوا بعلها فعدت

وراه نادبة والدمع منهمر

إن كان حقا فإنّ القوم قد مرقوا

عن الهدى وبدين الله قد كفروا (١)

__________________

(١) وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء للمقرم ص ١٩ ـ ٢٠ ؛ ونخبة البيان في تفضيل سيدة النسوان للسيد عبد الرسول الشريعتمداري ص ٢٥١ ـ ٢٥٢.


وللشيخ محمد علي اليعقوبي :

رأى برق حزوى فاستهلّت دموعه

وهاج بمن يهواه فيها ولوعه

خليليّ ما لي كلّما صنت في الحشا

هوايّ بدا دمع الشجون يذيعه

أحنّ لعهد قد خلا بعد ما حلى

وهيهات يرجى عوده ورجوعه

لي الله كم نهنهت قلبي عن هوى

تحمّل منه فوق ما يستطيعه

وكفكفت من طرفي الدموع فلم تكن

لغير بني الزهراء تهمي دموعه

وخطب جرى بالطفّ لم ينس وقعه

ولم تلتئم طول الزمان صدوعه

عشيّة أمسى منزل البغي آهلا

ومنزل وحي الله أقوت ربوعه

لقد كان من يوم السقيفة أصله

وكلّ الرزايا الحادثات فروعه

فما عذرهم عند النبيّ ولم يزل

يرى كلّ آن منهم ما يروعه

أفي غصبهم حقّ الوصيّ وظلمهم

لبضعته الزهراء يجزى صنيعه

لو أنّ رسول الله ينظر فاطما

تنوح ولم تهجع لعزّ هجوعه

فلولا جنين أسقطوه لما هوى

صريعا على صدر الحسين رضيعه

ومن رضّهم ضلع البتولة قد غدت

ترضّ بجري الصافنات ضلوعه (١)

وللسيّد صالح الحلّي من تلامذة صاحب «الكفاية» :

يا مدرك الثار! البدار البدار

شنّ على حرب عداك المغار

يا صاحب العصر! أترضى رحى

عصارة الخمر علينا تدار؟

قد ذهب العدل وركن الهدى

قد هدّ والجور على الدين جار

أعن رعاك الله من ناصر

رعية ضاقت عليها القفار

تنسى على الدار هجوم العدى

مذ أضرموا الباب بجزل ونار

ورضّ من فاطمة ضلعها

وحيدر يقاد قسرا جهار

تعدو وتدعو خلف أعدائها

يا قوم! خلّوا عن عليّ الفخار

__________________

(١) اعلموا أني فاطمة للشيخ عبد الحميد المهاجر ج ٩ / ١٨٢.


قد أسقطوا جنينها واعترى

من لطمة الخدّ العيون احمرار

فما سقوط الحمل؟ ما صدرها؟

ما لطمها؟ ما عصرها بالجدار؟

ما وكزها بالسيف في ضلعها؟

وما انتشار قرطها والسوار؟

ما ضربها بالسوط ما منعها

من البكاء وما لها من قرار؟

ما الغصب للعقار منهم وقد

أنحلها ربّ الورى للعقار؟

ما دفنها بالليل سرّا وما

نبش الثرى منهم عنادا جهار؟

تعسا لهم في ابنة ما رعوا

نبيّهم وقد رعاهم مرار .. (١)

وللشيخ صالح الكوّاز رحمه‌الله :

عقدت بيثرب بيعة قضيت بها

للشرك منه بعد ذاك ديون

برقيّ منبره رقي في كربلاء

صدر وضرّج بالدماء جبين

لو لا سقوط جنين فاطمة لما

أذي لها في كربلاء جنين

وبكسر ذاك الضّلع رضّت أضلع

في طيّها سرّ الإله مصون

وكذا عليّ قوده بنجاده

فله عليّ بالوثاق قرين

وكما لفاطم رنّة من خلفه

لبناتها خلف العليل رنين

وبزجرها بسياط قنفذ وشّحت

بالطفّ من زجر لهنّ متون

وبقطعهم تلك الأراكة دونها

قطعت يد في كربلاء ووتين (٢)

وللقاضي أبي بكر بن قريعة (المتوفى عام ٣٦٧ ه‍):

يا من يسائل دائبا

عن كلّ معضلة سخيفة

لا تكشفنّ مغطّا

فلربما كشفت جيفة

ولربّ مستور بدا

كالطبل من تحت القطيفة

إنّ الجواب لحاضر

لكنني أخفيه خيفة

__________________

(١) الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ٧ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) نفس المصدر ج ٧ / ٢٦.


لو لا اعتداء رعيّة

ألقى سياستها الخليفة

وسيوف أعداء بها

هاماتنا أبدى نقيفة

لنشرت من أسرار آ

ل محمّد جملا طريفة

تغنيكم عمّا رواه

مالك وأبو حنيفة

وأريكم أنّ الحسين

أصيب في يوم السقيفة

ولأيّ حال لحّدت

بالليل فاطمة الشريفة؟

ولما حمت شيخيكم

عن وطئ حجرتها المنيفة؟

أوّه لبنت محمّد

ماتت بغصّتها أسيفة (١)

ولبعض المتأخرين :

إن قيل : حوّاء ، قلت : فاطم فخرها

أو قيل : مريم ، قلت : فاطمة أفضل

أفهل لحوّا والد كمحمّد

أم هل لمريم مثل فاطم أشبل

كلّ لها حين الولادة حالة

منها عقول ذوي البصائر تذهل

هذي لنخلتها التجت فتساقطت

رطبا جنيّا فهي منه تأكل

وضعت بعيسى وهي غير مروعة

أنّى وحارسها السريّ الأبسل

وإلى الجدار وصفحة الباب التجت

بنت النبيّ فأسقطت ما تحمل

سقطت وأسقطت الجنين وحولها

من كلّ ذي حسب لئيم جحفل

هذا يعنّفها وذاك يدعّها

ويردّها هذا وهذا يركل

وأمامها أسد الأسود يقوده

بالحبل قنفذ هل كهذا معضل؟

ولسوف تأتي في القيامة فاطم

تشكو إلى ربّ السماء وتعول

ولترفعنّ جنينها وحنينها

بشكاية منها السماء تتزلزل (٢)

وللشيخ حسن الحلّي (المتوفى عام ١٣٣٧ ه‍) :

__________________

(١) نفس المصدر ج ٧ / ٢٧.

(٢) نفس المصدر ج ٧ / ٢٩.


سل أربعا فطمت أكنافها السّحب

عن ساكنيها متى عن أفقها غربوا

سرعان ما صاح طير البين بينهم

فأصبحوا فرقا عن عقرها عزبوا

سرت تجوب الفيافي فيهم النجب

ولي فؤاد قفا آثارهم يجب

أتبعتهم ناظرا خيل الدموع به

تسابقت فهو دامي الغرب مختضب

أضحت منازلهم للوحش معتكفا

فيهن طير الفنا ينعى وينتحب

لم يبق منها سوى رسم وذي شعث

رأس أشجّ علت من فوقه الكتب

وذي انحناء كجسم الصب تحسبه

نونا بها عجم شين الخط قد كتبوا

أوهت قواعدها كف الضنان فعفت

آثارها ومحت سيماؤه النّوب

وقفت فيها ودمع العين منسكب

كالغيث والنار في الأحشاء تلتهب

وبي لواعج وجد لو رميت بها

صدر الفضا ضاق وهو الواسع الرّحب

حيران أقبض في رعش البنان حشا

حرّى أناخت بها الأحزان والكرب

وقائل لي رفه عن حشاك ولي

وجد إذا نزا بالقلب يضطرب

فقلت : لم يشجني نأي الخليط ولا

ربع محت رسمه الأعوام والحقب

لكن أذاب فؤادي حادث جلل

تنمى إليه الرزايا حيث تنتسب

يوم قضى المصطفى في صبحه وعلى

الأعقاب من بعده أصحابه انقلبوا

قادوا أخاه ورضّوا ضلع بضعته

بجورهم ولها البغضاء قد نصبوا

لم أنسها هي تنعاه وتندبه

وقلبها بيد الأرزاء منتهب

تقول : يا والدي! ضاق الفضاء بنا

لمّا مضيت وحالت دونك الكرب

(قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا)

نفوا أخاك عليّا عن خلافته

وشيخ تيم عنادا منهم نصبوا

كقوم موسى أطاعوا العجل واعتزلوا

هارون ، والسّامري الرجس قد صحبوا

ويل لهم! نبذوا القرآن خلفهم

ومزّقوه عنادا بئس ما ارتكبوا

ما راقبوا غضب الجبّار حين إلى

المختار أحمد قول «الهجر» قد نسبوا


ألغوا وصاياه في أهليه وانتهبوا

ميراثه وإلى حرمانهم وثبوا

جاروا على ابنته من بعده فغدت

عبرى النواظر حزنا دمعها سرب

وجرّعوها خطوبا لو وقعن على

صمّ الجبال لأضحت وهي تضطرب

أبضعة الطهر طه نصب أعينهم

بالباب يعصرها الطاغي وما غصبوا؟

رضّوا أضالعها أجروا مدامعها

أدموا نواظرها ميراثها نهبوا

لبيتها وهي حسرى في معاصمها

عدو فلاذت وراء الباب تحتجب

فألموا عضديها في سياطهم

وأسقطوا حملها والمرتضى سحبوا

قادوه بالحبل قهرا وهي خلفهم

تدعو وأدمعها كالغيث ينسكب

يا قوم! خلّوا ابن عمي قبل أن تقع

الخضراء فوق الثرى والكون ينقلب

فقنعوها بقرع الأصبحيّة لأ

عداهمو سخط الجبار والغضب

ووشّحوا متنها بالسوط فانكفأت

لدارها وحشاها ملؤه عطب

حرّى الفؤاد يروي الأرض مدمعها

فكلما سال هذا ذاك يلتهب

قد حارب النوم عينيها وأنحلها

فرط البكاء وأضنى جسمها التعب

ما بارحت قلبها الأحزان ذات حشا

حرّى إلى أن أهيلت فوقها التّرب

قضت وفي جنبها أثر السياط وفي

فؤادها للرزايا جحفل لجب

ما شيّعوا نعشها السامي علا ولقد

تزاحمت خلفها الأملاك تنتحب

سلّوا ضبا الظلم من أغمادها فغدا

في حدّها سبط طه الطهر يعتصب

ثاو بحرّ هجير الشمس مجندلا

تظلّه السّمر والهندية القضب

جالت عليه العوادي بعد ما نهبت

أشلاءه البيض والعسالة السلب

يا ثاويا بمحاني الطفّ قد سلبوا

ثيابه وكست جثمانه الكثب

«تالله ما سيف شمر نال منك ولا

يدا سنان وإن جلّ الذي ارتكبوا

لو لا الأولى أغضبوا ربّ العلى وأبوا

نصّ الولاء وحقّ المرتضى غصبوا

كفّ بها أمّك الزهراء قد ضربوا

هي التي أختك الحوراء بها سلبوا»

فدونكم يا بني الزهراء مرثية

إن تتل شجوا فقلب الصخر ينشعب


أرجو خلاصي بها يوم لا سبب

يغني سواكم ولا مال ولا حسب

عليكم صلوات الله ما طلعت

في الأفق شمس ولاحت أنجم شهب (١)

وله أيضا قدّس الله سره الشريف :

لا رعى الله «قيلة» وعراها

سخط موسى وحلّ منها عراها

أغضبت أحمدا بعزل إمام

فيه كم آية جهارا تلاها

واجهته بما لهارون قد ما

واجهت قومه ضلالا سفاها

أخّرته وأمّرت شيخ «تيم»

سرّ كفرانها وقطت شقاها

حالفته على الضلال وحادت

عن أخي المصطفى منار هداها

أحدثت للورى أحاديث كذب

لا نبيّ ولا وصيّ رواها

أسخطت ربّها فلا رضى ال

رحمان عنها وخالفت نصّ طاها

فلكم قال : وارثي ووصيي

«حيدر» وهو للورى مولاها

هو مني كمثل هارون وهو

الفلك للعالمين فيه نجاها

فاحفظوا لي وصيتي بابن عمي

إنّه للعلوم شمس سماها

أيّها القوم! إن بعدي كتاب الله

فيكم وعترتي لن تضاهى

إنّ من صدّ عنهما كبرياء

فله النار في غد يصلاها

فغدا منهم يقاسي كتاب الله

هجرا والآل فرط جفاها

حاربوا «فاطما» وقد فرض الله

على الخلق حبّها وولاها

لقيت منهم خطوبا عظاما

لا يطيق الذّود الأشمّ لقاها

كسر ضلع وغصب إرث ولطما

واهتضاما منه استطال عناها

أخرجوها من المدينة قهرا

مذ أطالت لفقد «طه» نعاها

وعلى هضمها تواطأت الأنصار

سرّا وأظهرت بغضاها

عزلت بعلها عن الحلّ والعقد

عنادا وأمّرت أدعياها

غصباها تراثها ولظى الو

جد وفرط السقام قد أورثاها

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء للمقرّم (قدس‌سره) ص ١٣٥ ـ ١٣٨.


دفعاها عنه عنادا وظلما

مزّقا صكها وما راعياها

وادّعت نحلة لها من أبيها

سيّد الأنبياء فلم ينحلاها

فانثنت والفضاء ضاق عليها

وشواظ الزفير حشو حشاها

وأتت دارها تجرّ رداها

والجوى كان أن يريها رداها

فأتوا دارها وأداروا الجز

ل كي يحرقوا عليها خباها

عصروها بالباب قسرا إلى أن

كسّروا ضلعها وهدّوا قواها

ألجئوها إلى الجدار فألقت

«محسنا» وهي تندب الطهر طاها

دخلوا الدار وهي حسرى فقادوا

بنجاد الحسام حامي حماها

برزت خلفهم تقوم وتكبوا

وحشاها ذابت بنار شجاها

وعلى رأسها قميص أبيها

وعلى متنها استوى فرخاها

وهي تعدو خلف الوصي وتدعو

بانكسار فلم يجيبوا نداها

أيّها القوم! أطلقوا صفوة الله

إمام الأنام عقد ولاها

أو لأدعو الله العظيم بشجو

فتخرّ الخضراء على غبراها

فأتاها العبد المشوم فأدمى

متنها فانثنت تطيل بكاها

وهي منهم بمسمع وبمرأى

نصب عينهم تقاسي أذاها

آذياها عند الحياة ولمّا

حضرتها الوفاة ما شيّعاها

دفنت في الدجى وعفى «عليّ»

قبرها ليته استطال دجاها

أفمثل ابنة النبيّ يوارى

شخصها في الدجى ويعفى ثراها؟ (١)

وللسيّد محمد نجل السيّد جمال الهاشمي :

أيّ خطب يبكي عليه خطابي

ومصاب قد شاب شهدي بصاب

آه يوم الزهراء أيّ فؤادي

علوي عليك غير مذاب

لك في الدهر رنّة رددتها

بخشوع أجياله واكتئاب

__________________

(١) الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ٧ / ٥٤ ـ ٥٦ ؛ وكتاب وفاة الصدّيقة الزهراء ص ١٣٨ ـ ١٤٠.


فهي نار تذكي القرون ونور

رف لألاؤه على الأحقاب

وهي للمجد فيه للسا

لك تبدو الصحاب غير صعاب

غاب نور النبي وانقطع الوحي

وخارت عزائم الأراب

وارتمى موكب الحياة وجاشت

نزعات النفاق في الأحزاب

فانطوى النور في ظلام كثيف

نشرته جرائم الانقلاب

وانمحى الحقّ والصراحة لمّا

ساد عهد الضلال والارتياب

موقف أربك العصور فأخفت

رأيها في القلوب والأهداب

غضبة الحق ثورة تجرف الباطل

في موج عرمها الوثاب

عجب أمرها وأعجب منه

إلها تنتمي لذات نقاب

وإذا اللبوة الجريحة ثارت

لهث الموت بين ظفر وناب

شمرت للجهاد سيّدة الإسلام

عن ذيل عزمها الصخاب

وأتت ساحة الجهاد بإيما

ن يرد السيوف وهي نواب

حاكمت عهدها المدمى بقلب

وأغرّ من شجونها لهاب

لم تدع للمهاجرين وللأنصار

رأيا إلا انمحى كالضباب

واستعانت بالحقّ والحق درع

من أمان وصارم من صواب

رجمتهم بالمخزيات فآبوا

وهم يحملون سوء المئاب

حجج كالنجوم ينثرها الحقّ

ويرمي الشهاب إثر الشهاب

فهي إما عقل وإما حديث

جاء عن نصّ سنّة أو كتاب

فتهاوت أحلامهم كصروح

شادها الوهم عاليا في السراب

آه لو لا ضعف النفوس لما استرجع

ركب الهدى على الأعقاب

ولما عادت الإمارة للقوم

وجازوا إمامة المحراب

واستقرّت هوج العواصف لمّا

قابلتها سياسة الإرهاب

لا خطاب من عاذل لا جواب

عن سؤال لا هجمة من عتاب

ومذ انهارت الرجال وعادوا

بتلول من خزيهم وروابي


واختفى النصّ بالولاية لمّا

أظهر الكيد فكرة الانتخاب

أوقد الغدر في السقيفة نارا

علّقت في مواكب الأحقاب

وتلاشى «الغدير» إلّا بقايا

تترامى بها بطون الشّعاب

وتوالت مناظر مؤلمات

مثّلتها عداوة «الأصحاب»

من هجوم الأرجاس بالنار كي

تحرق بيت الأكارم الأطياب

وانكسار الضلع المقدّس بالضغط

وسقط الجنين عند الباب

وانتزاع الوصي سحبا من الدار

بتيّار ثورة الأعصاب

واغتصاب الحقّ الصريح جهارا

باختلاف الأعذار للاغتصاب (١)

وللسيّد عيسى الكاظمي :

خطب يذيب من الصخور صلابها

ويزيل من شمّ الجبال هضابها

فلو أنّ ما قاسيت منه صادفت

صم الصفا معشاره لأذابها

خطب له أمسيت أصفق راحتي

وذوو المعالي منه تقرع نابها

أجداث تيم لا سقت لك حفرة

ديم السحاب ويا عدمت ربابها

كلا ولا ريح الصبا لك روحت

أرضا ولا روى الغمام ترابها

قد ضمّ تربك من على إشراكها

يوم السقيفة نكصت أعقابها

لم ترع ذمّة أحمد من بعده

فلها أطال الله فيك عذابها

نسجت لها في الشرك برد ضلالة

ومن الخيانة فصلت جلبابها

عقدت بذلك بيعة مذ دحرجت

للمصطفى الهاد النبيّ (دبابها)

الله مما قد جنت إذ قدّمت

من ساد فيه بنو الضلال قبابها

قد أخّرت من كان غامض علمه

لمدينة العلم الرفيعة بابها

فأتتهم (الزهراء) تطلب إرثها

ولهم أطالت في الكلام خطابها

فعدت تنمق تيم من إشراكها

أخبار زور ما عدت كذابها

حتى إذا لم ترع ذمة أحمد

فيها ولا راعت لها أنسابها

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء للمقرّم ص ١٤٦ ـ ١٤٧ ؛ الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ٧ / ٦٢ ـ ٦٤.


عطفت على القبر الشريف برنة

تشكو إليه من اللئام مصابها

والله ما أدري لأي مصيبة

تشكو فقد هدّ القوى ما نابها

ألعصرها بالباب حتى أسقطت

أم حرقها يا للبرية بابها

أم لطمها حتى تناثر قرطها

وبه تقصد (عينها) فأصابها

أم ضربها حتى تكسر ضلعها

ضربا يروم به (الزنيم) إيابها

أم غصبهم من بعد ذلك نحلة

أم أنهم خرقوا لذاك كتابها

أم قودهم لإمامهم بنجاده

كيما يبايع جهرة أذنابها

والطهر تهتف خلفهم في رنة

ملأت من البيد القفار رحابها

ما عندهم لنبيهم فيها إذا

ما قد تولى في المعاد حسابها

يوم به (الزهراء) تحمل (محسنا)

سقطا فتذهل للورى ألبابها (١)

وللسيّد مهدي الأعرجي تغمده الله برحمته :

ما بال عينيك دما تنسكب

ونار أحشاك أسى تلتهب؟

أهل تذكرت عهودا سلفت

لزينب فأرقتك زينب؟

أم هل تشوقت ظباء سنحت

بالجزع أم راقك ذاك الربرب؟

أم هل شجتك أربع قد درست

فأخلقت جدتهن الحقب؟

أم هل دهتك الحادثات مثلما

دهت فؤادي يوم (طاها) النوب؟

يوم قضى فيه النبي نحبه

فضلت الدنيا له تنتحب

وانقلب الناس على أعقابهم

ولن يضر الله من ينقلب

وأقبلوا إلى (البتول) عنوة

وحول دارها أدير الحطب

فاستقبلتهم (فاطم) وظنّها

إن كلّمتهم رجعوا وانقلبوا

حتى إذا خلت عن الباب وقد

لاذت وراها منهم تحتجب

فكسروا أضلاعها واغتصبوا

ميراثها وللشهود كذبوا

وأخرجوا (الكرّار) من منزله

وهو ببند سيفه ملبب

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء ص ٥٩ ـ ٦٠


يصيح أين اليوم منّي (حمزة)

ينصرني و (جعفر) فيغضب

وخلفهم (فاطمة) تعثر في

أذيالها وقلبها منشعب

تصيح خلوا عن (علي) قبل أن

أدعوا وفيكم أرضكم تنقلب

فأقبل (العبد) لها يضربها

بالسوط وهي بالنبي تندب

يا والدي هذا (علي) بعد عين

يك على اغتصابه تألبوا

واعتزلوه جانبا وأمّروا

ضئيل تيم بعده ونصبوا

تجاهلوا مقامه وهو الذي

بسيفه في الحرب قدّ (مرحب)

ولو تراني والعدى تحالفوا

عليّ لما غيبتك الترب

وجرعوني صحبك الصاب وقد

تراكمت منهم عليّ الكرب

ولم تزل تجرع منهم غصصا

تندك منها الراسيات الهضب

حتى قضت بحسرة مهضومة

حقوقها وفيئها مستلب

وأخرج (الكرّار) ليلا نعشها

(وزينب) خلفهم تنتحب

فقال للزكي سكتها فلا

يسمع جهرا صوتها المحجب

فلو يراها بالطفوف والعدى

منها الرداء والخمار تسلب

تجول في وادي الطفوف كي ترى

أطفالها من الخيام هربوا

ثم انثنت نحو أخيها وإذا

به على وجه الثرى مخضب (١)

وللسيّد محمّد حسين الكيشوان :

ما لك لا العين تصوب أدمعا

منك ولا القلب يذوب جزعا

فأيما قلب أتاه نبؤ

الشورى فما ذاب ولا تصدعا

أما وعى سمعك وما جرى بها

فأي سمع فاته وما وعى

وما دريت باللذين استنهضا

جالية الغي فهبت سرعا

سلا من الأحقاد سيف فتنة

نتاجها من الضلال البدعا

وانتهزاها فرصة فاحتلبا

من ضرعها كأس النفاق مترعا

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ الكوثر ج ٧ / ٦٤ ـ ٦٥.


واتعبا نهج الهدى وجانبا

من الرسول شرعه المتبعا

فليت شعري أي عذر لهما

وقد أساءا بعده ما صنعا

وأي قربى وصلا منه وعن

عترته حبل الولا قد قطعا

فقل لتيم لا هديت بعد ما

طاف أخوك بالضلال وسعى

خف لداعي الكفر نهضا فانثنى

بثقل أعباء الشقا مضطلعا

فقام وهو يستقيل عثرة

كبا على الغي بها فلا لعا

درى بأنّ (فاطما) بضعته

فما رأى حرمتها ولا رعى

كيف يطيب شيمة وعنصرا

وعن أروم البغي قد تفرعا

واجتمع الناس عليه ضلة

ففرقوا من الهدى ما اجتمعا

وأظهروا باطنة الكفر عمى

مذ أبصروها فرصة ومطمعا

وخالفوا نصّ الولاء بعد ما

أماط عن وجه الرشاد برقعا

وغادروا حقّ البتول نهلة

تجرعوها بالضلال جرعا

وافتتنوا من ولع بسورة

الدنيا فهاموا بالدنيا ولعا

وأودع الثقلين فيهم فأبوا

أن يحفظوا لأحمد ما استودعا

وجمعوا النار ليحرقوا بها

البيت الذي به الهدى تجمعا

بيت علا سمك الضراح رفعة

فكان أعلا شرفا وأمنعا

اعزه الله فما تهبط في

كعبته الأملاك إلا خضعا

بيت من القدس وناهيك به

محط أسرار الهدى وموضعا

وكان مأوى المرتجى والملتجى

فما أهز شأنه وأمنعا

فعاد بعى المصطفى منتهكا

حريمة وفيئه موزعا

وأخرجوا منه عليا بعدما

أبيح منه حقه وانتزعا

وأخرجوا منه عليا بعدما

أبيح منه حقه وانتزعا

قادوه قهرا بنجاد سيفسه

فكيف وهو الصعب يمشي طيعا

فعاد إلا انه عن حقه

صد وعن مقامه قد دفعا

ما نقمسوا منه سوى أن له

سابقة الإسلام والقربى معا


وأقبلت فاطم تعدوا خلفه

والعين منها تستهلّ أدمعا

فانتهروها بسياط قنفذ

وكسروا بالضرب منها أضلعا

فانعطفت تدعو أباها بحشى

تساقطت مع الدموع قطعا

يا أبتا هذا عليّ أعرضوا

عنه ضلالا وابن تيم تبعا

أهتف فيهم لا أرى واعية

تعي ندائي لا ولا مستمعا

أمسى تراثي فيهم مغتصبا

منّي وحقّي بينهم مضيعا

وانكفأت إلى عليّ بعد ما

تجرّعت بالغيظ سما منقعا

قالت أتغضي والنفاق صارخ

حتى استعاذ الدين منه فزعا

ونمت عن ظلامتي عفوا وأنت

الموقظ العزم إذا الداعي دعا

أحجمت والذئاب عدوا وثبت

فأقحمت منك العرين المسبعا

ولنت أخدعيك في الضّيم وما

عهدت منك أن تلين أخدعا

وكيف أضرعت على الذلّ لهم

خدّك وهو للعدى ما ضرعا

عزّ عليك أن ترى تسومني

من بعد عزّ (قيلة) أن أخضعا

تهضمني بالأذى ولم أجد

مأوى إليه التجي ومفزعا

ألفيتها معرضة عني وما

أبقت بقوس الصبر مني منزعا

فقال يا بنت النبي احتسبي

حقك في الله وخلّي الجزعا

واجملي صبرا فما ونيت عن

ديني ولا أخطأت سهم موقعا

فاسترجعت كاظمة لغيظها

مبدية حنينها المرجعا

حتى قضت من كمد وقلبها

كاد بفرط الحزن أن ينصدعا

قضت ولكن مسقطا جنينها

مولعا فؤادها مروعا

قضت ومن ضرب السياط جنبها

ما مهدت له الرزايا مضجعا

قضت على رغم العدى مقهورة

ما طمعت أعينها أن تهجعا

قضت وما بين الضلوع زفرة

من الشّجى غليلها لن ينقعا (١)

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء ص ١٤١ ـ ١٤٤.


الأمر الثالث : ردّ الشّبهات الطارئة على ظلامات الصدّيقة الطاهرة.

لقد شهدت ساحتنا في الآونة الأخيرة هزّات تشكيكية أوّل ما تناولت إنكار مظلومية الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام لا سيّما ضربها وإسقاط جنينها وكسر أضلاعها ، بدعوى أنه من المستبعد أن يدخلوا عليها بمرأى من جموع المسلمين ، ثم ميّع تيار الحداثة تلك المأساة لصالح المعتدين ، فبات الأنصار لاحقا يشمتون بنا بحجة أن منّا من شكّك باعتداء أبي بكر وعمر على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام ، لذا ارتأينا ـ ومن باب أنّ مصلحة التشيع فوق كلّ الاعتبارات والحساسيات ـ ذكر بعض الشّبهات والردّ عليها.

الشّبهة الأولى :

إنّ الاعتداء على الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لم يقم الإجماع الإمامي عليه ، ولو كان هناك إجماعا لما خالفه الشيخ المفيد حيث لم يذكر كسر الضلع في كتبه ، وعليه فلا وجه لمّا تمسّك به الشيعة ضد عمر بن الخطاب الذي كسر ضلع الصدّيقة وأسقط جنينها ، هذا مضافا إلى أن الشيخ المفيد خالف الإجماع المدّعى على سقوط جنين للصدّيقة الزهراء اسمه «محسن» فقال :

«أولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولدا ذكرا وأنثى : الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكنّاة أم كلثوم ، أمّهم فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين بنت سيّد المرسلين محمّد خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولدا ذكرا كان سمّاه رسول الله عليه‌السلام ـ وهو حمل ـ محسنا ، فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمانية وعشرون ، والله أعلم» (١).

فمخالفة المفيد للإجماع يوحي بعدم تبنّيه للإسقاط ولكسر الضلع.

__________________

(١) الإرشاد ج ١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.


يرد عليها :

أولا : مخالفة المفيد للإجماع ـ لو سلّمنا بذلك ـ لا يضر بانعقاده ، ما دام المخالف معلوم النسب كما هو مقرّر في محله ، هذا مضافا إلى أن المفيد نفسه قد ذكر الإسقاط في كتابيه «الاختصاص والأمالي» ، وعدم ذكر المفيد لكسر الضلع في كتبه ، لا يدل على إنكاره له من الأساس ، وبعبارة أخرى : عدم وجود ذاك في كتبه ، ليس دليلا على عدم اعتقاده بالكسر.

ثانيا :

حينما ذكر الشيخ المفيد بعبارته المتقدمة «وفي الشيعة من يذكر ..» قصد به الإمامية الاثني عشرية ، حيث هم فرقة من فرق الشيعة ، إذ إن مصطلح الشيعة ليس مخصوصا بالاثني عشرية بل يعم كل من اعتقد بإمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وإن لم يعتقد بإمامة سائر الأئمة الميامين عليهم‌السلام ، فالزيدية والفطحية والناووسية والواقفية وغيرهم من فرق الشيعة.

وعليه فإن المفيد أراد تخصيص الإمامية عن غيرها من فرق الشيعة ، فقال : «وفي الشيعة من يذكر» وذيل كلامه : «فعلى قول هذه الطائفة ..» يؤكد ما قلنا من أنه ليس كلّ الشيعة يعتقد بإسقاط محسن بل خصوص الإمامية منهم ، من هنا لقّب الشيخ الطوسي ب «شيخ الطائفة» والمقصود هو طائفة الإمامية ، لا مطلق الشيعة.

ثالثا :

لقد راعى المفيد الظروف والأجواء السياسية المشحونة بالتعصب ضد الشيعة يوم ذاك ، فكان الحنابلة ـ بين الحين والآخر ـ يشنون الحملات المستعرة على الإمامية ، فكانوا يحرقون البيوت ويذبحون الأطفال والنساء ، فقد روى المؤرخون أن السنّة قد أحرقوا في عام ٣٦٢ ه‍ سبعة عشر ألف إنسان ، وثلاث مائة دكان ، وثلاثة وثلاثين مسجدا ، وثلاث مائة وعشرين دارا (١) ومن الأموال ما لا يحصى.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٦٢٨ حوادث عام ٣٦٢ وحوادث ٣٦١ ه‍ وج ٩ / ٥٩١.


بل إن هجوم السنّة كان متواصلا على بيوت الشيعة ومساجدهم وكانوا يلقبونهم بالروافض ، بل إن قتل رافضي أفضل من قتل كافر (١).

قال أبو الفداء الحافظ عن ابن كثير الحنبلي في تاريخه :

«في عاشر المحرّم منها عملت الشيعة مأتمهم ـ أي مراسم عاشوراء ـ وبدعتهم على ما تقدم قبل ، وغلقت الأسواق وعلّقت المسوح ، وخرجت النساء سافرات ، ناشرات شعورهن ، ينحن ويلطمن وجوههنّ في الأسواق والأزقة على الحسين.

وهذا تكلّف لا حاجة إليه في الإسلام ، ولو كان هذا أمرا محمودا ، لفعله خير القرون ، وصدر هذه الأمة ، وخيرتها وهم أولى به ، ولو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وأهل السنّة يقتدون ولا يبتدعون.

ثم تسلّطت أهل السنّة على الروافض ، فكبسوا مسجدهم ، مسجد براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة» (٢).

ويذكر ابن الأثير :

إن الحنابلة لما أكثروا القتل في شيعة الكرخ ، تشدد زعيم الشيعة على أتباعه فمحوا : «خير البشر» ذيل قول الشيعة : محمّد وعليّ خير البشر ، فلم يقبل السنّة بذلك فقالوا : لا نرضى إلّا أن يقلع الآجرّ الذي عليه محمّد وعليّ وأن لا يؤذّن : حيّ على خير العمل. وامتنع الشيعة من ذلك ، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول .. ثم لمّا قتل رجل سني ، هاج السنّة واستنفروا للأخذ بثأره ، فقصدوا مشهد الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام الجواد عليهما‌السلام وأحرقوا جميع الترب والآزاج ، واحترق الضريح والقبّتان الساج اللتان عليهما ، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه وعدة قبور ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٥٧١ حوادث عام ٣٥٥.

(٢) البداية والنهاية ج ١١ / ٢١٥ حوادث عام ٣٥٤ ه‍.


بل تعدى ظلمهم إلى أنهم أرادوا حفر قبر الإمام موسى بن جعفر ومحمّد بن علي فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر ، فجاء الحفر إلى جانبه ..» (١).

وفي حوادث عام ٣٦٣ ه‍ قال ابن الأثير وابن خلدون أيضا :

«إن أبا تغلب قد قارب بغداد فثار العيارون بها وأهل الشرّ بالجانب الغربي ، ووقعت فتنة عظيمة بين السنّة والشيعة ، وحمل أهل سوق الطعام ، وهم من السنّة امرأة على جمل ، وسمّوها عائشة ، وسمّى بعضهم نفسه طلحة ، وبعضهم الزبير ، وقاتلوا الفرقة الأخرى ، وجعلوا يقولون : نقاتل أصحاب عليّ بن أبي طالب وأمثال هذا من الشر» (٢).

بل إن النصوص التاريخية تفيد أن الشيخ المفيد نفاه سلطان زمانه مرتين من الكرخ ، الأولى(٣) عام ٣٩٢ ه‍ ، والثانية (٤) عام ٣٩٨ ه‍.

كما «أن عميد الجيوش قد منع الروافض من النياحة في عاشوراء ، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر من ذي الحجة ، الذي يقال له : غدير خم» (٥).

بعد كلّ هذا ، هل بمقدور الشيخ المفيد حينئذ أن يذكر قضية كسر الضلع ، ألا يزيد ذكرها تعصّب العامة وحقدهم على الشيعة؟ ولو ذكرها بتفاصيلها في الإرشاد لكان ذلك مستندا عليه.

ولكنّ ذكر المفيد لقضية رفس عمر للصدّيقة عليها‌السلام في كتابه الاختصاص يبقي الإشكال على حاله ، إذ لو أراد تطرية الأمور باستعمال المداراة لما كان ذكرها

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٩ / ٥٧٧ باب ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد على ساكنيه.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٢٣٢ وص ٦٣٢ حوادث سنة ٣٧٥ ه‍ ؛ والعبر لابن خلدون ج ٤ / ٤٤٧.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٩ / ١٧٨.

(٤) نفس المصدر ج ٩ / ٢٠٨.

(٥) البداية والنهاية ج ١١ / ٣٤٤.


في الاختصاص ، وتعرّض للعن قاتل الصدّيقة وابنها السقط عليه‌السلام ، اللهم إلّا أن يقال : إن استعمال المداراة في كتاب الإرشاد الذي كان آخر مؤلفاته دون الأمالي والاختصاص للتخفيف من حدة الصراع القائم بين الشيعة والسنّة يومئذ ، فكان عدم ذكره للكسر نوع تقية يأمر بها الشرع والعقل حال خوف الضرر ، فهو وإن كان لم يشر إلى المسألة بشكل تفصيلي ، لكنه أشار إليها بصورة خفية وذكية حيث أثبت في المقنعة والمزار كونها عليها‌السلام «شهيدة طاهرة».

قد يقال : ربما كانت شهادتها نتيجة إسقاطها لابنها محسن عليه‌السلام وليس لكسر ضلعها.

قلنا : صحيح قد يكون سبب الموت ما ذكره الإشكال ، لكنه ضئيل عادة لا سيّما النساء اللاتي يملكن أجساما متكاملة وقوية ، فكيف بالصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام حيث إن مبدأ نشوء جسدها الطاهر كان في تفاحة الفردوس ، فمن البعيد جدا أن يكون سبب شهادتها الإسقاط لوحده ، بل إنّ تكسير الأضلاع الشريفة ونبت المسمار في الصدر المقدّس هو السبب الرئيسي في شهادتها عليها‌السلام ، لوجود قرائن منفصلة أخرى تثبت ذلك ، منها ما جاء في الزيارات المروية عنهمعليهم‌السلام من أنّها روحي فداها «مكسور ضلعها» و «شهيدة طاهرة». وقد روى ابن طاوس عن الأئمة عليهم‌السلام في كتاب الإقبال «باب زيارتها يوم مولدها» إن من زارها بهذه الزيارة واستغفر الله غفر الله له وأدخله الجنّة ، قال تقول : السلام عليك ... اللهم صلّ على الصدّيقة الطاهرة .. المظلومة المغصوبة حقها الممنوعة إرثها المكسور ضلعها المظلوم بعلها المقتول ولدها (١). ويظهر أن السيّد ابن طاوس أعلى الله مقامه الشريف أول من تجرّأ بذكر مسألة كسر ضلع جدته الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام في باب الزيارات ـ بحسب الظاهر ـ حسبما ذكرنا آنفا عنه أنه قال : «فقد روي أن من زارها بهذه الزيارة ..» وهذا يؤكد مدى حالة الخوف التي كان يعيشها الشيعة آنذاك ، عدا عن التقية التي هي السبب في عدم تجاهرهم بالمسألة ، لذا فإن الشيخ المفيد روى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٧ / ٢٠٠.


زيارتين مختصرتين للصدّيقة عليها‌السلام في كتاب المزار ومثلهما في المقنعة ص ٤٥٩ حرصا على ما ذكرنا ، وكذا كلّ من جاء بعده عدا ابن طاوس حيث خرق العادة فأثبت في مزاره كسر ضلع جدته السيّدة الزهراء عليها‌السلام. ومن جملة القرائن ما ورد من أنها ماتت بسبب ضرب عمر لها وضغطها بين الحائط والباب.

هذا مع التأكيد أن اللواتي يمتن حال الولادة أو بعدها ، مردّه إلى نفاسهنّ ـ بمعنى شدة ما يصيبهنّ من النزيف ، والصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لا نفاس لها ولا حيض كرامة لها من العليّ القدير كما استفاضت بذلك الأخبار من الخاصة والعامة.

رابعا :

لقد ادّعى الشيخ الطوسي رحمه‌الله الإجماع على ضرب الطاهرة الزكية وإسقاط جنينها ، ومن المعروف أن الطوسي تلميذ المفيد ، فكيف يدّعي التلميذ الإجماع ، وأستاذه مخالف له؟ ولو كان المفيد مخالفا للإجماع لكان على أقل تقدير أشار إلى مخالفة أستاذه ، أو لوّح إلى تأويل إنكاره ـ على فرض وجوده ـ.

وإذ لم يتعرّض الطوسي والمرتضى أيضا إلى قضية كسر الضلع فلا يعني ذلك أيضا عدم ثبوتها عندهم ، وذلك للظروف القاسية التي عاشها هؤلاء الأفاضل في العراق بداية القرن الرابع الهجري وأواسطه ، ومتى كان عدم الوجدان دليلا على الإنكار؟ قد يكون عدم ذكر كسر الضلع لمصلحة اطّلعوا عليها كتقية وغير ذلك مما لا نحيط بعلمه.

الشبهة الثانية :

ومفادها : استبعاد قضية ضرب الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام لأن السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة أو تمد إليها يد سوء ، وهذه الشبهة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، ووافقه عليها السيّد محمّد حسين فضل الله فقال الأول :

«طفقت واستفاضت كتب الشيعة من صدر الإسلام والقرن الأول مثل كتاب


سليم بن قيس ومن بعده إلى القرن الحادي عشر وما بعده بل إلى يومنا كلّ كتب الشيعة التي عنيت بأحوال الأئمة وأبيهم الآية الكبرى وأمّهم الصدّيقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين وكل من ترجم لهم وألّف كتابا فيهم ، أطبقت كلمتهم تقريبا أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البعضة الطاهرة أنها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها ولطموا خدّها حتى احمرّت عينها وتناثر قرطها وعصرت بالباب حتى كسر ضلعها وأسقطت جنينها وماتت وفي عضدها كالدملج ، ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا والرزايا ونظموها في أشعارهم ومراثيهم وأرسلوها إرسال المسلّمات من الكميت والسيّد الحميري ودعبل الخزاعي والنميري والسّلامي وديك الجن ومن بعدهم ومن قبلهم إلى هذا العصر ، وتوسّع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر والرابع عشر الذي نحن فيه كالخطي والكعبي والكوّازين وآل السيّد مهدي الحلّيين وغيرهم ممن يعسر تعدادهم ويفوت الحصر جمعهم وآحادهم ، وكل تلك الفجائع والفظائع وإن كانت في غاية الفظاعة والشناعة ومن موجبات الوحشة والدهشة ولكن يمكن للعقل أنّ يجوزها وللأذهان والوجدان أن يستسيغها ، وللأفكار أن تقيلها [تقبلها : ظ] وتهضمها ولا سيّما وأنّ القوم قد اقترفوا في قضية الخلافة وغصب المنصب الإلهي من أهله ما يعدّ أعظم وأفظع.

ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني ويتقبّله عقلي ويقتنع به مشاعري ، لا لأن القوم يتحرجون ويتورّعون من هذه الجرأة العظيمة بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركزتها الشريعة الإسلامية وزادتها تأييدا وتأكيدا تمنع بشدّة أن تضرب المرأة أو تمدّ إليها يد سوء ، حتى إنّ في بعض كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام ما معناه : أنّ الرجل كان في الجاهلية إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عارا في أعقابه ونسله.

ويدلّك على تركّز هذه الركيزة بل الغريزة في المسلمين وأنها لم تفلت من أيديهم وإن فلت منهم الإسلام ، إنّ ابن زياد وهو من تعرف في الجرأة على الله


وانتهاك حرماته لمّا فضحته الحوراء زينب عليها‌السلام وأفلجته وصيّرته أحقر من نملة وأقذر من قملة وقالت له : ثكلتك أما يا ابن مرجانة ، فاستشاط غضبا من ذكر أمّه التي يعرف أنها من ذوات الأعلام وهمّ أن يضربها فقال له عمرو بن حريث ، وهو من رءوس الخوارج وضروسها ، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، فإذا كان ابن مرجانة امتنع من ضرب العقيلة خوف العار والشنار وكلّه عار وشنار وبؤرة عهار مع بعد العهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف لا يمتنع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قرب العهد به من ضرب عزيزته ، وكيف يقتحمون هذه العقبة الكئود ولو كانوا أعتى وأعدى من عاد وثمود ، ولو فعلوا أو همّوا أن يفعلوا أما كان في المهاجرين والأنصار مثل عمرو بن حريث فيمنعهم من مدّ اليد الأثيمة وارتكاب تلك الجريمة ، ولا يقاس هذا بما ارتكبوه واقترفوه في حق بعلها سلام الله عليه من العظائم حتى قادوه كالفحل المخشوش فإنّ الرجال قد تنال من الرجال ما لا تناله من النساء.

كيف والزهراء ـ سلام الله عليها ـ شابّة بنت ثمانية عشر سنة ، لم تبلغ مبالغ النساء ، وإذا كان في ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع ، ويزيدك يقينا بما أقول أنها ـ ولها المجد والشرف ـ ما ذكرت ولا أشارت إلى ذلك في شيء من خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي ألقتها في المسجد على المهاجرين والأنصار وكلماتها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رجوعها من المسجد ؛ وكانت ثائرة متأثرة أشدّ التأثّر حتى خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها ، فقالت له : يا ابن أبي طالب افترست الذئاب وافترشت التراب ـ إلى أن قالت : هذا ابن أبي فلانة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابني ، لقد أجهد في كلامي ، وألفيته الألدّ في خصامي ، ولم تقل أنه أو صاحبه ضربني ، أو مدّت يد إليّ ؛ وكذلك في كلماتها مع نساء المهاجرين والأنصار بعد سؤالهن : كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ فقالت : «أصبحت والله عائفة لدنياكن ، قالية لرجالكنّ» ، ولا إشارة فيها إلى شيء من ضربة أو لطمة ، وإنما تشكو أعظم صدمة وهي غصب فدك وأعظم منها غصب الخلافة


وتقديم من أخّر الله وتأخير من قدّم الله ، وكل شكواها كانت تنحصر في هذين الأمرين وكذلك كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد دفنها ، وتهيج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم ، حيث توجّه إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك .. إلى آخر كلماته التي ينصدع لها الصخر الأصم لو وعاها ، وليس فيها إشارة إلى الضرب واللطم ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع ، ولو كان شيء من ذلك لأشار إليه سلام الله عليه ، لأن الأمر يقتضي ذكره ولا يقبل ستره ، ودعوى أنها أخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لا يمكن إخفاؤها.

أما قضية قنفذ وأنّ الرجل لم يصادر أمواله كما صنع مع سائر ولاته وأمرائه وقول الإمامعليه‌السلام أنه شكر له ضربته فلا أمنع من أنه ضربها بسوطه من وراء الرداء وإنما الذي أستبعده أو أمنعه هو لطمة الوجه وقنفذ ليس ممّن يخشى العار لو ضربها من وراء الثياب أو على عضدها. وبالجملة فإنّ وجه الزهراء هو وجه الله المصون الذي لا يهان ولا يهون ويغشى نوره العيون ، فسلام الله عليك يا أمّ الأئمة الأطهار ما أظلم الليل وأضاء النهار ، وجعلنا الله من شيعتك الأبرار ، وحشرنا معك ومع أبيك وبنيك في دار القرار (١).

وقال لثاني :

«أنا من الأساس لم أقل إنه لم يكسر ضلع الزهراء عليها‌السلام ، وكل من ينسب إلي ذلك فهو كاذب ، أنا استبعدت الموضوع استبعادا ، رسمت علامة استفهام على أساس التحليل التاريخي ، قلت : أنا لا أتفاعل مع هذا ، لأن محبة المسلمين للزهراء عليها‌السلام كانت أكثر من محبتهم لعليّ وأكثر من محبتهم للحسن والحسين وفوقها محبتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت إنه من المستبعد أن يقدم أحد على فعل ذلك ، مع الإقرار بوجود نوايا

__________________

(١) جنّة المأوى ص ٧٨ ـ ٨٦.


سيئة ومبيتة ، ليس لبراءة فلان من الناس ، بل خوفا من أن يهيّج الرأي العام الإسلامي.

وفي هذا المجال ، هناك روايات مختلفة ، فبعضهم يقول : دخلوا المنزل ، والبعض الآخر يقول : لم يدخلوا ، فقلت : أنا أستبعد ذلك ولا أتعامل مع الكلمة نفسها ..» (١).

والخلاصة : أنه لا يتفاعل مع ما نسب إلى عمر لشيئين :

الأول : لأن المسلمين كانوا محبين للصدّيقة فاطمة عليها‌السلام أكثر من محبتهم للإمام عليّ ولولديها الإمامين الحسن والحسين ، بل إن محبتهم لرسول الله أكثر من محبتهم للسيّدة الزهراءعليها‌السلام.

الثاني : أن القوم لا يقدمون على فعلهم الشنيع خوفا من أن يهيج الرأي العام الإسلامي.

يورد عليه :

أولا :

إذا كانت محبة المسلمين لرسول الله أكثر من محبتهم لابنته فلم لم يراعوه بها ، ألا يحفظ المرء في ولده (٢)؟ ولما ذا تخاذل هؤلاء عن نصرة رسول الله يوم أحد منهزمين عنه هاربين إلى الجبل ، ولما ذا لم نجدهم يواجهون من قال عن رسول الله «إنه ليهجر»؟

وإذا كان المعتدون يحبون رسول الله أكثر من الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام فلما ذا أنكروا على رسول الله قبل وفاته بجرأة ليس لها نظير عند ما قال عمر مقالته المشئومة أمام حشود المسلمين غير مبال ولا خائف أن يثور الرأي العام ضده ، بل

__________________

(١) الزهراء المعصومة انموذج المرأة العالمية ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) أشارت مولاتنا الزهراء عليها‌السلام بخطبتها فقالت : أما كان رسول الله أبي يقول المرء يحفظ في ولده؟


إن الكثيرين منهم وقفوا بجانب عمر ويقولون مقالته.

هذا مضافا إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم بالالتحاق بجيش أسامة فخالفوا أمره وقد لعن من تخلّف عن جيش أسامة ، فلم يصغوا بل عتوا واستكبروا استكبارا فهل كل هذا كان علامة محبة لرسول الله بنظر صاحب الدعوى؟

ثانيا :

إذا كان المسلمون ـ وفي طليعتهم أبي بكر وعمر ـ يحبونها ، فلما ذا أوصت الصدّيقة عليها‌السلام بأن لا يحضر أحد ممن ظلمها جنازتها؟! ولم يصلّ عليها إلّا الخواص من أصحاب أمير المؤمنين مما يدل على أن الكلّ وقفوا ضدها ، وعلى فرض أنهم يحبونها فلما ذا حرمتهم من هذا الأجر ، وحجزتهم عن نيل هذا الشرف؟!

ثالثا :

لو كان المسلمون يحبونها عليها‌السلام فلما ذا تركوها تتعرض للأذى والظلم ، ولما ذا تركوا زوجها أمير المؤمنين معرّضا لسهام ظلمهم؟! ولما ذا احتاج أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام إلى أن يدور بها على بيوت المهاجرين والأنصار لطلب نصرتهم ، فلم يلبّ من الأربعين إلّا أربعة أو خمسة؟!

رابعا :

إن دعوى إقدام القوم على الاعتداء عليها خوفا من الرأي العام الإسلامي مزحة لا يكاد يصدّقها عاقل ، إذ كيف يخافون من الرأي العام وهو تحت إمرتهم ، يقول ما يقولون ، بل عباد مكرمون يفعلون ما يؤمرون ، حيث إن الأغلبية يوم ذاك كانوا أصحاب مطامع ، من هنا كشف الله سبحانه عن واقعهم بقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.


وهل خاف المعتدون من الرأي العام عند ما اغتصبوا الخلافة من أصحابها الشرعيين وسلبوا الصديقة الزهراء حقها من فدك؟! اللهم إلا إذا كان المشكك لا يعترف بأنّ الخلافة غصبت أو أنّ فدكا ليست ملكا شخصيا لمولاتنا الزهراء؟! وما عشت أراك الدهر عجبا!

خامسا :

ليت صاحب الدعوى دلّنا على ذاك البعض الذي قال إنهم لم يدخلوا دارها ، مع أن العامة مجمعون مع الخاصة على دخول عمر وزمرته إلى دارها ، وعلى فرض وجود شاذ «لا يقول بأنهم دخلوا» فلا يعوّل عليه لمعارضته للإجماع المبتني على الأخبار من الطرفين ، ولو لم يكن إلّا أخبارنا لكفى في الحجّية ، وعليه فكيف يقدّم ـ صاحب الدعوى ـ قول هذا البعض الشاذ من العامة على أخبارنا؟!!

* وأمّا كاشف الغطاء فهو بعد أن استفاض بما طفحت به كتب الشيعة منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا في ذكر مصائب الصدّيقة الطاهرة وبعلها وأولادها عليهم‌السلام إلّا أنه استدرك باستبعاده ضرب الطاهرة الزكية ولطم خدها حيث لا يقبله وجدانه ولا تقتنع به مشاعره لأن السجايا العربية تمنع بشدة أن تضرب المرأة ، ثم أيّد كلامه بما ورد عن أمير المؤمنين أن الرجل في الجاهلية كان إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عارا في أعقابه ونسله.

وبالجملة : يبتني استبعاده على أمرين :

(١) أن السجايا العربية تمنع بشدة أن تضرب المرأة.

(٢) أنها لو ضربت ـ بنفسي هي وأمي وأبي ـ لكانت أشارت وذكرت ذلك في خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلّمها من القوم بغصبهم الخلافة وفدك ، وليس فيها إشارة إلى شيء من ضربة أو لطمة.

يورد عليه :

أولا : إذا كانت السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركزتها الشريعة


وزادتها تأييدا تمنع بشدة أن تضرب المرأة أو تمد إليها يد سوء فلا يعني استحالة هذا الأمر منهم فيما إذا كان ثمة داع أقوى ، يدفع إلى ارتكاب أفظع الجرائم ، وهتك أعظم الحرمات ، لا سيّما إذا كان هذا الداعي هو شهوة الحكم والسلطة.

وعلى فرض وجود سجايا عربية تمنع من ضرب المرأة ، فلا مانع من أن يخرج من هذا العموم السائد في الجزرية آنئذ أفراد على نحو التخصيص (١) ، ولا ضير في أن يشذ بعض الأفراد عن الأعراف والتقاليد والأخلاق في كل عصر ومصر ، ولو كانوا يملكون وازعا دينيا أو أخلاقيا لما نعتوا النبي بالهجر ، بل لو كان العرب يمنعون من ضرب المرأة في الجاهلية فلم كانوا يدسّون بناتهم في التراب وهنّ أحياء وقد قال تعالى مستنكرا عليهم (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٢). ولو كانت السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة ، فلم لم تمنع هذه السجايا ضرب الصدّيقة الصغرى زينب عليها‌السلام حيث جلدت بالسياط في كربلاء وكذلك بقية بنات الوحي معها ، ولم همّ ابن زياد لعنه الله بأن يبطش بابنة أمير المؤمنين عليّ فمنعه عمرو بن حريث لا لأن السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة احتراما لها ، بل لأنها لا تؤاخذ بشيء من منطقها ـ حسب تعبير عمرو بن حريث ـ.

ويؤكد ما قلنا ما نقله المؤرخون من سمية والدة عمار ماتت تحت وطأة التعذيب في مكة من قبل أبي جهل لعنه الله ، بل يروى أنه طعنها في أسفلها ، ويروى أن عمر نفسه كان يعذّب جارية بني مؤمل أيضا ، فكان يضربها حتى إذا ملّ ، قال : إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلّا ملالة (٣).

ويروى أيضا أن عمر ضرب النساء اللواتي بكين على أبي بكر ، فكان أول من ضرب بالدرة ـ على حد تعبير ابن أبي الحديد ـ أم فروة بنت أبي قحافة لمّا مات

__________________

(١) التخصيص : إخراج بعض أفراد العام عن الحكم.

(٢) سورة التكوير : ٨ ـ ٩.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ١ / ٣٤١ والسيرة الحلبية ج ١ / ٣٠.


أخوها ، فناح النساء عليه ، وفيهن اخته أم فروة ، فنهاهنّ عمر مرارا وهن يعاودن ، فأخرج أمّ فروة من بينهن وعلاها بالدرة ، فهربن وتفرقن (١).

ولما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين فجاء عمر فكان يضربهنّ بالدرة ، فسقط خمار امرأة منهنّ فقالوا : يا أمير المؤمنين خمارها؟ فقال : دعوها فلا حرمة لها ، وكان يعجب من قوله : لا حرمة لها (٢).

وروى ابن عبّاس قال :

لمّا ماتت زينب (٣) بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال رسول الله : ألحقوها بسلفنا الخيّر عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهنّ بسوطه فأخذ رسول الله يده وقال : مهلا يا عمر دعهنّ يبكين ، وإياكنّ ونعيق الشيطان .. إلى أن قال : وقعد رسول الله على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ، فجعل النبيّ يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها (٤).

وأخرج البيهقي (٥) عن ابن عبّاس قال : بكت النساء على رقية [بنت رسول الله] رضي الله عنها فجعل عمر ينهاهنّ ، فقال رسول الله ؛ مه يا عمر ، قال : ثم قال : إياكنّ ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الرّحمة ، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان. قال : وجعلت فاطمة رضي الله عنها تبكي على شفير قبر رقية فجعل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يمسح الدموع على وجهها باليد ، أو قال : بالثوب.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١ / ١٨١ والغدير ج ٦ / ١٦١.

(٢) الغدير ج ٦ / ١٦٢ نقلا عن كنز العمال ج ٨ / ١١٨.

(٣) ماتت سنة ثمان من الهجرة.

(٤) الغدير ج ٦ / ١٥٩ نقلا عن مسند أحمد ج ١ / ٢٣٧ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٩١ وصحّحه وقال الذهبي في المستدرك : سنده صالح ، مسند أبي داود الطيالسي ص ٣٥١ ، الاستيعاب في ترجمة عثمان بن مظعون ج ٢ / ٤٨٢ ، مجمع الزوائد ج ٣ / ١٧.

(٥) السنن الكبرى ج ٤ / ٧٠.


وأخرج النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة أنه قال : مات ميّت في آل رسول الله فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهنّ ويطردهنّ ، فقال رسول الله : دعهنّ يا عمر فإنّ العين دامعة ، والقلب مصاب ، والعهد قريب (١).

ولا أدري إذا كان كاشف الغطاء وأمثاله قد قرءوا هاتيك المرويات عن عمر بن الخطاب حتى استدعت حمية الغيارى على العروبة أن يستبعدوا ضرب عمر للصدّيقة الطاهرة بحجة أن السجايا تمنع ، أو أن الرأي العام ينقلب ضدهم؟!

وهلا منعت تلك السجايا الكريمة أو الرأي العام من ضرب عمر لاولئك النسوة بمرأى من النبيّ المختار؟ وهل أن السجايا وغير ذلك يمنع من ضرب الزكية ولا يمنع من ضرب أختها زينب وأم فروة وغيرهن حتى أهدر النبيّ دم هبّار الأسود الذي روّع زينب وألقت ذات بطنها؟! وهل أن جميع هذه المرويات كانت خافية عن كاشف الغطاء وفضل الله حتى قالا ما قالا؟ لا أظن من يدّعي الفقاهة لنفسه أن تكون هذه الروايات على تواترها الإجمالي خافية عليه ، أو غير كافية لاقتناعه!

ثانيا :

إن كاشف الغطاء يعترف بأنّ قنفذا لعنه الله تعالى ضرب الصدّيقة الزكية روحي لتراب نعليها الفداء ، فكيف لم تمنعه السجايا العربية من ضربها ، مع أن عمر وقنفذا عربيان ومن قبيلتين كبيرتين في الجزيرة العربية؟! وهل أن التبعض بالأحكام جائز عند كاشف الغطاء وأمثاله ، بحيث يصح نسبة الضرب إلى قنفذ ولا يصح نسبتها إلى عمر وأبي بكر؟ وما وجه الفصل في ذلك؟!

وهل إن باء قنفذ تجر هنا ، ولا تجر عند ما تصل النوبة إلى عمر؟!

قد يقال :

إن قنفذا كان مولى لأبي بكر ، والمولى لا يؤاخذ بشيء من تصرفاته ، فلا لوم عليه في هذه القضية.

__________________

(١) الغدير ج ٦ / ١٥٩ ـ ١٦٠ نقلا عن عمدة القاري ج ٤ / ٨٧.


قلنا : إن كونه مولى لأبي بكر لا يبرّر صحة فعله ، ما دامت التقاليد العربية تمنع ، فليست السجايا حكرا على السادة دون الموالي ، هذا مضافا إلى أن تصرف الموالي من دون إذن السادة يعتبر جريمة لا تغتفر آنئذ ، ولو صدر أمر من المولى بحق المرأة ، فإنه حتما سيواجه باستنكار الناس له ، مع التأكيد على أن قنفذا لم يضرب الصدّيقة الزهراء من دون إذن عمر بذلك كما أكدت المصادر التاريخية على هذا الأمر ، وقنفذ لعنه الله ليس الوحيد الذي اختصّ بضرب الزكية عليها‌السلام وإنما كان من ضمن مجموعة شاركته بذلك.

ثالثا :

بعد ما اعترف كاشف الغطاء أن السيرة والكتب والشعراء استفاضوا بذكر مظلومية الطاهرة الزكية ـ فديتها نفسي ـ فلما ذا لا يقبل وجدانه أن يكون عمر هو الذي ضربها عليها‌السلام بدعوى أن ضربه لها يوجب لحوق العار به ، وهل ـ يا ترى ـ يخاف عمر من العار ـ بعد ما فعله بالنسوة في عهد الرسالة وما فعله بالنبيّ في الحديبية وعلى فراش الموت ـ؟ وكيف يخاف العار وقد أمر قنفذا وخالدا والمغيرة بضرب حبيبة الله ورسوله وأمير المؤمنين؟! وهل ما استفاضت به كتب التاريخ منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا غير كافية لإقناع وجدان الشيخ ـ الفقيه حسبما يقولون ـ كاشف الغطاء ومسمّاه؟!

لا يحق لأي فقيه ـ مهما بلغت فقاهته علوا وارتقاء ـ أن يحكّم وجدانه وضميره وعاطفته في قضايا العقيدة والتاريخ وما شابههما ، لأن هذه القضايا تبتني على الأدلة العقلية والنقلية الصحيحة ، وبالأخص الأمور التاريخية التي لا يمكن استكشافها من خلال الوجدان والعاطفة بل ولا من خلال العقل ، لأن العقل دوره الكشف عما ثبت له بالنصوص الواردة والتحليل لمضمونها ، أما إنه يكشف من دون استعانة بالنصوص فهذا إن لم يكن من المستحيلات ، فهو على أقل تقدير من المتعذرات قطعا لم يدّعيها أحد لنفسه من الأولياء والمرسلين عليهم‌السلام.


رابعا :

عدم إشارة الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام إلى ضربها أو لطمها ، وكذا عدم إشارة أمير المؤمنين إلى تلك الأعمال الصادرة من القوم في حق مولاتنا الزهراء عليها‌السلام إنما هو من جهة عدم الاعتناء لما صدر منهم ، فإن الأكابر والأعاظم من الناس فضلا عمّن هو في مقام العصمة والولاية لا يعبئون بما يصدر من الأرذال في حقهم من الوهن وعدم رعاية الاحترام بمثل الضرب واللطم ، فإن هؤلاء الأرذال بنظر الأكابر هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، فهل ترى أن حيوانا رفس شخصا جليلا أن يقابله بمثل عمله وسوء صنيعه؟ أو يأتي هذا الشخص إلى حشد من الناس شاكيا من عمل هذا الحيوان؟ بل إذا خاطبهم الجاهلون بالأفعال الشنيعة كالضرب واللطم والشتم وأمثاله مروا كراما وقالوا سلاما ، من هذا المنطلق لم تتعرض الصدّيقة الطاهرة ، هي وزوجها المقدّس إلى أعمال القوم لهذه العلة ، وأمّا شكواها من غصب الخلافة وغصب فدك فإن لهذين الأمرين من الأهمية ما ليست لغيرهما.

رأي العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين «أعلى الله مقامه الشريف» :

يتمسك منكر الاعتداء على الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لتأكيد دعواه ـ التي لم يقم عليها الدليل ـ بأن الحجّة السيّد شرف الدين (قدس‌سره) لم يذكر في كتابيه النص والاجتهاد والمراجعات قضية الاعتداء عليها داخل الدار بل قال له : إن الثابت أنهم جاءوا بالحطب ليحرقوا الباب.

والجواب :

١ ـ لم تقتض المصلحة آنئذ أن يذكر الحجّة السيّد «أعلى الله مقامه الشريف» قضية لطم وضرب الصدّيقة الطاهرة وإسقاط جنينها محسن عليه‌السلام ، إذ لكل مقام مقال ، فعدم ذكره للقضية صريحا في كتابيه ليس دليلا على عدم اعتقاده بمسألة الاعتداء على جدته الزهراءعليها‌السلام.

٢ ـ إن السيّد شرف الدين قد ذكر في هامش المراجعة ٨٣ ناقلا عن


الشهرستاني عن النظام «أن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ..» كما استشهد رحمه‌الله بما أفرده أبو مخنف في كتابه عن السقيفة حيث قال قدس‌سره :

«.. وأفرد أبو مخنف لأخبار السقيفة كتابا فيه تفصيل ما أجملناه ، وناهيك في شهرة ذلك وتواتره قول شاعر النيل الحافظ إبراهيم في قصيدته العمرية السائرة :

وقولة لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص بقائلها

امام فارس عدنان وحاميها» (١)

وقال في المراجعة ٨٤ : «غير أنه قعد في بيته ولم يبايع حتى أخرجوه كرها» وكيف أخرجوه كرها؟ فتلك قضية لها قصتها التي حكاها أصحاب الأثر والتاريخ.

فعند ما يستشهد العلّامة شرف الدين بمن ذكرنا نعرف بالملازمة أنه يقرّ بمظلوميتها كالضرب والإسقاط الخ .. إذ كيف يستعرض ما ذكره الشهرستاني عن النّظام وفي نفس الوقت ينكر قضية الاعتداء؟!

ما نعتقده أن السيّد شرف الدين عليه الرحمة يذعن لمظلومية جدّته الصدّيقة الزكية عليها‌السلام لأن ما ذكره عن النظّام أكبر شاهد على ذلك ، هذا مضافا إلى أن كتب السيّد شرف الدين لا تنحصر في هذين الكتابين ، بل له مؤلفات أخرى مثل كتاب المجالس الفاخرة إذ يقول فيه :

«وكأني بها ، وقد أصلّي ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولعج فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثم انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا

__________________

(١) المراجعات ص ٣٦٦ المراجعة ٨٣ بتحقيقنا ، والنص والاجتهاد ص ٩٠ ط / الأعلمي ١٩٨٨ م.


فليت بعدك كان الموت صادفنا

لما قضيت وحالت دونك الكتب

ولم تزل ـ بأبي هي وأمي ـ بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غصة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، وأخلدت في بيت أحزانها إلى الشيحون ، حتى لحقت بأبيها ، معصبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض ..» (١).

وشرف الدين حينما لم يذكر المسألة صريحا ، حرصا منه على أن لا يثير حفيظة القوم ويبعثهم على العناد ، فتفوت الفائدة من الحوار معهم ، بالإضافة إلى أنه لم يرد الدخول في قضية ، لا يسلّم العامة بتفاصيلها ، لذا نراه في هذين الكتابين يعتمد في جلّ نقوضاته على مصادر العامة أنفسهم لتكون الحجة أبلغ وآكد.

وفي ختام الرد على هذه الشبهة نقول :

إن مسألة الاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من المسلّمات التاريخية التي قامت عليها النصوص المتواترة والصحيحة والصريحة ، فالتشكيك فيها يستلزم إنكار المتواتر وهو على حدّ الشرك بالله ـ حسبما جاء في النصوص ـ هذا مع التأكيد على أن الاستناد إلى أمر خطير كهذا على الاستحسان العقلي أو قول واحد أو اثنين أو ثلاثة من المتأخرين ، تفردوا بأمر لا شاهد لهم عليه ، ويخالفهم فيه آلاف العلماء ، بل علماء الأمة بأسرها ، وعشرات بل مئات النصوص ، يعتبر خيانة للحقيقة والبحث العلمي الموضوعي ، يراد منه تغيير الحقيقة التاريخية ، وترك كل ما عداه وتجاهله ، واقتلاع جذوره من أرض الواقع ومن وجدان المؤمنين.

الشّبهة الثالثة :

إن كتاب سليم بن قيس ـ الذي هو العمدة في الموضوع ـ ليس بمعتمد في صيغته ، بشهادة الشيخ المفيد وابن الغضائري اللذين صرّحا أن فيه خلطا لا يخفى على أحد.

__________________

(١) المجالس الفاخرة ص ٣٥.


قال الشيخ المفيد :

«وأما ما تعلق به أبو جعفر الصدوق ـ رحمه‌الله ـ من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عيّاش ، فالمعنى فيه صحيح ، غير أن هذا الكتاب غير موثوق به ، ولا يجوز العمل على أكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس ..» (١).

وعلى رغم شهرة سليم بن قيس التي أطبقت الآفاق نرى ابن الغضائري يشكّك به ، بل الأنكى من ذلك أنه ينسب التشكيك به إلى أصحابنا ، حيث قال :

«سليم بن قيس الهلالي العامري : روى عن أبي عبد الله والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم‌السلام ، وينسب إليه هذا الكتاب المشهور ، وكان أصحابنا يقولون إن سليما لا يعرف ولا ذكر في خبر ، وقد وجدت ذكره في مواضع من غير جهة كتابه ولا من رواية أبان بن أبي عيّاش ، وقد ذكر ابن عقدة في رجال أمير المؤمنين عليه‌السلام أحاديث عنه ، والكتاب موضوع لا مرية فيه ، وعلى ذلك علامات فيه تدل على ما ذكرناه منها : ما ذكر أن محمّد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت ، ومنها : أن الأئمة ثلاثة عشر ، وغير ذلك ، وأسانيد هذا الكتاب تختلف تارة برواية عمر بن أذينة عن إبراهيم بن عمر الصنعاني عن أبان بن أبي عيّاش عن سليم ، وتارة يروي عن عمر عن أبان بلا واسطة ، والوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه ، والتوقف في الفاسد من كتابه ..»(٢).

وقبل الإيراد على هذه الشّبهة أقول :

لو كان ما ذكره الشيخ المفيد وابن الغضائري صحيحا بالنسبة لكتاب سليم لدلّ ذلك على قلة تدبّرهما وتتبعهما ، بل يدل على ضعف تحقيقهما ، إذ كما صحّح

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ص ١٤٩ للشيخ المفيد.

(٢) جامع الرواة / الشيخ الاردبيلي ج ١ / ٣٧٤ نقلا عن ابن الغضائري ؛ والتنقيح للممقاني ج ٢ / ٥٢ ط / حجري.


المفيد عقائد الصدوق ، علينا أن نصحّح عقيدة هذين الرجلين في افترائهما على أصل الكتاب ، ولا يهمّنا أن فلانا شهدت له الطائفة بدفاعه عنها ، لأن أجره على الله تعالى إن كان مخلصا لا علينا ، وكثرة مصنفاته ودفاعه عن عقيدة آل البيت عليهم‌السلام لا تعني مطلقا أنه لا يخطئ أبدا ، ولا تستلزم أيضا أن يدور الحق معه حيثما دار ، وإلا فإن هناك من هو أجلّ منه وهو الصدوق الذي ولد بدعاء المعصوم عليه‌السلام ، وقد وقع في الخطأ ـ حسبما نسب إليه ـ حتى استدعى الأمر عند المفيد أن يردّ عليه مصحّحا له اعتقاداته.

وعليه فإن ما ذكره هذان الرجلان لا يعبّر عن وجهة نظر الإمامية في هجومهما على كتاب سليم ، لأن الحق فوقهما ، ومتى كانت أقوال الرجال حجّة في إثبات الحقائق أو نفيها؟

١ ـ عدم مطالعة الكتاب بدقّة وتعمّق ، وعدم ملاحظته كأصل أصيل اهتمّ به علماء الشيعة طيلة ١٤ قرنا.

٢ ـ الاشتباه في الآراء العلمية والمباني المتخذة في معنى الغلو وأمثاله ، ويتبع ذلك الاشتباه في فهم بعض مصطلحات الرجاليين المتقدمين.

٣ ـ إلقاء مجرد الاحتمالات وما يخطر بالبال في أول وهلة بلا تدبّر وتعمّق فيها وبدون ملاحظة أثرها في الأذهان.

٤ ـ أن جذور المسألة تنتهي في الأكثر إلى الدافع العقائدي في عدة من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام المظهرين للبغض والعناد مع كل ما يوجب إحياء أمر آل رسول الله صلوات الله عليهم ، وذلك مثل الفيض آبادي الذي قام المير حامد حسين في وجهه وأحسن في إبطال ما أورده وذلك في كتابه استقصاء الإفحام.

٥ ـ رأينا بعض من ليس من المخالفين يواجه الكتاب بمثل ما واجهه المعاندون ، ولعلّ ذلك صادر عن غفلة ونسيان لما هو أساس عقائد الشيعة ، أو


لعله نشأ من الفكرية الحاكمة على بعضهم حيث اعتادوا بأخذ المتفق عليه بين الشيعة ومخالفيها ورفض ما تتفرد به الشيعة خصوصا في القضايا التاريخية ، كما ويحتمل قويا أن يكون العلة في بعض تلك الاتجاهات هو التقية عن المخالفين وإظهار عدم الموافقة لمحتوى الكتاب اتقاء شرهم المتوجهة إليهم أو إلى الكتاب أو إلى المتحفظين على نسخه ، ويشهد لذلك أن عدة من هؤلاء بعد إظهارهم شيئا من المناقشات حول الكتاب استندوا إلى أحاديثه في كتبهم الاعتقادية والأحكام الشرعية (١).

