بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)

(فصّلت : ٣٠ ـ ٣٢)



الإهداء

إلى سرّ الله في بقاع الأرض .. ونبراس أهل السماء ..

إلى أصفى الأصفياء وحبيب قلب خاتم الأنبياء ..

إلى من كان متوحّدا مع الطّهر محمّد في أصلاب الطاهرين .. ومن كان لرسول الله خير معين ..

إلى المتفرّد بجلال المنصب الإلهي والسرّ الأحمديّ ..

إلي من هو هو في أمّ الكتاب وياسين والذاريات ..

إلى من أقرّ له الكلّ بالصفاء والارتقاء ..

إلى من دان العلى لعلوّه .. وكان الخلق دون كماله وجلاله ..

إلى المستوحش بين قرنائه والمحزون بصلافة أهل هذا الزمان ..

إلى من ظاهره إمامة وباطنه غيب لا يدرك ..

سيّدي ومولاي .. مددي الخالد وإمامي القائد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

مولاي ..

بضع وريقات .. ورسم قليل لكلمات اختزنها القلب وفاح بها الوجدان .. أهديها إليك يا نفس الرسول ويا قرّة عين البتول! .. وإلى من هو غريب العصر .. إمام الدّهر .. والحجّة على أهل الأرض أجمعين .. مبيد الطغاة .. وكاشف الغطاء باليد البيضاء .. حجّة الله المنتظر المهديّ عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف.

يا من عليه جمرة النور يتوقّد من شعاع ضياء القدس ..

يا خاتم الولاية الكبرى والمحجّة العظمى ..

أيّها الحبيب .. الملتفح بجلال الله والمستربل بعشق الحوراء ..

أرفع إلى مقامك السامي أجمل تحيّة وسلام ..

وإليك وإلى آبائك الميامين أقدّم هذه الباكورة ..

سادتي ..

إليكم أتضرّع وبكم أتشفّع فأسألكم المدد .. في الحاضر والأبد ..

عبدكم الراجي

محمّد



تمهيد

يقول المفتقر إلى لثم أقدام المعصومين العبد محمّد بن جميل بن عبد الحسين بن يوسف حمّود: إنّي لما رأيت ما آل إليه حال جمّ غفير من المسلمين وخاصّة ما انجرف وراءه أكثر من يدّعون التشيع لآل بيت الرسول ، فكان قولهم مخالفا لرأي أئمتهم ، ودينهم تهزّه الأهواء السياسية البحتة والتي مبدؤها العاطفة لا العقل والبرهان .. ولمّا لحظت ضعف الدّين واعتلاء الأكثر أكتف الحقّ بأرجل الباطل .. ولمّا كان ما كان على ساحات الإسلام وعلى وجه الخصوص ساحتنا اللبنانية من هرج ومرج صنّاعه بعض الحمقى من عبدة الاستعمار وعصرنة الشريعة السمحاء .. فردّا على أولئك السّادة الكبراء .. المطلقين لشعارات التشهير وحملات الرمي بالزندقة لمن لم يوالهم وكان لهم مترئسا في خندق الدفاع عن مذهب آل بيت العصمة .. فلمّا كان ذلك ، كان الردّ واجبا والبرهان أوجب ، فشمّرت عن ساعد الحقّ وأمسكت بقلم التشيّع البهيّ عليّ أسطّر بضع مواقف في وجه هؤلاء تكون لي نبراسا به استضيء يوم تسودّ وجوه وبه أنجو يوم تزلّ أقدام ..

ثم أنّ مهمة الشروع بهذا البحث الكريم لم تكن بذاك الأمر السّهل .. كيف لا؟ وعلى ساحتنا من العقول المتصلبة ما يحيّر الألباب! .. عجبا! بالأمس القريب كان الأمر ليس بتلك الصعوبة التي آل إليها حالنا .. كان علماؤنا لم يبدوا أمرا أو صنّفوا كتابا إلّا وتهافت الناس إلى قبوله .. ليس قبولا أعمى ، بل بعقل نيّر عماده الحديث وسنّة الرسول والآل عليهم‌السلام .. أمّا الآن فعجب عجاب! .. إنك لترتبك في معرفة ما يحبّذه هؤلاء .. أيّ طريقة؟ .. وأيّ


كلام؟ .. لا بل انك تعتصر ألما لقلّة ذوي الدين ممّن يهمهم أمر الحقّ ليحثّهم على التمعن والتدقيق ..

فلذاك .. ولعدة أسباب أخر سنتلوها عليك كان فرضا على العالم أن «يكلّم الناس على قدر عقولهم» فيأتي بكلام سهل وأسلوب مبسّط يشرح به عقيدة الحقّ .. عقيدة الإسلام الميتّمة على ساحة تتكالبها عامّة عمياء .. فذي حرب ضروس بين إسلام آل البيت ومزاعم أهل العامّة ومن والاهم من مدّعي التشيّع ..

وهكذا وقع الاختيار مجدّدا وبكل فخر على كتاب حقّ يزهو بين الأقران .. ألا وهو كتاب «مؤتمر علماء بغداد» فكان شرحه ب «أبهى المداد» .. ولعمري فقد سطّرته بطريقة يرضاها الله والرسول والآل .. فجاء كتابا جليلا فيه من أمر آل البيت ما تنفطر له القلوب الحري وترثي أحزانه العيون الدمعى ..

أما الداعي إلى إعادة النظر في هذا الكتاب ، والذي كنا قد أسلفنا فيما سبق الشيء القليل في شرح بعض مضامينه ، فأمور :

الأول : كونه وافيا بالمطالب التاريخية والفقهية والفلسفية ولا سيما أمر الخلافة التي طالما دار الجدال حولها بين المذاهب .. لا وبل داخل المذهب الواحد .. حتى انبرت إلى الساحة وجوه تقطر سمّا وتخفي الرّجس والبغضاء .. فمالأت أعداء آل الرسول لمكاسب دنيويّة ردّها الله نكالا على أصحابها ..

ليس هذا فحسب .. بل لقد وصل الحدّ بذلك البعض ممّن يحرم على قلمي رسم اسمه إلّا لوجوب التشهير به لإظهاره النصب لآل الرسول من خلال حسن الظنّ بأعدائهم والتشكيك بكراماتهم وفضائلهم .. لقد وصل به الحدّ إلى الاتهام بالعمالة كلّ من لم يكن له عبدا ولدرهمه سادنا .. وليت ذاك البعض كان المتجاسر الوحيد .. فلقد جنّد أناسا أغناهم الله بعقل استعبده مخلوق غير


سويّ ، فكانوا له جندا مجنّدة يجوسون خلال الديار لا يهمهم أمر سوى مولاهم ، أكان ذلك الأمر مراعاة عصمة آل الرسول أو مظلومية ابنته البتول أو .. أو .. وايم الحق ، فهؤلاء على استعداد للبطش والسّفك بأيد أثيمة بترها الله بسيف الحجّة عليه‌السلام عند الظهور ..

فخلافا لأولئك المتزلفين القائلين بزيف التاريخ وانعدام النفع في البحث في مظلومية أهل البيت وأحقيّتهم بالخلافة .. كان لزاما عليّ أن أظهر للقارىء الفطن ما كان عنه خافيا ، وللمنحرف ما كان عنه ينحرف حتى لا يصطدم بجدار الحقّ فيكمل سيره في أزقّة الجهل والعبودية ..

ثم إنّ هذا الكتاب قد حوى بين الدّفتين شئونا فقهية وفلسفية تداولتها في الفترة الأخيرة أعمّة تسربلها من لا دين له ولا اجتهاد .. فجاء اليراع ودسّ بين ما اخططّته من سطور التاريخ شمّة من تلك الشئون مدعّمة بآيات كريمة وأحاديث شريفة .. فكان الكتاب كشكول دين أدّخره ليوم ألقى فيه ربّ ديننا وأبتغي به المثوبة والنجاة ..

وأما الدافع الثاني فكون طريقة المتن بتلك السلاسة التي تنساب إلى النفوس وتترك في ذهن القارئ أثرا خيّرا وبذرة طيّبة .. ولقد كثر الطلب على هذا الكتاب في طبعتيه الأولتين المختصرتين شرحا وتعليقا .. فكان هذا بنفسه أمرا يحثّ على التوسّع في شرح المتن بنفس الأسلوب خدمة لمن تعطّش للحق وابتغاه ..

والأمر الثالث المتفرّع عمّا سبق كون كثير من مطالب الكتاب بحاجة لتوسيع وزيادة .. وإذا كان الهدف في الماضي هو إبراز الكتاب إلى عالم الوجود من بين كتب تكاد تندثر وينمحي اسمها ، صار هدفي في هذا الحاضر المتصرّمة أيامه تنقيح القديم وتوسيعه لكثرة ما لمسته من حاجة جمّ غفير إلى


ذلك رغم تكاثر المشاغل وجمعي بين التصنيف والتدريس والنظر في شئون السائل والمستفهم ، وتشوّش بالبال بأمور أخر ربّي أعلم بأمرها ..

ومن جملة تلك الأمور أمر تقشعرّ له الأبدان كان سببا رابعا دافعا إلى هذا الأمر وهو اندثار مادة التاريخ من حوزاتنا العلميّة دون ما اكتراث لأهمية حوادث الماضي وأثرها فيما نحن فيه من تخبّط على الساحة اللبنانية الفاسدة .. ولنا أن نسأل أولئك ممّن دعوا إلى نبذ التاريخ الماضي تحت عنوان الاجتهاد (الذي لفقوه لأنفسهم زورا ، وأغلبه يرتكز على الظنون الشخصية والاستحسانات والأقيسة العامية) وبحجة التقريب بين المذاهب والأديان ؛ أوليس للتاريخ صلة وطيدة بالفقه الاستنباطي؟! .. ومتى كان الدّين منقسما على نفسه تنهشه ببراثنها وحوش كاسرة اقتطع كلّ منها قطعة يغتذي بلحمها وشحمها! .. فبعض شغل ذاته الرجسة بالإفتاء الأعوج .. وآخر بالتاريخ المزيّف .. وآخر بالاثنين معا وبأبشع طريقة!! .. فلهؤلاء أن يعلموا أنّ الدين واحد ولا فصل بين مراتبه .. وأنّ الحق لا يتجزأ .. وأنّ الزيف زائل والبرهان سيسطع من سماء الأطهار عليهم‌السلام ليكون نورا به يهتدي من اهتدى وعنه يزيغ من فجر.

ويدخل في السبب السابق أمر خامس جهله أولئك السّوقة وهو كون التاريخ من دون إتقان علم الكلام والتمكّن منه وبالا على صاحبه يجرّ على الأمّة الويلات وعلى صاحبه غضب ربّ العباد ..

فلكون التاريخ لا يقوم له قوام دون التطعّم بمادة علم الكلام .. ولكون هذا الأمر لا يقوم إلّا على يد من له في الأمر دراية ولا يدرس إلّا على من ألقى الله الخشية في روعه .. كان لزاما عليّ ـ وأنا العبد القاصر ـ أن أظهر ما أمرت بحرمة كتمانه ففي الحديث : «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله» .. والله أعلم بالنيّات ..


ولمّا أدرجت ما أدرجت في هذا الكتاب الجليل من مختلف المشارب خرجت به موسوعة فيها ما يغني اللبيب ويسدّ جزءا من ثغرة في مكتبتنا الإسلامية المفتقرة إلى الكتابة الموسوعية .. ولا نعني بالموسوعية أسلوب الحشو الذي درج عليه البعض ، بل نعني بها تلك الكتابة العلمية الوافية الشافية التي قوامها التحقيق والتدقيق والبعد عن الأهواء والنزعات السياسية والتعصّبات المذهبية .. بل إنّ غاية ما أردته من هذه التحقيقات هو إجلاء الحقيقة عن غواشي القلوب وظلمات النفوس التي تكدّرت بغبار المعاصي والنزوات فكانت للدرهم عبدا ولسادة ذلك الدرهم كلابا عاوية تستجدي بعض الفتات! .. فلله درّك يا أمير المؤمنين وسيد الخلائق أجمعين حين قلت في صنم هؤلاء : «أحلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا» .. وعليك سلام الحنّان حين قلت يا سيد الشهداء وخضيب الدماء : «الناس عبيد الدنيا والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت به معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الدّيانون» .. فيا سيدي يا حسين .. ويا سندي يا علي .. ها هو زماننا يفسّر ما قلتما .. وأنتما .. حين انمحى ذكركما عن شفاه أولئك المتصلّبين .. ترثيان الدين بدموع عبرى وآهات تؤز أزّا .. مولاي ، يا أمير المؤمنين .. مولاتي يا زهراء .. أسألكما المدد والمداد ..

مولاي ..

بالأمس .. ما كدت أرقد من وطأة رواكد الزمن إذ انبرى البعض الآخر يشكّك بهذا الكتاب .. لم؟ .. بأي دافع؟ .. وبأيّ برهان؟ .. لا أدري! .. وحجّة ذلك البعض أمور قد أبرمتها يا مولاي برما وفللتها من عقدها التي قد يتوهم السّاذج أنها حجج وبراهين وهي بحقّ لا تستحق الذكر لاعتمادها على الاحتمالات والاستحسانات ..


فيا مولاي ..

لا يفلّ الحديد إلا الحديد .. فأمركم صعب وأصعب منه الذبّ عنه والثبات عليه .. فكن لي يا مولاي خير معين ومعين لذة للشاربين ..

.. اللهم إنّي أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التوحيد ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر ، فاغفر لي ما بينهما ، يا من إليه مفرّي آمنّي ممّا فزعت منه إليك. اللهم اغفر لي الكثير من معاصيك ، واقبل مني اليسير من طاعتك. يا عدّتي دون العدد ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسّند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو الله أحد ، الله الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، أسألك بحقّ من اصطفيتهم من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلهم أحدا ، أن تصلّي على محمّد وآله وتفعل بي ما أنت أهله. اللهم إني أسألك بالوحدانيّة الكبرى ، والمحمّدية البيضاء ، والعلوية العليا ، وبجميع ما احتججت به على عبادك ، وبالاسم الذي حجبته عن خلقك فلم يخرج منك إلّا إليك ، صلّ على محمد وآله واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب إنك ترزق من تشاء بغير حساب.

اللهم ربّ السماوات الأرفعة ، وربّ الأرضين الممرعة ، وربّ محمّد والثلاثة المحاميد معه ، ورب العليّين الأربعة ، وربّ الحسن والحسين البرعة ، ورب موسى وجعفر تبعه ، وربّ فاطمة البضعة ، درسة الأناجيل ، ومحاة الأباطيل ، وعدد النقباء من بني إسرائيل صلّى الله عليهم أجمعين ، واجعلنا ممّن ختمت له بالحسنى ، ودفعت عنه مكاره الأولى والعقبى ، إنك بالإجابة جدير ، وعلى كل شيء قدير. اللهم نجّنا من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، واغفر لنا ذنوبنا ، وتوفّنا مع الأبرار ، والحمد لله وحده والصلاة على من لا نبيّ بعده ، محمّد رسول الله وآله الطاهرين ..


تقديم

بقلم : المرجع الكبير الحجّة

العلّامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي الحسيني (قدس‌سره)

بسمه تعالى شأنه العزيز

الحمد لله على أفضاله ونواله ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، ومقدام السّفراء الإلهيين سيّدنا أبي القاسم محمّد وعلى آله مصابيح الحوالك والظلم والسرج المضيئة في الدّياجي البهم.

وبعد ..

لا يخفى على من ألقى السّمع وهو شهيد أنّ مسألة الخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهمّ ما دارت حوله رحى البحث والنظر بين علماء الإسلام وفطاحل أهل القبلة وقام التشاجر والتنازع بينهم على رجل واحد.

فمن ثمّ جالت جياد أقلام مؤلّفي الفريقين في هذا المضمار ، وهي بين مجلّ ومصلّ وما يتلوهما فمنهم من أخذ السّبق في السباق في ذلك المصافّ الذي التفّت السّاق فيه بالسّاق إلى أن يتحقّق الفوز والفلاح والنجاح ، فترشّحت من يراعاتهم الجوّالة مئات وألوف من الزّبر والأسفار كالحسنيّة وغيرها. وأنّ أحسنها وأجودها في سلاسة العبارة وجزالة القوالب ورصانة المطالب ، ومتانة المآرب واتقان الأدلّة والمستندات كتاب : «مؤتمر علماء بغداد» فإنه مع صغر حجمه وخفّة جرثومته وقلّة وزنه حاو لأمور هامّة مهمّة من مناظرة جرت بين عالم شريف علويّ شيعي ، وعالم قرشيّ عباسي سنّي في بغداد بمحضر «السلطان ملكشاه السلجوقي» ، مع نظارة وزيره الفاضل المؤرّخ المتتبع المضطلع «الخواجه نظام الملك أبي علي الحسن الخراساني المتوفى سنة ٤٨٥»


مؤسس المدرسة النظاميّة بتلك البلدة ، وفي آخر الأمر كانت الغلبة للعلويّ.