ومنشأ القدح في صحة كتاب سليم ، أمور :

الأمر الأول : شبهة وعظ محمّد بن أبي بكر لأبيه عند موته ، مع أن سنّ محمّد وقتئذ ثلاث سنين أو أقل ، حسبما ورد في حديث ذكره سليم في كتابه.

وخلاصة الحديث :

أن سليم بن قيس أراد أن يعرف ما ذا صدر من أصحاب الصحيفة (٢) عند موتهم وهم : أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة. وفي هذا الصدد التقى بثلاثة أشخاص على الترتيب وهم : عبد الرحمن بن غنم ومحمد بن أبي بكر وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

أما ابن غنم فأخبره عمّا قاله معاذ وسالم وأبو عبيدة عند موتهم ، وذلك أن سليما سأل عن ذلك ابن غنم ـ وهو ختن معاذ بن جبل وكان حاضرا عند موته ـ فأخبره ابن غنم عمّا جرى بالتفصيل ، وذكر أن معاذا رأى رسول الله وعليّا صلوات الله عليهما عند موته وأنهما بشراه وأصحابه المذكورين بالنار.

__________________

(١) راجع مقدمة كتاب سليم للمحقّق البارع : الشيخ محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني.

(٢) أصحاب الصحيفة هم خمسة أشخاص بنوا أساس الظلم على آل محمّد عليهم‌السلام وتواطئوا على غصب الخلافة ومهّدوا الطريق لمن جاء بعدهم من الغاصبين الظالمين ، وكان أول أمرهم أنهم كتبوا بينهم كتابا تعاهدوا فيه وتعاقدوا في الكعبة : إن مات محمّد أو قتل أن يتظاهروا على الإمام عليّ فيزوون عنه هذا الأمر.


ثم أخبر ابن غنم سليما أنه فزع مما سمع من معاذ عند موته ، ولذلك حجّ والتقى بمن ولى موت أبي عبيدة وسالم ، فأخبره الحاضران عند موتهما أنهما قالا عند الموت مثل قول معاذ.

فإلى هنا عرف سليم ما قاله ثلاثة من أصحاب الصحيفة عند موتهم ، نقله سليم عن ابن غنم.

وأما محمّد بن أبي بكر فأخبره عمّا قاله أبو بكر وعمر عند الموت ، وذلك أن سليما التقى بمحمّد بن أبي بكر وأخبره بما سمعه من ابن غنم ، فلمّا سمع محمّد بن أبي بكر كلام ابن غنم من سليم أخبره أن أباه أبا بكر أيضا قال عند موته مثل مقالتهم ، فقالت عائشة : إن أبي ليهجر! قال محمّد : فلقيت عبد الله بن عمر في خلافة عثمان ، فحدثته بما قال أبي عند موته ، وأخذت عليه العهد والميثاق ليكتمنّ عليّ ، فقال لي ابن عمر : اكتم عليّ ، فو الله لقد قال أبي مثل مقالة أبيك ما زاد ولا نقص ، ثم تداركها عبد الله بن عمر وتخوّف أن أخبر بذلك عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لما قد علم من حبي له وانقطاعي إليه ، فقال : إنما كان أبي يهجر!

فأتى سليم أمير المؤمنين عليه‌السلام فحدثه بما سمع من أبيه وبما حدّثه ابن عمر عن أبيه ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قد حدثني بذلك عن أبيه وعن أبيك وعن أبي عبيدة وعن سالم وعن معاذ من هو أصدق منك ومن ابن عمر ، فقلت : من هو ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال : بعض من يحدثني ، ويقصد عليه‌السلام بذلك إمّا رسول الله قبل موته وبعده في المنام أو أخبره الملك الذي يحدّث الأئمةعليهم‌السلام تأكيدا لا تأسيسا.

وبعد شهادة محمّد بن أبي بكر بمصر التقى سليم بأمير المؤمنين عليه‌السلام وسأله عمّا أخبر به محمّد بن أبي بكر؟ فقال عليه‌السلام : «صدق محمّد رحمه‌الله ، أما إنه شهيد حيّ يرزق» ثم قرّر عليه‌السلام كلام محمّد بأن أوصيائه كلهم محدّثون.

هذا ملخّص ما جاء في رواية سليم في كتابه (١).

__________________

(١) مقدمة كتاب سليم للشيخ محمد باقر الخوئيني ج ١ / ١٨٨ وج ٢ / ٨١٩.


والجواب :

هناك قرائن محتفة بالحديث تثبت عدم تطرق التصحيف من النساخ على الحديث وهي :

(١) أن ما نقله محمد عن أبيه يوافق تماما ما نقله غيره عن الأربعة الآخرين من أصحاب الصحيفة.

(٢) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام صدّقه فيما قال وأخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بذلك أو أخبره الملك المحدّث.

(٣) أن محمد بن أبي بكر يتعجب من إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام عمّا جرى بينه وبين أبيه في مجلس لم يكن فيه غيرهما ، ويراه من معجزاته عليه‌السلام.

(٤) أن أمير المؤمنين عليه‌السلام صدّق محمّدا مرة أخرى حينما أخبره سليم بمقالة محمّد بن أبي بكر بعد شهادته بمصر.

(٥) أن مسألة صغر سنّ محمّد بن أبي بكر لم يخطر ببال سليم مع شدة حرصه على الفحص عن صدق الأخبار والتطلّع على جزئياتها في جميع أحاديثه وخاصة في هذا الحديث ، فنراه يسأل محمّدا عن جزئيات القصة ولا يسأله عن صغر سنّه وأنه كيف صدرت منه تلك الأفعال ، وكيف بقيت في خاطره تلك المكالمات.

(٦) أن عبد الله بن عمر أيضا لمّا سمع من محمّد بن أبي بكر مقالة أبيه لم ينكر عليه صغر سنّه.

(٧) أن الصفّار والصدوق والشيخ المفيد وإبراهيم بن محمد الثقفي قبلهم حكوا هذا الحديث بعينه بالإسناد إلى سليم من غير طريق كتابه ، وعلى هذا فلا صلة لهذا الحديث بكون الكتاب موضوعا فإنه مرويّ عن سليم قطعا.

(٨) نرى تصديق مضمون كلمات أبي بكر (والتي سمعها منه ابنه محمّد) في


سائر أحاديث الكتاب ، ففي الحديث ٤ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

سمعت رسول الله يقول : إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا ، ستة من الأولين وستة من الآخرين في جبّ فيقعر جهنم في تابوت مقفل ، على الجبّ صخرة ، فإذا أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجبّ ، فاستعرت جهنّم من وهج ذلك الجبّ ومن حرّه. ثم ذكرعليه‌السلام الاثني عشر وعدّ منهم أصحاب الصحيفة (١).

وروى المجلسي في البحار عن أبي الصلاح الحلبي في تقريب المعارف : «ولمّا طعن عمر .. قال لابنه عبد الله ـ وهو مسنده إلى صدره ـ ويحك ، ضع رأسي بالأرض ، فأخذته الغشية ، قال : فوجدت من ذلك؟ فقال : ويحك ضع خدي بالأرض ، فوضعت رأسه بالأرض فعفر بالتراب ثم قال : ويل لعمر ، ويل لأمه إن لم يغفر الله له (٢).

نطمئن من خلال ملاحظة هذه القرائن بوجود هذا الحديث في كتاب سليم قطعا ، هذا بالإضافة إلى ما سيأتي من غاية اعتبار الكتاب وتصديق الأئمة عليهم‌السلام لسليم وكتابه ، وكلمات العلماء في اعتباره ، بالإضافة إلى علمنا بوثاقة سليم ومحمّد بن أبي بكر ، فهذا كلّه لا سبيل إلى الخدشة في صدور هذا الكلام من محمّد بن أبي بكر ونقل سليم عنه ولا يتأتى أي تأويل واحتمال وضع أو اشتباه أو تصحيف فيه ، فضلا عن أن يكون هذا الحديث دالا على كون الكتاب موضوعا.

وأما مسألة صغر سنّ محمّد بن أبي بكر فيمكن علاجها بما يلي :

١ ـ لم يتفق المؤرخون على رأي ثابت في تاريخ ولادة محمّد بن أبي بكر ، ففي بعض الروايات أنه ولد في حجة الوداع ، وفي بعضها أنه ولد في سنة ثمان من

__________________

(١) كتاب سليم : مقدمة الأنصاري الجوئيني ج ١ / ١٩٠ وج ٢ / ٥٩٦ وهكذا بقية الأحاديث ، راجع نفس المصدر ج ٢ / ٥٨٩ وص ٦٥ وص ٧٢٧ وص ٦٥٢ وج ١ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) بحار الأنوار (طبع قديم) ج ٨ / ١٩٦ ومقدمة الأنصاري ج ١ / ١٩٢.


الهجرة ، وفي بعضها ما يدل على أن ميلاده كان قبل ذلك ، وإن كان الثالث مردودا للاتفاق على أن شهادة جعفر كانت في سنة ثمان للهجرة ، وقد تزوّج أبو بكر أسماء بنت عميس في نفس السنة التي استشهد فيها زوجها جعفر رضي الله عنهما وأرضاهما.

قال المير حامد حسين في «استقصاء الإفحام» نقلا عن فخر الدين الدهلوي قال : ولد (أي محمد بن أبي بكر) عام حجة الوداع بذي الحليفة ، أو بالشجرة سنة ثمان ، وقال ابن أثير الجزري في جامع الأصول : إنه ولد سنة ثمان ، وأشار إلى هذا الاختلاف القاضي تقي الدين المالكي في العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ، وأبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال والذهبي في اختصار تهذيب الكمال وابن عبد البرّ في الاستيعاب» (١).

٢ ـ دلت الروايات من غير طريق سليم أن محمّد بن أبي بكر تكلّم مع أبيه عند الموت ، فقد أورد العماد الطبري في تاريخه المعروف بكامل البهائي روايتين في ذلك :

الأولى : سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام محمّد بن أبي بكر يوما ، فقال : أما قرأ أبوك عندك قبل موته هذه الآية (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)؟ فقال لك عمر : احذر يا بنيّ ، لا يسمع منك عليّ بن أبي طالب ما قال أبوك فيشمت بنا؟ ثم تبسّم أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما أخبر محمّدا بالخبر ، فقال محمّد : صدقت يا عليّ ، وأنا سمعت يلعنه ويقول : أنت أوردتني الموارد ، فقال : بلى (٢).

الثانية : عن أبي عنان مالك بن إسماعيل الهندي ـ ويقال له الراهب أو الواهب ـ قال : جاء محمّد بن أبي بكر إلى أبيه وهو يجود بنفسه ، فقال : يا ابه ،

__________________

(١) مقدمة الأنصاري ج ١ / ١٩٣ نقلا عن استقصاء الإفحام ج ١ / ٥١٤.

(٢) نفس المصدر ، نقلا عن كامل البهائي ج ٢ / ١٢٩ الفصل الخامس.


أراك على حالة ما رأيتك عليها قبل اليوم؟! فقال : يا بنيّ ، الرجل على مظلمة إذا حلّلتني منها رجوت أن أفيق ، فقال محمّد : يا ابه ، من هو؟

قال : عليّ بن أبي طالب ، قال محمّد : أنا أضمن لك أن أكلّم عليّا في ذلك وأستحل لك فإنه رجل سليم.

فجاء محمّد إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إن أبي على أسوأ حال وهو قال كذا وكذا وقد ضمنت له أن أستحلّه منك ، فإن رأيت أن تجعله في حلّ منك؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كرامة لك ، ولكن قل لأبيك ليصعد المنبر ويخبر الناس بذلك حتى أجعله في حلّ ، فرجع محمّد وقال : قد استجاب الله دعائك وذكر له كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال أبو بكر : ما أحبّ أن لا يصلّي عليّ بعدي اثنان (١).

ويؤيد هذا ما أورده الغزالي في أوائل كتابه سرّ العالمين قال : دخل محمّد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال : يا بني ، ائت بعمّك عمر لأوصي له بالخلافة ، فقال : يا أبت ، كنت على حق أو باطل؟ فقال : على حق ، فقال : وصّ بها لأولادك إن كان حقا ، وإلّا فمكّنها لسواك ، ثم خرج إلى عليّ وجرى ما جرى (٢).

وعليه ، فإن رواية تكلّم محمّد بن أبي بكر مع أبيه عند موته التي رواها سليم مؤيدة برواية الطبري والغزالي وابن الجوزي وغيرهم ، وإن كنّا نرجّح (عند التعارض) رواية سليم ، لأن الترجيح دائما يكون لرواياتنا على ما رواه غيرنا بعد تمامية الوثوق في كل هذه الروايات ، هذا مضافا إلى موافقة الشيخ المفيد في الأمالي ، والكافية في إبطال توبة الخاطئة للمفيد أيضا ، والشيخ البحراني في مدينة المعاجز لما رواه سليم.

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) نفس المصدر ، وتذكرة الخواص ص ٦٢.


٣ ـ ما الضير في أن يكلّم محمّد وهو صغير أباه أبا بكر بهذا الكلام الذي لا يصدر عادة إلّا من الرجال العقلاء؟! ألا يحتمل المنكرون أن محمّدا بن أبي بكر كان من النوابغ الذين يصدر عنهم الأفعال العجيبة ، فها هو القرآن المجيد يحدّثنا عن حكمة يحيى عليه‌السلام بقوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١) والشواهد التاريخية كثيرة على وجود أطفال نوابغ تصدّروا السنام الأعلى في الحكمة والفصاحة.

وقد تصدر الأفعال العجيبة من الأطفال العاديين ولا ينسون ذلك طيلة عمرهم ، خاصة إذا كانت القصة متعلقة بموت أبيهم ، فكيف بأبي بكر وهو ذاك الرجل المشهور في اعتدائه على أمير المؤمنين عليّ وزوجه الطاهرة الصدّيقة الزهراء عليهما‌السلام واغتصابه لحقهما.

هذا مضافا إلى أن محمّدا بن أبي بكر كان ربيب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتلميذه وكان من أعزّ الخلق إلى أمير المؤمنين وجاريا عنده مجرى أولاده ، وهو رضيع الولاء والتشيع منذ زمن الصبا فنشأ عليه ، فلم يكن يعرف أبا غير الإمام عليّ عليه‌السلام ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره ، لا سيّما أيضا وأن أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها كانت زوجة أمير المؤمنين عليه‌السلام وكانت تعلّم ابنها محمّدا ليظهر بذلك باطن أبيه ، وهي التي كانت على اتصال دائم ببيت أمير المؤمنين قبل وفاة أبي بكر وكانت من أحبّ الخلق إلى الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام.

وعليه فما الضير أن ما صدر من محمّد بن أبي بكر كان من معجزات أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ظهر فيه؟.

٤ ـ أن من المحتمل قويا أن لإلقاء هذه الشّبهة جذورا عميقة ترجع إلى تطهير أبي بكر من تلك الكلمات التي صدرت عنه عند الموت والتي هي سند تاريخي يكشف عن أسرار وحقائق.

__________________

(١) سورة مريم : ١٢.


ويؤيد ذلك إذا انضم إليه ما ذكره صاحب الذريعة في شأن رجال ابن الغضائري الذي هو مبدأ شيوع هذه المناقشة حيث قال : «الظاهر أن المؤلف لهذا الكتاب ـ أي رجال ابن الغضائري ـ كان من المعاندين لكبراء الشيعة وكان يريد الوقيعة فيهم بكل حيلة ووجه ..».

وقال المحقّق السيّد الخوئي «رحمه‌الله» في رجاله :

«وأما الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري فهو لم يثبت ، ولم يتعرض له العلّامة في إجازاته ، وذكر طرقه إلى الكتب ، بل إن وجود هذا الكتاب في زمان النجاشي والشيخ أيضا مشكوك فيه ، فإن النجاشي لم يتعرض له ، مع أنه قدس‌سره بصدد بيان الكتب التي صنّفها الإمامية ، حتى أنه يذكر ما لم يره من الكتب ، وإنما سمعه من غيره أو رآه في كتابه ، فكيف لا يذكر كتاب شيخه الحسين بن عبيد الله أو ابنه أحمد.

والمتحصل من ذلك : أن الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري لم يثبت بل جزم بعضهم بأنه موضوع ، وضعه بعض المخالفين ونسبه إلى ابن الغضائري ..» (١).

الأمر الثاني : اشتمال كتاب سليم على أن الأئمة عليهم‌السلام ثلاثة عشر ، فقد جاء فيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختار منهم رجلين : أحدهما أنا فبعثني رسولا ونبيّا ، والآخر عليّ بن أبي طالب ، وأوحى إليّ أن اتخذه أخا وخليلا ووزيرا ووصيّا وخليفة.

ألا وإنه وليّ كل مؤمن بعدي ، من والاه والاه الله ومن عاداه عاداه الله ، لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا كافر ، هو زرّ الأرض بعدي وسكنها ، وهو كلمة الله

__________________

(١) معجم رجال الحديث للخوئي ج ١ / ١٠٢.


التقوى وعروته الوثقى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

ألا وإن الله نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عشر وصيّا من أهل بيتي فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد مثل النجوم في السماء ، كلّما غاب نجم طلع نجم ..» (٢).

وأورد سليم أيضا ثلاثة نصوص فيها العدد ثلاثة عشر هي :

١ ـ الحديث (١٦) فيما نقله عن كتاب الراهب قال سليم : أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه‌السلام فنزل العسكر قريبا من دير نصراني ، فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل [حسن الوجه] حسن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يده ، حتى أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فسلّم عليه بالخلافة ، فقال له عليّ عليه‌السلام : مرحبا يا أخي شمعون بن حمون ، كيف حالك رحمك الله؟

فقال : بخير يا أمير المؤمنين وسيّد المسلمين ووصي رسول ربّ العالمين إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم عليه‌السلام ، وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم الاثني عشر وأحبّهم إليه وآثرهم عنده ، وإليه أوصى عيسى بن مريم عليه‌السلام وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته ، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.

وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده ، وفيها كل شيء يفعل الناس من بعده ملك ملك ، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم ، حتى يبعث الله رجلا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن من أرض تدعى تهامة من قرية يقال لها «مكة» يقال له «أحمد» [الأنجل العينين

__________________

(١) سورة الصف : ٨.

(٢) كتاب سليم بن قيس ج ٢ / ٨٥٧ ح ٤٥ وبحار الأنوار ج ٢٢ / ١٤٩ حديث ١٤٢.


المقرون الحاجبين صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج ـ يعني العمامة ـ] له اثنا عشر اسما.

ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه وكم يعيش وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف.

وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم من السماء ، فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلا من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله هم خير من خلق الله وأحبّ من خلق الله إلى الله ، وأن الله وليّ من والاهم وعدو من عاداهم ، من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضلّ ، طاعتهم لله طاعة ، ومعصيتهم لله معصية ، مكتوبة فيه أسمائهم وأنسابهم ونعتهم ..» (١).

٢ ـ ما ورد في الحديث (٢٥) وهو طويل جاء فيه :

«.. قال سلمان : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس ، الذين اجتباهم الله وما جعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيهم إبراهيم؟ قال رسول الله : إنما عنى بذلك ثلاثة عشر إنسانا ، أنا وأخي عليّ بن أبي طالب وأحد عشر من ولدي ..» (٢).

٣ ـ ما ورد في حديث (٤٥) وقد تقدم ، جاء فيه :

«ألا وإن الله نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عشر وصيّا من أهل بيتي ، فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد مثل النجوم في السماء ..» (٣).

يورد على هذا الأمر :

أولا : إن التعبير ب «اختار بعدنا اثني عشر وصيّا» قد يكون تصحيفا لكلمة

__________________

(١) كتاب سليم ج ٢ / ٧٠٦ ح ١٦.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٧٦٢ ح ٢٥.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٨٥٧ ح ٤٥.


«بعدي» خاصة وأن حرف (نا) وحرف (ي) يتقاربان في الرسم إلى حد ما.

قال العلّامة المجلسي (قدس‌سره) : «وقد وجدنا في بعض النسخ «بعدي» من دون تصحيف (١). وكما يحتمل تصحيف كلمة «بعدي» إلى «بعدنا» كذلك يحتمل تصحيف كلمة «أحد عشر» إلى «اثنا عشر» كما أشار العلّامة المجلسي إلى ذلك في البحار. وهذا لا يصير سببا للقدح بالكتاب ، إذ قلّما يخلو كتاب من إضعاف هذا التصحيف والتحريف ، ومثل هذا موجود في الكافي وغيره من الكتب المعتبرة ، كما لا يخفى على المتتبع.

ويؤيد ذلك أن هذا الحديث بعينه مذكور في الحديث ١٤ من كتاب سليم أيضا بهذه العبارة : «إن الله نظر نظرة ثالثة ، فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيّا من أهل بيتي وهم من خيار أمتي ، منهم أحد عشر إماما بعد أخي واحدا بعد واحد ..» ثم أورد في آخر الحديث ذكر أسمائهم بقوله : «أول الأئمة عليّ خيرهم ثم ابني الحسن ..» (٢).

ثانيا : هناك نصوص كثيرة في كتاب سليم بلغ تعدادها أربعة وعشرين ، عدا عن الموارد الأخرى الكثيرة الدالة على أن عدد الأئمة اثنا عشر (٣) إماما.

وعليه فإن نسبة «الأئمة ثلاثة عشر» إلى كتاب سليم غير صحيحة ، فلا معنى حينئذ للتمسك بنص واحد للطعن على الكتاب كلّه بحجّة أنه قد جعل الأئمة ثلاثة عشر.

فإذا دار الأمر بين نصّ واحد [اعتبره البعض دليلا على وضع الكتاب] وبين أربع وعشرين نصّا ، فلا شك أن دفة الترجيح ستكون للأكثر ، إذ كيف يقابل نص واحد أربعا وعشرين نصّا؟ لا سيّما مع احتمال حصول تصحيف في كلمة «بعدنا» كما أشرت آنفا إليه.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥٠.

(٢) كتاب سليم ج ٢ / ٦٨٦ ح ١٤.

(٣) راجع : كتاب سليم بن قيس ج ١ / ١٧٣ ـ ١٨٠.


ثالثا : إن الأحاديث التي أشارت إلى أن «الأئمة ثلاثة عشر» قابلة للتأويل ، وكلّ ما كان قابلا للتأويل من الأخبار يجب الأخذ به وإلّا فلا ، وعليه فإن الحديثين المتقدّمين رقم ١٦ و ٢٥ الوارد فيهما الألفاظ التالية : «ثلاثة عشر رجلا» و «ثلاثة عشر إنسانا» يفسران بمقام الإمامة بإضافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، فالرسول بالإضافة إلى كونه رسولا ، له مقام آخر هو مقام الإمامة تماما كما كان لجدّه إبراهيم الخليل عليه‌السلام حيث شرّفه الله تعالى بمقام الإمامة بعد أن كان رسولا.

وأما الحديث رقم ٤٥ المتقدّم ، والذي ترتكز المناقشة في رجوع الضمير في «بعدنا» إلى رسول الله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام ، وذكر «اثنا عشر وصيّا» بعدهما يرجع إلى تعيين مقام الوصاية من الله تعالى على العباد ، ونريد «بالوصاية» هنا الولاية الإلهية لآل محمّد ، وعليه : فلا إشكال في العبارة بأن تكون مولاتنا الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ضمن الاثني عشر بعد رسول الله وأمير المؤمنينعليهم‌السلام ، وذلك أن موضوع الحديث هو من اختارهم الله وليّا لنفسه عند ابتداء خلقه من بين جميع أهل الأرض ، والذين جعلهم خيار أمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل لا بدّ وأن يكون المذكورون اثني عشر شخصا ليشمل الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها ، فإنّا نعتقد بعصمتها وأنها صاحبة الولاية الإلهية إلّا أنها ليست بإمام. فالمعنى أن رسول الله يقول: إن الله تعالى بعد ما اختارنا (أي محمّدا وعليّا) من بين خلقه اختار اثني عشر وليّا وهم فاطمة وأحد عشر شخصا من ولده المعصومين ، فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد.

رابعا : إن اشتمال كتاب على أمر باطل في مورد أو موردين لا يدل على وضعه ، كيف ويوجد ذلك في أكثر الكتب حتى في كتاب الكافي الذي هو أمتن كتب الحديث وأتقنها (١). فقد جاء في الكافي في باب النصّ على الاثني عشر في خبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ولدي اثنا عشر نقباء نجباء مفهّمون آخرهم القائم

__________________

(١) معجم رجال الحديث للخوئي ج ٨ / ٢٢٥.


بالحق يملأها عدلا كما ملئت جورا (١).

وكذا حديث أبي الجارود عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله : إني واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زرّ الأرض يعني أوتادها وجبالها ، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها ، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا (٢).

فقوله : «من ولدي اثنا عشر نقباء» تصحيف : «من ولدي أحد عشر» وكذا في الحديث الثاني فإن قوله : «واثني عشر من ولدي وأنت يا عليّ ..» هي تصحيف : «وأحد عشر من ولدي ..» هكذا أجاب الشيخ محمد تقي التستري (٣).

إلا أنني لا أرى في هاتين الروايتين شيئا من التحريف والتصحيف ، إذ يمكن تأويلهما بالصدّيقة فاطمة وأولادها الأحد عشر كوكبا حيث هي وأولادها الأحد عشر المعصومون هم ولد رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم التصحيف وارد في خبر جابر الأنصاري قال :

دخلت على فاطمة عليها‌السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثني عشر» (٤) لكنه ورد في الإكمال والعيون والخصال بدون كلمة «من ولدها» (٥).

وعلى أيّ حال فالتصحيف موجود في جلّ كتبنا الحديثية ولا يقدح الأخذ بما فيها من الأخبار فتأمل.

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٥٣٤ ح ١٨.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٥٣٤ ح ١٧.

(٣) مقدمة كتاب سليم ج ١ / ١٨٢ نقلا عن قاموس الرجال للتستري ج ٤ / ٤٥٢.

(٤) أصول الكافي ج ١ / ٥٣٢ ح ٩.

(٥) إكمال الدين ص ٣١١ ح ٣ ؛ عيون الأخبار ج ١ / ٣٧ ح ٦ والخصال ب ١٢ ح ٤٢ ولاحظ قاموس الرجال ج ٤ / ٤٥٢ ومقدمة كتاب سليم ج ١ / ١٨٣.


الأمر الثالث :

أن راوي كتاب سليم بن قيس هو أبان بن أبي عيّاش وهو ضعيف ، وإبراهيم بن عمر الصنعاني ، وقد ضعّفه ابن الغضائري ، وعليه فلا يمكن الاعتماد على كتاب سليم بن قيس (١).

والجواب :

(١) أن إبراهيم بن عمر وثّقه النجاشي ، ولا يعارضه تضعيف ابن الغضائري.

وقد ذكر النجاشي أيضا والشيخ أن حماد بن عيسى له طريق إلى إبراهيم بن عمر الصنعاني. فالشيخ له طريقان إلى كتاب سليم في أحدهما حماد بن عيسى وعثمان بن عيسى ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم ، وفي الثاني : حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن سليم.

وأما النجاشي فالظاهر ـ كما قال المحقّق الخوئي ـ إن في عبارته سقطا وجملة (عن أبان بن أبي عيّاش عن سليم) قد سقطت بعد قوله (وعثمان بن عيسى) وكيف كان فلا يصح ما ذكره ابن الغضائري من اختلاف سند هذا الكتاب ، فتارة يروي عن عمر بن أذينة ، عن إبراهيم بن عمر الصنعاني ، عن أبان بن أبي عيّاش عن سليم ، وتارة يروي عن عمر عن أبان بلا واسطة ، وذلك فإن عمر بن أذينة غير مذكور في الطريق أصلا ، وإبراهيم بن عمر روى عن سليم بلا واسطة.

وعثمان بن عيسى وحماد بن عيسى وعمر بن أذينة وإبراهيم بن عمر الصنعاني كلهم ثقاة.

والراوي عن سليم لم يكن إلّا رجلا واحدا وهو أبان بن أبي عيّاش ، فهو الذي روى عن سليم كتابه بالمناولة منه والقراءة عليه ، كما روى عنه أحاديث كتابه متفرقة في مختلف الروايات ، وروى عنه بعض الأحاديث التي ليست في كتابه.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ج ٨ / ٢٢٥.


ويؤيد عدم رواية غير أبان عن سليم ما هو مذكور في مفتتح الكتاب المتضمن لكيفية تحويل سليم كتابه لأبان بصورة لم يطّلع عليه غيره ، إذا أضفنا إلى ذلك أن أكثر الأحاديث المرويّة عن سليم في كتب الحديث موجودة في كتابه.

قال ابن النديم : «.. كتاب سليم بن قيس المشهور ، رواه عنه أبان بن أبي عيّاش ، لم يروه عنه غيره» (١).

وقال السيّد العقيقي : «لم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوى أبان بن أبي عيّاش» (٢).

وما رواه إبراهيم بن عمر اليماني عن سليم مباشرة من دون توسّط أبان كما في رجال النجاشي ص ٦٩ وأصول الكافي ج ١ ص ٩١ وفهرست الشيخ ص ٨١ وبصائر الدرجات ص ٨٣ وكمال الدين ص ٢٤٠ يحمل على أن رواية إبراهيم بن عمر اليماني لأحاديث سليم كثيرة جدا ، وأكثرها منقولة عنه بتوسط أبان بن أبي عيّاش إلا في بعض الموارد حيث أسقط أبان من هذه الأسانيد المذكورة في المصادر المتقدّمة تغليبا. ويؤيد ذلك أن الراوي عن إبراهيم هو حماد بن عيسى ، مع أنه لم يتوسط بينهما أبان أيضا.

ويمكن أن يقال : إن إبراهيم بن عمر كان قد رأى كتاب سليم في يد أبان ، ولذلك كان يروي عن كتاب سليم مع الواسطة وقد يروي عنه بدون واسطة ، أو أن كتاب سليم حيث كان بمجموعه مصدرا ينقل عنه أسقط إبراهيم بن عمر الواسطة وروى عن الكتاب وإن لم يكن رآه في يد أبان أيضا. وهكذا ما رواه عمر بن أذينة ـ في بعض الروايات (٣) ـ فقد أسقط أبان الواسطة بينهما تغليبا أو غفلة ، وذلك لأن عمر بن أذينة ينقل دائما عن أبان ، فأبان الواسطة بين عمر وبين سليم ، بقرينة تظافر

__________________

(١) الفهرست لابن النديم ص ٢٧٥.

(٢) خلاصة الأقوال ص ٨٣.

(٣) كما في رواية الحسين بن سعيد في كتاب الزهد ص ٧.


روايات ابن أذينة عن أبان وعدم التوافق الزمني بين ابن أذينة وسليم ، فإن سليما توفي عام ٧٦ ه‍ ـ وابن أذينة توفي سنة ١٦٨ ه‍ ـ ، فيبعد روايته عنه ، مع عدم وجود روايته عنه في غير هذا المورد. ويؤيده أن الحسين بن سعيد نفسه قد روى عن ابن أذينة عن سليم بتوسط أبان كما في التهذيب ج ٦ / حديث ٩٠٦ ، ويؤيدها أيضا الكيفيّة التي ينقلها ابن أذينة في مفتتح الكتاب عن انتقال الكتاب إليه حيث تعطي ذلك عدم سابقة له مع سليم ولا كتابه قبل ذلك أصلا ، قال عمر بن أذينة : دعاني أبان بن أبي عياش قبل موته بشهر فقال لي : إني رأيت البارحة رؤيا أني خليق أن أموت سريعا ، إني رأيتك الغداة ففرحت بك ، إني رأيت الليلة سليم بن قيس الهلالي فقال لي : يا أبان إنك ميّت في أيامك هذه ، فاتق الله في وديعتي ولا تضيّعها ، وف لي بما ضمنت من كتمانها ولا تضعها إلّا عند رجل من شيعة عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه له دين وحسب» (١).

(٢) عدّه البرقي والشيخ الطوسي من أصحاب الإمام السجّاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ويظهر ذلك مما ذكره أبان في مقدمة كتاب سليم حيث عرض كتاب سليم على الإمام السجّادعليه‌السلام فأقره عليه الإمام زين العابدين عليه‌السلام وقال : هذه أحاديثنا صحيحة. وذكر الكشي عرض الحديث المذكور آنفا على الإمام الباقر عليه‌السلام بعد أبيه السجّاد ، وأنه اغرورقت عيناه وقال : صدق سليم ، وقد أتى أبي بعد قتل جدي الحسين عليه‌السلام وأنا قاعد عنده ، فحدّثه بهذا الحديث بعينه فقال أبي : صدق ، وقد حدّثني أبي وعمي الحسن بهذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

ولا نرى وجها لتضعيفه إذ لم يذكر لنا من ضعّفه وجه ذلك مع كونه من أصحاب الأئمةعليهم‌السلام فالجزم بضعفه ـ حسبما عبّر العلّامة الممقاني في رجاله ـ مشكل بعد تسليم مثل سليم بن قيس كتابه إليه وخطابه بابن الأخ ، ومن لاحظ حال

__________________

(١) كتاب سليم ص ٥٨ ط / دار الإرشاد ، وج ٢ / ٥٥٦ تحقيق الخوئيني.

(٢) كتاب سليم ص ٧ ، وج ٢ / ٥٥٩ وص ٦٢٨ وص ٩٢٤.


سليم بن قيس مال إلى كون الرجل متشيّعا ممدوحا ، وأن نسبة وضع الكتاب إليه لا أصل لها وإذا انضم إلى ذلك قول الشيخ أبي علي في المنتهى أني رأيت أصل تضعيفه من المخالفين من حيث التشيع تقوي ذلك والعلم عند الله تعالى ، بل بعد إثبات وثاقة سليم تثبت وثاقة أبان هذا بتسليمه الكتاب المذكور إليه ، وكيف كان فغالب روايات أبان هذا عن سليم بن قيس الهلالي ، والراوي عنه غالبا هو عمر بن أذينة وإبراهيم بن عمر اليماني وحمّاد بن عيسى وعثمان بن عيسى» (١).

فلو قلنا إن أبانا ضعيف فكيف يروي عنه عمر بن أذينة وإبراهيم وحماد وعيسى وكلّهم ثقاة؟ وعلى فرض كونه ضعيفا فإن رواية هؤلاء الأجلّة عنه ترجّح الأخذ برواياته إلّا ما كان مخالفا للكتاب الكريم والسنّة القطعية ، ولم يردنا شيء عنه مما يخالف ما ذكرنا. هذا مضافا إلى أن ما رواه أبان بن أبي عيّاش في كتاب سليم لا يتوافق مع معتقدات العامة ، من هنا شنّ علماء العامة حملة شعواء (٢) على أبان عنادا منهم لتشيّعه ، بالإضافة إلى مواجهتهم العامة مع رواة الشيعة ، والمؤسس للوقيعة في أبان هو شعبة بن الحجاج ، وقد جرى على لسانه ما يوجب الاستيحاء من نقله ، وهذه نماذج منها :

ـ قال شعيب بن حرب : سمعت شعبة يقول : لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إليّ من أن أقول : حدّثنا أبان بن أبي عيّاش (٣).

ـ قال الذهبي : أبان بن أبي عياش البصري ، أحد الضعفاء وهو تابعي صغير (٤).

ـ روى ابن إدريس وغيره عن شعبة قال : لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان (٥).

__________________

(١) تنقيح المقال / الممقاني ج ١ / ٣.

(٢) شعواء : متفرقة ممتدة.

(٣) ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ / ١٠.

(٤) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٠.

(٥) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٠.


ـ قال ابن إدريس : قلت لشعبة : حدثني مهدي بن ميمون عن سلّم العلوي قال : رأيت أبان بن أبي عيّاش يكتب عن أنس بالليل ، فقال شعبة : سلم يرى الهلال قبل الناس بليلتين (١).

ـ قال أحمد بن حنبل : قال عبّاد بن عبّاد : أتيت شعبة أنا وحمّاد بن زيد ، فكلّمناه في أن يمسك عن أبان بن أبي عيّاش ، قال : فلقيهم بعد ذلك فقال : ما أراني يسعني السكوت عنه (٢).

ـ قال يزيد بن هارون ، قال شعبة : داري وحماري في المساكين صدقة إن لم يكن أبان بن أبي عياش يكذّب في الحديث ، قلت : فلم سمعت منه؟ قال : ومن يصبر عن ذا الحديث (٣).

ـ قال عبدان عن أبيه عن شعبة : لو لا الحياء من الناس ما صلّيت على أبان.

ـ وقال معاذ بن معاذ : قلت لشعبة : أرأيت وقيعتك في أبان ، تبيّن لك أو غير ذلك؟ فقال : ظن يشبه اليقين.

ـ قال عبد الله بن أحمد بن شبّويه : سمعت أبا رجاء يقول : قال حماد بن زيد : كلّمنا شعبة في أن يكفّ عن أبان بن أبي عياش لسنّه وأهل بيته ، فضمن أن يفعل ، ثم اجتمعنا في جنازة فنادى من بعيد ، يا أبا إسماعيل ، إني قد رجعت عن ذلك ، لا يحلّ الكفّ عنه لأن الأمر دين!!

ـ قال الحسن بن الفرج عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد ، قال : جاءني أبان بن أبي عيّاش فقال : أحبّ أن تكلّم شعبة أن يكفّ عني ، قال : فكلّمته ، فكفّ عنه أياما ، فأتاني في الليل فقال : لا يحلّ الكف عنه فإنه يكذب على رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.


ـ قال البخاري في تاريخه : كان شعبة سيئ الرأي فيه (١).

ـ ويروى عن سفيان أنه قيل له : ما لك قليل الرواية عن أبان؟ قال : كان نسيّا للحديث(٢).

ـ أحمد بن حنبل قال : هو متروك الحديث ، ترك الناس حديثه منذ دهر. وقال : لا يكتب عنه ، قيل : كان له هوى ، وقال : كان منكر الحديث (٣).

ـ وكيع بن الجرّاح ، قال أحمد بن حنبل : كان وكيع إذا مرّ على حديثه يقول : «رجل» ولا يسمّيه استضعافا له (٤).

ـ يحيى بن معين ، قال : متروك (٥).

ـ مرّة ، قال : ضعيف (٦).

ـ أبو عوانة ، قال : كنت لا أسمع بالبصرة حديثا إلّا جئت به أبان ، فحدّثني به عن الحسن حتى جمعت منه مصحفا ، فما أستحلّ أن أروي عنه (٧).

ـ أبو إسحاق السعدي الجوزجاني قال : ساقط (٨).

ـ النسائي ، قال : متروك ، وقال أيضا : ليس بثقة.

ـ أحمد بن علي الأبّار قال فيما رواه العقيلي عنه : رأيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في المنام فقلت : يا رسول الله ، أترضى أبان بن أبي عياش؟ قال : لا (٩).

__________________

(١) كل ما تقدم مروي عن ميزان الاعتدال ج ١ / ١٠ ـ ١١.

(٢) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٢ ؛ تهذيب التهذيب ج ١ / ٩٧.

(٣) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٢ ؛ تهذيب التهذيب ج ١ / ٩٧.

(٤) ميزان الاعتدال ج ١ / ١١ و ١٥.

(٥) نفس المصدر.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر.

(٨) نفس المصدر.

(٩) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٢.


ـ ابن عديّ ، قال : أرجو أنه لا يتعمّد الكذب وعامّة ما أتى به من جهة الرواة عنه ، وقال : هو بيّن الأمر في الضعف وأرجو أن لا يتعمّد الكذب إلّا أنه يشبه عليه ويغلط (١).

ـ ابن سعد ، حكى في طبقاته تضعيف أبان عن بعضهم (٢).

ـ العقيلي ، ذكره في كتابه «الضعفاء الكبير» وبالغ في تضعيفه ، ومع ذلك نقل أنه كان طاوس القراء (٣).

ـ الدارقطني قال : يحدّث عن أنس ، متروك (٤).

إشارة :

من خلال هذا العرض الموجز لكلمات علماء العامة في أبان بن أبي عيّاش ، نعلم أن تضعيفهم له من أجل اعتقاده بإمامة الأئمة عليهم‌السلام ونشر أخبارهم ، وإلا فما الموجب لتضعيفه عند العامة سوى ما ذكرنا؟

ويشهد لما قلنا التعبير الوارد عن الذهبي نقلا عن أصحاب التراجم من أن الشرب من بول حمار أحبّ إليه من أن يروي شيئا عن أبان بن أبي عيّاش وكذا ما ورد عن شعبة من أنه لو لا الحياء من الناس ما صليت على أبان ، وليس الكذب علة في عدم الصلاة عليه وإنما العلة هي تشيّعه ، وأبان ـ بنظر الذهبي وأمثاله ـ ليس أول جرة كسرت في تراجمهم بل هناك رواة أجلّاء عند الإمامية نعتهم الذهبي (جريا على سلفه) بالرفض والكذب ، فها هو زرارة بن أعين الكوفي وأخوه حمران بن أعين اللذان أجمعت الطائفة على وثاقتهما وجلالة أمرهما ينعتهما بالرفض والكذب ، وكذا كلّ من ترجم له من رواة الشيعة.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٤ ؛ تهذيب التهذيب ج ١ / ٩٧.

(٢) الطبقات الكبرى ج ٧ / ٢٥٤.

(٣) الضعفاء الكبير ج ١ / ٣٨.

(٤) الضعفاء والمتروكين للدارقطني : رقم ١٠٣.


قال في ترجمة زرارة بن أعين : «كوفي ، أخو حمران ، يترفض» (١).

وقال في ترجمة حمران : «.. ليس بشيء .. وقال أبو داود : رافضي ، وقال النسائي : ليس بثقة» (٢).

ويظهر أن منشأ تضعيفه عند علماء الإمامية أمثال ابن الغضائري والطوسي عند تعرّضه لأصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام ، وتوقف العلّامة الحلي فيه ، هو تسرّع ابن الغضائري بالحكم عليه بالضعف ، وتبعه الطوسي والحلي ، لذا قال الحلي :

«والأقوى عندي التوقف فيما يرويه لشهادة ابن الغضائري عليه بالضعف» (٣).

والعجب كيف صار تضعيف ابن الغضائري لأبان بن أبي عيّاش مناطا لتضعيفه عند البعض ، فلا معنى لتوقف العلّامة الحلي أعلى الله مقامه لمجرد أن ابن الغضائري ضعّف أبان بن أبي عيّاش ، وهل أن الحق يدور مع ابن الغضائري حيثما دار؟

قد يكون تضعيف ابن الغضائري سببه رواية أبان عن أنس بن مالك ، لكنّ روايته عنه لا تعني عدم الوثاقة به ، لا سيّما أن الروايات المنقولة عن أنس بن مالك بواسطة أبان لا تخلّ بموازين العقيدة إلّا رواية عرضها الذهبي (٤) في الميزان ، ولكن يظهر منها الدّس والتحريف على أبان ، لا سيّما وأن الراوي عن أبان هو الفضل بن المختار وهو ليس بثقة على حد تعبير صاحب (٥) ميزان الاعتدال فراجع. بالإضافة إلى أنه ليس الوحيد بتفرّده في نقل بعض الأخبار الشاذة ، ومع هذا لم يحكم أحد بتضعيفهم أو القدح بهم. وقد تكون روايته عن أنس قبل تعرّفه على هذا

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ٢ / ٦٩.

(٢) نفس المصدر ج ١ / ٦٠٤.

(٣) خلاصة الأقوال ص ٢٠٧.

(٤) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣.

(٥) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣.


الأمر ، ويشهد له قصة (١) قدوم سليم إلى أبان وهروبه من الحجّاج.

إن منشأ القدح في أبان هو تشيّعه ، ويشهد له قول أحمد بن حنبل «قيل إنه كان له هوى» أي أنه من اهل الأهواء والمراد به التشيّع. من هنا تفطّن ثلة من متأخري علماء الإمامية وحكموا بوثاقته والاعتماد عليه ، ولم يكن ذلك إلّا حصيلة الدراسة في كيفيّة مواجهة العامة معه وملاحظة حياة أبان والقرائن الكثيرة التي تحتّف بها.

قال السيّد الأمين في أعيان الشيعة : «الظاهر أن منشأ تضعيف الشيخ له قول ابن الغضائري ، وصرّح العلّامة بأن ذلك منشأ توقّفه فيه كما سمعت ، وابن الغضائري حاله معلوم في أنه يضعّف بكلّ شيء ولم يسلم منه أحد فلا يعتمد على تضعيفه» (٢).

وقال السيّد الصفائي الخوانساري في كشف الأستار : «وإنما ضعّفه (أي ضعّف الشيخ أبانا) في أصحاب الباقر عليه‌السلام ولم يعلم سببه ، ولعلّه تضعيف المخالفين ... وينبغي عدّه ـ أي تضعيف المخالفين لأبان ـ من مدائحه» (٣).

وقال السيّد الموحّد الأبطحي في «تهذيب المقال» في بيان أنّ الشيخ أورد اسم أبان في ثلاثة موارد ولم يضعفه إلّا في أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام ، ولا يبعد كون قوله في أصحاب الباقرعليه‌السلام : «تابعي ضعيف» مصحّف «تابعي صغير» كما يظهر من العامة مدّعيا أنه ليس من كبار التابعين ... ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال وقال : «تابعي صغير عن أنس وغيره ..»(٤).

وقال في موضع آخر : «إن ابن الغضائري بالإضافة إلى ضعف ما ذكره تفرّد

__________________

(١) كتاب سليم ص ٥٩.

(٢) أعيان الشيعة ج ٥ / ٥٠.

(٣) كشف الأستار ج ٢ / ٣٠ ومقدمة كتاب سليم للخوئيني ج ١ / ٢٢٢.

(٤) تهذيب المقال ج ١ / ١٨٢.


في دعواه وأنكر عليه من تأخر عنه ، وهذا أقوى دليل على أنّ كلامه غير مبني على أساس وإلّا لالتفت إليه أحد ممن تأخّر عنه» (١).

ـ قال الميرداماد في الرواشح السماوية : «ثم إن أحمد بن الحسين بن الغضائري صاحب كتاب الرجال هذا .. في الأكثر مسارع إلى التضعيف بأدنى سبب» (٢).

ـ وقال المجلسي الأوّل : «وأنت خبير بأنّ ابن الغضائري لم يكن له معرفة بفحول أصحابنا وبجرحهم» (٣).

ـ وقال المجلسي الثاني : «الاعتماد على هذا الكتاب (أي كتاب ابن الغضائري) يوجب ردّ أكثر أخبار الكتب المشهورة» (٤).

وقال الوحيد البهبهاني : «قلّ أن يسلم أحد من جرحه أو ينجو ثقة من قدحه! وجرح أعاظم الثقات وأجلّاء الرواة الذين لا يناسبهم ذلك ، وهذا يشير إلى عدم تحقيقه حال الرجال كما هو حقه أو كون أكثر ما يعتقده جرحا ليس في الحقيقة جرحا .. وبالجملة لا شك في أن ملاحظة حاله توهن الوثوق بمقاله» (٥).

ـ وقال السيّد محمّد صادق بحر العلوم : «.. الغضائري المعروف الذي لا عبرة بتضعيفاته كما نصّ على ذلك كل من ذكره من المؤلفين من ذوي الخبرة والتحقيق» (٦).

بل هناك تحقيق حول نسبة كتاب الضعفاء لابن الغضائري الذي فيه شكّك في وثاقة أبان ، فإن كتاب الضعفاء هو لأبي الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ١٨٦.

(٢) الرواشح السماوية ص ١١١ ، الراشحة ٣٥.

(٣) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٣.

(٤) تنقيح المقال ج ١ / ٥٧ رقم ٣٢٧ ومقدمة كتاب سليم للخوئيني ج ١ / ١٦٨.

(٥) مقدمة كتاب سليم ج ١ / ١٦٨ نقلا عن تعليقة البهبهاني على منهاج المقال.

(٦) الذريعة ج ١٠ / ٨٩ ، مقدمة كتاب سليم طبع النجف ص ١٥.


الغضائري وليس لأبيه الحسين أبي عبد الله شيخ الطائفة وهذا ليس عنده كتاب في علم الرجال ، لذا قال المحقّق الداماد في الرواشح السماوية :

«ابن الغضائري مصنّف كتاب الرجال المعروف .. ليس هو الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري العالم الفقيه العارف بالرجال والأخبار ، بل صاحب كتاب الرجال الدائر على الألسنة الشائع مع نقل التضعيف والتوثيق عنه هو سليل هذا الشيخ المعظّم أعني أبا الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري».

ثم نقل الميرداماد عن السيّد ابن طاوس في آخر ما استطرفه من كتاب «التحرير الطاوسي» قوله : «أحمد بن الحسين على ما يظهر لي هو ابن الحسين بن عبيد الله الغضائري ، فهذا الكتاب المعروف لأبي الحسين أحمد ، وأما أبوه الحسين أبو عبد الله ، شيخ الطائفة فتلميذاه النجاشي والشيخ ذكرا كتبه وتصانيفه ولم ينسبا إليه كتابا في الرجال .. وبالجملة لم يبلغني إلى الآن من واحد من الأصحاب أن له في الرجال كتابا» (١).

وبالجملة : فإن نسبة الكتاب المسمّى بالضعفاء إلى الحسين بن عبيد الله الغضائري شيخ الطائفة غير ثابتة ، لذا قال العلّامة الطهراني في الذريعة : «إن نسبة كتاب الضعفاء هذا إليه ـ أي إلى الحسين بن عبيد الله الرجالي المعروف ـ مما لم نجد له أصلا حتى أن ناشره قد تبرأ من عهدته بصحته ، فيحق لنا أن ننزّه ساحة ابن الغضائري عن الإقدام في تأليف هذا الكتاب والاقتحام في هتك هؤلاء المشاهير بالعفاف والتقوى والصلاح المذكورين في الكتاب والمطعونين بأنواع الجراح ، بل جملة من جراحاته سارية إلى المبرّءين من العيوب» (٢).

وقال في موضع آخر : «إن نسبة كتاب الضعفاء هذا إلى ابن الغضائري المشهور .. إجحاف في حقه عظيم ، وهو أجلّ من أن يقتحم في هتك أساطين

__________________

(١) الرواشح السماوية ص ١١١ الراشحة ٣٥.

(٢) الذريعة ج ٤ / ٢٩٠.


الدين حتى لا يفلت من جرحه أحد من هؤلاء المشاهير بالتقوى والعفاف والصلاح. فالظاهر أن المؤلف لهذا الكتاب كان من المعاندين لكبراء الشيعة وكان يريد الوقيعة فيهم بكل حيلة ووجه ، فألّف هذا الكتاب وأدرج فيه بعض مقالات ابن الغضائري تمويها ليقبل عنه جميع ما أراد إثباته من الوقائع والقبائح» (١).

والمتحصل من ذلك «أن الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري لم يثبت بل جزم بعضهم بأنه موضوع ، وضعه بعض المخالفين ونسبه إلى ابن الغضائري بل إن الاختلاف في النقل عن هذا الكتاب يؤيد عدم ثبوته بل توجد في عدة موارد ترجمة شخص في نسخة ولا توجد في نسخة أخرى إلى غير ذلك من المؤيدات» (٢).

وزبدة المخض : إن تضعيف ابن الغضائري لأبان في الكتاب المنسوب إليه (أي إلى ابن الغضائري) لا قيمة لها وذلك لأن منشأها العامة ـ كما مرّ معك أخي القارئ ـ حيث إن أبان بن أبي عياش كان محسوبا على مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بعد ما كان من أنصار المدرسة الأخرى في أول حياته ، وقد لعب سليم رضي الله تعالى عنه دورا بارزا في تشيّع (٣) أبان وتطلّعه إلى الحقيقة وفحصه عنها ، وقد انقلب أبان على موروثاته البيئية والتي لم تصبو به إلى الأمان الروحي ، وبعد اهتدائه بدأ الصراع العقيدي بينه وبين من كان منهم ، فانقلب عليهم بحسب ظنهم ، لأن كل من لم يكن من أتباع المدرسة البكرية (فهو بنظرهم) ضدهم ، فحصلت بين أبان والمخالفين بعض ما كان يرجى وقوعه ، فأخذوا يرمونه بكل ما عندهم من التعرّض إلى شخصيته العلمية كرميه بسوء الحفظ (٤) والنسيان ورواية المناكير ، أو إلى شخصيته الاجتماعية بنسبة الكذب والاختلاط إليه ، وقاموا بنشر ذلك في

__________________

(١) الذريعة ج ١٠ / ٨٩.

(٢) معجم رجال الحديث للخوئي ج ١ / ١٠٢.

(٣) فقد جاء عن أبان نفسه أنه لمّا قرأ كتاب سليم استعظم ما فيه ثم إن الإمام السجّاد عليه‌السلام وضّح له ما خفي عليه وبيّن له مباني التشيّع ، فصار من أعاظم الرواة وثقاتهم. راجع الكتاب نفسه ص ٥٩ ـ ٦٠ ط / دار الإرشاد ومقدمة الخوئيني ج ١ / ٢٢٧.

(٤) قد تقدّم عمّا ورد عن سفيان كيف أنه نعت أبان بالنسيان.


المجتمع ، وكان في رأس هؤلاء المخالفين شعبة بن الحجاج الذي كان رأسا في النصب والعداء لأهل البيت النبوي عليهم‌السلام أيضا.

ولا شك أن وسائل الدعاية والإعلام إذا كانت في أيدي أصحاب فكرة خاصة تكون الغلبة معهم في كثير من المجالات التي تتصل بحياة أفراد المجتمع ، وخاصة الجانب العلمي وكلّ ما يرجع إلى الثقافة والتاريخ وغير ذلك ، فلذلك بقي هذا التصوير غير الحقيقي عن أبان في التاريخ ، ولم يبق للأجيال في صفحات التاريخ أي شيء آخر يصوّر أبان على صورته الحقيقية ، فكلّ من جاء بعد شعبة وتابعيه أخذ بكلامهم إمّا عمدا بقصد معارضة الشيعة ، وإمّا غفلة عمّا اتخذه أعداء الشيعة مسلكا لهم في الجرح والتعديل. وبما أن شخصية أبان كانت عظيمة في المجتمع آنذاك كبر على المخالفين ما كان يعلن من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فأوجب ذلك غيظهم وقاموا بإسقاطه عن أعين الناس وصدر عنهم كلمات يستحي الناقلون من نقلها ، ولم يكن كل هذه التوهينات والتّهم من عند العامة إلّا لتشيّعه.

ويدل على ما ذكرنا أمور :

١ ـ أن كثيرا من العامة رووا عن أبان كثيرا من الأحاديث وحتّى شعبة نفسه ، ثم أخذوا في الوقيعة فيه بعد ذلك ، بل إنهم شكّكوا بكلّ من وثق بأبان واعتمد عليه ، فها هو شعبة ينعت سلّم العلوي الذي يروي عن أبان «بأنه يرى الهلال قبل الناس بليلتين» استهزاء به وتصغيرا لشأنه ، كما أن قراءة سريعة لترجمة أبان في ميزان الاعتدال تعطيك انطباعا واضحا عن مدى الكراهية والبغض منهم لأبان ولمروياته ، فواحد جمع مصحفا من رواياته لكنه آخر الأمر لم يستحلّ أن يروي منها عنه حديثا واحدا ، ولئن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان ، بل ذكر الذهبي عن سويد ابن سعيد قال : سمعت عليّ بن مسهر قال : كتبت أنا وحمزة الزيّات عن أبان ابن أبي عيّاش نحوا من خمسمائة حديث ، فلقيت حمزة ، فأخبرني أنه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ؛ قال : فعرضتها عليه ، فما عرف منها إلّا اليسير خمسة أو ستة أحاديث.


بل إنه العقيلي ـ بحسب زعم الذهبي ـ رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال له : يا رسول الله أترضى أبان بن أبي عيّاش؟ قال : لا (١).

٢ ـ أن ما ذكره شعبة وغيره من أنه يكذب على رسول الله ، وأنه منكر الحديث وأنه لا يحلّ الكفّ عنه لأن الأمر دين ، ليس كل ذلك إلّا إشارة إلى ما كانوا يزعمون من أن الأحاديث الواردة في فضل أهل البيت عليهم‌السلام وولايتهم وكفر أعدائهم من المناكير وأنها كذب ، وأن القيام تجاه نشر أمثال هذه الأحاديث واجب ديني!!

٣ ـ أن قول أحمد بن حنبل «كان له هوى» لا يريد به إلا هوى أهل البيت عليهم‌السلام والتشيّع.

ثم إنه يدل على تشيّع أبان عدة أمور أخرى :

١ ـ أن نقل أبان لهذا الكتاب واستبقائه وتحفّظه به ومناولته لمثل عمر بن أذينة شيخ الشيعة في البصرة أقوى دليل على تشيّعه إلى آخر عمره ، وإلّا لما تحفّظ بالكتاب بل أعدمه بالمرة.

٢ ـ إن ما قاله له الإمام الباقر عليه‌السلام في الحديث (١٠) (٢) يدلّ على أنه كان من المقربين عند الأئمة عليهم‌السلام ، فإن ذا الحديث يخبر عن جميع ما جرى على أهل البيت عليهم‌السلام من الظلم وغصب الحقوق واختلاف الأحاديث الموضوعة ونحو ذلك. مضافا إلى ما ورد عنه من أنه التقى بالإمام السجّاد عليه‌السلام وسأله «عمّا يسعه جهله وعمّا لا يسعه جهله فأجابه بما أجابه» وهذا يدلّ على أوائل تشيّعه.

٣ ـ إن نفس مخالفة العامة له ، ووقيعتهم فيه أقوى دليل على تشيّعه.

ويدل على وثاقة أبان عدة أمور :

__________________

(١) فليراجع : ميزان الاعتدال ج ١ / ١٢ ترجمة أبان.

(٢) كتاب سليم ج ٢ / ٦٢٩ وص ٥٦١ وج ١ / ٢٢٦.


(١) اعتماد العلماء على كتاب سليم الذي لم ينقله غير أبان ، مما يدل على جلالة قدره وإليك بعضها :

ـ قال الشيخ النعماني في الغيبة : «ليس بين جميع الشيعة ممّن حمل العلم ورواه عن الأئمةعليهم‌السلام خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول ... وهو من الأصول التي ترجع إليها الشيعة ..» (١).

ـ وقال العلّامة الطهراني في الذريعة : «وهو من الأصول القليلة التي أشرنا إلى أنها ألّفت قبل عصر الصادق عليه‌السلام» (٢).

وبيانا لمعنى «الأصل» وأهميته نقدّم ثلاثة نصوص :

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله : «صنّفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عصر أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام أربعمائة كتاب تسمّى الأصول ، وهو معنى قولهم : «له أصل» (٣).

قال الشيخ البهائي في مشرق الشمسين : «وقد بلغنا عن مشايخنا قدس‌سرهم أنه كان من دأب أصحاب الأصول أنهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمة عليهم‌السلام حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيام» (٤). وذكر مثل ذلك المير الداماد في الرواشح السماوية (٥).

قال العلّامة الطهراني في الذريعة : «الأصل من كتب الحديث هو ما كان المكتوب فيه مسموعا لمؤلّفه من المعصوم عليه‌السلام أو عمّن سمع منه لا منقولا عن مكتوب ... ومن الواضح أن احتمال الخطأ والغلط والسهو والنسيان وغيرها في

__________________

(١) الغيبة ص ٦١.

(٢) الذريعة ج ٢ / ١٥٢.

(٣) معالم العلماء لابن شهرآشوب ص ٣.

(٤) الذريعة ج ٢ / ١٢٨.

(٥) الرواشح السماوية ، الراشحة ٢٩.


الأصل المسموع شفاها عن الإمام عليه‌السلام أو عمّن سمعه منه أقلّ ... فوجود الحديث في الأصل المعتمد عليه بمجرده كان من موجبات الحكم بالصحّة عند القدماء ..

هذه الميزة ترشّحت إلى الأصول من قبل مزيّة شخصية توجد في مؤلّفيها. تلك هي المثابرة الأكيدة على كيفية تأليفها والتحفّظ على ما لا يتحفّظ عليه غيرهم من المؤلّفين وبذلك صاروا ممدوحين من عند الأئمة عليهم‌السلام ... ولذا نعدّ قول أئمة الرجال في ترجمة أحدهم «إن له أصلا» من ألفاظ المدح له ..

إنّ المزايا التي توجد في الأصول ومؤلّفيها دعت أصحابنا إلى الاهتمام التام بشأنها قراءة ورواية وحفظا وتصحيحا ، والعناية الزائدة بها وتفضيلها على غيرها من المصنّفات. ويرشدنا إلى ذلك تخصيصهم الأصول بتصنيف فهرس خاص لها وإفرادهم مؤلّفيها على سائر الرواة والمصنّفين بتدوين تراجمهم مستقلة» (١).

ـ قال رحمه‌الله في موضع آخر :

«روي عن أبي عبد الله الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء ولا يعلم من أسبابنا شيئا ، وو هو أبجد الشيعة ، وهو سر من أسرار آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

ـ وقال أيضا : «عن مختصر البصائر : أنه قرأ أبان بن أبي عيّاش كتاب سليم على سيّدنا عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، بحضور جماعة من أعيان أصحابه ، منهم أبو الطفيل ، فأقرّه عليه زين العابدين عليه‌السلام وقال : هذه أحاديثنا صحيحة» (٣).

ـ وذكر الكشي عرض الحديث المذكور آنفا على الإمام الباقر عليه‌السلام ـ بعد أبيه الإمام السجّاد عليه‌السلام ـ وأنه اغرورقت عيناه ، وقال ؛ صدق سليم ، وقد أتى أبي

__________________

(١) الذريعة ج ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٨.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ١٥٢.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ١٥٢.


بعد قتل جدي الحسين ، وأنا قاعد عنده فحدّثه بهذا الحديث بعينه فقال أبي : صدق ، وقد حدّثني أبي وعمي الحسن بهذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام» (١).

ـ ونقل عن كتاب سليم كثير من قدماء الأصحاب ، مثل : ثقة الإسلام في الكافي ، ورئيس المحدّثين الشيخ الصدوق في الخصال ، وفرات في تفسيره ، ومن لا يحضره الفقيه ، وعيون المعجزات ، والاحتجاج ، وإثبات الرجعة ، والاختصاص ، وبصائر الدرجات ، وتفسير ابن ماهيار ، والدرّ النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم. فقد رووا عنه بأسانيد متعددة تنتهي أكثرها إلى أبان بن عيّاش ، الذي أعطاه سليم كتابه مناولة ، ويرويه أيضا عن سليم بغير مناولة (٢).

ـ وقد اعتبره النجاشي في جملة القلائل المتقدّمين في التصنيف من سلفنا الصالح (٣) ، وأشار إليه شيخ الطائفة الطوسي رحمه‌الله (٤) ، وابن شهرآشوب المازندراني (٥).

ـ أمّا المسعودي فقال : «والقطعية بالإمامة ، الاثنا عشرية منهم ، الذين أصلهم في حصر العدد ما ذكره سليم بن قيس الهلالي في كتابه» (٦).

ـ وقال العلّامة السيّد ابن طاوس : «تضمّن الكتاب ما يشهد بشكره وصحّة كتابه»(٧).

ـ وقال المولى محمّد تقي المجلسي : «إنّ الشّيخين الأعظمين حكما بصحّة كتابه ، مع أنّ متن كتابه دالّ على صحّته» (٨).

__________________

(١) نفس المصدر ج ٢ / ١٥٣.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) رجال النجاشي ص ٦.

(٤) الفهرست ص ١٦٢.

(٥) معالم العلماء ص ٥٨.

(٦) التنبيه والاشراف ص ١٩٨.

(٧) التحرير الطاوسي ص ١٣٦.

(٨) روضة المتّقين ج ١٤ / ٣٧٢.


وقال : «كفى باعتماد الصّدوقين : «الكليني والصدوق ابن بابويه» عليه ... وهذا الأصل عندي ومتنه دليل صحّته» (١).

ـ وقد اعتبره المحدّث المتبحر الشيخ الحرّ من الكتب المعتمدة التي شهد بصحتها مألوفها وغيرهم ، وقامت القرائن على ثبوتها ، وتواترت عن مؤلّفيها أو علمت صحّة نسبتها إليهم (٢).

ـ وراجع ما نقله الفاضل المعاصر الشيخ محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني في مقدمة كتاب سليم بن قيس (٣) عن العلّامة السيد مصطفى التفريشي ، والعلّامة السيد هاشم البحراني ، والمدقّق الشيرواني ، والفاضل المتبحر مير حامد حسين صاحب كتاب عبقات الأنوار والحر العاملي والسيد محمد باقر الخوانساري وغيرهم.

ـ وقال ابن أبي الحديد المتوفى عام ٦٥٦ ه‍ : «سليم معروف المذهب ، وكتابه المعروف بينهم المسمّى كتاب سليم» (٤).

ـ وقال القاضي بدر الدين السبكي المتوفى عام ٧٦٩ ه‍ : «إن أول كتاب صنّف للشيعة هو كتاب سليم بن قيس الهلالي» (٥).

ـ وقال شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي : «سليم بن قيس الهلالي يكنّى أبا صادق ، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد ..» (٦).

ـ وقال النجاشي المتوفى عام ٤٥٠ ه‍ : «سليم بن قيس الهلالي له كتاب يكنى

__________________

(١) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٣.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٠ / ٣٦ و ٤٢.

(٣) كتاب سليم / الخوئيني ج ١ / ١٠٩ ـ ١١٣.

(٤) شرح نهج البلاغة ج ١٢ / ٢١٦ ومقدمة الخوئيني ج ١ / ١٠٥.

(٥) الذريعة ج ٢ / ١٥٣.

(٦) الفهرست للطوسي ص ٨١ رقم ٣٣٦.


أبا صادق ..» (١).

ـ قال الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني المتوفى عام ٥٨٨ ه‍ : «سليم بن قيس الهلالي صاحب الأحاديث ، له كتاب» (٢).

إذن ، اعتماد العلماء قديما وحديثا على الكتاب يعتبر دليلا على وثاقة أبان الذي لم ينقله عن سليم غيره.

(٢) إن نفس اعتماد سليم عليه وإعطائه الكتاب أقوى دليل على صدق أبان بن أبي عيّاش في نقل الكتاب عن سليم

، والذي تشهد القرائن الكثيرة ـ وقد أشرنا إلى بعضها ـ على صحة نسبة الكتاب إلى سليم.

(٣) إقرار كثير ممن أوقع في أبان بأنه كان من العبّاد ومعروفا بالخير كقولهم «ما زال نعرفه بالخير مذ كان» (٣) وقولهم «كان أبان من العبّاد» (٤) وقولهم «إنه كان طاوس القراء» (٥) «وأرجو أن لا يتعمد الكذب» (٦).

ونعم ما قال الفاضل الشيخ محمّد باقر الأنصاري الخوئيني :

«إن أبان بن أبي عيّاش كان من كبار علماء الشيعة ، وكان متصلا بالأئمة المعصومينعليهم‌السلام وأصحابهم ، وأنه كان ممن أصابه سهام التهمة والافتراء من الأعداء في سبيل إحياء مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أوثق من أن يبحث عن ذلك فيه ، وله علينا حقّ عظيم لسعيه الوافر في استبقاء هذا التراث القيّم ـ يقصد كتاب سليم ـ في تلك الظروف المملوءة بالغشم والإرهاب والاتّهام ، جزاه الله عن أهل بيت نبيّه خير الجزاء» (٧).

__________________

(١) رجال النجاشي ج ١ / ٦٩ تحقيق محمد جواد النائيني.

(٢) معالم العلماء ص ٥٨ رقم ٣٩.

(٣) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٠.

(٤) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٠.

(٥) المقدمة للخوئيني ج ١ / ٢٢٠ نقلا عن الضعفاء الكبير ج ١ / ٣٨.

(٦) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٤.

(٧) مقدمة سليم ج ١ / ٢٣٠.


وعليه فما ذكرته الشبهة من تضعيف أبان أو نسبة وضع الكتاب إليه لا تلائم رواية أجلّاء الطائفة قبل ابن الغضائري لهذا الكتاب ولروايات سليم ، وفيهم من صرّح كالنجاشي وغيره بكونه غير مطعون في حديثه ثقة في رواياته مسكونا إليه في أحاديثه وغير ذلك مما ينافي روايتهم لكتاب موضوع ، وهؤلاء مثل ابن أبي جيد شيخ النجاشي والشيخ الصدوق وابن الوليد وأحمد بن محمد بن عيسى والحسين بن سعيد وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب وهارون بن موسى التلعكبري ويعقوب بن يزيد وحماد بن عيسى ومحمد بن أبي عمير وغيرهم من أجلّاء الرواة. هذا مضافا إلى أنه لا توجد أية أمارات تدل على الوضع ، من هنا استنكر علماء الإمامية على نسبة الوضع والدّس.

قال المجلسي الأول : «إن متن كتابه دال على صحّته» (١).

وقال الفاضل التفريشي : «الصدق مبيّن في وجه أحاديث هذا الكتاب من أوله إلى آخره» (٢).

وقال الميرزا الأسترآبادي : «وشيء من ذلك لا يقتضي الوضع» (٣).

وقال الشيخ الحر : «ليس فيه شيء فاسد ولا ما استدل به على الوضع» (٤).

وقال السيّد الخوئي : «لا وجه لدعوى وضع كتاب سليم أصلا» (٥).

وقال ابن طاوس في التحرير : «سليم بن قيس تضمن الكتاب ما يشهد بشكره وصحة كتابه ..» (٦).

__________________

(١) روضة المتقين ج ١٤ / ٣٧٢.

(٢) نقد الرجال ص ١٥٩.

(٣) منهج المقال ص ١٧١.

(٤) وسائل الشيعة ج ٢٠ / ٢١٠.

(٥) معجم رجال الحديث ج ٨ / ٢٢٥.

(٦) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٢.


قال الشيخ الممقاني أعلى الله مقامه : «وأما ابن عيّاش فقد رجّحنا كونه إماميا ممدوحا وكون خبره حسنا والحسنة حجة على الأظهر ، فظهر أن الرجل ـ أي سليم ـ مشكور وأن كتابه صحيح» (١).

الشبهة الرابعة :

استدل الأستاذ سهيل زكّار (٢) السوري ، بأن عمر بن الخطاب لم يعصر الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام بين الحائط والباب ، لأنه لم يكن لبيوت المدينة في عهد الرسول أبواب ذات مصاريع خشبية ، بل كان هناك ستائر توضع على عتبات الأبواب. وقد نقل عنه هذا السيّد البيروتي متبنّيا ـ بحسب الظاهر ـ رأيه لقرائن تثبت ذلك ، تقدم بعض منها ، والبعض الآخر مبثوث في مطاوي كلماته هنا وهناك في المجلات والجرائد والكتب والاذاعات ، وآخر ما توصل إليه: أنه لا يثبت ولا ينفي ، أو أنه يستبعد ما حصل عليها لأن محبة المسلمين للزهراء كانت أكثر من محبتهم لعليّ (٣) .. الخ.

يرد عليه :

أولا : إن دعوى عدم وجود أبواب خشبية مجرد مزحة لا يكاد أحد يصدّقها ، بل مهزلة تردّ على صاحبها ، فلسنا أمّعة نتلقّى كل ما يلقى إلينا ، لا سيّما من جامعيين تربّوا في جحور الغرب وجامعاته إلّا المتقون منهم وهم قليل ، ويكفي لردّ هذه المهزلة أن نحيل صاحبها على مئات المصادر التاريخية ـ من عامة الأديان والفرق ـ فيرى الكثير من النصوص الدالة على وجود أبواب خشبية ذوات مصارع وحلق ومسامير. فالتاريخ القديم يغص بذكر المدن والبيوت ذات الأبواب ،

__________________

(١) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٢.

(٢) وهو مؤرخ علماني يعتمد على النصوص الآشورية أكثر من اعتماده على النصوص الإسلامية سوى ما يدخل في نطاق هدفه ، له نظريات لا تتوافق مع أصول الإمامية ، وقد أخذ مادة التاريخ من جامعات الغرب والحفريات الكلدانية والآشورية وغيرها.

(٣) الزهراء المعصومة ص ٥٥ الطبعة الأولى ١٩٩٧ دار الملاك.


ويشهد لهذا ما ذكره القرآن المجيد من قصة النبيّ يوسف عليه‌السلام وزوجة العزيز ملك مصر آنئذ حيث أرادت إغوائه فامتنع ، قال تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١).

وقال تعالى حكاية عنهما : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) (٢) والسيرة العقلائية تؤكد ما قلنا إذ لم يعهد عندهم أنهم بنوا بيوتا بلا أبواب ذات مصارع وحلق ، بل كان وجود الأبواب الحجرية وغيرها متعارفا لدى المجتمعات البدائية التي كانت الكهوف مسكنا لهم ، حفاظا على أنفسهم من السباع والضباع والأسود والأفاعي وغيرها ، فإخراج المجتمع المدني من سيرة العقلاء يعدّ فصلا بلا دليل معتبر.

ثانيا : كان المجتمع المدني آنذاك خليطا من الأفراد ، فيهم الصالح والطالح ، المؤمن والكافر والمنافق ، ويشهد له قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣).

وحيث إنّ المنافق يضمر الشرك والكفر ، ويظهر الإيمان ، وجب حينئذ الحذر منه على الأموال والأنفس ، وهل يتصور عاقل أن ينام الفرد في بيت لا مصراع خشبي له ، «وهو يعلم أن ضررا ما سيلحقه من منافق أو كافر ، بل وسبع أو حيوان ، لا سيّما وأن يثرب كانت مسرحا للحروب الداخلية والتجاذبات الحزبية والقبلية قبل الإسلام ، بل لقد بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان أهل المدينة فيه لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وللعربي حالاته ومفاهيمه تجاه قضايا الثأر والغزو والحروب والعداء والولاء ، وأكبر شاهد على ما قلنا هو ما فعلوه بعترة نبيّه بعد وفاته حيث ينمّ عداؤهم لعترة رسول الله محمّد على استحكام الحقد المستكنّ

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٣.

(٢) سورة يوسف : ٢٥.

(٣) سورة التوبة : ١٠١.


في النفوس ، فكيف يمكن حينئذ أن نتصور أن يعيش هكذا إنسان مع هذه المفاهيم حالة من الرخاء والاسترخاء في مواجهة كل الاحتمالات المخيفة التي تحيط به ، فيترك بيته من دون باب ، مكتفيا بالمبيت بالسلاح الذي لن يكون قادرا على حمايته حين يكون مستغرقا في نومه لا يشعر بما يحيط به ، ولا يلتفت إلى ما يجري حوله ، خصوصا إذا كان العداء بين قبيلتين أو فريقين يعيشان في بلد واحد كالأوس والخزرج أو هما مع اليهود من بني النضير وقينقاع وقريظة».

وبالجملة : فإن فائدة وجود الباب الخشبي وما شابهه ليست من أجل دفع اللصوص فحسب ، وإنما لدفع الحشرات والسباع والحيوانات ، هذا مضافا إلى أن أعظم فائدة مترتبة عليه هي ستر النساء عن أعين الرجال ، ودفع حسيسهنّ عن آذان غير الأزواج ، بل إن الخلوة بالزوجة للجماع يستلزم وجود أبواب ذوات مصارع حرصا على اللوازم المترتبة على الجماع كما لا يخفى ، مع الإشارة إلى أن لوجود الأبواب ذوات المصارع فائدة أيضا في دفع الهواء الحار المختلط بالرمال الصحراوية.

إن تشكيك سهيل بن زكّار يستلزم نفي أمرين :

الأول : تنزيه عمر بن الخطاب عن تهمة قتل الصدّيقة فاطمة بنت رسول الله محمّد صلّى الله عليهما.

الثاني : نفي الفضيلة عن آل البيت عليهم‌السلام من خلال نفي ما ورد ، أو التشكيك به على أقل تقدير من أن النبيّ بعد نزول آية التطهير بحق أهل بيته السادة الميامين : فاطمة وعليّ الحسن والحسين عليهم‌السلام بقي ثمانية أشهر يطرق باب سيّدة النساء فاطمة ويأخذ بعضادتي الباب ثم يقول : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، الصلاة رحمكم الله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ..» (١).

ومهما حاول تيار التشكيك ـ سواء من العامة أم ممن يحسب نفسه من

__________________

(١) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج ٢ / ٥٢.


الخاصة ـ أن يحرف بقيمنا التاريخية والعقائدية ليثبت الحق لأهل الباطل ، فلن يصل إلى بغيته ، لأن الله تعالى أرصد للأمة من يحميها من ضربات اولئك المشكّكين المتغربين.

إن لم تع الأمة عقائدها الصحيحة عبر التلقين السليم فسوف يتسلّط عليها عفاريت الإنس والجن ، وتلك خيانة للمبادىء والقيم التي أوصلها إلينا المتقدّمون وضحّوا في سبيل ذلك بالغالي والنفيس ، فحريّ بنا أن ننهج منهجهم بعين الرضا لأهل البيت عليهم‌السلام ، فنحبّ ما أحبّوا ونبغض ما كرهوا ، فلا تغرينا الشعارات الإسلامية التي تصبغها على نفسها شخصيات ومنظمات وأحزاب ، حتى لا نقع في المصيدة فيسهل أكلنا.

إن عالمنا الإسلامي تقوده حركات وأحزاب دينية ، تخفي في طياتها عقائد وتوجهات عامية تنصب العداء لأهل البيت عليهم‌السلام. شعارها محاربة الاستعمار ، ومضمونها وواقعها محاربة عقيدة آل البيت عليهم‌السلام.

إن أي تنظيم ـ مهما كان لونه وشكله ـ إن لم يحمل توجهات صحيحة مستوحاة من مشكاة الولاية لن يكتب له النجاح طويلا ، بل سيرتدّ أفراده على قيادته وتنقلب الصورة ويتهشم البناء بتحطم الأساس.

الشّبهة الخامسة :

سئل (١) أحدهم : لما ذا أصرت الزهراء عليها‌السلام على أن يبقى قبرها غير معروف مع أنها كانت قمة في التسامح؟

فأجابه : كانت المسألة احتجاجية وقد عرف قبرها بعد ذلك ، ويقصد الحديث المشهور : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة (٢).

__________________

(١) والمسئول هو السيّد محمد حسين فضل الله.

(٢) مرآة العقول / محمد باقر المجلسي ج ٥ / ٣٤٩ هامش حديث ١٠ : وقد تبنّى صاحبه الرأي القائل أن قبر الصدّيقة عليها‌السلام هناك.


والجواب :

(١) إن الاستدلال بهذا الحديث على موضع قبرها أول الكلام ، إذ من أين عرف المستدل أن هذه الروضة هي للصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، إذ قد تكون موضع جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ ما حل جسد المعصوم في مكان إلّا وكان روضة من رياض الجنّة ، والأظهر عندي أن الروضة هي موضع السقط محسن الشهيد عليه‌السلام ويشهد لما نقول ما رواه حسين بن حمدان عن محمّد بن المفضل عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقص عليه ما جرى على أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرةعليهما‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليّ لعمر بن الخطاب :

«.. اخرج قبل أن أخرج سيفي (١) ذا الفقار ، فأفني غابر الأمة ، فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمن بن أبي بكر وصاروا خارج الدار ، فصاح أمير المؤمنين بفضة : إليك مولاتك فاقبلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة وردة [ورده] الباب فسقطت [فأسقطت] محسنا عليه [ظ : عليه‌السلام] قتيلا وعرفت أمير المؤمنين إليه التسليم فقال لها : يا فضة لقد عرّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرّفني وعرّف فاطمة وعرّف الحسن وعرّف الحسين اليوم بهذا الفعل ونحن في نور الأظلة أنوار عن يمين العرش فواريه بقعر البيت فإنه لاحق بجده رسول الله ..» (٢).

وما اعتمده من قال إنّها دفنت في الروضة أو في بيتها جلّه أخبار آحاد ، معارض لأخبار أخرى دلت على أنّها دفنت صلوات الله عليها بالبقيع ، والبقيع واسع لا ندري في أي مكان دفن جسدها الطاهر فيه!

وتترجح أخبار البقيع لكثرتها على غيرها من الأخبار التي دلت على أنه دفنها

__________________

(١) هذه إشارة مهمة على أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام لم يكن مأمورا بإشهار سيفه بوجه تلك العصابة الظالمة لحكمة هو أدرى بها.

(٢) الهداية الكبرى ص ٤٠٨.


في بيتها ، وما يدرينا لعلّ المراد من بيتها هو الذي اتخذه لها أمير المؤمنين عليه‌السلام في البقيع لتبكي على أبيها بعد أن منعها أبو بكر وعمر من ذلك ، فبهذا يمكن الجمع بين الطائفة التي قالت : إنها ـ بنفس هي وأبي وأمي ـ دفنت في بيتها ، وبين الطائفة التي دلت على أنها صلوات الله عليها دفنت في البقيع.

نعم هناك خبر يشير إلى أنها دفنت في بيتها الملصق بحجرة رسول الله فلمّا زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد (١). فقوله (لما زادت بنو أمية ..) قرينة على أن البيت هو المتاخم لحجرة رسول الله ، فتصرف الروايات إليه.

لكنه غير كاف لضعفه ، فنبقى مع الأخبار التي دلت على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام «لمّا مضى شطر من الليل أخرجها ومعه ولداه الحسن والحسين وعمّار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ... وسوّى قبرها مع الأرض مستويا فمسح مسحا سواء مع الأرض حتى لا يعرف موضعه» وفي بعض النصوص حفر أربعين قبرا فأراد عمر أن ينبشها فقال له الإمام عليه‌السلام : والله لو رمت ذلك يا ابن صهّاك لأرجعت إليك يمينك ، ولئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك ، فانكسر عمر وسكت (٢).

(٢) كيف نجمع بين قوله «إن الزهراء أصرت على إبقاء قبرها غير معروف؟ مع أنها كانت قمة في التسامح من أجل أن المسألة كانت احتجاجية» وبين قوله : «إنّ أبا بكر وعمر قد جاءا لاسترضائها قبل وفاتها فرضيت عنهما؟» (٣).

الشّبهة السادسة :

كيف ترك أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام زوجه الزهراء عليها‌السلام تواجه التحدي لوحدها ، ألا يجدر به عليه‌السلام أن يردّ على عصابة الضلال بدلا من الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ، أو أن تردّ فضة مثلا على القوم؟

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٦٠ ح ٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٣ / ١٩٣ وص ١٩٩ وص ٢١٢.

(٣) خلفيات كتاب مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ٦ / ٢٢٦.


والجواب :

(١) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يترك مولاتنا الصدّيقة الطاهرة تواجه الأمر لوحدها ، بل كلّ ما في الأمر أنها روحي فداها كلّمتهم من وراء الباب ، وأيّ نقيصة أن تكلّم المرأة رجلا من خلف ستار؟ ولكنّ القوم دخلوا الدار عنوة وبسرعة حيث إن الإمام عليه‌السلام كان منشغلا مع بعض أصحابه في إحدى غرف داره ، فلو خرج وكلّمهم هو وأصحابه لكان ذلك مبرّرا لعصابة النفاق فيشيعون بين الناس أن الإمام وأصحابه هجموا على أبي بكر ، فيصبح بذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ظالما ـ بنظر أتباع عصابة النفاق ـ والطرف الآخر مظلوما ، فعدم خروج مولانا الإمام عليه‌السلام وردّه عليهم إنما كان من أجل دفع الفتنة المتوجهة إليه من قبل القوم ، لأنه لو خرج إليهم لقالوا للناس إنه واجهنا بالعنف ، ولم يكن أمامنا خيار إلّا أن اعتقلناه درءا للفتنة ، وحفاظا على الدين والأمة ، ومن الذي يستطيع أن ينكر عليهم ما يدّعون ويرى الناس أنهم حكّام متسلطون ، ولدى الحكام عادة السياط والسيوف إلى جانبها الأموال والمناصب ، وبإمكانهم تلبية المطامح والمآرب ، ويبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا ، لأنه يضرب بسيوف المال والجاه والجبروت والأطماع ، وهناك الحقد الظالم من الكثيرين على الإمام عليّ عليه‌السلام ، وعلى كلّ من يلوذ به أو ينسب إليه ، وعليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد لتثبيت أمرهم وتقوية سلطانهم ، وحين إجابتهم مولاتنا فاطمة عليها‌السلام كان جوابها المفاجأة أو الصدمة التي ضيّعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة ، كانوا يريدون قتل الإمام عليه‌السلام ـ حسبما أفصحت الأخبار عن ذلك ـ وقتل الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، من هنا تعمّد عمر رفسها على بطنها ولكزها بالسيف مضافا إلى عصرها بين الحائط والباب ، فواجهوها بتلك القسوة والفظاظة والغلظة لأنها حالت دون وصولهم إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكانت ـ فديتها بنفسي ـ شهيدة الحق ، وقضى محسن عليه‌السلام شهيدا في سبيل مظلومية أمير المؤمنين وزوجه سيّدة نساء العالمين فاطمة عليهم‌السلام.

وإصرار القوم بأخذ البيعة من الإمام عليّ عليه‌السلام لإرغامه على السكوت ، إذ


بمبايعته لمن اغتصب حقه سيخفف من حدّة المعارضة لهم والاحتجاج عليهم ، كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون الإمام عليّا عليه‌السلام على أنه متمرد على الشرعية ، فكان موقف الصدّيقة الشهيدة مفاجئا لهم ، فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب ، وضيّع عليهم ما جاءوا لأجله ، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد ، وتسبّب هذا في فضح أمرهم وتعريتهم على واقعهم ، فكان خطابها (روحي فداها) لهم من خلف الباب ضربة فاطمية موفّقة منها ـ ـ (وكلّ ما يصدر منها حكمة وصوابا ونورا) ـ محقت كلّ كيد وزيف ، وأبطلت كلّ تزوير أو تحوير للوقائع والحقائق.

(٢) أن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يتوان لحظة عن مولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام فها هي الأخبار الصحيحة تذكر كيف أخذ بتلابيب عمر بن الخطاب ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله لو لا وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكف عنهم ما دامت العدة ـ وهي أربعون رجلا ـ لم تكتمل ، لذا قال الإمام عليّ لابن الخطاب : «يا ابن صهّاك لو لا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله ، لعلمت أنك لا تدخل بيتي» ، من هنا قال ابن صهّاك عمر لمّا اعترضه جماعة ممن كان معه أأنت تدخل على عليّ بن أبي طالب داره؟ قال : نعم! إنّ الرجل لموصى.

وتصف لنا الأخبار الصحيحة المشهد البطولي لمولى الثقلين عليّ عليه‌السلام بالقول : «فأرسل ابن صهّاك يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وثار الإمام عليّ إلى سيفه فتكاثروا عليه وأخذوه فحالت بينهم وبينه مولاتنا فاطمة عليها‌السلام فضربها قنفذ «لعنه الله تعالى» بالسوط. أبعد هذا يقال إنه عليه‌السلام لم يواجه القوم؟!

(٣) إن تصدّي الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام للقوم كان تكليفا من الله تعالى لها ، ويشهد لما نقول : أن مولاتنا فاطمة عليها‌السلام محدّثة كما دلت على ذلك النصوص المتواترة ، ومعنى كونها محدّثة أنّ الله تعالى محدّثها والآمر لها أن تفعل كذا وكذا ، هذا بالإضافة إلى كونها معصومة مطهّرة ، فعلها وقولها وتقريرها حجة من الله تعالى على الخلق ، فالاعتراض بأنها لم جابهت هي القوم في غير محله ، لأنها لم تشهر سيفا بوجه أحد أو تأمر بقتل أحد ، وكل ما في الأمر أنها عليها‌السلام ردّت على القوم


من خلف الباب فكان جزاؤها أن تلصق أحشاؤها بين الحائط والباب.

(٤) أن فضة تكلّمت مع القوم حسبما تصف رواية الخصيبي أعلى الله مقامه لكنّ عمر جابهها بالسبّ والشتم ، قالت فضة : إن أمير المؤمنين عنكم مشغول والحق له لو أنصفتموه واتقيتم الله ورسوله ، فسبها عمر ، وجمع الحطب الجزل على الباب لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم [ورقية] (١) وفضة وإضرامهم النار على الباب ، وخروج فاطمةعليها‌السلام وخطابها لهم من وراء الباب ..» (٢).

فدعوى أنه لم لم يكلّمهم أحد غير الصدّيقة مردودة على أصحابها لما تقدم آنفا ، فلا بدّ إذن من الحكم بأن خطاب الصدّيقة لهم كان حجة على القوم وعلى عامة المسلمين الذين كانوا من الكثرة ما يمنع من الاعتداء على بضعة المصطفى فاطمة عليها‌السلام ، لكنّهم تخاذلوا ووقفوا على بابها يتفرجون كيف يقتحم عمر بن الخطاب الباب على ابنة النبيّ محمّد ، لا لجرم ارتكبته ـ وحاشاها ثم حاشاها ـ وإنما لأجل أحقاد تغلغلت في صدور قوم منافقين.

فالصدّيقة الشهيدة عليها‌السلام التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها ، حفظت بعملها الرائع الإسلام من مخالب الحاقدين ، كما أنها حفظت الإمامة المطلقة من التجنّي والتزوير ، ومكّنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة ، سواء من عاش منهم في ذلك العصر أو الذين جاءوا ويجيئون بعد ذلك ، ومن هنا أوصت ألّا يصلي الشيخان ـ أبو بكر وعمر ـ عليها وأن تدفن سرا ولا يعرف قبرها ليكون ذلك علامة احتجاج صارخ مدى الدهر ، وليبقى السؤال يتردّد على كلّ لسان : لما ذا أوصت أن لا يصلّيا عليها ولا يشيّعا جنازتها ، ولما ذا دفنت بضعة المصطفى وثمرة فؤاده سرا ولم يعرف أحد من المسلمين قبرها إلى الآن؟

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زائد من الصحّاف والله أعلم.

(٢) الهداية الكبرى / أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي ص ٤٠٧ والمذكور أحد أعلام القرن الثالث الهجري ولد عام ٢٥٨ ه‍ ـ وتوفى عام ٣٣٤ ه‍ ـ.


(٥) لعلّ السبب في عدم فتح أمير المؤمنين عليه‌السلام الباب هو كونه بعيدا عنه ، أو لوجود مانع يشغله عن فتح الباب ، والسيّدة الزهراء عليها‌السلام هي الأقرب منهم جميعا لذا تولّت هي الإجابة دونهم بصورة طبيعية ، وما المانع أن تردّ الصدّيقة من خلف الباب ، وقد كان رسول الله يأمر بعض نسائه بإجابة الطارق حين لا تتهيأ له المبادرة للإجابة لأمر يشغله؟.

(٦) إن ردّها على القوم كان لإلقاء الحجة عليهم لعلّهم يرتدعون أو يخجلون من امرأة جليلة تكلّمهم ، فكيف إذا ما كانت المتكلّمة فاطمة الزهراء ، لكنّهم لم يعطوها اهتماما بل تخطوا كل الحدود والقيود والآداب والدساتير ، وقد كانت الصدّيقة عالمة (١) بكلّ ما سيجري عليها ، من هنا كانت موطنة نفسها على نزول البلاء ، فلبست خمارها وجلبابها ولاذت وراء الباب فحصل ما حصل.

ودعوى «أن عليّا ومن معه ربما لا يكونون قد عرفوا بوجود أناس على الباب إلّا بعد فوات الأوان ، وبعد حصول ما حصل ..» (٢) غير سديدة وذلك لمنافاتها للعموميات القرآنية والأخبار النبوية الدالة على إحاطة العترة الطاهرة للموضوعات التي يترتب عليها حكم شرعي ، إذ جهل المعصوم به يعتبر تنزيلا له عن مرتبته ، فالعلم بالموضوعات المقررة من صلب مهامه ووظائفه.

فإن قيل : إذا كان ما زعمتم من أن الصدّيقة الشهيدة كانت عالمة بمصيرها فلما ذا لم تلتجئ إلى دار غير دارها لتحافظ على حياتها؟

قلنا : ليس هناك دارا أخرى تلتجئ إليها مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ، ودعوى أن دور المسلمين ترحب بها غير صحيحة ، وذلك لأن من تقاعس عن نصرتها كيف يمكن له أن يأويها ، مضافا إلى أنها ليست ملزمة بالخروج من دارها لمجرد علمها

__________________

(١) ومولاتنا فاطمة عليها‌السلام هي الولية لله تعالى وقد حباها سبحانه بالمعارف والعلوم ، فقد ورد ما معناه في الصحيح : أن الله قسّم العلم إلى ثلاث وسبعين حرفا ، أعطى اثنين وسبعين للنبيّ محمّد وعترته الطاهرة ، واستأثر لنفسه حرفا واحدا.

(٢) خلفيات مأساة الزهراء ج ٦ / ١٩٥.


بما سيجري عليها وإلا لتعدى هذا إلى بقية الأئمة عليهم‌السلام إذ كانوا يقدمون على مواقع الشهادة مع علمهم المسبق بها ترجيحا للأهم على المهم (١) ، فلم يعهد منهم أنهم فروا من الموت ، فإن لم يموتوا بالسيف ، ماتوا بغيره ، والموت بالسيف في سبيل الله أشرف وأعظم.

هذه أهم الشبهات التي طرأت على قضية الاعتداء على الصدّيقة الشهيدة ، وما عداها دونه خرط القتاد.

وفي الختام نذكّر المسلمين : بأنّ بضعة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ظلمها أبو بكر وعمر بن الخطاب ولم يرعيا حرمتها كامرأة جليلة عظيمة مطهّرة ، وابنة أعظم نبي ، وصحابية من أعاظم الأصحاب ، ونحن لا ننبش الماضي بذكر المآسي حبا له ، بل لأننا نريد إثبات مظلومية أئمتنا وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين وزوجه الطاهرة فاطمة عليهم‌السلام جميعا ، هذه المظلومية التي لو صبّت على الأيام لصرن ليالي على حدّ تعبير الشهيدة المظلومة. إن المسلمين اليوم مدعوون إلى الوقوف بجانب الحق الذي يدور مع فاطمة الشهيدة حيثما دارت ، ويزداد تعجبي من بعض فرق المسلمين كيف يؤولون كلمات عائشة وأبيها وفاروقه ، وينسبون إليهم الفضائل والمكرمات وينزهونهم عن المعايب والأخطاء ، في حين ينسبونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى البخاري عن محمد بن سعد عن أبيه قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب ، فأذن له النبي فدخل والنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يضحك ، فقال :

أضحك الله سنّك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، فقال :

عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.

__________________

(١) شبهة إلقاء الأئمة أنفسهم إلى التهلكة والرد عليها ، مخطوط للمؤلف.


فقال : أنت أحق أن يهبن يا رسول الله ، ثم أقبل عليهم فقال :

يا عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولم تهبن رسول الله؟!

فقلن : إنك أفظ وأغلظ من رسول الله (١).

وغيرها من الفظائع والفضائح التي يتنزه عنها المؤمن التقي ، فكيف بسيد المؤمنين رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن على علماء العامة أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لعترة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم سفن النجاة وباب الله الذي منه يؤتى وحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، كما عليهم أن يجلسوا على طاولة الحوار مع العلماء المتقين المخلصين من الشيعة لا الذين يدورون مع الساسة والسياسيين ، والذين يدعون إلى الوحدة كذبا ونفاقا لأجل مآرب سياسية ودنيوية ، فهؤلاء ـ أعاذنا الله من شرورهم ـ مستعدون دائما للتنازل عن عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام (وهي في الواقع دين الله عزوجل) وتقديمها لقمة سائغة للعامة بحجة التآلف ولمّ الشعث ووحدة الكلمة ، وكأن الله تعالى فوّضهم أمر دينه وأعطاهم الولاية عليه يتصرفون به كيفما تحلو لهم طبائعهم.

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لخدمة دينه والتمهيد لوليّه الحجّة المنتظر عليه‌السلام والذود عنه وعن آبائه الميامين عليهم‌السلام.

* * * * *

__________________

(١) صحيح البخاري مشكول ج ٤ / ٦٣ ـ ٦٤ باب التبسم والضحك. وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ٦٠ والرياض النضرة ج ١ / ٢٩٩ ، وكتاب «من حياة الخليفة عمر بن الخطاب» / عبد الرحمن البكري ص ٨٤.


قال الملك للوزير : هل ما يذكره العلوي صحيح؟

قال الوزير : نعم إني رأيت في التواريخ ما يذكره العلوي!

قال العلوي : وهذا هو السبب لكراهية الشيعة لأبي بكر وعمر!

وأضاف العلوي قائلا :

ويدلّك على وقوع هذه الجريمة من أبي بكر وعمر أنّ المؤرخين ذكروا أنّ فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر وعمر وقد ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة أحاديث له :

«إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها» (١).

وأنت أيها الملك تعرف ما هو مصير من غضب الله عليه!؟

قال الملك (موجّها الخطاب للوزير) : هل صحيح هذا الحديث؟

وهل صحيح أن فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر؟

قال الوزير : نعم ذكر ذلك أهل الحديث والتاريخ (٢).

قال العلوي : ويدلّك أيّها الملك على صدق مقالتي : أنّ فاطمة أوصت إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أن لا يشهد أبا بكر وعمر وسائر الذين ظلموها جنازتها ، فلا يصلّوا عليها ، ولا يحضروا تشييعها ، وأن

__________________

(١) راجع : ينابيع المودة ص ٢٠٣ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٥٣ ، أسد الغابة ج ٥ / ٥٢٢ ، تهذيب التهذيب ج ١٢ / ٤٤٢ ، كنز العمال ج ٦ / ٢١٩ ، ذخائر العقبى ص ٣٩.

(٢) لاحظ الإمامة والسياسة ط / قم ص ٣١ ، وقد تقدم ما قالت مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ولاحظ أيضا تاريخ ابن كثير ج ٦ / ٣٣٣ والتاج الجامع للأصول ج ٢ / ٢٩٣ وشرح النهج ج ٤ / ٨٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٠٥.


يخفي عليّ قبرها حتى لا يحضروا قبرها ، ونفّذ عليّ عليه‌السلام وصاياها!

قال الملك : هذا أمر غريب ، فهل صدر هذا الشيء من فاطمة وعليّ؟

قال الوزير : هكذا ذكر المؤرخون!

قال العلوي : وقد آذى أبو بكر وعمر فاطمة عليها‌السلام أذية أخرى!

قال العبّاسي : وما هي تلك الأذية؟

قال العلوي : هي أنهما غصبا ملكها (فدك).

قال العبّاسي : وما هو الدليل على أنهما غصبا (فدك)؟

قال العلوي : التواريخ ذكرت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فدكا لفاطمة عليها‌السلام ، فكانت فدك في يدها ـ في أيام رسول الله ـ فلما قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل أبو بكر وعمر من أخرج عمّال الصدّيقة فاطمة من فدك بالجبر والسيف والقوة ، واحتجت فاطمة على أبي بكر وعمر ، لكنّهما لم يسمعا كلامها ، بل نهراها ومنعاها ، ولذلك لم تكلّمهما حتى ماتت غاضبة عليها!

قال العبّاسي : لكنّ عمر بن عبد العزيز ردّ فدكا على أولاد فاطمة أيام خلافته.

قال العلوي : وما الفائدة؟

فلو أن إنسانا غصب منك دارك وشرّدك ثم جاء إنسان آخر بعد أن متّ أنت ، وردّ دارك على أولادك كان ذلك يمسح ذنب الغاصب الأول؟


قال الملك : يظهر من كلامكما أيها العبّاسي والعلوي أن الكل متفقون على غصب أبي بكر وعمر فدكا!

قال العبّاسي : نعم ذكر ذلك التاريخ.

قال الملك : ولما ذا فعلا ذلك؟

قال العلوي : لأنهما أرادا غصب الخلافة ، وعلما بأنّ فدكا لو بقيت بيد فاطمة لبذلت ووزّعت واردها الكثير (مائة وعشرين ألف دينار ذهبا على قول بعض التواريخ) في الناس ، وبذلك يلتف الناس حول الإمام عليّ عليه‌السلام ، وهذا ما كان يكرهه أبو بكر وعمر!

قال الملك : إذا صحت هذه الأقوال فعجيب أمر هؤلاء! وإذا بطلت خلافة هؤلاء الثلاثة ، فمن يا ترى يكون خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال العلويّ : لقد عيّن الرسول بنفسه ـ وبأمر من الله تعالى ـ خلفاءه من بعده ، في الحديث الوارد في كتب الحديث حيث قال : «الخلفاء بعدي اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل وكلّهم من قريش» (١).

قال الملك للوزير : هل صحيح أن الرسول قال ذلك؟

قال الوزير : نعم.

قال الملك : فمن هم اولئك الاثنا عشر؟

قال العبّاسي : أربعة منهم معروفون وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠ ط / قم.


قال الملك : فمن البقية؟

قال العبّاسي : خلاف في البقية بين العلماء.

قال الملك : عدّهم.

فسكت العبّاسي.

قال العلويّ : أيّها الملك ، الآن أذكرهم لك بأسمائهم حسب ما جاء في كتب علماء السّنّة وهم : عليّ ، الحسن ، الحسين ، عليّ ، محمّد ، جعفر ، موسى ، عليّ ، محمّد ، عليّ ، الحسن ، المهديّ عليهم الصلاة والسلام (١).

قال العبّاسي : اسمع أيّها الملك ، إن الشيعة يقولون بأن المهدي حيّ في دار الدنيا منذ سنة ٢٥٥ ه‍ ـ وهل هذا معقول؟

ويقولون : إنه سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا.

قال الملك (موجّها الخطاب إلى العلوي) : هل صحيح أنكم تعتقدون بذلك؟

قال العلوي : نعم صحيح ذلك ، لأن الرسول قال بذلك ، ورواه الرواة من الشيعة والسنّة.

قال الملك : وكيف يمكن أن يبقى إنسان هذه المدة الطويلة؟

__________________

(١) لقد ورد عشرون نصا عن النبي عليه‌السلام في التنصيص على أسماء الأئمة الاثني عشر من طرق العامة وكتبهم ، منها : فرائد السمطين ، تذكرة الخواص ، ينابيع المودة ، الأربعين للحافظ أبي محمّد بن أبي الفوارس ، مقتل الحسين لأبي المؤيد ، منهاج الفاضلين ، ودرر السمطين.


قال العلوي : الآن لم يذهب من عمر الإمام المهدي عليه‌السلام مقدار ألف سنة ، والله يقول في القرآن حول نوح النبيّ : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤ فهل يعجز الله أن يبقي إنسانا هذه المدة؟

أليس الله بيده الموت والحياة وهو على كل شيء قدير؟

ثم إن الرسول قال ذلك وهو صادق مصدّق.

قال الملك (موجّها الخطاب إلى الوزير) : هل صحيح أن الرسول أخبر عن المهدي [بالمهدي] على ما يقوله العلوي؟

قال الوزير : نعم (١).

____________________________________

(١) الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء هو الحجّة القائم ابن الإمام الحسن العسكري بن الإمام الهادي بن الإمام الجواد بن الإمام الرضا بن الإمام الكاظم بن الإمام الصادق بن الإمام الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين ، (عمه الإمام الحسن المجتبى) بن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم جميعا آلاف التحية والسلام ، ولد عليه‌السلام في ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (٨٦٩ م).

والإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف بهذا التسلسل النسبي هو ما نجمع عليه نحن الإمامية ، بل هو من صلب عقيدتنا الدينية ، والقطعيات التي لا تقبل التأويل والتحريف ، وكل من نسب إلينا غير ذلك فهو مفتر على إمامنا ـ فديته بنفسي ـ وعلى عقيدتنا الإسلامية. وليس هناك إمام غير هذا الإمام يأتي لينقذ المستضعفين بل هو أحد لا شريك له ولا نظير إلّا آباؤه الميامين ، ومن ادّعى أن


هناك إماما اسم أبيه عبد الله فقد افترى على الشيعة الإمامية سددهم المولى ، لأنه إمامنا ونحن أدرى به من غيرنا «وأهل مكة أدرى بشعابها» ، ألسنا الذين اضطهدنا لأننا نعتقد بما يقول ويقولون عليهم‌السلام؟!

أليس هو ابن الصدّيقة فاطمة الزهراء وابن عليّ المرتضى وابن الحسين الشهيد وهؤلاء أئمتنا؟! ولو قلنا للعامة إن أبا بكر ليس ابن أبي قحافة مثلا ، فكيف يكون موقف العامة من الشيعة؟ وهل يوافقونا على مدعانا أو أن الدنيا علينا تقوم ولا تقعد؟!

هذا هو حالنا مع مشهور العامة حيث ادّعوا بخبر واحد ـ وهو لا يوجب علما ولا عملا ـ أن اسم والد الإمام المهديّ هو عبد الله استنادا إلى ما نسب إلى رسول الله أنه ـ كما في رواية أبي داود عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (١) ، بل إنّ السفاريني وهو أحد أكابر العامة وصف الاعتقاد بولادة الإمام المهديّ عام خمس وخمسين بعد المائتين إلى الآن بأنه ضرب من الجنون والهذيان (٢).

يرد عليه :

١ ـ متى كان الاعتقاد بوجود مخلوق من مئات السنين ضربا من الهذيان إلّا عند ضعاف العقول والإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة؟ ولم لا يعتبر الاعتقاد بوجود عيسى ضربا من الهذيان والجنون عند السفاريني وأمثاله من النواصب الألداء لأهل البيت عليهم‌السلام؟! وهل الاعتقاد بوجود إدريس والياس والخضر عليهم‌السلام بل الملائكة

__________________

(١) الإمام المهدي عند أهل السنّة / مهدي الفقيه إيماني ج ١ / ٨ نقلا عن لوائح الأنوار البهية وعون المعبود في شرح أبي داود ج ١١ / ٣٧٠ حديث ٤٢٦٢.

(٢) المصدر السابق.


الكرام والجن والشياطين ضربا من الهذيان بنظر المهذي صاحب المقال مع أن القرآن ونبيّ الإسلام أخبرا بصحة ذلك من دون جدال؟!

٢ ـ المجمع عليه عند الإمامية هو أن والد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف هو الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام الحادي عشر من أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين وما خالف إجماعنا المرتكز على الضرورة القطعية لا اعتداد به ، ودونه خرط القتاد.

٣ ـ لا اعتناء بما ورد في رواية أبي داود لدلالة الأخبار الكثيرة المتواترة على أن الحسن إنما هو اسم أبيه عليهما‌السلام ، ونفسه أبو داود ذكر أحاديث أخرى خالية من ذكر «اسم أبيه» منها حديث سفيان : «لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (١).

ومنها ما ورد مثله عن عليّ وأبي سعيد وأمّ سلمة وأبي هريرة. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح (٢).

ومنها ما ورد (٣) عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال عاصم : وأنا أبو صالح عن أبي هريرة قال : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي ..».

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

ويظهر أن الزيادة من الراوي المسمى زايدة (وهو اسم على مسمّى حيث زاد على أحاديث رسول الله). ويزيدك بيانا أن الكنجي ذكر في البيان أن الترمذي ذكر الحديث ولم يذكر قوله (واسم أبيه اسم أبي) وأن الإمام أحمد مع ضبطه وإتقانه روى هذا الحديث في مسندة في عدة مواضع «واسمه اسمي» وجمع الحافظ أبو

__________________

(١) عون المعبود في شرح سنن أبي داود ج ١١ / ٣٧١ ، وسنن أبي داود ج ٤ / ١٠٧ ح ٤٢٨٢.

(٢) سنن الترمذي ج ٤ / باب ٥٢ ح ٢٢٣٠.

(٣) نفس المصدر ج ٤ / باب ٥٢ ح ٢٢٣١.


نعيم طرق هذا الحديث من الجم الغفير في مناقب المهديّ كلّهم عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله عن النبيّ ، فمنهم سفيان بن عيينة وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم قطر بن خليفة وطرقه عنه بطرق شتى ومنهم الأعمش وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم أبو إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم حفص بن عمر ومنهم سفيان الثوري وطرقه بطرق شتى ومنهم شعبة وطرقه بطرق شتى ، ومنهم واسط بن الحارث ومنهم يزيد بن معاوية أبو شيبة له فيه طريقان ، ومنهم سليمان بن قرم وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم جعفر الأحمر وقيس بن الربيع وسليمان بن قرم واسباط جمعهم سند واحد ، ومنهم سلام أبو المنذر ، ومنهم أبو شهاب محمد بن إبراهيم الكناني وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم عمرو بن عبيد التنافسي وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم أبو بكر بن عيّاش وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم أبو الحجاف داود بن أبي العوف وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم عثمان بن شبرمة وطرقه عنه بطرق شتى ، ومنهم عبد الملك أبي عيينة ، ومنهم محمد بن عياش عن عمرو العامري وطرقه بطرق شتى وذكر سندا وقال فيه : حدّثنا أبو غسّان حدثنا قيس ولم ينسبه ، ومنهم عمرو بن قيس الملائي ومنهم عمار بن زريق ، ومنهم عبد الله بن حكيم بن جبير الأسدي ، ومنهم عمرو بن عبد الله بن بشير ، ومنهم الأحوص ، ومنهم سعد بن حسن بن أخت ثعلبة ، ومنهم معاذ بن هشام قال : حدثني أبي عن عاصم ، ومنهم يوسف بن يونس ، ومنهم غالب بن عثمان ، ومنهم حمزة الزيات ، ومنهم شيبان ، ومنهم الحكم بن هشام ، ورواه غير عاصم عن زر وهو عمر بن مرة عن زر ، كل هؤلاء رووا (اسمه اسمي) إلّا ما كان من عبيد الله بن موسى عن زايدة عن عاصم فإنه قال فيهم (واسم أبيه اسم أبي) ولا يرتاب اللبيب أن هذه الزيادة لا اعتبار بها مع اجتماع هؤلاء الأئمة على خلافها» (١).

__________________

(١) منتخب الأثر / لطف الله الصافي ص ٢٣٦ ، والبيان للكنجي الشافعي المطبوع بهامش إلزام الناصب ج ٢ / ٨ ـ ٩ ط / مؤسسة الأعلمي ١٩٧٧ م.


وقال عليّ بن عيسى عفا الله عنه : أما أصحابنا الشيعة فلا يصحّحون هذا الحديث لما ثبت عندهم من اسمه واسم أبيه عليهما‌السلام وأما الجمهور فقد نقلوا أن زائدة (راوي الحديث) كان يزيد في الأحاديث فوجب المصير إلى أنه من زيادته ليكون جمعا بين الأقوال والروايات (١).

وعليه فلا يبقى مجال للاعتماد على نقل زايدة ويسقط عن الاعتبار ، بل تطمئن النفس بأن زائدة أو غيره من رواة الحديث زاد هذه الجملة فيه ، ويحتمل أن تكون تلك الزيادة من صنعة أهل السياسة والرئاسة ، فإن ترويج الأحاديث المكذوبة على رسول الله كان لها شأنا عظيما في نجاح السياسات ، وتأسيس الحكومات في الصدر الأول ، فكانوا يأمرون بوضع الأحاديث ويتوسلون بها إلى جلب قلوب العامة لحفظ حكومتهم ، ويشهد لذلك أعمال معاوية على من يروي في فضل مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام حديثا ومنقبة وإعطائه الجوائز والصلات لكلّ من وضع حديثا في ذمّ الإمام عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام أو مدح عثمان وغيره من بني أمية ، فاستأجر أمثال أبي هريرة من أهل الدنيا وعبدة الدنانير والدراهم لجعل الأحاديث ، وهكذا جرى الأمر في ابتداء خلافة بني العبّاس وتأسيس حكومتهم وثورتهم على الأمويين ، واستمر الأمر فوضع الوضّاعون بأمرهم أو تقربا إليهم أحاديثا لتأييد مذاهبهم وآرائهم وسياستهم وتصحيح أعمالهم الباطلة ، ومما أخذه العباسيون وسيلة لبناء حكومتهم على عقيدة دينية هذا البشائر الواردة في الإمام المهديّ عليه‌السلام ؛ فإذا لا يبعد في أن يكون الداعي إلى زيادة هذه الجملة تقوية حكومة محمّد بن عبد الله المنصور العبّاسي الملقب بالمهدي أو تأييد دعوة محمّد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية. ويؤكد هذا ما ذكره المؤرخ الصاحب الفخري في «الآداب السلطانية والدول الإسلامية» أن عبد الله المحض أثبت في نفوس طوائف من الناس أن ابنه محمّد هو المهدي الذي بشّر به ، وأنه يروي هذه الزيادة (اسم أبيه اسم أبي).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥١ / ٨٦ ط / دار الوفاء.


وبالجملة : فلا اعتبار بهذه الزيادة لمعارضتها للأخبار المتواترة القطعية المذكورة في كتب أصحابنا ، وما عداه شاذّ موضوع ، واجب طرحه ، لا سيّما أن الزيادة المذكورة في متن الحديث تفرّد بها رجل مجهول الحال لا يعرف خبره ، ويروي المناكير عن المشاهير على حدّ تعبير رجل الجرح والتعديل ابن حبان.

٤ ـ يمكن الجمع بين هذه الزيادة والأخبار المذكورة بوجوه :

الوجه الأول : احتمال التصحيف (١) ، وأن الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (واسم أبيه اسم ابني) يعني الإمام الحسن عليه‌السلام ، فإن تعبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه بابني وعنه وعن أخيه الإمام الحسين بابناي في نهاية الكثرة ، فتوهم فيه الراوي فصحف ابني بأبي ، ويؤيد هذا الاحتمال ما جاء في البحار عن أمالي الشيخ بسند معنعن إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى في حديث عن أبيه قال : بعد ذكر بعض أمارات الظهور ، وعند ذلك يظهر القائم فيهم ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم ابني وهو من ولد ابنتي. (المراد من قوله «ابني» السبط الأكبر الإمام الحسن عليه‌السلام) (٢).

الوجه الثاني (٣) ما ذكره كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي في مطالب السئول في مناقب آل الرسول : «لا بد قبل الشروع في تفصيل الجواب بيان أمرين يبنى عليهما الفرض :

الأول : أنه شائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجد الأعلى ، وقد

__________________

(١) وقد ورد تصحيف في رواية شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال : قال «الإمام» عليّ رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال : إن ابني هذا سيّد كما سمّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق. راجع سنن أبي داود ج ٤ / ١٠٨ حديث (٤٢٩٠) وهو تصحيف «حسين» للاتفاق على أن الإمام الحجّة المهدي عجّل الله فرجه من صلب الإمام الحسين لانحصار الإمامة في عقبه دون الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام.

(٢) منتخب الأثر ص ٢٤١ نقلا عن البحار.

(٣) ونقله عن الكنجي الشافعي العلّامة محمد باقر المجلسي في البحار ج ٥١ / ٨٦ وص ١٠٣ ذكره عن ابن طلحة.


نطق القرآن بذلك فقال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (١) وقال تعالى حكاية عن يوسف (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (٢) ونطق بذلك النبيّ في حديث الإسراء أنه قال : (قلت من هذا؟ قال : أبوك إبراهيم) فعلم أن لفظة الأب تطلق على الجد وإن علا فهذا أحد الأمرين :

الثاني : أن لفظة الاسم تطلق على الكنية وعلى الصفة ، وقد استعملها الفصحاء ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث حتى ذكرها الإمامان البخاري ومسلم كل منهما يرفعه إلى سهل بن سعد الساعدي أنه قال عن عليّ أن رسول الله سماه بأبي تراب ولم يكن له اسم أحب إليه منه ، فأطلق لفظ الاسم على الكنية ومثل ذلك قول الشاعر :

أجلّ قدرك أن تسمى مؤنبة

ومن كنّاك فقد سمّاك للعرب

ويروى : (ومن يصفك) فأطلق التسمية على الكنية أو الصفة ، وهذا شائع ذائع في لسان العرب ، فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين ، فاعلم أيدك الله بتوفيقه أن النبيّ كان له سبطان أبو محمّد الحسن وأبو عبد الله الحسين ، ولما كان الحجّة الخلف الصالح محمّد من ولد أبي عبد الله الحسين ولم يكن من ولد أبي محمّد الحسن ، وكانت كنية الحسين أبا عبد الله ، فأطلق النبيّ على الكنية لفظ الاسم لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه وأطلق على الجد لفظة الأب فكأنه قال يواطئ اسمه اسمي فهو محمّد وأنا محمّد ، وكنية جده اسم أبي إذ هو عبد الله وأبي عبد الله ، لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعة لتعريف صفاته وإعلام أنه من ولد أبي عبد الله الحسين بطريق جامع موجز ، وحينئذ تنتظم الصفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجّة الخلف الصالح محمّد عليه‌السلام ، فهذا بيان شاف وكاف في إزالة ذلك الإشكال فافهمه) انتهى.

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

(٢) سورة يوسف : ٣٨.


الوجه الثالث : نقله صاحب البحار عن بعض معاصريه وهو أن كنية الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام هي أبو محمّد وعبد الله أبو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو محمّد فتتوافق الكنيتان ، والكنية داخلة تحت الاسم (١).

الوجه الرابع : أن يقال في الخبر هكذا : (اسمه اسمي واسم أبي) حيث ورد في الأخبار أن «عبد الله» من أسمائه ، وهو اسم والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه يكون الاشتباه من الراوي حيث زاد قوله (واسم أبيه) لأنه لم يفهم معنى الخبر ولم يحتمل أن يكون للإمام المهدي عجّل الله فرجه اسمان ، فأراد تصحيح الخبر من عنده فزاد هذه الجملة ، وبهذا يظهر عدم منافاة الخبر لأخبارنا بوجه (٢).

الوجه الخامس : ويحتمل أن يكون الخبر هكذا : (اسمه اسمي واسم ابنه اسم أبي) لما يظهر من جملة من الأخبار أن من أولاده عليه‌السلام عبد الله ، لذا ورد أن «عبد الله» من كناه ، فبدّل اسم ابنه باسم أبيه.

الوجه السادس : من المقطوع به بالأدلة أن أهل البيت عليهم‌السلام عبيد الله تعالى ، فصفة العبودية من لوازم ذواتهم صلوات الله عليهم ، والصفة اسم تدل على الموصوف بها ، فالإمام العسكري عليه‌السلام عبد الله حقيقة ، فاسمه أي صفته كاسم والد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله.

٥ ـ جاء في الصحاح «يواطئ اسمه اسمي» وليس فيه تلك الزيادة التي جاء بها زائدة بن أبي الرّقاد ، ولم ينقلها أحد من أئمة الحديث وحفاظه المعروفين بنقد الأخبار وتمييز رجالاته عند العامة ، وإنما جاء بتلك الزيادة من ذكرنا آنفا ، وليس من الممكن المعقول أن يخطئ ثلاثون ثقة أو أكثر من حملة الحديث وثقاته عند العامة بتركهم لهذه الزيادة ـ على تقدير وجودها ـ ويصيب زائدة وحده ، وينفرد بحفظها دون هؤلاء ، مع أن الجميع قد نقلوا الحديث عن عاصم بن بهدلة عن

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥١ / ١٠٣.

(٢) منتخب الأثر ص ٢٤٠.


زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود.

فزائدة لا يعتمد على شيء من حديثه ، قال الرجالي النقّاد المتعصب الذهبي عنه ما نصه : «زائدة بن أبي الرّقاد أبو معاذ ، عن زياد النميري ، ضعيف ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وهو بصري. وقال النسائي : لا أدري ما هو ، وزياد النميري ـ الذي روى عنه زائدة ـ أيضا ضعيف» (١).

وقال خاتمة حفّاظ أهل السنّة وأحد أئمة الجرح والتعديل في علم الرجال عندهم ابن حجر العسقلاني ما نصه :

«زائدة بن أبي الرّقاد الباهلي البصري الصيرفي ، روى عن عاصم وثابت البناني وزياد النميري ، قال البخاري : منكر الحديث ، وقال السجستاني : لست أعرف خبره ، وقال النسائي: لست أدري من هو ، وقال ابن حيان : يروي المناكير عن المشاهير» (٢).

بعد هذا التقديم ، أيعقل أن يستند الباحث البصير والمثقف المتحلّل من قيود العصبية إلى حديث قد طعن في راويه أشدّ الطعن أئمة الجرح والتعديل عندهم حيث عليهم المعوّل والاعتماد في معرفة الثقات من غيرهم في رجال الإسناد عند أهل مذهبه ، ويضرب الصفح عن نقل ما يخالفه وهم يزيدون على ثلاثين ثقة ، وفيهم طائفة من أعاظم الحفّاظ وكبار رجالهم من أهل نحلته ، وقد جاء الحافظ الكنجي على ذكرهم مفصلا في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان عجّل الله فرجه فليراجع.

ثم إن الحافظ الترمذي ، كغيره من حفّاظ العامة ، أخرج الحديث في سننه عن جماعة كثيرة من الصحابة وحسّنه ، ولم تكن فيه هذه الزيادة في حديث زائدة ،

__________________

(١) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ / ٦٥ رقم ٢٨٢٤.

(٢) تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني ج ٣ / ٣٠٥ ط / أولى سنة ١٣٢٥ ه‍.


نعم أخرج السجستاني (١) هذا الحديث بهذه الزيادة في سننه ، إلّا أنك قد عرفت طعنه في زائدة ، وأنه ما عرف خبره ، كما أنه أخرجه بغير هذه الزيادة.

٦ ـ اعتراف جم غفير من أكابر علماء العامة بولادة الإمام المهديّ عليه‌السلام عام ٢٥٥ ه‍ وبقائه حيّا إلى الآن حتى يأذن الله تعالى له في الظهور ، ولا بأس هنا تتميما للفائدة بذكر تصريحاتهم والتعرض لذكر أساميهم ، فيسفر الصبح لذي عينين.

١ ـ منهم العلّامة الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي النيسابوري الفقيه الشافعي (المتوفى سنة ٤٥٨ ه‍) فإنه ذكر في كتابه «شعب الإيمان» وقال : «اختلف الناس في أمر المهديّ فوقف جماعة وأحالوا العلم إلى عالمه ، واعتقدوا أنه واحد من أولاد فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، يخلقه الله متى شاء ، يبعثه ، نصرة لدينه ، وطائفة يقولون إنّ المهديّ الموعود ولد يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، وهو الإمام الملقّب بالحجّة ، القائم المنتظر ، محمّد بن الحسن العسكري ، وأنه دخل السرداب بسرّ من رأى وهو مختف عن أعين الناس ، منتظر خروجه ، ويظهر ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما. (ثم إنّ البيهقي أجاب القائلين بامتناع بقائه إلى هذا الحين لطول الزمان فقال :) ولا امتناع في طول عمره وامتداد أيامه كعيسى بن مريم والخضر عليهما‌السلام. وهؤلاء (القائلون ببقائه وطول عمره) هم الشيعة وخصوصا الإمامية منهم (قال :) ووافقهم (في ما ادّعوه في المهدي عليه‌السلام) عليه جماعة من أهل الكشف ...».

قال بعض علماء الإمامية أنّ المراد من الموافقين من أهل الكشف غير الشيخ محيي الدين والشعراني والشيخ حسن العراقي لأن البيهقي متقدّم على هؤلاء ولأن وفاته كانت سنة ٤٥٨ ه‍ والشيخ محيي الدين والشعراني والشيخ حسن العراقي وجدوا بعده لأن وفاة محيي الدين كانت سنة ٦٣٨ ه‍ كما صرّح به الشيخ حسن

__________________

(١) هو أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي المتوفى عام ٢٧٥ ه‍ ، اشتهر كتابه «السنن» باسمه «سنن أبي داود».


العراقي ، وهكذا الشعراني كان في سنة ٩٥٥ ه‍ والعراقي وغيره كانا معاصرين للشعراني. فمراد البيهقي من أهل الكشف الذين أخبر عنهم غير هؤلاء ، هذا ويظهر من كلام البيهقي أنه موافق للإمامية في دعواهم ولو لا اتفاقه معهم لأنكر عليهم ولم يقل : ولا امتناع في طول عمره كعمر الخضر ، حيث لا شبهة في طول عمره بين جميع فرق المسلمين.

٢ ـ ومنهم العلامة أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن محمّد بن الخشاب (المتوفى سنة ٥٦٧ ه‍) فإنه أخرج في كتابه «تاريخ مواليد الأئمة ووفياتهم» بسنده عن أبي بكر أحمد بن نصر بن عبد الله بن الفتح الدراع النهرواني ، قال : «حدّثنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبي عن الرضا عليه‌السلام قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمد الحسن بن علي ، وهو صاحب الزمان ، وهو المهديّ» ثم قال : «وحدّثني الجرّاح بن سفيان ، قال : حدثني أبو القاسم طاهر بن هارون بن موسى العلوي عن أبيه هارون عن أبيه موسى ، قال : قال سيّدي جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : الخلف الصالح من ولدي وهو المهديّ اسمه م ح م د ، وكنيته أبو القاسم ، يخرج في آخر الزمان ، يقال لأمه صيقل».

وأخرج العلّامة السيّد هاشم البحراني الحديث في «غاية المرام» نقلا من تاريخ ابن الخشاب وقال بعد قوله : «يخرج في آخر الزمان يقال لأمه صيقل» قال أبو بكر الزراع (و) يقال لها «حكيمة». وفي رواية يقال لها «نرجس» وفي رواية يقال لها «سوسن». ويكنّى «أبا القاسم» وهو ذو الاسمين خلف ومحمّد ، يظهر في آخر الزمان وعلى رأسه غمامة تظلّله عن الشمس تدور معه حيث ما دار تنادي بصوت فصيح : هذا المهدي.

٣ ـ ومنهم الشيخ كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة الحلبي الشافعي القرشي (المتوفى سنة ٦٥٢ أو ٦٥٤ ه‍) فإنه ذكر في كتابه «مطالب السؤال» (١) وقال : «الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن عليّ

__________________

(١) ص ٨٨ ط / إيران ١٢٨٧ ه‍.


المتوكل بن محمّد القانع بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب ، المهديّ الحجّة الخلف الصالح المنتظر عليهم‌السلام ورحمته وبركاته» ثم ذكر هذه الأبيات :

«فهذا الخلف الحجّة قد أيده الله

هدانا منهج الحقّ وآتاه سجاياه

وأعلى في ذرى العلياء بالتأييد مرقاه

وآتاه حلى فضل عظيم فتحلاه

وقد قال رسول الله قولا قد رويناه

وذوا العلم بما قال إذا أدرك معناه

يرى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه

وقد أبداه بالنسبة والوصف وسمّاه

ويكفي قوله مني لإشراق محياه

ومن بضعته الزهراء مرساه ومسراه

ولن يبلغ ما أديت أمثال وأشباه

فإن قالوا هو المهدي ما مانوا بما فاهوا»

ثم قال أبو طلحة في مدحه عليه‌السلام : «قد رتع من النبوة أكناف عناصره ورضع من الرسالة أخلاف أو اصره ، وترع من القرابة بسجال معاصرها ، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه بخناصرها ، فاقتنى من الأنساب شرف نصابها ، واعتلى عند الانتساب على شرف أحسابها ، واجتنى جنى الهداية من معادنها وأسبابها ، فهو من ولد الطّهر البتول المجزوم بكونها بضعة الرسول ، فالرسالة أصلها وإنها لأشرف العناصر والأصول. فأما مولده فبسرّمن رأى في ثالث وعشرين من رمضان سنة ٢٥٨ ه‍ وأما نسبه أبا وأما فأبوه الحسن الخالص ، وأما أمه أم ولد تسمى «صيقل» و «حكيمة» وقيل غير ذلك ، وأما اسمه ف «محمد» ، وكنيته «أبو القاسم» ، ولقبه «الحجّة» و «الخلف الصالح» وقيل «المنتظر».

٤ ـ ومنهم المؤرخ المشهور شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي (وهو من الخوارج) الرومي البغدادي (المتوفى سنة ٦٢٦ ه‍) فإنه أخرج في كتابه المعروف «معجم البلدان» (١) وقال: «عسكر سامراء ينسب إلى المعتصم وقد نسب

__________________

(١) ج ٦ / ١٧٥ ط / مصر ١٣٢٤ ه‍.


إليه (أي إلى هذا العسكر) قوم من الأجلّاء ، منهم : عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام يكنّى (أي علي بن محمد) بالحسن الهادي ، ولد بالمدينة (المشرفة) ونقل إلى سامراء (جبرا) وابنه الحسن بن عليّ ولد بالمدينة أيضا (وقيل في سامراء) ونقل إلى سامراء فسمّيا بالعسكريّين لذلك ، فأما عليّ فمات في رجب سنة ٢٥٤ ومقامه بسامراء عشرين سنة. وأما الحسن فمات بسامراء أيضا سنة ٢٦٠ ودفنا بسامراء وقبورهما مشهورة هناك» قال : «ولولدهما المنتظر هناك مشاهد معروفة».

٥ ـ ومنهم الشيخ العارف الشيخ فريد الدين العطّار (المتوفى سنة ٦٢٧ ه‍) فإنه أخرج في كتابه «مظهر الصفات» كما نقل عنه الشيح سليمان القندوزي الحنفي في «ينابيع المودة» (١) قال : «ومن أشعاره الذي أنشدها في أهل البيت عليهم‌السلام وفيها ذكر مولد الإمام المهدي عليه‌السلام بالإشارة ..».

ويظهر من أبياته الفارسية ، التي أردها القندوزي الحنفي ، أنه كان يعتقد ولادته عليه‌السلام وينتظر ظهوره عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

٦ ـ ومنهم الشيخ محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المعروف بابن الحاتمي الطائي الأندلسي الشافعي (المتوفى سنة ٦٣٨ ه‍) والمدفون بصالحية الشام وقبره مزار : قال في الباب ٣٦٦ من كتاب «الفتوحات» : «اعلموا أنه لا بدّ من خروج المهدي ، لكن لا يخرج حتى تمتلئ الأرض جورا وظلما ، فيملأها قسطا وعدلا ، ولو لم يكن من الدنيا إلا يوم واحد طوّل الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة ، وهو من عترة رسول الله من ولد فاطمة ، جدّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب ووالده الحسن العسكري ابن الإمام عليّ النقي ابن محمّد التقي ابن الإمام عليّ الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب يواطئ اسمه اسم رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، يبايعه المسلمون بين الركن

__________________

(١) ص ٤٧٣.


والمقام يشبه رسول الله في الخلق .. وهو أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، أسعد الناس به أهل الكوفة ، يقسم المال بالسويّة ، ويعدل في الرعية ، يأتيه الرجل فيقول : يا مهديّ أعطني وبين يديه المال فيحثى له في ثوبه ما استطاع أن يحمله. (ثم نقل أوصافه وبعض أفعاله) وهذه الأمور ذكرها ابن الصبّان في إسعاف الراغبين باب ٢ ص ١٣١ ـ ١٣٣ بهامش نور الأبصار ص ١٣١ ـ ١٣٣ ومن شعر الشيخ محيي الدين في أوصاف الإمام المهديّ عليه‌السلام وقد ذكره في الفتوحات باب ٣٦٦ أيضا :

هو السيد المهدي من آل أحمد

هو الصارم الهندي حين يبيّد

هو الشمس يجلو كل غمّ وظلمة

هو الوابل الوسمي حين يجود

٧ ـ ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمّد بن يوسف بن محمّد القرشي الكنجي الشافعي المتوفى سنة (٦٥٨) فإنه أخرج في كتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان) ص ٣٣٦ باب (٢٥) وقال : في الدلالة على جواز بقاء المهدي عليه‌السلام قال : إن المهدي ولد الحسن العسكري فهو حيّ موجود باق منذ غيبته إلى الآن.

٨ ـ ومنهم الشيخ جلال الدين محمد العارف البلخي الرومي المعروف بالمولوي المتوفى سنة ٦٧٢ فإنه ذكر في ديوانه الكبير وذكر ذلك الشيخ سليمان في ينابيع المودة ص ٤٧٣ قال : أنشد هذه الأبيات (في أحوال أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم المهدي المنتظر عليه‌السلام).

اي سرور مردان علي مستان سلامت ميكنند

واى صفدر مردان علي مردان سلامت ميكنند

(إلى أن قال) :

با قاتل كفار گو با دين وبا ديندار گو

با حيدر كرار گو مستان سلامت ميكنند

با درج دو گوهر بگو با برج دو اختر بگو

با شبر وشبير بگو مستان سلامت ميكنند


با زين دين عابد بگو با نور دين باقر بگو

با جعفر صادق بگو مستان سلامت ميكنند

با موسى كاظم بگو با طوس عالم بگو

با تقي قائم بگو مستان سلامت ميكنند

با مير دين هادي بگو با عسكري مهدي بگو

با آن ولى مهدي بگو مستان سلامت ميكنند

٩ ـ ومنهم الشيخ الكامل صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة ٧٦٤ فإنه قال في شرح الدائرة : إن المهديّ الموعود هو الإمام الثاني عشر من الأئمة أولهم سيدنا علي وآخرهم المهديّ رضي الله عنهم ونفعنا بهم.

١٠ ـ ومنهم الشيخ جمال الدين أحمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن مهنا المتوفى سنة ٨٢٨ ه‍ فإنه أخرج في كتابه عمدة الطالب ص ١٨٦ ـ ١٨٨ طبع النجف الأشرف سنة (١٣٢٣ ه‍) قال : أما عليّ الهادي فيلقب بالعسكري لمقامه بسر من رأى وكانت تسمى العسكر وأمّه أم ولد وكان عليه‌السلام في غاية الفضل ونهاية النبل أشخصه المتوكل إلى سر من رأي فأقام بها إلى أن توفي (مسموما) كان من الزهد والعلم على أمر عظيم وهو والد الإمام محمد المهدي (صلوات الله عليه) ثاني عشر الأئمة عند الإمامية ، وهو القائم المنتظر عندهم من أم ولد اسمها نرجس.

١١ ـ ومنهم الشيخ أبو عبد الله أسعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليمني المكي الشافعي المتوفى سنة ٧٦٨ فإنه أخرج في كتابه مرآة الجنان ج ٢ ص ١٠٧ وص ١٧٢ طبع حيدرآباد الدكن سنة ١٣٢٨ ه‍ قال : وفي سنة ٢٦٠ توفي الشريف العسكري أبو محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر الصادق ، أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية وهو والد الإمام المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري وأبوه أيضا يعرف بهذه النسبة. توفي في يوم الجمعة سادس ربيع الأول وقيل ثامنه ، وقيل غير ذلك من السنة المذكورة ودفن بجنب قبر أبيه بسرّ من رأى.


١٢ ـ ومنهم العلّامة السيد علي بن شهاب الدين الهمداني الشافعي المتوفى سنة ٧٨٦ فإنه أخرج في كتابه المودة القربى في المودة العاشرة ، أحاديث عديدة فيها إثبات وجود الإمام المهديعليه‌السلام وإنه يظهر في آخر الزمان يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

١٣ ـ ومنهم الشيخ شهاب الدين الدولة الدولةآبادي المتوفى سنة ٨٤٩ ه‍ وله مؤلفات عديدة في التفسير والمناقب وله كتاب سماه (هداية السعداء) وذكر فيه أسماء الأئمة الاثني عشر عند الإمامية وذكر أحاديث في أحوال الإمام الحجة المنتظر ابن الحسن العسكري. وذكر فيه أنه غائب عن الأبصار وله عمر طويل كما عمّر مثله من المؤمنين عيسى والياس والخضر ، ومن الكافرين الدجال والشيطان والسامري.

١٤ ـ ومنهم شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي الشافعي المتوفى سنة ٨٠٤ ، فإنه أخرج في كتابه دول الإسلام ج ١ ص ١٢٢ طبع حيدرآباد سنة ١٣٣٧ ه‍ وقال : بأن الإمام المهدي عليه‌السلام من أولاد الإمام الحسن العسكري وهو باق إلى أن يأذن الله له بالخروج فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

١٥ ـ ومنهم الشيخ علي بن محمد بن أحمد المالكي المكي لمعروف بابن الصبّاغ المتوفى سنة ٨٥٥ ه‍ ، فإنه أخرج في كتابه الفصول المهمة ص ٢٧٣ وص ٢٧٤ من الباب (١٢) أحوال الإمام المهدي عليه‌السلام. وذكر ولادته وتاريخها. وقال إن أمّه نرجس خير أمة ، وقال : ولد أبو القاسم محمّد بن الحجّة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة ٢٥٥ ه‍ ، وأما نسبه أبا وأما فهو أبو القاسم ، محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ (زين العابدين) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ، وأما أمّه فأم ولد ، يقال لها نرجس ، خير أمة ، وقيل اسمها غير ذلك ، وأما كنيته فأبو


القاسم ، وأما لقبه ، فالحجّة والمهديّ والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان ، وأشهرها المهديّ ، صفته (عليه‌السلام) : شاب مربوع القامة ، حسن الوجه والبشرة يسيل شعره على منكبيه ، أقنى الأنفق ، أجلى الجبهة ، بوّابه محمّد بن عثمان ، معاصره المعتمد (العبّاسي).

١٦ ـ ومنهم الشيخ شمس الدين أو المظفر يوسف بن قزأغلي الحنفي بن عبد الله. وهو سبط ابن الجوزي المعروف المتوفى سنة ٦٥٤. وقال سبط ابن الجوزي الحنفي في كتابه تذكرة خواص الأئمة ص ٨٨ ، ط / أول في إيران سنة ١٢٨٧ ه‍ ، فصل الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، وأمه أم ولد اسمها سوسن ، وكنيته أبو محمّد ، ويقال له العسكري أيضا. ولد عليه‌السلام سنة ٢٣١ ه‍ بسرّ من رأى وتوفي بها سنة ٢٦٠ ه‍ في خلافة المعتمد على الله (العباسي). وكان سنّه عند الوفاة تسعا وعشرين سنة ، ثم قال : وأولاده (أي أولاد الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام) منهم : محمّد الإمام. ثم قال : فصل هو محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى الرضا بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وكنيته أبو عبد الله ، وأبو القاسم ، وهو الخلف الحجّة ، صاحب الزمان ، القائم المنتظر ، التالي ، وهو آخر الأئمة. ثم قال : أنبأ عبد العزيز بن محمد بن البزار عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج في آخر الزمان ، رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي يملأ الأرض عدلا ، كما ملئت جورا ، فذلك المهدي.

(ثم قال سبط ابن الجوزي) وهذا الحديث مشهور. وقد أخرج أبو داود ، والزهري عن عليّ بمعناه. ثم قال : ويقال له ذو الاسمين محمّد وأبو القاسم قال : قالوا أمه أم ولد يقال لها صيقل.

١٧ ـ ومنهم شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكة المشرفة الشافعي المتوفى سنة ٩٩٣ ه‍ ، فإنه أخرج في الصواعق المحرقة له ص ١٢٧ ط / مصر سنة


١٣٠٨ ه‍ ، وقال عند ذكره الأئمة الاثني عشر (أبو محمّد الحسن الخالص) ولد سنة ٢٣٢ ه‍ (ثم ذكر كرامة من كراماته المعروفة وقضية الاستسقاء في سامراء وقضية الراهب الذي كان يحمل في يده من عظام بعض الأنبياء ، وإذا أخرجه كانت تمطر السماء وإذا ستره يقف المطر فعرف ذلك الإمام فأخذ منه العظم وكلما دعا لم تمطر ، فخرج الناس من الاشتباه وعرفوا حيلة العالم النصراني. قال : وكان الإمام الحسن العسكري عزيزا مكرما إلى أن مات بسر من رأى ودفن عند أبيه (علي الهاديعليه‌السلام) وعمره ثمانية وعشرون سنة. (قال) : ويقال إنه سمّ أيضا (كما سمّوا آباءه الكرام) قال : ولم يخلف غير ولده (أي القاسم محمّد الحجّة) وعمره عند وفاة أبيه (كان) خمس سنين آتاه الله الحكمة (قال) : ويسمى القائم ، المنتظر. قيل : لأنه ستر وغاب فلم يعرف أين (هو) ذهب وانتهى ما في الصواعق المحرقة لابن حجر مع الاختصار.

١٨ ـ ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي المتوفى بعد سنة ١١٥٤ ه‍ ، فإنه أخرج في كتابه الإتحاف بحب الأشراف ص ١٧٨ طبع مصر سنة ١٣١٦ ه‍ وقال : الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقّب بالعسكري ، ولد بالمدينة لثمان خلون من ربيع الأول سنة (٢٣٢ ه‍) وتوفي عليه‌السلام يوم الجمعة لثمان خلون من ربيع الأول سنة (٢٦٠ ه‍) وله من العمر ثمان وعشرون سنة. قال : ويكفيه شرفا أن الإمام المهديّ المنتظر من أولاده فلله درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف وناهيك به فخارا ، وحسبك فيه من علوّه مقدارا ، فهم جميعا ، في كرم الأرومة ، وطيب الجرثومة كأسنان المشط ، متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة فلقد طال السّماك علّا ونبلا وسما على الفرقدين منزلة ومحلا ، واستغرقت صفات الكمال ، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلّا انتظم في المجد هؤلاء الأئمة ، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف ، فاستوى الأول والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول ، في تشتيت شملهم والله يجمعه وكم ضيّعوا من حقوقهم ،


ما لا يهمله الله ، ولا يضيّعه ، أحيانا الله على حبهم ، وأماتنا عليه ، وأدخلنا في شفاعة من ينتمون في الشرف إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت وفاته (أي الحسن العسكري) بسرّ من رأى ، ودفن بالدار التي دفن فيها أبوه ، وخلف بعده ولده وهو الثاني عشر من الأئمة ، أبو القاسم ، محمّد الحجّة ، الإمام ولد الإمام محمّد الحجّة ، ابن الإمام الحسن الخالص ، بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة ٢٥٥ قبل موت أبيه بخمس سنين ، وكان أبوه قد أخفاه حين ولد ، وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وخوفه من الخلفاء العبّاسيين فإنهم كانوا في ذلك الوقت يتطلبون الهاشميين ويقصدونهم بالحبس والقتل ويرون إعدامهم (وذلك لإعدامهم من يعدم) سلطنة الظالمين وهو الإمام المهدي عليه‌السلام كما عرفوا ذلك من الأحاديث التي وصلت إليهم من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرتهم أن الإمام المهديّ الموعود المنتظر عليه‌السلام يقطع دابر الظالمين ويستولي على الدنيا ولا يترك أحدا منهم في الأرضين. (قال الشبراوي) : وكان الإمام محمّد الحجّة يلقب أيضا بالمهديّ ، والقائم ، والمنتظر ، والخلف الصالح ، وصاحب الزمان ، وأشهرها : المهديّ. (قال) : ولذلك ذهبت الشيعة إلى أنه الذي صحّت الأخبار والأحاديث بأنه يظهر في آخر الزمان ، وأنه موجود ولهم في ذلك تآليف كثيرة. ثم أخذ في الرد على الشيعة بالنسبة إلى ما ينسبه إليهم وهم منه برآء ، ثم قال : وقد أشرق نور هذه السلسلة الهاشمية ، والبيضة الطاهرة النبوية والعصابة العلوية وهم اثنا عشر إماما ، مناقبهم عليّة وصفاتهم سنيّة ، ونفوسهم شريفة أبيّة ، وأرومتهم كريمة محمّدية ، وهم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ (زين العابدين) بن الإمام الحسين أخو الإمام الحسن ولدي الليث الغالب عليّ بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنهم أجمعين).

١٩ ـ ومنهم الشيخ أبو المواهب الشيخ عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني المتوفى سنة (٩٧٣ ه‍) أو سنة (٩٦٠ ه‍) فإنه قال في كتابه (اليواقيت والجواهر) ص ١٤٥ طبع مصر سنة ١٣٠٧ ه‍. قال : البحث الخامس والستون ، في


بيان أن جميع أشراط الساعة التي أخبر بها الشارع حقّ لا بدّ أن تقع كلها قبل يوم القيامة. وذلك ، كخروج المهدي عليه‌السلام وقال : وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري ، ومولده عليه‌السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى ابن مريم عليه‌السلام فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة ٩٥٨ ه‍ سبعمائة وست وستين سنة (٧٦٦) (١). (ثم قال الشعراني) : هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كرم الريش المطلّ على بركة الرطل بمصر المحروسة عن الإمام الحجّة المهديّ حين اجتمعت به ووافقه على ذلك شيخنا سيّد علي الخواصّ.