ولعمري لو دقّق النظر المتوهّبون وأبناء السنّة والجماعة وأرباب الفضل منهم في هذا البحث بعين الإنصاف ، لوجدوه شفاء للعليل ورواء للغليل ؛ ثم ليعلم أنّ مقاتل اسم جماعة من العلماء ؛ منهم :

مقاتل بن حسّان النّبطي البلخي. ومنهم : مقاتل بن بشير العجليّ الكوفي الرّاوي عن شريح بن هاني. ومنهم مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني المفسّر الشهير المتوفى سنة ١٥٠ بالبصرة ، المذكور آرائه وأقواله في كتب التفسير وهو أشهر من سمّي بهذا الاسم بحيث لو أطلق انصرف إليه.

ومؤلّف هذا الكتاب غير هؤلاء ، فإنّه المؤرّخ الجليل الثّقة النقّاد البحّاث : «أبو الهيجاء شبل الدولة مقاتل بن عطية بن مقاتل البكريّ نسبا والحنفيّ مذهبا من علماء المائة الخامسة ، ختن الخواجه نظام الملك المذكور ، يرثيه لمّا قتل بقوله :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

نفيسة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصّدف

كما ذكر المؤرّخ الجليل ابن خلكان في الوفيات.

وكان نزيل بغداد عاصمة السّلطة العباسية وكان حاضرا في المجلس حيث دارت المشاجرة ، والملك يحكم بين الباحثين والوزير يصدّق حيث استفهمه الملك.

ونسخة الكتاب كانت مفقودة الأثر إلى أن وفّق الله بعض الأفاضل بنشره على أحسن نمط وخير أسلوب. ثم لمّا نفدت النسخ قام العلويّ الجليل ناصر أجداده الميامين ومروّج مذهبهم المتين ، النشيط في بثّ فضائلهم ومناقبهم :

حجّة الإسلام الحاج السيّد هدايت الله المسترحمي دام مجده وفاق سعده


بتكثير الكتاب بالأفست على نفقة بعض المؤمنين من الأخيار ، عباد الله الصالحين جزاهم المولى سبحانه خير الجزاء ، وهنّأهم بالكأس الأوفى يوم لا يروى إلا من أتى الله بقلب سليم.

وفي الختام ، أرجو من إخواني شيعة آل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سيّما المحصّلين والمشتغلين منهم بمطالعته والاستنارة من أنواره ، حرسهم الرب الكريم من كلّ آفة وعاهة ، وأدام توفيقهم في تحصيل العلوم الدينية والأحكام الشرعيّة.

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتى يضاف إليها ألف آمينا

ويرحم الله عبدا قال آمينا.

حرّره بقلمه وبنانه ، وفاه به بفيه ولسانه العبد الكئيب المستكين ، خادم علوم أهل البيتعليهم‌السلام : أبو المعالي شهاب الدين الحسيني المرعشي النّجفي حشره الله في الآخرة مع أسلافه الطاهرين من آل طه وياسين ورزقه في الدنيا زيارة مراقدهم الشريفة في سحر ليلة السبت لسبع مضين من شهر صفر الخير سنة ١٣٩٩ ه‍ بمشهد الستّ الكريمة فاطمة المعصومة روحي فداها في بلدة قم عشّ آل محمد عليهم‌السلام.


مقدّمة المحقّق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد ، الذي تفرّد بالكبرياء والعظمة ؛ المستكنّ في حجاب العماء ، والمستتر في غيب الصّفات والأسماء ، فلا يظهر منها إلّا على قدر القابليّات ، فحجبها عن قلوب الأغيار ، وأشرق نورها على قلوب الأولياء الأبرار ، وصلاته الكاملة على نبيّه الأكمل أصل الأنوار وحقيقة الغفّار ، المستغرق في غيب الهويّة الإلهية ، السّالك إليه تعالى بقدم العبوديّة ، المنمحى عنه التعيّنات الماديّة ، محمّد الأمين لبّ الحقيقة ، وسرّ الطريقة ، المستتر في حجاب عزّ الجلال ، والمخمّر بيدي العظمة والكمال والجمال ، وعلى آله شموس الظلام ، وأفلاك الأنام ، والبدور المنيرة ، سلاطين الولاية الرّبانية ، والهيبة الأحديّة ، عيون الله في خلقه ، سيّما خليفته القائم مقامه في عالمي الملك والملكوت ، المتّحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت ، أصل شجرة طوبى وحقيقة سدرة المنتهى ، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى ، معلّم الروحانيين لا سيّما الكروبيين ، ومؤيّد الأنبياء والمرسلين ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين صلوات الله وملائكته ورسله عليه وعليهم أجمعين.

وبعد ...

لقد أحببت ـ بعد أن طلب مني وبإلحاح شديد ـ أن أعلّق بإيجاز على كتاب «مؤتمر علماء بغداد» الذي طالما تناولته الأيدي ، وتقبّلته النفوس ، فهو على الرغم من ضآلة حجمه يعدّ من أعظم الكتب التي تعطينا صورة واضحة المعالم عن الصّراع العنيف الذي كان بين الشيعة والسنة ؛ هذا الصراع الذي


قسّم الأمة الإسلامية إلى فرق وجماعات ؛ حيث كانت بدايته بعد رحيل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة عند ما اجتمع الأنصار والمهاجرون في سقيفة بني ساعدة الأنصاري ، فاختلفوا في تعيين الخليفة ، فقال قوم : منّا أمير ومنكم أمير. وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنظر المجتمعين لم يوص بأنّ الخليفة من بعده الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، فكلّ تلكم الآيات الرّبّانية ، والنصوص المحمّدية التي طرقت مسامعهم ، صارت في طيّ النّسيان ، وفي خبر كان ؛ كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كلّ صيحة عليهم ، فلا يفقهون ولا يطيعون ، ولا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّبعون.

وانجرّت الويلات على بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضطهد آله فردا فردا ابتداءً بعلي أمير المؤمنين والزهراء الصدّيقة عليهما‌السلام ثم تدرّجا بالشهيدين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، انتهاء باختفاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

فالخلاف على الإمامة ليس خلافا هامشيا كما يصوّره البعض ، بل هو خلاف يدخل في عمق الإسلام.

لذا كان حصيلة هذا الخلاف ـ الذي منشأه سلب الخلافة من أصحابها الشّرعيين ـ هدر الدّماء كما فعل أبو بكر بمالك بن نويرة لأنه رفض إعطاء الزكاة لغير الإمام الحقّ ، فسلّط عليه خالد بن الوليد الذي به افتروا على الله تعالى وسمّوه سيف الله المسلول فاعتدى على زوجة مالك بزناه بها كما زنى زميله ضرار بإحدى النساء الجميلات عند ما قتل أهلها.

ولعظم الخلاف قال الشهرستاني : «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» (١).

ونحن نسأل :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ، ج ١ ص ٢٤.


هل يعقل لإنسان كالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الحكماء ـ بالغضّ عن كونه نبيّا ـ أن يرتحل من عالم الوجود المادّي وهو يعلم أنّ النفوس بعد لم ترو أحشاؤها من معارف الإسلام ولم تتربّ على نضارة الخلق وطهارة الذات فيتركها بلا راع ومرشد وهي في أمسّ الحاجة إلى ذلك؟!

أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول العامّة ترك أمر تعيين الخليفة إلى الناس يختارونه عليهم قائدا.

هل يعقل ذلك حيث إنّ الناس الذين هم بحاجة إلى من يقوّمهم ويصلح شأنهم ويرشدهم إلى ما ينفعهم ويبعّدهم عمّا يضرّهم ، أمثل هؤلاء يعيّنون الإمام الراعي الحافظ لحدود الله تعالى المقيم لأحكامه المفسّر لكتابه ، المحلّ للمعضلات ، الطاهر ، المنزّه ، الأمين ، المؤمن؟. مثل هكذا شخص هل بمقدور الناس أن تطّلع عليه وعلى خفاياه ، فإذا انتخبوه صار مرهونا بانتخابهم له ، فإذا زاغ قوّموه وإذا أطاع أعانوه ، فصار بذلك الإمام مأموما والمأموم إماما ، وهذا قبيح لا يصدر من حكيم فضلا عن نبيّ.

لذا تعتقد الشيعة الإماميّة أنّ قيادة المسلمين المعبّر عنها ب «الخلافة» منوط أمرها بيده تعالى إذ هي منصب إلهي أو واسطة فيض بينه تعالى وبين عباده ، لأن منصب الخلافة أثر من آثار الإمامة ، فلا تفترق الإمامة عن النبوة إلا بالوحي التشريعيّ.

... ولو درست الظروف السياسية التي كانت سائدة في منطقة الجزيرة العربية ، لوجدت أنّ تلك الظروف كانت توجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعيّن الخليفة قبل رحيله ، والسرّ في ذلك أنّ المنطقة يوم ذاك كانت مهدّدة بالسقوط أمام أضخم امبراطوريّتين ـ الفرس والروم ـ أكلتا الأخضر واليابس في جزيرة العرب ، عدا عن الأخطبوط الأكثر خطرا من امبراطورية الفرس والروم ، هذا الأخطبوط المتثمل بخطّ المنافقين المتغلغلين في أوساط المسلمين ، وهؤلاء


يشكّلون خطرا عظيما على الخلافة إضافة إلى تربّص المشركين حول جزيرة العرب في محاولة للانقضاض على الأسس والقواعد التي جاء بها الإسلام.

بعد كل هذا فإنّ المصلحة تقتضي وتوجب توحيد صفوف المسلمين لمواجهة الخطر الداخليّ المتثمل بالمنافقين وبالخطر الخارجيّ المتمثل بالامبراطوريّتين العظيمين.

وتوحيد الصفوف لا يكون إلا بتعيين قائد يتحلّى بالصفات والكمالات العلميّة والنفسيّة والروحيّة التي كان يحملها النبيّ لأن وظيفته تماما كوظيفة النبيّ من التبليغ والتوضيح وحماية الأسس العقيدية من التحريف والتزييف والاندثار.

وهذا لا يتوفّر عند كلّ الأفراد وإلّا لصاروا كلّهم أئمة وخلفاء ، بل هذا أمر لا يتيسّر إلا لمن وفّقه الله تعالى لمرضاته بعد أن اصطفاه بعلمه ، وانتجبه لدينه ، وهذا أوحديّ دهره وفريد عصره.

والمعطيات التاريخية والاجتماعية توحي بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من الواجب عليه أن يدفع ظهور أيّ خلاف وانشقاق ربّما يحصل في الأمة من بعده ، خاصّة وأن الخطر الثلاثيّ يهدّد الأمّة آنذاك ، إضافة إلى أن بعض القوم كانوا ينظرون إلى الإمام عليّ عليه‌السلام والحلف الهاشمي نظرة الحقد والعداوة لما يتحلّى به هذا البيت العريق من أخلاق عالية ، ورزانة فكر ، وصفاء خاطر ، وطهارة ذات.

هذا عدا عن أنّ القوم كانت تطمح نفوسهم للوصول إلى تسنّم عرش الخلافة لما فيها من تحقيق لمشتهياتهم وتحطيم لفكرة «أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان إلّا في البيت الهاشمي».

ولو تفحّصنا المجالات التي كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجدنا أنّه كان من الواجب قبل رحيله أن ينصّب من ينوب عنه لملأ هذه الفراغات ، وإلا يقبح منه ترك ذلك والأمّة تتخبّط في حيص بيص.


فبما أنّ مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوسع من مهمة إبلاغ الوحي التشريعيّ للناس ، هناك مهامّ ثلاث كانت منوطة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي :

الأولى : تفسير الكتاب وشرح مقاصده.

الثانية : تبيين أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع من طريق الكتاب والسّنة.

الثالثة : صيانة الدين من الدسّ والتحريف.

هذه «مقامات» أو مهامّ ثلاث كانت من وظائف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمقامان الأوّلان تشريعيّان ، أما الثالث فمقام تنفيذيّ أو إجرائي.

ولا شك أنّ موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيشكّل فراغا في هذه المجالات فاقتضت الحكمة الإلهية تنصيب أو إعداد من له القابليّة الروحية والعلميّة التامة لسدّ تلك الفراغات ، وهذا لا يقوم به إلّا من كان بمثابة النبيّ بالفضائل والكمالات ، وله ما للنبي عند الله تعالى عدا الوحي التشريعيّ.

وهذا الشخص المعدّ للخلافة ليستوعب المقامات الثلاثة لا يمكن له أن يستوعبها عن طريق الإعداد الشخصيّ ولا بالتربية البشريّة المتعارفة ، بل لا بدّ من إعداد إلهي خاصّ يؤهّله لأن يملأ الفراغ في المقامات الثلاثة ، ومثل هذا الشخص لا يمكن للأمّة أن تتعرّف عليه بنفسها لأنها عاجزة عن كشف ما يصلحها عمّا يفسدها ، فكيف بها إذا أرادت الكشف عن غيرها؟!!.

وقد ادّعى علماء العامّة على لسان الكاتب المصري الخضري : [إنه لم يرد في الكتاب أمر صريح بشأن انتخاب خليفة لرسول الله ، اللهم تلك الأوامر العامة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (١).

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٣٨.


وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة إلّا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنّ الشريعة أرادت أن توكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلّوه بأنفسهم ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأوضحت سبله كما أوضحت سبل الصّلاة والصيام] (١).

يرد عليه :

أولا : إنّ ما ذكره الخضري بشأن عدم ورود نصّ صريح بخصوص انتخاب الخليفة صحيح لا غبار عليه حيث لم يرد عنه عليه‌السلام أنه أمر بانتخاب الخليفة لأنّ الخلافة ليست ترشيحية من قبل الناس ، بل هي تعيينية من قبله تعالى ، وقد فعل ، حيث أمر في محكم آياته بوجوب إطاعة أولي الأمر حيث فرّع إطاعتهم على إطاعته ممّا يدلّ على أنهم أناس مطهّرون يستحقون أن يكونوا القدوة والمثال للسير إليه تعالى.

هذا مضافا إلى آية الولاية وآية التطهير وآية المباهلة وغيرها ، بحيث يستفاد من مجموعها : وجوب اتّباع من نزلت بشأنهم. كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد طوال حياته على الوصيّ والخليفة من بعده وأنه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وأولاده المطهّرون عليهم‌السلام.

ثانيا : إنّ الحكومة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أعظم الأمور فلا يعقل لنبيّ حكيم أن يوكل تعيين هذا الأمر المهمّ بكل خصوصياته وتفصيلاته إلى آية الشورى.

ثالثا : لا يتصوّر العقلاء أن يهمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيادة الأمة الإسلامية التي ثبّت دعائمها وأسسها طوال حياته ثم يرتحل تاركا إيّاها بلا راع في حين أنّ

__________________

(١) محاضرات في تاريخ الأمم ج ٢ ص ١٦١.


القيادة في الإسلام تماما كالرأس من الجسد وكالقلب من سائر الأعضاء (١) ؛

__________________

(١) ويعجبني ما ذكره هشام بن الحكم في محاورة له مع عمرو بن عبيد بشأن الإمامة ، فقد روى يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ومؤمن الطاق وهشام بن سالم والطّيار ، وجماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم وهو شاب ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا هشام!

قال : لبّيك يا ابن رسول الله!

قال عليه‌السلام : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟

قال هشام : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، إني أجلّك وأستحييك ، ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا أمرتكم بشيء ، فافعلوه!

قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك عليّ ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة وأتيت مسجد البصرة ، فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتيّ ، ثم قلت :

أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟

قال : اسأل!

قلت له : ألك عين؟ ، قال : يا بنيّ أي شيء هذا من السؤال إذا كيف تسأل عنه؟ ، فقلت : هذه مسألتي ، فقال : يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقى ، قلت : أجبني فيها ، قال : فقال لي : سل! فقلت : ألك عين؟ قال : نعم ، قال : قلت : فما تصنع بها؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص ، قال : قلت : ألك أنف؟ قال : نعم ، قال : قلت : فما تصنع به؟ قال ؛ أشمّ به الرائحة ، قال ؛ قلت : ألك لسان؟ قال : نعم ، قال : قلت : فما تصنع به؟ قال : أتكلم به ، قال : قلت : ألك أذن؟ قال : نعم ، قال : فما تصنع بها؟ قال : أسمع بها الأصوات ، قال : قلت : ألك يدان؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بهما؟ قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللين من الخشن ، قال : ألك رجلان؟ قال : نعم ، قال : قلت : فما تصنع بهما؟ قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان ، قال : قلت : ألك فم؟ قال : نعم ، قال ؛ قلت : فما تصنع به؟ قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها ، قال : قلت : ألك قلب؟ قال : نعم ، قال ؛ قلت : فما تصنع به؟ قال : أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح ، قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال : لا ، قلت : وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟ قال : يا بني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته ، ردّته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشكّ.