٢٠ ـ ومنهم الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كرم الريش فإنه ذكر الإمام الحجّة عليه‌السلام واعترف بوجوده ، وأنه اجتمع به ، وذلك كما ذكره الشعراني في (لواقح الأنوار في طبقات الأخبار) ج ٢ المطبوع بمصر سنة ١٣٠٥ ه‍ وقال فيه : إن الشيخ حسن العراقي في ضمن سياحته اجتمع مع الإمام المهديّ الحجّة وسأله عن عمره فقال له : يا ولدي عمري الآن ٦٢٠ سنة. قال الشعراني : فقلت ذلك لسيّدي علي الخواصّ فوافق على عمر المهديّ (رضي الله عنها).

٢١ ـ ومنهم الشيخ نور الدين عبد الرحمن بن أحمد بن قوام الدين المعروف بجامي الشافعي الشاعر المعروف. وقد ذكر في كتابه «شواهد النبوة» الإمام المهديّ الموعود المنتظر الحجّة بن الحسن الإمام الثاني. وذكر كثيرا من أحواله عليه‌السلام وكراماته ، وقال : «هو الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا» ، وذكر قضية ولادته عليه‌السلام نقلا عن عمّته حكيمة عليها‌السلام وغيرها ، وقال فيها : «إنه لمّا ولد جثى على ركبتيه ورفع سبابته إلى السماء وعطس فقال : الحمد لله رب العالمين» ، وذكر بعض من رأى الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه وهو من سأل الإمام الحسن

__________________

(١) لا يخفى وقوع الاشتباه في تحديد سنيّ عمر الإمام عليه‌السلام ، ولعله اشتباه من النسّاخ ، لأن ولادة الإمامعليه‌السلام كانت عام ٢٥٥ ه‍ نطرحها من ٩٥٨ ه‍ عام التقاء الشيخ العراقي به ، فيكون الحاصل ٧٠٣ سنين.


العسكري عليه‌السلام عن الخلف بعده ، قال : «فدخل الإمام الدار ثم خرج وقد حمل طفلا كأنّه البدر في ليلة تمامه في سن ثلاث سنين ، فقال الإمام للسائل : لو لا كرامتك على الله لما أريتك هذا الولد الذي اسمه اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكنيته كنيته ، وهو الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما». وذكر خبر من دخل على الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ورأى بيتا عليه ستر مسبل ، فسأله عن الخلف بعده ، فقال له : ارفع الستر ، فرفع الستر ، فرأى الإمام الحجّة المهدي المنتظر. وذكر أيضا قضية الأشخاص الذين بعثهم المعتمد أو المعتضد ليتفتشوا دار الإمام ويأخذوا الإمام إن وجدوه ، فلم يعثروا عليه في الدار ، فدخلوا سردابا محفورا هناك فوجدوه في آخر السرداب. وكان السرداب مملوءا بالماء والمهدي عليه‌السلام في آخره (على الماء) فكلما أرادوا الوصول إليه غرقوا في الماء ولم يتمكنوا من الوصول إليه فأخبروا بذلك الخليفة العباسي الذي أرسلهم إليه بما وقع ، فأمرهم بكتمان ما رأوا وقال لهم : إن أظهرتم ذلك أمرت بقتلكم فكتموا ذلك في حياته. وتفصيل هذه الأخبار موجود في كتب الإمامية كالبحار ج ٥١ ـ ٥٢ ـ ٥٣ حيث جمع المجلسي جميع ما روي فيه (عجّل الله تعالى فرجه) من الأخبار حسب إمكانه نقلا عن كتب علماء العامة ، وكتب الإمامية عليهم الرحمة.

٢٢ ـ ومنهم المولوي علي أكبر أسد الله الموؤذي الذي هو من علماء العامة في الهند ، وله كتاب «المكاشفات» وهو من الحواشي على «نفحات الأنس» للمولى عبد الرحمن الجامي ، وقد صرّح في البحث الحادي والثلاثين بإمامة الإمام الحجّة المهديّ بن الحسن العسكري وآبائه إلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وقال : «إنه (أي الإمام الغائب عجّل الله تعالى فرجه) غائب عن أعين العوام والخواص ...».

٢٣ ـ ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد المطيري شهرة والمدني مسكنا والشافعي مذهبا فإنه ذكر في كتابه «الرياض الزاهرة في فضل آل بيت النبيّ وعترته الطاهرة» الأئمة الاثني عشر فعدّهم واحدا بعد واحد إلى أن وصل إلى الإمام


الحادي عشر ، فقال : «إنّ ابنه الإمام الثاني عشر محمّد القائم المهدي». ثم قال : «وقد ورد النص عليه في الأحاديث من جده رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ومن جده عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام ، ومن بقية آبائه الكرام أهل الشرف والمقام ، وهو صاحب السيف القائم المنتظر كما ورد في الصحيح من الخبر». وقال : «وله قبل قيامه غيبتان ..» ثم ذكر أحواله في غيبته وبعد ظهوره.

٢٤ ـ ومنهم الشيخ أبو المعالي محمد سراج الدين الرفاعي ثم المخزومي الشريف الكبير فإنه ذكر في كتابه «صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار» عند ترجمته الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، قال : «وأما الإمام عليّ الهادي بن الإمام محمّد الجواد ولقبه النقي والعالم والفقيه والأمير والدليل والعسكري والنجيب ، ولد في المدينة المنورة سنة ٢١٢ ه‍ وتوفي شهيدا بالسمّ في خلافة المعتز العباسي يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من رجب سنة ٢٥٤ ه‍ وكان له خمسة أولاد : الإمام الحسن العسكري والحسين ومحمّد وجعفر وعائشة. أما الإمام الحسن العسكري فأعقب صاحب السرداب الحجّة المنتظر وليّ الله الإمام المهديّ عليه‌السلام».

٢٥ ـ ومنهم الشيخ مير خواند المؤرّخ المشهور (محمد بن خاوندشاه بن محمود المتوفى سنة ٩٠٣ ه‍) فإنه ذكر في كتابه المعروف «روضة الصفا» ج ٣ ، أحوال الإمام الثاني عشر من حيث والولادة وبعض أحواله وكراماته مفصّلا.

٢٦ ـ ومنهم الشيخ المحقق بهلول بهجت أفندي مؤلّف كتاب «المحاكمة في تاريخ آل محمّد» والذي ذكر فيه إمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام إلى أن ذكر ولادة الإمام المهدي الحجّة المنتظر عجّل الله تعالى فرجه ، وقال : «ولد في الخامس عشر من شعبان سنة ٢٥٥ ه‍» ، وذكر أن اسم أمّه نرجس ، وإنّ له غيبتين : الأولى الصغرى والثانية الكبرى ، وصرّح بطول عمره وبقائه عجّل الله تعالى فرجه ، وأنه يظهر عند ما يأذن الله له بالخروج فيملأ الأرض قسطا وعدلا ؛ ثم قال: «وإنّ ظهوره أمر اتفق عليه المسلمون فلا حاجة لذكر الدلائل له».


٢٧ ـ ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الزرندي فإنه ذكر في كتابه «معراج الوصول إلى فضيلة آل الرسول» الأئمة الاثنا عشر ، وقال : «الإمام الثاني عشر هو صاحب الكرامات المشهورة الذي عظم قدره بالعلم واتباع الحق ، القائم بالحقّ والداعي إلى منهج الحقّ ، الإمام أبو القاسم محمد بن الحسن» ، ثم ذكر تاريخ ولادته وبعض أحواله عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

٢٨ ـ ومنهم الشيخ حسين بن معين الدين الميبدي فإنه صرّح في ص ١٢٣ من «شرح الديوان» بولادة الإمام المهدي وتاريخه وخصوصياته عليه‌السلام.

٢٩ ـ ومنهم الشيخ الحافظ محمد بن محمد بن محمود النجار المعروف بخواجة پارسا وهو من أعيان علماء الحنفية وكبار مشايخ النقشبندية وكانت وفاته عام ٨٢٢ على ما في كتاب «كشف الظنون» ، وقد أورد في كتابه «فصل الخطاب» عند ذكره الأئمة عليها‌السلام ما نصّه : «وأبو محمد الحسن العسكري ولده م ح م د معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله» ، ثم ذكر حديث السيّدة حكيمة في ولادة الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه ، وذكر حكاية إرسال المعتضد جلاوزته إلى سامراء وأمره بأخذه أين وجدوه ، وذكر قضية دخولهم دار الإمام ثم دخولهم السرداب وأنهم رأوه مملوءا بالماء ، وكلما أراد أحد منهم أن يدخل الماء ويأخذ الإمام عليه‌السلام ـ الذي كان في آخر السرداب على حصير مفروش على الماء ـ غرق. ثم ذكر بعض علائم ظهوره وقال : «الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى» ، وقال : «وقد تظاهرت (أي الأخبار) على ظهوره وإشراق نوره» وأنه يجدّد الشريعة المحمّدية ، ويجاهد في الله حقّ جهاده ، ويطهّر من الأدناس أقطار بلاده ؛ زمانه زمان المتقين ، وأصحابه خلصوا من الريب ، وسلموا من العيب ، وأخذوا بهداه وطريقه ، واهتدوا من الحق إلى تحقيقه ، به ختمت الخلافة والإمامة ، وهو الإمام من لدن إمام ، مات أبوه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام إلى يوم القيامة. وذكر أنّ عيسى عليه‌السلام يصلّي خلفه ، ويصدقه على دعواه ، ويدعوا إلى ملته التي هو فيها والتي صاحبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..


٣٠ ـ ومنهم الشيخ سليمان القندوزي الحنفي ، فإنه أفرد في كتابه «ينابيع المودة» ص ٤٤٩ بابا خاصا في ذكر ولادة القائم المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف (الباب التاسع والسبعون) ثم روى بسنده عن موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم عليهم‌السلام قال : حدّثتني حكيمة بنت الإمام محمد التقي الجواد (قالت) : بعث إليّ الإمام أبو محمد الحسن العسكري فقال : يا عمة ، اجعلي إفطارك عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان ، فإنّ الله تبارك وتعالى يظهر في هذه الليلة حجّته في أرضه. قالت (السيّدة حكيمة) : فاستقمت ونمت ، ثم قمت السحر (لصلاة الليل) وقرأت الم السجدة وياسين ، فاضطربت نرجس ، فضرب بيني وبينها ستر ، فكشف الثوب عنها (بعد الولادة) فإذا بالمولود ساجدا ، فنادى أبو محمّد (الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام) : هلمي إليّ ابني يا عمّة ، فجئت به إليه ، فوضع قدميه على صدره وأدخل لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وأذنه ومفاصله ثم قال : تكلّم يا بني ، فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة إلى أن صلّى على أبيه (العسكري عليه‌السلام) ثم قال أبو محمّد عليه‌السلام : يا عمّة ، اذهبي به إلى أمّه يسلّم عليها وأتيني به. (قالت حكيمة) : فذهبت به فسلّم على أمّه ثم رددته (إلي أبيه) فوضعته عنده ، فقال : يا عمّة إذا كان يوم السابع آتينا. (قالت حكيمة) : فلما كان يوم السابع جئت (إليه) ، فقال لي أبو محمّد : يا عمّة ، هلمي إليّ ابني فجئت به ففعل به كفعله الأول وقال : تكلّم يا بني ، فشهد بالشهادتين وصلّى على آبائه واحدا بعد واحد ، ثم تلى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (١).

قالت حكيمة : جئت يوما (إلى دار أبي محمّد الحسن العسكري) وكشفت الستر (من على الحجرة التي كان فيها الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه) فلم

__________________

(١) سورة القصص : ٥.


أره ، فقلت (لأبيه عليه‌السلام) : جعلت فداك ، ما فعل سيدي؟ فقال : يا عمّة استودعناه الله الحفيظ القدير الذي استودعته أم موسى موسى عليهما‌السلام.

ثم قال راوي الحديث موسى بن محمّد : فسألت عقيد الخادم (أي عن الأمر الذي حكته حكيمة) فقال : صدقت حكيمة رضي الله عنها.

وفي «الينابيع» ص ٤٥٠ قال : روي عن محمد بن عبد الله المطهّري قال : سألت حكيمة عن ولادة القائم ، فقالت : كانت لي جارية يقال لها نرجس ، فزارني ابن أخي أبو محمّد الحسن وجعل يحدّ النظر إليها ، فقلت له : أهويتها لأهبها لك؟ فقال : لا ولكن أتعجب منها أنه سيخرج منها ولد كريم على الله عزوجل يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ، فقلت: أرسلها إليك؟ فقال عليه‌السلام : استأذني أبي (وذلك لأن الجارية كانت للإمام الهادي وأن قضية شرائها من بغداد قضية معروفة) قالت (حكيمة) : أتيت عند أخي علي النقي الهادي (وقبل أن نخبره بالقضية) قال عليه‌السلام : يا حكيمة هي نرجس لابني أبي محمّد الحسن ، فقلت : يا سيدي ، إلى هذا قصدتك وجئتك لأن أستأذن في ذلك ، فقال : يا أختي يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا. قالت (حكيمة) : فزيّنتها ووهبتها لأبي محمّد ، وجمعت بينه وبينها في بيت في داري ، فأقام عندي أياما ثم جاء بها عند والده علي النقي ، وجلس أبو محمّد مكان والده بالإمامة (بعد استشهاد أبيه) وكنت أزوره ، وقالت لي نرجس : يا مولاتي أنا أخلع خفّك وأخدمك ، فقلت : بل أنت سيّدتي والله لا أدفع إليك خفّي لتخلعيه بل أخدمك على بصري. (قالت حكيمة) : فقصدت الانصراف (إلى داري) فقال لي أبو محمّد : يا عمّة اجعلي إفطارك الليلة عندنا. ثم ذكرت حكيمة بواقي القصة نحو ما ذكرته لموسى بن محمّد (ابن قاسم بن حمرة بن موسى الكاظم).

٣١ ـ ومنهم الشيخ الجليل عبد الكريم اليماني (قدس‌سره) ووهب لنا فيوضه وعلومه قال في شعره كما في ينابيع المودة ص ٤٦٦ :


في يمن أمن يكون لأهلها

إلى أن ترى نور الهداية مقبلا

بميم مجيد من سلالة حيدر

ومن آل بيت طاهرين بمن علا

يسمى بمهدي من الحق ظاهر

بسنة خير الخلق يحكم أولا

٣٢ ـ ومنهم الشيخ عبد الرحمن البسطامي مؤلف كتاب (درّة المعارف) قدس الله سره وأفاض علينا فتوحه وغوامض علومه كما في ينابيع المودة ص ٤٦٦. قال في الأبيات المنسوبة إليه :

ويظهر ميم المجد من آل أحمد

ويظهر عدل الله في الناس أولا

كما قد روينا عن عليّ الرضا

وفي كنز علم الحرف أضحى محصلا

ومن أبياته :

ويخرج حرف الميم من بعد شينه

بمكة نحو البيت بالنصر قد علا

فهذا هو المهديّ بالحق ظاهر

سيأتي من الرحمن للخلق مرسلا

ويملأ كلّ الأرض بالعدل رحمة

ويمحو ظلام الشرك والجور أولا

ولايته بالأمر من عند ربّه

خليفة خير الرّسل من عالم العلى

٣٣ ـ ومنهم الشيخ المحدّث الفقيه محمد بن إبراهيم الجويني الحمويني الشافعي ، فإنه قال في كتابه فرائد السمطين : برواية عن دعبل الخزاعي عن عليّ الرضا بن موسى الكاظم ، قال : إن الإمام من بعدي ابني الجواد التقي ، ثم الإمام من بعده ابنه الهادي والنقي ثم الإمام من بعده ابنه الحسن العسكري ، ثم الإمام من بعده ابنه الحجّة المهديّ المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره كما في ينابيع المودة ص ٤٧١ ـ ٤٧٢. (ثم قال أيضا) : وأما شيخ المشايخ العظام أعني حضرات : شيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي ، والشيخ عطار النيسابوري ، والشيخ شمس الدين التبريزي ، وجلال الدين مولانا الرومي ، والسيد نعمة الله الولي ، والسيد النسيمي ، وغيرهم ذكروا في أشعارهم في مدائح الأئمة من أهل البيت الطيب (رضي الله عنهم) مدح المهدي في آخرهم مختص بهم فهذه أدلة (واضحة) على أنّ المهدي


ولد أولا. قال : ومن تتبع آثار هؤلاء الكاملين العارفين يجد الأمر واضحا عيانا.

٣٤ ـ ومنهم كما في ينابيع المودة ص ٤٧٢ الشيخ أحمد الجامي النامقي.

ومن أشعاره بالفارسية :

من ز مهر حيدرم هر لحظه اندر دل صفاست

از بي حيدر حسن ما را إمام ورهنماست

همجو كلب افتاده ام بر استان بوالحسن

خاك نعلين حسين بر هر دو جشمم توتياست

عابدين تاج سرو باقر دو جشم روشنم

دين جعفر بر حق أست مذهب موسى رواست

موالي وصف سلطان خراسان را شنو

ذرّه اى از خاك قبرش دردمندان را دواست

پيشواي مؤمنان است اي مسلمانان تقي

كر نقي را دوست دارى بر همه مذهب رواست

عسكري نور دو چشم عالمست وآدم است

همجو يك مهدى سپهسالار در عالم كجاست

قلعة خيبر گرفته آن شهنشاه عرب

ز آنكه در بازوي حيدر نامه الّا فتاست

شاعران از بهر سيم زر وسخنها گفته اند

أحمد جامي غلام خاص شاه اولياست.

٣٥ ـ ومنهم كما في ينابيع المودة ص ٤٧٣ الشيخ العطار المار ذكره في رقم (٣٤) وله أشعار في كتابه مظهر الصفات.

٣٦ ـ ومنهم الشيخ سعد الدين الحموي المحدّث كما قال الشيخ سليمان الحنفي في ينابيع المودة ص ٤٧٤ قال الشيخ عزيز بن محمد النسفي أن شيخ


الشيوخ سعد الدين الحموي (قدس‌سره) قال : لم يكن قبل نبيّنا في الأديان السابقة من يسمى وليا وكان اسم النبيّ ، وأن المقربين عند الله الذين كانوا صاحبين [ظ : مصاحبين] للشريعة كانوا يسمون بالأنبياء ، ولم يكن في الأديان السابقة في كل شريعة إلا دين واحد. ففي عصر آدم عليه‌السلام كانوا أنبياء عديدة ، غير أنهم كانوا يأمرون الناس بالعمل بشريعة آدم عليه‌السلام وليس لهم شريعة خاصة ، وكذلك في عصر نوح عليه‌السلام كانت الشريعة شريعة واحدة وكان الأنبياء في عصره يأمرون الناس بالعمل بشريعة نوح عليه‌السلام لا غيره. وكذلك كان في زمان إبراهيم ، وموسى وعيسى عليهم‌السلام كانوا أنبياء متعدّدين وفي كل عصر من أعصار الأنبياء كانوا يأمرون الناس بالعمل بدين ذلك النبيّ ، ولما ظهر دين الإسلام دين محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله تبارك وتعالى اختار اثني عشر رجلا من أهل بيت نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأورثهم علمه وكانوا مقربين عنده وجعلهم نوابه وأوليائه والعلماء الذين ورد في حقهم (العلماء ورثة الأنبياء) هم هؤلاء لا غيرهم. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) هؤلاء الاثني عشر وهم المقصودين في الحديث والخبر. والولي الثاني عشر والنائب الثاني عشر كان يسمى المهدي صاحب الزمان. (ثم قال) : قال الشيخ سعد الدين الحموي : إن الأولياء في العالم لم يزيدوا على الاثني عشر وأن الثاني عشر منهم هو خاتم الأولياء في الإسلام ، وكان يسمى المهدي صاحب الزمان وسائر المقربين أو رجال الغيب لم يسموا بالأولياء بل كانوا يسمون بالأبدال). هذا ما ذكره الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص ٤٧٤.

٣٧ ـ ومنهم كما في ينابيع المودة ص ٥٦١ الشيخ صدر الدين القونوي قدس‌سره (فإنه قال) في شأن المهدي الموعود (عليه‌السلام) شعرا :

يقوم بأمر الله في الأرض ظاهرا

على رغم شيطانين بمحق الكفر

يؤيد شرع المصطفى وهو ختمه

ويمتد من ميم بأحكامها يدري

ومدته ميقات موسى وجنده

خيار الورى في الوقت يخلو عن الحصر

على يده محق اللئام جميعهم

بسيف قويّ المتن علّك أن تدري


حقيقة ذاك السيف والقائم الذي

تعيّن للدين القويم على الأمر

لعمري هو الفرد الذي بان سرّه

بكل زمان في مظاء له يسري

تسمّى بأسماء المراتب كلها

خفاء وإعلانا كذاك الحشر

أليس هو النور الأتمّ حقيقة

ونقطة ميم منه إمدادها يجري

يفيض على الأكوان ما قد أفاضه

عليه إله العرش في أزل الدهر

فما تمّ إلّا الميم لا شيء غيره

وذو العين من نوابه مفرد العصر

هو الروح فأعلمه وخذ عهده إذا

بلغت إلى مدّ مديد من العمر

كأنك بالمذكور تصعد راقيا

إلى ذروة المجد الأثيل على القدر

وما قدره إلّا ألوف بحكمة

على حدّ مرسوم الشريعة بالأمر

بذا قال أهل الحلّ والعقد فاكتفى

بنصّهم المثبوت في صحف الزبر

فابتغ ميقات الظهور فإنه

يكون بدور جامع مطلع الفجر

بشمس تمدّ الكلّ من ضوء نورها

وجمع درارى الأوج فيها مع البدر

وصلّ على المختار من آل هاشم

محمد المبعوث بالنهي والأمر

عليه صلاة الله ما لاح بارق

وما أشرقت شمس الغزالة في الظهر

وآل وأصحاب أولي الجود والتقى

صلاة وتسليما يدومان للحشر

٣٨ ـ ومنهم الشيخ حسين بن محمّد بن الحسن الدّيار بكري المالكي المتوفى سنة (٩٦٦ ه‍) فإنه ذكر في كتابه الخميس ج ٢ ص ٣٢١ ، قال : الحادي عشر (من الأئمة) : الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر الصادق ويكنى أبا محمّد ويلقّب بالزكي والخالص والسراج وهو مثل أبيه مشهور بالعسكري. أمه أم ولد اسمها سوسن ، وقيل غير ذلك. ولد بالمدينة سنة (٢٣٢ ه‍) وتوفي في سرّ من رأى في سنة (٢٦٠ ه‍) وقبره بجنب أبيه. (ثم قال) : الثاني عشر (من الأئمة) محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا ، يكنّى أبا القاسم ولقبه الإمامية بالحجّة ، والقائم ، والمهديّ ، والمنتظر ، وصاحب الزمان ، وهو عندهم خاتم الاثني عشر إماما ، وأمه أم ولد اسمها صيقل وقيل سوسن ، وقيل


نرجس وقيل غير ذلك. ولد في سر من رأى في الثالث (١) والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين (٢٥٨ ه‍).

٣٩ ـ ومنهم الشيخ مؤمن بن حسن بن مؤمن الشبلنجي الشافعي المتوفى سنة (١٢٩٨ ه‍) وله مؤلفات عديدة منها نور الإبصار تعرض فيه لبعض أحوال الخلفاء الأربعة عند أهل السنة. وذكر بعض أحوال الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام) من الكرامات وخوارق العادات وغيرها إلى أن قال في ص ١٥٠ ط / مصر سنة (١٣٢٢ ه‍) : الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم). أمه أم ولد يقال لها حديثة وقيل سوسن وكنيته أبو محمد ، وألقابه : الخالص السراج والعسكري. ولد أبو محمّد بالمدينة لثمان خلون من ربيع الآخر سنة (٢٣٢ ه‍) إلى أن قال في ص ١٥٢ : وكانت وفاة أبي محمّد الحسن بن عليّ في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين (٢٦٠ ه‍) وخلّف من الولد ابنه محمّد :

ثم أخذ في ذكر أوصاف الإمام الثاني عشر. وقال : فصل في ذكر مناقب محمّد بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم) ، أمه أم ولد يقال لها نرجس وقيل صيقل وقيل سوسن ، وكنيته أبو القاسم ولقّبه الإمامية بالحجّة والمهديّ والخلف الصالح والقائم والمنتظر وصاحب الزمان ، وأشهرها المهدي (٢).

٤٠ ـ الشيخ النسّابة أبو الفوز محمّد أمين البغدادي السويدي صاحب كتاب

__________________

(١) لا يخفى أن التاريخ المذكور أعلاه مخالف للإجماع والأخبار الدالين على أن ولادته في النصف من شعبان عليه‌السلام عام ٢٥٥ ه‍.

(٢) لاحظ : المهديّ الموعود المنتظر عند علماء السنّة والإمامية ج ١ / ١٨٢ ـ ٢١٩ ، ومنتخب الأثر / لطف الله الصافي ص ٣٢٧.


سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب ، فإنه ذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر وبعض فضائلهم ومناقبهم وذكر الإمام الحسن العسكري في ص ٧٧ باب ٦ ، وقال في صفحة ٧٨ : في خط الحسن العسكري (محمّد المهديّ وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين وكان مربوع القامة حسن الوجه والشعر ، أقنى الأنف صبيح الجبهة).

وخلاصة القول : إن الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بالضرورة القطعية للروايات التي تفوق التواتر عشرات المرات والتي أفادت أنه من أهل البيت ومن ولد الصدّيقة فاطمة وإمام من أئمة العترة الطاهرة وهو الثاني عشر المتولد من أبيه الإمام الحسن العسكري وأمه مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم ، وهي من ذرية شمعون وصي عيسى المسيح عليه‌السلام وقصة زواجها من الإمام العسكري معروفة ومدوّنة في كتبنا التاريخية (١).

هذا مضافا إلى الإجماع على ولادته عليه‌السلام عام ٢٥٥ ه‍ واتصال الشيعة آنذاك به ، ومن قبله بأبيه وإرشادهم إليه ، وظهور المعجزات على يديه ، وتعيينه للسفراء في الغيبة الصغرى ، وقضائه للحوائج وإغاثته للملهوف المتوسل به وغير ذلك ، كلها قرائن وشواهد نقطع بها على وجوده ، وفي المقابل نقطع بعدم صحة الرواية التي تقول : (واسم أبيه اسم أبي) مما يوجب عدم الاعتناء بها إلّا لمعاند أو متعصب يحطّ من قيمة العلم ويخدش بشهادة التاريخ القطعية بما له من جرأة على إنكار ما ثبت بالأدلة العلمية والشرعية المعتبرة.

وبما تقدم يندفع أيضا ما ورد من أن الإمام المهديّ من أولاد الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام لكنه من نسل ولدها الإمام الحسن المجتبى السبط الشهيد ، مستدلين على ذلك برواية أبي داود عن أبي إسحاق قال : علي عليّ رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال : «إن ابني هذا سيّد كما سمّاه النبيّ وسيخرج من صلبه رجل

__________________

(١) لاحظ : كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق ص ٤١٧ باب ٤١.


يسمّى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق ، يملأ الأرض عدلا» (١).

ويؤكد عدم صحتها أيضا ـ مضافا لما تقدّم ـ وجود روايات من العامة تصرّح بأن الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف من أبناء الإمام الحسين ، وعليه تسقط رواية أبي داود من الاعتبار نهائيا ، ومن هذه الروايات ما أورده محب الدين الطبري في ذخائر العقبى عن حذيفة أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من ولدي اسمه كاسمي ، فقال سلمان من أي ولدك يا رسول الله؟ قال من ولدي هذا وضرب بيده على الحسين عليه‌السلام (٢).

وما ورد عن أبي وائل قال : نظر أمير المؤمنين عليّ إلى الحسين فقال : «إن ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيكم يشبهه في الخلق والخلق يخرج على حين غفلة من الناس ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا» (٣).

نبذة من الأخبار في إمامة الأئمة الأطهار وأسمائهم عليهم‌السلام :

١ ـ روى أبو الحسن عليّ بن الحسين ، قال : حدّثنا أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري رضي الله عنه ، قال : حدثنا الحسن بن عليّ بن زكريا العدوي النصري ، عن محمّد بن إبراهيم بن المنذر المكي ، عن الحسين بن سعيد الهيثم ، قال : حدّثني الأجلح الكندي ، قال : حدّثني أفلح بن سعيد ، عن محمّد بن كعب ، عن طاوس اليماني ، عن عبد الله بن العبّاس ، قال : دخلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما ويقول : «اللهم وال من والاهما وعاد من عاداهما» ، ثم قال : يا ابن عبّاس ، كأني به وقد خضبت شيبته من دمه ، يدعو فلا يجاب ويستنصر فلا ينصر.

__________________

(١) سنن أبي داود ج ٤ / ١٠٨ ح ٤٢٩٠.

(٢) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى / محب الدين الطبري ص ١٣٦ مكتبة القدسي بدرب سعادة ـ القاهرة ، ورواه الحموئي الخراساني في فرائد السمطين ج ٢ / ٣٢٥ حديث ٥٧٥.

(٣) أسنى المطالب / الجزري ص ١٣٠.


قلت : من يفعل ذلك يا رسول الله؟

قال : شرار أمّتي ، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي. ثم قال : يا ابن عبّاس ، من زاره عارفا بحقّه كتب له ثواب ألف حجّة وألف عمرة ، ألا ومن زاره فكأنما زارني ، ومن زارني فكأنما زار الله ، وحقّ الزائر على الله أن لا يعذّبه بالنار ، ألا وأنّ الإجابة تحت قبّته ، والشفاء في تربته ، والأئمة من ولده.

قلت : يا رسول الله فكم الأئمة بعدك؟

قال : بعدد حواري عيسى وأسباط موسى ونقباء بني إسرائيل.

قلت : يا رسول الله فكم كانوا؟

قال : كانوا اثني عشر ، والأئمة بعدي اثنا عشر ، أوّلهم عليّ بن أبي طالب ، وبعده سبطاي الحسن والحسين ، فإذا انقضى الحسين فابنه عليّ ، فإذا انقضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا انقضى محمّد فابنه جعفر ، فإذا انقضى جعفر فابنه موسى ، فإذا انقضى موسى فابنه عليّ ، فإذا انقضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا انقضى محمّد فابنه عليّ ، فإذا انقضى عليّ فابنه الحسن ، فإذا انقضى الحسن فابنه الحجّة.

قال ابن عبّاس : قلت يا رسول الله أسامي لم أسمع بهنّ قط.

قال لي : يا ابن عبّاس ، هم الأئمة بعدي وإن نهروا [في نسخة : قهروا] ، أمناء معصومون نجباء أخيار. يا ابن عبّاس ، من أتى يوم القيامة عارفا بحقّهم أخذت بيده فأدخلته الجنة. يا ابن عبّاس ، من أنكرهم أو ردّ واحدا منهم فكأنما قد أنكرني وردّني ، ومن أنكرني وردّني فكأنما أنكر الله وردّه. يا ابن عبّاس ، سوف يأخذ الناس يمينا وشمالا ، فإذا كان كذلك فاتّبع عليّا وحزبه ، فإنه مع الحقّ والحق معه ، ولا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض. يا ابن عباس ، ولايتهم ولايتي ، وولايتي ولاية الله ، وحربهم حربي ، وحربي حرب الله ، وسلمهم سلمي ، وسلمي سلم الله.


ثم قال عليه‌السلام : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١).

٢ ـ القاضي أبو الفرج المعافا بن زكريا البغدادي ، قال : حدّني محمّد بن همام بن سهيل الكاتب ، قال : حدثني محمّد بن معافا السلماسي عن محمّد بن عامر ، قال : حدّثنا عبد الله بن زاهر عن عبد العدوس [القدوس] عن الأعمش عن حبش [حنش] بن المعتمر قال :

قال أبو ذر الغفاري رحمة الله عليه : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : يا أبا ذر آتني بابنتي فاطمة.

قال : فقمت ودخلت عليها وقلت : يا سيدة النسوان أجيبي أباك ، قال : فلبست جلبابها وخرجت حتى دخلت على رسول الله ، فلما رأت رسول الله انكبت عليه وبكت وبكى رسول الله لبكائها وضمها إليه ، ثم قال : يا فاطمة لا تبكين فداك أبوك ، فأنت أول من تلحقين بي مظلومة مغصوبة ، وسوف يظهر بعدي حسيكة النفاق ويسمل جلباب الدين ، وأنت أول من يرد عليّ الحوض.

قالت : يا ابه أين ألقاك؟ قال : تلقيني عند الحوض وأنا أسقي شيعتك ومحبيك وأطرد أعداءك ومبغضيك ، قالت : يا رسول الله فإن لم ألقك عند الحوض؟ قال : تلقيني عند الميزان ، قالت : يا ابه وإن لم ألقك عند الميزان؟ قال : تلقيني عند الصراط وأنا أقول : سلّم سلّم شيعة عليّ.

قال أبو ذر : فسكن قلبها ، ثم التفت إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا ذر إنها بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ، ألا إنها سيّدة نساء العالمين ، وبعلها سيّد الوصيين ، وابنيها الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ، وأنهما إمامان إن قاما

__________________

(١) كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر لأبي القاسم القمي الرازي ص ١٦ ـ ١٩ ط / مطبعة الخيام ـ قم ١٤٠١ ه‍ ، والآية من سورة التوبة : ٣٢.


أو قعدا ، وأبوهما خير منهما ، وسوف يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة معصومون قوامون بالقسط ، ومنا مهديّ هذه الأمة.

قال : قلت يا رسول الله فكم الأئمة بعدك؟ قال : عدد نقباء بني إسرائيل (١).

٣ ـ محمّد بن عبد الله بن المطلب وأبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن عباس الجوهري جميعا قالا : حدّثنا محمّد بن لاحق اليماني ، عن إدريس بن زياد قال : حدثنا إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال :

خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي خيرا ، وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار ، معاشر الناس من افتقد الشمس فليتمسك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قال : فلما نزل عن المنبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعته حتى دخل بيت عائشة ، فدخلت إليه وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله سمعتك تقول : «إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر ، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدين ، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة» فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة؟

فقال : أنا الشمس وعليّ القمر والحسن والحسين الفرقدان ، فإذا افتقدتموني فتمسكوا بعليّ بعدي ، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين ، وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين ، تاسعهم مهديهم.

ثم قال عليه‌السلام : إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي ، أئمة أبرار ، عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى ، قلت : فسمهم لي يا رسول الله؟

__________________

(١) كفاية الأثر ص ٣٧.


قال : أولهم عليّ بن أبي طالب ، وبعده سبطاي ، وبعدهما عليّ زين العابدين ، وبعده محمّد بن عليّ الباقر علم النبيين ، والصادق جعفر بن محمّد وابنه الكاظم سمي موسى بن عمران ، والذي يقتل بأرض الغربة ابنه عليّ ، ثم ابنه محمّد ، والصادقان عليّ والحسن ، والحجّة القائم المنتظر في غيبته ، فإنهم عترتي من دمي ولحمي ، علمهم علمي وحكمهم حكمي ، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي (١).

٣ ـ سعيد بن عبد الله قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد عن حماد بن عثمان بن عيسى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبان بن خلف عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي قال : دخلت على رسول الله وإذا بالحسين على فخذه وهو يقبّل جبينه ويلثم فاه ويقول : أنت سيّد ابن السيّد ، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمة ، أنت حجّة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم(٢).

٤ ـ عن أبي القاسم جعفر بن محمّد ، عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن ابن محبوب عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخلت على فاطمة بنت رسول الله عليهما‌السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء والأئمة من ولدها ، فعدّدت اثني عشر اسما آخرهم القائم من ولد فاطمة ، ثلاثة منهم محمّد ، وأربعة منهم عليّ (٣).

٥ ـ وعن أبي القاسم ، عن محمّد بن يعقوب ، عن أبي علي الأشعري عن الحسن بن عبيد الله عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن عليّ بن سماعة ، عن عليّ بن الحسن بن رباط عن عمر بن أذينة ، عن زرارة قال : سمعت أبا

__________________

(١) كفاية الأثر ص ٤١.

(٢) كفاية الأثر ص ٤٦.

(٣) الإرشاد للمفيد ج ٢ / ٣٤٦.


جعفر عليه‌السلام يقول : الاثنا عشر الأئمة من آل محمّد كلّهم محدّث ، عليّ بن أبي طالب وأحد عشر من ولده ، ورسول الله وعليّ هما الوالدان ، صلّى الله عليهما (١).

٦ ـ وعن محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمّد ، عن محمّد بن عليّ بن بلال قال : خرج إليّ أمر أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليه‌السلام قبل مضيّه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده ، ثم خرج إليّ من قبل مضيّه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده (٢).

٧ ـ عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن إسحاق عن أبي هاشم الجعفري قال : قلت لأبي محمّد الحسن بن عليّ عليه‌السلام : جلالتك تمنعني عن مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟

فقال : «سل» قلت : يا سيّدي ، هل لك ولد؟ قال) «نعم» قلت : إن حدث حدث فأيت أسأل عنه؟ قال : «بالمدينة» (٣).

٨ ـ وعن حمدان القلانسي عن العمري قال : مضى أبو محمّد عليه‌السلام وخلّف ولدا له (٤).

٩ ـ وعن الحسين بن محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال : خرج عن أبي محمد عليه‌السلام حين قتل الزبيري لعنه الله : «هذا جزاء من اجترأ على الله تعالى في أوليائه ، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة الله فيه» قال محمّد بن عبد الله : وولد له ولد؟ (٥).

وقد تظافرت النصوص على ولادة القائم صاحب الزمان حجّة الله ابن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ٢ / ٣٤٧.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٣٤٨.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٣٤٨.

(٤) نفس المصدر ج ٢ / ٣٤٨.

(٥) الإرشاد للمفيد ج ٢ / ٣٤٩. وأصول الكافي ج ١ / ٥١٤ ح ١.


الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ، منها ما رواه الشيخ الصدوق عليه الرحمة :

١ ـ عن محمّد بن الحسن بن الوليد عن محمّد بن يحيى العطّار عن أبي عبد الله الحسين بن رزق الله عن موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب قالت : بعث إليّ أبو محمّد الحسن بن عليعليهما‌السلام فقال : يا عمّة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان ، فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجته في أرضه ، قالت : فقلت له : ومن أمّه؟ قال لي : نرجس ، قلت له : جعلني الله فداك ما بها أثر؟ فقال : هو ما أقول لك ، قالت : فجئت ، فلما سلّمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي : يا سيّدتي [وسيدة أهلي] كيف أمسيت؟ فقلت : بل أنت سيّدتي وسيدة أهلي ، قالت : فأنكرت قولي وقالت : ما هذا عمّة؟ قالت : فقلت لها : يا بنيّة إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيّدا في الدنيا والآخرة ، قالت : فخجلت واستحيت.

فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ثم جلست معقبة ، ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة ، ثم قامت فصلّت ونامت.

قالت حكيمة : وخرجت أتفقّد الفجر فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان وهي نائمة فدخلني الشكوك ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام من المجلس فقال : لا تعجلي يا عمّة فهاك الأمر قد قرب ، قالت : فجلست وقرأت الم السجدة وياسين ، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت : اسم الله عليك ، ثم قلت لها : أتحسّين شيئا؟ قالت : نعم يا عمّة ، فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك ، قالت : فأخذتني فترة وأخذتها فترة ، فانتبهت بحسّ سيدي فكشفت


الثوب عنه فإذا أنا به عليه‌السلام ساجدا يتلقّى الأرض بمساجده ، فضممته إليّ فإذا أنا به نظيف متنظف فصاح بي أبو محمد عليه‌السلام : هلمّي إليّ ابني يا عمة ، فجئت به إليه فوضع يديه تحت أليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ثم أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ، ثم قال: تكلّم يا بني ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة عليهم‌السلام إلى أن وقف على أبيه ثم أحجم.

ثم قال أبو محمّد عليه‌السلام : يا عمّة اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها وائتني به ، فذهبت به فسلّم عليها ورددته فوضعته في المجلس ثم قال : يا عمّة إذا كان يوم السابع فائتينا. قالت حكيمة : فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمّد عليه‌السلام وكشفت الستر لأتفقّد سيّدي عليه‌السلام فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ما فعل سيّدي؟ قال : يا عمّة استودعناه الذي استودعته أمّ موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فلمّا كان في اليوم السابع جئت فسلّمت وجلست فقال : هلمّي إليّ ابني ، فجئت بسيّدي عليه‌السلام وهو في الخرقة ففعل به كفعلته الأولى ، ثم أدلى لسانه في فيه كأنه يغذّيه لبنا أو عسلا ، ثم قال : تكلّم يا بنيّ ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وثنّى بالصلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتى وقف على أبيه عليه‌السلام ، ثم تلا هذه الآية : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (١). قال موسى: فسألت عقبة الخادم عن هذه ، فقال : صدقت حكيمة (٢).

٢ ـ عن محمّد بن عبد الله الطهوي قال : قصدت حكيمة بنت محمّد عليه‌السلام بعد مضي أبي محمّد عليه‌السلام أسألها عن الحجّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها ، فقالت لي : اجلس فجلست ، ثم قالت : يا محمّد إن الله تبارك

__________________

(١) سورة القصص : ٥ ـ ٦.

(٢) كمال الدين للشيخ الصدوق ج ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٦ ح ١ ط / دار الكتب الإسلامية إيران.


وتعالى لا يخلّي الأرض من حجّة ناطقة أو صامتة ، ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسينعليهما‌السلام تفضيلا للحسن والحسين وتنزيها لهما أن يكون في الأرض عديلهما إلّا أن الله تبارك وتعالى خصّ ولد الحسين بالفضل على ولد الحسن عليهما‌السلام كما خصّ ولد هارون على ولد موسى عليه‌السلام وإن كان موسى حجة على هارون ، والفضل لولده إلى يوم القيامة ، ولا بدّ للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقّون ، كيلا يكون للخلق على الله حجّة ، وأن الحيرة لا بدّ واقعة بعد مضي أبي محمّد الحسن عليه‌السلام ، فقلت : يا مولاتي هل كان للحسن عليه‌السلام ولد؟ فتبسمت ثم قالت : إذا لم يكن للحسن عليه‌السلام عقب فمن الحجّة من بعده وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقلت : يا سيّدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته عليه‌السلام قالت : نعم كانت لي جارية يقال لها : نرجس ، فزارني ابن أخي فأقبل يحدّق النظر إليها ، فقلت له : لعلّك هويتها فأرسلها لك؟ فقال لها : لا يا عمّة ولكني أتعجب منها ، فقلت : وما أعجبك منها؟ فقال عليه‌السلام : سيخرج منها ولد كريم على الله عزوجل الذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، فقلت : فأرسلها إليك يا سيّدي؟ فقال : استأذني في ذلك أبي عليه‌السلام قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن عليه‌السلام فسلّمت عليه وجلست فبدأني عليه‌السلام وقال : يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد ، قالت : فقلت يا سيّدي ، على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك ، فقال لي : يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحبّ أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا. قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيّنتها ووهبتها لأبي محمّدعليه‌السلام ، وجمعت بينه وبينها في منزلي ، فأقام عندي أياما ثم مضى إلى والده عليهما‌السلام ووجّهت بها معه.

قالت حكيمة : فمضى أبو الحسن عليه‌السلام وجلس أبو محمّد عليه‌السلام مكان والده ، وكنت أزوره كما كنت أزور والده ، فجاءتني نرجس يوما تخلع خفّي فقالت : يا مولاتي ناوليني خفّك ، فقلت : بل أنت سيّدتي ومولاتي والله لا أدفع


إليك خفّي لتخلعيه ولا لتخدميني بل أخدمك على بصري. فسمع أبو محمد عليه‌السلام ذلك فقال : جزاك الله يا عمّة خيرا ، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت : ناوليني ثيابي لأنصرف ، فقال عليه‌السلام : لا يا عمّة بيتي الليلة عندنا فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزوجل الذي يحيي الله عزوجل به الأرض بعد موتها ، فقلت : ممّن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئا من أثر الحبل؟ فقال : من نرجس لا من غيرها ، قالت : فوثبت إليها فقلبتها ظهرا لبطن قلم أر لها أثر حبل ، فعدت إليه عليه‌السلام فأخبرته بما فعلت فتبسّم ثم قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأن مثلها مثل أمّ موسى عليه‌السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها ، لأن فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى عليه‌السلام وهذا نظير موسى.

قالت حكيمة : فعدت إليها فأخبرتها بما قال وسألتها عن حالها فقالت : يا مولاتي ما أرى بي شيئا من هذا ، قالت حكيمة : فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنبا إلى جنب حتى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة ، فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها فصاح [إليّ] أبو محمّد وقال : اقرئي عليها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها : ما حالك؟ قالت : ظهر الأمر الذي أخبرك به مولاي فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني ، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما أقرأ وسلّم عليّ.

قالت حكيمة : ففزعت لما سمعت ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام : لا تعجبي من أمر الله عزوجل ، إنّ الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغارا ، ويجعلنا حجّة في أرضه كبارا فلم يستتم الكلام حتى غيبت عنّي نرجس فلم أرها كأنه ضرب بين وبينها حجاب فعدوت نحو أبي محمّد عليه‌السلام وأنا صارخة ، فقال لي : ارجعي يا عمّة فإنّك ستجديها في مكانها.

قالت : فرجعت فلم ألبث أن كشف الغطاء الذي كان بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشى بصري وإذا أنا بالصبيّ عليه‌السلام ساجدا لوجهه [على


وجهه] ، جاثيا على ركبتيه ، رافعا سبّابتيه ، وهو يقول : «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ جدّي محمّدا رسول الله وأنّ أبي أمير المؤمنين» ثم عدّ إماما إماما إلى أن بلغ إلى نفسه ، ثم قال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني وأتمم لي أمري وثبّت وطأتي ، واملأ الأرض بي عدلا وقسطا».

فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام فقال : يا عمّة تناوليه وهاتيه ، فتناولته وأتيت به نحوه ، فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي سلّم على أبيه فتناوله الحسن عليه‌السلام مني والطير ترفرف على رأسه وناوله لسانه فشرب منه ، ثم قال : امضي به إلى أمّه لترضعه وردّيه إليّ ، قالت : فتناولته أمه فأرضعته ، فرددته إلى أبي محمّد عليه‌السلام والطير ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال له : احمله واحفظه وردّه إلينا في كل أربعين يوما ، فتناوله الطير وطار به في جوّ السماء واتبعه سائر الطير ، فسمعت أبا محمّد عليه‌السلام يقول : «أستودعك الله الذي أودعته أمّ موسى موسى» فبكت نرجس فقال لها : اسكتي فإنّ الرضاع محرّم عليه إلّا من ثديك وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمّه وذلك قول الله عزوجل (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) (١).

قالت حكيمة : فقلت : وما هذا الطير؟ قال : هذا روح القدس الموكّل بالأئمةعليهم‌السلام يوفّقهم ويسدّدهم ويربّيهم [يزينهم] بالعلم. قالت حكيمة : فلمّا كان بعد أربعين يوما ردّ الغلام ووجّه إليّ ابن أخي عليه‌السلام فدعاني ، فدخلت عليه فإذا أنا بالصبيّ متحرّك يمشي بين يديه ، فقلت : يا سيدي هذا ابن سنتين؟! فتبسّم عليه‌السلام ثم قال : إنّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشئون بخلاف ما ينشؤ غيرهم ، وإنّ الصبيّ منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة ، وإنّ الصبيّ منّا ليتكلم في بطن أمّه ويقرأ القرآن ويعبد ربّه عزوجل وعند الرّضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحا ومساء.

__________________

(١) سورة القصص : ١٣.


قالت حكيمة : فلم أزل أرى ذلك الصبيّ في كلّ أربعين يوما إلى أن رأيته رجلا (١) قبل مضي أبي محمّد عليه‌السلام بأيام قلائل فلم أعرفه ، فقلت لابن أخي عليه‌السلام : من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لي : هذا ابن نرجس ، وهذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي.

قالت حكيمة : فمضى أبو محمّد عليه‌السلام بعد ذلك بأيام قلائل ، وافترق الناس كما ترى وو الله إني لأراه صباحا ومساء وإنه لينبئني عمّا تسألون عنه فأخبركم ، وو الله إني لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به وأنه ليرد عليّ الأمر فيخرج إليّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي ، وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليّ وأمرني أن أخبرك بالحق ..» (٢).

٣ ـ عن إبراهيم بن محمّد بن عبد الله بن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، عن السيّاري قال : حدّثتني نسيم ومارية قالتا : إنه لمّا سقط صاحب الزمان عليه‌السلام من بطن أمه جاثيا على ركبتيه رافعا سبّابتيه إلى السماء ، ثم عطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله ، زعمت الظّلمة أنّ حجّة الله داحضة ، لو أذن لنا في الكلام لزال الشكّ.

قال إبراهيم بن محمّد بن عبد الله : وحدّثتني نسيم خادمة أبي محمّد عليه‌السلام قالت : قال لي صاحب الزمان عليه‌السلام وقد دخلت عليه بعد مولده بليلة ، فعطست عنده فقال لي : يرحمك الله ، قالت : ففرحت بذلك ، فقال لي عليه‌السلام : ألا أبشّرك في العطاس ، فقلت : بلى يا مولاي ، فقال؛ هو أمان من الموت ثلاثة أيام (٣).

٤ ـ عن أبي عليّ الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمّد عليه‌السلام فلمّا

__________________

(١) الرّجل من الشعر : ما بين الجعودة والاسترسال أي كان شعره رجلا ، وليس المراد منه أنه كان كبير السن قبل مضي أبيه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام حسبما توهم أحد المعلقين على كتاب كمال الدين وتمام النعمة ، ثم استبعاده له.

(٢) كمال الدين ج ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٩ ح ٢.

(٣) نفس المصدر والجزء ص ٤٣٠ ح ٥.


أغار جعفر الكذّاب على الدار جاءته فارّة من جعفر فتزوّج بها. قال أبو عليّ : فحدّثتني أنها حضرت ولادة السيّد عليه‌السلام وأنّ اسم أمّ السيّد صقيل ، وأنّ أبا محمّد عليه‌السلام حدّثها بما يجري على عياله ، فسألته أن يدعو الله عزوجل لها أن يجعل منيّتها قبله ، فماتت في حياة أبي محمّد عليه‌السلام وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أمّ محمّد. قال أبو عليّ : وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لمّا ولد السيّد عليه‌السلام رأت لها نورا ساطعا قد ظهر منه وبلغ أفق السماء ، ورأيت طيورا بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ، ثم تطير ، فأخبرنا أبا محمّد عليه‌السلام بذلك فضحك ، ثم قال : تلك ملائكة نزلت للتبرّك بهذا المولود وهي أنصاره إذا خرج (١).

٥ ـ وعن محمّد بن أحمد العلويّ ، عن أبي غانم الخادم قال : ولد لأبي محمّد عليه‌السلام ولد فسمّاه محمّدا ، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال : هذا صاحبكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار ، فإذا امتلأت الأرض جورا وظلما خرج فملأها قسطا وعدلا (٢).

٦ ـ وعن أبي عبد الله محمّد بن خليلان قال : حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن غياث بن أسيد قال : ولد الخلف المهديّ عليه‌السلام يوم الجمعة ، وأمّه ريحانة ، ويقال لها : نرجس ، ويقال : صقيل (٣) ، ويقال : سوسن إلّا أنه قيل : لسبب الحمل صقيل ، وكان مولده عليه‌السلام لثمان ليال خلون من شعبان سنة ستّ وخمسين ومائتين ، ووكيله عثمان بن سعيد ، فلمّا مات عثمان أوصى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان ، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح ، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد السمريّ رضي الله عنهم ، قال : فلمّا حضرت

__________________

(١) نفس المصدر والجزء ص ٤٣١ ح ٧.

(٢) نفس المصدر والجزء ح ٨.

(٣) الصقيل : الشيء الأملس ، وسميت صقيلا لما اعتراها عليها‌السلام من النور بسبب الحمل المنوّر ، أما الصّيقل : فهو مبالغة صاقل أي شحّاذ السيوف وجلّاؤها.


السمريّ الوفاة ، سئل أن يوصي فقال : لله أمر هو بالغه ، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمريّ رضي الله عنه (١).

وهكذا رآه بعض أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في حياة أبيه.

هذا طرف يسير مما جاء في النصوص على ميلاد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف ، والروايات في ذلك كثيرة قد دوّنها أصحاب الحديث من هذه العصابة المرحومة وأثبتوها في كتبهم (٢) فتراجع ، وهكذا النصوص التي دلت على من شاهد القائم المهديّ عليه‌السلام ورآه وكلّمه ، يجدها مبثوثة في كتبنا بكثرة تفوق التواتر بعشرات المرات (٣). وأما كتب المخالفين فليس فيها شيء مما ذكرته مصادرنا بخصوص ولادة مولانا الحجّة المنتظر عليه‌السلام سوى ما ذكره بعض علمائهم وقد تقدّمت أسماؤهم ، وسوى ما رواه ثلة منهم أمثال الحمويني الشافعي وابن الصبّاغ المالكي والقندوزي الحنفي.

* فقد روى الحمويني بسنده عن عبد الله بن عبّاس قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاثنا عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي. قيل : يا رسول الله ومن أخوك؟ قال : عليّ بن أبي طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال : المهديّ الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهديّ ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب (٤).

__________________

(١) كمال الدين ص ٤٣٢ ح ١٢.

(٢) كمال الدين والغيبة للنعماني ، وأصول الكافي ، وغيبة الطوسي.

(٣) مضافا للمصادر المتقدّمة ، فليراجع : مدينة المعاجز للبحراني ، وجنّة المأوى للطبرسي والبحار للمجلسي وإلزام الناصب للحائري.

(٤) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٢ حديث ٥٦٢ باب ٦١.


وروي بسند آخر متصل بعبد الله بن عبّاس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون (١).

وعن ابن عبّاس أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد المرسلين ، وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيين ، وأن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم عليّ بن أبي طالب ، وآخرهم القائم(٢).

* وروى ابن الصبّاغ المالكي عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الأئمة الاثنا عشر كلّهم من آل محمّد : عليّ بن أبي طالب وأحد عشر من ولده ثم قال : «وأما النص على إمامته من جهة أبيه فروى محمّد بن عليّ بن بلال قال : خرج إليّ أمر أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري قبل مضيّه بسنين يخبرني بالخلف من بعده ثم خرج إليّ قبل مضيّه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف بأنه ابنه من بعده.

وعن أبي هاشم الجعفري قال : قلت لأبي محمّد الحسن بن عليّ جلالتك تمنعني من مسألتك ، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال : سل ، فقلت : يا سيّدي هل لك ولد؟ قال : نعم ، قلت : فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟ قال : بالمدينة.

ثم أضاف : ولد أبو القاسم محمّد الحجّة ابن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة ، وأما نسبه أبا وأما فهو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ، وأما أمّه فأمّ ولد يقال لها نرجس خير أمة ..» (٣).

__________________

(١) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٣ حديث ٥٦٣.

(٢) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٣ حديث ٥٦٤.

(٣) الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة / ابن الصباغ المالكي ص ٢٨٢.


* وروى القندوزي الحنفي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة وهو آخر من مات من الصحابة بالاتفاق عن عليّ رضي الله عنه قال :

قال رسول الله : يا عليّ أنت وصيي حربك حربي وسلمك سلمي وأنت الإمام وأبو الأئمة الأحد عشر الذين هم المطهّرون المعصومون ومنهم المهديّ الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا فويل لمبغضهم ، يا عليّ لو أن رجلا أحبّك وأولادك في الله لحشره الله معك ومع أولادك وأنتم معي في الدرجات العلى ، وأنت قسيم الجنّة والنار ، تدخل محبيك الجنّة ومبغضيك النار (١).

وروى القندوزي أيضا عن الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن مجاهد عن ابن عبّاس قال: قدم يهودي يقال له نعثل ، فقال : يا محمّد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك؟ قال : سل يا أبا عمارة فقال : يا محمّد صف لي ربّك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه وكيف يوصف الخالق الذي تعجز العقول أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تجده والأبصار أن تحيط به جلّ وعلا عمّا يصفه الواصفون نائي في قربه وقريب في نأيه هو كيّف الكيف وأيّن الأين ، فلا يقال أين هو ، منقطع الكيفية والأينونية فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، قال : صدقت يا محمّد فاخبرني عن قولك أنه واحد لا شبيه له أليس الإله واحد والإنسان واحد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عزّ وعلا واحد حقيقي أحديّ المعنى أي لا جزء ولا تركيب له والإنسان واحد ثنائي مركب من روح وبدن! قال : صدقت ، فأخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبيّ إلا وله وصيّ وأن نبينا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال : إن وصيي عليّ بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ، قال : يا محمّد فسمّهم لي ، قال : إذا مضى الحسين فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٨ ط / اسلامبول.


محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن ، فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهديّ ، فهؤلاء اثنا عشر ...» (١).

والروايات بهذا المعنى من طرق العامة كثيرة تدل على أن الأئمة اثنا عشر وأنهم خلفاؤه ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد بذكره الاثني عشر خليفة إلّا الأئمة من ذرية ابنته الصدّيقة سيّدة النساء فاطمة روحي فداها. وإليك أخي القارئ قسما منها :

١ ـ ما رواه البخاري في الجزء الرابع من كتاب الأحكام في باب جعله قبل باب إخراج الخصوم وأهل الريب ، قال : حدّثني محمد بن المثنى ، حدّثنا غندر ، حدّثنا شعبة عن عبد الملك قال : سمعت جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميرا ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال كلّهم من قريش (٢).

٢ ـ روى الترمذي في صحيحه : باب ما جاء في الخلفاء. قال : حدّثنا أبو كريب عن عمر بن عبيد عن سمّاك بن حرب عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله : يكون من بعدي اثنا عشر أميرا ثم تكلّم بشيء لم أفهمه ، فسألت الذي يليني فقال : قال : كلّهم من قريش. (قال الترمذي) : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة .. الخ وذكر نفس الحديث (٣).

٣ ـ وروى مسلم في كتاب الإمارة من الصحيح ، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش ، عن قتيبة بن سعيد ، حدّثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة قال : قال سمعت النبيّ يقول : إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٤٤٠ ومنتخب الأثر ص ١٠٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ / ١٧٥ ط / مصر سنة ١٣٥٥ ه‍ ومنتخب الأثر ص ١٥.

(٣) صحيح الترمذي ج ٢ / ٤٥ ط / دهلي سنة ١٣٤٢ ه‍.


عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى عليّ ، فقلت لأبي : ما قال؟ قال : كلّهم من قريش(١).

٤ ـ وروى مسلم أيضا في كتاب الامارة عن ابن أبي عمر قال : حدّثنا عن سفيان بن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليّهم اثنا عشر رجلا ثم تكلّم النبيّ بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي ما ذا قال رسول الله؟ فقال: كلّهم من قريش (٢).

٥ ـ وعنه أيضا عن هداب بن خالد الأزدي عن حمّاد بن مسلمة عن سمّاك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله يقول : لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال؟ فقال : كلّهم من قريش (٣).

٦ ـ وروى أحمد بن حنبل عن عبد الله عن أبيه حدثنا (حدثنا : أي حدّثنا) مؤمل بن إسماعيل حدثنا حمّاد بن سلمة حدثنا داود بن هند عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة (٤).

٧ ـ وروى أحمد أيضا في المسند عن الشعبي عن مسروق قال : كنّا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ / ١٩١ ط / مصر سنة ١٣٤٨ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ / ١٩١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مسند أحمد ج ٥ / ١٠٦ ط / مصر سنة ١٣١٣ ه‍ ، ورواه عن جابر من ٣٤ طريقا في ص ٨٦ ج ٥ ، كما أخرجه عن جابر بن سمرة صاحب المستدرك على الصحيحين ج ٣ / ٦١٨ ، وتيسير الوصول إلى جامع الأصول ج ٢ / ٣٤ ، ومنتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٣١٢ ، وتاريخ بغداد ج ١٤ / ٣٥٣ رقم ٧٦٧٣ ، وتاريخ الخلفاء ص ٧ وينابيع المودة ص ٤٤٥.


فقال : اثنى عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل (١).

٨ ـ وروى أبو داود في السنن عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله يقول : لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمة ، فسمعت كلاما من النبيّ لم أفهمه ، قلت لأبي ما يقول؟ قال : كلّهم من قريش (٢).

٩ ـ روى القندوزي عن جابر بن سمرة ثم ساق الحديث إلى أن قال : كلهم من بني هاشم(٣).

والأخبار بهذا المعنى في مصادرنا فوق حد التواتر فلتراجع (٤).

وبهذا الحديث المتقدّم بضميمة القرائن من الآيات ـ كآية التطهير والإطاعة والبلاغ والإكمال والولاية ونظائرها ـ والروايات (كحديث الثّقلين المشهور المقطوع الصدور وحديث السفينة وغيرهما) نقطع بأن هذه الأحاديث لا تنطبق إلّا على دين الإمامية فإن بعضها يدل على أن الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، وبعضها يدل على أن عزة الإسلام إنما تكون إلى اثني عشر خليفة ، وبعضها يدل على بقاء الدين إلى أن تقوم الساعة ، وأن وجود الأئمة مستمر إلى آخر الدهر ، وبعضها يدل على أن الاثني عشر كلّهم من قريش ، وفي بعضها كلّهم من بني هاشم.

وظاهرها جميعا حصر الخلفاء في الاثني عشر وتواليهم ، ومعلوم أن تلك الخصوصيات لم توجد إلّا في الأئمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين ، ولا

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ٣٩٨.

(٢) سنن أبي داود ج ٤ / ١٠٦ حديث ٤٢٧٩ و ٤٢٨٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٤٤٥.

(٤) منتخب الأثر ص ١٩ ـ ٥٠ والغيبة للنعماني / باب أن الأئمة اثنا عشر ، والغيبة للطوسي ص ٨٧ ـ ٨٩.


توافق مذهبا من مذاهب فرق المسلمين إلّا مذهب الإمامية ، وينبغي أن يعدّ ذلك من جملة معاجز النبيّ وأخباره عن المغيبات.

ذكر القندوزي في ينابيع المودة نقلا عن بعض المحقّقين قوله :

«إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أن مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديثه هذا الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم غير بني هاشم لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلّهم من بني هاشم في رواية عبد الملك عن جابر وإخفاء صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم ولا يمكن أن يحمله على الملوك العبّاسية لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم ، الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وحديث الكساء فلا بدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسبا وأفضلهم حسبا وأكرمهم عند الله ، وكان علومهم عن آبائهم متصلا بجدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالوراثة واللدنية ، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتوفيق ، ويؤيد هذا المعنى أي أن مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمة الاثني عشر من أهل بيته ويشهده ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكررة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها ، وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّهم يجتمع عليه الأمة ، في رواية عن جابر بن سمرة فمراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأمة تجتمع على الإقرار بإمامة كلهم وقت ظهور قائمهم المهديّ رضي الله عنهم» (١).

وفي نهج البلاغة من خطبة الإمام علي «كرّم الله وجهه» : (أين الذين زعموا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٣٥.


أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى وبنا يستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم) (وأنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر) (واعلموا أنكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسّكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صدق وصامت ناطق) (١).

وبما تقدّم يندفع ما قيل من المراد من الاثني عشر الوارد في الحديث هو حكم خلفاء بني أميّة وبني العبّاس بعد حكم بعض الصحابة. من هنا التجأ أناس من أهل التعصب والعناد من الذين يعدّون أنفسهم في زمرة العلماء إلى ارتكاب تأويلات باردة وإبداء احتمالات ضعيفة كي يصرفوا هذه الأحاديث عن ظواهرها الواضحة المؤيّدة بغيرها من النصوص المتواترة ، وإليك بعضا منها :

التأويل الأول :

أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إشارة إلى ما بعد الصحابة من خلفاء بني أميّة وليس على المدح بل على استقامة السلطنة.

جوابه :

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٣٥ وقد اقتبس القندوزي المقاطع الثلاثة من خطبة ١٤٤ ص ٢٠١ وخطبة ١٤٧ ص ٢٠٤ من خطب نهج البلاغة / شرح صبحي الصالح.


إذا كان هذا مراده فأية فائدة في الإخبار عن ذلك ، ومن أين علم صاحب التأويل المتقدّم بأن مرادة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإخبار بإمارة اثني عشر من بني أميّة وبني العبّاس ، ومن أين علم أيضا أنه إشارة إلى من بعد الصحابة؟ فلم لم يقل (يكون بعد الصحابة)؟ وقال (يكون بعدي) وإذا وصل الأمر إلى اقتراح مثل هذا الاحتمال لصرف الكلام عن ظاهره حذرا عن إثبات مذهب أهل الحق فلا اختصاص حينئذ لكثرة الاحتمالات الطارئة ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد عبد الملك وكان مراده (من بعدي) بعد عبد الملك ويحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد هشام ، ويحتمل أن يكون ستة منهم من بعد يزيد بن عبد الملك وستة منهم من بني العبّاس ، ويحتمل أن يكون المراد بعد بني أميّة ، كما يحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد السفّاح أو المنصور أو غيرهما من بين العبّاس ، ويكون بعضهم من الأمويين الذين ملكوا الأندلس ، وبعضهم من الفاطميين الذين حكموا مصر ، إذ لا مرجّح للاحتمال الأول على واحد من هذه الاحتمالات. هذا مضافا إلى أنه كيف يكون الحديث صادرا على غير سبيل المدح مع ما في بعض طرقه من العبارات الصريحة في المدح ، وكيف يصح تنزيل هؤلاء الجبابرة الفجرة منزلة نقباء بني إسرائيل وحواري عيس في هذه الروايات الكثيرة ، مع دلالة هذه الروايات على انحصار الخلفاء في الاثني عشر.

التأويل الثاني :

المراد من الاثني عشر خليفة هم الذين يأتون بعد وفاة الحجّة المهديّ المنتظر عليه‌السلام.

يرد عليه :

(١) إنّ هذا مخالف لبعض هذه الأحاديث مثل قوله (بعدي اثنا عشر خليفة) وقوله (لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا ، ولا يزال أمر الناس ماضيا) مما يدل على اتصال زمانهم بزمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرار وجودهم إلى آخر الدهر وانحصار


الخلفاء فيهم كما صرّح به في رواية ابن مسعود المتقدّمة.

(٢) إن القرائن المنفصلة والمتصلة ـ من داخل وخارج هذا الحديث ـ لدلالة قاطعة على أن المراد بالاثني عشر خليفة هو الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهو المشهور بين فرق المسلمين ، فإثبات الخلافة لما بعد وفاة الإمام الحجّة المهديّ «روحي لتراب نعله الفداء» دون ما قبل وفاته دعوى بلا برهان. هذا مضافا إلى أن هذا التأويل مخالف لخصوص هذه الأحاديث وما فيها من انحصار الخلفاء في الاثني عشر واستمرار واتصال زمانهم بزمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأما الاستناد لصحة حمل هذه الأحاديث على هذا التأويل بخبر «يلي بعد المهدي اثنا عشر رجلا : ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين وآخر من غيرهم» (١). ففيه مضافا إلى مخالفتها للأحاديث الكثيرة عن طريق الفريقين من أن خروج الإمام المهديّ عليه‌السلام في آخر الزمان الذي يأتم به عيسى بن مريم عليهما وعلى نبينا وآله السلام. هذا مع ما في سنده من الضعف والوهن حسبما صرّح ابن حجر في الصواعق ، ولمخالفته لخبر الطبراني : «سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء ثم من بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا».

التأويل الثالث :

ما حكي عن القاضي عيّاض وهو أن المراد أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أميّة ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد. وقال ابن حجر في فتح الباري : كلام القاضي عيّاض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة (كلهم يجتمع عليه الناس) ثم ذكر أسماء من وقع الاجتماع على خلافتهم وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ «أمير المؤمنين

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٦٦.


وقائد الغر المحجلين» ومعاوية ويزيد وعبد الملك وأولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وعمر بن عبد العزيز ..

يرد عليه :

(١) إن هذا الوجه أردأ ما قيل في الحديث وأهونه ، «ونحن نترك الكلام في نسب بني أميّة وعدم صحة انتسابهم إلى قريش مع أن هذه الأحاديث مصرّحة بكون الأئمة الاثني عشر من قريش ، مضافا إلى أنه كيف يصح حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح وإطلاق الخليفة على معاوية الذي حارب أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي قال فيه سيّد المرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حربك حربي» وأعلن معاوية بسبّه على المنابر ، ودسّ السم إلى الإمام الحسن عليه‌السلام سيّد شباب أهل الجنّة؟ كما كيف يصح حملها على مثل يزيد بن معاوية الفاسق المعلن بالمنكرات والكفر قاتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهو الذي أباح بأمره مسلم بن عقبة أهل المدينة ثلاثا فقتل خلقا من الصحابة ونهبت المدينة وافتض في هذه الواقعة الف عذراء حتى أن الرجل من المدينة بعد ذلك إذا زوّج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعلّها قد افتضت في واقعة الحرة ، وقيل تولد من النساء أربعة آلاف ولد من تلك الواقعة ، وقد قال رسول الله فيما رواه مسلم «من أخاف أهل المدينة أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وحكي عن الواقدي أن عبد الله بن حنظلة (١) غسيل الملائكة قال : «والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء أنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة» وهو الذي أمر بغزو الكعبة ، وقد ذكر السيوطي أن نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فذكر رجل يزيد بن معاوية فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين وأمر به فضرب عشرين سوطا. إلى ما هنالك من

__________________

(١) روي أن حنظلة بن أبي عامر خرج يوم أحد وهو جنب ليقاتل المشركين فلمّا قتل غسّلته الملائكة.

راجع أسد الغابة ج ٢ / ٨٦.


مخازي ارتكبها بنو أميّة ، وعليه كيف يصح حمل هذه الأحاديث وإطلاق الخليفة على عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف؟ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلّا الحجّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتما وحبسا وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يخفى فضلا عن غيرهم وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلهم فلا رحمه‌الله ولا عفا عنه». وكيف يطلق الخليفة على الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الشارب للخمر والمتهتك لحرمات الله تعالى وهو الذي أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه ، وهو الذي فتح المصحف فخرج (فاستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فألقاه ورماه بالسهام وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد

فما يلبث بعد ذلك إلّا يسيرا حتى قتل ، ونقل صاحب تاريخ الخميس «أن من كفرياته أنه دخل يوما فوجد ابنته جالسة مع دادتها (١) فبرك عليها وأزال بكارتها فقالت له الدادة هذا دين المجوس ، فأنشد قائلا :

من راقب الناس مات غما

وفاز باللذة الجسور

أهذا معنى عزة الإسلام وخليفة رسول الله؟!! فالصواب تسمية هؤلاء بالفراعنة لا الخلفاء ، وتشبيههم بالملاحدة والكفرة لا بحواري عيسى ونقباء بني إسرائيل. والأعجب من ذلك كيف رضي القاضي عيّاض أن يجعل هؤلاء الجبابرة من خلفاء رسول الله الذين بشّر بهم وأخبر بأنهم يعملون بالهدى وإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها وفي نفس الوقت أخرج من الحديث الإمام الحسن المجتبى مع أنه خليفة بنص جده رسول الله حسبما أفادت الأخبار القطعية ، ثم أدخل يزيد بن معاوية وبني العاص الذين لعنهم رسول الله بمحكم النصوص من الفريقين.

__________________

(١) كلمة تركية مستعربة وهي : المربّية.


(٢) إن التمسك بقوله (كلّهم يجتمع عليه الأمة) ضعيف وذلك لأن تمسّك الأمة برجل لا يصلح دليلا على شرعية حكمه ، لا سيّما وأن الأكثرية ميّالة إلى الدعة والهوى وحبّ الدنيا ، مضافا إلى أن الظاهر من نسبة فعل إلى أحد صدوره منه بالاختيار دون الجبر والإكراه ، فالمراد بقوله (يجتمع) لو سلّمنا صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتماعهم بالقصد والاختيار إلّا أنه لا يصح لأحد أن يخبر عن وقوع اجتماع أهل مكة والمدينة وعظماء الفقهاء ووجوه المحدثين وبقية الصحابة وكبار التابعين على خلافة يزيد وأنهم اجتمعوا عليه واختاروه للخلافة ، أو اجتماع المسلمين على خلافة الوليد بن يزيد.

ولو بنينا على ذلك يلزم خروج أمير المؤمنين عليّ والإمام الحسن عليهما‌السلام من الخلفاء لعدم اجتماع أهل الشام عليهما مع قيام الإجماع والاتفاق على خلافتهما.

(٣) إن هذا التأويل لم يذكر في ضمنه الإمام الحجّة المهديّ عجّل الله فرجه الشريف مع نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه بالخلافة ، فإنّ عدّ في قبال الاثني عشر حينئذ يزداد عدد الخلفاء ، وظاهر تمام النصوص السابقة حصر العدد فيها وإلّا يلزم دخوله فيبطل ما عيّنوه بالوهم ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يكون في آخر الزمان خليفة يقسّم المال ولا يعدّه ، وفي تعبير آخر : يحثي المال حثيا ولا يعدّه.

(٤) ظاهر جملة من الأخبار وصريح بعضها أن بانقضاء الثاني عشر منهم ينقضي أمر الدين وتظهر علامات الساعة وتقوم أشراط القيامة والتي منها رجعة النبيّ محمّد وآله الطاهرين كما هو مفاد النصوص التي فاقت حدّ التواتر بعشرات المرات ، فرجعتهم عليهم‌السلام متمّمة ومكمّلة لسابق عدله ، ثم بعد ذلك تقوم أشراط الساعة بظهور الهرج والفساد ، فتقوم الساعة على شرار خلقه ، وما ألطف تعبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال :

«لا يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر من قريش فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها».


وعليه فلو فرض خلو زمانه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان ظهوره «عجّل الله فرجه المبارك» من خليفة منهم ، لزم عدم قيام الدين وذلته واضطراب الأرض وظهور الفتن والهرج قبل انقضاء حكم الثاني عشر ورجعة آبائه وأجداده بعده.

إن الأرجاف في حياة الإمام المهديّ عجّل الله فرجه المبارك من قبل العامة لا يضعّف من إيمان أتباعه والمعتقدين به كرسول وحجّة من الله تعالى على خلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، بل يزيدنا إصرارا على التمسّك بأذياله المقدّسة والذّب عنه بكلّ ما أوتينا من قوة ، لاعتقادنا أن الدفاع عنه هو دفاع عن الله تعالى ورسالاته.

ولم يقتصر المرجفون في حياة الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء على التشكيك بوجوده المقدّس بل زادوا في شبهاتهم للحدّ من الاعتقاد به كضرورة إلهية لا بدّ للعباد أن يتمسّكوا بها ، وما رفض هؤلاء لحياته سوى لصرف الناس البسطاء عن الإيمان بالأئمة الاثني عشر ، لأنهم لو اعتقدوا بجواز وجوده الآن لثبت حينئذ صحة الأحاديث الدالة على أنّ الإمامة حق شرعي لعليّ المرتضى وأولاده الأحد عشر.

ونحن سنذكر شبهاتهم الواهية ونردّ عليها بإذن الله تعالى ليسفر الصبح لذي عينين.

الشبهة الأولى :

إذا كان الإمام المهديّ الحجة ابن الحسن عليهما‌السلام قد ولد عام ٢٥٥ ه‍ فلما ذا ستره أبوه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام عن الناس؟

والجواب :

(١) إن استتار الإمام المهدي عليه‌السلام عن عامة الشيعة إلّا الخواص منهم آنذاك واستمرار استتاره عنهم إلى الآن حرصا عليه من القتل ، لأن بني العبّاس كانوا يتربصون بالإمام المهديّ الدوائر لعلمهم عن طريق الرواة أن الإمام المهدي عليه‌السلام


سوف يستأصل أهل العناد والتضليل ، فكانوا يخافون على أنفسهم وعلى انهيار حكمهم منه ، لذا كانوا يقتفون أثره عن طريق الحوامل ، فكل حبلى أولدت ذكرا قتلوه ، هذا مضافا إلى ملاحقته بالبحث عنه ليقتلوه ، وعليه فكيف لا يختبأ من هؤلاء دفعا للضرر المتوجه إليه من الأعداء؟

(٢) إن استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف والعقلاء ، ولا مخالفا لحكم العادات ، بل الاستتار كان سيرة الملوك والعظماء في أولادهم بل كان هذا عند البسطاء أو السّوقة من الناس ، لأسباب تقتضي ذلك لا شبهة فيها على العقلاء منها : أن يكون للإنسان ولد من جارية قد استتر تملّكها من زوجته وأهله ، فتحمل منه فيخفي ذلك عن كلّ من يشفق منه أن يذكره ، ويستره عمّن لا يأمن إذاعة الخبر به ، لئلا يفسد الأمر عليه مع زوجته بأهلها وأنصارها ، ثم إذا زال الخوف من الإخبار عنه ، أو حان وقت وفاته ، يعلن عنه ويعرّف به تحرّجا من تضييع نسبه ، وإيثارا لوصوله إلى مستحقه من ميراثه.

وقد يولد للملك ولد ولا يؤذن به حتى يترعرع ، فإن رآه على الصورة التي تعجبه يخلعن عنه وإلّا فلا ، وقد ذكر الناس عن جماعة من ملوك الفرس والروم والهند ، فسطروا أخبارهم في ذلك ، وأثبتوا قصة كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ملك الفرس الذي جمع ملك بابل والمشرق وما كان من ستر أمّه حملها وإخفاء ولادتها لكيخسرو ، والخبر بأمره مشهور وسبب ستره وإخفاء شخصه معروف ، قد ذكره علماء الفرس وأثبته محمد بن جرير الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك (١).

وقد اشتهر عن بعض الملوك إخفاءهم بعض أولادهم لضرب من التدبير في إقامة خلفاء لهم ، وامتحان جندهم بذلك في طاعتهم ، وغير ذلك مما يكثر تعداده من أسباب ستر الأولاد وإظهار موتهم واستتار الملوك أنفسهم ، والإرجاف

__________________

(١) فليراجع : تاريخ الطبري ج ١ / ٣٥٧.


بوفاتهم ، وامتحان رعاياهم بذلك ، وأغراض له معروفة قد جرت من المسلمين بالعمل عليها العادات.

وكم ظهر أولاد بعد موت آبائهم بدهر طويل ، ولم يكن أحد من الخلق يعرفهم قبل ذلك حتى شهد لهم بذلك عدول من المؤمنين ، وذلك لداع دعا الأب إلى ستر ولادته عن كل أحد من قريب وبعيد إلّا من شهد به من بعد عليه بإقراره على الستر لذلك والوصيّة بكتمانه ، أو بالفراش الموجب لحكم الشريعة إلحاق الولد بوالده.

(٣) لقد أجمع علماء الملل على ما كان من ستر ولادة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وتدبير أمّه في إخفاء أمره عن ملك زمانه لخوفها عليه منه. وكذا اتفاقهم على ستر ولادة موسى بن عمران عليه‌السلام ، وبمجيء القرآن بشرح ذلك على البيان ، والخبر بأن أمّه ألقته في اليمّ على ثقة منها بسلامته وعوده إليها ، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله جلّ وعلا لمصالح العباد.

فما الذي ينكره خصوم الإمامية من قولهم في ستر الإمام الحسن العسكري ولادة ابنه الإمام المهديّ عليهما‌السلام عن أهله وبني عمّه وغيرهم من الناس ، وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من عددناه وسمّيناه ، بل إن الله عزوجل هو الذي ستر ولادة إبراهيم وموسى حينما أخفى على الناس حمل أمّ إبراهيم وأمّ موسى فلم يبن عليهنّ أثر الحمل حفاظا منه تعالى على المولودين الكريمين.

والخبر بصحة ولادة الإمام الحجّة المهدي عليه‌السلام قد ثبتت بأوكد ما ثبت به أنساب الجمهور من الناس ، إذ كان النسب يثبت : بقول القابلة ، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهنّ بحضور ولادة النساء وتولّي معونتهم عليه ، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه ، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الابن منه.

وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة


والفقه عن الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام : أنه اعترف بولده الإمام المهديّ عليه‌السلام ، وآذنهم بوجوده ، ونصّ لهم على إمامته من بعده ، وبمشاهدة بعضهم له طفلا ، وبعضهم له يافعا وشابا كاملا ، وإخراجهم إلى شيعته بعد أبيه الأوامر والنواهي والأجوبة عن المسائل ، وتسليمهم له حقوق الأئمة من أصحابه ، وذلك موجود في كتبنا (١).

الشبهة الثانية :

إن جعفر بن عليّ «عم الإمام المهديّ عليه‌السلام» قد أنكر شهادة الشيعة بوجود ولد لأخيه أبي الحسن بن عليّ ، ولد في حياته ، وحاز تركة أخيه مدّعيا استحقاقه بميراثه له ، وتظاهر بتكذيب كلّ من ادّعى لأخيه ولدا في حياته وبعد وفاته ، حتى رفع أمر المدّعين ذلك إلى السلطان العبّاسي في عصره ، وحمله على حبس جواري الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام وإيذائهنّ باستبراء حالهنّ من الحمل ليتأكد نفيه لابن أخيه ، وإباحته دماء شيعة الإمام الحسن عليه‌السلام بادعائهم وجود خلف من بعده هو أحق بمقامه من غيره ، لا سيّما أنه لم يظهر لواحدة منهنّ حمل بعد ذلك الاستبراء ، فكل ذلك يكفي في بطلان قول الشيعة ودعواهم وجود ولد للإمام الحسن العسكري ولا أقلّ أنها شبهة تبطل دعواهم إبطالا (٢).

والجواب :

(١) إن اعتماد صاحب الشبهة على إنكار جعفر لولادة الإمام المهديّ عليه‌السلام يصادم النصوص المتواترة الدالة على ولادته وغيبته عليه‌السلام ، وليس لمسلم عرف الله ورسوله أن يجعل تلك النصوص خلف ظهره ويأخذ بقول جعفر المعلوم لدى العامة والخاصة عدم صدقه ، ولثبوت فسقه بدعوى الإمامة لنفسه بعد أخيه عليه‌السلام ،

__________________

(١) راجع : الإرشاد للمفيد ج ٢ / ٣٥١ ، والنجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب للنوري عليه الرحمة.

(٢) ذكرها ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ص ١٦٨ والسفاريني في لوائح الأنوار ج ٢ / ٧١ ، وبذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود / عبد الله الجميلي ج ١ / ٢٥٤.


فلا يجوز الأخذ بقوله لأن الله تعالى قد أمر بالتبيّن في أخبار الفاسق ، حيث قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١) فكيف يجوز الأخذ بقوله وقد خالف النصوص القطعية والنقول الثابتة وضرب بها عرض الجدار؟ ومن هذا الذي له دين يصغي إلى مقالته ويعتني بشأنه؟ اللهم إلّا من يريد أن يعاند الحق بعد وضوحه ، فلا يحسن حينئذ الكلام معه.

(٢) إن دعوى جعفر ابن الإمام الهادي عليه‌السلام وعمّ الإمام المهديّ عليه‌السلام ليست بحجّة لعدم عصمته باتفاق الأمة ، فإذا لم يكن معصوما بحيث يمتنع عليه لذلك إنكار الحق ـ وهو نفيه لابن أخيه الإمام الحسن العسكري ـ فكيف يمكن تصديقه مع مخالفته لإجماع الطائفة على وجود ولد للإمام العسكري ، هذا مضافا إلى أنه كان من جملة الرعيّة فكيف جاز تصديقه لوحده وتكذيب بقية الأفراد القائلين بوجود ولد للإمام العسكري؟! فهل جميع الأمة كاذبة وهو لوحده الصادق المصدّق؟ إنّ جعفر الذي أخذ بقوله من كان على شاكلته في الكذب هم من جملة الرعية التي يجوز عليها الزلل ، ويعتريها السهو ويقع منها الغلط ، ولا يؤمن منها تعمد الباطل ، ويتوقّع منها الضلال ، وقد نطق القرآن بما كان من أسباط يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام في ظلم أخيهم يوسف عليه‌السلام ، وإلقائهم له في غيابة الجبّ ، وتغريرهم بدمه بذلك ، وبيعهم إياه بالثمن البخس ، ونقضهم عهده في حراسته ، وتعمّدهم معصيته في ذلك وعقوقه ، وإدخال الهمّ عليه بما صنعوه بأحبّ ولده إليه وأوصلوه إلى قلبه من الغم بذلك ، وتمويههم على دعواهم على الذئب أنه أكله بما جاءوا به على قميصه من الدم ، ويمينهم بالله العظيم على براءتهم مما اقترفوه من الإثم ، وهم لما أنكروه متحقّقون ، ويبطلان ما ادّعوه في أمر يوسف عليه‌السلام عارفون ، وهؤلاء من أقرب الخلق نسبا بنبيّ الله وخليله إبراهيم ، فما الذي ينكر ممن هو دونهم في الدنيا

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.


والدين أن اعتمد باطلا يعلم خطؤه فيه على اليقين ، ويدفع حقا قد قامت عليه الحجج الواضحة والبراهين.

(٣) إن دواعي جعفر لإنكار ابن أخيه الحجّة المنتظر عليه‌السلام من الأمور المعلومة ، فإنه بذلك يحوز تركة أخيه دونه ، مع جلالتها وكثرتها وعظم خطرها ، لتعجّل المنافع بها ، والنهضة بمآربه عند تملّكها ، وبلوغ شهواته من الدنيا بحيازتها ، وادعائه مقام الإمامة محل أخيه الإمام الحسن العسكري وهو عليه‌السلام في جلالة القدر عند جميع الناس بمكان لا ينكر ، وأنه المستحق له دون غيره ، هذا مضافا إلى طمعه في جمع المال والزكوات التي كان يأتي بها الشيعة من أقطار الأرض إلى الإمام عليه‌السلام ليوزّعها على الفقراء والمستحقين ، هذا وإضعافه دعاه إلى ارتكاب الضلال في إنكار ابن أخيه ، ودفعه له عن حقه ، ومثل من تشبّث بإنكار جعفر لابن أخيه كمثل من تشبّث من الكفار والمشركين بدعوى أبي لهب عمّ النبيّ ببطلان نبوة النبيّ محمّد وجحودها ، مع مشاركة أكثر بني هاشم وبني أميّة لأبي لهب واجتماعهم على عداوة النبيّ ، وتجريدهم السيف في حربه ، واجتهادهم في استئصاله ومتبعيه على ملته ، هذا مع ظهور حجته ووضوح برهانه في نبوته ، وضيق الأفق في معرفة ولادة الحجّة بن الحسن على جعفر وأمثاله من البعداء عن العلم بحقيقته لا يستلزم إنكار شخصيته عجّل الله فرجه الشريف ، ومن صار في إنكار شيء أو إثباته أو صحته وفساده إلى مثل التعلق بجعفر بن عليّ في جحد وجود خلف لأخيه ، وما كان من أبي جهل وشركائه من أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجيرانه وأهل بلده والناشئين معه في زمانه في دفع نبوته وإنكار صدقه في دعوته ، سقط كلامه عند العلماء ولم يعد في جملة الفقهاء ، وكان في أعداد ذوي الجهل والسفهاء.

ونزيد على ما ذكرنا من الأسباب الداعية إلى إنكار جعفر لابن أخيه ودفعه له عن حقه أدلة واضحة على بطلان قوله ، ما رواه الثقات عن أحوال جعفر بن عليّ في حياة أخيه أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، وأسباب إنكاره خلفا له من بعده


وجحد ابن أخيه ، وحمل السلطان على ما سار به في مخلّفيه وشيعته ، من هذه الأخبار :

* ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رحمه‌الله أن يوصل إليه ـ للحجّة المنتظر عليه‌السلام ـ سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام :

أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك الله من أمر المنكرين من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنه ليس بين الله عزوجل وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس مني ، وسبيله سبيل ابن نوح ، وأما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه‌السلام (١).

* وعن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي خالد الكابلي قال : سألت عليّ بن الحسين صلوات الله عليه : من الحجّة والإمام بعدك؟ فقال : ابني محمّد ، واسمه في التوراة الباقر يبقر العلم بقرا هو الحجّة والإمام بعدي ، ومن بعد محمّد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق. فقلت له : يا سيّدي كيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون؟ فقال : حدّثني أبي ، عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه ، فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله ، المدّعي لما ليس له بأهل ، المخالف على أبيه ، والحاسد لأخيه ذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله.

ثم بكى عليّ بن الحسين عليهما‌السلام بكاء شديدا ثم قال : كأني بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله ، والمغيّب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته ، وحرصا على قتله إن ظفر به ، طمعا في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقه (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٢٢٧ ح ١.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٦ / ٣٨٦ ح ١ وج ٥٠ / ٢٢٧ ح ٢.


* وعن سعد بن عبد الله الأشعري عن الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري رحمة الله عليه أنه جاءه بعض أصحابنا يعلمه بأن جعفر بن عليّ كتب إليه كتابا يعرّفه نفسه ، ويعلمه أنه القيّم بعد أخيه ، وأن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلّها.

قال أحمد بن إسحاق : فلما قرأت الكتاب ، كتبت إلى صاحب الزمان عليه‌السلام وصيّرت كتاب جعفر في درجه فخرج إليّ الجواب في ذلك :

«... وقد ادّعى هذا المبطل ـ يقصد جعفر عمّه ـ المدّعي على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأية حالة هي له رجاء أن يتم دعواه أبفقه في دين الله ، فو الله ما يعرف حلالا من حرام ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم فما يعلم حقا من باطل ، ولا محكما من متشابه ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها ، أم بورع فالله شهيد على تركه لصلاة الفرض أربعين يوما يزعم ذلك لطلب الشعبذة ، ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهودة قائمة ، أم بآية فليأت بها أم بحجّة فليقمها أم بدلالة فليذكرها ... فالتمس تولّى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك ، وامتحنه واسأله آية من كتاب الله يفسّرها أو صلاة يبيّن حدودها ، وما يجب فيها لتعلم حاله ومقداره ويظهر لك عواره ونقصانه والله حسيبه ..» (١).

* وعن سعد عن جعفر بن محمّد بن الحسن بن الفرات عن صالح بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن زياد ، عن أمّه فاطمة بنت محمّد بن الهيثم المعروف بابن سبانة قالت : كنت في دار أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام في الوقت الذي ولد فيه جعفر فرأيت أهل الدار قد سرّوا به ، فصرت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فلم أره مسرورا بذلك ، فقلت له : يا سيّدي ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٢٣٩ ح ٣.


فقال عليه‌السلام : يهون عليك أمره ، فإنه سيضلّ خلقا كثيرا (١).

وبالجملة : فإنّ جعفر بن عليّ قد ادّعى الإمامة لنفسه وكان يجبر الناس على إطاعته والقول بإمامته بل سأل وزير الخليفة العبّاسي آنذاك أن يعرفه بأنه وارث أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام ، ليثبت له عند الناس العوام إمامته ، فزبره الوزير عن ذلك واستخف به حسبما جاء في خبر أحمد بن عبيد الله الخاقان فليراجع (٢).

الشبهة الثالثة :

ورد في خبر (٣) أحمد بن عبيد الله بن خاقان أن الإمام أبا محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام قد أوصى في مرضه الذي توفي فيه إلى والدته المكناة بأمّ الحسن رضي الله عنها بوقوفه وصدقاته ، وإسناد النظر في ذلك إليها دون غيرها.

«فقد دلت هذه الرواية على بطلان ولادة المهديّ المزعوم ، ولا يستطيع الرافضة أن ينكروا هذه الرواية أو الطعن فيها وذلك لورودها في أكثر من مصدر من مصادرهم الموثقة والمعتمدة عندهم ، وقد رواها عدة من كبار رجالات الرافضة في الحديث والتفسير والتاريخ أمثال : الكليني في الكافي ، والمفيد في الإرشاد والطبرسي في أعلام الورى ، والاربلي في كشف الغمة ، والمجلسي في جلاء العيون وابن الصبّاغ في الفصول المهمة والقمي في منتهى الآمال» (٤).

والجواب :

(١) إن عبارة [وتوقفوا عن قسمة ميراثه ... فلما بطل الحمل عنهنّ قسّم ميراثه بين أمّه وأخيه جعفر وادّعت أمّه وصيته وثبت ذلك عند القاضي ..] غير

__________________

(١) نفس المصدر ح ٥.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٣٢٥ ح ١ باب شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام ح ١ ، وأصول الكافي ج ١ / ٥٠٣ ح ١.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٥٠٣ ح ١.

(٤) راجع : بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود / للزنديق الناصبي عبد الله الجميلي ج ١ / ٢٦٨.


موجودة في الإرشاد ولا في أعلام الورى والفصول المهمة ، وهذه الكتب من المصادر الموثوقة عندنا نحن الشيعة ، فكيف يدّعي الجميلي وجود الرواية بتمامها في مصادرنا؟! وعلى فرض وجودها في بقية الكتب والمصادر فإن أصحابها رووها عن الكليني في الكافي ، وليس كلّ ما في الكافي يعتبر صحيحا وموثقا ، فهناك الأسانيد الضعاف والمراسيل ، فلم يدّع أحد من علماء الشيعة صحة كل ما في الكتاب المذكور ، نعم جلّ ما فيه موافق للأصول عندنا ، والشاذّ إن أمكن تأويله أخذنا به وإلّا فيضرب به عرض الجدار.

(٢) لقد عرف أحمد بن عبيد الله بن خاقان بالنصب والعداوة لآل البيت عليهم‌السلام وقد ذكر الكليني والمفيد في كتابيهما (١) الكافي والإرشاد أن الرجل كان شديد النصب كما لم يوثّقه أحد على الاطلاق ، فالرجل لا شك أنه من الضعاف كما نص على ذلك أيضا علماء الرجال منهم صاحب الوجيزة والحاوي فلاحظ (٢).

وعليه فلمّا كان الرجل ناصبيّا ولا أحد من الإمامية يأخذ بقوله ، فكيف حينئذ ينسب عبد الله الجميلي الناصبيّ ومن كان على شاكلته الحديث إلى ثقاة الإمامية في مصادرهم المعتبرة؟!!

(٣) وعلى فرض صحة ما في الخبر فإن فيه شيئا من التقية والمصلحة حفاظا على المولود المبارك وصونا لنقض الغرض ، «ولو ذكر في وصيّته ولدا له وأسندها إليه ، لناقض ذلك الغرض منه ، ونافى مقصده في تدبير أمره له ، وعدل عن النظر بولده وأهله ونسبه ، لا سيّما مع اضطراره كان إلى شهادة خواصّ الدولة العبّاسية

__________________

(١) قال الكليني في الكافي ج ١ / ٥٠٣ في صدر الحديث الأول : باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام : كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم ، فجرى في مجلسه يوما ذكر العلوية ومذاهبهم وكان شديد النصب. وقال المفيد في الإرشاد ج ٢ / ٣٢١ : «.. وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام.

(٢) تنقيح المقال للممقاني ج ١ / ٦٧.


عليه في الوصيّة وثبوت خطوطهم فيها ـ كالمعروف بتدبر مولى الواثق وعسكر الخادم مولى محمّد بن المأمون والفتح بن عبد ربّه وغيرهم من شهود قضاة سلطان الوقت وحكّامه ـ لما قصد بذلك من حراسة قومه ، وحفظ صدقاته ، وثبوت وصيته عند قاضي الزمان ، وإرادته مع ذلك الستر على ولده وإهمال ذكره ، والحراسة لمهجته بترك التنبيه على وجوده ، والكفّ لأعدائه بذلك عن الجدّ والاجتهاد في طلبه ، والتنزيه عن شيعته لما يشنّع به عليهم من اعتقاد وجوده وإمامته.

ومن اشتبه عليه الأمر فيما ذكرناه ، حتى ظن أنه دليل على بطلان مقال الإمامية في وجود ولد للحسن عليه‌السلام مستور عن جمهور الأنام ، كان بعيدا عن الفهم والفطنة ، بائنا عن الذكاء والمعرفة ، عاجزا بالجهل عن التصوّر أحوال العقلاء وتدبيرهم في المصالح وما يعتمدونه في ذلك من صواب الرأي وبشاهد الحال ، ودليله من العرف والعادات.

وقد تظاهر الخبر فيما كان عن تدبير أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام وحراسته ابنه موسى بن جعفر عليه‌السلام بعد وفاته من ضرر يلحقه بوصيته إليه ، وأشاع الخبر عن الشيعة إذ ذاك باعتقاد إمامته من بعده ، والاعتماد في حجّتهم لذلك على إقراره بوصيته مع نصّه عليه بنقل خواصه ، فعدل عن إقراره بالوصية عند وفاته ، وجعلها إلى خمسة نفر : أولهم المنصور وقدّمه على جماعتهم إذ هو سلطان الوقت ومدبّر أهله ، ثم صاحبه الربيع من بعده ، ثم قاضي وقته ، ثم جاريته وأمّ ولده حميدة البربرية ، وختمهم بذكر ابنه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، يستر أمره ويحرس بذلك نفسه ، ولم يذكر مع ولده موسى أحدا من أولاده ، لعلمه بأنّ منهم من يدّعي مقامه من بعده ، ويتعلق بإدخاله في وصيته. ولو لم يكن موسى عليه‌السلام ظاهرا مشهورا في أولاده ، معروف المكان منه وصحة نسبه واشتهار فضله وعلمه وحكمته وامتثاله وكماله ، بل كان مثل ستر الحسن عليه‌السلام ولده ، لما ذكره في وصيته ، ولاقتصر على ذكر غيره ممن سمّينا ، لكنه ختمهم في الذكر به كما بيناه.

وهذا شاهد لما وصفناه من غرض أبي محمّد عليه‌السلام في وصيته إلى والدته


دون غيرها ، وإهمال ذكر ولد له ، ونظر له في معناه على ما بيّناه» (١).

الشبهة الرابعة :

لقد عاش أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الاضطهاد والتقية من ملوك بني أميّة وبني العبّاس لعنهم الله تعالى ومع هذا لم يغب أحد منهم ولا خفيت ولادته ولا ستر وجوده من أحد من الناس ، هذا مع التأكيد على أن الأئمة عليهم‌السلام عاشوا في عصور حالكة ، كانت التقية فيها أشدّ من عصر الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ولم يحدث منهم أنهم ستروا أولادهم خوفا من اولئك الطغاة اللئام ، وعليه فما الداعي إلى أن يستر الإمام العسكري عليه‌السلام ابنه الإمام المهديّ عليه‌السلام عن الناس ويخفي أمره؟!

وبعبارة أخرى : أن الشبهة تستبعد على الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام إلى ستر ولده ، وتدبير الأمر في إخفاء شخصه ، ونهيه عليه‌السلام لشيعته عن تسميته وذكره ، مع كثرة الشيعة في زمانه وانتشارهم في البلاد وثرائهم وحسن حالهم ، وقد صعب الزمان فيما سلف على آبائه عليهم‌السلام واعتقاد ملوكه فيهم ، وشدة غلظتهم على المعتقدين بإمامتهم ، واستحلالهم الدماء والأموال ، ولم يدعهم ذلك إلى ستر ولدهم ولا مؤهّل الأمر من بعدهم!

والجواب :

١ ـ إن علة عدم تعرّض ملوك بني أميّة وبني العبّاس لأولاد أئمتنا عليهم‌السلام هي عدم خروج الأئمة وأولادهم بالسيف على ولاة أزمانهم ، فكان الطواغيت في مأمن من ذلك ، هذا مضافا إلى أن الأئمة عليهم‌السلام أنفسهم كانوا يعملون بالتقية ويحرّمون الخروج بالسيف عليهم لعدم التكافؤ بينهم وبين أعدائهم من حيث القوة والعدّة والعدد ، ومع هذا لم يسلم أحد منهم من طغاة زمانهم ، فكان لكلّ واحد منهم عليهم‌السلام من يطارده ويؤذيه ، فسجن منهم من سجن حتى لم يخرج أحد من الدنيا إلّا مقتولا أو مسموما. فكان سكون الأئمة وعملهم بالتقية هم وأصحابهم

__________________

(١) الفصول العشرة في الغيبة / الشيخ المفيد ص ٦٩ ـ ٧٢.


وشيعتهم للأمر الذي ذكرنا ، وتأكيدهم على شيعتهم أن يلزموا السكون إلى أن يسمع النداء من السماء باسم الإمام المهديّ ويخسف بالبيداء بجيش السفياني ، فيخرج إمام الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل.

٢ ـ إن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون الخصوصية التي يمتاز بها الإمام المهديّ روحي فداه عن بقية الأئمة عليهم‌السلام من حيث ورود الأخبار الكثيرة بشأنه من الرسول الأكرم جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ الله عزوجل يطهّر به الأرض من الجور والظلم ، ويبيد العتاة والمردة من الحكام والظالمين والفسقة والكافرين ، وكل هذا بدوره عاملا قويا يساعد في ملاحقة السلطات الظالمة للإمام المهديّ الموعود وتتبع حركاته ونشاطه ، وبالأخير إلى القبض عليه وقتله إن سنحت لهم الظروف بذلك ، ونظير هذا ما وقع لنبيّ الله موسى بن عمران عليه‌السلام مع طاغية زمانه فرعون ، فإنه كان يذبح أبناءهم بغية العثور على موسى عليه‌السلام لئلا يكون زوال ملكه وسلطانه على يده ، هذا مضافا إلى أن الله عزوجل غيّب وليّه الأعظم حفاظا عليه من القتل لقلة أنصاره ، ولأن الحاجة إليه ستكون مستمرة ليس لبضع سنين كما حصل لآبائه الميامين ، بل تتعداها إلى مئات أو آلاف السنين ، لكونه في حكمة الله عزوجل الثاني عشر الذي ختمت به الإمامة والولاية فلا إمام بعده على ما نطقت به أحاديث الفريقين كما ختمت النبوة بجدّه رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا نبيّ بعده ، حتى عيسى فقد بطلت نبوته التشريعية وبقيت التسديدية. وقد أشرنا إلى بعض الأخبار الدالة على ذلك منها الحديث المتواتر : «لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش». وهو صريح في أن الأئمة اثنا عشر لا يزيدون واحدا ولا ينقصون وإلّا لزم الكذب في أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو باطل إجماعا ، وأنه لا بدّ من رجل من أهل البيت عليهم‌السلام في كل زمان هو بحكم القرآن في وجوب التمسك به ، كما نص عليه حديث الثقلين المتواتر نقله عن نيف وعشرين صحابيا أو أكثر كما في سنن الترمذي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن تمسّكتم بهما لن تضلوا ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ


الحوض» وهو نصّ في وجود الإمام الثاني عشر الذي لا يفارق القرآن ، ولا القرآن يفارقه ما دامت الدنيا ، وإلا لو لم يكن هناك إمام ثاني عشر لخلت أزماننا من الإمام وهو خلف ما جاء في الحديث المتواتر أعلاه ، وخلف حديث «الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش».

الشبهة الخامسة :

١ ـ إن الإمام المهديّ عليه‌السلام إلى وقتنا الحاضر مستتر لا يعرف أحد مكانه ولا يعلم مستقره ، ولا يأتي واحد بخبره ، وغيبته خارجة عن العادة والعرف ، إذ لم تجر العادة لأحد من الناس بذلك ، إذ كان كلّ من اتفق له الاستتار عن ظالم لخوف منه على نفسه ولغير ذلك من الأغراض ، تكون مدة استتاره مرتّبة بمدة زمنية محدودة ، وعليه فإنّ دعوى الإمامية في غيبة إمامهم منذ ولد إلى الآن خارجة عن العادة لدى العقلاء يلزم منها بطلان ما ذهبوا إليه من قيام الحجّة المنتظر عليه‌السلام.

يورد عليها :

إن توهم الخصم كون الشيعة الإمامية لا يعلمون مكانه ومحل استقراره ، ولا يعرفون أثره أو لا يمكن الوقوف على خبره دعوى لا تستند على حجة أو دليل ، لا سيّما إطلاق القول على كافة الشيعة بعدم الوقوف على خبره أو أثره ، ومن هذا من الشيعة الذي قال إنه لا يعرف لإمامه أثرا ولا يقف على شخصه الميمون خبرا ، ومن الذي ادّعى من الشيعة أن الإمام المهدي لم يعرف مكانه يوم ولد؟ وفي أيّ كتاب هو مسطور؟! ليكون دليلا على صدق دعواه ، أجل! الله يعلم ، والشيعة العارفون المخلصون يعلمون أن الإمام ولد في سامراء وأن جماعة من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قد شاهدوا الإمام المنتظر عجّل الله فرجه الشريف ، مضافا إلى أن السفراء والوسائط بين الإمام المهديّ وبين شيعته دهرا طويلا في استتاره ، ينقلون إلى الشيعة من الإمامعليه‌السلام معالم دينهم ، ويخرجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه ، ويقبضون منهم حقوقهم لديهم.


وممن رآه جماعة كان الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام وثّقهم وعدّلهم في حياته ، واختصهم أمناء له في وقته ، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه ، معرفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم : كأبي عمرو عثمان بن سعيد السمّان وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان وبني الرحبا من نصيبين وبني سعيد ، وبني مهزيار بالأهواز وبني الركولي بالكوفة وبني نوبخت ببغداد ، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرها من الجبال ، مشهورون بذلك عند الإمامية والزيدية ، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامة ، وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة ، وكان السلطان يعظم أقدارهم بجلالة محلّهم في الدنيا ، ويكرمهم لظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم ، حتى أنه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم ظنا منه بحسن سريرتهم واعتقاده ببطلان ما ينسب إليهم ، وذلك لأنهم كانوا مستترين في حالهم واعتقادهم إلى الغاية ، ومتكتمين لجودة آرائهم وصواب تدبيرهم إلى النهاية ، فما كان يظهر منهم ما يوجب إهانتهم والاستخفاف بحقوقهم ، أما بعد موت هؤلاء الأخيار والأمناء الأبرار فقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهما‌السلام بأنه لا بدّ للإمام المنتظرعليه‌السلام من غيبتين : إحداهما أطول من الأخرى ، يعرف خبره الخواص من شيعته في الغيبة الصغرى ، ولا يعرف أحد من العامة له مستقرا في الغيبة الكبرى إلّا من قام بخدمته من ثقاة أوليائه ، ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.

والأخبار بذلك مستفيضة في مصنفات الشيعة الإمامية قبل مولد الإمام المهدي وأبيه وجدّهعليهم‌السلام ، وظهر حقها عند مضي الوكلاء والسفراء الذين سميناهم رحمهم‌الله ، وظهر صدق رواتها بالغيبة الكبرى ، فكان ذلك من الآيات الباهرات في صحة ما ذهبت إليه الإمامية ودانت به في معناه ، وقد أثبت العلّامة النوري «أعلى الله مقامه» في كتابه القيّم «جنّة المأوى» العديد من الأفراد الممحصين الذين تشرفوا بلقاء الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام فليراجع.

٢ ـ إنّ خروج جماعة من الناس عن حكم العادة في استتارهم مئات السنين


هو بتدبير الله تعالى في ذلك لمصالح خلقه لا يعلمها إلّا هو ، وامتحان لهم بذلك في عبادته ، مع أنّا لم نحط علما بأنّ كلّ غائب عن الخلق مستترا بأمر دينه يقصده عنهم ، يعرف جماعة من الناس مكانه ويخبرون عن مستقره. وكم وليّ لله تعالى يقطع الأرض بعبادة ربّه تعالى والتفرّد من الظالمين بعمله ، ونأى بذلك عن دار المجرمين ، وفر بدينه عن محل الفاسقين ، لا يعرف أحد من الخلق له مكانا ولا يدّعي إنسان له لقاء ولا معه اجتماعا ، نظير هذا هو الخضر عليه‌السلام موجود قبل زمان موسى عليه‌السلام إلى يومنا هذا ، بإجماع أهل النقل واتفاق أصحاب السير والأخبار ، سائحا في الأرض ، لا يعرف له أحد مستقرا ولا يدّعي له اصطحابا ، إلّا ما جاء في القرآن به من قصته مع موسى عليه‌السلام ، وما يذكره بعض الناس على أنه يظهر أحيانا ولا يعرف ، ويظن بعض من رآه أنه بعض الزّهاد ، فإذا فارق مكانه توهّمه المسمّى بالخضر ، وإن لم يكن يعرف بعينه في تلك الحال. وقد كان من غيبة موسى عليه‌السلام عن وطنه وفراره عن رهطه ما قصّ خبره القرآن ، ولم يظهر عليه أحد مدة غيبته عنهم فيعرف له مكانا ، حتى ناجاه الله عزوجل وبعثه نبيّا ، فدعا إلى توحيد الله وطاعته ، وعرفه أولياؤه وأعداؤه.

وكان من قصة يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام ما جاءت به سورة كاملة بمعناه وتضمنت ذكر استتار خبره عن أبيه ، وهو نبيّ الله تعالى يأتيه الوحي منه سبحانه صباحا ومساء ، وأمره مطوي عنه وعن إخوته ، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه ويلقونه ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه ، حتى مضت على ذلك السنون وانقضت فيه الأزمان ، وبلغ من حزن أبيه عليه‌السلام لفقده ، ويأسه من لقائه ما أوجب انحناء ظهره وأنهك به جسمه ، وذهب لبكائه عليه بصره ، وليس في زماننا الآن مثل ذلك ، ولا سمعنا بنظير له في سواه.

وكان أيضا من أمر يونس نبيّ الله عليه‌السلام مع قومه وفراره عنهم عند تطاول المدة في خلافهم عليه واستخفافهم بحقوقه ، وغيبته عنهم لذلك عن كلّ أحد من الناس حتى لم يعلم أحد مكانه إلّا الله تعالى وحده إذ كان المتولّي لحبسه في جوف


حوت في قرار بحر ، وقد أمسك عليه رمقه حتى بقي حيّا ، ثم أخرجه من ذلك إلى تحت شجرة من يقطين.

وهذا أيضا خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا ، وقد نطق به القرآن المجيد ، وأجمع عليه أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان.

ونظير ما ذكرنا قصة أصحاب الكهف ، وقد نزل القرآن بخبرهم وشرح أمرهم في فرارهم بدينهم من قومهم والتجائهم إلى كهف ناء عن بلدهم ، فأماتهم الله فيه وبقي كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد ، ودبّر أمرهم في بقاء أجسامهم على حال لا يلحقها تغيّر ، فكان يقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال كالحي الذي يتقلّب في منامه بالطبع والاختيار ، ويقيهم حرّ الشمس التي تغيّر الألوان ، والرياح التي تمزّق الأجساد فبقوا على ذلك ثلاث مائة سنة وتسع سنين على ما جاء به الذكر الحكيم ، ثم أحياهم فعادوا إلى معاملة قومهم ومبايعتهم ، وأنفذوا إليهم بورقهم إلى آخر قصتهم ، مع استتار أمرهم عن قومهم وطول غيبتهم وخفاء أمرهم عليهم.

وليس في عادتنا مثل ذلك ولا عرفناه ، ولو لا أن القرآن جاء بذكر هؤلاء القوم وخبرهم وما ذكرناه من حالهم لتسرّعت الناصبة إلى إنكار ذلك كما يتسرّع إلى إنكاره الملحدون والزنادقة والدهريون ويحيلون صحة الخبر به إلى غير المقدور. كما أن القرآن ذكر صاحب الحمار الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فاستبعد عمارتها وعودها إلى ما كانت عليه ورجوع الموتى منها بعد هلاكهم بالوفاة ف (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) (١) وبقي طعامه وشرابه بحاله لم يغيّره تغيير طبائع الزمان ، فلمّا تبيّن له ذلك من خلال ما أراه الله عزوجل من الآيات الأخر بقوله (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وهذا منصوص عليه في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٩.


المسلمون وأهل الكتاب ، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا ، منكر عند الملحدين ومستحيل على مذهب الدهريين والمنجمين وأصحاب الطبائع من الكفار والزنادقة والمتفلسفين. وهل يمكن للمسلمين المنكرين لحياة الحجّة المنتظر «عجّل الله فرجه الشريف» أن يتركوا كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الزنادقة والملحدين حكموا باستحالته؟! على أن ما تعتقده الشيعة الإمامية في تمام استتار مولاهم الإمام المهدي روحي له الفداء وغيبته ومقامه على ذلك أقرب في العادات والعقول مما أوردناه من أخبار المذكورين في القرآن ، فأيّ طريق للمقرّ بالإسلام إلى إنكار مذهبنا في ذلك لو لا أنه بعيد عن شريعة سيد المرسلين ، تتحكم به الأهواء والشياطين.

على أن المنكر لو تصفّح كتب التأريخ وسير الآثار لوقف على غيبات كثيرين من ملوك الفرس عن رعاياهم دهرا طويلا لضروب من التدبيرات ، لم يعرف أحد لهم فيها مستقرا ولا عثر لهم على موضع ولا مكان ، ثم ظهروا بعد ذلك وعادوا إلى ملكهم بأحسن حال ، وكذلك جماعة من حكماء الروم والهند وملوكهم ، وكم كانت لهم غيبات وأخبار بأحوال تخرج عن العادات ، جاء على ذكرها المؤرخون لم نتعرّض لذكرها ، لعلمنا بتسرّع الخصوم إلى إنكاره تعصّبا وعنادا منهم تارة ، ودفعا لصحة الأخبار به تارة أخرى ، وتعويلهم في إبطاله على بعده من عاداتهم وذلك لضعف عقولهم وإيمانهم بقدرة الله تعالى ، وحسدا وبغضا لأهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، وقد اعتمدنا القرآن فيما يحتاج إليه منه ، وإجماع أهل الإسلام لإقرار الخصم بصحة ذلك وأنه من عند الله تعالى ، لعدم قدرتهم على تكذيب ما ورد من الذكر الحكيم بشأن من ذكرنا ، هذا مضافا إلى اعترافهم بحجة الإجماع ، وإن كان كثير منهم لا ينزل على حكم الكتاب والإقرار به ، بل يتأوّلون الآيات ويحرّفون الكلم حبا للعناد واللجاج ، قال تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦) (١).

__________________

(١) سورة طه : ١٦.


الشبهة السادسة :

اقتضت العادة فساد قول الإمامية في دعواها بطول عمر الإمام المهديّ عليه‌السلام وبقائه حيّا إلى يومنا هذا وإلى وقت ظهوره مع تكامل قواه البدنية مع بقاء صفته وما له عليه‌السلام من وفور العقل والقوة والشباب والمعارف بأحوال الدين والدنيا ، كل هذا بخلاف حكم العادات في أحوال البشر وما يعتريه من الشيب والضعف والشيخوخة ، وما يوجب قطع حبل حياته ، يدلّ على فساد معتقدهم فيه.

يرد عليها :

إن خرج عمّا نعهده نحن الآن من أحوال البشر ، فليس بخارج عن عادات سلفت لشركائه في البشرية وأمثاله في الإنسانية. وما جرت به العادة في بعض العصور الخالية لم يمتنع وجوده في غيرها ، وكان حكم مستقبلها كحكم ماضيها على البيان ، ولو لم تجر العادة بذلك جملة ، لكانت الأدلّة على أن الله تعالى قادر على فعل ذلك تبطل توهّم المخالفين للحق فساد القول به وتكذيبهم في دعواهم.

وقد أطبق العلماء من أهل الملل وغيرهم أنّ آدم أبا البشر عليه‌السلام عمّر نحو الألف لم يتغيّر له خلق ولا انتقل من قوة إلى ضعف ، ولا من علم إلى جهل ولا من شباب إلى شيخوخة ، فلم يزل على صورة واحدة حتى قبضه الله تعالى إليه. هذا مع الأعجوبة في حدوثه من غير نكاح ، وخلقه من التراب ، وانتقاله من طين لازب إلى طبيعة الإنسانية ، ولا واسطة في صنعته باتفاق أهل الكتب السماوية ، والقرآن مع ذلك ناطق ببقاء نوح نبيّ الله عليه‌السلام في قومه تسعمائة سنة وخمسين للإنذار لهم خاصة ، وقبل ذلك ما كان له من العمر الطويل إلى أن بعث نبيّا من غير ضعف كان به ولا هرم ولا عجز ولا جهل ، مع امتداد بقائه وتطاول عمره في الدنيا وسلامة حواسه.

وأن الشيب أيضا لم يحدث في البشر قبل حدوثه في إبراهيم الخليل عليه‌السلام بإجماع من سميناه من أهل العلم من المسلمين خاصة. وهذا ما لا يدفعه إلّا


الملاحدة من المنجمين وشركاؤهم في الزندقة من الدهريين ، فأما أهل الملل كلّها فعلى اتفاق منهم على ما وصفناه.

والأخبار متناصرة بامتداد أيام المعمّرين من العرب والعجم والهند ، وأصناف البشر وأحوالهم التي كانوا عليها مع ذلك ، والمحفوظ من حكمهم مع تطاول أعمارهم ، ونقلوا من أشعارهم الشيء الكثير مما لا يختلف في صحته اثنان من حملة الآثار ونقلة الأخبار ، وقد صنّف المؤرخ العامي الشيخ السجستاني كتابا سماه : «المعمرون» سجّل فيه جماعة تنوف أعمارهم على مئات السنين ، عدا عمّا ذكره مصنفون أجلّاء من علماء الإمامية فليراجع (١).

فمن هؤلاء المعمّرين :

ـ لقمان بن عاد الكبير ؛ وكان أطول الناس عمرا بعد الخضر عليه‌السلام ، وذلك أنه عاش على رواية العلماء بالأخبار ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة ، وقيل أنه عاش عمر سبعة أنسر ، وكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في الجبل فيعيش النسر منها ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فرباه ، حتى كان آخرها لبد ، وكان أطولها عمرا ، فقيل : طال الأمد على لبد.

وفيه يقول الأعشى :

لنفسك إذ تختار سبعة أنسر

إذا ما مضى نسر خلدت إلى نسر

فعمّر حتى خال أنّ نسوره

خلود وهل تبقى النفوس على الدهر

وقال لأدناهنّ إذ حلّ ريشه

هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري

 ـ ومنهم ربيع بن ضبيع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة. عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة ، وأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يسلم. وهو الذي يقول وقد طعن في ثلاثمائة سنة :

__________________

(١) الغيبة للطوسي ص ١١٣ ـ ٣٢٣ وكمال الدين ج ٢ / ٥٢٣ ب ٤٦ ، البحار ج ٥١ / ٢٢٥ ـ ٣٩٣ ب ١٤ ، تقريب المعارف ص ٢٠٧ ـ ٢١٤ ، كنز الفوائد ج ٢ / ١١٤ ـ ١٣٤.


صبح منّي الشباب قد حسرا

إن ينأ عنّي فقد ترى عصرا

والأبيات معروفة ..

وهو الذي يقول (١) أيضا منه :

ذا كان الشتاء فأدفئوني

فإنّ الشيخ يهدمه الشتاء

وأما حين يذهب كلّ قرّ

فسربال خفيف أو رداء

إذا عاش الفتى مأتين (٢) عاما

فقد أودى المسرّة والفتاء

 ـ ومنهم : المستوغر بن ربيعة بن كعب. عاش ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين سنة وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي

وعمرت من عدد الشهور سنينا

 ـ ومنهم : أكثم بن صيفي الأسدي. عاش ثلاثمائة وثمانين سنة ، وكان ممّن أدرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن به ومات قبل أن يلقاه ، وله أحاديث كثيرة وحكم وبلاغات وأمثال. وهو القائل:

وإنّ امرأ قد عاش تسعين حجّة

إلى مائة لم يسأم العيش جاهل

خلت مائتان بعد عشر وفائها

وذلك من عدّى ليال قلائل

وكان والده صيفي بن رياح بن أكثم أيضا من المعمّرين. عاش مائتين وستة وسبعين سنة ، ولا ينكر من عقله شيء ، وهو المعروف بذي الحلم الذي قال فيه المتلمّس اليشكري :

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

__________________

(١) المسائل العشرة ص ٩٦ وكمال الدين ج ٢ / ٥٥٠.

(٢) ظ : مائتي عام.


ـ ومنهم : ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو. عاش مائتي وعشرين سنة فلم يشب قطّ ، وأدرك الإسلام ولم يسلم.

وروى أبو حاتم والرياشي عن العتبي عن أبيه أنه قال : مات ضبيرة السهمي وله مائتا سنة وعشرون سنة ، وكان أسود الشعر صحيح الأسنان.

ورثاه ابن عمّه قيس بن عدي فقال :

من يأمن الحدثان بع

د ضبيرة السّهميّ ماتا

سبقت منيّته المشي

ب وكان ميتته افتلاتا

فتزوّدوا لا تهلكوا

من دون أهلكم خفاتا

 ـ ومنهم : دريد بن الصمّة الجشمي. عاش مائتي سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم ، وكان قوّاد المشركين يوم حنين ومقدّمهم ، حضر حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتل يومئذ.

ـ ومنهم : محصّن بن عتبان بن ظالم الزبيدي. عاش مائتي وخمسة وخمسين سنة.

ـ ومنهم : عمرو بن حممة الدوسي. عاش أربعمائة سنة ، وهو الذي يقول :

كبرت وطال العمر حتى كأنني

سليم أفاع ليله غير مودع

فما الموت أفناني ولكن تتابعت

عليّ سنون من مصيف ومربع

ثلاث مئات قد مررن كواملا

وها أنا هذا أرتجي نيل أربع

 ـ ومنهم : الحرث بن مضاض الجرهميّ. عاش أربعمائة سنة ، وهو القائل :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

والفرس تزعم أن قدماء ملوكها جماعات طالت أعمارهم وامتدت وزادت في الطول على أعمار من أثبتنا اسمه من العرب ، ويذكرون أنّ من جملتهم الملك


الذي استحدث المهرجان ، عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة.

فلو لم يكن من جملة المعمّرين إلّا من التنازع في طول عمره مرتفع ، وهو سلمان الفارسي رحمة الله عليه ، وأكثر أهل العلم يقولون بأنه رأى المسيح ، وأدرك النبي صلوات الله عليه وآله ، وعاش بعده ، وكانت وفاته في وسط أيام عمر بن الخطاب ، وهو يومئذ القاضي بين المسلمين في المدائن ، ويقال : إنه كان عاملها وجابي خراجها ، وهذا أصح (١).

وزبدة المخض : أن القول بطول عمر الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام واقع تحت قدرة الله تعالى ، وليس الإمام عليه‌السلام الوحيد من بين مخلوقات الله ممن خصّه الله بذلك ، ولا يعتبر القول بطول العمر من الموبقات حتى يعيّر به الشيعة أو ينسب قائله إلى الهذيان والجنون (٢) ، وعليه فإن كل من دان بما تدين به الشيعة فهو مجنون على حدّ تعبير السفاريني الحنبلي ، وفي مقابل هذا الضال المضلّ ، نطق الحقّ على لسان العلّامة محمّد بن طلحة النصيبي الشافعي إذ قال :

«وأما عمره فإنه ولد في أيام المعتمد على الله ، خاف فاختفى وإلى الآن فلم يمكن ذكر ذلك إذ من غاب وإن انقطع خبره لا يمكن الحكم بمقدار عمره ولا بانقضاء حياته وقدرة الله واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة عامة ، ولو رام عظماء العلماء أن يدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ... وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد الله المخلصين ولا امتداد عمره إلى حين فقده مدّ الله تعالى أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه ، فمن الأصفياء عيسى عليه‌السلام ، ومنهم الخضر ، وخلق آخرون من الأنبياء طالت أعمارهم حتى جاز كلّ واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح عليه‌السلام وغيره ، وأما من الأعداء المطرودين فإبليس والدّجال ، ومن غيرهم كعاد الأولى كان فيهم

__________________

(١) المسائل العشرة / الشيخ المفيد ص ١٠٣ والغيبة / الشيخ الطوسي ص ٢٧٩ ، تقريب المعارف ص ٢٠٧.

(٢) لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للسفاريني الحنبلي ج ٢ / باب المهدي اسمه ونسبه.


من عمره ما يقارب الألف ، وكذلك لقمان صاحب اليد ، وكل هذه لبيان اتساع القدرة الربانية في تعمير بعض خلقه فأي مانع يمنع من امتداد عمر الصالح الخلف الناصح إلى أن يظهر فيعمل ما حكم الله له به».

ثم قال مادحا عترة المصطفى بقوله : «وحيث وصل الكلام إلى هذا المقام وانتهى جريان القلم بما خطه من هذه الأقسام .. فلنختمه بالحمد لله ربّ العالمين فإنها كلمة مباركة جعلها الله آخر دعوى أهل جنانه ، وخصّ بها من اجتباه من خليقته فكساه ملابس مرضاته ، فهذا آخر ما حرّره القلم من مناقبهم السنية وسطّره من صفاتهم الزكية ونثره من مزاياهم العلمية وذلك وإن كثر قليل في جنب شرفهم الشامخ ويسير فيما أتاهم من فضله الراسخ ، وأنا أرجو من كرم الله أن يشملني ببركتهم ويدخلني في زمرتهم ويجعل هذا المؤلف مسطورا في صحيفة حسناتي المعدودة من حسنتهم ، فقد بذلت جهدي في جمع مزاياهم بذل المجدّ الطالب ولم آل جهدا في تأليفها وجمعها قضاء لحقهم اللازب اللازم ، ولسان الحال يقرع باب الأسماع لإسماع الشاهد والغائب وسأقول :

رويدك إن أحببت نيل المطالب

فلا تعد عن ترتيل أي المناقب

مناقب آل المصطفى المهتدى بهم

إلى نعم التقوى ورغبى الرغائب

مناقب آل المصطفى قدوة الورى

بهم يبتغى مطلوبه كل طالب

مناقب تجلى سافرات وجوهها

ويجلو سناها مدلهم الغياهب

عليك بها سرا وجهرا فإنها

تحلك عند الله أعلى المراتب

وخذ عند ما يتلو لسانك أيها

بدعوة قلب حاضر غير غائب

لمن قام في تأليفها واعتنى به

لتقضى من مفروضها كل واجب

عسى دعوة يزكو بها حسناته

فيحظى من الحسنى بأسنى المواهب

فمن سئل الله الكريم أجابه

وجاوره الإقبال من كل جانب

انتهى» (١).

__________________

(١) مطالب السئول في مناقب آل الرسول / النصيبي الشافعي ج ١ / الباب ١٢ في أبي القاسم.


الشبهة السابعة :

إن استمرار غيبة الإمام المهديّ على الوجه الذي تزعمه الشيعة الإمامية من حيث عدم ظهوره للناس ، ولا يتولّى إقامة الحدود ولا ينفذ الأحكام ولا تظهر له دعوة إلى حقّ ، ولا يهدي ضالا ولا يجاهد كافرا ، فمنع انتفاء هذه الفوائد عنه بطلت الحاجة إليه في حفظ الشرع والملّة ، وكان وجوده في العالم كعدمه.

يرد عليها :

(١) إنّ الأمر بخلاف ما ذكرته الشبهة وذلك لأن غيبة الإمام المهدي المنتظر عجّل الله فرجه الشريف لا تضرّ في الحاجة إليه في حفظ الشريعة وقوام الملّة ، وإن كان يتراءى ذلك ذي بدء إلّا أن الواقع يخالفه ويناهضه ، ألا ترى أن الدعوة إلى إمام الزمان ـ التي هي في الواقع دعوة إلى دين الله عزوجل لأنه ـ روحي فداه ـ يمثّل التوحيد بشتى أقسامه ـ إنما يتولّاها شيعته من العارفين به والمخلصين لشخصه الكريم فتقوم الحجّة حينئذ بهم في ذلك ، ولا يحتاج هو إلى تولّي ذلك بنفسه ، وله في ذلك أسوة بمن تقدّمه من المرسلين والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام حيث كانت دعواتهم تنتشر بواسطة نوابهم ووكلائهم لا سيّما رسول الله إذ كان له وكلاء في الأمصار والأقطار ينوبون عنه في تبليغ الأحكام والمهام ، ولا يحتاجون إلى قطع المسافات لذلك بأنفسهم ، فكانت الحجة تصل إلى الناس بأتباع الأنبياء والمقرّبين بنبوتهم عليهم‌السلام ، وهكذا كانت الدعوة إليهم تقوم بأولئك التابعين لهمعليهم‌السلام بعد وفاتهم ، وتثبت الحجّة لهم في نبوّتهم ، وكذلك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ودرء الفساد ، فقد كان المتولّي لها أمراء الأئمة عليهم‌السلام وعمّالهم المنصوبون من قبلهم دون أشخاصهم وأعيانهم ، كما كان يتولّى ذلك أمراء الأنبياء عليهم‌السلام وولاتهم ولا يحوجونهم إلى تولّي ذلك بأنفسهم ، وكذلك القول في الجهاد ، ألا ترى أنه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمة دونهم ، ويستغنون بذلك عن تولّيه بأنفسهم.


فعلم بما ذكرنا آنفا أن الذي أحوج إلى وجود الإمام عليه‌السلام ومنع من عدمه ما اختصّ به من حفظ الشرع ومراعاة حدوده ، الأمر الذي لا يجوز أن يؤتمن عليه سواه من أفراد الرعية ، كما أن على الرعية حفظ ما كلّفوا بأدائه ، فمتى وجد منهم قائما بذلك فهو في سعة من الاستتار والصمت ، ومتى وجدهم قد أطبقوا على تركه وضلّوا عن الطريق الحقّ فيما كلّفوه من نقله وحمله ، ولو بانضمامه إليهم من حيث لا يعرفونه ، ظهر لتولّي ذلك بنفسه ، ولا يسعه حينئذ إهمال القيام به ، فلذلك وجب في حكم العقل وجوده وعدم جواز موته ، الأمر الذي يمنعه من رعاية الدين وحفظه وتفقّده لأحوال من تمسّك به أو فارقه ، وهذه هي الميزة التي يفترق بها الإمام عمّن سواه من رعيته ، وهذا بيّن لمن تدبره.

(٢) إذا غاب الإمام عليه‌السلام ـ روحي فداه ـ للخوف على نفسه من القوم الظالمين ، فضاعت لذلك الحدود وأهملت الأحكام وتعطلت الحدود ، ووقع بسبب الغيبة الفساد في الأرض ، كان المسئول عن ذلك كلّه فعل الظالمين دون الله عزوجل ، وكانوا هم المجرمين المؤاخذين به دون الإمام عليه‌السلام ، نعم لو أماته الله تعالى فوقع لذلك الفساد وارتفع لأجله الصلاح في البلاد ، كان سببه فعل الله دون العباد ولا يجوز نسبة سبب الفساد إلى الله تعالى أو ما يوجب رفعه رفع الصلاح. من خلال ما ذكرنا يتضح الفرق بين موت الإمام عليه‌السلام وغيبته واستتاره وثبوته.

الشبهة الثامنة :

إن غيبة الإمام المنتظر عليه‌السلام تستلزم سقوط الحدود عن الجناة وهو عين القول بنسخ الشريعة ، ولو قلنا بعدم نسخها فمن يقيمها حال غيبته؟

والجواب :

الحدود المستحقة ثابتة في حقّ الجناة والعصاة ، فإن ظهر الإمام ، وكان المستحق لهذه الحدود باقيا ، أقامها عليه الإمام المهديّ عليه‌السلام حال ظهوره ، فإن فات ذلك بموته كان الإثم في تفويت إقامتها على من أخاف الإمام وألجأه إلى


الغيبة ، وليس هذا بنسخ لإقامة الحدود ، لأن الحدّ إنما يجب إقامته مع التمكن وزوال الموانع ، ويسقط مع الحيلولة ، وإنما يكون مع ذلك نسخا لو سقط فرض إقامة الحدّ مع التمكن وزوال الأسباب المانعة. ثم يقلب هذا على العامة أصحاب الشّبهة ، فيقال لهم : كيف قولكم في الحدود التي تستحقها الجناة في الأحوال التي لا يتمكن فيها أهل الحل والعقد من اختيار الإمام ونصبه؟ فأي شيء قالوه في ذلك قلنا مثله.

هذا مضافا إلى أننا نسأل أصحاب الشبهة : كيف لا تقيمون الأحكام والحدود في وقتنا الحاضر مع أنكم لا تعتقدون بوجود الإمام عليه‌السلام ، فهل غيابه واستتاره هو المانع لكم من ذلك مع عدم اعتقادكم بوجوده ، أم أن المانع هو جهات خارجية اقتضت عدم القدرة على إقامة ما ذكرتم؟ فلا شك أن المانع عندكم هو الثاني ، وعليه فيتحقق مطلوبنا وهو أن المانع ليس غيابه وإنّما تصرفات العباد القبيحة فلا ملازمة حينئذ بين غيابه وسقوط الحدود عن الجناة.

الشبهة التاسعة :

إن الشيعة الإمامية يناقضون أنفسهم من حيث اعتقادهم بوجوب الإمامة وقولهم بشمول المصلحة للأنام بوجود الإمام وظهوره وأمره ونهيه وتدبيره ، واستشهادهم على ذلك بحكم العادات في عموم المصالح بنظر السلطان العادل وتمكّنه من البلاد والعباد ، وفي نفس الوقت يقول الشيعة إن الله تعالى قد أباح للإمام الغيبة عن الخلق ، وسوّغ له الاستتار عنهم ، وأن ذلك هو المصلحة وصواب التدبير للعباد ، وهل هذا إلا التناقض الواضح الذي لا يقرّه العقل والدين؟.

والجواب :

إن الشبهة المذكورة انطلت على المخالف واستولت عليه لبعده عن سبيل الاعتبار ووجود الصلاح وأسباب الفساد ، وذلك أن المصالح تختلف باختلاف الأحوال ، ولا تتفق مع تضادّها ، بل يتغير تدبير الحكماء في حسن النظر


والاستصلاح بتغيّر آراء المستصلحين وأفعالهم وأغراضهم في الأعمال ، ألا ترى أن الحكيم من البشر يدبّر ولده وأحبّته وأهله وعبيده وحشمه بما يكسبهم المعرفة والآداب ، ويبعثهم على الأعمال الصالحة ليستحقوا بذلك الذكر الجميل وحسن الثناء والمديح ، فيكونوا بذلك موضع ثقتهم واعتمادهم في الأمور كافّة إلى تجارة أو وكالة ، فيمكنوهم من الأموال ، فيحصل لهم السرور المتواصل ، وينالوا بما يحصل لهم من الأرباح الملذات ، وذلك هو الأصلح لهم ، ومتى واصلوا الجدّ في العمل وأخلصوا فيه بأقوالهم ، بما يوجب استمرار نشاطهم ، سهّلوا عليهم السبل الموصلة إليه ، وكان ذلك هو الصلاح العام ، وما أخذوا بتدبيرهم إليه وأحبّوه منهم وأبرّوه لهم ، وإن عدلوا عن ذلك إلى السفه والظلم ، وسوء الأدب والبطالة ، واللهو واللعب ، كانت المصلحة لهم قطع موارد السعة عنهم في الأموال والاستخفاف بهم والإهانة والعقاب ، وليس في ذلك تناقض بين أغراض العاقل ، ولا تضادّ في صواب التدبير والصلاح.

وعلى هذا الوجه الذي حقّقناه كان تدبير الله تعالى لخلقه ، وإرادته عمومهم بالصلاح ، ألا ترى أنه خلقهم فأكمل عقولهم وكلّفهم الأعمال الصالحات ليكسبهم بذلك حالا في العاجلة ، ومدحا وثناء حسنا وإكراما وإعظاما وثوابا في الآجل ، ويدوم نعيمهم في دار المقام ، فإن تمسّكوا بأوامر الله ونواهيه وجب في الحكم إمدادهم بما يزدادون به منه ، وسهّل عليهم سبيله ، ويسّره لهم ، وإن خالفوا ذلك وعصوه تعالى وارتكبوا نواهيه ، تغيّرت الحال فيما يكون فيه صلاحهم ، وصواب التدبير لهم لوجب قطع موادّ التوفيق عنهم ، وحسن منه ذمّهم وحربهم ، وكان ذلك هو الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم مما كان يجب في الحكمة لو أحسنوا ولزموا السداد ، فليس ذلك تناقضا في العقل ولا تضادا في قول أهل العدل ، بل هو ملتئم على المناسب والاتفاق.

ألا ترى أنّ الله تعالى دعا الخلق إلى الإقرار به وإظهار التوحيد والإيمان برسله عليهم‌السلام لمصلحتهم ، وأنه لا شيء أصوب في تدبيرهم من ذلك ، فمتى


اضطرّوا إلى إظهار كلمة الكفر للخوف على دمائهم كان الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم ترك الإقرار بالله والعدول عن إظهار التوحيد والمظاهرة بالكفر بالرسل ، وإنما تعيّرت المصلحة بتغيّر الأحوال ، وكان في تغيير التدبير الذي دبّرهم الله به فيما خلقهم له مصلحة للمتّقين ، وإن كان ما اقتضاه من فعل الظالمين قبيحا منهم ومفسدة يستحقّون به العقاب الأليم.

وقد فرض الله تعالى الحجّ والجهاد وجعلهما صلاحا للعباد ، فإذا تمكّنوا منه عمّت به المصلحة ، وإذا منعوا منه بإفساد المجرمين كانت المصلحة لهم تركه والكفّ عنه ، وكانوا في ذلك معذورين وكان المجرمون به ملومين.

فهذا نظير لمصلحة الخلق بظهور الأئمة عليهم‌السلام وتدبيرهم إياهم متى أطاعوهم وانطووا على النصرة لهم والمعونة ، وإن عصوهم وسعوا في سفك دمائهم تغيّرت الحال فيما يكون به تدبير مصالحهم ، وصارت المصلحة له ولهم غيبته وتغييبه واستتاره ، ولم يكن عليه في ذلك لوم ، وكان الملوم هو المسبّب له بإفساده وسوء اعتقاده.

ولم يمنع كون الصلاح باستتاره وجوب وجوده وظهوره ، مع العلم ببقائه وسلامته وكون ذلك هو الأصلح والأولى في التدبير ، وأنه الأصل الذي أجرى بخلق العباد إليه وكلّفوا من أجله حسبما ذكرناه.

الشبهة العاشرة :

يدّعي الشيعة أنّ إمامهم المهديّ غائب منذ ولد وإلى أن يظهر ، فليس للخلق طريق إلى معرفته بمشاهدة شخصه ولا التفرقة بينه وبين غيره بدعوته فلا بدّ حينئذ من أن يظهر الله تعالى الأعلام والمعجزات على يده ليدل بها على أنه الإمام المنتظر ، وهذا مقام منحصر بالأنبياء والمرسلين ، فإثبات المعجزة للإمام عليه‌السلام عند قيامه ، يعتبر خروجا عن قول الأمة كلّها «أنه لا نبيّ بعد نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

والجواب :


(١) إن الأخبار قد جاءت عن أئمة الهدى من آباء الإمام المنتظر عليه‌السلام بعلامات تدل عليه قبل ظهوره وتؤذن بقيامه بالسيف قبل سنته : منها خروج السفياني وظهور الدّجال وقتل رجل من ولد الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام يخرج بالمدينة داعيا إلى إمام الزمان فيذبحونه في مكة بين الركن والمقام ، وخسف بالبيداء بأصحاب السفياني وقد شاركت العامة الخاصة في الحديث عن رسول الله بأكثر هذه العلامات ، وأنها كائنة لا محالة على القطع بذلك والثبات ، وهذا بعينه معجز يظهر على يده ، ويبرهن به عن صحة نسبه ودعواه.

(٢) إن ظهور الآيات على أيدي الأئمة عليهم‌السلام لا توجب لهم الحكم بالنبوة ، لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوّتهم ، لكنّها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه ، فإن دعا إلى اعتقاد نبوته كانت دليلا على صدقه في دعواه ، وإن دعا الإمام إلى اعتقاد إمامته كانت برهانا له على صدقه في ذلك ، وإن دعا المؤمن الصالح إلى تصديق دعوته إلى نبوة نبيّ أو إمامة إمام أو حكم سمعه من نبيّ أو إمام كان المعجز على صحة دعواه.

وليس يختص ذلك بدعوة النبوة دون ما ذكرناه ، وإن كان مختصا بذوي العصمة من الضلال وارتكاب الموبقات والآثام ، وذلك مما يصحّ اشتراك الأئمة مع الأنبياء في صحيح النظر والاعتبار ، وقد أجرى الله تعالى آية إلى مريم ابنة عمران حيث رزقها فاكهة من السماء وهو خرق للعادة وعلم باهر من أعلام النبوة ، فقال عزوجل : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (١).

ولم يكن لمريم عليها‌السلام نبوّة ولا رسالة ، لكنّها كانت من عباد الله الصالحين المعصومين من الزلات ، وأخبر سبحانه أنه أوحى إلى أمّ موسى (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٧ ـ ٣٨.


خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

والوحي معجز من جملة معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، ولم تكن أمّ موسى عليها‌السلام نبيّة ولا رسولة ، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء ، فما الذي ينكر من إظهار علم يدل على عين الإمام ليتميّز به عمّن سواه ، لو لا أن مخالفينا يعتمدون في حجاجهم لخصومهم الشبهات المضمحلات.

الشبهة الحادية عشرة :

قال ابن حجر الهيثمي المكي : «ثم المقرّر في الشريعة المطهّرة أن الصغير لا تصح ولايته ، فيكف يساغ لهؤلاء الحمقى المغفلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيا ، ولقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لأولي الألباب ، ولقد أحسن القائل :

ما آن للسرداب أن يلد الذي

كلمتموه (٢) بجهلكم ما آنا

فعلى عقولكم العفاء فإنكم

ثلّثتم العنقاء والغيلانا (٣)

* يؤسفنا أن ينعتنا بالحمقى والغفلة من يدّعي لنفسه الحجى والفكر والعلم ، ويعتبره العامة علما من أعلامهم الذين يشار إليهم بالبنان ، فشرّع لأناس أتوا من بعده السباب والتكفير للشيعة لاعتقادهم بغيبة الإمام المهديّ عليه‌السلام ، فلم يقف هو أتباعه على روح الشريعة ، ولم يعرفوا شيئا من أصولها وفروعها سوى ما قرره لهم ابن تيمية وابن حجر والقصيمي وغيرهم من إرهابيي الفكر وحملة السيوف للفتك بكلّ شيعي لا يعتقد بإمامة الشيخين لا سيّما السلفية في زماننا هذا

__________________

(١) سورة القصص : ٧.

(٢) في نسخة : «غيبتموه بجهلكم».

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٦٨ ط / القاهرة.


حيث ترجع في جذورها إلى ابن تيمية الحنبلي الذي استغرق هو وأتباعه في سفك دماء الشيعة ، ومثاله ما جرى على الشيعة في أفغانستان عام ١٩٩٨ م من جرّاء ما جناه الطالبان وابن لادن على شيعة آل البيت عليهم‌السلام ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ويكفي في بطلان ما افتراه ابن حجر وابن تيمية على إمامنا المهديّ عجّل الله فرجه الشريف ما ذكره ثلة من محققي العامة وأكابرهم على حياة الإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، مضافا إلى قيام إجماعنا على ثبوت تولّده وغيبته ، وهذا بدوره حجّة دامغة على من أنكر ، وبرهانا ساطعا يستأصل شأفة شبهاتهم من جذورها.

ويرد عليه :

١ ـ إذا كان اعتقادنا ـ نحن الشيعة ـ بإمامة من عمره خمس سنين يلحقنا بالحمقى المغفلين ـ حسبما زعم ابن حجر الهيثمي ـ لزمه أن يلصق الحماقة والغفلة بالله تعالى ـ عزّ اسمه ـ لا بالشيعة الإمامية ، وذلك لأن الله تعالى آتى يحيى بن زكريا عليهما‌السلام الحكم صبيّا وجعله نبيّا ووليّا حيث قال تعالى عنه (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١) وقد قرّرت شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحكم ولم تنسخه بآية ورواية متواترة عن رسول الله ، ونفي ابن حجر الصحة عن ولاية الصغير في شريعة الإسلام لم يعتمد فيه على دليل ، وإلّا كان عليه أن يذكره لنا سواء كان آية أم رواية متفقا عليها تدل على نفي ولاية الصغير في الشريعة المطهّرة ، فإن الحكم القطعي لا ينسخه إلّا حكم قطعي مثله ، وحيث إن ابن حجر لم يأت بدليل على نفيه ، علمنا أن الشريعة المقدّسة قد قررت ولايته ولم تنفها أبدا ، وكيف لا تصح ولاية الصغير في الشريعة المطهّرة ، والنصوص المتواترة دلت على ولايته وإمامته بعد أبيه؟ وهل هذا من الهيثمي إلا اجتهادا في مقابل النص المحجوج به؟!