قال : فقلت : فإنما أقام الله عزوجل القلب لشكّ الجوارح؟ قال : نعم ، قلت : لا بدّ من القلب وإلّا لم يستيقن الجوارح ، قال : نعم ، قلت :

يا أبا مروان! إنّ الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماما ، يصحّح لها الصحيح ، ـ


أيعقل أن يترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر القيادة ولا يتكلّم عنها بنفي أو إثبات؟!

رابعا : إنّ مسألة آية الشورى (كما ادّعى الخضري أنها من القواعد العامّة التي تتناول الخلافة) كما في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩](وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨].

لا علاقة لهما بالخلافة أو الإمامة ، وإنما تنصّان على جواز مشاورة المؤمنين لبعضهم البعض في الأمور المتعلقة بهم لا الأمور التي أمرها بيده تعالى كالخلافة أو الإمامة فآية (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) تحثّ المؤمنين إلى المشورة فيما بينهم في جميع الأمور المرتبطة بهم ، فمبدأ الشورى في الشئون العامة للمسلمين يعدّ من أهم المبادي السياسية في الإسلام والتي تراعي جانب انتخاب الكفاءات العلميّة ، وعدم تسلّط الزعيم أو الحاكم برأيه فتهلك الرّعية. فالآية تعطي القواعد والأسس في كيفيّة تعاطي الناس مع الحكم والأمور العامة المتعلقة بهم ، وليس لها أيّ ارتباط في تعيين أمر الخلافة والولاية ، لأنّ أمرها ليس من الأمور المرتبطة بهم حتى يمكن ادّعاء أنّ الحاكم ينتخبه الناس طبقا لمدلول الآية كما يقول العامّة ، لأن الولاية ليست أمرة شعبية وعرفية وحكومية كبقية الحكومات السياسية حتى تكون من الأمور المتعلّقة بالمؤمنين ، هذا مضافا إلى أنه لو كان أساس الحكم في الإسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأعظم بيان تفاصيلها وخصوصياتها ، مع أنّ ذلك لم يحصل ، ممّا يدلّ على أنّ

__________________

ـ وينفي ما شكّت فيه ، ويترك هذا الخلق كلّه في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم ، وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ، تردّ إليه حيرتك وشكّك.

قال : فسكت ولم يقل لي شيئا ، قال : ثم التفت إليّ فقال لي : أنت هشام؟ قال : قلت : لا ، فقال لي : أجالسته؟ فقلت : لا ، قال : فمن أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : فأنت إذا هو ، ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ، فضحك أبو عبد الله عليه‌السلام ثم قال :

يا هشام! من علّمك هذا؟ قلت : يا ابن رسول الله جرى على لساني ، قال : يا هشام! هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى. راجع : الاحتجاج ج ٢ / ١٢٦ ـ ١٢٨.


أساس الحكم ليس الشورى. وأما آية (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : ١٥٩]. فليس فيها أيّة دلالة على مدّعى العامة (القائلين بأنّ الله تعالى يأمر نبيّه أن يشاور من حوله تعليما للأمّة كي تتشاور في مهامّ أمورها ، ومنها الخلافة التي ثبتت بواسطة جماعة تشاوروا وانتخبوا أبا بكر) وذلك لأمرين :

* الأوّل :

إنّ الاستدلال بها على انتخاب الخليفة سببه الغفلة عن موردها ، إذ إنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحكّام والولاة بالنظر الثانويّ كي لا يتفرّدوا بآرائهم بل عليهم الانتفاع بآراء رعيتهم توصّلا إلى أحسن النتائج ، وهذا لا يمتّ إلى تعيين الخليفة بصلة ، وذلك لأنه سبحانه يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد المشاورة بالتوكّل عند العزم وأنّ له الرأي النهائي والأخير في الموضوعات المرتبطة والمتعلقة بهم ، وهل هناك أرجح عقلا من رسول الله حتى يستشيره المسلمون آنذاك؟ فمورد الآية الشريفة هو ما قلنا ولا علاقة له بأمر تعيين الخليفة إذ ليس فيه شيء من الانتخاب أو المشورة ، لأن تنصيبه منحصر به تعالى لا سبيل للبشر إليه تماما كتعيينه للأنبياء والمرسلين لا دخل للناس فيه.

* وثانيا :

إنّ «الأمر» في الآية وإن كان مطلقا إلّا أنّه أضيف إلى الناس في قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى ...) أي الأمر المنسوب إلى الناس لا إلى الله تعالى ولو سلّمنا الإطلاق فإنه قابل للتقييد بقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤]. فالله سبحانه هو الذي جعل إبراهيم إماما وليس الناس. وكذلك قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠]. (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤]. وحيث إنّ الإمامة عهد الله فلا يناله ظالم لأنّ العهد إذا أضيف إليه تعالى يتعيّن أن يكون الخليفة أو الإمام بأمره تعالى فقط.


عود على بدء :

إذن ، حاشا للنبيّ الحكيم أن يرتحل من الدنيا وهو بعد لم يعيّن خليفة على أمّته من بعده ، بل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة بمن تقدّمه من الأنبياء حيث لم يعهد لنبيّ قط ارتحاله من الدنيا إلّا استخلف في قومه من ينوب عنه في تكميل الرسالة المنوطة به ، عدا عن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تتح له الفرص لتبيين كلّ الأحكام الإسلامية فلا بدّ من مكمّل لمهام النبي في تبيين وتفسير ما لم يتسنّ للنبي تبيينه وتفسيره لانعدام المبرّرات الموضوعية لذلك ، إضافة إلى أنّ الإسلام دين ناسخ لكلّ الأديان ، فلا بدّ أن يكون شموليا يعطي لكلّ حادثة متجدّدة حلّا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة ، فيتعيّن إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبيّ يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ، ويشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفّله المعصوم الذي ينوب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا تقول الشيعة : إن مهمّة الإمام أو الخليفة هي مهمة النبيّ لا فرق بينهما سوى النبوّة».

وهل يعقل في حكمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الرجل الكامل أن يرتحل من الدنيا وهو على علم أنّ كثيرا من الأحكام لم يحن الظرف الزمانيّ والمكانيّ لتبيينها ولا يستخلف عنه من يقوم بذلك ، أرأيتم لو أنّ رجلا من ذوي العقل والحجى منقطع النظير في عقله وشرفه ونبله يتكفّل بتربية أولاد صغار وكبار ويحافظ عليهم ، وأشرف على الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار ، وهم بعد لم يبلغوا رشدهم الكامل ولا يزالون في أشدّ الحاجة إلى من يقوم بشئونهم وينهض بأعباء تربيتهم وحلّ مشكلاتهم ورفع خصوصياتهم ، فلو تركهم ولم ينصّب قيّما عليهم يحسن التربية ويحلّ المشكلة ويدفع المعضلة والخصومة ، ولا نصّ على وليّ فيهم ، أفلا يكون ذلك نقصا في مروءته وإخلالا برسالته وتفريطا في أمانته؟!.

مع أنّ شريعة الإسلام ما تركت شيئا إلا وجعلت له حقّه ولا عملا إلّا


وعيّنت حكمه ولا موضوعا إلّا وقدرت حدّه ؛ كيف وقد قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١).

وهذا الكتاب العزيز فيه : (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

والراسخون في العلم هم المستمدّون من ينابيع الوحي ومطالع الأنوار الأزلية ؛ هم الذين لو ردّت إليهم الأمة ما اختلفت عليه من أمور دينها ودنياها لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٣). ولو أن الرسول لم يعرّف الأمة على من اختصّه الله تعالى بمعرفة التنزيل والتأويل والمحكم والمتشابه والمجمل والمبيّن والناسخ والمنسوخ ، ولم ينصّب للناس إماما وخليفة يقوم مقامه لكانت رسالته ناقصة والأبصار إلى كمال شريعته شاخصة.

ولو لم يعيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الخليفة لخان الأمانة ، ولو ترك إلى الناس تعيينه لزادت المحنة وعظمت بالاختلاف البليّة ، ولو تركوا هلكوا.

والشريعة ما تركت شيئا إلّا وبيّنت حكمه حتى الدخول إلى المرحاض ؛ وقصّ الشّارب وأظافر الأقدام ؛ فكيف يسوغ للعقل القبول بأنّ الشريعة أهملت أمر الخليفة أو فوّضته إلى اختيار الضعفاء القاصرين ، ومن هنا ينفتح لك الطريق أنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوما ، ويتضح لك مغزى قوله عزّ اسمه :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٨.

(٢) سورة آل عمران : ٧.

(٣) سورة النساء : ٨٣.


(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١).

يعني : يا أيّها الرسول محمّد أيّها الكريم إذا لم تنصّ على خليفتك من بعدك ، فكأنك ما بلّغت شيئا مما أرسلت به ، يعني إذا لم تبلّغ ما أمرك الله تعالى به من تنصيب عليّ عليه‌السلام خليفة ، فكل ما بلّغته من الشرائع والأحكام يصبح في طي العدم.

وهناك نصوص قرآنية كثيرة تدلّ على فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأنه وليّ الله تعالى حيث قرن الله سبحانه طاعة عليّ عليه‌السلام بطاعته عزوجل. قال تعالى :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

هذا مضافا إلى أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالة على وصاية وإمامة عليّ عليه‌السلام على المسلمين قاطبة.

أبعد هذا كلّه يقال أن النبيّ لم يبلّغ عن الخليفة بعده؟! ولو لم يكن من النصوص سوى نصوص الدار والوصاية والمنزلة لكفى حجة لقوم يعقلون؟!.

وعليه فالحديث حول الخلافة يعني البحث عن الحق المغصوب لمولى الثقلين الإمام عليعليه‌السلام ، لذا فإنّ الحديث عن شخصية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أمر سهل وممتنع ، فهو سهل لأننا حيثما نظرنا وجدنا الآفاق قد

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) سورة المائدة : ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) سورة النساء : ٥٩.


غصت بفضائله ورأينا آثار العدو والصديق قد ملئت بفضائله ومآثره العالية والسامية ، وهو ممتنع لأن الشمس تخطف الأبصار ، وممتنع لأن القلم يتكسّر عند ما يريد أن يخط حدود مقامه ، ويرسم شموخه وتعاليه ، واللسان يتلجلج أو يخرس فيغدو المصقّع ألكن إذا أراد تبيان فضائله ومناقبه.

كيف ومتى يمكن الحديث عن شخص كان أعظم أعاظم العالم ، ووحيد الزمان الذي عقم أن يلد مثله ، ولم ير نظيره شرق العالم وغربه في غابر الزمان وحاضره إلّا الرسول محمد وآله الميامين ، وأيّ قلم يقوى على أن يسطّر ما يتعلق بشجاعة ورجولة ذلك الإمام الهمّام الذي ينبع الخير والعطاء من معين وجوده ، فهو العظيم في كل شيء ، ولم تكن عظمته في ميدان الحرب فحسب كما يفهمه العاديون ، بل كانت عظمته في نقاء سريرته وحسن طويته ، وحرارة إيمانه ، وعلوّ همته ، وكانت تضيء في يده مشاعل البطولة والملاحم ، حيث الشجاعة الحيدرية تفوق شجاعة البشر غير أنها كانت مشوبة باللطف والرحمة والعاطفة والرأفة.

فما ذا يمكن أن يقال في حق شجاع لا يجارى ، ومقدام كان يقاتل بين يدي رسول الله ، وحيدا فريدا ، كما كان وحيدا فريدا بين أقرانه : وحيدا لكونه ليس له نظير أو شبيه إلّا صنوه محمّد رسول الله ، ووحيدا لأن العالم لم يعرفه ، ولأن الذين حوله كانوا غرباء عنه مع قربهم منه ، وفريدا لأن الله حباه بخصال قلّ نظيرها بل فقد شبيهها في عالم الخلقة ، فكان عليه‌السلام ـ على حد تعبير أحد الفلاسفة الاجتماعيين ـ كسقراط في قومه : عبقريا غريبا أحبّهم فأنكروه وعلّمهم فلم يفهموه.

ضمن هذا المنطلق لم يكن الإمام علي عليه‌السلام مؤمنا كبيرا فحسب إنما كان مسئولا بدوره عن الإيمان ، وعن ترسيخه وتجذيره في نفوس معتنقيه ، من هنا لا تقاس سيرته إلّا ضمن مفهوم الرسولية.


لكنه غادر الدنيا قبل أن يكمل إبلاغ رسالته ، لقد عاش وقضى كما يعيش الأنبياء في بلدان ليست ببلادهم ويحيون في زمان غير زمانهم ، لكنّ لله حكمته ، فهو الأعلم بمصالح البشر والخبير بشئونهم.

لقد رحل مولاي علي روحي فداه عن الدنيا شهيد عظمته وعدالته ، وأغمض عينيه وشفتاه ترتلان ذكر الله عزوجل ، وقلبه قد اشتعل بحب الله تعالى والشوق إلى لقائه.

إن شموخ المرتضى عليه‌السلام بين منحدرات هبطت بعيد أيامه ، وتشققت بها الأرض حتى ما يبين لها قعر ، شموخ في الفكر والقلب ، خليق بنا أن ننظر إليه كما ننظر إلى كل قمة في تاريخ الإنسانية الواحد. وما ضيّق على الإنسان آفاقه في القديم والحاضر إلّا ما ارتضاه لنفسه من حدود شادها الضلال وركّزتها العادة ، وشمخ بها التاريخ جيلا بعد جيل.

وما عطّل على بصيرة المرء رؤية الرحاب الرحبة والمسافات البعيدة والقمم الشاهقة إلّا غيوم ثقيلات حيث يتنفس الجهل من خلالها فتتراكم وتزدحم وتطغى وتسوّد ، ولطالما ضاقت هذه الحدود في أكثر عهود التاريخ ، فعطلت مواهب الإنسان التي أوتيها لاكتشاف ينابيع الخير وراء الحدود ، ولطالما طغت هذه الغيوم وتجهّمت فمنعت عن الإنسان أن يسبح في اللّج ويشتد جريا في مناكب الأرض. أما ينابيع الخير هذه ، وأما السماء واللّج ومناكب الأرض وما تحوي ، فما هي في كثيرها إلّا أكفّ العظماء الحقيقيين الذين مرّوا في هذه الأرض مرور الغمام الخيّر فوق الصحارى البيد! غمام يمرّ كالأمل المشرق في عتمة اليأس. وتهطل في جنبات الصحارى هطول الحياة في جفاف اليبس ، ثم تمضي وهي تاركة وراءها الخضرة والنضرة والرواء والسقيا لقوم جياع عطاش! لقد طويت صفحات التاريخ السود ، وبكت على نفسها تلك الضلالات والغباوات التي حدّت الإنسان بطرا وبصيرة ، وضيّقت على العظماء


فحصرت بعضهم في نطاق من الناس لا يتخطاه آخرون ، ولا يجوزه نظر ، فإذا بالدائرة تتسع حتى تشمل الخلق جميعا ، وإذا بالعظيم الحق لا يخصّ طائفة من البشر ، ولا قوما دون قوم ، وإذا بسقراط للأغارقة والهنود والعرب والعجم ، وإذا غيره من العظماء لكل العالمين ، وإذا بأمير المؤمنين علي عليه‌السلام عظيم طائفة العظماء في الشرق والغرب ، بل لا يقاس بشخصه المبارك عظيم من العظماء على الإطلاق ، مثله مثل الشمس إذ تغمر الأرض : سهولها وجبالها وقممها ووديانها ، برّها وبحرها ، فما على الإنسان إلّا أن يستنير بنورها ، فلا يقيم دونه حدودا وجدرانا.

في تاريخ الشرق ، كما هي الحال في تاريخ البشر جميعا ، غزاة ومجرمون ولصوص محترفون وأغبياء وتافهون ، شاء منطق العصور القديمة والمتوسطة والحديثة أن يجعل منهم في حياتهم ملوكا وقادة وأصحاب قول فصل وأمر مطاع ، وأن يصنع منهم بعد هلاكهم أبطالا وعظماء ، فخلع عليهم في الحالين الألقاب الضخمة بغير حساب ، وها نحن ما نزال تصفع وجوهنا في الكتب التي يتنافس في تلفيقها بعض حملة الألقاب ، صفحات باردة كأنها الزمهرير من بطولات أولئك المجرمين ، وفصول من عظمة اولئك التافهن ، حتى ليوهم هذا النمط من المؤلفين قراءهم بأن البطولة ليست إلا نوعا من تصرّف النخاسين ، وبأن العظمة ليست إلّا شيئا من البراعة في النهب والسلب والاغتصاب والتقتيل والتدمير ، ثم التبجح بالجريمة والظلم والزهو بالتفاهة والاعتزاز بصناعة الترويع والتجويع وكل أمر فظيع ...

من الأمور التي نستيقظ عليها في دراسة بعض جوانب شخصيّة مولى الثقلين علي عليه‌السلام ولا سيّما مقارعته للظالم ونصرته للمظلوم ومن معاندته للاستعباد والاستغلال إلى العمل على تقويض أسبابهما بسنّ أنظمة ودساتير لهي بحقّ من صنع مخلوق اصطفاه الله واجتباه فكان له داعية .. لاثما أعتاب الحقّ


بلسان التوحيد ..

ثم إنّ ذلك العزيز .. صفيّ الأصفياء وأحكم الحكماء .. قد تجاوز حدود زمانه ومكانه .. وإذا بنا نعي أكثر فأكثر أنّ تاريخنا ليس كله ظلمة وظلما ، ففي بقايا لياليه ومضات وبروق ، وفي دياجيره متألقات وأهلّة .. وفي غياهب جوره غرر حسان وأيام بيض وشموس ضاحكات .. ثم أمطار هطلت بها سماء الحقّ على صحار قحطى فكانت رذاذا تارة وطورا عبابا!

وكذا كان من أمره عليه‌السلام ما كان .. وكذا به فوجئ من فوجئ .. فكان ضوءا يشرق من فضاء العدل الإلهي على العيون العبرى والقلوب الممتلئة بصراخ يحدوه أمل اللقاء بمنصف الضعفاء ..

فمثل تلك الصفحات المشرقة في تاريخنا بإمام ديننا لهي ما تؤهّلنا إلى أن نعيد النظر في أنفسنا من جديد تحطيما لقيود كبّلتنا بها عصور الظلمات الطويلة ..

ولمّا كان الإنسان مجبولا على حبّ العظماء وحب الاقتداء بهم .. ولمّا كان الإسلام مفتقرا إلى بطل لا كالأبطال .. إلى عبقريّ يقود زمام العقول ويتحدّى أسنة الرماح .. إلى جليل يكن لحبيبه محمّد أصفى صفيّ .. ما كان من حلّ أوفى من بزوغ فجر عليّ روحي لتراب قدميه الفداء .. فو ربّ البطحاء! ما كان للإسلام ذكر لولاه وما كانت لنا جرأة على التغنّي بإسلام لم يكن أمير المؤمنين عليّ مولاه! ..

ولعمر الحقّ! قليل جدا من عظماء التاريخ من يبذر في عقلك إيمانا مطلقا بكرامة الإنسان وحقّه المقدّس بالقدر الذي فعله الإمام علي عليه‌السلام .. لا بل معدومة حقا تلك الفئة! .. فكأنّ الإمام عليه‌السلام ينزع بتلك العدالة عن لسان الطبيعة وقلب الحياة .. بل وكأنه نزع منها عقله الوضّاء .. ماء الحياة الذي حيّر العظماء ..


أين أنتم يا من خنع لكم الورى من عدل رجل يقول : «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت»! ..

.. أين أنتم من عظيم لا يضاهى .. من سيّد خلق لا تغرّه بيضاء ولا صفراء .. وأين أنتم من عابد قام في محرابه بحياء وخجل وهو فيه عن هذه الدنيا ارتحل! ..

قليلون منكم وعوا أنّ «الاحتكار جريمة» وأن «ما جاع فقير إلّا بما متّع به غنيّ» .. وأنّ «الذنب الذي لا يغفر هو ظلم العباد لبعضهم البعض» .. وأن «من ساء خلقه عذّب نفسه» ومن «استوى يوماه فهو مغبون» ..

أوليس لزاما علينا أن ندرك أنّ لابن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام مكانة بين الأفذاذ أصحاب الدساتير وأنّه من المعيب المخزي أن يقاس به أحد من بني البشر؟!! ..

أليس من الغبن أن يدور الحديث في أكثر المؤلفات الموضوعة عن مولى الثقلين عليه‌السلام حول موضوعات تكاد تنحصر في واحد يدور فيه كلّ بحث وجدال؟ وهو إن جاوزه فللكلام على الضرب بالسيوف حتى تتقوّس والطعن بالرماح حتى تتقصّف ، ثم عن مقاتليه تنحط عليهم الطير من السماء وتمزّقهم سباع الأرض!! ..

إنّ لهذه الأمور موضوعا في تاريخ الإمام علي عليه‌السلام دون ريب ، لأنّ أخبارها انحسرت عن ألف قضية وقضية في التاريخ البعيد ، ولكن جوانب العظمة الحقيقية في الإمام علي بن أبي طالب روحي فداه أكثر من ذلك وهي إن درست فلكي تتوضح بعض الخفايا التاريخية في حياة الرجل وحياة معاصريه.

إن علينا أن ننطلق من النطاق العربي الذي ترعرع فيه مولى الثقلين علي


إلى النطاق العالمي الوسيع ، أي ننطلق من الزاوية الصغيرة من حياة أمير المؤمنين عليّ إلى الرحاب الواسع في فضاء روحانيته وولايته ، لا بدّ أن ندرك أن لابن أبي طالب عليه‌السلام مكانة بين الأفذاذ أصحاب الدساتير بل لا يقرن بواحد منهم أبدا ، فما هي هذه المكانة! وما هو محل الرجل بين اولئك الأفذاذ الذين برزوا في التاريخ؟!

يمكنني القول أنه ليس من اليسير الغوص في أعماق شخصية هذا الفذ ولا سبر غوره ، وكيف نحيط به خبرا وقد قال عنه صنوه رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ ما عرف الله إلّا أنا وأنت وما عرفني إلّا الله وأنت ، وما عرفك إلا الله وأنا.

فقد تبلورت هذه الشخصية المباركة بالكمال الإلهي والتأييد الربّاني منذ نشأته ونعومة أظافره حيث تشهد حياته المباركة بالمواقف الكريمة حيث أعطت الإسلام الكثير من العطاءات ، فلو لا مواقفه البطولية لما تمكّن الكثير من العطاءات ، ولما أمكن الإسلام أن يصمد أمام التيارات الجاهلية التي كانت له بالمرصاد ، فالإمام عليّ عليه‌السلام هو الذي بترها واجتثها بسيفه ، كما أنه دفع بالمسيرة الإسلامية نحو الأمام بالمجالات العلمية بشتى أنواعها.

وقد تميزت شخصيته عليه‌السلام بعدة ملامح رئيسية منها :

الملمح الأول : المسحة الربانية حيث اتصفت ـ حسبما أفدنا سابقا ـ بمسحة إلهية ، انعكست عليها آثار الجلال الإلهي لوفور عقله وشدة قابليته ، هذا مضافا إلى معاشرته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ كان صغيرا فلم يفارقه طوال حياته ، ثم مصاهرته له مما يعني اصطفاؤه له كما اصطفاه تعالى لنفسه ، فالله عزوجل قد اصطفى محمدا رسولا واصطفى عليا إماما ، وهذا الأمر له دلالاته وانعكاساته على شخصيته المقدّسة ، لأن اصطفاء الله عزوجل له لم يكن عن عبث ، وإنما له أبعاده المستقبلية ، وهذا ما تشير إليه الأخبار الواردة من مصادر الفريقين عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألفاظ متعددة :


«أنت مني بمنزلة هارون من موسى».

«عليّ مني وأنا منه».

«من كنت مولاه فعلي مولاه».

«لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق».

«سدّوا أبواب المسجد إلّا باب عليّ».

وكلّها تأكيدا لقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢) (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

الملمح الثاني : علم الإمام علي عليه‌السلام بما كان وسيكون إلى يوم القيامة بأذن الله تعالى ، وعلمه على قسمين :

العلم بالكتاب والسنّة المطهّرة ، وعلمه بالحوادث الواقعة في زمانه والتي سوف تقع ، ويشهد لهذا آيات من الكتاب الكريم بحقه منها آية التطهير المتقدمة والتي اتفق الطرفان على نزولها بأهل الكساء الخمسة منهم الإمام علي عليه‌السلام وذلك لأن الجهل بالكتاب والسّنّة والحوادث الواقعة يعتبر رجسا نزّهه الله تعالى عنه ، لكونه عليه‌السلام من المصطفين الأخيار والمخلصين الأطهار الذين لا سلطة لإبليس عليهم أبدا ، قال تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤).

ونحن الإمامية نعتقد أن على الوصي الإمام التام بالتشريعات والموضوعات التي لها علاقة بالتشريع عدا عن غير التشريع ، لأن الجهل بهذه الأمور يستلزم محذور تقديم المفضول على الفاضل وهو قبيح عقلا وشرعا ،

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٢) سورة المائدة : ٥٥.

(٣) سورة النساء : ٥٩.

(٤) سورة ص : ٨٣.


ولأن فائدة نصب الإمام تماما كفائدة نصب الرسول ، وهي رفع الجهل عن الرعية والأخذ بيدها إلى الطاعة والكمال ، ومعلوم بالضرورة أن الجاهل غير قادر على رفع الجهل ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه.

وقد تفوق الإمام عليه‌السلام بعلمه على جميع الصحابة بشهادة النبي له بذلك حيث قال : «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

«من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى عليّ».

«أقضاكم عليّ».

وقد تحدّى الإمام عليه‌السلام العالم بقوله : «سلوني قبل أن تفقدوني».

«وعلمني رسول الله ألف باب يفتح لي منه ألف باب».

ولم يدّع أحد من الصحابة لنفسه أن رسول الله علّمه الف باب إلّا الإمام عليه‌السلام.

كما شهد له عمر بن الخطّاب بقوله المستفيض : لو لا عليّ لهلك عمر.

فعلم الإمام عليّ هو علم رسول الله ، وبه كان يواجه الأحداث والوقائع فما يقوله الإمام عليه‌السلام يعني أن رسول الله قاله ووافق عليه ، لذا قال النبيّ بالمتواتر «عليّ مع الحقّ ، والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار».

فعلى أساس هذا العلم الذي حباه به المولى كانت منطلقاته وتوجهاته وأهدافه ، وعليه ، فلم يكن الإمام مجرد قائد وجد في ظرف قاس فواجهه بما لديه من خبرة عسكرية وكفى ، ولم يكن الإمام مجرد حاكم واجه تمردا من الرعية فتحرك لمواجهته بالسيف ، ولم يكن الإمام مجرد صحابي كبقية الصحابة كما يحاول العامة أن يصوّروه ، لقد كان الإمام عليّ نموذجا خاصا تربّى تربية خاصّة ، ومنح علما خاصا ، ووضع على كاهله القيام بدور خاص ، من هنا فإنّ قول رسول الله محمّد في صنوه الإمام علي «إن منكم من يقاتل على تأويل هذا


القرآن كما قاتلت على تنزيله وهو علي خاصف النعل» هذا القول يؤكّد وجود هذا العلم الخاص لدى الإمام عليّ عليه‌السلام فالرسول كان يقاتل المشركين بعلم ، والإمام أمير المؤمنين يقاتل المسلمين المنحرفين على علم عنده أيضا ، بل الحاجة للعلم في مقاتلة أهل القبلة من المسلمين أشدّ من الحاجة إليه في مواجهة المشركين.

فالإمام حينما واجه عائشة وقاتلها ـ لأنها باشرت بالقتال ـ لا بدّ وأن يكون لديه علم خاص ، وكونه واجه معاوية وابن العاص والمغيرة وقاتلهم لا بدّ وأن يكون لديه علم خاص ، وكونه واجه الخوارج وقد كانوا من أتباعه وقاتلهم لا بدّ وأن يكون لديه علم خاص.

فالإمام عليه‌السلام عند ما قاتل هؤلاء لم يكن البادئ بقتالهم ، بل هم أنفسهم الذين بدءوه بالقتال ، لأن عليا المرتضى روحي فداه يختلف بروحه عمّن قاتلوه ، لأنهم لم يردوا منه أن يكون عليا في إسلامه وإيمانه وعطفه ، بل أرادوا منه أن يكون كأمثالهم ، فسيدة الجمل أرادته أن يكون كنفسها ، ومعاوية أراده أن يكون معاوية ، وهكذا أرادوه كأنفسهم ، ولكنّه رفض إلّا أن يكون عليا لأنّ الله ورسوله أرادا منه أن يكون العليّ في علمه وصبره ويقينه وحبّه وعطفه.

ولقد بشّر رسول الله عليا أمير المؤمنين بأن الأمة ستغدر به. وأن عائشة ستقاتله ، وأن بني أمية سيسبّونه ويقاتلونه وكذا بشّره بظهور الخوارج وقتالهم له وأنهم سيقتلونه ، ومثل هذه النبوءات التي ارتبطت بالإمام علي دون بقية الصحابة ، إنما تؤكد أن للإمام عليّ خاصيّة ينفرد بها على الآخرين وهي خاصية العلم.

الملمح الثالث : قيادة الإمام عليه‌السلام للأمّة بعد شهادة النبي محمد ، نعني بالقيادة الربّانية التي كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي للوصي عليّ ، وليس المراد من القيادة التي تأتي بمرسوم وضعي من قبل الناس ، أن قيادته عليه‌السلام بأمر من الله


تعالى والتي تفرد بها من بين كل المسلمين ليلعب دورا بعد الرسول ويسدّ الفراغ الذي حدث بغيابه.

وبتأمل سلوك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الإمام عليّ وعلاقته به تتحدد لنا بوضوح هذه الخاصيّة ، لقد دفع الراية إلى الإمام يوم خيبر وقال منوّها بشخصه الكريم : «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» ، فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه ، وكان الصحابة يرددون : «لا فتى إلا علي ولا سيف إلّا ذو الفقار» ويرددون ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «برز الإيمان كله إلى الشرك كله».

هذا مضافا إلى أن الإمام عليّا كان صاحب لواء الرسول يوم بدر وفي كل المشاهد ، وشهادة النبي للإمام عليه‌السلام في حجة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين يؤكد هذه الخاصيّة وهذا الدور الذي أوكل إليه.

من هنا يتوضح لدى المريد للحقيقة أن شخصية عليّ المرتضى عليه‌السلام ومكانته ودوره لا يقاس به أحد ، وأن محاولة فهم حركة الإمام علي عليه‌السلام بمعزل عن هذه الرؤية سوف يموّه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين أنصار الخط القبلي الذي تزعمه بعض أصحاب النبي والذي تطور إلى الصدام العسكري مع عائشة وطلحة والزبير ومع الخوارج ، ثم في النهاية مع بني أميّة بقيادة معاوية.

كما وأن محاولة رفع بني أمية أو التقليل من شأن الإمام علي أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة الأشاعرة والمعتزلة ، ليست فقط سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه ، وإنما سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الإسلام الذي يمثّله الإمام بالنيابة عن الرسول الأكرم ، وبالتالي سوف تكون النتيجة هي ارتفاع الإسلام القبلي الذي تزعّمه معاوية وأصحابه على حساب الإسلام النبوي الذي تزعّمه الإمام عليّ وأصحابه ، وتلك


هي النتيجة التي استقرت عليها الأمة بعد وقعة صفين وبعد اختفاء الإسلام النبوي ، وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أميّة ، ذلك الإسلام الذي تعبّر عنه عقيدة أكثر الفرق الإسلامية والذي تحوّل إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية حتى اليوم.

الملمح الرابع : مظلوميته عليه‌السلام بأمي هو ونفسي وأهلي ، فقد عاش مظلوما طيلة حياته ، فقد ظلمه المسلمون الأدعياء حينما تركوه وحيدا فريدا لم يمتثل أمره ، منذ رحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لقد ظلمه بعض الصحابة في حياة رسول الله عند ما حسدوه فشكوه إلى النبي حتى قال لهم كلمته المشهورة : «ما تريدون من عليّ فإنه نفسي وإنه مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي» (١).

لقد ظلموه في نفسه وفي زوجه الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام عند ما اقتحموا داره ليبايع قهرا ، مع أن الذين قهروه على البيعة أمثال أبي بكر وعمر كانوا قد بايعوه في غدير خم ثم نقضوا بيعتهم تلك.

وظلم من قبل عائشة بنت أبي بكر حيث شنّت حربا ضروسا عليه وحرّضت محبيها على قتاله ، ومع إحسانه إليها لم يسلم من لسانها يوم الجمل عند ما أوصلها إلى المدينة برفقة نسوة مقنّعات فنادت : «بأن عليا هتك سترها» ثم لمّا رفعن الأقنعة عن وجوههنّ قالت : «جزى الله عليا خيرا فقد سترني».