ولاشتهار تلك النصوص النبوية وثبوت صحتها ترى الحافظ الكبير عند العامة وهو «الجامي» الذي يعتبر أقدم من الهيثمي بمئات السنين ، وغيره من عظمائهم ، يقول بعد ذكر تولّد الإمام المهديّ في كتابه شواهد النبوة :

__________________

(١) سورة مريم : ١٢.


[أما ألقابه : فالمهديّ والحجّة ، والقائم والمنتظر وصاحب الزمان إلى غير ذلك ... وكان عمره وقت وفاة أبيه الحسن العسكري خمس سنين ، فصار إماما بعده مثل ما جعل الله يحيى بن زكريا نبيّا وهو صبي ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام ، وظهر من صاحب الزمان من الخارق للعادة الكثير». ثم أنه بيّن حاله عن طريق حفّاظ العامة ، والرجل من معاريف أهل العلم من الشافعية ، وليس هو من علماء الشيعة ولا متّهما بالرفض حتى لا يقبل قوله.

والحمد لله أنه لم يسلم من العثرة فيما قاله ، وقد بلغ إنكاره إلى حدّ التناقض ، فها هو يسخر من الشيعة بقوله (ولقد صاروا بذلك ضحكة لأولي الألباب) وفي نفس الوقت وفي آخر الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في أهل البيت ص ٢٠٨ من صواعقه يقول : «ولم يخلف ـ أبو محمّد الخالص ـ غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين ، لكن آتاه الله فيها الحكمة ، وسمّي القائم المنتظر».

ولو لم يكن إلّا هذا التناقض لكفى دليلا على بطلان قوله.

وأما فريته على الشيعة «بأنهم يقفون بخيلهم على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم فصاروا بذلك ضحكة لأولي الألباب» فيقال فيه :

أليس من المؤسف أن يتحامل الهيثمي هذه الحملات على طائفة ما برحت مؤمنة بالله وبرسوله وبكل ما جاء به من عند الله ، ولم تشرك به طرفة عين أبدا ، ويحكم عليهم بشيء يكذّبه العيان ، ويشهد بفريته الوجدان؟

وليت ابن حجر يدلنا على المستند الذي اعتمده بفريته على الشيعة ، ومن الذي قاله؟ وفي أي زمان وقع؟ ومن هم شهوده؟ وفي أي كتاب هو مسطور؟ ليكون ذلك تبريرا له عمّا رمى به الشيعة من البهتان ، وحيث إنه أهمل ذلك كله واكتفى بالدعوى المجردة ، علمنا أن ذلك كذب لا أصل له ، وها هم الشيعة يزورون السرداب كما يزور العامة الأماكن المقدّسة يلتمسون فيها البركة وإجابة


الدعاء ، مضافا إلى أن الشيعة «سدّدهم المولى» حينما يزورون السرداب يتوسلون برسول الله وعترته الطاهرة ومنهم الإمام الثاني عشر المهديّ روحي فداه ليقضوا حوائجهم ، ومعلوم أن التوسل بالأولياء أمر مشروع عقلا ونقلا وجميع المسلمين يقرون بذلك سوى ابن تيمية والحنابلة ، فما الضير إذن أن يتوسل الشيعة بإمام زمانهم المهديّ عليه‌السلام وقد قضى حوائج الكثيرين ممن توسّل به.

(٢) إن الإمامة عند الشيعة الإمامية كالنبوّة لا تحصلان باختيار الناس ، وإنما هما منصبان إلهيان ، أمر تفويضهما إلى الله تعالى واختياره لمن يكن أهلا لهما ، ولهذا لا يستبعد أن يقع اختياره عزوجل على من كان في المهد صبيّا كعيسى عليه‌السلام حيث جعله الله تعالى نبيا وقد كلّم قومه وعمره ساعات بقوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) كما لا يستبعد أن يقع اختياره أيضا على يحيى بن زكريا حال كونه صغيرا حيث قال عنه : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢) ، وعليه فما المانع أن يقع اختيارهعزوجل على الإمام المهديّ فيجعله إماما في سنّ الرابعة أو الخامسة من عمره؟ وهل في ذلك استحالة عقلية تستلزم أن يستنكر علينا ويستهزأ بنا ابن حجر وأمثاله؟! لقد احتج الله تعالى على المنكرين ، فأبدع حيث وهب في وقتنا الحاضر الطفل الافريقي «شريفو» (٣) معارف القرآن الكريم وهو بعد لم يتجاوز الخامسة من عمره ، كما أنه سبحانه أفاض على الطفل الإيراني النابغة السيّد محمّد حسين الطباطبائي من مواليد قم المقدّسة حيث رزق حفظ القرآن وفهم معانيه وأسراره ولم يتجاوز الرابعة من عمره ، ويجلس تحت منبره العلماء والمفكرون ، وقد نال درجة الدكتوراه بامتياز من إحدى جامعات بريطانيا ، كما أن المطّلعين لم يخف عليهم أمر الطفل الياباني الذي لم يتجاوز سن السابعة من عمره ، عند ما قطع المرحلة

__________________

(١) سورة مريم : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) سورة مريم : ١٢.

(٣) جاء ذلك في مجلة «المجلة» عدد (١٠٠٧) الصادرة عن الشركة السعودية للأبحاث.


الجامعية بتفوق ، أبعد هذا يقال : «كيف ساغ لهؤلاء الحمقى المغفلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيا»؟!

(٣) إن حالة الرشد العقلي ليس لها سنّ معين ، فربّ فرد يكون راشدا وهو ابن خمس سنين في حالات خاصة ومواصفات معينة ، شاءت القدرة الإلهية ذلك لمقتضيات ذاتية عند صاحبها ، وعلى العكس من ذلك قد لا يكون الفرد راشدا نتيجة نقص ذاتي عنده حتى ولو كان ابن خمسين سنة.

فما المانع ـ إذن ـ لو أنه سبحانه وتعالى جعل سنّ الرشد عند الإمام عليه‌السلام في سنّ الخامسة ، وهل في ذلك استحالة عقلية أو أنه من الممكنات الواقعة تحت قدرته تعالى؟

فإذا كان إتيان النبوّة وتعليم الكتاب لصبيّ في المهد وإعطاء الحكم ـ وهو فصل النزاعات ومعرفة الأشياء على حقائقها ـ ليحيى حال صباه ممكنا ، فلا يمتنع ذلك عليه تعالى أن يجعل الإمامة للحجّة المهديّ عليه‌السلام وهو صبي إكراما لجدّه رسول الله وله صلّى الله عليه وعلى آبائه الميامين ، وليكون دليلا على بقاء هذا الدين واستمراره ، ولئلا يخلو الزمان من أهل بيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول جدّهم في حديث الثّقلين «إني تارك فيكم الثّقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

الشبهة الثانية عشرة :

إنّ وجود الإمام إنّما يكون لطفا فيما إذا كان ظاهرا زاجرا قاهرا ، أما في حال غيبته فلا لطف في ذلك.

يرد عليها :

١ ـ إنّ ما تصوّره أصحاب الشبهة لم يتفوه به أحد من العقلاء فضلا عن المتدينين لأن جلّ الأنبياء كانوا مقهورين مشردين بل مقتولين على أيدي الظالمين السفّاكين ، وعليه فيلزم على القول بهذه الشبهة أن وجود الأنبياء لا لطف فيه لما


ذكرنا آنفا ، فتنتفي حينئذ الفائدة من بعثهم إلى الناس مما يستلزم العبث في أفعال المولى عزوجل وهو قبيح عقلا يتنزّه عنه عزّ اسمه ، فلا بدّ من الالتزام بعدم الملازمة بين اللطف وبين كونهم ظاهرين قاهرين ، فلا يلزم أن لا يكون الظاهر لطفا مقرّبا للعباد إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية ، لأن اللطف لا ينحصر في الظاهر فحسب ، فإن من له مدخلية في طاعة العباد سواء أكان ظاهرا أم غائبا عن الأبصار كجبرائيل وسائر الملائكة كان وجودهم لطفا بمعنى أنهم لو لم يكونوا لم تقع أكثر الطاعات لكونهم حافظين مسددين مؤيدين مبلّغين للأنبياء والأولياء الوحي ، فاللطف غير منحصر في الظاهر ، بل وجوده في الغائبات أكثر منه في الظواهر.

من هنا يتضح الجواب على ما قد يقال بأن وجود الإمام المهديّ روحي فداه وعدمه سيّان ما دام الناس لا ينتفعون به لكونه غائبا عنهم.

٢ ـ إن الغيبة لا تلازم عدم التصرف في الأمور ، فهو يتصرّف بالكائنات على حسب ما تقتضيه المصلحة الربانية من دون أن تشعر بوجوده تماما كخرق الخضر عليه‌السلام للسفينة دون علم أصحابها ، وإلّا لكانوا منعوه من خرقها ، فخرقه للسفينة لمصلحة كانت خافية على أصحاب السفينة ، كذلك قتل الغلام وإقامة الجدار كان خافيا على النبيّ موسى عليه‌السلام بحسب الظاهر ، فأي مانع من أن يكون للإمام الغائب (عجّل الله فرجه الشريف) في كل يوم وليلة تصرّف كهذا النمط من التصرفات ، ويؤيده ما ورد من أنه عليه‌السلام يحضر الموسم في أشهر الحج ويلتقي بأنصاره وأعوانه ، ويصاحب الناس إلى غير ذلك ، ومع هذا فالناس لا يعرفونه.

وزبدة المخض : أن مولانا وسيّدنا الإمام المهديّ فديته بنفسي ليس غائبا عن كل العباد بل يظهر لبعض خواص مواليه الذين لهم الشرف بلقائه والاستفادة من نور وجوده ، وبالتالي تستفيد الأمة بواسطتهم ، ويؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لجابر الأنصاري حينما سأله عن الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف في آخر الزمان ، قال : ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.


قال جابر : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي والذي بعثني بالنبوّة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب (١).

وورد عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

لم تخل الأرض منذ خلق آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ، قال سليمان : فقلت للصادقعليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟

قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب (٢).

وكذا ما ورد عن مولانا وسيّدنا الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء في توقيعه لإسحاق بن يعقوب على يد السفير الثاني في الغيبة الصغرى محمّد بن عثمان ، قال عليه‌السلام :

«وأمّا علة ما وقع من الغيبة فإن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٣) إنّه لم يكن أحد من آبائي إلّا وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي ، وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم ، ولا تتكلّفوا على ما قد كفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإن ذلك فرجكم ، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتّبع الهدى (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٢.

(٣) سورة المائدة : ١٠١.

(٤) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٢.


إشارات عرفانية :

والتشبيه بالشمس المجلّلة بالسحاب ترمز إلى أمور :

الأول : أن نور الوجود والعلم والهداية ، يصل إلى الخلق بتوسطه عليه‌السلام إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائية لإيجاد الخلق ، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ، والتوسّل إليهم تظهر العلوم والمعارف على الخلق ، وتكشف البلايا عنهم ، فلولاهم لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) ولقد تفضّل علينا الله تعالى بالإنعام وتفريج الكرب عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل ـ كما تفضّل على العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه (٢) ـ لمّا توسّلنا بهم واستشفعنا بحقهم ، فهذا حاصل لكلّ عبد أناب إلى ربّه وتوجّه إلى وجهه ، وهم عليهم‌السلام وجهه الذي لا بدّ للعباد أن يعرجوا إليه من خلالهم ، إذ بقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم ، تنكشف تلك الأمور الصعبة ، وتنجلي الكرب والبلوى.

الثاني : كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ، ليكون انتفاعهم بها أكثر ، فكذلك في أيام غيبته عليه‌السلام ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه.

الثالث : أن منكر وجوده عليه‌السلام مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيّبها السحاب عن الأبصار.

الرابع : أن الشمس قد يكون غيابها في السحاب أصلح للعباد من ظهورها لهم بغير حجاب ، فكذلك غيبته عليه‌السلام أصلح لهم في تلك الأزمان ، فلذا غاب عنهم.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٣.

(٢) قد أفاد العلّامة المجلسي عليه الرحمة هذا الأمر في بحاره ج ٥٢ / ٩٣.


الخامس : أن الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب ، وربما عمي النظر إليها لضعف الباصرة عن الإحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربما يكون ظهوره أضرّ لبصائرهم ، ويكون سببا لعماهم عن الحق ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته ، كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب ولا يتضرر بذلك.

السادس : أن الشمس قد تخرج من السحاب وينظر إليها واحد دون آخر فكذلك يمكن أن يظهر عليه‌السلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.

السابع : أنهم عليهم‌السلام كالشمس في عموم النفع ، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسّر به في الأخبار قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(١).

الثامن : أن الشمس كما أن شعاعها يدخل البيوت ، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك ، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع ، فكذلك الخلق إنما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسّهم ومشاعرهم التي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانية ، والعلائق الجسمانية ، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب (٢).

تساؤل :

قلتم إن الإمام المهديّ عليه‌السلام موجود ، ووجوده لطف ، فلم لا يظهر فيعم لطفه العالمين؟

قلنا : صحيح أن وجوده لطف ، وتصرّفه ظاهرا لطف آخر ، لكنّه لا يظهر لأنه يخاف على شيعته وعلى نفسه القتل ، بمعنى لو ظهر قبل تحقق أوان الظهور لكان

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٣ ـ ٩٤.


عجّل على نفسه وهذا لا يرتضيه الله سبحانه ، ولو كان عدم ظهوره غير ما ذكرنا لما ساغ له الاستتار ، وكان يتحمل المشاق والأذى ، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء إنما تعظم لتحمّلهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.

فإن قيل : هلا منع الله عزوجل من قتله بما يحول بينه وبين من يريد قتله؟

قلنا : إن الحيلولة بالمعجزة بين الإمام وبين من يريد قتله ينافي التكليف وينقض الغرض ، لأن الغرض من التكليف استحقاق الثواب ، والحيلولة ينافي ذلك ، وربما كان في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق فلا يحسن من الله فعلها ، فالمنع بهذا المعنى ينافي التكليف كما قلنا ، وأما المنع الذي لا ينافي التكليف فهو النهي عن خلافه والأمر بوجوب اتباعه ونصرته وإلزام العباد بالانقياد إليه ، وكل ذلك قد فعله الله وأمر به عباده ، وهو صحيح لا غبار عليه ، فالعقل يقره والعقلاء يمضونه.

فإن قيل : أليس آباؤه كانوا ظاهرين ولم يخافوا ولا صاروا بحيث لا يصل إليهم أحد؟

قلنا : إن حاله يختلف عن حال آبائه الميامين ، حيث إنهم كانوا مأمورين بعدم الخروج على سلاطين زمانهم لعدم توفر الأسباب والظروف لذلك ، بل كانوا يعملون بالتقية حرصا على ما تبقّى من المؤمنين ، وانتظارا منهم للإمام المهديّ الذي سيبيد العتاة والمردة بسيفه ولا يعمل بالتقية ، فآباؤه إنما ظهروا للناس لعلمهم بأنهم لو حدث بهم حادث لكان هناك من يقوم مقامهم من أولادهم ، وليس كذلك صاحب الزمان عليه‌السلام لعدم وجود من يقوم مقامه بعده قبل حضور وقت قيامه بالسيف فلذلك وجب استتاره وغيبته ، ففارق حاله حال آبائه وهذا واضح بعون الله تعالى.

الشبهة الثالثة عشرة :

«إذا لم يمكن الوصول إلى إمام الزمان المهديّ المنتظر عليه‌السلام ولا أخذ


المسائل الدينية عنه ، فأي ثمرة تترتب على مجرد معرفته حتى يكون من مات وليس عارفا به فقد مات ميتة جاهلية حسبما ورد في المتواتر والمشهور (١) ، ويشهد له إجماع أهل الآثار ويقوّي معناه صريح القرآن بقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٢) ، وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٣).

وعليه فكيف تجمعون بين هذا الخبر الصحيح وبين غيبة إمامكم عليه‌السلام واستتاره عن الكل ، وعدم علمهم بمكانه والوصول إليه؟

والجواب :

١ ـ لا تنحصر الثمرة في مشاهدته وأخذ المسائل عنه ، فإن كثيرا من المؤمنين بالله وبرسوله كانوا يأخذون الأحكام بالواسطة ومن دون أن يروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا في عصور الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، لكنّ الفرق بين عصر النّصّ وعصر غياب الإمام المهديّ واضح من حيث العمل بالأحكام الواقعية في العصر الأول دون الثاني حيث يغلب فيه العمل بالأحكام الظاهرية فقد تصيب الواقع وقد تخالفه ، ومع هذا فإنّ الثمرة في كلا الموردين أعم من المشاهدة كما قلنا إذ إن نفس التصديق بوجوده الشريف وأنه خليفة الله في الأرض والسماء أمر مطلوب لذاته ، وركن من أركان الإيمان ، تماما كتصديق من كان في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوده ونبوته ، ويشهد لما قلنا حديث جابر المتقدّم.

__________________

(١) ورد عن الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» رواه الفريقان بتفاوت ببعض الألفاظ ، انظر : الكافي ج ١ / ٣٧٧ ، المحاسن ص ١٥٣ وعيون أخبار الإمام الرضا عليه‌السلام ج ٢ / ٥٨ وكمال الدين ص ٤١٣ ، عقاب الأعمال ص ٢٤٤ ، غيبة النعماني ص ١٣٠ ، رجال الكشي ج ٢ / ٧٢٤ ، الاختصاص ص ٢٦٩. ومن مصادر العامة : مسند أبي داود الطيالسي ص ٢٥٩ / ١٩١٣ ، حلية الأولياء ج ٣ / ٢٢٤. هامش مستدرك الحاكم للذهبي ج ١ / ٧٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٩ / ١٥٥ ، ينابيع المودة ص ١١٧ ، المعجم الكبير للطبراني ج ١٠ / ٣٥٠ / ١٠٦٨٧ ، مجمع الزوائد ج ٥ / ٢٢٤.

(٢) سورة الإسراء : ٧١.

(٣) سورة النساء : ٤١.


٢ ـ لا مضادة بن المعرفة بالإمام وبين جميع ما ذكر من أحواله ، لأن العلم بوجوده في العالم لا يفتقر إلى العلم بمشاهدته ، لمعرفتنا ما لا يصح إدراكه من الحواس ، فضلا عمّن يجوز إدراكه وإحاطة العلم بما لا مكان له أو عمّن يخفى مكانه والظفر بمعرفة المعدوم والماضي والمنتظر ، وقد بشّر الله تعالى الأنبياء المتقدّمين بنبيّنا أبي القاسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وجوده في العالم فقال سبحانه (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١).

وقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٢).

فكان نبيّنا عليه وآله السلام مكتوبا مذكورا في كتب الله الأولى ، وقد أوجب على الأمم الماضية معرفته والإقرار به وانتظاره ، وهو عليه‌السلام وديعة في صلب آبائه لم يخرج إلى الوجود ، ونحن اليوم عارفون بالقيامة والبعث والحساب وهو ـ أي البعث أو الحساب ـ معدوم وغير موجود ، وقد عرفنا آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ولم نشاهدهم ، ولا شاهدنا من أخبر عن مشاهدتهم ، ونعرف جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام ولسنا نعرف لهم شخصا ولا نعرف لهم مكانا ، فقد فرض الله عزوجل علينا معرفتهم والإقرار بهم وإن كنا لا نجد إلى الوصول إليهم سبيلا.

هذا مضافا إلى أن معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته وكماله نفع لنا في اكتساب الثواب ، وانتظارنا لطهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب ، ونؤدي بها فرضا أوجبه علينا ربنا المالك للرقاب ، فكما أن معرفة الأمم الماضية لنبيّنا محمّد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨١.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٧.


قبل وجوده من أوكد فرائضهم يوم ذاك لأجل منافعهم ، كذا معرفة الباري جلّ اسمه أصل الفرائض كلّها وهو أعظم من أن يدرك بشيء من الحواس ، فإن معرفة إمام الزمان من أوكد الفرائض أيضا مع عدم اشتراط العلم بمكانه أو الوصول إليه ، وإن كان هذان الأمران من شرائط كمال الإيمان.

الشبهة الرابعة عشرة :

إذا كان الإمام عندكم ـ أيّها الشيعة ـ غائبا ، ومكانه مجهولا ، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ما ذا يعتمد الممتحن فيما لو نزل به حادث لا يعرف له حكما؟ وإلى من يرجع المتنازعون لا سيّما والإمام إنما نصّب لما وصفناه؟

والجواب :

لم ينصّب الإمام عليه‌السلام لأجل هذين الأمرين فحسب ـ أعني الفصل بين المتخاصمين وبيان الحكم للجاهلين ـ بل مهامه أوسع منهما بحيث تشمل عامة مصالح الدنيا والدين ، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصّب له مع التمكّن من ذلك والاختيار ، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه ، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار ، ولم يؤت الإمام في التقية من قبل الله عزوجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين ، وإنما أوتي ذلك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه وأنكروا حقّه وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته ، وكانت البلية فيما يضيع من الأحكام ويتعطل من الحدود ، ويفوت من الصلاح متعلقة بالظالمين ، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين ، فأما الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه فقد وجب عليه أن يرجع في ذلك إلى العلماء المخلصين من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمة الهدى المتقدمين ، وإن عدم ذلك ، ولم يكن فيه حكم منصوص على حال فيعلم أنه على حكم العقل ، لأنه لو أراد الله أن يتعبّد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك ، ولو فعله لسهّل السبيل إليه. وهكذا القول في المتنازعين ، يجب عليهما ردّ ما اختلفا فيه إلى الكتاب والسنّة عن رسول الله وآله الطاهرين ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم.


وهذا الذي وصفناه إنما وجب على المكلّف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشد ، ولو كان الإمام ظاهرا ما وسعه غير الردّ إليه ، والعمل بقوله ، وهذا كقول خصومنا : إن على الناس في نوازلهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النصّ عليها ، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن قيل : إذا كانت عبادتكم تتم بما وصفتموه مع غيبة الإمام فقد استغنيتم عن الإمامعليه‌السلام؟

قلنا : ليس الأمر كذلك ، لأن الحاجة إلى الشيء قد تكون قائمة مع فقد ما يسدها ، ولو لا ذلك ما كان الفقير محتاجا إلى المال مع فقده ، ولا المريض محتاجا إلى الدواء وإن بعد وجوده ، ولا الجاهل محتاجا إلى العلم وإن عدم الطريق إليه ، فغيبته عنا لا تستلزم عدم الحاجة إليه ، ولو لزمنا ما أفادته الشبهة المذكورة للزم على جميع المسلمين أن يقولوا إن الناس كانوا في حال غيبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للهجرة وفي الغار أغنياء عنه ، وكذلك لكانت حالهم في وقت استتاره بشعب سيّدنا أبي طالب عليه‌السلام ، ولكان قوم موسى عليه‌السلام أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربه ، وكذلك أصحاب يونس عليه‌السلام أغنياء عنه لمّا ذهب مغضبا والتقمه الحوت وهو مليم ، وهذا مما لا يذهب إليه مسلم ولا ملّي.

الشبهة الخامسة عشرة :

إن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو عيسى عيسى بن مريم عليه‌السلام حسبما أفاد ذلك حديث محمّد بن خالد الجندي تفرّد به عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبيّ نسبوا إليه أنه قال : لا يزداد هذا الأمر إلّا شدة ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا الناس إلّا شحا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ، ولا المهديّ إلّا عيسى بن مريم (١).

__________________

(١) العطر الوردي بشرح القطر الشهدي / محمد البلبيسي الشافعي ص ٤١ عن ابن ماجة والبيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي ص ٢٨.


يرد عليها :

إن محمّد بن خالد الجندي كان يتساهل في الحديث على حدّ تعبير الكنجي الشافعي في كتابه «البيان» ، وقال الذهبي : [محمّد بن خالد الجندي ، عن أبان بن صالح ، روى عنه الشافعي ، وقال الأزدي : منكر الحديث ، وقال عبد الله الحاكم : مجهول ، قلت : حديثه «لا مهديّ إلا عيسى ابن مريم» وهو خبر منكر أخرجه ابن ماجة ..] (١).

ولمّا كان الخبر ضعيفا لا يمكن تقديمه ـ وحتى لو كان صحيحا ـ على الأخبار المتواترة حيث استفاضت بكثرة رواتها في الإمام المهديّ عليه‌السلام وأنه من عترة نبيّنا محمّد من ولد الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام وأنه يخرج في زمنه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ويساعده على قتل الدجال بباب لدّ بأرض فلسطين ، هذا مضافا إلى تواتر الأخبار بأن اسمه محمّد ، فلا يصح حينئذ تقديم الخبر الواحد الثقة ـ عدا عن الضعف ـ على الأخبار المتواترة.

الشبهة السادسة عشرة :

إن الإمام المهديّ عليه‌السلام فكرة ابتدعها الشيعة ، ومبتدع هذه الشّبهة هو المستشرق دوايت رونلدسن في كتابه «عقيدة الشيعة» ص ٢٣١ حيث أوعز فكرة المهدويّة إلى فشل الشيعة واضطهاد الأعداء لهم فقال : «من المحتمل جدا أن الفشل الظاهر الذي أصاب المملكة الإسلامية في توطيد أركان العدل والتساوي على زمن دولة الأمويين عام ٤١ ـ ١٣٢ ه‍ كان من الأسباب لظهور فكرة المهديّ آخر الزمان».

والجواب :

نحن لا نستغرب من كلام هذا المستشرق الحاقد على الإمامية ، فقد سبقه

__________________

(١) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٣ / ٥٣٥.


إلى ذلك ابن خلدون (١) ، وقلدهما أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام متنكرا من القضية المهدوية ومدعيا أن لها أسبابا سياسية واجتماعية ودينية ، وأنها انبثقت من الشيعة بعد خروج الخلافة من أيديهم ، فأحمد أمين وابن خلدون وأمثالهما لا يمثّلون الشيعة والأشاعرة ، بل هم أناس انعزاليون بحاجة إلى رعاية فكرية.

ونحن نسأل أحمد أمين وأمثاله من النواصب : إذا كان الشيعة هم المخترعون لهذه الفكرة ، فما ذا يفعل بمئات الأحاديث التي رواها علماؤه وأساتذته في مصر وغيرها من الديار في مصادرهم وبطرقهم وأسانيدهم؟! ولما ذا لم يكلّف أحمد أمين نفسه مناقشة هذه الأحاديث في إسنادها ومتونها ، مكتفيا بشطحة قلم تطيح بمئات الأحاديث بل الألوف ، فهل يا ترى كل هذه الأخبار من صنع الشيعة الإمامية ، وإذا كانت من صنعهم ، فلما ذا أخذ بها كبار علماء العامة ودافعوا عنها بكلّ قوة؟! فلا يخلو الأمر حينئذ من شيئين :

إما تواطؤ علماء العامة مع الشيعة ، وإما جهلهم بطرق الحديث ومتونه ؛ وكلاهما لا يقرّ بهما أحمد أمين وأمثاله ، فيثبت أنّ ما ادّعاه الشيعة ليس من مبتدعاتهم وإنما هي من وحي السماء نزل على سيّد المرسلين محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي أخبر عن حفيده الإمام المهديّ ابن الحسن العسكري عليه‌السلام فنحن نؤمن بما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين رغما لأنفي ابن خلدون وأحمد أمين.

وأما ابن خلدون الذي طعن في تواتر الأحاديث الواردة بشأن الإمام المهديّ عليه‌السلام وأنكر إفادتها لظهوره عليه‌السلام ، فقد ردّ عليه أحد أكابر علماء العامة ومن أعاظم المحقّقين عندهم في كتابه «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون أو المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي» وصاحبه أحمد بن محمّد بن الصديق أبو الفيض الغماري الحسني الأزهري الشافعي المغربي (المتوفى عام ١٣٨٠ ه‍) قال في مقدّمة ردّه على ابن خلدون :

__________________

(١) لقد طعن ابن خلدون في الأحاديث الدالة على الإمام المهدي عليه‌السلام وضعّفها كما هو ملحوظ في كتابه «المقدمة» ص ٣١١ فصل ٥٢ في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس.


«وقد كثر في الناس اليوم ممن يخفى عليه هذا التواتر ويجهله ويبعده عن صراط العلم جهله ويضلّه من ينكر ظهور المهدي وينفيه ويقطع بضعف الأحاديث الواردة فيه مع جهله بأسباب التضعيف وعدم إدراكه معنى الحديث الضعيف وتصوّره مبادي هذا العلم الشريف وفراغ جرابه من أحاديث المهدي الغنيّة بتواترها عن البيان لحالها والتعريف ، وإنّما استناده في إنكاره مجرد ما ذكره ابن خلدون في بعض أحاديثه من العلل المزوّرة المكذوبة ولمز به ثقات رواتها من التجريحات الملفّقة المقلوبة مع أنّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان ، ولا ضرب له بنصيب ولا سهم في هذا الشأن ، ولا استوفى منه بمكيال ولا ميزان فكيف يعتمد فيه عليه ويرجع في تحقيق مسائله إليه. فالواجب دخول البيت من بابه ، والحقّ الرجوع في كلّ فنّ إلى أربابه فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلّا من حفّاظ الحديث ونقّاده :

فاعن به ولا تخض بالظنّ

ولا تقلّد غير أهل الفنّ

ولمّا لم أر أحدا تصدّى للرد عليه فيما علمت ولا بلغني ذلك عن أحد فيما رويت وسمعت بعثني باعث الغيرة الدينية الأثرية ، وحثّني فضل الانتصار والذّب عن السنّة النبويّة على أن أدحض حججه الباطلة وأردّ شبهه الفاسدة العاطلة ، فكتبت على ضعف في الاستعداد وقلّة من الموادّ هذه الرسالة (١) ، واختطفت من بين أنياب العوائق هذه العجالة بعد أن فهمت مراميه وتدبّرت كلامه ، فإذا هو مموّه بشبه واهية يعارض بعضها بعضا ؛ مركّب من مقدمات وهميّة موهمة تناقض نتائجها نقضا ؛ مؤلف من مغالطات يخيّل للناظر أنها حجج قوية ترفض النزاع رفضا ؛ محشوّ بتعسفات تغض من صاحبها غضا ، ومجازفات تحط من قدره وتنقص منه طولا وعرضا ..».

__________________

(١) ويقصد بها كتابه المسمّى «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون» أو «المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي» فليراجع ص ٤٤٣.


وقال في موضع آخر : [فإن الساعة آتية لا ريب فيها قريبة مقبلة بما فيها وأن لإتيانها أعلاما ولقيامها أشراطا ، ألا وإن من أعلامها الصريحة وأشراطها الثابتة الصحيحة ظهور الخليفة الأكبر والإمام العادل الأشهر الذي يحيي الله به ما درس من آثار السنّة النبوية واندثر ويميت به ما شاع من ضلالات أهل البدع وذاع وانتشر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت بظلم من جار وفجر ويحثو المال حثيا ولا يعدّه عدّا لكلّ من صلح وبر إمام العترة الطاهرة المصطفوية محمّد بن عبد الله المنتظر ، فقد تواترت بكون ظهوره من أعلام الساعة وأشراطها الأخبار وصحّت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الآثار وشاع ذكره وانتشر خبره من الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الدهر والأعصار ، فالإيمان بخروجه واجب واعتقاد ظهوره تصديقا لخبر الرسول محتم لازب كما هو مدوّن في عقائد أهل السنّة والجماعة من سائر المذاهب ومقرّر في دفاتر علماء الأمة على اختلاف طبقاتها والمراتب.

ففي «التذكرة» للإمام القرطبي و «فتح الباري» لأمير الحفّاظ العسقلاني نقلا عن الحافظ أبي الحسين الآبري أنه قال ردّا لحديث ابن ماجة الموضوع الآتي فيه أنه «لا مهدي إلا عيسى» ما نصّه : «قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملأ الأرض عدلا ، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام يخرج فيساعده على قتل الدّجال ، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى خلفه في طول من قصته وأمره ..». وممن نصّ على تواتر أحاديث المهدي أيضا الحافظ شمس الدين السخاوي في «فتح المغيث» والحافظ جلال الدين السيوطي في «الفوائد المتكاثرة في الأحاديث المتواترة» واختصاره «الأزهار المتناثرة» وغيرهما من كتبه ، والعلّامة ابن حجر الهيثمي في «الصواعق المحرقة» وغيره من مصنّفاته ، والمحدّث الزرقاني في شرحه ل «المواهب اللدنّية» وجمّ غفير من الحفاظ النقّاد والمحدّثين المتقنين لفنون الأثر. وذكر القنوجي في «الإذاعة لما كان وما يكون بين يديّ الساعة» أنّ القاضي أبا عبد الله محمّد بن عليّ الشوكاني ألّف في إثبات تواتر أخباره كتابا أسماه : «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر


والدجال والمسيح» ونقل عنه أنه قال فيه : «والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها ، منها خمسون حديثا فيها الحسن والصحيح والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحرّرة في الأصول ؛ وأما الآثار عن الصحابة المصرّحة بالمهدي فهي كثيرة لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك».

وقال القنوجي في كتابه المذكور : «والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حدّ التواتر وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد. وقد اضجع القول فيها ابن خلدون في مقدمة تاريخه حيث قال : يحتجون في الباب بأحاديث خرّجها الأئمة وتكلّم فيها المنكرون وربّما عارضوها ببعض الأخبار إلى آخر ما قال وليس كما ينبغي فإنّ الحق الأحق بالاتباع والقول المحقق عند المحدثين المميزين بين الدار والقاع أنّ المعتبر في الرواة رجال الحديث أمران لا ثالث لهما وهما : الضبط والصدق دون ما اعتبره أهل الأصول من العدالة وغيرها فلا يتطرق الوهن إلى صحة الحديث بغير ذلك ، كيف؟! ومثل ذلك يتطرق إلى رجال الصحيحين وأحاديث المهدي عند الترمذي وأبي داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبي يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة ؛ فتعرّض المنكرين لها ليس كما ينبغي ، والأحاديث يشدّ بعضها بعضا ويتقوّى أمرها بالشواهد والمتابعات ، وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها ضعيف وأمره مشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممر الأعصار».

وقال السفاريني في «الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضيّة» :

وما أتى في النص ما أشراط

فكلّه حق بلا شطاط

منها الإمام الخاتم الفصيح

محمّد المهديّ والمسيح

وقال في شرحه المسمى ب «لوائح الأنوار البهيّة وسواطع الأسرار الأثرية» :


«قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل : لا مهدي إلا عيسى ، والصواب الذي عليه أهل الحق أنّ المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه‌السلام ، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حدّ التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنّة حتى عدّ من معتقداتهم» ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه من طريق جماعة من الصحابة وقال بعدها : «وقد روي عمّن ذكر من الصحاب وغير من ذكر منهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم مما يفيد مجموعه العلم القطعيّ فالإيمان بخروج المهديّ واجب كما هو مقرّر عند أهل العلم ومدوّن في عقائد أهل السنّة والجماعة».

وفي «المراصد» :

وما من الأشراط قد صحّ الخبر

به عن النبي حق ينتظر

وخبر المهدي أيضا وردا

ذا كثرة في نقله فاعتضدا

قال شارحه في «مبهج المقاصد» : «هذا أيضا مما تكاثرت الأخبار به وهو المهدي المبعوث في آخر الزمان ورد في أحاديث السخاوي أنها وصلت إلى حدّ التواتر] (١).

وأما ما ادّعاه رونلدسن فجوابنا عليه :

(١) إذا كانت فكرة المهدويّة نتيجة فشل الشيعة واضطهادهم ، فهل أن اعتقاد أكابر علماء العامة وروايته لأحاديث المهديّ حيث بلغت فوق الاربعمائة خبر بطرق متعددة كان نتيجة فشلهم واضطهاد الآخرين لهم؟ ومن أين علم رونلدسن ذلك؟

(٢) لقد قام الإجماع بين المسلمين وتصافقت عليه الأخبار المتواترة والتي بلغت المئات ، كلها دلت على أن خروج المهديّ عليه‌السلام من المحتوم الذي لا يتخلّف وأنه عليه‌السلام يصلّي عيسى بن مريم خلفه ويبسط العدل ويرفع الظلم ، وليس الشيعة وحدهم الذين رووا هذه الأخبار ، مضافا إلى أن تاريخ صدور هذه الأخبار

__________________

(١) إبراز الوهم المكنون ص ٤٣٣ ـ ٤٣٦.


كان قبل نشوء الدولة الأموية عام ٤١ ه‍ ، وسقوطها عام ١٣٢ ه‍ ، وعليه فما ادّعاه ذاك المستشرق الخبيث ما هو إلا افتراء على الشيعة الإمامية وإمامهم المغيّب عن دول الكافرين ، والمستتر عن أعين الظالمين.

الشبهة السابعة عشرة :

إنّ عدم التفات الإمام المهديّ عليه‌السلام إلى أنصاره بعدم رفع الظلم عنهم دليل عدم وجوده وذلك لأن الإمام المهدي لو كان موجودا لرفع الظلم المتوجه إلى شيعته وأنصاره ، لكونه شخصا ـ على فرض صحة ما يقول الشيعة ـ يشعر بالمسئولية والعطف تجاه أصحابه تماما كما كان أجداده ، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركتهم في العمل ضده ، مع أنه لم يعمل ذلك ، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة ، إذن فهو غير موجود. وقد تبنى هذه الشبهة رونلدسن أيضا في كتابه حيث قال :

«وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية ، فبذلوا جهودا كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها ، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها ، ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال ومر قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ، ولكنّ الإمام بقي في غيبته الكبرى ، ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك ، ولكنّ الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر ، وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك فيها (آل البيت) دون أن يكون لهم إمام ، فمن الجانب الإسلامي كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العبّاس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا ، ولكن الإمام أخّر ظهوره ، وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر اجتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها ، وبالرغم من التخريب والآلام فإن «صاحب الزمان» المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر ، وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوخ آذربيجان


والدولة الصفوية لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف ، فكان يظهر لهؤلاء الملوك كما يدّعون!!» (١).

يورد عليه :

أولا : يجب أن لا نتوقع من الإمام المهديّ عليه‌السلام الظهور الكامل ، تحت أي ظرف من الظروف ، باعتباره مذخورا لنشر العدل الكامل في العالم كله ، لا لرفع المظالم الوقتية ، ولا بدّ أن لا يغيب عن بالنا أيضا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزما فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود ، لأن نجاحه منوط بشروط معيّنة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزما ، كما أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة الإمام المهدي عليه‌السلام نفسه ، مهما كان الظرف مهما وصعبا.

ثانيا : نحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن الإمام المهديّ عليه‌السلام يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ ، كالحروب الصليبية مثلا غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال ، ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي ، بصفته فردا عاديا في إزالتها لقوة تأثيرها وضراوة اندفاعها ، ومعه يصبح الإمام المهدي عليه‌السلام حال غيبته غير مكلّف من قبله عزوجل برفع هذا الظلم ، فيكون معذورا عن عدم التصدّي لرفعه طبقا للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة.

ثالثا : إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع لا يمكن للإمام المهديّ عليه‌السلام رفعه بالسبل العادية إلا إذا تحقق شرطان يضمنان ذلك :

الأول : أن لا يؤدي به عمله إلى انكشاف أمره وانتفاء غيبته ، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون ، فالإمام المهديّ روحي فداه لا بدّ أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره ، فيدقّق في ذلك ويخطّط له ، وهو الخبير الألمعي الذي

__________________

(١) عقيدة الشيعة / دوايت م. رونلدسن ص ٣٤٨.


يحسب لكلّ عمل حسابه ، وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب منه ، مهما ترتبت عليه من نتائج ، لأن حفظ سره وذخره لليوم الموعود ، أهم من جميع ما يتركه من أعمال. لكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيّرة التي نراها سائدة في المجتمع ، وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثّر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها ، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوارها بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله ، بقليل ولا بكثير.

الثاني : أن لا يؤدي عمله إلى التخلّف والقصور في تربية الأمة ، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود لو خرج قبل الوقت المقرّر.

بيان ذلك. أن ليوم الظهور الموعود شرائط ، ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله ، تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور ، حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها ، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه.

والإمام المهديّ عليه‌السلام حيث يعلم الشرائط والأسباب ، مكلّف ـ على الأقل ـ بحماية تلك الأسباب عن التخلّف أو الانحراف ، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها ، إن لم يكن مكلّفا بإذكاء أوارها والسير الحثيث في تقدّم تأثيرها.

ومن أهم شرائط اليوم الموعود : أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسئولية الإسلامية ، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عزوجل ، أو على الأقل أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي الإمام المهديّ عليه‌السلام ضد الكفر والانحراف ، ويبني بساعده الغد الإسلامي المشرق ، ويكون الجيش المكوّن من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة الإمام المهديّ قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.


وإذا كان ذلك من الشرائط ، فلا بدّ من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور في عصر الغيبة الكبرى ، والمحافظة على هذه الأسباب.

وأن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسئولية الإسلامية والإقدام على التضحية لدى الأمة ، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة ، وإحساسها بالظلم والتعسف ردحا كبيرا من الزمن ، حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخّص واقعها وتشعر بمسئوليتها ، فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكّين نافذا ، فإن الأمة ـ في مثل ذلك ـ لا تخلد إلى الهدوء والسكون ، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد.

وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدما بين يدي الإمام المهديّ عليه‌السلام وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود ، دون الأمة المنحرفة المتداعية ، أو الأمة المنعزلة المتحنثة.

فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضروريا لتحقيق شرط اليوم الموعود ، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه ، فالإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده الموالية بمثل هذه الظروف القاسية ، إلّا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها ، تقديما لمصلحة اليوم الموعود على أهل هذا اليوم الموجود.

وأما ما لا يكون من الظلم دخيلا في تحقيق ذلك الشرط ، وكان الشرط الأول لعمل الإمام المهديّ عليه‌السلام متوفرا فيه أيضا ، فإن الإمام ـ فديته بنفسي ـ يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه ، بموجب تكليفه الشرعي المتوجه إليه.

ونحن الذين لا نعيش نظر الإمام المهديّ عليه‌السلام وأهدافه نكاد نكون في جهل مطبق من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا ،


ما عدا بعض الموارد التي نظن دخالتها في ذلك ، ولكنّ معرفتها تحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور ، وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا الإمام المهديّ عليه‌السلام نفسه ، فيعود تشخيص ذلك إليه ، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء ووصف الدواء.

رابعا : إن بعض موارد الظلم لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السابقين ، باعتبار أن وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسئولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور ، وعلى الأمة أن تكافح لإزالته ، إلا أن الإمام المهديّ لا يتسبب لرفعه ، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود ، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإمام عليه‌السلام.

إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام ، فإذا كان الإمام المنتظر عليه‌السلام قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته ومسئوليته الحقيقية تجاه اليوم الموعود والحفاظ عليه.

فليس هناك أي تلازم بين وجود الإمام المهديّ وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور ، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم عدم وجوده. أما بقية الأنحاء الأخرى من الظلم ، فإن تكليف الإمام عليه‌السلام ووظيفته الشرعية يقتضيان وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فردا من أفراد المجتمع الإسلامي ، فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية ، كيف وهو على طول الخط يمثّل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان.

الشبهة الثامنة عشرة :

أخرج الشيخ الطوسي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي «الشيخ الصدوق» عن أبي محمّد أحمد بن الحسن المكتب قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري رضي الله عنه «السفير الرابع» فحضرته قبل وفاته بأيام ، فأخرج إلى الناس توقيعا من الإمام المهديّ عليه‌السلام هو نسخته :


بسم الله الرّحمن الرّحيم

«يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر اخوانك فيك فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام فأجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم». قال : فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلمّا كان اليوم السادس ، عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيك من بعدك؟ فقال : «لله أمر هو بالغه» وقضى ، بهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه» (١).

فالنص واضح في مدلوله من حيث عدم إمكان مشاهدة الإمام المهديّ عليه‌السلام قبل الصيحة وخروج السفياني ، فالإمام عليه‌السلام قبل تحقق هاتين العلامتين في احتجاب تام عن قواعده الشعبية المؤمنة به ، ومن الواجب ـ بحسب مقتضاه تكذيب كلّ من ادّعى رؤية الإمام المهديّ روحي فداه قبل تحقق ذلك ، وهو بظاهره ينافي الأخبار القطعية المتواترة التي وردتنا عن مقابلة الكثيرين للإمام المهديّ عليه‌السلام خلال غيبته الكبرى على نحو لا يمكن الطعن في التوقيع ، ومقتضى هذه الأخبار لزوم تصديق المخبرين في الجملة ، مع أن هذا التوقيع يوجب علينا تكذيبه ، فكيف نوفّق بينه وبين تلك الأخبار؟

والجواب عنه من وجوه :

الوجه الأول : طعن الأصحاب في سند التوقيع من حيث كونه خبرا واحدا مرسلا ضعيفا ، لم يعمل به ناقله وهو الشيخ الطوسي في كتابه المذكور ، وأعرض الأصحاب عنه ، فلا يعارض حينئذ تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن

__________________

(١) غيبة الشيخ الطوسي ص ٢٤٢ وبحار الأنوار ج ٥٢ / ١٥١ وج ٥٣ / ٣١٨ ومنتخب الأثر ص ٤٠٥ وفي نسخة البحار (وسيأتي من شيعتي من يدّعي) وفي نسخة : (وسيأتي في شيعتي).


مجموعها بل من بعضه المتضمّن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره عليه‌السلام (١).

ـ هذا الوجه لا يخلو من مناقشة :

أولا : «أما كونه خبر واحد ، فهو ليس نقصا فيه ، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية خبر الواحد الثقة ، وأما القول بعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به إلّا القليل النادر من العلماء» (٢).

ولكن يرد عليه :

إن محل النزاع إنّما هو في الخبر الضعيف لا الثقة ، فما أفاده الشهيد العلّامة الصدر أعلى الله مقامه الشريف مصادرة على المطلوب ، وراوي الحديث هو أبو محمّد أحمد بن الحسن المكتب مجهول إذ ليس له ذكر في تراجم الرجال ، إلّا إذا قلنا بالملازمة بمعنى إن الثقة لا يروي إلا عن الثقة ، فبما أن الصدوق عليه الرحمة ثقة وقد روى عنه فيكون المذكور ثقة.

لكنّ الملازمة مخدوشة إذ قد يشتبه الثقة بالتشخيص ، لكنّه مردود أيضا لجلالة الشيخ الصدوق لكونه من البعيد جدا أن ينقل عن الكذّابين ولأن ذلك منفي بالأصل ، هذا مضافا إلى عدم وجود ملازمة بين وثاقة الشيخ الصدوق وبكل ما رواه عن الغير ، فقد اعتمد في كتابه «الفقيه» على المراسيل وبعض المجاهيل وعذره أنها صحيحة بنظره : إما لوجود قرائن حافة بالخبر تفيد القطع أو الاطمئنان بصدور الخبر عن المعصوم ، وذلك لأن الصحيح عند القدماء ـ حسبما أفاد المحقق البهائي في كتابه مشرق الشمسين وتعليقة البهبهاني ص ٢٧ ـ هو عبارة عمّا اعتضد بما يقتضي الوثوق به والركون إليه وأسبابه مختلفة. وإما لأن أحمد بن الحسن المكتب ثقة بنظره ، وجهالته عند أصحاب التراجم لا تستلزم عدم وثاقته ،

__________________

(١) منتخب الأثر ص ٤٠٥.

(٢) الغيبة الصغرى / الحجّة السيّد محمد الصدر ص ٦٤١.


فلا يمنع الأخذ بما رواه عنه لا بعنوان كونه مرويا عن أحمد بن الحسن وإنّما لعمل الطائفة بمضمونه من حيث تكذيبهم لكلّ من ادّعى السفارة بعد موت السمري.

ثانيا : على فرض كونه ضعيفا ، فيكفي للإثبات التاريخي ، لحصول الاطمئنان بصدوره ـ أو على أقل تقدير عدم رفضه ـ لقرائن أو اعتبارات عقلية يمكن من خلالها تأويل التوقيع بما يتناسب والأخبار القطعية الدالة على وقوع المشاهدة أو اللقاء مع الإمام عليه‌السلام. وإعراض الشيخ الطوسي والأصحاب عن العمل به قد يكون ناتجا عن إثباتهم رؤية الإمام المهديّ في غيبته الكبرى ، وهذا مما لا شك فيه ، «إلّا أنه إنما يصلح دليلا على إعراضهم لو كانت هناك معارضة ومنافات بين الوقيع وإثبات الرؤية ، وأما مع عدم المعارضة فيمكن أن يكون الأصحاب قد التزموا بكلا الناحيتين من دون تكاذب بينهما ، ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم» (١).

لكن يظهر أن الأصحاب لم يلتزموا بكلا الناحيتين كما أفاد قدّس سره ، وإلّا لما وسعهم الإعراض عن التوقيع الشريف ، نعم على مسلك غير المشهور من الأصوليين فإن إعراضهم عن الخبر الصحيح ـ لو سلّمنا بكون سند التوقيع صحيحا ـ لا يوجب وهن الحديث ولا يسقط عن الحجبة ، وعليه فتبقى المعارضة بين التوقيع والنقولات الصحيحة باقية ، وأما على مسلك مشهور الأصوليين القائلين بأن إعراض المشهور عن الخبر الصحيح أو الموثق يوجب وهنه وسقوطه عن الحجية ، فلا معارضة حينئذ بين التوقيع والنقولات القطعية وذلك لأرجحية تقديم النقولات على التوقيع من دون حاجة إلى تأويله.

الوجه الثاني :

عدم جواز الطعن في أسانيد الأخبار الناقلة لمشاهدة الإمام المهديّ عليه‌السلام في غيبته الكبرى ، والشطب عليها جملة وتفصيلا ، وذلك لكونها طائفة ضخمة من

__________________

(١) الغيبة الصغرى ص ٦٤١.


الأخبار يصل عددها إلى المئات ، وبعضها مروي بطرق معتبرة وقريبة الإسناد فلا يمكن رفضها بحال ، وهذا كلّه واضح لمن استقرأ تلك الأخبار وعاش أجواءها.

ودعوى حمل هذه الأخبار على الوهم ، وأن هؤلاء الذين زعموا أنهم رأوا وسمعوا .. لم يرووا ولم يسمعوا ، وإنما كان كلامهم كذبا متعمّدا أو أضغاث أحلام وما شابه ذلك ، مردودة من أساسها لأن كثرتها مانعة عن كلا الأمرين : الكذب والوهم ، أمّا تعمد الكذب فهو منفي بالتواتر ، فضلا عما زاد عن ذلك بكثير ، مضافا إلى وثاقة وتقوى عدد مهم من الناقلين وعدم احتمال تعمدهم للكذب أساسا ، هذا مضافا إلى أن أخبار هؤلاء الثقات الناقلين موردا لقيام السيرة على الأخذ بأخبار الثقة ، وكونهم مشمولين لإطلاق الأدلة اللفظية الدالة على حجية أخبار الثقات.

وأمّا كونها من قبيل الأوهام والأحلام ، فهو مما ينفيه تكاثر النقل أيضا ، بل يجعل الاعتراف به في عداد المستحيل ، ويمكن أن تجد أثر ذلك في نفسك ، فيما لو أخبرك واحد بحادثة ما لكان احتمال الوهم موجودا وإن كان موهونا ، إلّا أنه لو أخبرك ثلاثة أو أربعة عن تلك الحادثة لحصل لك الاطمئنان أو العلم بصدق الخبر وحصول الحادثة ، فضلا عما إذا أخبرك بها عشرة ، فكيف إذا أخبرك بها مئات ، وهل تستطيع أن تحملهم كلهم على الوهم أو على أضغاث أحلام ، إلا إذا كنت تعيش الوهم أو الأضغاث؟

فإن قيل : إن الناقلين للمشاهدة وإن كانوا صادقين في إخباراتهم ، إلّا أنهم في الحقيقة لم يشاهدوا الإمام المهديّ عليه‌السلام بل شاهدوا غيره ، وتوهّموا أنه على غير الواقع.

قلنا : هذا غير صحيح وذلك لأمرين :

الأول : أنه مما ينفيه التواتر ، فضلا عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول بحيث يحصل القطع من مجموعها بأن الناقلين على كثرتهم لم يكونوا مغفلين إلى


هذه الدرجة ، فإن جلّهم إن لم يكن كلهم يقطعون بأنهم قد شاهدوا الإمام المهديّ عليه‌السلام نفسه.

الثاني : أنه مما تنفيه الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة التي أقامها ـ ويقيمها ـ الإمام المهديّ روحي فداه أثناء المقابلة ، وينقلها هؤلاء الناقلون ، مما لا يمكن صدورها من أحد سواه ، فيتعين أن يكون هو الإمام المهديّ عليه‌السلام دون غيره.

الوجه الثالث :

أن نعترف بصدق هذه النقولات ومطابقتها للواقع ، لكن يلتزم بوجوب تكذيبها تعبّدا ، إطاعة للأمر الوارد في التوقيع.

يرد عليه :

أنه مما لا يكاد يصح ، فإنه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه ، حيث يقول : «فهو كذّاب مفتر» الدال على عدم مطابقة قوله للواقع ، ولم يقل : «فكذّبوه» ليكون من قبيل الأمر الصادر من الإمام ليطاع تعبّدا ، على أنه لا يمكن للإمام المهديّ عليه‌السلام أن يأمر بالتكذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر.

الوجه الرابع :

يحمل التوقيع الوارد عنه عليه‌السلام على دعوى المشاهدة مع ادّعاء الوكالة أو السفارة عن الإمام المهدي عليه‌السلام وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء في الغيبة الصغرى ، وهذا أقرب الوجوه ، وقد أخذ به مشهور المتأخرين ، منهم المجلسي أعلى الله مقامه الشريف (١). وأما المتقدّمون فقد أجمعوا على جواز لقاء الخلّص من الشيعة بالإمام المهديّ عليه‌السلام وهذا يعني التقاء المتأخرين بهم ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ / ١٥١ والنوري في جنة المأوى مطبوع في آخر البحار ج ٥٣ / ٣١٩ ، والصافي في منتخب الأثر ص ٤٠٥.


مما يستتبع القول بوجود اتفاق بين الجميع على هذا الوجه (١).

وبالجملة فإن معناه كما هو الراجح : ادّعاء النيابة الخاصة والسفارة بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري حيث ورد في أوله تعزية الإمام المهديّ عليه‌السلام للمؤمنين بموت سفيره الرابع السمري ما بينه وبين ستة أيام ، ثم أمره عليه‌السلام السمري بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته ، إذ قد وقعت الغيبة التامة وأنه لا ظهور حتى يأذن الله تعالى ذكره ، ويشهد له براءة المؤمنين المعاصرين للغيبة الصغرى أمثال ابن قولويه القمي المتوفى سنة ٣٦٨ ه‍ حيث قال : «إن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل» (٢). فالمشاهدة أخذ فيها الشهود والحضور ، بمعنى أن النائب أو السفير كان دائم الحضور والمشاهدة للإمام المهديّ عليه‌السلام أو على أقل تقدير كان أكثر أوقاته قائما في خدمة الإمام المهديّ عليه‌السلام متشرفا بالحضور بين يديه ، وقد استفدنا ذلك من الاطلاق الموجود في كلمة «المشاهدة» حيث هي اسم اتصلت به لام الجنس التي تفيد الاطلاق والشيوع في متعلقها ، ولو أراد الإمام عليه‌السلام غير النيابة والوكالة لكان قال : «ومن ادّعى مشاهدتي .. فهو كذاب مفتر» لذا كرّر روحي فداه كلمة «المشاهدة» في التوقيع مرتين ، تأكيدا لما قلنا ، وعليه : فإن مفهوم المشاهدة قد أخذ فيها تكرار الرؤية والحضور وهذا غير حاصل لمن رآه مرة أو مرتين لقضاء حاجة أو نجاة من ظالم ، وإلّا لكان عليه أن يعبّر عن هذا بما قلنا آنفا ، أو بقوله : «من ادّعى المشاهدة البصرية» إلا أن الإمام المهديّ عليه‌السلام لم يقل ذلك ، ومقتضاه تكذيب من ادّعى السفارة والوكالة الخاصة التي هي القدر المتيقن من دلالة النص ، وما عداه مشكوك به فيبقى ضمن أصالة الجواز أو الإباحة.

رأي العلّامة الصدر «قدس‌سره» :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

(٢) غيبة الطوسي ص ٢٥٥.


نفى الشهيد السعيد محمد صادق الصدر أعلى الله مقامه أن تكون «المشاهدة» بمعنى ادّعاء السفارة فقط بل عمّمه إلى كل من ادّعى الرؤية ، فقال :

«حمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادّعاء الوكالة أو السفارة عنه عليه‌السلام ، وإن استقربه بعض ، إلا أنه في الواقع بعيد جدا ، بمعنى أنه خلاف الظاهر من عبارة الإمام المهديّعليه‌السلام في بيانه ، فإنه يحتاج إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها .. كما لو كان قد قال : ألا فمن ادّعى المشاهدة مع الوكالة فهو كذاب مفتر ، إلا أن الإمام المهديعليه‌السلام لم يقل ذلك كما هو واضح ، ومقتضاه عموم التكذيب لمن ادعى السفارة وغيره» (١).

والجواب :

(١) يورد عليه ما ذكرناه آنفا ، مضافا إلى أن التوقيع لو كان مقتضاه عموم التكذيب لمن ادّعى السفارة وغيره لكان الأجدر أن يحذف لام الجنس من كلمة «المشاهدة» مضيفا إليها ياء النسبة ، كما لو كان قد قال : «ألا فمن ادعى مشاهدتي» من دون ضم قيد آخر إليها حسبما ذكر قدّس سره.

(٢) مع وجود قرينة مقامية وعرفية في البين لا حاجة لنصب قرينة لفظية للدلالة على المطلوب ، هذا مع أن القرينة قد قامت على نفي السفارة والوكالة كما أفدت آنفا ، فدعوى أن التوقيع بحاجة إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها غير تامة لأن التقييد بالوكالة أو السفارة موجود في نفس لفظ «المشاهدة» والذي كما قلنا يفيد استمرار عملية الاتصال بالإمام المهديّ عليه‌السلام.

هذا مضافا إلى أن ما أفاده أعلى الله مقامه آنفا يتعارض مع ما ذكره في موضع آخر من كتابه حيث استظهر هناك «من قوله [ادّعى المشاهدة] بما إذا ادّعى المتكلم رأسا أنه رأى الإمام المهديّ عليه‌السلام وتعهد بذلك للسامع ، فهو المنفي بلسان التوقيع ، وأما إذا لم يخبر بذلك صراحة وإنما أو كل الجزم بذلك إلى وجدان

__________________

(١) الغيبة الصغرى / السيّد محمد صادق الصدر ص ٦٤٤.


السامع فهو مما لا ينفيه التوقيع الشريف» (١) فتخصيصه المشاهدة بهذا التعليل خلاف الاطلاق الذي ادّعاه فيما سبق ، هذا مع اعتقاده عليه الرحمة إمكان رؤية الإمام المهديّ عليه‌السلام في حال كون الرائي قاطعا (٢) بأن ما رآه هو الإمام عليه‌السلام.

(٣) شمول «المشاهدة» لمن ادّعى السفارة وغيره حسبما أفاد العلّامة الصدر يتعارض مع الأخبار المستفيضة منها : موثقة إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : للقائم غيبتان : إحداهما طويلة والأخرى قصيرة ، فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه (٣). مضافا إلى ما ورد في الأسانيد المعتبرة منها موثقة أبي بصير عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ولا بدّ له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة (٤).

ومن المعلوم أن من يراه من خاصة مواليه في الغيبة الكبرى ليسوا سفراء أو وكلاء للإمام المهديّ عليه‌السلام ، ومع هذا فقد أثبت الخبر المتقدّم صحة مشاهدتهم لإمامهم المهدي عليه‌السلام ، وكذا الذين يلازمونه من الثلاثين الأبدال في كل عصر حيث قبل أن يتشرفوا باللقاء كانوا محجوبين عن المشاهدة ، ودليلنا على ذلك أيضا ما ورد في خبر عليّ بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي قال :

خرجت في بعض السنين حاجّا إذ دخلت المدينة وأقمت بها أياما أسأل وأبحث عن صاحب الزمان فما عرفت له خبرا ولا وقعت لي عليه عين فاغتممت غمّا شديدا وخشيت أن يفوتني ما أملته من صلب صاحب الزمان ، فخرجت حتى أتيت مكة فقضيت حجتي واعتمرت بها أسبوعا ، كل ذلك أطلب ، فبينما أنا أفكر إذ انكشف لي باب الكعبة ، فإذا أنا بإنسان كأنه غصن بان ، متزر ببرده متشح بأخرى

__________________

(١) نفس المصدر ص ٦٤٩.

(٢) نفس المصدر ص ٦٥٠.

(٣) غيبة النعماني ص ١١٣ وأصول الكافي ج ١ / ٣٤٠ ح ١٩ وبحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٤.

(٤) أصول الكافي ج ١ / ٣٤٠ ح ١٦ وبحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٠ وغيبة النعماني ص ١٢٥.


قد كشف عطف بردته على عاتقه فارتاح قلبي وبادرت لقصده فأثنى إليّ وقال : من أين الرجل؟ قلت : من العراق ، قال من أي العراق؟ قلت من الأهواز ، فقال : أتعرف الحضيني؟ قلت : نعم ، قال : رحمه‌الله فما كان أطول ليله وأكثر نيله وأغزر دمعته! قال : فابن المهزيار؟ قلت : أنا هو ، قال : حيّاك الله بالسلام أبا الحسن ثم صافحني وعانقني ، وقال : يا أبا الحسن ، ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين الماضي أبي محمّد نضّر الله وجهه؟ قلت : معي ، وأدخلت يدي إلى جنبي (جيبي) وأخرجت خاتما عليه : محمّد وعليّ ، فلما قرأه استعبر حتى بلّ طمره الذي كان عليه وقال : يرحمك الله أبا محمّد فإنك زين الأمة ، شرّفك الله بالإمامة وتوّجك بتاج العلم والمعرفة فإنّا إليكم صائرون ثم صافحني وعانقني ثم قال : ما الذي تريد يا أبا الحسن؟ قلت : الإمام المحجوب عن العالم ، قال : ما هو محجوب عنكم ولكن حجبه سوء أعمالكم ، قم سر إلى رحلك وكن على أهبة من لقائه إذا انحطت الجوزاء وأزهرت نجوم السماء ، فها أنا لك بين الركن والصفا (١) ، فطابت نفسي وتيقنت أن الله فضلني ، فما زلت أرقب الوقت حتى حان ، وخرجت إلى مطيتي واستويت على رحلي فإذا أنا بصاحبي ينادي يا أبا الحسن ، فخرجت فلحقت به فحياني بالسلام وقال : سر بنا يا أخ ، فما زال يهبط واديا ويرقى ذروة جبل إلى أن علقنا على الطائف ، فقال : يا أبا الحسن انزل بنا نصلّي باقي صلاة الليل .. إلى أن قال : وركب وأمرني بالركوب وسار وسرت معه حتى أشرفنا على وادي عظيم ، فقال : هل ترى شيئا؟ قلت : نعم أرى كثيب رمل عليه بيت شعر ، يتوقد البيت نورا ، فلما رأيته طابت نفسي ، فقال لي : هناك الأمل والرجاء ، ثم قال : سر بنا يا أخ ، فسار وسرت بمسيره إلى أن انحدر من الذروة وسار في أسفله ، فقال : انزل فههنا يذلّ كلّ صعب ، ويخضع كلّ جبار ، ثم قال : خلّ عن زمام الناقة ، قلت : فعلى من أخلّفها؟ فقال: حرم القائم عليه‌السلام ، لا يدخله إلّا مؤمن ولا يخرج منه إلا

__________________

(١) في نسخة بحار الأنوار ج ٥٢ / ١٠ : «حتى إذا لبس الليل جلبابه .. صر إلى شعب بني عامر فإنك ستلقاني هناك».


مؤمن ، فخلّيت عن زمام راحلتي وسار وسرت معه إلى أن دنا من باب الخباء فسبقني بالدخول وأمرني أن أقف حتى يخرج إليّ ثم قال لي : ادخل هنأك السلامة ، فدخلت فإذا أنا به جالس قد اتّشح ببردة واتزر بأخرى ، وقد كسر بردته على عاتقه وهو كأقحوانة ارجوان قد تكاثف عليها الندى وأصابها ألم الهوى وإذا هو كغصن بان (١) أو قضيب ريحان سمح سخيّ تقي نفي ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللازق ، بل مربوع القامة مدوّر الهامة صلت الجبين أزجّ الحاجبين أقنى الأنف سهل الخدّين ، على خده الأيمن خال كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر.

فلمّا أن رأيته بدرته بالسلام فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه ، قال لي : يا أبا الحسن قد كنّا نتوقعك ليلا ونهارا فما الذي أبطأ بك علينا؟ قلت : يا سيّدي لم أجد من يدلني إلى الآن ، قال لي : ألم تجد أحدا يدلك؟! ثم نكت بإصبعه في الأرض ، ثم قال : ولكنكم كثّرتم الأموال وتجبرتم على ضعفاء المؤمنين وقطعتم الرحم الذي بينكم فأي عذر لكم؟

فقلت : التوبة التوبة الإقالة الإقالة ، ثم قال : يا ابن المهزيار : لو لا استغفار بعضكم لبعض لهلك من عليها إلّا خواص الشيعة الذين تشبه أقوالهم أفعالهم ، ثم قال : يا ابن المهزيار ومدّ يده : ألا أنبئك الخبر إذا قعد الصبي وتحرك المغربي وسار العماني وبويع السفياني يؤذن لوليّ الله فأخرج بين الصفا والمروة في ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا فأجيء إلى الكوفة وأهدم مسجدها وأبنيه على بنائه الأول وأهدم ما حوله من بناء الجبابرة وأحج بالناس حجة الإسلام وأجيء إلى يثرب فأهدم الحجرة وأخرج من بهما وهما طريان (٢) فآمر بهما تجاه البقيع وآمر بخشبتين يصلبان عليهما فتورق من تحتهما فيفتتن الناس بهما أشدّ من الفتنة الأولى ، فينادي مناد من السماء : يا سماء أبيدي ويا أرض خذي ، فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض

__________________

(١) البان : شجر سبط القوام لين وورقه كورق الصفصاف.

(٢) أي يحييهما الإمام المهدي عليه‌السلام ليحاسبهما في الدنيا أمام أعين محبيهما ليكونا عبرة لغيرهما وفتنة لمن اتبعهما.


إلّا مؤمن قد أخلص قلبه للإيمان ..» (١).

والعبرة التي نستخلصها من هذا الحديث الشريف هي أمور :

الأول : أن سوء الأعمال تحجب عن رؤية الإمام عليه‌السلام ، إذ كيف يلتقي الظلام بالنور. فبما أن ابن مهزيار وصل إلى مرحلة الإخلاص تشرف باللقاء ، ومنه نفهم أن الإمام يحتجب عمّن يخاف منه على الإمام عليه‌السلام ، وأفلح عند ما قال السيّد المرتضى أعلى الله مقامه :

«إذا كانت العلة في استتار الإمام خوفه من الظالمين ، واتقائه من المعاندين ، فهذه العلة زائلة في أوليائه وشيعته ، فيجب أن يكون ظاهرا لهم ، وغير ممتنع أن يكون الإمام يظهر لبعض أوليائه ممن لا يخشى من جهته شيئا من أسباب الخوف ، وأن هذا مما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه ، وإنما يعلم كلّ واحد من شيعته حال نفسه ، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره» (٢).

وقال شيخ الطائفة الطوسي أعلى الله مقامه :

«والذي ينبغي أن يقال : إنّا أولا لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه بل يجوز أن يبرز لأكثرهم ولا يعلم كل إنسان إلّا حال نفسه ، فإن كان ظاهرا له فعلّته مزاحة ، وإن لم يكن ظاهرا علم أنه إنما لم يظهر له لأمر يرجع إليه وإن لم يعلمه مفصّلا لتقصير من جهته ..» (٣).

وقال جمال العارفين ابن طاوس أعلى الله مقامه :

«الإمام عليه‌السلام حاضر مع الله جلّ جلاله على اليقين ، وإنما غاب من لم يلقه عنهم ، لغيبته عن حضرة المتابعة له ولربّ العالمين ..» (٤).

__________________

(١) دلائل الإمامة للطبري ص ٢٩١ ـ ٢٩٢ وبحار الأنوار ج ٥٢ / ٩ ـ ١٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد المرتضى.

(٣) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد الطوسي.

(٤) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد ابن طاوس.


الثاني : أن الإمام المهدي روحي فداه يتوقع دائما أن يكون الشيعة على درجة من الإخلاص تخوّلهم لنصرة الحق ، فهو عليه‌السلام لا يحب أن يبطئوا عن جنابه المقدّس وهذا ما قاله لابن مهزيار : «كنا نتوقعك ليلا ونهارا فما الذي أبطأ بك علينا».

الثالث : استغراب الإمام عليه‌السلام من ابن مهزيار لمّا قال للإمام : لم أجد من يدلني للوصول إليك ، وذلك لأن طريق الوصول واضح ومعالمه لائحة لكنّ السائرين تاهوا عنه لانغمارهم بملذات الدنيا وزخارفها.

الرابع : إن موانع الوصول ثلاثة : (١) كنز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله ، وسبيله عزوجل هم أئمة أهل البيت. (٢) التجبر على ضعفاء المؤمنين ، بظلمهم وسلب حقوقهم والاعتداء عليهم وإخافتهم وإبعادهم عن نشر تعاليم الأئمة عليه‌السلام. (٣) قطع الرحم التي لا بدّ أن توصل ، وفي طليعتها صلة الأئمة لكونهم الآباء الحقيقيين للمؤمنين للحديث : «أنا وعليّ أبوا هذه الأمة» وصلة الأتقياء المحبين للأئمة عليهم‌السلام ، مع التأكيد على الإحسان إلى الوالدين والأقارب.

الخامس : أن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو الرجاء والأمل ، فمن ابتغى غير وجهه خاب وذلّ ، لكونه فديته بأبي وأمي ونفسي وولدي وأهلي الكعبة الكبرى التي يتوجه إليها الأولياء ورد في دعاء الندبة : (أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء).

فعلى العبد السالك إلى الله تعالى أن يتوجه إليه عبر السمت والجهة التي أمر الله من خلالها أن يتوجه قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) وبالتوجه إليه يذلّ كل صعب ويخضع كل جبار.

الوجه الخامس :

أن يكون المراد من ادّعاء المشاهدة رؤية مكانه عليه‌السلام ومستقره الذي يقيم

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٥.


فيه ، فلا يصل إليه أحد أما مشاهدته في الأماكن والمقامات المقدّسة وظهوره لإغاثة المضطر فلا ينافي التوقيع المذكور. ذكر هذا الوجه النوري أعلى الله مقامه في جنّة المأوى (١) ، واستشهد عليه بما ورد في النص المتقدم من «أن للإمام غيبتين : إحداهما قصيرة والأخرى طويلة ، فالأولى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصة شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصة مواليه». وبما ورد أيضا : «من أنه لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ، ولا غيره إلا الذي يلي أمره».

يرد عليه :

١ ـ حمل المشاهدة على مكان إقامته عليه‌السلام خلاف المتبادر من لفظ المشاهدة فحينما تقول : «شاهدت فلانا» تقصد رأيته في مكان معين ، وهذا المكان أعم من أن يكون مستقره أو مكانه الذي يقيم فيه ، ولو أردت المعنى الخاص عليك أن تنصب قرينة على قصدك فتقول مثلا : شاهدته في داره أو محل إقامته وسكناه. وموردنا من هذا القبيل ، فلا يمكن حمل ادّعاء المشاهدة على محل إقامته لعدم وجود قرينة تثبت هذا الفهم.

٢ ـ إن التعبير الوارد في الرواية الثانية «لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلّا الذي يلي أمره» يتعارض مع الخبر الوارد عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام من أنه قال : لا بدّ لصاحب هذا الأمر من عزلة ، ولا بدّ في عزلته من قوة ، وما بثلاثين من وحشة ، ونعم المنزل طيبة» حيث يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون الإمام المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة ، وهذا ما ينفيه الخبر الدال على أنه لا يستطيع أحد التعرف على موضعه حتى ولده ، إلّا المولى الذي يلي أمره.

إن قيل : إنّ التعبير عمّن يلي أمره بصيغة المفرد بقوله : «إلّا المولى» يراد منه الثلاثون الذين يأتون في كلّ عصر هم ممن يلي أمره ، فلا تناف حينئذ بين الخبرين!