كما أنه ظلم من قبل معاوية وأتباعه ، وقد تعدّى ظلم أعدائه له عليه‌السلام إلى أولاده من بعده ، فظلم الإمام الحسن ثم أخوه الإمام الحسين ثم أولاده المعصومون عليهم‌السلام.

ولم يقتصر الظلم عليه وعلى زوجه وأولاده بل شمل أبويه المباركين أبا

__________________

(١) فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج ١ / ٣٣٩.


طالب عبد مناف عليه‌السلام وفاطمة بنت أسد عليها‌السلام ، وهكذا تعدّى الظلم إلى كل ما يمت الإمام عليعليه‌السلام بصلة.

لقد ظلمه المتأخرون أيضا حين شكّكوا بإسلامه ، وأنه أسلم وهو صبي ، ولا اعتبار بإسلام الصبي ، وظلموه حينما نفوا عنه فضيلة جهاده مع النبي ، حتى مبيته على الفراش ليست كرامة بنظر أعدائه ، ولا شدة وطأته في الحروب منقبة بنظر حسّاده ، ولو سلّموا بتلك الفضائل فليست دليلا على إمامته بنظر هؤلاء ، فهل هناك أحد من الصحابة ظلم كما ظلم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام!!؟

وهو الذي كان يدلّي رأسه في بئر يبثّ همومه فيها لقلة الناصر والمعين ، وهو الذي كان يتمنى وجود حملة لأسراره ، فأيّ ظلم لحق بسيد المؤمنين علي ، وما ذنبه حتى يلحقه هذا الظلم الفظيع؟! كل ذنبه أنه مع الحق والحق معه ، وهو القائل : «ما ترك لي الحق من صديق» فدائما الناس مع الباطل وضد الحق ، وعليّ مع الحق ضد الباطل ، فلا يجاري الناس ولا يسايرهم على حساب الحق وهو القائل : «لأبقرنّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

وهكذا عاش الإمام مظلوما لا تعرف قيمته ، بقي محزون النفس مكلوم القلب ، يتلقّى في كل مرة من زمانه ألوانا مريعة من الرزايا والخطوب ينظر إلى العدل وهو مظلم ، وإلى الخير وهو مضيّع وإلى البغي قد كثر ، وإلى الجور قد طغى ، ويرى الباطل قد استحكم وأصبح جيشه متمردا عليه يأمره فلا يطيع ويدعوه فلا يستجيب ، فقد خلد إلى الراحة ، وسئم التعب وكره الجهاد في سبيل الله ، وتركت هذه الكوارث أسى مريرا في نفسه فكان يتمنى الرحيل عن الدنيا ليستريح من مشاكلها وشرورها ، وقد انطلق يدعو الله ليعجّل انتقاله إليه بقوله قائلا : «أما والله لوددت أن الله أخرجني من أظهركم وقبضني إلى رحمته منكم».

وقد زاد في أسى الإمام وأحزانه فقده للبقية الصالحة من صحابة الرسول


ممن عرفوا اتجاهه ودرسوا في مدرسته أمثال عمار بن ياسر والمقداد وأبي ذر وهاشم المرقال وذي الشهادتين وأمثالهم من عيون المؤمنين الذين كان يعتمد عليهم في إقامة الحق ودحض الباطل وإحياء معالم الدين.

وبعد فقده لهم أصبح غريبا في ذلك المجتمع لا ناصر له ولا معين ، من هنا أخذ يبتهل إلى الله تعالى ويتضرّع إليه أن ينقله إلى جواره ، وهكذا أحب الله الإمام عليا عليه‌السلام فاستجاب دعاءه ، فكانت ليلة التاسع عشر من شهر رمضان حيث طلع قرن الشيطان ابن ملجم وضرب الإمام عليا على رأسه الشريف فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى ، وانتهت الضربة القاسية من اللئيم ابن ملجم إلى دماغ الإمام المقدس الذي ما فكّر إلا في نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم ، ولما أحسّ بلذع السيف في رأسه صاح : «فزت ورب الكعبة».

لقد فاز الإمام عليه‌السلام وأي فوز أعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي الله يذكره ، في أقدس بيت وهو مسجد الكوفة وفي أعظم شهر وهو شهر الله رمضان.

لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحيّ ، فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية ، وقد قتل على غير مال احتجبه ، ولا على دنيا أصابها ولا سنّة في الإسلام غيّرها.

لقد فاز الإمام عليه‌السلام حيث أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة ، وعنوانا للحق ، ومثالا للإنسانية الكاملة التي ارتقت سلّم الكمال حتى بلغت نهايته.

لقد فاز الحق والعدل بفوزه ، فأي فوز أعظم من أن يذكر قرينا للحق والعدل ، وتذكر مباديه المقدّسة أعجوبة لقادة الفكر الإنساني يسيرون على ضوئها في حقل الإصلاح.


فاز الإمام وفاز من تمسك به في حياته وبعد شهادته ، فهو وإن لم يكن معنا بجسده ، لكنّه معنا بكلماته ووصاياه ونهجه ، ليبقى الإمام علي عندنا مصدر وعي وجهاد وتقوى ، ولنلتزم الإمام عليا فكرا وروحا وقدوة ، ولنكن صورة مصغّرة عنه ولو بنسبة ضئيلة.

وأخيرا فيا أيها الدنيا ويا أيها الناس ، ويا أيها التاريخ ، عليّ أمير المؤمنين هو عليّ ، سواء أعرفتموه أم جهلتموه ، هو شهيد المحراب وأبو الشهداء وعظيمهم وقائد الغر المحجلين وحبيب الله ورسوله ، ومهما ادلهمّ الخطب ومدّ الظلم سيقانه على الأفراد والمجتمعات ، فإن حقه عليه‌السلام لن يضيع ، وسيبقى من ينصره ، وسيأتي اليوم الذي يظهر فيه حقه ساطعا لا تزاحمه ظلمة ، فإذا ظلمه المسلمون فإنّ له أنصارا عظماء ، إن أنصاره هم قادة الإنسانية على رأسهم رسول الله محمد ، كما أن له أنصارا لا يعرفون سوى حقّه ولا يتوجّهون إلّا إلى قبلته ، فهم مستغرقون بفضائله وذكره.

فيا سيّدي يا عليّ! أيّها الحبيب والصّديق والأب العطوف الشفوق ، أيها الطائر الملكوتي ، يا من نظرت إلى الفجر الصادق والأفق النيّر من بطن الكعبة حين فتحت عينيك في أحضانها وغرّدت أنغام الحياة مع نسيم الصبح ، وملأت الدنيا حبا وحنينا وشوقا إلى المعبود المطلق.

سيّدي أيها الغريب يا أخا رسول الله محمّد ويا زوج البتول فاطمة يا أنيس اليتامى والمساكين يا معين الضعفاء ، يا من عاشرت شمس هذه الدنيا ثلاثا وستين عاما ، ثم عرّجت بجناحك المدمى ووجهك الصبيح الخضيب بقلب مطمئن ، عرجت من محراب الشهادة لتخترق الأفق المحمّر بدمك الطاهر الزكي ، وبين فجر شروقك المنير وأفق غروبك القاني تركت العالم حيران بين الشوق والحسرة.


والسؤال الجدير بالذكر : لما ذا البحث في تاريخنا الماضي؟ وما ذا نستفيد من طرح مباحث الخلافة ، وهل البحث في ذلك سوى مضيعة للعمر وفصم عرى وحدة المسلمين ، لا سيّما أنّ أصحاب ذلك التاريخ مضى زمنهم وتصرّمت أيّامهم ، فما ذا يفيدنا نبش الماضي ، في حين علينا التطلع إلى الحاضر والمستقبل؟!

هذا التساؤل يكرّره كثيرون ممن ينشدون توطيد عرى الوحدة بين المسلمين ، والوقوف جنبا إلى جنب ضد المتآمرين والمنافقين والكافرين.

والجواب :

أولا : نحن الإمامية مع كل صرخة حقّ تلمّ شعث المسلمين وتوحّد كلمتهم ، ولكن ليس ثمة شيء في ديننا إلّا وله علاقة بتاريخنا الماضي ، وما نملكه اليوم إنما هو نتاج الماضي.

ثانيا : إنّ التحدث عن الماضي يعني التحدث عن حق أنزل من أجله الوحي ، فعدم الإفصاح عنه يعني إسدالك الحجب والستائر عليه ، مما يعني تمييعه والإجهاز عليه.

وما السكوت عن الأضاليل والالتجاء إلى سبل التغطية على فضائح التاريخ إلّا خيانة عظمى للحق والحقيقة ، وإغراء للأجيال بقبح الأفعال ، مما يسبّب اختلاط تلكم الفضائح بحقائق الدين فيصير الإسلام ضحية كل رام ، وطعنة لكل طاعن ، وأكلة لكل طاعم.

ثالثا : التحدث عن التاريخ ومنه قصة الخلافة وما جرى بعدها ، يعني التحدث عن شيء أكّدته النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، فلو كان التحدث عنها أمرا غير مألوف أو قبيحا لكان ما ذكره القرآن والسنّة أمرا غير مألوف أو قبيحا ، وللغى ذكرها فيهما ، والله ورسوله منزهان عن ذكر اللغو.


رابعا : لو كان التحدث عن «الخلافة» التي هي من مصاديق تاريخنا ، أمرا مضى زمنه ، فلما ذا ذكر القرآن سنن الغابرين كفرعون وهامان والنمرود؟ ولما أشار القرآن الكريم إلى وجوب السير في الآفاق الأرضية والأنفسية والتاريخية لأخذ العبرة والعظة :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢).

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٤).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) (٥).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦).

إن البحث عن مفهوم الإمامة والخلافة في الإسلام بصدق إرادة وقوة عزم ، يمكن من خلاله أن يكتشف الباحث حقيقة كثير من المفاهيم الضائعة أو المطموسة ، لأن كل مفاهيم الإسلام أو جلّها مرتبط بنظام الإمامة المتمثل بشخص مولى الثقلين سيّدنا عليّ بن أبي طالب روحي فداه بعد النبيّ الأكرم

__________________

(١) سورة يوسف : ١١١.

(٢) سورة النساء : ٢٦.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٧.

(٤) سورة الأنعام : ١١.

(٥) سورة الروم : ٤٢.

(٦) سورة النمل : ٦٩.


وأولاده النجباء من بعده ـ أقصد العترة ـ لأنهم الينبوع الصافي ، وما يرشح من خير وسعادة في مجتمعات المسلمين بل المجتمعات البشرية ما هو إلا ما طفح من خيرهم وعلومهم وأسرارهم ، من هنا قال عمر بن الخطاب بألفاظ متعددة (١) :

١ ـ اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب.

٢ ـ لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن.

٣ ـ لا أبقاني الله بعدك يا علي.

٤ ـ أعوذ بالله من معضلة ، ولا أبو الحسن لها.

٥ ـ أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

٦ ـ اللهم لا تنزل بي شديدة إلّا وأبو الحسن إلى جنبي.

٧ ـ لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

٨ ـ لو لا علي لهلك عمر.

ألم ينقل الرواة عن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها (٢)».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا :

«أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب (٣)».

«علي خازن علمي».

ومن منطلق أن أبا الحسن عليه‌السلام حلّال المعضلات العلمية والسياسية

__________________

(١) لاحظ الغدير ج ٣ / ٩٧ عن المناقب والرياض النضرة وتذكرة السبط وطبقات الشافعية والإصابة والصواعق وفيض القدير.

(٢) لاحظ الغدير ج ٦ / ٦١ عن ينابيع المودة وصححه الطبري وابن معين والحاكم والخطيب والسيوطي وأخرجه الحفّاظ وأئمة الحديث ؛ بلغ عددهم ١٤٣ حافظا وراويا.

(٣) مناقب الخوارزمي ص ٤٩ ومقتل الحسين ص ٤٣.


والاجتماعية الشائكة ، كيف يمكن لغير اتباعه «أقصد الأشاعرة» أن يرفعوا المغاث ويضعوا المغيث؟!!

فالنظر في التاريخ الغابر ضرورة علمية لا غنى عنها ولا مناص من مزاولتها لأنها وحدها كفيلة بأن تطلعنا على حقيقة ما جرى في الماضي لفهم ما يجري في الحاضر. فالخلافة التي دار النزاع عليها بين الخاصة والعامة ، وسفك من أجلها دماء لها بعدان مهمان :

الأول : البعد الزماني :

المتجلي في كون أصحاب الحق في فترة زمنية معينة قد اغتصب حقهم وأزيحوا قهرا عن مناصبهم التي جعلها تعالى لهم ، هذا البعد وإن كنّا لا نعيد البحث فيه لتصرّم تلك الفترة الزمنية وذهاب أعيانها ، إلّا أننا ما زلنا نطالب أتباع مدرسة الشيخين بالاعتراف بأنّ أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام هو صاحب الحق دون سواه ممن جاءوا إلى الخلافة بمرسوم سياسي لا علاقة له بالتشريع والأخلاق ودساتير العلم والقانون.

الثاني : البعد الديني :

أي أن الإمامة أو الخلافة لها بعد روحي ديني باق أثره إلى يومنا هذا ، ومن واجب المسلمين الأخذ به وهو أن الإمام عليّا عليه‌السلام إمام المسلمين وقائد الغر المحجلين بنص الأدلة الدالة على أنه المنفّذ لأحكام وأوامر الشريعة وبسط نفوذها ، إضافة إلى كونه مرجعا يرجع إليه في حل المشاكل التي تطرأ على المسلمين فيما يتعلق في مجالي العقيدة والسلوك ، أو فيما يستجد من موضوعات يترتب عليها حكم شرعي.

فإذا غضضنا الطرف عن البحث في مسألة الإمامة يعني أننا طرحنا المفهوم العقيدي والسلوكي اللذين لا بدّ أن يتحلى بهما كل مسلم ، ونكون قد فشلنا في


أداء الأمانة لأجيالنا الصاعدة ، لذا ترى من التجأ إلى غير عترة محمد يتخبط يمينا وشمالا في الأصول والفروع ، فمن مجسّم إلى قدري وآخر مفوضي.

كل هذا نتيجة ابتعادهم عن طريق العترة الطاهرة التي قرنها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب الكريم بأمر من رب العالمين قال : «إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

وكل من لم يعمل بوصايا العترة ـ شاء أم أبى ـ فهو مخالف لوصايا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآمرة بالرجوع إليهم عليهم‌السلام.

ويعدّ عدم تنفيذ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيانة للحق والقرآن ، ومعصية توجب أليم العذاب. قال تعالى :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١).

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(٣).

فعدم إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على العصيان لله وللرسول فصرخة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجاهلين الغافلين داعيا لهم إلى التمسك بالكتاب والعترة لدليل ساطع على أن لقيادة العترة الطاهرة بوقت خاص بعدا خالدا إلى يوم القيامة ، لعدم جواز خلو الزمان من إمام يهتدى به ، قال تعالى :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٤).

__________________

(١) سورة النساء : ٨٠.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة الرعد : ٧.


فتاريخنا ليس معصوما حتى يحرم على طالب الحقيقة أن يغور في أعماقه (أقصد بغور أعماقه الكشف عن زيف بعض المنافقين الذين تستروا بصحبتهم لرسول الله وادعائهم الخلافة لأنفسهم) وينقد معاصريه ، الذين شوّهوا صورته وحرّفوا وجهته.

وما هذه المقالة إلّا من مبتدعات بعض القيّمين على مدرسة الشّيخين حيث سيطروا على وعي الأمّة بإبعاد أقوامهم من اتّباع مدرسة الإمام عليّ عليه‌السلام ، والاطلاع على معتقداتها التي هي معتقدات الإسلام ، ولو تصفّح الباحث «بإنصاف» كتب العامّة فلا يجد إلا التهجم والافتراء على الشيعة وكأنّ في آذانهم وقرا وبيننا وبينهم حجاب. وها هو أحد من عرفوا الحقّ وانصاعوا له يقول :

«أنا السّنّي المنشأ لم أكن أجد في بيئتنا ما يعرّف بالشيعة تعريفا حقيقيا ، وكل مذهب من مذاهب الدنيا تستطيع الإحاطة به في بيئتنا سوى الشيعة ، فإنّ مصادر الوهّابية عليهم أقوى من «جدار برلين» ، نعم قد كنّا نعلم أنّ الشيعة أصحاب طريقة غريبة عن كل البشر وأنّ أشكالهم ربّما لها ـ أيضا ـ بعض الخصوصيات ، وأن يكون تصوّر الناس للشيعة على أنهم أصحاب أذناب البقر كما أشار آل كاشف الغطاء ليس مبالغة منه ، وحال الأمة كذلك ، لقد تعجّب الشّاميّ وهو يسمع أنّ الإمام عليا عليه‌السلام قتل بالمحراب ، فقال : «أو عليّ يصلّي؟!) (١).

وجرى لي مثل ذلك مع أحد علماء الوهّابية في الحجّ حيث قال لي : أنتم الشيعة تصلّون؟!

انظر إلى أمثال هؤلاء كيف أعمت العصبية قلوبهم ونخرت عقولهم ، وما

__________________

(١) لقد شيّعنى الحسين ، للكاتب والصحافي المغربي إدريس الحسيني ، ص ٢٤.


هذا إلا نتيجة التغييب والتجهيل المستمرين ؛ وهما وحدهما يولّدان الفرقة والتشرذم.

وأخيرا ، علينا أن ندرك أنّ عرض المسائل الخلافية بين الفريقين لا يوجب فصم عرى الوحدة بين المسلمين ولا وهنهم ، بل العكس هو الصحيح لأنّ ذلك ممّا يوجب تعرّفهم على بعضهم عن كثب مما يزيد في قوّتهم والتعرّف على نقاط الضعف لديهم فيتجنّبونها مما يفضي إلى مواجهة أعدائهم والوقوف سدا منيعا في وجه المخططات التي تحاك ضدّهم.

إضافة إلى أنّ الخوض في مسائل الخلافة ليس أمرا هامشيا ، بل هو ممّا دعا إليه الإسلام الذي حثّ على المجادلة مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن فقال :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (١).

فهذا حال المسلمين مع أهل الكتاب ، فبطريق أولى الفرق الإسلامية التي تختلف مع الشيعة في مسألة الخلافة ، فيجب ألّا تقف من الشيعة موقف العداء بل عليها أن تتحلّى بروح المباحثة والانفتاح الفكريّ لا أن تعيش الانغلاق والتقوقع.

لذا ومن منطلق الحوار الهادي ، الذي يؤلّف بين القلوب ويقرّبها إلى المبدأ المتعال كان اجتماع علماء بغداد في العقد الرابع الهجريّ ، فكان حصيلته حصحصة الحق وبلورة الحقيقة من دون حصول ضجّة إعلامية تبعد بالمجتمعين عن الدنوّ والقرب من الله تعالى.

وهنا لا بأس بالتطرق إلى نقطتين هامّتين :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦٤.


* الأولى : التعريف بأركان الدولة السلجوقيّة.

* الثانية : هل هذه المحاورة حقيقة خارجية أم نظرية افتراضية؟

أما النقطة الأولى وفيها :

١ ـ ترجمة ملكشاه السّلجوقي.

٢ ـ ترجمة نظام الملك.

٣ ـ ترجمة مقاتل بن عطية.

١ ـ أما ملكشاه السّلجوقي :

فهو أبو الفتح بن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق (١).

كان والده كريما ، عاقلا ، لا يسمع السّعايات وكان كثير الصدقة والدعاء على ما ذكر ابن الأثير في تاريخه. ولألب أرسلان من الأولاد : ملكشاه وقد صار سلطانا بعد والده ، وإياز ، وتكش ، وبوري برش ، وتتش ، وارسلان أرغو ، وسارة ، وعائشة ، وبنتا أخرى (٢).

وبعد وفاة والده انتقل ملكشاه من بلاد ما وراء النهر إلى بغداد ومعه الوزير نظام الملك الذي كان متولّيا للأمر في عهد ألب ارسلان (٣).

تملّك بلاد ما وراء النهر وسمرقند وبخارى والجزيرة والشام والعراق وخراسان وغيرها ؛ وحمل إليه ملوك الروم الجزية ، وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ١٠ / ٧٤.

(٢) نفس المصدر ج ١٠ / ٧٥.

(٣) نفس المصدر ج ١٠ / ٧٦.


ولد عام ٤٤٧ للهجرة وتوفي عام ٤٨٥ ه‍ بسبب حمّى أصابته من جرّاء أكل لحم صيد ، فافتصد ولم يستوف إخراج الدم ، فثقل مرضه ، وكانت حمّى محرقة ، فتوفي ليلة الجمعة ، النصف من شوال (١).

وكان موته بعد وفاة وزيره نظام الملك بخمسة وثلاثين يوما (٢).

وقيل : إنّه سمّ في خلال ونقل في تابوت فدفن بأصبهان في مدرسة كبيرة له (٣).

ومن سيرته ـ حسب ما ذكر ابن الأثير في الكامل ـ : «أنه أسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد ، وعمّر الطرق والقناطر ، والرّبط التي في المفاوز ، وحفر الأنهار الخراب ، وعمّر الجامع ببغداد ، وعمل المصانع بطريق مكة ، وبنى البلد بأصبهان ، وبنى منارة القرون بالسّبيعي بطريق مكة ، وبنى مثلها بما وراء النهر.

واصطاد مرّة صيدا كثيرا ، فأمر بعدّه ، فكان عشرة آلاف رأس فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار ، وقال : إني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة ، وفرّق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى ، وصار بعد ذلك كلّما صاد شيئا تصدّق بعدده دنانير (٤). وهذا يدلّ على أنه كان يحاسب نفسه وقلّما فعل هذا الأمراء والحكّام.

ويروى عن ملكشاه السلجوقي حبّه للعدل ، فقد قال عبد السميع بن داود العباسيّ : شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السّفلى ، من قرية الحدّادية ، يعرفان بابني غزّال ، فلقياه ، فوقف لهما ، فقالا : إنّ مقطعنا الأمير

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٠ / ٢١٠.

(٢) نفس المصدر والجزء والصفحة.

(٣) محاورة حول الإمامة للسيد الرضوي ص ١٣.

(٤) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ١٠ / ٢١٣.


خمارتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار ، وقد كسر ثنيتيّ أحدنا ، وأراهما السلطان وقد قصدناك لتقتصّ لنا منه ، فإن أخذت بحقّنا كما أوجب الله عليك ، وإلّا فالله يحكم بيننا.

قال : فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال : ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي ، واسحباني إلى خواجه حسن ، يعني نظام الملك ؛ فامتنعا من ذلك ، واعتذرا فأقسم عليهما إلّا فعلا ، فأخذ كل واحد منهما بكمّ من كمّيه ومشى معهما إلى نظام الملك ، فبلغه الخبر ، فخرج مسرعا ، فلقيه وقبّل الأرض ، وقال : يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال : كيف يكون حالي غدا عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين ، وقد قلّدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف ، فإن نال الرعيّة أذى فأنت المطالب ، فانظر لي ولنفسك.

فقبّل الأرض ، ومشى في خدمته ، وعاد من وقته ، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه ، وردّ المال عليهما ، وأعطاهما مائة دينار من عنده ، وأمرهما بإثبات البيّنة أنّه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما ، فرضيا وانصرفا (١).

ويروى أنّ ملكشاه هو أوّل من سنّ التقويم الشمسي بمعاونة جماعة من المنجّمين منهم : عمر الخيّام ، وأبو المظفّر الأسفزاري ، وميمون بن النجيب الواسطيّ ، وبقي الرصد دائرا إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل بعد موته (٢).

ويقال أنّ تقويمه لم يلق ترحيبا من الناس لأنّه جعل مبدأ التقويم يوم جلوسه على كرسيّ الحكم معتبرا إياه بداية للسنة الشمسيّة ، معرضا عن التاريخ الهجري ومهملا إيّاه ، وأراد أن يشيع هذا التقويم إلّا أن الناس رفضوا ذلك

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) نفس المصدر ج ١٠ / ٩٨.


بسبب تغيير بداية التاريخ الهجري (١).

٢ ـ وأما الوزير نظام الملك : ٤٠٨ ـ ٤٨٥ ه

كنيته أبو علي ، واسمه الحسن بن علي ابن إسحاق (٢) بن العباس الرادكاني الطوسي (٣).

ولد بنوقان إحدى مدن طوس في الواحد والعشرين من ذي القعدة يوم الجمعة سنة ٤٠٨ ه.

كان في بداية حياته فقيرا من أبناء الدهاقين بطوس ، «توفيت أمه وهو رضيع ، فكان أبوه يطوف على المرضعات فيرضعنه حسبة ، حتى شب ، وتعلّم العربيّة ، وسرّ الله فيه يدعوه إلى علو الهمة ، والاشتغال بالعلم ، فتفقه ، وصار فاضلا ، وسمع الحديث الكثير ، ثم اشتغل بالإعمال السلطانية ، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضرا وسفرا. وكان يطوف بلاد خراسان ، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولّي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان ، فحسنت حاله معه ، وظهرت كفايته ، وأمانته ، وصار معروفا عندهم بذلك ، فلمّا حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب ارسلان به وعرّفه حاله ، فولّاه شغله ، ثم صار وزيرا له إلى أن ولي السلطة بعد عمه طغرلبك ، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة ، وآراء سديدة قادت (أو فادت) السلطنة إلى ألب ارسلان ، فلمّا توفي ألب ارسلان قام بأمر ابنه ملك شاه.

__________________

(١) لاحظ رسالة العلّامة الراحل السيد محمد حسين الحسيني الطهراني «في بناء الإسلام على الشهور القمرية» ص ٧٧ ، ط / دار المحجة البيضاء.

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٤.

(٣) الكنى والألقاب للقمي ج ٣ / ٢٥٧.


وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر ، صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ، ويأخذ ما معه ، ويقول له :

ـ قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرسا ومقرعة ويقول :

ـ هذا يكفيك ؛ فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك ، ومؤيد الملك ، وهرب إلى جغري بك داود ، والد ألب أرسلان ، فوقف فرسه في الطريق ، فقال : اللهم إني أسألك فرسا تخلّصني عليه! فسار غير بعيد ، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد ، فقال لنظام الملك : انزل عن فرسك ، فنزل عنه ، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه ، فركبه وقال له : لا تنسني يا حسن.

قال نظام الملك : فقويت نفسي بذلك ، وعلمت أنه ابتداء سعادة ، فسار نظام الملك إلى مرو ، ودخل على داود ، فلما رآه أخذ بيده ، وسلّمه إلى ولده ألب ارسلان وقال له : هذا حسن الطوسي ، فتسلمه ، واتخذه والدا لا تخالفه.

وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو ، فقال لداود : هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي ، فقال له داود : حديثك مع محمد ؛ يعني ألب ارسلان ، فكان اسمه محمدا ، فلم يتجاسر تاجر على خطابه ، فتركه وعاد.

وأما أخباره ، فإنه كان عالما ، ديّنا ، جوادا ، عادلا ، حليما ، كثير الصفح عن المذنبين ، طويل الصمت ، كان مجلسه عامرا بالقرّاء ، والفقهاء ، وأئمة المسلمين ، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد ، وأجرى لها الجرايات العظيمة ، وأملى الحديث بالبلادة ببغداد وخراسان وغيرهما ، وكان يقول : إني لست من أهل هذا الشأن ، لما تولّاه ، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه ، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة ، وكان ، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان ، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ، ولزوم الصلوات.

وأسقط المكوس والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسّن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل إمام الحرمين ، وأبي القاسم القشيري ، وغيرهما ، فلما ولي ألب ارسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم.

وكان نظام الملك إذا دخل عليه العلّامة أبي القاسم القشيري ، والعلّامة أبي المعالي الجويني ، يقوم لهما ، ويجلس في مسنده ، كما هو ، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ، ويجلسه في مكانه ، ويجلس هو بين يديه. فقيل له في ذلك ، فقال : إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا عليّ يقولون لي : أنت كذا وكذا ، يثنون علي بما ليس فيّ ، فيزيدني كلامهم عجبا وتيها ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي ، وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك ، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.

وقال نظام الملك : كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ، ومسجد أتفرّد فيه لعبادة ربي ، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ، ومسجد أعبد الله فيه ، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم ، ومسجد أعبد الله فيه.

وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام


الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرّب المقطوع إليه (١) فأكل معه.

وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقرّبهم إليه ، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد» (٢).

ومن مآثره أنه بنى المدارس والربط والمساجد في البلاد ، وهو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس ، كما أنه المؤسس للمدرسة النظامية في بغداد عام ٤٥٧ ه‍ وقد استلم الغزالي (٣) سدة التدريس فيها ، حيث كانت تربطه بنظام الملك علاقات حميمة ، من هنا عند ما توفي نظام الملك ، سافر الغزالي إلى نيسابور حيث درّس في مدرسة فخر الملك ابن نظام الملك في نيسابور.

ويحكى من حسن أخلاقه أنه كان بينه وبين تاج الملك أبي الغنائم شحناء ومنافسة كما جرت العادة بمثله بين الرؤساء ، فقال أبو الغنائم لابن الهبارية وكان من الملازمين لخدمة نظام الملك ، إن هجوت نظام الملك فلك عندي كذا وأجزل له الوعد ، فقال :

كيف أهجو شخصا لا أرى في بيتي شيئا إلّا من نعمته ، فقال : لا بد من هذا. وأنشأ هذه الأبيات :

لا غرو إن ملك

ابن إسحاق وساعده القدر

وصفت له الدنيا

وخص أبو الغنائم بالكدر

والدهر كالدولاب

ليس يدور إلّا بالبقر

فبلغت الأبيات نظام الملك فقال : هو يشير إلى المثل السائر على ألسنة الناس وهو قولهم أهل طوس بقر.

__________________

(١) في نسخة «المقطوع اليد».

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٧ ـ ٢١٠.

(٣) المنقذ من الضلال للغزالي ص ٢٢.


وكان نظام الملك من طوس وأغضى عنه ولم يقابله على ذلك بل زاد في إفضاله عليه فكانت هذه معدودة من مكارم أخلاق نظام الملك وسعة حلمه ، ويناسب (١) أن يقال في حقه على حد تعبير العلّامة عباس القمي (قدّس سره) :

عشق المكارم فهو مشتغل بها

والمكرمات قليلة العشاق

وأقام سوقا للثناء ولم تكن

سوق الثناء تعد في الأسواق

بث الصنائع في البلاد فأصبحت

يجبى إليه محامد الآفاق

وقال الأستاذ عبد الحليم الجندي :

كان نظام الملك وزيرا عظيما ينشر العلم وينشئ المدارس ، ويعمل للوحدة ويحاول أن يجمع علماء الفرق ، فدخل عبد السلام بن محمّد القزويني شيخ المعتزلة وعنده أبو محمد التميمي ، ورجل آخر أشعري فقال له :

أيّها الصدر لقد اجتمع عندك رءوس أهل النار أنا معتزلي ، وذلك أشعري ، وهذا مشبّه وبعضنا يكفّر بعضا (٢).

وزبدة المخض :

أن نظام الملك رجل له خدمات جليلة على الفقراء والمساكين ، هذا مضافا إلى أن طبيعته ونفسيته كانت إلى السلم أميل منها إلى الحرب ، يعرف هذا من خلال مشاورة الملك له بشأن الشيعة وتدبير الأمور لا سيما في عهد ألب أرسلان وما قدّم من تضحيات في سبيل تدعيم الوحدة بين المسلمين ، ونصرة الحق ، فلله دره وعلى الله أجره ، ويكفيك أنه دفع ضريبة ذلك حيث قتله جماعة من النواصب أو الحاقدين نصبوا للحق العداوة والبغضاء.

فقد روى ابن الأثير قصة مقتله فقال :

__________________

(١) الكنى والألقاب ج ٣ / ٢٥٨.

(٢) الإمام جعفر الصادق (ع) ص ٣٥٥ ، طبع القاهرة عام ١٣٩٧ ه‍.


«في هذه السنة ، عاشر رمضان ، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند ، وكان هو والسلطان في أصبهان ، وقد عاد إلى بغداد ، فلمّا كان بهذا المكان ، بعد أن فرغ من إفطاره ، وخرج في محفّته إلى خيمة حرمه ، أتاه صبيّ ديلمي من الباطنية ، في صورة مستميح أو مستغيث ، فضربه بسكين كانت معه ، فقضى عليه وهرب ، فعثر بطنب خيمة ، فأدركوه فقتلوه ، وركب السلطان إلى خيمة ، فسكن عسكره وأصحابه (١).