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٤.


قلنا : إن التلفظ بالمفرد ، مع قصد إرادة الجمع خطأ لا يصار إليه ما دام قادرا على التعبير بلفظ الجمع ، فكان بإمكانه أن يقول : لا يطّلع عليه أحد إلا الذين يلون أمره ، وحتى لو قلنا بجواز القصد المزبور فلا يمكن حمل «المشاهدة» على محل إقامته وسكناه لخلو الحديث من كشف الشيعة ومعرفتهم لسكنى وإقامة الإمام المهديّ عليه‌السلام بعد الصيحة والسفياني.

الشبهة التاسعة عشرة :

قد اشتهر واستفاض من خروج كتاب ورد من الناحية المقدّسة على يد الشيخ المفيد رحمه‌الله ، فكيف يتفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفارة وأن من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ، أليس ما ورد على يد المفيد (قدس‌سره) ادّعاء للمشاهدة؟

والجواب :

أولا : من الصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد «قدّس سره» وذلك لأن أول من ادّعى وجود كتاب من الحجّة المنتظر عليه‌السلام إلى الشيخ المفيد هو الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتابه الاحتجاج ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد ، فالطبرسي متفرد بذكر الرسالة مع أن الشيخ الطوسي وهو تلميذ المفيد ومن خواصه المقربين إليه لم يذكر ذلك في كتبه بشكل عام لا سيّما عند ترجمة شيخه المفيد ، مع أنه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح ، ولو كان هذا الكتاب صادرا من الناحية المقدّسة لناسب ذكره في الترجمة لأنه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه ، وكذلك الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ النجاشي والسيّدين الرضي والمرتضى ، كلّ هؤلاء لم يذكروا تلك الرسالة المنسوبة لشيخهم المفيد ، لا سيّما عند تعرّضهم لترجمة حياته المباركة مع أنهم أطروا عليه بأحسن الثناء ، وكذا غيرهم ممن تأخر عنهم كأمثال ابن إدريس الحلي وأبي الفتح الكراجكي وهو تلميذ المفيد أيضا لم يتعرض لفحوى الرسالة ، وعلى أي حال


سواء أكانت الرسالة منسوبة أم صادرة من مولانا الحجّة المهديّ المنتظر «عجّل الله فرجه الشريف» فلا يشملها ما ورد في التوقيع الصادر عن السفير الرابع السمري رضي الله عنه وأرضاه وذلك لوجود فرق بين السفير وبين مثل المكاتبة التي تشرّف بها المفيد أعلى الله مقامه على فرض صحة ذلك ، وحاصل الفرق : هو أن السفراء ـ كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى ـ منصوبون من قبل الإمام الحجّة المنتظر روحي فداه بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام عليه‌السلام بحيث يكون على اتصال مستمر من وإلى الحجّة عليه‌السلام يسلّمه ويستلم منه الرسائل المتضمنة للفتاوى والأحكام ، وتظهر الخوارق على يديه من قبل مولانا الحجّة المنتظر «فديته بنفسي» مع إظهار السفير سفارته لأجلّاء الطائفة حرسها المولى ، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟! فالمراد من البابية المحرّمة في عصر الغيبة الكبرى هي أن يكون الوسيط بابا في استلام وإظهار الفتاوى والأحكام على يده ، وشيء من هذا لم يدّعيه الشيخ المفيد لنفسه ، بل صرّح عليه الرحمة بالعكس من ذلك حيث ذكر في كتابه «الرسائل الخمسة في الغيبة» انقطاع السفارة بموت السفير الرابع في الغيبة الصغرى ، وذكر ذلك في كتاب الإرشاد في الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، كما أنه عليه الرحمة ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه : «إن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل» ، هذا مع أن الشيخ المفيد كتب إليه من الحجّة عليه‌السلام لا أنه أرسل كتابا ثم أتاه الجواب.

ثانيا : أنّ موصل التوقيع إلى الشيخ المفيد مجهول ، وهب أن الشيخ المفيد جزم بقرائن أنّ التوقيع صدر من الناحية المقدّسة ، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية ، على أن رواية الاحتجاج لهذا التوقيع مرسلة ، والواسطة بين الطبرسي والشيخ المفيد مجهول (١).

وعلى تقدير ثبوت الكتاب فإن التكذيب لا يشمله لخروجه عن مفهوم

__________________

(١) معجم رجال الحديث / الخوئي ج ١٧ / ٢٠٩.


المشاهدة لكونه صدر ابتداءً من الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام إلى الشيخ المفيد من دون دعوى المشاهدة ، وعليه فلا يكون مشمولا للعن ولا التكذيب ، لأن كل ما يصدر ابتداءً من الإمام عليه‌السلام كتوجيه نداء أو رسالة عبر بعض الرائين لا يكون موردا للتكذيب كما قلنا ، لأن ناقل النداء أو الرسالة لا يدّعي لنفسه البابية أو السفارة كما كانت وظيفة السفراء الأربعة ، فتأمّل.

الشهبة العشرون :

«إن الأئمة عليهم‌السلام ما كانوا بإخباراتهم تلك ـ عن علائم الظهور ـ يريدون ربط الناس بما سيقع من أجل أن يستغرقوا فيه ، أو ليكون ذلك عذرا ومبررا للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج .. نعم إنهم ما كانوا يريدون ربط الناس بما سيقع ، وإنما بما وقع ، أي أنهم يريدون للناس أن يستفيدوا مما وقع ومضى لينعش بهم الأمل ، ويشحذ الهمم ويهب لهم الارتباط العاطفي والشعوري بقائد المسيرة ورائدها ، فالمطلوب إذن هو أن يسهم ما وقع في بعث الأمل ورفع درجة الإحساس والشعور والارتباط بالقائد والقيادة على مستوى أعلى وأكثر حيوية وفاعلية ويعمق في الإنسان المسلم المزيد من الشعور بالمسئولية ..» (١).

وقال في موضع آخر : «ولا يصح صرف الجهد في التعرف على ما سيحدث ، ومحاولات من هذا القبيل لن يكون لها الأثر المطلوب ما دام لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار صحيحها وسقيمها إلا بعد وقوع الحدث» (٢).

يرد عليه :

١ ـ إن حصره لدور العلامات بما وقع فقط دون ما سيقع يؤدي إلى نسف المفهوم الشرعي للانتظار والذي أكدت عليه النصوص المتواترة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ويطيح بأهم ركائزه المتمثلة بالعلامات قبل تحققها.

__________________

(١) دراسة في علامات الظهور / السيد جعفر مرتضى ص ٥٤ ط أولى.

(٢) نفس المصدر ص ٥٦.


والمتأمل في نصوص أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وهم يتحدثون عن دور العلامات قبل وقوعها يجزم بخطإ ما ذهب إليه صاحب الشبهة ، لكونها ـ أي العلامات ـ جرس إنذار للمترفين ، وهداية للمطيعين ، فهي ترشدنا وتنبهنا إلى أحداث مهمة ستقع في المستقبل ، وتحذّرنا من التورط بفتنها وانحرافاتها ومشاكلها المترتبة على وقوعها ، لذا لا ينجو من تلك الانحرافات إلا من سمع بها وعرفها قبل ذلك معتقدا بصحة صدورها ، فعن حذيفة بن اليمان قال : «هذه فتن قد أطلت كجباه البقر ، يهلك فيها أكثر الناس إلّا من كان يعرفها قبل ذلك» (١).

وعن هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : هما صيحتان ، صيحة في أول الليل وصيحة في آخر الليلة الثانية ، قال : فقلت : كيف ذلك؟ قال : واحدة من السماء وواحدة من إبليس ، فقلت : كيف تعرف هذه من هذه؟ قال : يعرفها من كان سمع بها من قبل أن تكون» (٢).

وعن زرارة بن أعين قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ينادي مناد من السماء أن فلانا هو الأمير وينادي مناد أن عليّا وشيعته هم الفائزون ، قلت : فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال : رجل من بني أمية ، وأن الشيطان ينادي أن فلانا وشيعته هم الفائزون ، قلت : فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال : يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا ويقولون إنه يكون قبل أن يكون ، ويعلمون أنهم هم المحقون الصادقون (٣).

وفي سؤال المدائني للإمام الصادق عليه‌السلام عن الإمام المهديّ عليه‌السلام قال : قلت : فهل هل علامات قبل ذلك؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : نعم علامات شتى ، قلت : ما ذا؟ قال : خروج راية من المشرق وراية من المغرب (٤).

__________________

(١) كتاب الفتن / ابن حمّاد ص ١٤ دار الفكر ، وعقد الدرر ص ٣٣٣.

(٢) الغيبة للنعماني ص ١٧٧.

(٣) نفس المصدر ص ١٧٧.

(٤) فلاح السائل ص ١٧٠.


وهكذا نلاحظ العلامات دائما تأخذ بأيدينا وأبصارنا وعقولنا إلى ما سيقع لا إلى ما وقع.

٢ ـ إن دعوى عدم وجود فائدة من دراسة العلامات قبل وقوعها ، والتأكيد على عدم جدوى التحقيق في موضوعاتها والاطلاع عليها ، والاهتمام بها قبل وقوعها ، يساهم في تجهيل القواعد الشعبية المؤمنة بقيام الحجّة المنتظر والمعتقدة بوجوب نصرته والذبّ عنه ، تجهيليها بكل ما يدور من حولها من مخططات عدوانية لضرب الدين باسم الدين ، ولو لا دور العلامات من خلال ما جاءت به النصوص عنهم ودراستها وترقب حدوثها لكان انحرف كثيرون من الناس بواسطة دعاة المهدوية المزيفة التي تطلّ على المسلمين بين الحين والآخر ، بل ولم ينجح هؤلاء في تضليل بعض المسلمين على امتداد التاريخ إلّا بسبب جهل هذا البعض بالعلامات الحقيقية عن الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وعدم اطلاعهم عليها واهتمامهم بها قبل تحققها. فقد حذّرت رواياتنا من جماعة يستغلون الدين وشعاراته ليحرفوا الأمة عن مسارها ، من هذه الروايات ما جاء عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «لترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يعرف أي من أي» (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : «لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه» (٢).

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام مع بريد عن علامات الظهور القريبة قال : يا بريد اتق جمع الأصهب ، قلت : وما الأصهب؟ قال : الأبقع ، قلت : وما الأبقع؟ قال : الأبرص ، واتق السفياني واتق الشريدين من ولد فلان ، يأتيان مكة يقسمان بها الأموال ، يتشبهان بالقائم ، واتق الشذاذ من ولد آل محمّد (٣).

__________________

(١) غيبة النعماني ص ١٥١.

(٢) غيبة الطوسي ص ٢٦٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٢٦٩ ح ١٦٠.


وعليه فكيف يمكن أن نتقي جمع الأصهب والسفياني والشذاذ من آل محمّد وهم الذين يظهرون للناس تارة باسم السيّد الحسني أو الخراساني ، وأخرى باسم شعيب بن صالح وثالثة باسم اليماني وبغير ذلك من علامات الظهور الأخرى المقدّسة؟ وهل يمكن النجاة من السقوط في تيار رايات الضلال في آخر الزمان ، من دون معرفة مسبقة بعلاماتها وأوصافها والظروف التاريخية لظهورها كما تحدثنا أخبار العلامات (١)؟

وكيف يمكن أن نتقي من الاثني عشر راية ضلال متسترة بالدين ونفرّق بينها وبين راية الإمام المهدي عليه‌السلام من دون أن نتعرّف على جميع علاماته قبل ظهوره؟ وكيف نميز رايات الضلال من رايات الهدى التي تخرج قبل ظهوره إذا لم نستوعب أوصافها ودلائلها المذكورة في أخبار العلامات قبل تحققها؟

٣ ـ إن وجود صحيح وسقيم في أخبار الظهور لا يلغي دور العلامات ودراسة مضامينها طبقا للموازين العلمية ، مما يضفي على المدقق فيها والمتتبع لها رونقا فكريا سليما يجعله يعيش حالة الانتظار لإمام زمانه عليه‌السلام بكل كيانه ووجوده ، مستغرقا في الاستطلاع على خصوصيات أفعال إمامه وما يتعلق به وبحركة ظهوره مما يستلزم أن يكون مشاركا ومساهما بالعلم والعمل في بناء الهيكلية العقائدية الصحيحة تمهيدا ليوم الظهور المبارك.

فإطلاق الدعوى بعدم جدوى البحث في علامات الظهور ما دام لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار إلّا بعد وقوع الحدث ، ينسف ما تستهدفه تلك الأخبار من وجوب إقامة الحجّة على المجتمع البشري وإنذاره بقرب يوم الخلاص العالمي ، بالإضافة إلى ما تستهدفه تلك الأخبار من إيقاظ الأمة من سباتها العميق وغفوتها الطويلة ، لإعدادها فكريا وروحيا وسياسيا لاستقبال قائدها المرتقب لتشارك بقيادته في صنع مستقبل البشرية الزاهر في ظل رسالة العدل الإلهي.

__________________

(١) مبادي الثقافة المهدوية ص ١٤٢.


كما أن عدم جدوى البحث في العلامات ـ حسبما جاء في الشبهة ـ يلغي دور العلامات المحتومة التي لا يقع فيها التغيير ، كما هو صريح الأخبار المتواترة ، ومن خلالها يمكن رسم خارطة سياسية تحدّد للإمة الإسلامية معالم حركة الظهور ، وأما غير المحتوم من العلامات فلا يمكن أن تحدّد لنا أهداف الإسلام المتوخاة من خلال ترقبها سوى ما يتعلق بتكوين الشخصية المتزنة والمتصفة بالصبر والانتظار ، وهذا بدوره عنصر مهم في بلورة الواقع المؤمن وتهذيبه من الشوائب النفسية والدخيلة على جوهره وكيانه.

«إن إمكانية استطلاع المستقبل المجهول للإنسانية ، ومحاولة التعرف على أبرز معالمه الفكرية ، وخصائصه الاجتماعية ، وصراعاته السياسية ، ومكوناته الحضارية بدقة متناهية ، أمر تفردت به رسالة الإسلام وحدها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) وإن وضع الدين القيّم والمهيمن على الأديان كلها في ساحة الجهل بأحداث المستقبل ، وعدم القدرة على استطلاعها والتعرف عليها قبل تحققها ، بحجة أن أهل البيت يريدون لأتباع هذا الدين الارتباط بما وقع دون الالتفات إلى ما سيقع ، هو لون من التصورات الاجتهادية الخاطئة لعدم انسجامها مع قيمومة الإسلام على الأديان كلها ، وعدم تطابقها مع طريقته في إلقاء الحجّة على أعدائه ، قبل أن ينتهي بهم الكفر والانحراف عن مباديه إلى الطريق المسدود ، فحينئذ يصبح دين (نوستردامس) في تنبؤاته عن مستقبل الحضارة البشرية في صراعاتها السياسية ، ومعاركها الجوية والبحرية هو الدين القيم المهيمن على الأديان كلها في طريق إلقاء الحجّة على المجتمع البشري ، وهدايته إلى الموقف الحق لإنقاذه من الخطر المحدق به ، وليس الإسلام الموصوف في كتاب الله تعالى بأنه دين الهداية والبشرى للمسلمين (٢) بقوله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠.

(٢) مبادي الثقافة المهدوية / للشيخ مهدي الفتلاوي ص ١٤٩.


وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١).

إن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أوصوا شيعتهم المنتظرين بضرورة الانفتاح على دلائل الظهور وعلاماته ، لرصد حركة الواقع بوعي ودقة ، محذّرين من الانزلاق وراء رايات الضلال التي تخرج قبل اليوم الموعود ، فالدعوة إلى التطلع إلى الحاضر دون المستقبل تعني التخلي عن الانفتاح على علامات الظهور التي من خلالها نتطلع إلى قائدنا المغيّب المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وهي دعوة صريحة لرفض توجيهات أهل البيت في مسألة الانتظار والتمرد عليها وإن تظاهرت باسم الدين ولبست مسوح البحث العلمي.

وللعلامات دور بارز في تنشيط الحركة الثقافية المهدوية لدى القواعد الشعبية العاشقة لإمام الزمان روحي فداه ، بحيث تجعل المؤمن المنتظر يعيش حالة التربّص واليقظة الدائمة ليكون حارسا أمينا على المحافظة على مبادي إمام زمانه ، كما أنها تحوّل العقيدة بالإمام المهديّ عليه‌السلام من قضية إيمانية ذاتية تجريدية إلى قضية سياسية كبرى في الأمة ، تقود المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في ساحة الصراع مع أعداء إمامهم المغيّب (عجّل الله فرجه الشريف) بآمالها الكبيرة التي تشعها في النفوس ، فتبدد بنورها وهداها ظلام اليأس والقنوط ، عند اشتداد ضغوط الظلم والجور ، وتكالب قوى الكفر والطاغوت في ساحة الصراع عليهم.

إن ترقب وقوع علامات الظهور والتعامل مع أحداثها السياسية التي تتحقق على الأرض يزيد من التزام المؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ، في حياته الفردية والاجتماعية ، نتيجة لشعوره بقرب تحقق اليوم الموعود ، واستعدادا لاستقبال وليّ الله الأعظم ، حيث لا مجال لمهادنة المشركين والكافرين والنواصب والمنحرفين في دولته المباركة ، فمن لم يكن مستعدا بكل قواه الروحية والفكرية والنفسية لاستقبال بقية الله قبل ظهوره ، لا يملك المقدمات الذاتية والسلوكية التي تؤهله

__________________

(١) سورة النحل : ٨٩.


للالتحاق برايته المقدّسة .. اللهم اجعلنا من العارفين به والذابين عنه والدالين عليه والمستشهدين بين يديه ، اللهم أرنا الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة وأكحل نواظرنا بنظرة منه إلينا وعجّل فرجه وسهّل مخرجه والعن أعداءه بحق الحق والدال على الصدق محمّد وآله الميامين العظام.

هذا ما أحببت إيراده من الشبهات حول مولانا الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام مع الإجابة عليها بعون الله عزوجل ، مقتصرا عليها دون غيرها من البحوث المتعلقة بشخصه الكريم ، تاركا هذا الأمر لوقت آخر إن منّ الله تعالى علينا بالتوفيق والحياة.

ولنرجع إلى متن مؤتمر علماء بغداد.


قال الملك للعبّاسي :

فلما ذا أنت تنكر الحقائق الواردة عندنا نحن السّنّة؟

قال العبّاسي : خوفا على عقيدة العوام أن تتزلزل وتميل قلوبهم نحو الشيعة!

قال العلوي : إذن أنت أيّها العبّاسي مصداق لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة : ١٥٩.

فشملتك اللعنة من الله تعالى .. ثم قال العلوي :

أيّها الملك ، اسأل العبّاسي هل يجب على العالم المحافظة على كتاب الله وأقوال رسول الله أم يجب المحافظة على عقيدة العوام المنحرفة عن الكتاب والسّنّة؟

قال العبّاسي :

إني أحافظ على عقيدة العوام حتى لا تميل قلوبهم إلى الشيعة لأن الشيعة أهل بدعة(١)!.

____________________________________

عرّف اللغويون «البدعة» بأنها «الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال ، وقال ابن السكيت : كلّ محدثة» (١).

وعرّفها آخر : بأنها ما أحدث على غير مثال سابق (٢).

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ٦.

(٢) المنجد الأبجدي ص ١٩٥ ومجمع البحرين ج ٤ / ٢٩٨.


وقال ثالث : «البدعة» الحالة المخالفة ، وهي اسم من الابتداع ، ثم غلّب استعمالها على ما هو نقص في الدين ، أو زيادة ، وكل محدثة» (١).

وأجود ما قيل : «إن البدعة بالكسر فالسكون الحديث في الدين ، وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة ، وإنما سميت بدعة لأن قائلها ابتدعها هو نفسه» (٢).

والبدعة اصطلاحا : إسناد حكم إلى الشريعة المقدّسة دون أن يكون عليه دليل شرعي. أو بتعبير آخر : هي إقحام شيء في الدين أو إخراجه من دون دليل شرعي.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة بشأنها وذم فاعلها :

(١) فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : شر الأمور محدثاتها ألا وكل بدعة ضلالة ، ألا وكل ضلالة في النار (٣).

(٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إياك أن تسنّ سنّة بدعة فإن العبد إذا سنّ سنّة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها (٤).

(٣) وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال :

ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنّة ، فاتقوا البدع والزموا المهيع ، إن عوازم الأمور أفضلها وأن محدثاتها شرارها.

(٤) وعنه أيضا قال :

أما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا(٥).

__________________

(١) معجم متن اللغة ج ١ / ٢٥٥.

(٢) مجمع البحرين ج ٤ / ٢٩٨.

(٣) أمالي المفيد ١٨٨ / ١٤.

(٤) ميزان الحكمة ج ١ / ٢٣٦ نقلا عن بحار الأنوار.

(٥) نفس المصدر السابق.


(٥) وعن رسول الله قال : إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه.

وعنه أيضا قال : من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أتى ذا بدعة فوقّره فقد سعى في هدم الإسلام.

وعنه أيضا قال :

أهل البدع كلاب أهل النار.

وعنه قال :

أهل البدع شر الخلق والخليقة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة (١).

* وورد في مصادر العامة :

ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

من مشى إلى صاحب بدعة ليوقّره فقد أعان على هدم الإسلام (٢).

ـ وأخرج المتقي الهندي عن حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

لا يقبل الله لصاحب بدعة صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا ، يخرج من الإسلام كما

تخرج الشعرة من العجين (٣).

ـ وعن نافع عن ابن عمر قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال في ديننا برأيه فاقتلوه (٤).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) كنز العمال ج ١ / ٢٢٢ حديث رقم ١١٢٣ ط / بيروت.

(٣) نفس المصدر حديث رقم ١١٠٨.

(٤) تاريخ بغداد ج ٩ / ٢٢٩ ط / مصر عام ١٣٤٩ ه‍.


قال العلوي :

إن الكتب المعتبرة تحدّثنا أن إمامكم عمر بن الخطّاب هو أول من أدخل في الإسلام ، وصرّح هو بنفسه حين قال :

(نعمت البدعة هذه) وذلك في قصة صلاة التراويح لمّا أمر الناس أن يصلوا النافلة جماعة مع العلم أن الله والرسول حرّما النافلة جماعة ، فكانت بدعة (١) عمر مخالفة صريحة لله والرسول.

____________________________________

(١) أخرج البخاري في كتاب التراويح من الصّحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون .. إلى أن قال : فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب (قال:) ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم. قال عمر : نعمت البدعة هذه ..

قال العلّامة القسطلاني في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» عند بلوغه إلى قول عمر في هذا الحديث : «نعمت البدعة هذه» ؛ ما هذا لفظه : سمّاها بدعة لأنّ رسول الله لم يسنّ لهم ، ولا كانت في زمن الصدّيق ، ولا أوّل الليل ولا هذا العدد .. الخ. وفي «تحفة الباري» وغيره من شرح البخاري مثله فراجع.

وقال العلّامة أبو الوليد محمّد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ من تاريخه «روضة المناظر» : هو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد ، وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز ، وأول من جمع الناس من [ظ : على] إمام يصلّي بهم التراويح .. الخ.

ولما ذكر السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» أوليات عمر نقلا عن العسكري


قال : هو أول من سمّي أمير المؤمنين ، وأول من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ ، وأوّل من حرّم المتعة ، وأوّل من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات .. الخ.

وقال محمّد بن سعد ـ حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من «الطبقات» ـ : وهو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة ، وجعل للناس بالمدينة قارءين : قارئا يصلي التراويح بالرجال وقارئا يصلّي بالنساء .. الخ. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من «الاستيعاب» : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع فيه (١).

وقال العلّامة المجاهد السيّد عبد الحسين شرف الدين أعلى الله مقامه :

«إنّ صلاة التراويح ما جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كانت على عهده بل لم تكن على عهد أبي بكر ، ولا شرّع الله الاجتماع لأداء نافلة من السنن غير صلاة الاستسقاء. وإنّما شرّعه في الصلوات الواجبة كالفرائض الخمس اليومية وصلاة الطواف والعيدين والآيات وعلى الجنائز.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيم ليالي رمضان بأداء سننها في غير جماعة ، وكان يحض على قيامها فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيمها.

وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتّى مضى لسبيله سنة ثلاث عشرة للهجرة وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب فصام شهر رمضان من تلك السنة لا يغيّر من قيام الشهر شيئا ، فلمّا كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ومعه بعض أصحابه ، فرأى الناس يقيمون النوافل وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبّح ومحرم بالتكبير ومحلّ بالتسليم في مظهر لم يرقه ، ورأى من واجبه

__________________

(١) النص والاجتهاد ص ٢٣٢ نقلا عن البخاري.


إصلاحه فسنّ لهم التراويح أوائل الليل من الشهر وجمع الناس عليها حكما مبرما ، وكتب بذلك إلى البلدان ونصب للناس في المدينة إمامين يصلّيان بهم التراويح : إماما للرجال وإماما للنساء. وهذا كلّه أخبار متواترة.

وحسبك منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قام رمضان ـ أي بأداء سننه ـ إيمانا واحتسابا غفر الله من تقدّم من ذنبه» ؛ وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي والأمر كذلك ـ أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يتغيّر عمّا كان عليه قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر (١).

__________________

(١) النص والاجتهاد / السيد عبد الحسين شرف الدين ص ٢٣١.


ثم ألم يبدع عمر في الآذان بإسقاط «حيّ على خير العمل» (١) وزيادة (الصلاة خير من النوم).

____________________________________

(١) إن هذا الفصل (حيّ على خير العمل) كان على عهد رسول الله جزءا من الآذان ومن الإقامة ، لكنّ عمر بن الخطّاب في آخر عهده حرّمها حينما صعد المنبر مهدّدا بقوله : ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل (١).

وما أفاده العامة من أن عمر بن الخطاب قد حذفها حرصا منه على ألا يترك المسلمون الصلاة اعتمادا منهم على الجهاد ليس هو العلة في حذفها ، وإلّا لما استمر العامة عليها إلى زماننا هذا لسقوط الجهاد في بعض العصور إن لم يكن جلّها ، وقد كشفت أخبار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام عن العلة الحقيقية التي أدت إلى إسقاط القوم لهذا الفصل ، فقد روى الصدوق في كتاب العلل عن ابن أبي عمير أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن «حيّ على خير العمل» لم تركت من الآذان؟ فقال : تريد العلة الظاهرة (٢) أو الباطنة؟ قلت أريدهما جميعا؟ فقال : أمّا العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد اتكالا على الصلاة ، وأما الباطنة فإن خير العمل الولاية ، فأراد من أمر بترك حيّ على خير العمل من الآذان أن لا يقع حثّ عليها ودعاء إليها (٣).

وفي معاني الأخبار بسنده عن محمّد بن مروان عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتدري ما تفسير (حيّ على خير العمل)؟ قال : قلت لا ، قال : دعاك إلى البرّ ، أتدري برّ من؟ قلت لا ، قال : إلى برّ فاطمة وولدها عليهم‌السلام (٤).

__________________

(١) نص عليه القوشجي في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد وقد أثبتنا سابقا مصادره.

(٢) أي الظاهر والمشهور عند الناس ، وإلّا فما بالخفاء لا يعلمه إلا الأوحدون وهم آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) وسائل الشيعة ج ٤ / ٦٤٧ ح ١٦ والحدائق ج ٧ / ٤٣٨.

(٤) الحدائق ج ٧ / ٤٣٨ وبحار الأنوار ج ١٨ / ١٧٠ ومعاني الأخبار ص ٤١.


وعن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام سئل عن معنى «حيّ على خير العمل» فقال : خير العمل الولاية. قال الشيخ الصدوق : وفي خبر آخر «العمل» برّ فاطمة وولدها عليهم‌السلام (١).

وما روي في كتاب العلل لمحمّد بن علي بن ابراهيم بن هاشم قال : علة الآذان أن تكبّر الله وتعظّمه وتقرّ بتوحيد الله وبالنبوّة والرسالة وتدعو إلى الصلاة وتحث على الزكاة .. ومعنى «حيّ على الصلاة» أي حثّ على الصلاة ، ومعنى «حيّ على الفلاح» أي حثّ على الزكاة ، وقوله «حيّ على خير العمل» أي حثّ على الولاية ، وعلة أنها خير العمل أن الأعمال كلها بها تقبل(٢).

إذن ليس صحيحا ما ورد من التعليل الذي ادّعاه العامة وورد في بعض مصادرنا كخبر ابن أبي عمير وخبر عكرمة قال : قلت لابن عبّاس أخبرني لأيّ شيء حذف من الآذان «حيّ على خير العمل»؟ قال : أراد عمر بذلك أن لا يتكل الناس على الصلاة ويدعو الجهاد فلذلك حذفها من الآذان» (٣) وذلك :

أولا : إن فصول الآذان والإقامة من الأمور التوقيفية التعبّدية فلا يجوز حذف بعضها مهما كان المبرّر الذي يدّعون ، لكون الحذف بدعة محرّمة نهى الشارع المقدّس عنها.

ثانيا : منافاة الحذف للإجماع وسيرة المسلمين المتصلة بعمل المعصوم عليه‌السلام وكل من خالف المأثور الثابت عن المعصوم فقد شط عن الإسلام.

ثالثا : تعليلهم (٤) العليل نظير ما نقله أولياء عمر عنه أيضا في تحريمه لمتعة

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٤١.

(٢) الحدائق ج ٧ / ٤٤٠.

(٣) الحدائق ج ٧ / ٤٣٨.

(٤) الحدائق ج ٧ / ٤٣٩.


الحج بقوله : «كرهت أن يخرجوا إلى الحج ورءوسهم تقطر من نسائهم» وقوله : «كرهت أن يكونوا معرّسين تحت الأراك ثم يخرجون إلى الحج ورءوسهم تقطر من نسائهم» أرأيت أن الله عزوجل الذي أمر بهذين الحكمين لا يعلم بهذا الأمر الذي علّل هذا المرتد به في كلّ من الموضعين ، فذهب ذلك عن علم الله سبحانه وإنما اهتدى إليه هو؟ ولقد صدق عليه قوله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (١).

ولم يكتف عمر بن الخطّاب بالحذف من فصول الآذان حتى زاد فيه «الصلاة خير من النوم» في صلاة الصبح ، فقد روى مالك في موطئه تحت عنوان ما جاء في النداء للصلاة قال : بلغني أن المؤذن جاء عمر بن الخطّاب مؤذّنه لصلاة الصبح فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

وعن الزرقاني عند وصوله إلى هذا الحديث من شرح الموطأ قال : (هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر).

ومثله ما في كنز العمال عن الدارقطني وابن ماجة والبيهقي عن ابن عمر : «إن عمر قال لمؤذّنه إذا بلغت (حيّ على الفلاح) في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم مرتين.

ومثله أيضا عن ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة.

وفي الكنز عن عبد الرزّاق عن ابن جريح قال : أخبرني حسن بن مسلم : أن رجلا سأل طاوسا متى قيل (الصلاة خير من النوم)؟ فقال : أما إنها لم تقل على عهد رسول الله.

ولا ينبغي التأمل في أن لفظ (الصلاة خير من النوم) من البدع وذلك :

__________________

(١) سورة محمّد : ٩.


(١) لغلو أكثر الأخبار المبيّنة لفصول الآذان عن هذه الزيادة ، فيدل على أنها بدعة.

(٢) لمناهضة الزيادة لسيرة المسلمين كما قلنا ، ويشهد له اعتراف عمر نفسه بهذا كما أشرنا في الأخبار المتقدّمة ، ولما رواه الترمذي في باب ما جاء في التثويب في الفجر عن مجاهد ، قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا وقد أذن فيه ونحن نريد أن نصلّي فيه فثوّب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال : أخرج بنا من عند هذا المبدع ولم يصلّ فيه.

وورد مثله في كتاب الصلاة من كنز العمال نقلا عن عبد الرزاق والضياء في المختارة.


ألم يبدع بإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم خلافا للرسول (١).

ألم يبدع في إلغاء متعة الحج خلافا للرسول؟

ألم يبدع في إلغاء متعة النكاح خلافا للرسول؟

____________________________________

(١) قال الأستاذ خالد محمّد خالد : لقد ترك عمر بن الخطّاب النصوص الدينية المقدّسة من القرآن والسنّة عند ما دعته إلى ذلك المصلحة فلبّاها فبينما يقسّم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة ويؤديه الرسول ، ويلتزمه أبو بكر يأتي عمر فيقول : إنّا لا نعطي على الإسلام شيئا ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (١).

يرد عليه :

هل أن عمر أدرى بمصلحة الرعيّة من رسول الله؟ وهل كانت شريعة رسول الله محمّد ناقصة حتى جاء عمر ليتمّمها ، أم أن التشريع كان زائدا عن حاجة المكلّفين ، فأراد عمر أن يقوّمه ويرفعه عنهم حرصا منه عليهم من الله ورسوله ، والله تعالى يقول : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) وقال في آية أخرى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٣).

__________________

(١) الديمقراطية أبدا ص ١٥٥ ط / ٣ سنة ١٣٥٨ ه‍ المطبعة العمومية بدمشق.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة المائدة : ٤٤.


ألم يبدع في إلغاء إجراء الحدّ على خالد بن الوليد خلافا لأمر الرسول بحدّ الجاني*.

إلى غير ذلك من بدعكم أيّها السنّة التابعون ، فهل أنتم أهل بدعة أم نحن الشيعة؟

قال الملك للوزير : هل صحيح ما ذكره العلويّ من بدع عمر في الدين؟

قال الوزير : ذكر ذلك جماعة من العلماء في كتبهم.

قال الملك : إذن كيف نتّبع إنسانا يبدع في الدين؟

قال العلوي : نعم يحرم اتّباع هكذا إنسان ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كل بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار (١)» ، فالذين يتّبعون عمر في بدعه ـ وهم عالمون بالأمر ـ فهم من أهل النار.

____________________________________

(١) الثابت أن أبا بكر هو الذي ألغى إجراء الحدّ على خالد بن الوليد الجاني ، وليس عمر ، وقد ذكرنا سابقا أن عمر بن الخطّاب طلب من أبي بكر أن يقيم الحدّ على خالد لما قتل مالك بن نويرة وزنى له بزوجته ، وقد توعّده عمر بالقتل ولكنه لم يفعل ، فما أفاده مقاتل بن عطية في المتن هو الصحيح ولا تناقض في البين كما قد يتصور بعض.

__________________

(١) راجع أصول الكافي ج ١ / ٥٦ ح ١٢ ، وبحار الأنوار ج ٢ / ٣٠٣ ح ٤٢ وص ٣٠٨ ح ٦١ والفصول المهمة / الحر العاملي ص ٢٠٣ ط / قم.


قال العبّاسي : لكن أئمة المذاهب أقرّوا عمر في ما عمل!

قال العلوي : وهذه بدعة أخرى أيّها الملك!

قال الملك : وكيف ذلك؟

قال العلوي : لأن أصحاب هذه المذاهب وهم : أبو حنيفة (١).

ومالك بن أنس (٢).

____________________________________

(١) ينسب المذهب الحنفي إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى وهو من أهل كابل أو من أهل نسا ، وكان اسمه عتيك بن زوطرة ، وكان أبوه عبدا مملوكا لرجل من ربيعة من بني تيم الله ابن ثعلبة من فخذ وهؤلاء يقال لهم : بني قفل. ولد سنة ٨٠ ه‍ في نسا ، ومات ببغداد عام ١٥٠ ه‍.

ينسب المذهب المالكي إلى مالك بن أنس بن مالك بن مالك بن أبي عامر الأصبعي. ولد سنة ٩٣ هج بالمدينة ، وحملت به أمّه سنتين وقيل أكثر ، ومات عام ١٧٩ هج على قول ، قال ابن سعد في الطبقة السادسة من تابعي أهل المدينة : أخبرنا الواقدي قال : سمعت مالك بن أنس يقول قد يكون الحمل ثلاث سنين ، وقد حمل ببعض الناس ثلاث سنين يعني نفسه.

وقال ابن عبد البر : «وقد ذكر غير الواقدي أن أمّ مالك حملت به ثلاث سنين ١». وهذه القضية الغريبة العجيبة ـ وهي مدة الحمل الطويلة ـ التي نسجها له محبوه ومقلّدوه ، وصلت إلى مرحلة الإعجاز التكويني في مالك فكانت منقبة اقترنت بميلاده كما كانت حياته كلها مناقب حسبما يدّعي هؤلاء ، وليس من البعيد أن يتقبّل المعجب بشيء كلّ ما له علاقة فيه وإن خالف الحقّ ولم يؤيده العلم وشذّ عن العقل ومجرى العادة ، على أن مثل هذا لا يرتفع به مقام مالك إلى فوق مستوى البشر ، ولست أدري إذا كان مالكا قد تفوّق بعبقريته على الأنبياء والمرسلين


والأولياء عليهم‌السلام حتى ادّعوا له هذه المنقبة التي لم يسبقه إليها سابق ولن يلحقه لاحق ، ويكفي في بطلانها : أنّه تقرّر عند الأطباء قديما وحديثا أن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن أمه أكثر من سنة ، مضافا إلى أن الاستقراء مع المراقبة الدقيقة يجعلنا نؤمن بأن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر ؛ فهذه الدعوى من شذوذ الطبيعة لم يقم الدليل على صحتها وتحقّقها خارجا في عالم التكوين ، وعدّها أتباعه من كرامات مالك ومناقبه وكذا بقية المذاهب لم يتعرضوا لها بسوء من قريب أو بعيد ، كلّ ذلك لأن صاحبها مالك بن أنس ، ولكن لمّا تصل النوبة إلى عصمة آل البيت عليهم‌السلام ـ التي يعتقدها الإمامية لأئمتهم الميامين ـ يستنفر علماء العامة عن بكرة أبيهم على الشيعة بنعتهم بكلّ ما يستقبح جريه على اللسان ، جرمنا وذنبنا أننا لسنا مالكيين أو شافعيين أو حنبليين أو حنفيين!


والشافعي (١). وأحمد بن حنبل (٢).

[فهؤلاء] لم يكونوا في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل جاءوا بعده بمائتي سنة ـ تقريبا ـ ؛ فهل المسلمون الذين كانوا بين عصر الرسول وبين عصر هؤلاء كانوا على باطل وضلال؟! وما هو المبرّر في حصر المذاهب في هؤلاء الأربعة وعدم اتباع سائر الفقهاء؟! وهل أوصى الرسول بذلك؟!

قال الملك : ما تقول يا عبّاسي؟

قال العباسي : كان هؤلاء أعلم من غيرهم!

قال الوزير : نعم ذكر ذلك جماعة من العلماء في كتبهم.

قال الملك : فهل أنّ علم العلماء جفّ دون هؤلاء؟!

قال العبّاسي : ولكنّ الشيعة أيضا يتّبعون مذهب جعفر الصادق!

قال العلويّ : إنما نحن نتّبع مذهب جعفر لأنّ مذهبه مذهب رسول

____________________________________

(١) ينسب المذهب الشافعي إلى محمّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطّلب. وقيل أنّ شافعا كان مولّى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش ، فامتنع عمر عن ذلك ؛ ثم أنّه طلب من عثمان ذلك ففعل. ولد سنة ١٥٠ هج ، ومات عام ١٩٨ هج.

ينسب المذهب الحنبلي إلى أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عون بن قاسط بن مازن بن ذهل بن شيبان. ولد سنة ١٦٤ هج في بغداد ، ومات سنة ٣٤١ هج فيها (١).

__________________

(١) من أراد المزيد في معرفة حال هؤلاء فليراجع : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ / ١٦٠ ـ ١٦٩.


الله لأنه من أهل البيت الذين قال الله عنهم : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (سورة الأحزاب : (٣)) وإلّا فنحن نتّبع كلّ الأئمة الاثني عشر لكن حيث إنّ الإمام الصادق عليه‌السلام تمكّن أن ينشر العلم والتفسير والأحاديث الشريفة أكثر من غيره من الأئمة حتى كان يحضر مجلسه أربعة آلاف تلميذ ، وحتى استطاع الإمام الصادق عليه‌السلام أن يجدّد معالم الإسلام بعد ما حاول الأمويّون والعباسيّون القضاء عليه ، ولهذا سمّي الشيعة ب «الجعفريّة» نسبة إلى مجدّد المذهب وهو الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام.

قال الملك : ما جوابك يا عبّاسي؟

قال العبّاسي : تقليد أئمة المذاهب الأربعة عادة اتّخذناها نحن السنّة.

قال العلويّ : بل أجبركم على ذلك بعض الأمراء ، وأنتم اتّبعتم أولئك متابعة عمياء لا حجّة لكم فيها ولا برهان!!

فسكت العبّاسيّ!!

قال العلويّ : أيها الملك أنّى أشهد أنّ العباسي من أهل النار إذا مات على هذه الحالة.

قال الملك : ومن أين علمت أنّه من أهل النار؟!

قال العلوي : لأنّه ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة» فاسأل أيّها الملك : من هو إمام زمان العبّاسيّ؟

قال العبّاسي : لم يرد هذا الحديث عن رسول الله!


قال الملك للوزير : هل ورد هذا الحديث عن رسول الله؟

قال الوزير : نعم ورد (١)!

قال الملك مغضبا : كنت أظنّ أنّك أيّها العبّاسي ثقة والآن تبيّن لي كذبك!!

قال العبّاسي : إنّى أعرف إمام زماني!

قال العلويّ : فمن هو؟

قال العبّاسي : الملك!

قال العلوي : اعلم أيّها الملك أنّه يكذب ، ولا يقول ذلك إلا تملّقا لك!

قال الملك : نعم إني أعلم أنّه يكذب ، وإنّي أعرف نفسي بأنّي لا أصلح أن أكون إمام زمان الناس لأنّي لا أعلم شيئا ، وأقضي غالب أوقاتي بالصيد وبالشئون الإداريّة.

ثم قال الملك : أيها العلويّ فمن هو إمام الزمان في رأيك؟

قال العلويّ : إمام الزمان في نظري وعقيدتي هو الإمام المهديّ عليه‌السلام كما تقدّم الحديث حوله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن عرفه مات ميتة المسلمين وهو من أهل الجنّة ، ومن لم يعرفه مات ميتة جاهليّة وهو في النار مع أهل الجاهلية!

__________________

(١) راجع صحيح النيسابوري ج ٨ / ١٠٧ ، وينابيع المودة ص ١١٧ ، ونفحات اللاهوت ص ٣ ، وصحيح مسلم ومسند أحمد ج ٤ / ٩٦. وهذا الحديث معتضد بألفاظ متعددة من طرق شتى. أخرجه الأميني (قدس‌سره) في غديره نقلا عن المصادر العامية فلاحظ ج ١٠ / ٣٥٩ ؛ وأصول الكافي ج ١ / ٣٧٦ ، والمحاسن ص ١٥٤.


وهنا تهلّل وجه الملك شاه ، وظهرت آثار الفرح والسرور في وجهه والتفت إلى الحاضرين قائلا :

اعلموا أيتها الجماعة أنّي قد اطمأننت ووثقت من هذه المحاورة (١) [وكانت قد دامت ثلاثة أيام] وعرفت وتيقّنت أنّ الحقّ مع الشيعة في كلّ ما يقولون ويعتقدون ، وأنّ أهل السنّة باطل مذهبهم ، منحرفة عقيدتهم ، وإنّي أكون ممّن إذا رأى الحقّ أذعن له واعترف به ، ولا أكون من أهل الباطل في الدنيا وأهل النار في الآخرة ولذلك فإنّني أعلن تشيّعي أمامكم ، ومن أحبّ أن يكون معي فليتشيّع على بركة الله ورضوانه ويخرج نفسه من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ!

فقال الوزير نظام الملك : وأنا كنت أعلم ذلك ، وأنّ التشيّع حق ، وأنّ المذهب الصحيح فقط هو مذهب الشيعة منذ أيام دراستي ولذا أعلن أنا أيضا تشيّعي!

وهكذا دخل أغلب العلماء ، والوزراء ، والقوّاد الحاضرين في المجلس ـ وكان عددهم ما يقارب السبعين ـ في مذهب الشيعة ، وانتشر خبر تشيّع الملك ، ونظام الملك ، والوزراء ، والقوّاد في كافة أقطار البلاد ، فدخل في التشيّع عدد كبير من الناس ، وأمر نظام الملك ـ وهو والد زوجتي أن يدرّس الأساتذة (٢) مذهب الشيعة في المدارس النظامية في بغداد ، لكن بقي بعض علماء السّنّة الذين أصرّوا على الباطل وبقوا

__________________

(١) هذا تأكيد لما قلنا ردّا على من أشكل على تسمية هذا الكتاب ب «مؤتمر علماء بغداد» وجعل التسمية إحدى القرائن على أن الكتاب فرضيّة لا حقيقة خارجية ، فتدبّر.

(٢) في نسخة أخرى : أن يدرس المؤرخون.


على مذهبهم السابق ، مصداقا لقوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة : ٧٤(١).

وأخذوا يكيدون للملك ، ولنظام الملك حيث حمّلوه تبعة هذا الأمر إذ كان هو العقل المدبّر للملك ، وللمملكة حتى امتدت إليه يد أثيمة بتحريك من هؤلاء المتعصبين من السّنّة ، فاغتالوه في يزدجرد في سفره إلى بغداد في ١٢ رمضان سنة ٤٨٥ ه‍ ، وبعد ذلك اغتالوا الملك شاه السلجوقي.

____________________________________

(١) ومن القرائن على تشيّع الملك شاه ووزيره أمور :

الأول : ما أفاده مقاتل بن عطية في هذه المحاورة من إقرار الملك شاه ونظام الملك بالتشيّع وإعلانهما التشيّع دينا لهما ولأهل المملكة.

الثاني : زيارتهما لمشهد الإمام الرضا عليه‌السلام في طوس ـ حسبما نقل ابن الأثير ـ «من أن الملك السلجوقي قال لوزيره نظام الملك : بأيّ شيء دعوت؟ قال : دعوت الله أن ينصرك ..»(١).

ولو لم يعتقد بإمامة مولانا عليّ الرضا عليه‌السلام لما حسن منه زيارته والدعاء تحت قبته الشريفة.

الثالث : نظم مقاتل بن عطية لتلك الأبيات التي أبرز فيها تشيّع نظام الملك ، وتصريحه عن سبب قتله وهو الحقد الدفين عند النواصب.

ـ ويذكر ابن الأثير قصة وفاة نظام الملك فيقول :

«في هذه السنة ، عاشر رمضان ، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن عليّ ابن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند ، وكان هو والسلطان في أصبهان ، وقد عاد

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢١١ حوادث سنة ٤٨٥ ه‍.


إلى بغداد ، فلما كان بهذا المكان ، بعد أن فرغ من إفطاره ، وخرج في ملحفته إلى خيمة حرمه ، أتاه صبي ديلمي من الباطنية ، في صورة مستميح أو مستغيث ، فضربه بسكين كانت معه ، فقضى عليه وهرب ، فعثر بطنب خيمة ، فأدركوه فقتلوه ، وركب السلطان إلى خيمه فسكن عسكره وأصحابه .. وكان مولده سنة ثمان وأربعمائة» (١).

ويذكر ابن الأثير (٢) أن المدبّر لقتل نظام الملك هو السلطان ملكشاه الذي لم يبق بعد نظام الملك أكثر من خمسة وثلاثين (٣) يوما وبعدها انحلت الدولة ووقع السيف ، كما أنه يذكر أن سبب(٤) موته أنه أكل لحم صيد فحمّ وافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل مرضه ، وكانت حمى محرقة فتوفى ليلة الجمعة النصف من شوال.

لنا هنا ملاحظة وهي :

إن ما رواه ابن الأثير من كون السلطان ملكشاه هو المدبّر لقتل نظام الملك يتعارض مع ما رواه مقاتل ابن عطية ، فإما أن يتساقطا وإما أن يترجح أحدهما على الآخر ، أما الأول فلا يصح لإمكان تقديم قول ابن عطية على قول ابن الأثير ، لتقديم شهادة الإمامي على غيره ، فيتعين الثاني وهو المطلوب.

وأما ما ادّعاه من أن موت السلطان كان سببه حمى ، فأيضا يتعارض مع قول ابن عطية الذي دل على أن النواصب دبّروا قتله كما دبروا قتل نظام الملك ، وقوله في كل الحالات يترجح على قول ابن الأثير ، لشهادة الثاني (٥) بأن ابن عطية صرّح في أبياته أن الأيام عزّت فلم تعرف قيمة نظام الملك.

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٠٤.

(٢) نفس المصدر ص ٢٠٦ وص ٢١٠.

(٣) نفس المصدر ص ٢٠٦.

(٤) نفس المصدر ص ٢١٠.

(٥) ذكر ابن الأثير بيتين من تلك الأبيات التي يمدح فيها ابن عطية تشيع نظام الملك فليراجع الكامل ج ١٠ / ٢٠٦.


قال مقاتل بن عطيّة :

وقد نظمت قصيدة رثاء للشيخ العظيم نظام الملك ومنها هذه الأبيات :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

نفيسة (١) صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصّدف

اختار مذهب حق في محاورة

تبدي الحقيقة في برهان منكشف

دين التشيّع حق لا مراء له

وما سواه سراب خادع السجف

لكنّ حقدا دفينا حرّكوه له

فبات بدر الدجى في ظل منخسف

عليه ألف سلام الله تالية

تترى على روحه في الخلد والغرف

هذا وقد كنت أنا حاضرا لمجلس المحاورة ، وسجّلت كل ما دار في المجلس حول الموضوع ، ولكني حذفت الزوائد ، واختصرت المجلس في هذه الرسالة.

والحمد لله وحده ، والصلاة على محمّد وآله الأطياب وأصحابه الأنجاب.

كتبه في بغداد ـ في المدرسة النظامية ـ مقاتل بن عطيّة أبو الهيجاء شبل الدولة.

__________________

(١) نسخة الكامل (يتيمة).


كلمة ختامية

ليعذرني القارئ الكريم إذا وجد ما لا يبعث على الرضا والقبول ، وليعلم أن الحق ثقيل على النفوس التي أخلدت إلى الأرض فاتّبعت الشهوات والنزوات والأغراض الشخصية ، لكنّ القلوب الطيّبة لا تأنس إلّا بالحق ، فهو عندها أحلى من الشّهد.

كما أود أن يعفو عن هفوات ـ إن كان ثمة هفوات فيه ـ ويتقبّلها بعين الرضا وحسبة إلى المولى عزوجل ، وعذري أنني لم أتقصّدها بل غايتي رضا الله تعالى ورسوله ومواليّ الميامين عليهم‌السلام والذّود عنهم أداء لحقهم وشكرهم حينما رأيت تكالب الناس على نبذ فضائلهم ومآثرهم والتقرب إلى أعدائهم وممالأتهم.

ثم إنّ ما حفل به هذا الشرح من براهين وأدلة لم يكن الهدف منه الجمود والاقتصار عليها ، بمقدار ما كان مجرد اختزال لها وإجمال لتفاصيلها ، حرصا على أن لا يملّ القارئ ، مضافا إلى حرصنا على عدم تضخيم حجم الكتاب ، لذا أجملت البحوث قدر المستطاع ، وأدمجت بعضها ببعض تتميما للفائدة وتذكيرا وتنبيها لروّاد الحقيقة ، ومن ثمّ لم أعلّق على كثير من مفاهيم العقيدة والتاريخ والفقه للنكتة المتقدّمة ، لكنّ الشرح ـ والحمد لله ـ جاء وافيا شافيا وقاطعا للعذر وبوار الدعوى التي تمسّك بها المشكّكون والمرجفون والمائلون المتلونون ، نسأل الله العليّ القدير أن يسدّدنا ويعصمنا عن الوقوع في الزلات ، ويبعد عنّا مضلات الفتن ، ويلبسنا العافية في الدين والدنيا ، ونعوذ بالله تعالى من همزات الشياطين ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا أنه مجيب كريم وبعباده رءوف رحيم.

ـ تمّ الفراغ من شرح هذا السفر الجليل في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب الأصبّ عام اثنين وعشرين بعد الألف والأربعمائة للهجرة ، على مهاجرها السلام ، هذا مع كثرة الأشغال وتوارد الهموم والغموم الصارفة ، وكتبه أقلّ العباد


محمّد بن جميل بن عبد الحسين بن يوسف حمّود سائلا المولى تعالى ذكره أن يتطلف بنا ويزيدنا إيمانا وتثبيتا وتوفيقا ، وأن يختم لنا بخير وعافية ، ويجعل جهدي المتواضع تقرّبا لمواليّ الأئمة الأطهارعليهم‌السلام عسى أن ينظروا إليّ ولوالديّ ولشيعتهم المخلصين بعين الرحمة واللطف ، لا سيّما ساقي الحوض وقسيم الجنّة والنار سيّدي ومولاي أمير المؤمنين عليّ المرتضى عليه أفضل التحية والسلام ، وأن يكون لي المسدّد والناصر والمعين على قوم تجرّعنا منهم الغصّات في الفترة الأخيرة ، فإليك يا سيدي يا عليّ أشكو حالي وأنت ـ وحدك ـ الذي تأخذ لي بثاري يا حبيب قلبي ويا سندي وعمري ويا نور عينيّ ومهجة كبدي يا عليّ يا عليّ يا عليّ.

وسيعلم الذين ظلموا ـ آل بيت محمّد ـ أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

٢٩ رجب / ١٤٢٢ ه‍

بيروت ـ الضاحية الجنوبية

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (الكهف / ١٨) محمّد جميل حمّود


المصادر والمراجع

١ ـ القرآن الكريم.

ألف

٢ ـ الاحتجاج : أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي ؛ ط. مطبعة النعمان ـ النجف ـ ١٣٨٦ ه‍.

٣ ـ أنيس الأعلام : خير الدين الزركلي ؛ ط. بيروت.

٤ ـ أوائل المقالات : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

٥ ـ إكمال الدين وتمام النعمة : أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّي الصّدوق ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ إيران ـ ١٣٩٥ ه‍.

٦ ـ الإفصاح في الإمامة : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

٧ ـ الإصابة في تمييز الصحابة : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمّد الكناني العسقلاني ؛ ط. مكتبة المثنى ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٢٨ ه‍.

٨ ـ أسد الغابة : ابن الأثير أبو الحسن عليّ بن محمّد الجزري ؛ ط. دار الكتب العلميّة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٥ ه‍.

٩ ـ إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل : القاضي الشهيد نور الدين المرعشي التستري ؛ توزيع دار الكتاب الإسلامي ـ بيروت ، لبنان ـ بدون تاريخ.

١٠ ـ الإمامة والسياسة : الشهير ب «المعارف» أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ؛ ط. مطبعة أمير ـ قم ـ ١٤١٣ ه‍.


١١ ـ الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٥ ه‍.

١٢ ـ الأحكام السلطانية : أبو الحسن علي بن محمد البصري الماوردي ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٥.

١٣ ـ أصول الدين : عبد القاهر البغدادي ؛ طبعة أولى ـ استانبول ـ ١٣٤٦ ه‍.

١٤ ـ الاستغاثة في بدع الثلاثة : أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي ؛ ط. ـ باكستان ـ بدون تاريخ.

١٥ ـ الاختصاص : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

١٦ ـ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : ناصر مكارم الشيرازي ؛ ط. مؤسسة البعثة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٣ ه‍.

١٧ ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ، إيران ـ ١٣٩٠ ه‍.

١٨ ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن : محمد جواد البلاغي ؛ ط. دار إحياء التراث ـ بيروت ـ بدون تاريخ.

١٩ ـ الأصول العامة للفقه المقارن : محمد تقي الحكيم ؛ ط. مؤسسة آل البيت ـ النجف ، العراق ـ ١٩٧٩ م.

٢٠ ـ أنساب الأشراف : أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ؛ ط. ليدن.

٢١ ـ الأنوار القدسيّة (شعر) : محمّد حسين الأصفهاني ؛ ط. النجف.

٢٢ ـ أضواء على السنّة المحمديّة : محمود أبو ريّة ؛ نشر البطحاء ، ط. خامسة ـ بدون تاريخ.

٢٣ ـ أسباب النزول : أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ؛ ط. دار ابن كثير ـ دمشق ـ ١٤٠٨ ه‍.

٢٤ ـ الأمالي : أبو جعفر الصدوق ؛ ط. دار الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٠ ه‍.


٢٥ ـ الإرشاد : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ١٤١٤ ه‍.

٢٦ ـ أصول السرخسي : أحمد بن أبي سهل السرخسي ؛ نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية ـ الهند ـ بدون تاريخ.

٢٧ ـ أحكام القرآن : أبو بكر أحمد بن عبد الله بن محمّد ؛ ط. أوفست ـ لاهور بباكستان ـ.

٢٨ ـ الإنجيل (العهد الجديد) : ط. دار الكتاب المقدّس في الشرق الأوسط ، وطبعة أخرى أصدرتها جمعية الكتاب المقدّس في الشرق الأدنى ١٩٧١ م.

٢٩ ـ الإبانة عن أصول الديانة : أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ؛ ط. مكتبة دار البيان ـ دمشق ـ ١٤٠١ ه‍.

٣٠ ـ أهل السنّة شعب الله المختار : صالح الورداني ؛ ط. كنّوتة ـ مصر ـ ١٤١٧ ه‍.

٣١ ـ أسرار على القرآن : جرجس سال ؛ ط. بيروت ـ بدون تاريخ.

٣٢ ـ إحياء علوم الدين : أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ـ بدون تاريخ ، وطبعة أخرى بدار الثقافة الإسلامية ـ مصر ـ ١٣٥٦ ه‍.

٣٣ ـ الاعتقادات : أبو جعفر الصدوق ؛ ط. دار المفيد ، بيروت ـ لبنان ١٤١٤ ه‍.

٣٤ ـ إثبات الوصيّة : أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي الهذلي ؛ ط. دار الأضواء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٩ ه‍.

٣٥ ـ الأمالي : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ١٤١٤ ه‍.

٣٦ ـ إرشاد القلوب : أبو محمّد الحسن بن محمد الديلمي ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٣ ه‍.

٣٧ ـ إقبال الأعمال : رضي الدين علي بن موسى آل طاوس ؛ طبع إيران.

٣٨ ـ الأسرار الفاطميّة : محمّد فاضل المسعودي ؛ ط. مطبعة أمير ـ قم ـ ١٤٢٠ ه‍.


٣٩ ـ اعلموا أنّي فاطمة : عبد الحميد المهاجر ؛ ط. دار الكتاب والعترة ـ لبنان ـ ١٤١٣ ه‍.

٤٠ ـ الإمام المهدي عند أهل السنّة : مهدي الفقيه إيماني ؛ ط. دار التعارف ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٢ ه‍.

٤١ ـ إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون : أحمد بن محمد بن الصديق ؛ ط.

مطبعة الترقي ـ دمشق ـ ١٣٤٧ ه‍.

٤٢ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى : أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ؛ ط. دار المعرفة بيروت ـ لبنان ـ ١٣٩٩ ه‍.

٤٣ ـ أصول الكافي : أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٨٨ ه‍.

٤٤ ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب : أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي ؛ ط. مكتبة المثنى ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٢٨ ه‍.

بهامش كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة» للعسقلاني.

٤٥ ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف ب «تفسير البيضاوي» : ناصر الدين أبو سعيد عبد الله الشيرازي البيضاوي ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٨ ه‍.

٤٦ ـ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : عبد الحليم الجندي ؛ ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة ـ ١٣٩٧ ه‍.

٤٧ ـ الاجتهاد في مقابل النصّ المعروف ب «النص والاجتهاد» : عبد الحسين شرف الدين ؛ ط. مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٣ ه‍.

باء

٤٨ ـ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار : الشيخ محمّد باقر المجلسي ؛ ط. مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٣ ه‍.


٤٩ ـ البرهان في تفسير القرآن : السيّد هاشم البحراني ؛ ط. دار الهادي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٢ ه‍.

٥٠ ـ بداية المجتهد : ابن رشد الأندلسي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ، لبنان ـ.

٥١ ـ البيان في تفسير القرآن : أبو القاسم الخوئي ؛ ط. دار الزهراء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٢ ه‍.

٥٢ ـ بنات النبيّ أم ربائبه : جعفر مرتضى ؛ ط. مركز الجواد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٣ ه‍.

٥٣ ـ البيان في أخبار صاحب الزمان : أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد القرشي الكنجي الشافعي ؛ مطبوع في آخر الجزء الثاني من «إلزام الناصب» للشيخ اليزدي الحائري ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٩٧ ه‍.

٥٤ ـ بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود : عبد الله الجميلي ؛ ط. مكتبة الغرباء الأثرية ـ المدينة المنوّرة ـ ١٤١٤ ه‍.

٥٥ ـ البداية والنهاية : أبو الفداء ابن كثير الدمشقي ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٥ ه‍.

تاء

٥٦ ـ توراة العهد القديم ؛ ط. جمعيّة الكتاب المقدّس في الشرق الأدنى ١٩٧١ م.

٥٧ ـ التبيان في تفسير القرآن : أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ؛ ط. مكتب الإعلام الإسلامي ـ إيران ـ ١٤٠٩ ه‍.

٥٨ ـ تنقيح المقال في علم الرجال : عبد الله المامقاني ؛ ط. المطبعة المرتضوية ـ النجف الأشرف ـ ١٣٥٢ ه‍.

٥٩ ـ تاريخ الخلفاء : جلال الدين السيوطي ؛ نشر الشريف الرضي ـ قم ـ (مطبعة أمير) ١٤١١ ه‍.

٦٠ ـ التمهيد في علوم القرآن : محمد هادي معرفة ؛ ط. مطبعة مهر ـ قم ـ ١٤٠٨ ه‍.


٦١ ـ تلخيص الشافي : أبو جعفر الطوسي ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ قم ـ ١٣٩٤ ه‍.

٦٢ ـ تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ، لبنان ـ.

٦٣ ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ؛ ط.

دار الأضواء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٣ ه‍.

٦٤ ـ التوحيد : أبو جعفر ابن بابويه القمّي الصّدوق ؛ ط. قم (منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدّسة) ـ بدون تاريخ.

٦٥ ـ التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح : الزبيري ؛ ط. مصر.

٦٦ ـ تنزيه الأنبياء : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ؛ منشورات الشريف الرضي ـ إيران ـ بدون تاريخ.

٦٧ ـ تاريخ بغداد : أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي ؛ نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت ، لبنان ـ.

٦٨ ـ التراتيب الإدارية : عبد الحي الكتاني ؛ نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت ، لبنان ـ من دون تاريخ.

٦٩ ـ تذكرة الخواص : يوسف بن فرغلي بن عبد الله البغدادي الحنفي الشهير ب «سبط ابن الجوزي» ؛ ط. المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف ـ ١٣٨٣ ه‍.

٧٠ ـ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : حسين بن محمد بن الحسن الدياربكري ؛ ط. مصر ١٣٨٣ ه‍.

٧١ ـ التحرير الطاوسي : حسن بن زيد الدين العاملي المعروف ب «الشهيد الثاني» ؛ ط. دار الذخائر ـ قم ـ ١٤٠٨ ه‍.

٧٢ ـ تجلّي الإمامة يوم الغدير : محمّد جميل حمّود ؛ ط. بيروت ـ لبنان ١٤١٥ ه‍.

٧٣ ـ تاريخ الأمم والملوك المعروف ب «تاريخ الطبري» : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٠٩ ه‍.


جيم

٧٤ ـ جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والإسناد : محمد بن علي الأردبيلي الغروي الحائري ؛ منشورات مكتبة المرعشي النجفي ـ قم ـ ١٤٠٣ ه‍.

٧٥ ـ الجامع الصغير : جلال الدين السيوطي ؛ ط. مصر.

٧٦ ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : محمد حسن النجفي ؛ ط. العربي ـ لبنان ـ الطبعة السابعة ، من دون تاريخ.

٧٧ ـ جنّة المأوى : محمّد حسين كاشف الغطاء ؛ ط. مطبعة شفق ـ تبريز ـ ٣٩٧ ه‍.

٧٨ ـ تفسير الجلالين : جلال الدين محمّد بن أحمد المحلى وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ، لبنان ـ.

٧٩ ـ الجامع لأحكام القرآن المعروف ب «تفسير القرطبي» : محمّد بن أحمد القرطبي الأنصاري ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍.

حاء

٨٠ ـ حلية الأولياء : أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ؛ ط. دار الكتاب العربي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٨٧ ه‍.

٨١ ـ الحوزة تدين الانحراف : محمد علي الهاشمي المشهدي ؛ طبع قم ١٤١٨ ه‍.

٨٢ ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة : يوسف البحراني ؛ ط. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة ١٣٦٣ ش.

خاء

٨٣ ـ الخصال : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصّدوق ؛ ط. مركز المنشورات الإسلامية ـ قم ـ ١٤٠٣ ه‍.


٨٤ ـ خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ؛ طبع النجف الأشرف ١٤٠٣ ه‍.

٨٥ ـ الخرائج والجرائح : قطب الدّين الراوندي ؛ ط. مؤسسة النور ـ لبنان ـ ٤١١ ه‍.

٨٦ ـ خلفيات كتاب مأساة الزهراء : جعفر مرتضى ؛ ط. دار السيرة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٢٢ ه‍.

دال

٨٧ ـ الدرّ المنثور في التفسير المأثور : «مختصر تفسير ترجمان القرآن» : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ؛ ط. دار الكتب العلميّة ـ لبنان ـ ١٤١١ ه‍.

٨٨ ـ دلائل الصّدق في الجواب على «إبطال الباطل» : محمد حسن المظفّر ؛ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم ـ ١٣٩٥ ه‍.

٨٩ ـ دلائل الإمامة : أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٨ ه‍.

٩٠ ـ دلائل النبوة : أحمد بن الحسين البيهقي ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٥ ه‍.

٩١ ـ الديمقراطيّة أبدا : محمّد خالد ؛ طبعة ثالثة بالمطبعة العمومية ـ دمشق ـ.

٩٢ ـ الدليل على موضوعات نهج البلاغة : علي أنصاريان ؛ انتشارات المفيد ـ طهران ـ ١٣٩٨ ه‍.

٩٣ ـ ديوان حافظ ابراهيم : حافظ ابراهيم ؛ ط. دار الكتب المصرية ـ مصر ـ.

٩٤ ـ ديوان محض الولاء : يحيى شامي ؛ ط. مطابع يوسف بيضون ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٢٠ ه‍.


ذال

٩٥ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : آقا بزرك الطهراني ؛ ط. مطبعة إسماعيليان ـ قم ـ.

٩٦ ـ ذخائر العقبى : أحمد بن عبد الله الطبري ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٩٧٤ م.

راء

٩٧ ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني : أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي ؛ ط. دار الفكر ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٧ ه‍.

٩٨ ـ رسالة في بناء الإسلام على الشهور القمرية : محمد حسين الحسيني الطهراني ؛ ط. دار المحجّة البيضاء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٧ ه‍.

٩٩ ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة : أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري ؛ ط.

دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ـ.

١٠٠ ـ ربيع الأبرار ونصوص الأخبار : محمود بن عمر الزمخشري ؛ ط. مطبعة العاني ـ بغداد ـ وطبعة أخرى من منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ ه‍.

١٠١ ـ روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه : محمّد تقي المجلسي ؛ ط.

المطبعة العلمية ـ إيران ـ.

١٠٢ ـ رجال النجاشي «أحد الأصول الرّجاليّة» : أبو العباس أحمد بن علي النجاشي الأسدي الكوفي ؛ ط. دار الأضواء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٨ ه‍.

١٠٣ ـ الرواشح السماويّة : محمّد باقر بن محمّد الحسيني الأسترآبادي الشهير ب «الميرداماد» ؛ ط. قم ، إيران.

١٠٤ ـ رجال الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ؛ ط. المطبعة الحيدرية ـ النجف ـ ١٣٨٠ ه‍.


زين

١٠٥ ـ الزهراء المعصومة «أنموذج المرأة العالميّة» : محمد حسين فضل الله ؛ ط.

دار الملاك ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٨ ه‍.

١٠٦ ـ زاد المعاد : شمس الدين أبي عبد الله بن قيّم الجوزيّة ؛ ط. دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ.

سين

١٠٧ ـ السقيفة : محمّد رضا المظفّر ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ لبنان ـ ١٣٩٢ ه‍.

١٠٨ ـ السيرة الحلبيّة : علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٠ ه‍.

١٠٩ ـ السقيفة المعروف ب «كتاب سليم بن قيس الهلالي الكوفي» ؛ ط. دار الإرشاد الإسلامي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍. ونسخة أخرى للشيخ محمد باقر الأنصاري الزنجاني ـ محقّقة ـ ؛ ط. مطبعة الهادي ـ إيران ، قم ـ ١٤١٦ ه‍.

١١٠ ـ سنن النسائي : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي ؛ ط. دار إحياء التراث ـ بيروت ـ.

١١١ ـ السنن الكبرى : أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ـ.

١١٢ ـ سنن ابن ماجة : أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني ؛ ط. دار الفكر ـ بيروت ـ ١٣٧٣ ه‍.

١١٣ ـ سنن أبي داود : أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ؛ ط.

دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

١١٤ ـ السيرة النبوية : أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري ؛ ط.

مطبعة مهر ـ قم ، إيران ـ ١٣٦٨ ش.


١١٥ ـ سيّد المرسلين : جعفر السبحاني ؛ ط. مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ، إيران ـ ١٤١٢ ه‍.

١١٦ ـ السقيفة والخلافة : عبد الفتاح عبد المقصود ؛ ط. دار غريب ـ القاهرة ـ من دون تاريخ.

١١٧ ـ سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار : عباس القمّي ؛ ط. دار المرتضى ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

١١٨ ـ سيرة الأئمة الاثني عشر : هاشم معروف الحسني ؛ ط. مطبعة أمير ـ قم ـ ١٤٠٩ ه‍.

١١٩ ـ سير أعلام النبلاء : شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي ؛ ط.

مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٦ ه‍.

شين

١٢٠ ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل : عبيد الله بن عبد الله المعروف ب «الحاكم الحسكاني» ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٩٣ ه‍.

١٢١ ـ شرح نهج البلاغة : عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير ب «ابن أبي الحديد المعتزلي» ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٥ ه‍.

١٢٢ ـ شرح نهج البلاغة : صبحي الصالح ؛ ط. مطبعة بهمن ـ إيران ـ من دون تاريخ.

١٢٣ ـ شرح نهج البلاغة : محمّد عبده ؛ ط. مطبعة الاستقامة ـ مصر ـ من دون تاريخ.

١٢٤ ـ شرح التجريد : علاء الدين علي بن محمّد القوشجي ؛ منشورات رضا بيدار عزيزي ـ إيران ـ من دون تاريخ.

١٢٥ ـ شرح تجريد الاعتقاد المعروف ب «كشف المراد» : جمال الدين الحسن بن يوسف الحلّي ، ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٣٩٩ ه‍.


١٢٦ ـ شيخ المضيرة : محمود أبو ريّة ؛ ط. دار المعارف ـ مصر ـ.

١٢٧ ـ الشيعة هم أهل السنّة : محمّد التيجاني السّماوي ؛ ط. شمس المشرق ـ بيروت ـ ١٤١٣ ه‍.

١٢٨ ـ الشافي في الإمامة : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ؛ ط.

مؤسسة الصادق ـ قم ، إيران ـ ١٤١٠ ه‍.

١٢٩ ـ شرح المواقف : علي بن محمّد الجرجاني ؛ ط. مطبعة أمير ـ قم ، إيران ـ ١٤١٥ ه‍.

١٣٠ ـ شرح المقاصد : مسعود بن عمر بن عبد الله الشهير ب «سعد الدين التفتازاني» ؛ ط. عالم الكتب ـ بيروت ـ ١٤٠٩ ه‍.

صاد

١٣١ ـ صحيح البخاري : أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤١٣ ه‍.

١٣٢ ـ صحيح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤١٥ ه‍ ، وبهامشه شرح النووي : يحيى بن شرف النووي الدمشقي الشافعي.

١٣٣ ـ الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة : أحمد بن حجر الهيثمي المكي ؛ ط. شركة الطباعة الفنية المتحدة ـ القاهرة ـ ١٣٨٥ ه‍.

١٣٤ ـ الصحيح من السّيرة : جعفر مرتضى العاملي ؛ ط. دار الهادي ـ دار السيرة ـ بيروت ـ ١٤١٥ ه‍.