ثم ذكر ابن الأثير سبب مقتله وأن الذي دبّر قتله هو ملكشاه نفسه فقال :

وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولّاه جدّه نظام الملك رئاسة مرو ، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن ، وهو من أكبر مماليكه ، ومن أعظم الأمراء في دولته ، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء ، فحملت عثمان حداثة سنّة ، وتمكّنه ، وطمعه بجده ، على أن قبض عليه ، وأخرق به ، ثم أطلقه ، فقصد السلطان مستغيثا شاكيا ، فأرسل السلطان إلى نظام الملك برسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاسانيّ وغيرهما من أرباب دولته يقول له : إن كنت شريكي في الملك ، ويدك مع يدي في السلطنة ، فلذلك حكم ، وإن كنت نائبي ، وبحكمي ، فيجب أن تلزم حدّ التبعيّة والنيابة ، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة ، وولي ولاية كبيرة ولم يقنعهم ذلك ، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا ؛ وأطال القول ، وأرسل معهم الأمير يلبرد ، وكان من خواصّه وثقاته ، وقال له: تعرّفني ما يقول ، فربما كتم هؤلاء شيئا.

فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة ، فقال لهم : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم ، فإنك ما نلت هذا

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ١٠ / ٢٠٤.


الأمر إلا بتدبيري ورأيي ، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره ، وقمعت الخوارج عليه من أهله ، وغيرهم ، منهم : فلان وفلان ، وذكر جماعة من خرج عليه ، وهو ذلك الوقت يتمسّك بي ويلزمني ، ولا يخالفني فلمّا قدت الأمور إليه ، وجمعت الكلمة عليه ، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة وأطاعه القاصي والداني ، أقبل يتجنّى لي الذنوب ، ويسمع فيّ السّعايات؟ قولوا له عنّي : إنّ ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة ، وإنّ اتفاقهما رباط كلّ رغيبة [رعيته] وسبب كل غنيمة ، ومتى أطبقت هذه زالت تلك ، فإن عزم على تغيير فليتزوّد للاحتياط قبل وقوعه ، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه ؛ وأطال فيما هذا سبيله ، ثم قال لهم : قولوا للسلطان عنّي مهما أردتم ، فقد أهمّني ما لحقني من توبيخه وفتّ من عضدي.

فلما خرجوا من عنده اتّفقوا على كتمان ما جرى من السلطان وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصّل ، ومضوا إلى منازلهم ، وكان الليل قد انتصف ، ومضى «يلبرد» إلى السلطان فأعلمه ما جرى ، وبكّر الجماعة إلى السلطان ، وهو ينتظرهم ، فقالوا له من الاعتذار والعبوديّة ما كانوا اتّفقوا عليه ، فقال لهم السلطان : إنه لم يقل هذا ، وإنما قال كيت وكيت ؛ فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحقّ نظام الملك ، وسابقته ، فوقع التدبير عليه ، حتى تمّ عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوما ، وانحلّت الدولة ، ووقع السيف ، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له ، وأكثر الشعراء مراثيه. فمن جيّد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطيّة :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها ، غيرة منه ، إلى الصّدف

ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام ، فسأله عن حاله ، فقال :


كان يعرض عليّ جميع عملي لو لا الحديدة التي أصبت بها ؛ يعني القتل (١).

ويذكر ابن الأثير في موضع آخر (٢) ، أن تاج الملك كان عدوّا لنظام الملك ومتهما في قتله ، كما صرّح في صفحة ٢١٠ أن تاج الملك هو الذي سعى بقتل نظام الملك ليستولي على الوزارة.

وقد يكون بحسب هذه الرواية قد أوعز تاج الملك إلى الغلام الدّيلمي كي يقتل نظام الملك ، وقد يكون أيضا الغلام الديلمي قتل نظام الملك حقدا عليه لتشيّعه ، ولا معارضة بين الاحتمالين ، كما أنّه لا معارضة بين ما ذكره مقاتل بن عطية (من أنّ ملكشاه مات اغتيالا ويؤكد هذا ما ذكر في العبر من أنّ ملكشاه سمّ في خلال) وبين ما ذكره ابن الأثير (من أنّه مات محموما) ، إذ قد يكون الصيد الذي أكله ملكشاه مسموما بواسطة الأعداء ، أو يكون قد دسّ له السمّ في غير لحم الصيد ، أو أنه مات بسبب السم ولكنّهم ظنوا موته بسبب لحم الصيد نتيجة الحمى ، ويكون سبب الحمى هو السم وهو الأقرب عندي ، ولا تعارض بين الروايتين ، وعلى فرض التعارض بين رواية ابن الأثير ورواية مقاتل بن عطية ، لا بدّ من ترجيح رواية الثاني على الأول ، لأن شهادة ابن عطيّة قريبة من الحسّ بخلاف شهادة ابن الأثير المنقولة بخبر واحد والتي تتوفر فيها دواعي الكذب حرصا على عقيدة أبناء السنّة في تلك الفترة.

ولو قيل : لا يمكننا الاعتماد على شهادة ابن عطية لكونها خبرا واحدا أيضا ، إذ كيف يمكننا أن نصدّق ما ذكره ابن عطيّة؟

قلنا : ما قيل في ابن عطية يقال أيضا في ابن الأثير ، إذ من أين نثبت حينئذ ما ادّعاه ابن الأثير.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٤.

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢١٥.


هذا مضافا إلى ترجيح شهادة ابن عطية لكونها أقرب إلى الواقعة والمنقولة بواسطة واحدة ، بخلاف المنقولة بوسائط متعددة أو بحسب السماع.

هذا مضافا إلى وجوب تقديم شهادة الإمامي الثقة على غيره حال التعارض كما لا يخفى على من جاس ديار علم الحديث والدراية.

فإن قيل : كيف وثقتم قول ابن عطية؟

قلنا : من إقراره في كتابه بالتشيع حيث ثبت عندنا صحة صدوره لوجود قرائن ، ودعوى كونه ملفّقا بحاجة إلى دليل.

ولو قيل لنا : الأصل عدم تشيّعه! قلنا : إنما يجري الأصل المذكور حال الشك ، وهو منتف عندنا ، وعلى فرض عدم تشيّعه يتساوى حينئذ قوله مع ابن الأثير ، ويتعارضان ـ على أقل تقدير ـ فيؤخذ بقول ابن عطية لقيام القرينة على ذلك لا سيّما أن ابن الأثير نفسه اعتمد عليه ونقل عنه شعره في مدحه لنظام الملك ، ولو لم يكن موثوقا عند ابن الأثير فكيف يأخذ بقوله ويعتمد عليه ويصف (١) شعره بأنه من أحسن ما قيل في نظام الملك؟!.

٣ ـ وأما مقاتل بن عطيّة :

مؤرّخ جليل وشاعر وأديب ، ثقة نقّاد ، يلقب بشبل الدولة ، أصله عربي ، من الحجاز ، ارتحل منها إلى بغداد ، ثم إلى خراسان فكان من المقربين لنظام الملك.

قال المؤرّخ ابن خلكان :

أبو الهيجاء مقاتل بن عطيّة البكريّ الحجازيّ ، الملقّب شبل الدولة ؛ كان من أولاد أمراء العرب فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم ،

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٦.


ففارقهم ووصل إلى بغداد ، ثم خرج إلى خراسان واختصّ بالوزير نظام الملك وصاهره ، ولما قتل نظام الملك رثاه أبو الهيجاء ببيتين ثم عاد إلى بغداد وأقام بها مدة وعزم على قصد كرمان مسترفدا وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء ، وكان من الأجواد المشاهير فكتب إلى الإمام المستظهر بالله قصّة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور مضمونه : «يا أبا الهيجاء ، أبعدت النجعة ، أسرع الله بك الرّجعة وفي ابن العلاء مقنع ، وطريقة في الخير مهيع وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره ، وتستعذب مياه برّه ، والسلام».

فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر واستغنى عن الكتاب ، وتوجه إلى كرمان فلما وصلها قصد حضرة الوزير ، واستأذن في الدخول ، فأذن له ، فدخل عليه ، وعرض على رأيه القصّة ، فلما رآها قام وخرج من دسته إجلالا لها ، وتعظيما لكاتبها ، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته ، فعرّفه أبو الهيجاء أنّ معه قصيدة يمدحه بها ، فاستنشده إياها ، فأنشده:

دع العيس تذرع عرض الفلا

إلى ابن العلي وإلّا فلا

فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى ، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى ، وخلع عليه ، وقاد إليه جوادا بمركبه وقال له :

دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع وقد دعى لك بسرعة الرّجوع ؛ وجهّزه بجميع ما يحتاج إليه فرجع بغداد ، وأقام بها قليلا ، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى خراسان ، ونزل إلى هراة ، واستوطنها ؛ ومرض في آخر عمره ، وتسودن ، وحمل إلى البيمارستان وتوفي به حدود سنة خمس وخمسمائة رحمه‌الله تعالى (١).

__________________

(١) وفيات الأعيان ج ٥ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، ط / بيروت ، رقم الترجمة ٧٣٤.


وقال خير الدين الزركلي :

مقاتل بن عطيّة البكري الحجازيّ ، أبو الهيجاء ، شبل الدولة ، شاعر من بيت إمارة في البادية.

رحل من الحجاز وسكن بغداد ، ثم تنقّل في البلاد إلى أن أقام في خراسان ، واختص بالوزير نظام الملك فصاهره ، ولمّا قتل نظام الملك عاد إلى بغداد. طاف البلاد مسترفدا أمراءها ففاز بمال وافر ، وأقام بمرو إلى أن مات. وكانت بينه وبين الإمام الزمخشري مكاتبات ومداعبات ، وشعره جيّد (١).

ويعرف صدق لهجته واعتقاده بأحقية ما يعتقده الشيعة وأن الحق معهم ، من الشعر الذي أنشده بحق عمه «والد زوجته» نظام الملك ، وكل من ترجم له من مؤرخي السنة لم يذكر من شعره المؤلف من ستة أبيات ، سوى بيتين فقط قال في مرثيته :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

نفيسة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصّدف (٢)

اختار مذهب حق في محاورة

تبدى الحقيقة في برهان منكشف

دين التشيّع حق لا مراء له

وما سواه سراب خادع السجف

لكنّ حقدا دفينا حرّكوه له

فبات بدر الدجى في ظل منخسف

عليه ألف سلام الله تالية

تترى على روحه في الخلد والغرف (٣)

__________________

(١) الأعلام ج ٧ / ٢٨١ ، ط بيروت.

(٢) هذان البيتان رواهما ابن الأثير في الكامل ج ١٠ / ٢٠٤ ، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ج ٣ / ٣٧٥.

(٣) الأبيات الأربعة الأخيرة ذكرها مقاتل في آخر الكتاب وعدم ذكر مؤرخي العامة لها واضح لا يحتاج إلى تفسير.


وأما النقطة الثانية :

وهي : هل هذه المحاورة حقيقة خارجيّة أم نظرية افتراضية؟

والجواب :

وافق بعض المحقّقين (١) على الثاني معتمدا على جملة قرائن ارتقت به إلى درجة الاطمئنان ، ونحن إذ نجلّ ونحترم رأيه ، لكننا ملزمون بمناقشة ما أورده ، لعدم صلوح تلك الإيرادات لتكون بمجموعها دليلا أو قرائن متعدّدة ترقى به إلى افتراضية المحاورة ، أو نفي حصولها في بغداد!

ونحن لا نستبعد صحة حصول المحاورة في بغداد وذلك للأمور التالية :

أولا : إنّ احتمال كون الكتاب لمقاتل بن عطيّة مقدّم على احتمال أن يكون قد وضعه بعض من تأخّر عنه ، لأن الاحتمال الأول أقوى من الاحتمال الثاني المبني على أصالة العدم ، ولابنتائه ـ أي الأول ـ على معلوم الحال بعكس الثاني المبتني على مجهول الحال. ولو فرضنا تساوي الاحتمالين ـ مع أنهما ليسا بمتساويين ـ فحينئذ يتساقطان ، إلّا إذا وجدت قرائن تفيد الاطمئنان على الوقوع أو عدم الوقوع.

ثانيا : اعتراف كل من أرّخ عن ملكشاه ونظام الملك حبّهما للعلم والعلماء ، لا سيما نظام الملك الذي عرف مجلسه بالقرّاء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح ، ولا شك أنّ كثرة ملازمة العلماء والخوض مع الفقهاء وأئمة المسلمين يدفع بالفرد إلى حبّ الاستطلاع والتحرّي عن الحقيقة.

ثالثا : إنّ شدة مواظبتهما على زيارة مشاهد الأئمة في العراق ومشهد الإمام الرضا عليه‌السلام في إيران لدلالة ساطعة على تشيّعهما ؛ فقد أرّخ ابن الأثير

__________________

(١) هو أخي العلّامة السيد جعفر مرتضى سدّده المولى ، ذكر هذه الإيرادات في الفصل الأخير من الجزء الأول لكتاب «مأساة الزهراء (ع)».


عنهما أنّهما (أي ملكشاه ونظام الملك) زارا مشهد الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وقبر معروف ، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرها من القبور المعروفة ، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنّئ نظام الملك بقصيدة منها :

زرت المشاهد زورة مشهورة

أرضت مضاجع من بها مدفون

فكأنك الغيث استهلّ بتربها

وكأنها بك روضة ومعين

فازت قداحك بالثواب وأنجحت

ولك الإله على النجاح ضمين (١)

كما أنه زار مشهديّ أمير المؤمنين علي والحسين عليهما‌السلام (٢)

هذا مضافا إلى دعواتهما تحت قباب مشاهد الأئمة ، ولو لا اعتقادهما الصحيح بهم عليهم‌السلام لما زارا مشاهدهم ودعيا الله تعالى عندهم عليهم‌السلام ، وإلا كان بإمكانهما أن لا يزورا تلك المشاهد المقدّسة لا سيما مع وجود ضرائح لكبار علماء العامة في العراق وإيران ، كما أنّ زيارتهما لتلك الأماكن المقدّسة مع كون الشيعة في أقصى حالات التقيّة والخوف وسيطرة الحكام الظالمين على مقدّراتهم الاجتماعية والاقتصادية مؤشر عظيم لما قلنا ، هذا بالغضّ عن أن زيارتهما لتلك الأماكن توجب سخط العامّة المتعصّبين ، ولكنهما لم يعبأ بما يوجب الهلاك لهما مع اعتقادهما بولاية العترة الطاهرة ، فقد روى ابن الأثير :

«أنّ السلطان لمّا خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فزاره ، فلما خرج قال لنظام الملك : بأيّ شيء دعوت؟ قال : دعوت الله أن ينصرك (في نسخة أن ينصرنا) ، فقال : أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت : اللهمّ انصر أصلحنا للمسلمين وأنفعنا للرعيّة» (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ١٥٦ وتعبيره بالقبر المعروف هو قبر الإمام الجواد وغيرها من القبور المعروفة إشارة إلى قبور الأئمة في الكاظميين وسامرّاء.

(٢) نفس المصدر ص ١٥٦.

(٣) الكامل في التاريخ ، ج ١٠ / ٢١١.


وهنا تساؤل :

لما ذا هرع إلى زيارة مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما علم أن أخاه تكش خرج عليه طالبا للسلطة ، مع أنه بإمكانه أن يهرع بالدعاء إلى أحد قباب علماء العامة ليدعو الله تعالى عندها لينجيه من أخيه.

ويمكننا أن نجيب ببساطة أن فعلهما المزبور ليس إلّا علامة حبّ وتقدير للأئمة عليهم‌السلام ، وهما فرع المعرفة والاعتقاد بإمامتهم عليهم‌السلام.

إذن ، لو لم يعتقدا بإمامة الأئمة عليهم‌السلام لم يكن هناك مسوّغ لزيارتهم والدعاء عندهم ، وليس هناك ما يدلّ على حقيقة أو سبب تشيّعهما سوى ما جرى بالمحاورة في بغداد المنقولة بواسطة مقاتل بن عطية على أقل التقادير ، فيشكّل هذا قرينة على صحّة وقوع المحاورة والله أعلم.

وأما الإيرادات التي شكّلت قرائن على كون المحاورة افتراضية فهي التالي :

الإيراد الأول : الأسلوب التعبيري ؛ بمعنى أنّ كثيرا من موارد الكتاب قد استعملت فيها تعابير لم تكن متداولة في تلك الفترة الزمنية ، منها كلمة : مؤتمر التي وردت في ستة مواضع من الكتاب ، فهذا يشكّل قرينة على أن المحاورة افتراضية.

يجاب عنه :

١ ـ إن كلمة «مؤتمر» المضافة إلى الكتاب ليست من صنع مقاتل بن عطيّة ، والدليل عليه أنّ ابن عطية ذكر في آخر الكتاب أنه كان حاضرا في المجلس والمحاورة ، فقد استعمل كلمة «مجلس ومحاورة» ، كما أنّه ذكر في البيت الثالث من شعره أن نظام الملك :

اختار مذهب حقّ في محاورة

تبدي الحقيقة في برهان منكشف


ولم يستعمل كلمة «مؤتمر» كما في أوائل الكتاب ممّا يعطينا اطمئنانا أن كلمة «مؤتمر» استحدثها بعض من طبعوا الكتاب ، وقس عليها بقيّة الموارد المستحدثة في الكتاب.