١٣٥ ـ صيانة القرآن من التحريف : محمّد هادي معرفة ؛ ط. دار القرآن الكريم ـ قم ـ ١٤١٠ ه‍.

١٣٦ ـ الصحيفة العلويّة المباركة : عبد الله بن صالح السماهيجي ؛ ط. دار التعارف ـ بيروت ـ الطبعة الثالثة ، من دون تاريخ.


١٣٧ ـ تفسير الصافي : محمّد محسن بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود المعروف ب «الفيض الكاشاني» ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

طاء

١٣٨ ـ الطبقات الكبرى : أبو عبد الله محمّد بن سعد بن منيع القمّي الصّدوق ؛ ط.

مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍.

عين

١٣٩ ـ علل الشرائع : أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الصّدوق ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍.

١٤٠ ـ علم اليقين : الفيض الكاشاني ، محمّد محسن ؛ انتشارات بيدار ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٠ ه‍.

١٤١ ـ العيون والمحاسن : محمد بن محمد بن النعمان العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

١٤٢ ـ عيون أخبار الإمام الرضا عليه‌السلام : أبو جعفر الصّدوق ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٤ ه‍.

١٤٣ ـ عقائد السنّة وعقائد الشيعة : صالح الورداني ؛ ط. الغدير ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٩ ه‍.

١٤٤ ـ عقيدة الشيعة : دوايت م. رونلدسن ؛ ط. مؤسسة المفيد ـ بيروت ـ ١٤١٠ ه‍.

١٤٥ ـ تفسير العيّاشي : أبو النصر محمّد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤١١ ه‍.

غين

١٤٦ ـ الغيبة : أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسي ؛ ط. مكتبة نينوى ـ طهران ـ ١٤٨٥ ه‍.


١٤٧ ـ الغيبة : محمد بن ابراهيم النعماني ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٠٣ ه‍.

١٤٨ ـ الغدير في الكتاب والسنّة : عبد الحسين أحمد الأميني ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٦٦ ه‍.

١٤٩ ـ الغارات : أبو إسحاق ابراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي ؛ انتشارات آثار انجمن ملي ـ إيران ـ.

١٥٠ ـ غرائب وأسرار : بديع الزين ؛ ط. دار الفكر العربي ـ بيروت ـ ١٩٩٤ م.

١٥١ ـ الغيبة الصغرى : محمّد صادق الصّدر ؛ ط. دار التعارف ـ بيروت ـ ٤٠٠ ه‍.

١٥٢ ـ الغيبة الكبرى : محمّد صادق الصّدر ؛ طبع أصفهان (مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامّة) ـ بدون تاريخ.

فاء

١٥٣ ـ فروع الكافي : محمد بن يعقوب الكليني ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٩١ ه‍.

١٥٤ ـ فضائل الخمسة من الصّحاح الستّة : مرتضى الحسيني الفيروزآبادي ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ قم ، إيران ـ ١٤١٣ ه‍.

١٥٥ ـ الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة : علي بن محمّد بن أحمد المالكي المكّي الشهير ب «ابن الصبّاغ» ، ط. دار الأضواء ـ بيروت ـ ١٤٠٩ ه‍.

١٥٦ ـ فدك في التاريخ : محمّد باقر الصّدر ؛ ط. دار التعارف ـ بيروت ـ ١٤٠٠ ه‍.

١٥٧ ـ فرائد السّمطين : ابراهيم بن محمد بن المؤيّد بن عبد الله الجويني ؛ ط.

مؤسسة المحمودي ـ بيروت ـ.

١٥٨ ـ الفرق بين الفرق : عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الأسفرائيني التميمي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ـ.


١٥٩ ـ الفصول المائة في حياة أبي الأئمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : أصغر ناظم زاده القمّي ؛ ط. مطبعة مهر ـ قم ، إيران ـ ١٤١١ ه‍.

١٦٠ ـ فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى من مهدها إلى لحدها : أحمد الرحماني الهمداني ؛ ط. مؤسّسة النعمان ـ بيروت ـ ١٤١٣ ه‍.

١٦١ ـ الفصول المختارة من العيون والمحاسن : أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ـ ١٤١٤ ه‍.

١٦٢ ـ فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد : محمّد كاظم القزويني ؛ ط. مؤسسة النور ـ بيروت ـ.

١٦٣ ـ فتوح البلدان : أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ؛ ط. لجنة البيان العربي.

١٦٤ ـ الفهرست : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ؛ ط. المكتبة الرضوية ـ النجف ـ من دون تاريخ.

١٦٥ ـ الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإمامية : محمّد جميل حمّود ؛ طبعة ثانية ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٢١ ه‍.

١٦٦ ـ فلاح السائل : رضي الدين علي بن موسى آل طاوس ؛ ط. دار الكتاب الإسلامي ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

١٦٧ ـ الفتنة الكبرى : طه حسين ؛ ط. دار المعارف ـ مصر ـ من دون تاريخ.

١٦٨ ـ فقه الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : محمّد جواد مغنية ؛ ط. دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ١٩٧٨ م.

١٦٩ ـ تفسير فرات الكوفي : أبو القاسم فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي ؛ ط.

مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ـ إيران ـ ١٤١٠ ه‍.

١٧٠ ـ تفسير فتح القدير : محمّد بن علي بن عبد الله الشوكاني ؛ ط. مطبعة مصطفى الحلبي البابي ـ القاهرة ، مصر ـ ١٣٤٩ ه‍.


١٧١ ـ فهرس الكتاب المقدّس : جورج بوست ؛ ط. دار الثقافة ـ القاهرة ، مصر ـ ١٩٩٤ م.

قاف

١٧٢ ـ قرب الإسناد : أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري ؛ ط. مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ بيروت ـ ١٤١٣ ه‍.

١٧٣ ـ القرآن في الإسلام : محمد حسين الطباطبائي ؛ ط. دار الإسلام ١٤٢٠ ه‍.

١٧٤ ـ قاموس الرجال : محمّد تقي التستري ؛ ط. مطبعة المصطفوي ـ طهران ، إيران ـ ١٣٧٩ ه‍.

١٧٥ ـ القاموس المحيط : محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي ؛ ط. المطبعة الحسينية ـ مصر ـ ١٣٤٤ ه‍.

كاف

١٧٦ ـ كامل الزيارات : أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي ؛ ط. دار السرور ـ بيروت ، لبنان ـ ، ١٤١٨ ه‍.

١٧٧ ـ الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمّد الزمخشري ؛ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤١٥ ه‍.

١٧٨ ـ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال : علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي ؛ ط. مؤسسة الرسالة ١٤٠٥ ه‍.

١٧٩ ـ كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر : أبو القاسم علي بن محمّد بن عليّ الخزّاز القمّي الرّازي ؛ ط. مطبعة الخيام ـ قم ، إيران ـ ١٤٠١ ه‍.

١٨٠ ـ الكامل في التاريخ : عزّ الدين أبي الحسن عليّ بن أبي الكرم محمّد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المعروف ب «ابن الأثير» ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ـ ١٣٨٥ ه‍.


١٨١ ـ كنز العرفان في فقه القرآن : جمال الدين المقداد بن عبد الله السّيوري ؛ ط.

المكتبة المرتضوية ـ طهران ، إيران ـ ١٣٨٤ ه‍.

١٨٢ ـ الكامل في ضعفاء الرجال : أبو أحمد بن عدي الجرجاني ؛ ط. دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٩ ه‍.

١٨٣ ـ كنز الفوائد : أبو الفتح محمّد بن علي الكراجكي ؛ ط. دار الأضواء ـ بيروت.

١٨٤ ـ الكوثر في أحوال فاطمة بنت النبي الأطهر : محمّد باقر الموسوي ؛ ط.

مطبعة نكين ـ قم ، إيران ـ ١٤٢٠ ه‍.

١٨٥ ـ الكنى والألقاب : عباس القمّي ؛ ط. حيدري ـ إيران ـ ونشر مكتبة الصدر ١٣٦٨ ش.

١٨٦ ـ كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام : محمد بن يوسف بن محمد القرشي الكنجي الشافعي ؛ ط. المطبعة الحيدرية ـ النجف ـ ١٣٩٠ ه‍.

لام

١٨٧ ـ لقد شيّعني الحسين : إدريس الحسيني ؛ ط. مطبعة مهر ـ قم ، إيران ـ ١٤١٥ ه‍.

١٨٨ ـ لسان العرب : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ـ ١٤١٤ ه‍.

١٨٩ ـ لسان الميزان : شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمّد الكناني العسقلاني المعروف ب «ابن حجر» ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤٠٦ ه‍.

١٩٠ ـ لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف ب «تفسير الخازن» : علاء الدين أبو الحسن علي بن محمّد بن إبراهيم الشّيحي البغدادي ؛ ط. مطبعة الاستقامة ـ القاهرة ـ ١٣٧٤ ه‍.


ميم

١٩١ ـ تفسير المراغي : أحمد مصطفى المراغي ؛ ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ من دون ذكر لرقم الطبعة أو تاريخها.

١٩٢ ـ المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنّة والإمامية : نجم الدين جعفر بن محمّد العسكري ؛ ط. مؤسسة الإمام المهدي ـ إيران ـ ١٤٠٢ ه‍.

١٩٣ ـ معالم المدرستين : «بحوث المدرستين في الصّحابة والإمامة» : مرتضى العسكري ؛ ط. مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة ـ إيران ـ ١٤١٢ ه‍.

١٩٤ ـ المنار في تفسير القرآن : محمّد رشيد رضا ومحمّد عبده ؛ ط. دار المنار ـ القاهرة ، مصر ـ ١٣٤٦ ه‍.

١٩٥ ـ معارج الأصول : نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي الشهير ب «المحقّق الحلّي» ؛ ط. مطبعة سيد الشهداء ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٣ ه‍.

١٩٦ ـ المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي : توفيق الفكيكي ؛ ط. دار الأضواء ـ بيروت ـ ١٤١٨ ه‍.

١٩٧ ـ من لا يحضره الفقيه : أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الصّدوق ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ، إيران ـ ١٣٩٠ ه‍.

١٩٨ ـ معاني الأخبار : أبو جعفر الصّدوق ؛ ط. مؤسسة النشر الإسلامي ـ إيران ـ ١٣٧٩ ه‍.

١٩٩ ـ مفاتيح الغيب الموسوم ب «التفسير الكبير» : محمّد بن عمر بن الحسين الرازي ؛ الطبعة الثالثة ـ إيران ـ من دون ذكر لأي تاريخ أو لاسم الناشر.

٢٠٠ ـ معجم رجال الحديث : أبو القاسم الموسوي الخوئي ، ط. مطبعة الصدر ـ قم ، إيران ـ ١٤١٠ ه‍.


٢٠١ ـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال : أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

٢٠٢ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن : أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ؛ ط.

دار الكتب العلميّة ـ بيروت ـ ١٤١٨ ه‍.

٢٠٣ ـ منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر : لطف الله الصافي الكلبايكاني ؛ ط.

مؤسسة الوفاء ـ بيروت ـ ١٤٠٣ ه‍.

٢٠٤ ـ المحاسن : أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ؛ تعليق : جلال الدين الحسني ، توزيع دار الكتاب الإسلامي ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

٢٠٥ ـ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول : محمّد باقر المجلسي ؛ ط. دار الكتب الإسلامية ـ طهران ، إيران ـ ١٤٠٥ ه‍.

٢٠٦ ـ المقنعة : أبو عبد الله العكبري المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

٢٠٧ ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية : محمد الخضري بك ؛ ط. مطبعة الاستقامة ـ القاهرة ، مصر ـ ١٣٧٦ ه‍.

٢٠٨ ـ المراجعات : عبد الحسين شرف الدين ؛ تحقيق : محمّد جميل حمّود ، ط.

مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤١٦ ه‍ ، ونسخة أخرى غير محقّقة ط. دار علاء الدين ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

٢٠٩ ـ المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر ب «الفخري» : فخر الدين الطريحي النّجفي ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ من دون تاريخ.

٢١٠ ـ المقدّمة الشهير ب «مقدّمة ابن خلدون» وهو الجزء الأول من كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر» : عبد الرحمن ابن خلدون المغربي ؛ ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ الطبعة الرابعة ، من دون تاريخ.


٢١١ ـ محاسن التأويل المعروف ب «تفسير القاسمي» : جمال الدين محمّد بن محمّد القاسمي ؛ ط. دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ، مصر ـ ١٣٧٦ ه‍.

٢١٢ ـ معرفة الإمام محمد حسين الطهراني ؛ ط. دار المحجّة البيضاء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٩ ه‍.

٢١٣ ـ المنجد الأبجدي ؛ صادر عن دار المشرق (المطبعة الكاثوليكيّة) ـ بيروت ، لبنان ـ ١٩٦٧ م (الطبعة الثانية).

٢١٤ ـ مصباح الأصول : تقرير بحث السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي وتأليف محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي ؛ ط. مطبعة النجف ـ النجف ، العراق ـ ١٣٨٦ ه‍.

٢١٥ ـ ميزان الحكمة : محمّد الرّي شهري ؛ ط. دار الحديث ـ قم ، إيران ـ ٤١٦ ه‍.

٢١٦ ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : علي بن أبي بكر الهيثمي ؛ ط. دار الكتاب ـ بيروت ، لبنان ـ ١٩٦٧ م ، وطبعة أخرى في القاهرة.

٢١٧ ـ معجم البلدان : شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ، لبنان ـ من دون تاريخ.

٢١٨ ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر : علي بن الحسين بن علي المسعودي ؛ ط.

دار الأندلس ـ القاهرة ، مصر ـ ١٣٨٥ ه‍.

٢١٩ ـ مطالب السئول في مناقب الرسول : محمّد بن طلحة الشافعي ؛ طبع النجف الأشرف ـ من دون تاريخ.

٢٢٠ ـ مناقب آل أبي طالب : أبو جعفر رشيد الدين محمّد بن علي بن شهرآشوب السّروي المازندراني ؛ ط. المطبعة العلمية ـ قم ، إيران ـ من دون تاريخ.

٢٢١ ـ معالم العلماء : ابن شهرآشوب ؛ ط. المكتبة الحيدرية ـ النجف ، العراق ـ ١٣٨٠ ه‍.


٢٢٢ ـ من حياة الخليفة عمر بن الخطاب : عبد الرحمن أحمد البكري ؛ ط. دار الإرشاد ـ بيروت ولندن ـ الطبعة السادسة ، بدون تاريخ.

٢٢٣ ـ مآثر الإنافة في معالم الخلافة : أحمد بن عبد الله القلقشندي ؛ ط. وزارة الإرشاد ـ الكويت ـ ١٩٦٤ م ، وطبعة أخرى بدار عالم الكتب ـ بيروت ـ.

٢٢٤ ـ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج : محمّد الشّربيني ؛ ط. دار الفكر ـ بيروت ، لبنان ـ من دون تاريخ.

٢٢٥ ـ مقاتل الطالبيين : علي بن الحسين الشهير ب «أبو الفرج الأصبهاني» ؛ ط.

المكتبة الحيدرية ـ النجف ، العراق ـ ونشر مؤسسة دار الكتاب ـ قم ، إيران ـ ١٣٨٥ ه‍.

٢٢٦ ـ منهاج السنّة النبويّة في نقض كلام الشيعة والقدريّة : أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير ب «ابن تيميّة الحراني الدمشقي الحنبلي» ؛ ط.

دار الكتب العلميّة ـ بيروت ، لبنان ـ من دون تاريخ.

٢٢٧ ـ مبادي الثقافة المهدويّة : مهدي الفتلاوي ؛ ط. دار الكرام ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٦ ه‍.

٢٢٨ ـ المفردات في غريب القرآن : أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني المعروف ب «الراغب» ؛ ط. المكتبة المرتضوية ـ طهران ، إيران ـ ١٣٦٢ ه‍.

٢٢٩ ـ مجمع البحرين : فخر الدّين الطّريحي ؛ منشورات المكتبة المرتضوية ـ طهران ـ ، بدون تاريخ.

٢٣٠ ـ الملل والنّحل : أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر الشهرستاني ؛ ط. دار المعرفة ـ بيروت ، لبنان ـ بدون تاريخ.

٢٣١ ـ الملل والنّحل : جعفر السبحاني ؛ ط. مطبعة الخيام ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٨ ه‍.


٢٣٢ ـ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : حبيب الله الهاشمي الخوئي ؛ ط.

مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠٣ ه‍.

٢٣٣ ـ مسند أحمد بن حنبل : أحمد بن حنبل ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ، لبنان ـ.

٢٣٤ ـ ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار : محمّد باقر المجلسي ؛ ط. مطبعة الخيام ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٦ ه‍.

٢٣٥ ـ المسائل العكبريّة : محمّد بن محمّد بن النعمان ابن المعلّم أبي عبد الله العكبري البغدادي المفيد ؛ ط. دار المفيد ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٤ ه‍.

٢٣٦ ـ مقتل الحسين : أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد المكي المعروف ب «الخوارزمي» ؛ ط. مكتبة المفيد ـ قم ، إيران ـ من دون تاريخ.

٢٣٧ ـ مجلّة المنطلق : (لبنانيّة) ؛ العدد ١١٣ عام ١٩٩٥ م.

٢٣٨ ـ المستدرك على الصحيحين : أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ؛ طبع الهند ١٣٣٤ ه‍.

٢٣٩ ـ المحلّى : علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ؛ منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ، لبنان.

٢٤٠ ـ المنقذ من الضّلال : محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي ؛ ط. دار العلم للجميع ـ لبنان ـ من دون تاريخ.

٢٤١ ـ منتخب كنز العمّال : علي بن حسام الدين الشهير ب «المتقي الهندي» ؛ ط.

دار صادر ـ بيروت ، لبنان ـ وهو بهامش مسند أحمد بن حنبل ، وطبعة أخرى بالمطبعة الميمنية ـ مصر.

٢٤٢ ـ مناقب وفضائل الإمام عليّ عليه‌السلام : أبو الفضل شاذان بن جبرائيل القمّي ؛ ط. دار العالم الإسلامي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤٠١ ه‍.

٢٤٣ ـ الميزان في تفسير القرآن : محمّد حسين الطباطبائي ؛ ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٩٤ ه‍.


٢٤٤ ـ محاورة حول الإمامة والخلافة الشهير ب «مؤتمر علماء بغداد» : مقاتل بن عطية «شبل الدولة» ؛ تحقيق : مرتضى الرضوي ، ط. مؤسسة البلاغ ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٠ ه‍.

٢٤٥ ـ مأساة الزهراء عليها‌السلام : جعفر مرتضى ؛ ط. دار السيرة ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١٧ ه‍.

نون

٢٤٦ ـ نهج الحقّ وكشف الصّدق : الحسن بن يوسف الحلّي ؛ ط. مؤسسة دار الهجرة ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٧ ه‍.

٢٤٧ ـ الندوة : محمّد حسين فضل الله ؛ دار الملاك / الطبعة الثالثة ، بيروت ـ لبنان ١٤١٨ ه‍.

٢٤٨ ـ نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت : علي بن عبد العال الشهير ب «المحقّق الكركي» ؛ مخطوط ، ونسخة أخرى إصدار مكتبة نينوى ـ طهران ، إيران ـ.

٢٤٩ ـ نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ، أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي ؛ ط. مطبعة الاستقامة ـ مصر ـ شرح محمّد عبده.

٢٥٠ ـ النجم الثاقب : حسين الطبرسي النوري ؛ ط. مطبعة مهر ـ قم ، إيران ـ ١٤١٥ ه‍.

٢٥١ ـ نور الأبصار في مناقب آل النبيّ المختار : مؤمن بن حسن الشبلنجي الشافعي ؛ ط. المطبعة اليوسفيّة ـ مصر ، القاهرة ـ.

٢٥٢ ـ نخبة البيان في تفضيل سيدة النسوان : عبد الرسول الشريعتمداري الجهرمي ؛ ط. مطبعة الهادي ـ قم ، إيران ـ ١٤٠٧ ه‍.


هاء

٢٥٣ ـ الهداية الكبرى : أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي ؛ ط. مؤسسة البلاغ ـ بيروت ، لبنان ـ ١٤١١ ه‍.

واو

٢٥٤ ـ وفاة الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام : عبد الرزّاق الموسوي المقرّم ؛ ط. المطبعة الحيدريّة ـ النجف ، العراق ـ ١٣٧٠ ه‍.

٢٥٥ ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ؛ ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٩١ ه‍.

٢٥٦ ـ وفيّات الأعيان : أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان ؛ ط. دار صادر ـ بيروت ، لبنان ـ ١٣٩٨ ه‍.

ياء

٢٥٧ ـ ينابيع المودة : سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي ؛ ط. المطبعة الحيدريّة ـ النجف ، العراق ـ ١٣٨٤ ه‍.


المحتويات

رأي الشيعة حول تحريف القرآن.................................................... ٦

هنا نقطتان........................................................................

النقطة الأولى : في صنوف النسخ في القرآن الكريم.................................... ٦

معنى التحريف وأقسامه........................................................... ٦

القسم الأول : تفسير القرآن بغير معناه الحقيقي...................................... ٦

القسم الثاني : الزيادة أو النقص في الحروف والحركات................................. ٧

دعوى تواتر القراءات ونقضها...................................................... ٨

إشكال وحل................................................................... ١٠

ملاحظة على كلام السيد المحقق الخوئي رحمه‌الله........................................ ١١

دفع إشكال مفاده : أن المراد من سبعة أحرف هو سبع لغات........................ ١٣

القسم الثالث : الإخلال بترتيب الآيات والسور.................................... ١٥

القسم الرابع : النقص والزيادة في الآية والسورة...................................... ١٥

القسم الخامس : وجود زيادة في القرآن............................................. ١٦

مورد النزاع في التحريف ورأي الشيعة الإمامية....................................... ١٦

عمر بن الخطّاب أول من قال بالتحريف........................................... ١٦

اعتقاد بعض الصحابة في التحريف حسبما أفادت مصادر العامة..................... ١٧

نسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف............................................ ٢٣

الإيراد على القول بنسخ التلاوة................................................... ٢٤


تمهيد.............................................................................

التعريف بالنسخ................................................................ ٢٦

النسخ لا يستلزم البداء المستحيل على الله تعالى..................................... ٢٧

الفرق بين النسخ والبداء الجائز................................................... ٢٨

افتراء العامة على الشيعة بالبداء المستحيل.......................................... ٢٩

الفرق بين النسخ والتخصيص.................................................... ٣٠

شروط النسخ.................................................................. ٣١

الشرط الأول................................................................... ٣١

الإيراد على المحقق الخوئي في دعواه................................................ ٣٢

الشرط الثاني................................................................... ٣٥

الشرط الثالث.................................................................. ٣٥

الشرط الرابع................................................................... ٣٦

الإيراد على مقاتل بن سليمان.................................................... ٣٦

الشرط الخامس................................................................. ٣٨

وقوع النسخ في الشرائع السابقة................................................... ٣٩

صنوف النسخ في القرآن......................................................... ٤٣

الأول : نسخ الحكم والتلاوة معا.................................................. ٤٣

الثاني : نسخ التلاوة دون الحكم.................................................. ٤٦

الثالث : نسخ الحكم دون التلاوة................................................. ٥٠

النواحي الثلاثة لنسخ الحكم..................................................... ٥٠

إشكال وحل................................................................... ٥٠

إنكار السيّد الخوئي لأحد أنحاء نسخ الحكم وردّه................................... ٥١

النقطة الثانية : شبهات حول النسخ في القرآن الحكيم والإيراد عليها................... ٥٤

الشبهة الأولى : أن النسخ التشريعي مستحيل كالبداء التكويني........................ ٥٤


إشكال وحل................................................................... ٥٤

الشبهة الثانية : إنّ وجود المنسوخ يسبّب اشتباه المكلفين............................. ٥٥

الشبهة الثالثة : ما الفائدة وراء الإبقاء على آيات منسوخة في القرآن؟.................. ٥٦

الشبهة الرابعة : الالتزام بوجود ناسخ ومنسوخ يستدعي وجود تناف بين الآيات......... ٥٧

* * * * *

قصة الغرانيق المفتعلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم........................................ ٥٨

اعتقاد علماء العامة بخرافة الغرانيق................................................ ٥٩

ما أشبه اليوم بالأمس! وما أشبه سلمان رشدي بعلماء العامة!........................ ٦٥

الأدلة المحكمة على بطلان أسطورة الغرانيق......................................... ٦٦

* * * * *

تنزيه الشيعة الإمامية للذات الإلهية................................................ ٧٢

تجسيم الذات الإلهية عند أكثر الأشاعرة........................................... ٧٢

منشأ شبهة التجسيم عند العامة.................................................. ٧٣

لم ينصفنا الشهرستاني في كتابه الملل!.............................................. ٧٤

سكوت العامة عن مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وتكفيرهم للشيعة................... ٧٤

التجسيم عند الأشاعرة وجذوره في التوراة والإنجيل المزيفين............................. ٧٥

هنا مقاطع توراتية..................................................................

الإنسان بنظر اليهود يشبه الله تعالى............................................... ٧٥

سمع آدم صوت الرب يمشي في الجنّة............................................... ٧٦

الله جلّ وعلا طويل الروح وأسف لأنه خلق الإنسان................................ ٧٦

لله جلّ وعلا رأس وأعضاء ويركب سحابة.......................................... ٧٧

الله جلّ وعلا يجلس على الكروب ويطير........................................... ٧٨

مقاطع أخرى إنجيلية................................................................

الله جلّ وعلا اتحد في عيسى ابن مريم عليهما‌السلام....................................... ٧٩


الأعمال الصادرة من عيسى عليه‌السلام هي من الله لأنه مجبر عليها........................ ٨٠

دعوى أكابر الأشاعرة على إمكان رؤية الله تعالى بالبصر يوم القيامة................... ٨٠

رؤية الله تعالى كالبدر في تمامه بنظر البخاري........................................ ٨٣

الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة بنظر البخاري................................ ٨٣

الله تعالى جليس في داره فيستأذن عليه النبي محمّد بنظر العامة........................ ٨٣

الله تعالى يتجلّى للمؤمنين يضحك................................................ ٨٤

الله تعالى يتجلّى للمؤمنين يضحك................................................ ٨٤

تواتر الأحاديث على رؤية المؤمنين لله حسبما أفاد ابن كثير والشافعي.................. ٨٥

دعوى المجاز وتفنيدها........................................................... ٨٦

الله يضحك عند الحنابلة......................................................... ٨٧

تأويل ابن خزيمة للضحك ونقضه................................................. ٨٨

لله تعالى يد ورجل وعين وعورة ويدخل رجله في النار عند الحنابلة...................... ٩٠

الله تعالى يهبط من السماء آخر الليل.............................................. ٩١

أخبار أحمد بن حنبل في أطيط الله تعالى ووضع قدمه في النار......................... ٩١

يأتي الله جلّ وعلا في صورة شاب عليه تاج يلتمع البصر منه.......................... ٩٣

لله تعالى علوا كبيرا عورة ولحية وهو أجوف.......................................... ٩٣

تفنيد مقالة ابن روزبهان الأشعري.................................................. ٩٥

* * * * *

من هو أبو هريرة؟.............................................................. ٩٧

الاختلاف في اسمه.............................................................. ٩٨

صحبته القليلة وكثرة أحاديثه.................................................... ١٠٠

لما ذا منعه عمر من رواية الأحاديث؟............................................ ١٠١

وا عجباه من مقالة عمر : «جردوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد»................... ١٠٢

«حسبنا كتاب الله» في كتب العامة............................................. ١٠٣

موافقة أبي بكر لعمر في منع نشر الأحاديث...................................... ١٠٤


ما السر في منع الأحاديث؟.................................................... ١٠٦

تدليس أبي هريرة للرواية........................................................ ١١٢

نقد الشيخ محمود أبو ريّة على أبي هريرة.......................................... ١١٢

* * * * *

هنا نقطتان........................................................................

النقطة الأولى : حجية ظواهر الكتاب............................................ ١٢٠

الاستدلال على حجيّة ظواهر الكتاب الكريم..................................... ١٢١

هنا أمور..........................................................................

الأمر الأول : عدم كونه حجّة ينافي الغرض من إنزاله.............................. ١٢١

الأمر الثاني : الروايات الآمرة بالتمسّك بالثقلين................................... ١٢٢

الأمر الثالث : عرض الأخبار على الكتاب....................................... ١٢٢

الأمر الرابع : استدلال الأئمة عليهم‌السلام بالآيات على جملة من الأحكام................. ١٢٢

أدلة من أسقط حجية ظواهر الكتاب الكريم والردود عليها......................... ١٢٤

هنا وجوه..........................................................................

الوجه الأول : اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به............................... ١٢٤

الوجه الثاني : النهي عن التفسير بالرأي.......................................... ١٢٥

الوجه الثالث : غموض معاني القرآن الكريم....................................... ١٢٦

الوجه الرابع : العلم بإرادة خلاف الظاهر......................................... ١٢٧

النقطة الثانية : المحكم والمتشابه في القرآن......................................... ١٢٧

تعريف المحكم والمتشابه......................................................... ١٢٨

الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم........................................ ١٢٨

* * * * *

متى ظهر مصطلح «أهل السنّة والجماعة»؟....................................... ١٣٦

* * * * *


الهدى والضلال في القرآن الكريم................................................ ١٣٩

انقسام المسلمين إلى فرقتين..................................................... ١٣٩

هل للعبد دور في الهداية أو الضلالة؟............................................ ١٤٠

الاستقراء اللغوي والاصطلاحي للفظ الضلالة..................................... ١٤١

للهداية معان متعددة.......................................................... ١٤٢

أقسام الهداية................................................................. ١٤٤

الهداية التكوينية العامة......................................................... ١٤٤

الهداية التشريعية العامة......................................................... ١٤٤

الهداية الخاصة................................................................ ١٤٥

ما معنى الإضلال الإلهي الوارد في الآيات؟........................................ ١٤٥

وجود قرائن تنفي الضلال عن الله عزوجل.......................................... ١٤٦

* * * * *

اعتقاد الأشاعرة بالجبر......................................................... ١٤٩

عمر بن الخطاب أول القائلين بالجبر............................................. ١٤٩

الحافز لاعتقاد بعض الصحابة بالجبر............................................. ١٥١

عقيدة أبي حسن الأشعري بالجبر................................................ ١٥١

الفرق الجبرية في الإسلام....................................................... ١٥٢

الفرقة الأولى : الجهمية......................................................... ١٥٢

الفرقة الثانية : النّجارية........................................................ ١٥٣

الفرقة الثالثة : الضّرارية........................................................ ١٥٣

ماهية الكسب والجبر واحدة.................................................... ١٥٣

الإيراد على نظرية الكسب الأشعرية............................................. ١٥٣

استدلال الأشاعرة على صحة الجبر والإيراد عليها.................................. ١٥٤


كيفية معالجة الآيات المتعارضة بحسب الظاهر..................................... ١٥٨

* * * * *

مناهضة ادّعاء العامة بإبطاء الوحي ونزوله على عمر مع آيات أخذ الميثاق............ ١٦٣

روايات ابن أبي الحديد في فضائل عمر........................................... ١٦٣

ما رأى الشيطان عمر إلّا سلك فجا غير فجه.................................... ١٦٥

دفاع النووي عن الحديث المنسوب والإيراد عليه................................... ١٦٥

دفاع ابن أبي الحديد عن عمر والإيراد عليه....................................... ١٦٨

دعوى ابن أبي الحديد أن عمر لم يفر من الزحف إلّا متحيّزا إلى فئة ونقضه........... ١٦٩

دفاع آخر ونقضه............................................................. ١٧٠

* * * * *

القدح بشخصية النبيّ من أجل عائشة........................................... ١٧٢

النبيّ عند العامة كان يسمع الغناء ويحمل عائشة على ظهره......................... ١٧٣

مزمارة الشيطان في محضر النبيّ يستمع إليها....................................... ١٧٣

هذه أخبار صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد.................................. ١٧٣

كان النبيّ (حاشا له) يتسابق مع عائشة كالأطفال................................ ١٧٥

* * * * *

هل نزلت سورة عبس في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟...................................... ١٧٩

إجماع علماء العامة على أن العابس هو النبيّ...................................... ١٧٩

دعوى العامة والإيراد عليها..................................................... ١٨٠

الإجماع الإمامي على أن العابس رجل من بني أميّة (عثمان بن عفّان)................ ١٨٥

أقوال أجلّاء الطائفة........................................................... ١٨٦

* * * * *

تشكيك عمر بن الخطاب في فعل النبيّ يوم الحديبية................................ ١٩٣


بنود الصلح يوم الحديبية....................................................... ١٩٤

اتفاق المؤرخين على تشكيك عمر بفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.............................. ١٩٤

يا علي! أبيت أن تمحو اسمي .. لنجيبنّ أبناءهم إلى مثلها.......................... ١٩٧

علماء العامة يتحدثون عن شخصية عمر بن الخطاب.............................. ١٩٨

إشكال وحل................................................................. ٢٠٠

* * * * *

هل لرسول الله بنات غير سيدة النساء فاطمة عليها‌السلام................................ ٢٠٣

روايتان موافقتان لأخبار العامة.................................................. ٢٠٣

دعوى الشيخ المفيد والإيراد عليها............................................... ٢٠٤

هنا أمران.........................................................................

الأمر الأول : إثبات أن تينك الفتاتين قد تزوجتا قبل عثمان بكافرين................. ٢٠٥

تعارض الأخبار على الثانية التي تزوجها عثمان.................................... ٢٠٦

القرائن على عدم تزوجهنّ بعتبة وأبي العاص....................................... ٢٠٦

الأمر الثاني : التسليم بكونهنّ ابنتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.............................. ٢١١

الرأي الصحيح انهنّ ربائبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم............................................... ٢١١

القرائن حول ما اخترناه......................................................... ٢١٢

القرائن الأولى................................................................. ٢١٢

القرينة الثانية................................................................. ٢١٣

القرينة الثالثة................................................................. ٢١٤

دفع وهم.................................................................... ٢١٦

ما الحكمة في تزويج النبيّ ربائبه لعثمان مع ما علم من حاله ـ على فرض حصوله ـ؟.... ٢١٦

* * * * *


شبهة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام............... ٢١٧

لا تنحصر الحجيّة بخبر الثقة.................................................... ٢١٨

جوابان عن الخبرين الدالين على التزويج.......................................... ٢١٩

الجواب الأول : ورود ما ينافي هذين الخبرين....................................... ٢١٩

استنكار وردّ.................................................................. ٢٢٠

الجواب الثاني : قيام الشواهد والقرائن على عدم تحقق ذاك الزواج.................... ٢٢٢

القرينة الأولى................................................................. ٢٢٢

القرينة الثانية................................................................. ٢٢٢

القرينة الثالثة................................................................. ٢٢٤

أرسل الإمام عليّ ابنته لعمر فكشف عن ساقها (حاشاها)......................... ٢٢٧

لا أصدق ما أقرأ!............................................................. ٢٢٨

ألا تستأمر البنت في زواجها؟................................................... ٢٢٨

الاضطراب في القصة ينسف القضية من أساسها.................................. ٢٢٩

إشكال وحل................................................................. ٢٢٩

هنا ثلاثة احتمالات........................................................... ٢٣٠

القرينة الرابعة................................................................. ٢٣٠

تنبيه........................................................................ ٢٣٢

وزبدة المقال.................................................................. ٢٣٢

* * * * *

عدم تمامية استدلال العلوي في المحاورة بحديث «لا تجتمع أمتي على خطأ»............ ٢٣٤

ملاحظتان على من ادّعى أنّ الحديث شريف..................................... ٢٣٥

تعقيب للشيخ المفيد على الحديث المذكور........................................ ٢٣٧

عائشة لقبت عثمان بنعثل وأمرت بقتله.......................................... ٢٤١

سبب التسمية بنعثل.......................................................... ٢٤١


بتوافق اللقب مع ما نزل بحقه في سورة عبس وتولّى................................. ٢٤٢

عائشة وقميص عثمان......................................................... ٢٤٣

اتفاق المؤرخين على أن عائشة كانت أول المحرضين على عثمان...................... ٢٤٣

تحريض عائشة على قتال مولى الثقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام...................... ٢٤٥

أسباب حقدها على الإمام عليّ عليه‌السلام............................................. ٤٦

إنكارها لخلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام........................................... ٢٤٨

حربها لأمير المؤمنين عليه‌السلام...................................................... ٢٤٨

عائشة صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب............................... ٢٤٨

أول شهادة زور في الإسلام..................................................... ٢٤٩

اعتداء عثمان على عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل............................ ٢٥١

ما جاء في الأخبار بمدح عبد الله بن مسعود...................................... ٢٥٥

اعتداء عثمان على أبي ذر الغفاري.............................................. ٢٥٩

ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر.............................. ٢٥٩

زهد عيسى وسمت الأولياء عليهم‌السلام................................................ ٢٦٠

أمران تمخضا عن سياسة عثمان................................................. ٢٦٥

الأمر الأول : اجتهاده في مقابل النص........................................... ٢٦٥

أ ـ اتخاذه الحمى له ولذويه................................................... ٢٦٥

ب ـ اقتطاعه منطقة فدك لمروان بن الحكم...................................... ٢٦٧

الأمر الثاني : قضمه للأموال والصدقات وتوزيعها حسب مشتهياته.................. ٢٦٨

آوى طريد النبيّ الحكم بن أبي العاص وإغداقه الأموال عليه......................... ٢٦٩

عطاء عثمان تحت مجهر المؤرخين................................................ ٢٧٢

أعطيات عثمان من بيت المال.................................................. ٢٧٥

عثمان أحد أركان الدولة الأموية في الشام........................................ ٢٨٠

* * * * *


طلحة وقوله في عائشة......................................................... ٢٨٥

التزويج بنساء النبيّ حرام....................................................... ٢٨٦

دفاع ابن كثير عن طلحة والإيراد عليه........................................... ٢٨٦

أليس تحريم التزويج بنساء النبيّ من بعده إجحافا بحقهنّ؟........................... ٢٨٦

طلحة والزبير سعيا في قتل عثمان................................................ ٢٨٩

* * * * *

بعض الشواهد التاريخية على شتم الصحابة ولعن بعضهم بعضا..................... ٢٩١

صغر السنّ ليس مانعا لقيادة الأمة وذلك لأمور................................... ٢٩٥

الأمر الأول : احتياج القيادة إلى الرشد العقلي.................................... ٢٩٥

أمثلة حيّة.................................................................... ٢٩٥

الأمر الثاني : سيرة النبيّ تضفي على القضية أنسا................................. ٢٩٧

الأمر الثالث : الخلافة لله تعالى يهبها للأصفياء من عباده.......................... ٢٩٧

الأمر الرابع : لا يتوقف الإيمان والفضائل النفسانية على سنّ معين.................. ٢٩٨

مؤهلات خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.......................................... ٣٠١

أ ـ تعيين الله وتعيين رسوله له................................................. ٣٠١

ب ـ أعلمية الإمام عليّ عليه‌السلام على الإطلاق.................................... ٣٠١

ج ـ كان مستغنيا عن غيره................................................... ٣٠٣

اعتراف الصحابة بأفضليته وأعلميته............................................. ٣٠٤

د ـ قضى عمره عليه‌السلام منذ صغره إلى شهادته بالعبادة............................. ٣٠٧

ه‍ ـ سلامة فكره عليه‌السلام ورأيه الصائب.......................................... ٣٠٧

* * * * *

الفتوحات الإسلامية وآثارها المعكوسة............................................ ٣١٦

هنا أمور..........................................................................

الأمر الأول : عدم اهتمام الفاتحين بتعريف الآخرين على قيم الإسلام................ ٣١٦


الأمر الثاني : التمييز في العطاء................................................. ٣١٧

الأمر الثالث : تأثير أهل البلاد المفتوحة على الفاتحين.............................. ٣٢٠

الأمر الرابع : عدم اشتراك أمير المؤمنين عليّ وولديه الإمامين الحسن والحسين في تلك الفتوحات       ٣٢١

الأسباب التي أدت إلى عدم مشاركة الإمام عليه‌السلام في تلك الفتوحات.................. ٣٢١

عدم جواز المرابطة في ثغور أعداء آل البيت عليهم‌السلام................................. ٣٢٣

دعوى السيد هاشم الحسني والإيراد عليها........................................ ٣٢٤

يتشدق العامة بفتوحات عمر وينسون فتوحات أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام............... ٣٢٦

لما ذا صارت ضربة الإمام عليّ عليه‌السلام أفضل من عبادة الثقلين؟....................... ٣٢٧

* * * * *

غدر خالد بن الوليد بالصحابي الجليل مالك بن نويرة وزناه بزوجته................... ٣٢٩

اعتراض عمر على أبي بكر لعدم اقتصاصه من خالد............................... ٣٣٠

دعوى أن القدر نضج وما نضج رأس مالك من كثرة شعره ونقضها.................. ٣٣١

استشهد مالك من أجل الإمامة وغيرة على حرمه وناموسه.......................... ٣٣٢

ما فعله خالد سيف الشيطان بمالك ليس بأول قارورة كسرت....................... ٣٣٣

براءة نبيّ الإسلام من خالد..................................................... ٣٣٣

لما ذا لقّب خالد بسيف الله المسلول؟............................................ ٣٣٤

* * * * *

سيّدنا أبو طالب صدّيق هذه الأمة.............................................. ٣٣٤

هنا نقطتان........................................................................

النقطة الأولى : إيمان الصدّيقة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام............................. ٣٣٥

هي أول امرأة آمنت برسول الله بعد أمه آمنة...................................... ٣٣٦

اصبري سبتا أبشرك بمثله إلّا النبوة................................................. ٣٦

حنوّ النبيّ عليها بعد موتها...................................................... ٣٣٨


ملاحظة..................................................................... ٣٣٩

كنت أمي بعد أمي........................................................... ٣٤٠

القرائن على إسلامها قبل البعثة................................................. ٣٤٠

القرينة الأولى : كانت على دين الحنيفية.......................................... ٣٤١

القرينة الثانية : استبشارها بمولد رسول الله........................................ ٣٤١

القرينة الثالثة : مناجاتها مع الله تعالى لما أتاها الطلق حول الكعبة.................... ٣٤١

القرينة الرابعة : كانت من المحدّثين............................................... ٣٤٣

نزل لوح من السماء فتلقاه أبو طالب عليه‌السلام بيديه وضمّه إلى صدره................... ٣٤٣

القرينة الخامسة : كشف المعصوم عن طهارة آباء وأمهات الإمام الحسين عليه‌السلام......... ٣٤٤

النقطة الثانية : في إيمان أبي طالب عليه‌السلام وأنه كان صدّيقا وصيّا..................... ٣٤٥

نور أبي طالب من نور الأئمة عليهم‌السلام............................................. ٣٤٥

الأدلة على إيمان عبد مناف بن عبد المطلب «أبي طالب عليه‌السلام».................... ٣٤٦

(١) مديح المعصومين عليهم‌السلام لأبي طالب عليه‌السلام.................................... ٣٤٦

من لم يقر بإيمان أبي طالب كان مصيره إلى النار.................................. ٣٤٦

ملاحظة هامة................................................................ ٣٤٧

رجاحة إيمانه على الخلق تستلزم العصمة.......................................... ٣٤٧

(٢) الأخبار الدالة على أنه كان من المنتظرين لمجيء رسول الله وابنه الوصي عليّ....... ٣٤٧

(٣) قيام السيرة بعدم إزراء خلفاء الجور على أبي طالب عليه‌السلام....................... ٣٤٨

(٤) كان المدافع الوحيد عن رسول الله والحامي له.................................. ٣٤٨

(٥) أمره لأولاده بنصرة رسول الله............................................... ٣٤٨

(٦) ترحم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه عند ما توفى ورثاء الأمير عليه‌السلام له.................... ٣٤٩

(٧) لم يفرّق النبيّ بين أبي طالب وزوجه بعد البعثة................................ ٣٤٩

(٨) الأشعار الصادرة منه دلالة عظمى على إيمانه................................ ٣٥٠


(٩) استسقاؤه بالنبيّ يوم القحط دليل إيمانه...................................... ٣٥٣

(١٠) تعظيم وتبجيل الرسول لأبي طالب عليه‌السلام................................... ٣٥٣

ـ الصدّيق يغسّله صدّيق........................................................ ٣٥٣

ـ شهادة أبي طالب لله بالوحدانية وللنبيّ بالرسالة باللغة الحبشية...................... ٣٥٣

شبهات وردود................................................................ ٣٥٤

الشبهة الأولى : رواية «هو في ضحضاح من نار ...».............................. ٣٥٤

لا شفاعة لكافر.............................................................. ٣٥٥

إنّ قيل قلنا.................................................................. ٣٥٥

لا ملازمة بين عدم النطق بالشهادتين وبين الكفر................................. ٣٥٥

الشبهة الثانية : لأستغفرنّ لك ما لم أنّه عنك..................................... ٣٥٦

روايات مدسوسة.............................................................. ٣٥٦

الرواية من المراسيل............................................................. ٣٥٦

نزلت آيات قبل موت أبي طالب تنهى النبيّ عن الاستغفار للمشركين................ ٣٥٧

الشبهة الثالثة : وهم ينهون عنه وينئون عنه....................................... ٣٥٨

الآية مجملة من حيث التطبيق على أبي طالب عليه‌السلام................................ ٣٥٨

تهافت مفسري العامة في الجمع بين الآيتين....................................... ٣٥٩

كيف ينهى أبو طالب عليه‌السلام عن الرسول وقد كان معتقدا به؟!...................... ٣٦٠

الاستدلال بالآية على كفر سيدنا أبي طالب مخالفا لسيرته في نصرة النبيّ............. ٣٦٠

وصاية سيدنا أبي طالب عليه‌السلام.................................................. ٣٦١

كان أبو طالب منبئا من قبل الله عزوجل........................................... ٣٦١

مفهوم الحجة اصطلاحا........................................................ ٣٦١

القرائن الدالة على النبوة التسديدية.............................................. ٣٦١

لهما بأم موسى أسوة........................................................... ٣٦١

خالد بن سنان العبسي كان نبيا................................................. ٣٦٢


رؤيا المؤمن جزء من سبعين جزءا من النبوة........................................ ٣٦٣

نبىء عبد المطلب في حفر زمزم.................................................. ٣٦٤

كرامات عبد المطلب عليه‌السلام..................................................... ٣٦٥

عليه سيماء الأنبياء............................................................ ٣٦٥

بيان......................................................................... ٣٦٥

سجود الكائنات لسيدنا عبد المطلب............................................ ٣٦٦

جاءه الهتاف وقال له : سيجعلك لسان الأرض................................... ٣٦٦

ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب .. صنما قط................................... ٣٦٧

يا ربّ لا أرجو سواك.......................................................... ٣٦٧

مخاطبته للفيل وجوابه له........................................................ ٣٦٧

شواهد أخرى على نبوته التسديدية.............................................. ٣٦٨

بيان......................................................................... ٣٦٩

إشكال وحل................................................................. ٣٦٩

وجود وملازمة بين النبوة والوصاية والخلافة الإلهية.................................. ٣٦٩

آباء الرسول والأئمة عليهم‌السلام أنبياء أو صدّيقون..................................... ٣٧٠

كلام وجيه للعلّامة المجلسي «أعلى الله مقامه الشريف»............................ ٣٧٠

لم يكن رسول الله محجوجا بسيّدنا أبي طالب...................................... ٣٧٠

الاستيداع يعني الوصاية........................................................ ٣٧١

بيان......................................................................... ٣٧١

تفسير للعلّامة المجلسي «أعلى الله مقامه»........................................ ٣٧٢

أدلة أخرى على وصاية أبي طالب عليه‌السلام......................................... ٣٧٢

بين الوصاية والنبوة عموم وخصوص من وجه...................................... ٣٧٢

لا ملازمة بين الوصاية والنبوة في المواريث والوصايا الإلهية............................ ٣٧٣

ظاهر أئمتنا عليهم‌السلام الوصاية وباطنهم النبوة والهداية................................. ٣٧٣


الشك بإيمان أبي طالب موجب لدخول النار...................................... ٣٧٤

بيان......................................................................... ٣٧٤

شبهة وحل................................................................... ٣٧٥

دلالة بعض الأخبار على عصمة وطهارة سيّدنا أبي طالب عليه‌السلام..................... ٣٧٦

* * * * *

هجوم المنافقين على دار سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام................................ ٣٧٨

هتك حجاب الله يا أمّه!....................................................... ٣٧٩

فداك أبوك................................................................... ٣٨٠

تسليط الضوء على مظلومية الصدّيقة الشهيدة.................................... ٣٨١

استبعاد السيّد محمد حسين فضل الله كسر الضلع وإسقاط الجنين................... ٣٨٢

تشكيك السيّد بوجود ارتباك في الروايات......................................... ٣٨٣

الإيرادات الإجمالية............................................................ ٣٨٤

الإيراد الأول : الخلط بين محمّد بن سنان وعبد الله بن سنان........................ ٣٨٤

الإيراد الثاني : الاضطراب في تصريحاته........................................... ٣٨٤

الإيراد الثالث : ان استبعاده وعدم تفاعله فيه تبرئة للظالمين......................... ٣٨٥

الإيراد الرابع : ان إنكار الاعتداء يستلزم حسن الظن بأعداء الله وأعداء أوليائه........ ٣٨٦

دعواه في أن الموضوع لا يدخل في دائرة تفاعلاته والإيراد عليها...................... ٣٨٦

هنا أمور..........................................................................

الأمر الأول : الاعتداء على سيدة النساء الزهراء فاطمة عليها‌السلام....................... ٣٨٧

ـ شكوى أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى رسول الله بعد فراق السيدة الزهراء................... ٣٨٨

ـ لو وجد الأمير عليه‌السلام أنصارا لما أمكن لحلف النفاق من الاعتداء عليها............... ٣٨٨

البحث في نقاط.............................................................. ٣٨٨

النقطة الأولى : إحراق الباب على الشهيدة المظلومة................................ ٣٨٩

إجماع مؤرخي العامة على التهديد بالإحراق....................................... ٣٨٩


استعراض كلمات المؤرخين...................................................... ٣٩٠

اعتراض الشهرستاني على النظام المعتزلي لأنه استنكر على عمر...................... ٣٩٤

تبجح شاعر النيل حافظ إبراهيم بقصيدته العمرية................................. ٣٩٧

ثلاث ندم على فعلهنّ أبو بكر منها : كشف بيت فاطمة عليها‌السلام.................... ٣٩٨

حملوا الحطب إلى دار بضعة الرسول.............................................. ٣٩٨

كلام وجيه للنقيب أبي جعفر ردا على أبي المعالي الجويني في أمر الصحابة............. ٤٠٠

إجماع مؤرخي الشيعة على التهديد بالإحراق...................................... ٤٠١

أحرق عمر الباب ثم دفعه...................................................... ٤٠٢

جاء قوم من الأعراب والمؤلفة قلوبهم لمساعدة الحلف الثنائي......................... ٤٠٣

وثب الإمام عليّ عليه‌السلام على عمر وأخذ بتلابيبه ثم هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله ٤٠٣

أجابت فضة القوم لكنّهم لم يصغوا إليها......................................... ٤٠٦

لم تتم العدة عند الإمام عليه‌السلام ليجاهدهم......................................... ٤١٠

دعوى القاضي عبد الجبار بأن لعمر أن يهدّد من امتنع من المبايعة والإيراد عليها....... ٤١٣

الإيراد الأول : خبر الإحراق رواه غير الشيعة...................................... ٤١٤

الإيراد الثاني : عدم البيعة ليست مبررا لإحراق الدار............................... ٤١٤

الإيراد الثالث : التهديد بالإحراق مخالف للعقل والنقل............................. ٤١٤

النقطة الثانية : الدخول إلى الدار عنوة........................................... ٤١٦

إخراج أمير المؤمنين عليه‌السلام من الدار قهرا ملازم لدخولهم الدار........................ ٤١٦

لأكشفنّ شعري ولأعجنّ إلى الله تعالى........................................... ٤١٧

دعوى أبي بكر بأن آل محمد غلّقوا بابهم على الحرب ونقضها....................... ٤١٨

قيام الإجماع الإمامي على اقتحام الدار وكسر الباب............................... ٤١٩

النقطة الثالثة : ضرب الزكيّة الطاهرة وتكسير أضلاعها وإسقاط جنينها............... ٤٢١


الشواهد والقرائن على هذه النقطة............................................... ٤٢١

كسر عمر جنبيها............................................................ ٤٢٤

الجمع الفقهي بين روايات الكسر............................................... ٤٢٤

رفس البطن؟ وا محمداه وا علياه!................................................ ٤٢٥

سبب المرض ليس الحزن على أبيها وإنما الضرب على البطن وتكسير الأضلاع........ ٤٢٥

الضرب حتى الإدماء........................................................... ٤٢٦

بكى الإمام الكاظم عليه‌السلام وقال : هتك والله حجاب الله يا أمّه...................... ٤٣٢

حصيلة الأخبار............................................................... ٤٣٢

تأكيد المصادر التاريخية الصحيحة على المظلومية.................................. ٤٣٣

(أ) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري...................................... ٤٣٥

(ب) الهداية الكبرى لحسين بن حمدان الخصيبي................................. ٤٣٧

(ج) السقيفة لسليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي............................ ٤٤١

مقطعان نتحفظ بالأخذ بهما : «ما عليها خمار» و «عيناك لم تتفقا في قبرك»......... ٤٤٦

الأمر الثاني : إجماع الإمامية على حصول الاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام........ ٤٥٤

فاطمة الزهراء شهيدة مظلومة................................................... ٤٥٤

تشكيك تيار الحداثة بأصل مظلومية سيدة النساء عليها‌السلام............................ ٤٥٥

علماء أجلّاء هم العمدة في تحقق الإجماع........................................ ٤٥٥

(أ) الثقة الجليل أبي الفضل شاذان بن جبرائيل القمي............................ ٤٥٧

(ب) الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم القمي...................................... ٤٥٧

(ج) الثقة الجليل الحسين بن حمدان الخصيبي................................... ٤٦٠

(د) الثقة الجليل محمّد بن يعقوب الكليني...................................... ٤٦٠

(ه) الثقة الجليل أبي القاسم الكوفي........................................... ٤٦١

(و) الثقة الجليل الشيخ الصدوق............................................. ٤٦٤


(ز) الثقة الجليل الشيخ المفيد................................................ ٤٦٤

(ح) الثقة الجليل السيد المرتضى.............................................. ٤٦٥

(ط) الثقة الجليل أبي جعفر الطوسي.......................................... ٤٦٧

(ي) تسالم بقية أجلّاء الطائفة على مظلومية سيّدة النساء عليها‌السلام.................. ٤٦٧

جريان سيرة المتدينين بالحزن على السيّدة المظلومة عليها‌السلام............................. ٤٦٨

سيرة الأدباء والشعراء على ذكر مصائبها وما جرى عليها روحي فداها................ ٤٦٩

الأمر الثالث : ردّ الشبهات الطارئة على ظلامات الشهيدة الطاهرة.................. ٤٨٨

الشبهة الأولى : عدم انعقاد الإجماع على الاعتداء................................. ٤٨٨

دعوى مخالفة الشيخ المفيد للإجماع والإيراد عليها.................................. ٤٨٨

(أ) مخالفة المفيد للإجماع ـ لو سلمنا بذلك ـ لا يضر بانعقاده..................... ٤٨٩

(ب) من قال بإسقاط محسن عليه‌السلام هم خصوص الإمامية من فرق الشيعة.......... ٤٨٩

(ت) مراعاة المفيد للظروف الأجواء السياسية المشحونة ضد الشيعة............... ٤٨٩

اضطهاد الشيعة الإمامية في عهد الشيخ المفيد..................................... ٤٨٩

أخبار ابن كثير الحنبلي وابن الأثير لما فعله الحنابلة بشيعة الكرخ...................... ٤٩٠

نفي سلطان الزمان للشيخ المفيد مرتين........................................... ٤٩١

دعوى أن وفاة الصدّيقة نتيجة إجهاضها لمحسن عليه‌السلام والإيراد عليها.................. ٤٩٢

لما ذا كان ابن طاوس «أعلى الله مقامه الشريف» أول المتجاهرين بكسر ضلع سيدة النساء في باب الزيارات؟  ٤٩٢

(ث) دعوى الشيخ الطوسي قيام الإجماع على ضرب الطاهرة الزكية وإسقاط جنينها. ٤٩٣

الشبهة الثانية : استبعاد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ضرب الطاهرة الزكية لأن السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة         ٤٩٣

استبعاد السيّد محمد حسين فضل الله وعدم تفاعله مع قضية كسر الضلع والضرب.... ٤٩٦


الإيراد على السيّد محمد حسين في دعواه ونقضها................................. ٤٩٧

الإيراد على الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في دعواه ونقضها.................... ٤٩٩

إشكال وجواب............................................................... ٥٠٢

هل صحيح أنّ السيّد الحجّة عبد الحسين شرف الدين «قدس‌سره» لم يثبت لديه الدخول إلى الدار وكسر الضلع؟ ٥٠٤

الشبهة الثالثة : أن كتاب سليم بن قيس هو العمدة في الموضوع فيه خلط لا يخفى على أحد ٥٠٦

تشكيك الشيخ المفيد وابن الغضائري بالكتاب.................................... ٥٠٧

منشأ القدح في صحة كتاب سليم أمور.......................................... ٥٠٨

الأمر الأول : شبهة وعظ محمّد بن أبي بكر لأبيه عند موته وعمر محمّد يوم ذاك ثلاث سنين ونقضها         ٥٠٩

ما نسب إلى ابن الغضائري فرية عليه............................................ ٥١٦

الأمر الثاني : اشتمال كتاب سليم على ذكر أن الأئمة عليهم‌السلام ثلاثة عشر وعلاج ذلك. ٥١٦

نصوص كتاب سليم في العدد «ثلاثة عشر»..................................... ٥١٧

علاج التعارض المتوهّم في نصوص الكتاب............................................

الأمر الثالث : أن راوي كتاب سليم هو أبان بن أبي عيّاش وهو ضعيف.............. ٥٢٢

الإيراد على هذا الأمر......................................................... ٥٢٢

منشأ القدح في أبان بن أبي عيّاش هو تشيّعه...................................... ٥٢٤

حملة شعواء على أبان من علماء العامة........................................... ٥٢٥

إشارة........................................................................ ٥٢٨

حملة مسعورة على زرارة وحمران وغيرهما من قبل علماء العامة......................... ٥٢٨

شهادة الرجاليين بوثاقة أبان بن أبي عيّاش........................................ ٥٣٠

زبدة المخض.................................................................. ٥٣٣


التشيع هو السبب في إدانة علماء العامة لأبان وذلك لأمور........................ ٥٣٤

الأمر الأول.................................................................. ٥٣٤

الأمر الثاني................................................................... ٥٣٥

الأمر الثالث................................................................. ٥٣٥

القرائن الدالة على تشيّع أبان رضيّ الله عنه وأرضاه................................ ٥٣٥

الدلائل والقرائن على وثاقته.................................................... ٥٣٥

القرينة الأولى : اعتماد العلماء على كتاب سليم المنقول بواسطة أبان................. ٥٣٦

القرينة الثانية : إن نفس اعتماد سليم على أبان يستلزم القول بوثاقته................. ٥٤٠

القرينة الثالثة : اعتراف علماء العامة أنفسهم بأنه كان معروفا بالخير................. ٥٤٠

الشبهة الرابعة : لم يكن لبيوت المدينة أبواب فكيف يدّعي الشيعة بأن عمر عصر فاطمة الزهراء عليها‌السلام بين الحائط والباب ، ونقضها............................................................................ ٥٤٢

التشكيك بوجود الأبواب يستلزم نفي أمرين....................................... ٥٤٤

الشبهة الخامسة : أصرت السيّدة الزهراء عليها‌السلام على أن يبقى قبرها غير معروف ثم عرف بعد ذلك والإيراد عليها        ٥٤٥

أين دفن السقط محسن عليه‌السلام؟.................................................. ٥٤٦

تعارض الأخبار في مكان دفن الطاهرة الزكية وعلاجه.............................. ٥٤٦

الشبهة السادسة : كيف ترك أمير المؤمنين عليّ زوجه السيّدة الزهراء عليهما‌السلام تواجه التحدّي لوحدها؟ نقض الشبهة      ٥٤٧

دعوى جهل الإمام عليه‌السلام بالموضوعات المترتب عليها حكم شرعي ونقضها............ ٥٥١

إشكال وحل................................................................. ٥٥١

* * * * * *

سلسلة آباء مولانا الإمام الحجّة المهدي المنتظر عليه وعلى آبائه الميامين التحية والسلام. ٥٥٨


دعوى ان اسم أبيه عبد الله وأن الاعتقاد بولادته عام.............................. ٢٥٥

هو ضرب من الجنون والهذيان ونقضها من أساسها................................. ٥٥٩

النقض الأول : الاعتقاد بوجود مخلوق منذ مئات السنين إيمان بالقدرة الإلهية المطلقة... ٥٥٩

النقض الثاني : لا اعتداد بما خالف الإجماع القطعي............................... ٥٦٠

النقص الثالث : معارضة رواية أبي داود للأخبار الكثيرة المتواترة...................... ٥٦٠

النقض الرابع : إمكان الجمع بين هذه الزيادة والأخبار المذكورة...................... ٥٦٣

هنا وجوه..........................................................................

الوجه الأول : احتمال التصحيف............................................... ٥٦٣

الوجه الثاني : شيوع إطلاق لفظة «الأب» على الجد الأعلى والكنية والصفة.......... ٥٦٤

الوجه الثالث : توافق الكنيتين.................................................. ٥٦٥

الوجه الرابع : اشتباه الرواة...................................................... ٥٦٥

الوجه الخامس : أن يكون الاشتباه في ابن الإمام المهدي عليه‌السلام وليس أبيه............. ٥٦٥

الوجه السادس : أن عبد الله صفة العبودية لله تعالى................................ ٥٦٥

النقض الخامس : الزيادة تفرّد بها زايدة........................................... ٥٦٥

زايدة لا يعتمد على شيء من حديثه بنظر نقاد الحديث والأسانيد................... ٥٦٦

النقض السادس : اعتقاد جمّ غفير من أكابر علماء العامة بولادة الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف       ٥٦٧

خلاصة القول................................................................ ٥٨٨

دعوى أن الإمام المهدي روحي له الفداء هو من نسل الإمام الحسن السبط الشهيد ونقضها ٥٨٨

نبذة شريفة من الأخبار في إمامة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام............................. ٥٨٩

تضافر النصوص على ولادة القائم صاحب الزمان عليه‌السلام............................ ٥٩٤

المعجزة الإلهية في ولادته صلوات الله عليه وعلى آبائه............................... ٥٩٨


الأئمة الاثنى عشر في مصادر العامة............................................. ٦٠٢

«يكون بعدي اثنى عشر أميرا أو خليفة» في مصادر العامة......................... ٦٠٥

لا ينطبق العدد اثنى عشر إلّا على أئمتنا عليهم‌السلام................................... ٦٠٧

محاولات فاشلة لصرف الحديث عن معناه الحقيقي................................. ٦٠٩

هنا تأويلات باردة.................................................................

التأويل الأول : ان قوله «اثنا عشر» إشارة إلى ما بعد الصحابة من بني أميّة والإيراد عليه ٦٠٩

التأويل الثاني : المراد بهم هم الذين يأتون بعد وفاة المهدي المنتظر عليه‌السلام والإيراد عليه... ٦١٠

التأويل الثالث : المراد بهم جماعة ممن حكموا في عزة الخلافة واستقامة أمور الإسلام والإيراد عليه      ٦١١

شبهات وردود................................................................ ٦١٥

الشبهة الأولى : إذا كان الإمام المهديّ عليه‌السلام موجودا فلما ذا ستره أبوه الإمام العسكري عن الناس؟   ٦١٥

الشبهة الثانية : أن جعفر عم الإمام المهدي عليه‌السلام أنكر وجود الإمام عليه‌السلام وهذا يكفي في بطلان قول الشيعة واعتقادهم بوجود ولد للإمام الحسن العسكري عليه‌السلام........................................................ ٦١٨

الشبهة الثالثة : ان الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قد أوصى في مرض موته إلى والدته بوقوفه وصدقاته وإسناد النظر إليها دون غيرها ، ولو كان الإمام المهديّ موجودا لما فعل الإمام العسكري ذلك؟.............................. ٦٢٣

الشبهة الرابعة : لم غاب الإمام المهديّ عليه‌السلام وله أسوة بأجداده الميامين عانوا الاضطهاد ولم يغب أحد منهم ولا خفيت ولادته ولا ستر وجوده؟............................................................................ ٦٢٦


الشبهة الخامسة : لم تجر العادة أن يغيب أحد عن قومه كل هذه السنين الطويلة ، فدعوى الإمامية في غيبة إمامهم إلى الآن خارجة عن عادة العقلاء ، يلزم منها بطلان ما ذهبوا إليه.......................................... ٦٢٨

الشبهة السادسة : كيف لم يتغير وقد مضت عليه السنون والأيام مع وفور العقل والشباب وهذا مستحيل مخالف لحكم العادات في أحوال البشر....................................................................... ٦٣٣

الشبهة السابعة : بما أن الأحكام معطلة والحدود مهملة ولا يهدي ضالا ولا يجاهد كافرا فأي فائدة في وجوده ما دام غير قادر على ما ذكر وهل وجوده إلا كعدمه سواء؟ حاشا شخصه الكريم................................ ٦٣٩

الشبهة الثامنة : أن غيبة الإمام المنتظر عليه‌السلام تستلزم سقوط الحدود وهو عين القول بنسخ الشريعة    ٦٤٠

الشبهة التاسعة : إن القول بوجوب الإمامة لما فيها من المصلحة للأنام يتناقض مع ما يقوله الشيعة بأن مصلحة الإمام قبل الظهور الاستتار والاختفاء.................................................................... ٦٤١

الشبهة العاشرة : إن إثبات المعجزة للإمام المهديّ عليه‌السلام عند قيامه يستلزم القول بنبوته مع أنه ورد «لا نبيّ بعدي»؟     ٦٤٣

الشبهة الحادية عشرة : إن الشريعة منعت من ولاية الصغير فكيف ساغ للشيعة القول بإمامة من عمره خمس سنين؟     ٦٤٥

الشبهة الثانية عشرة : أن وجود الإمام إنما يكون لطفا حال كونه ظاهرا زاجرا أمّا حال غيبته فلا لطف في ذلك          ٦٤٩

إشارات عرفانية............................................................... ٦٥٢

إشكال وحل................................................................. ٦٥٣

إن قيل قلنا.................................................................. ٦٥٤

الشبهة الثالثة عشرة : كيف يجمع الشيعة بين قوله «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وبين جواز الاستتار عن الناس؟............................................................................ ٦٥٥


الشبهة الرابعة عشرة : إذا كان الإمام المهديّ غائبا فكيف يصنع المسترشد ، وعلام يعتمد الممتحن فيما لو نزل به حادث لا يعرف له حكما؟............................................................................ ٦٥٧

الشبهة الخامسة عشرة : أن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو عيسى بن مريم عليه‌السلام............. ٦٥٨

الشبهة السادسة عشرة : أن فكرة الإمام المهديّ عليه‌السلام ابتدعها الشيعة نتيجة فشل الشيعة واضطهاد الأعداء لهم         ٦٥٩

إنكار ابن خلدون وأحمد أمين للقضية المهدوية والإيراد عليهما....................... ٦٦٠

افتراء المستشرق رونلدسن على الشيعة والإيراد عليه................................ ٦٦٤

الشبهة السابعة عشرة : أنّ عدم التفات الإمام المهديّ عليه‌السلام إلى أنصاره بعدم رفع الظلم عنهم دليل عدم وجوده         ٦٦٥

الإيرادات على هذه الشبهة..................................................... ٦٦٦

رفع الظلم بالسبل العادية لا بدّ له من شرطين.................................... ٦٦٦

أهم شرائط اليوم الموعود....................................................... ٦٦٧

الشبهة الثامنة عشرة : ورد توقيع من الإمام المهديّ عليه‌السلام ينفي فيه إمكانية المشاهدة ، وهو بظاهره ينافي الأخبار القطعية المتواترة الدالة على إمكان الرؤية ، فكيف نوفّق بينه وبين تلك الأخبار؟.............................. ٦٧٠

هنا وجوه..........................................................................

الوجه الأول : طعن الأصحاب في سند التوقيع.................................... ٦٧٠

مناقشة الحجّة السيّد الصدر لهذا الوجه........................................... ٦٧١

إيرادنا على المناقشة........................................................... ٦٧١

الوجه الثاني : حمل أخبار المشاهدة على الوهم.................................... ٦٧٢

تفنيده....................................................................... ٦٧٣

وهم آخر والجواب عنه بأمرين................................................... ٦٧٣

الوجه الثالث : تكذيب هذه النقولات تعبدا ، ونقضه............................. ٦٧٤

الوجه الرابع : المشاهدة بمعنى ادّعاء الوكالة والسفارة ، والاستدلال عليه............... ٦٧٤


تعميم العلّامة الصدر المشاهدة إلى كلّ من ادّعى الرؤية............................ ٦٧٦

الإيراد على رأي العلّامة الصدر................................................. ٦٧٦

العظة البالغة في خبر عليّ بن ابراهيم بن مهزيار الأهوازي........................... ٦٧٧

هنا أمور..........................................................................

الأمر الأول : سوء الأعمال تحجب عن رؤية الإمام المهديّ عليه‌السلام.................... ٦٨٠

الأمر الثاني : يحبّ الإمام المهديّ للشيعة أن يكونوا دائما مخلصين................... ٦٨١

الأمر الثالث : استغراب الإمام عليه‌السلام من ابن مهزيار كيف لم يصل إليه............... ٦٨١

الأمر الرابع : موانع الوصول ثلاثة............................................... ٦٨١

الأمر الخامس : أن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو الرجاء والأمل........................... ٦٨١

الوجه الخامس : المراد من المشاهدة هو رؤية مكانه عليه‌السلام ومستقره.................... ٦٨١

الإيراد على هذا الوجه......................................................... ٦٨٢

إن قيل قلنا.................................................................. ٦٨٢

الشبهة التاسعة عشرة : استفاض واشتهر خروج كتاب من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد ، فكيف يتفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفارة؟..................................................................... ٦٨٣

الإيراد على الشبهة............................................................ ٦٨٣

الشبهة العشرون : إن الإخبار عن علائم الظهور يراد منه الربط بالحاضر ليستفيدوا مما وقع ومضى لا بما سيقع من أجل الاستغراق فيه............................................................................ ٦٨٥

تفنيد الشبهة................................................................. ٦٨٥

دور علامات الظهور في تنشيط الحركة الثقافية المهدوية............................. ٦٩٠

* * * * *

تعريف البدعة................................................................ ٦٩٢

استعراض الأخبار على حرمتها.................................................. ٦٩٣

من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه................................. ٦٩٤


من بدع عمر................................................................. ٦٩٥

إسقاط عمر «حيّ على خير العمل» من الأذان والإقامة........................... ٦٩٨

العلة الحقيقية لإسقاط عمر «حيّ على خير العمل»............................... ٦٩٨

حيّ على خير العمل هي الولاية................................................ ٦٩٩

تبرير العامة للإسقاط ونقضه................................................... ٦٩٩

«الصلاة خير من النوم» هي بدعة عمر باتفاق المحدثين............................ ٧٠٠

الاستدلال على حرمة هذه الزيادة............................................... ٧٠١

ألغى أبو بكر إجراء الحدّ على خالد بن الوليد.................................... ٧٠٣

* * * * * *

بقي مالك بن أنس في بطن أمه سنتين أو أكثر................................... ٧٠٤

معجزة لمالك لم تحصل لأحد من بني آدم عليه‌السلام.................................... ٧٠٤

الإيراد على هذه المزعمة........................................................ ٧٠٥

ليس هناك مبرر شرعي في حصر الفقه في أصحاب المذاهب الأربعة.................. ٧٠٦

من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية......................................... ٧٠٨

* * * * *

إعلان الملك شاه ونظام الملك تشيعهما........................................... ٧٠٩

القرائن على تشيع الملك شاه ووزيره.............................................. ٧١٠

دعوى ابن الأثير أن ملك شاه هو المدبّر لقتل نظام الملك والإيراد عليها............... ٧١١

قصيدة مقاتل بن عطية في نظام الملك............................................ ٧١٢

كلمة ختامية................................................................. ٧١٣

المصادر والمراجع.............................................................. ٧١٥

أبهى المداد في شرح موتمر علماء بغداد - ٢

المؤلف:
الصفحات: 765