٢ ـ إن الإيراد المذكور لم يأخذ بنظر الاعتبار مسألة التلاعب والتحريف في الأحاديث النبويّة التي تكتسب هالة مقدّسة عند المسلمين ومع هذا مستها أيدي السوء ، فكيف بكتاب صغير ليس عليه أيّ حصانة تمنع من طروء التلاعب ببعض عناوينه ومصطلحاته لا سيما وأنّ الكتاب قد مضت على كتابته مئات السنين ، فمثلا لم تمض على وفاة العارف جواد الملكي التبريزي خمسون سنة حتى بدّل عنوان كتابه : «السير إلى الله» إلى ثلاثة أسماء.

١ ـ الرسالة اللقائية.

٢ ـ رسالة لقاء الله.

٣ ـ السير والسلوك.

مع أنّ مؤلف الكتاب ذكر في كتابه أسرار الصّلاة اسم الكتاب : «السير إلى الله» ، ولهذا فإنّ طبعة عام ١٩٩٠ م تحت عنوان «السير إلى الله» هي الحجّة لأنّ الناشر أثبت قول المصنّف الذي هو الحجّة في المقام.

هذا مضافا إلى أنّ عناوين كتاب : «السير إلى الله» لم يضعها المؤلف وإنما وضعها بعض من تأخّر عنه. فإذا كان حال كتاب لم يمض عليه قرن قد حرّفت بعض مضامينه فكيف بكتاب مضى عليه قرون؟!

الإيراد الثاني : ركاكة التعابير وأخطاء نحويّة :

يجاب عنه :

١ ـ وإن كان شبل الدولة أبو الهيجاء كاتبا وشاعرا ، يبعد أن تصدر منه أمثال هذه الأخطاء ، وهكذا العلماء المتواجدون في المجلس ، وفي أغلب


المحاورات لا يراعي المحاور القواعد الإنشائية أو النحوية وغيرها لا سيّما وأنّ كل فريق يستجمع فكره ومشاعره للتغلب على الآخر وهو ملحوظ حتى عند كبار الأدباء والعلماء.

٢ ـ إنّ يد التحريف لم تقتصر على تحريف المضامين التاريخية فحسب بل تحاول أن تطال الألفاظ والصّيغ الإنشائية ، لتبعد بالنصّ عن حقيقته وتصبغ عليه هشاشة التعبير فيقلّ الاطمئنان به بل يكاد ينعدم عند قارئه.

هذا مضافا إلى أنّ وجود أخطاء نحويّة في الكتاب ليست دليلا على المدّعى ، ولا يقدح بصدور الكتاب عن شبل الدولة ، ولا ينفي الواقعة من أساسها ، بل إنّ الأخطاء النحوية وركاكة التعبير لا يخلو منها كتاب علميّ في العصور المتقدّمة وفي عصرنا الحاضر الذي كثر فيه فن الطبع والكتابة ، ومع هذا تجد الكثير من هذه الأخطاء ، فكيف بعصر انعدمت فيه وسائل العلم ، فصار المحرّر يكتب ما يعرفه من الألفاظ من دون مراجعة ؛ ومن هنا كثر التصحيف في الروايات وغيرها.

٣ ـ إنّ الأخطاء المذكورة لا تعدو كونها أخطاء تعمّدها الأعداء للحطّ من قدر الكتاب وقيمته العلمية ، لا سيّما أنه موضع نظر كلّ من طالعه حيث يتميّز عن غيره من الكتب التاريخية بقوّة الحجج مع سلاسة التعبير ، حتى صار الكتاب شوكة في أعين الحاقدين.

الإيراد الثالث : وقوع خطأ في آية قرآنية كقوله : «إنّا هديناه النّجدين» والصحيح «وهديناه النجدين».

يجاب عنه :

إنّ هذا لا يصح أن يكون مستندا أو قرينة ترقى به إلى فرضيّة المحاورة ، بعد أن عرفنا أنّ الأخطاء الإنشائية وغيرها تغصّ بها كتب عصر التطوّر


والتكنولوجيا ، فكيف بتلك العصور القاحلة؟!

الإيراد الرابع : الاستغراب من الملك شاه كيف كان محبّا للعلم وفي نفس الوقت جهله بوجود طائفة شيعيّة ، بالإضافة إلى استغرابه من ألب أرسلان كيف لم يؤدّب ابنه ملكشاه للمنصب الذي سيتصدّى له ولما ذا لم يحشد له من العلماء والمتخصّصين لتعليمه؟

ويجاب عنه :

كيف يعقل أن يخصّص ألب أرسلان لولده ملكشاه كل ما ذكر مع أنّ الأمراء والحكام جلّ اهتمامهم بتدبير سلطانهم واللهو مع جواريهم ونسائهم ، من هنا نرى أغلب السلاطين لا سيّما في تلك العصور كانوا يستعينون بأصحاب الرأي والمشورة عند إقدامهم على الأمور الخطيرة. وقد حدّثنا التاريخ كيف أنّ أبا بكر وعمر بن الخطاب وهما من أكابر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانا يستعينان بمولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكانت تخفى عليهما أبسط الأمور لا حاجة لنا لذكرها هنا ، بل صاحب الإيراد يعلم ذلك وبالتفاصيل.

هذا مضافا إلى أنّ ملكشاه كان يستعين بنظام الملك ، وكان جلّ اهتمامه بالصّيد ، مع التأكيد على أن ألب أرسلان لم يكن بذاك المستوى الإيماني الذي يؤهّله لأن يخصّص لابنه من يؤدّبه.

الإيراد الخامس : إن ملكشاه كان طائشا في حين أنّ الكتاب المذكور يصفه بالحنكة والعقل. فمن طيشه أنه أعطى قرارا بقتل الشيعة كلّهم لكنّ نظام الملك ردّه عن ذلك.

يجاب عنه :

إن صدور الرعونة والطّيش لا يفلت منه أحد من كبار العلماء والحكماء سوى من سدّده الله تعالى ، فكيف بمن قضى حياته في الحرام إلى أن وفّقه الله


تعالى للهداية والإيمان. فما صدر منه كان زلّة لسان ، ونفثة شيطان (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي).

الإيراد السادس : يصرّح الكتاب بأنّ أهل السنّة اغتالوا ملكشاه ووزيره ، في حين أنّ ابن الأثير ذكر أن الذي دبّر قتل نظام الملك هو ملكشاه نفسه ، وأمّا الملك شاه فقد مرض ومات.

وهذا الإيراد قد أجبنا عنه في الترجمة فليلاحظ.

الإيراد السابع : الملك لا يثق إلّا بوزيره مع وجود علماء كبار ، فكيف لا يثق بهم ملكشاه؟

ويجاب عنه :

إنّ ملكشاه لم يعتقد بقول الفريقين لكونهما خصمين متنازعين ، والقاضي وظيفته الفصل بين المتنازعين لا أن يكون طرفا ، وإنما يصبح طرفا إذا حصل على قرائن وبيّنات تأخذ بعنقه لكي يكون مع أحد المتنازعين ، وملكشاه أخذ ببيّنة وزيره لكونه مطلعا (١) على تاريخ الفرق الإسلامية ولمعاشرته للفقهاء والعلماء وقد علمنا بترجمة نظام الملك أنّ مجلسه كان عامرا بالفقهاء ، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما.

الإيراد الثامن : الاستغراب من عدم حضور العلماء البارزين في تلك الفترة ، ولو كانوا حاضرين فلما لم يعلن عن أسمائهم؟

هذا مضافا إلى عدم حصولنا على معلومات عن درجاتهم العلمية.

يجاب عنه :

إنّ عدم وجود علماء مشهورين في المحاورة ليس دليلا على عدم

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٨.


وقوعها ، إذ إنّ حضورهم فرع دعوة السلطان لهم ، وعدم دعوته لهم إنما هو لأسباب لم نطّلع عليها. وأما عدم حصولنا على معلومات عن العلماء المشاركين في المناظرة وعن دورهم وأثرهم في البلاد لا يكون مبرّرا أيضا لعدم إحاطتهم العلمية وعدم قدرتهم على المجادلة ، إذ إنّ إتقان فنّ المجادلة ليست حكرا على العلماء البارزين وليس الإقناع منحصرا بهم حتى يقال لما لم يكونوا حاضرين؟.

مع التأكيد على عدم وجود ملازمة بين عدم معرفتنا بهم وبين عدم إحاطتهم العلمية ، فربّما كانوا محيطين وقادرين على الجدال والمناقشة وإن كنّا لا نعرفهم أو لم نحصل على معلومات عن درجاتهم العلميّة ، وما نراه من خلال المحاورة أنّ العلويّ كان محيطا بكثير من التفاصيل والدقائق التاريخية والفقهية ، فما ادّعاه صاحب الإيراد مصادرة على المطلوب.

بل إن حصر إحاطة العلماء البارزين بمسائل التاريخ وأحكام الفقه وعلم الكلام والفلسفة ما هي إلّا دعوى بحاجة إلى برهان ودليل ، مع أن العكس قد يكون هو الصحيح لا سيّما وأن الظروف الموضوعية والسياسات الوضعية سيّدة الموقف ترفع وتضع من شاءت بلا حساب ، وأكبر شاهد على ما قلنا ما نلحظه اليوم من سياسات عرجاء خفّضت أكابر العلماء وأقعدتهم في بيوتهم ، كل ذلك لأنهم يخالفونها الرأي ولا يتبنّون أفكارها ، وفي المقابل رفعت أشخاصا لم نكن نسمع بذكرهم بل ليس لهم باع في سوق العلم.

هذا مضافا إلى أنّ عدم معرفتنا بهؤلاء العلماء لفقدان المعلومات عنهم في كتب التراجم والتاريخ قد يكون نتيجة عوامل قسرية حجبت تراجمهم عنّا ، وفي تاريخنا شواهد كثيرة على مثل ذلك ، لا سيما في العهدين الأمويّ والعباسيّ حيث أخفيت خلالهما تراجم كثير من العظماء الذين وقفوا في وجه الظلم والفساد في تلك الفترة ؛ بل إنّ بني أمية دسّوا في متون الأخبار فضائل عن


بني أميّة ، كما وتلاعبوا بالأسانيد الصّحاح وأضافوها إلى أخبار تمجّد ملكهم ، وتقدح بكلّ من خالفهم.

الإيراد التاسع : إنّ الكتاب خلط بين مفهوميّ الإمامة والخلافة ؛ بمعنى أنّه يتحدّث عن الخلافة بطريقة الحديث عن الإمامة ، ثم استشهد بما ذكره الكتاب ص ١١١ حينما قال : «لم يتّخذهم كل المسلمين خلفاء ، وإنما أهل السنّة فقط».

ثم قال صاحب الإيراد : «فإن هذه العبارة تعني أنّ الحديث عن الإمامة لا عن الخلافة لأنّ خلافتهم وحكومتهم إنما هي حدث تاريخيّ لا يمكن إنكاره من شيعي وسني ولكن الكلام والجدل إنّما هو في أنّ هذه الحكومة هل هي مشروعة أم لا؟ كما أنّ الكلام إنما هو في إمامة علي عليه‌السلام التي تكون الحكومة أحد مظاهرها ...».

يجاب عنه :

ليس في العبارة أيّ خلط بين مفهوميّ الإمامة والخلافة ، لأنّ المتنازع عليه بعد رحيل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما هو الخلافة لا الإمامة ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام إمام سواء استلم الخلافة أم لا ، فحينما كان عليه‌السلام جليس داره سنوات عديدة كان إماما ، وخلافته التي هي أحد مظاهر إمامته قد اغتصبها القوم ، والقوم ادّعوا الخلافة ولم يدّعوا الإمامة ، والمسلمون السّنّة يعتقدون بالخلافة لا بالإمامة ، لكون الخلافة رئاسة دنيوية ترك النبي ـ بزعمهم ـ أمر تفويضها إلى الأمة ، تختار منها رجلا يقود الناس ، ولو فرض استعمال كلمة إمامة بدلا من خلافة أو بالعكس فمن باب التسامح بالألفاظ أو من قبيل ترادف لفظين لمعنى واحد.

الإيراد العاشر : ذكر الكتاب أنّ معاوية سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام


أربعين سنة وامتدّ سب الإمام إلى سبعين سنة ، مع أن معاوية أعلن بسب الإمام عليّ حوالي ٢٣ سنة ، وامتدّ سبّهم للأمير عليه‌السلام أكثر من ثمانين سنة.

والجواب :

إنّ الكتاب صرّح بأن معاوية كان يسبّ عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أربعين سنة وهذا غير بعيد ، لأنّ معاوية كان معروفا ببغضه لعليّ عليه‌السلام هو وأبوه أبو سفيان ولا يبعد أنّه كان يسبّ الإمام عليّا عليه‌السلام قبل أن يستلم الحكم في بلاد الشام (ويشهد له أنّ زياد بن أبيه وهو أمويّ كان يسبّ الإمام عليّا عليه‌السلام قبل موته عام ٥٣ ه‍ بسنوات) ثم تجاهر بالسبّ وأمر الخطباء والعلماء أن يسبّوه على المنابر خلال فترة حكمه.

وبعبارة : إنّ معاوية قد تجاهر بسبّ الإمام عليه‌السلام خلال فترة حكمه ٢٣ عاما ، وبقيّة السبعين أو الثمانين كانت موزعة على فترة ما قبل استلام معاوية للسلطة وبعدها إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فرفع السبّ ، ولكن بقي الحاقدون يسبّون الإمام عليه‌السلام.

فملخص القول :

إنّ مدة السبّ تراوحت ما بين السبعين إلى التسعين سنة ، فمبدأ التجاهر بالسبّ كان بأمر من زياد بن أبيه كما نصّ على ذلك العلّامة المجلسي (قدس‌سره) (١).

ثم أمر به معاوية ثانية وأكدّ عليه حتى صار سنّة لا تترك ، وكان ذلك أول خلافته على بلاد الشام عام ٤٠ ه‍ إلى أن توفي عام ٦٠ ه‍ ، ثم استمر السب طيلة حكم بني أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز فأبطله وكتب إلى نوابه بإبطاله (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٩ / ٣٢١.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٤٢. وسفينة البحار ج ٢ / ٢٧١ نقلا عن حياة الحيوان للدميري.


وقرأ مكانه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

ففترة السب الأموي هي على الشكل التالي :

١٦ سنة قبل تسلم معاوية للخلافة الإسلامية في الشام أي منذ أن وليّ عثمان الخلافة عام ٢٤ ه‍ وجمع لمعاوية الشام وجعله عليها أميرا (٢) من قبله. وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ٣ ص ٢٨٧ : «أن المغيرة بن شعبة كان يلعن عليا عليه‌السلام لعنا صريحا على منبر الكوفة ، وكان بلغه عن عليّ في أيام عمر أنه قال : لئن رأيت المغيرة لأرجمنّه بأحجاره ..» ، ثم نقل عن أبي جعفر أنه قال : قد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع (يعني الرعدة) عند ذكر علي عليه‌السلام فيسبّه ، بل من المظنون جدا أن السب كان قبل أن يولّي عثمان معاوية إمارة الشام ، وذلك حينما أمّره عمر بن الخطاب واليا عليها ، ولكنه لم يسبّه علنا وإنما في المجالس الخاصة ، ولكن بعد توليه للخلافة عام ٤٠ ه‍ أمر ولاته وقضاته وكل من له سلطة عليه بسبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وبقي شعارا لبني أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز.

لكن قد يقال : إنّ المراد بالسب هو إعلانه على الناس لا الإسرار به.

والجواب : إن حكم السب واحد ، سواء كان في المحافل الخاصة أم كان بأمر رسمي ، وكون معاوية سبّ أمير المؤمنين أربعين سنة ليس المراد منه التجاهر بالسبّ فحسب بل الأعم منه.

وها نحن نضع بين يدي القارئ جدولا زمنيا يبيّن فترة السبّ منذ عهد عثمان بن عفان.

__________________

(١) سورة النحل : ٩٠.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٤٣١.


١ ـ أيام عثمان بن عفّان ، وفترة من

عهد عمر بن الخطاب.

أكثر من ستة عشر عاما.

٢ ـ خلافة معاوية بن أبي سفيان

من عام ٤٠ ه‍ إلى عام ٦٠ ه‍.

٣ ـ خلافة يزيد بن معاوية

٣ سنوات وستة أشهر (١) ، وقيل ثمانية أشهر.

٤ ـ خلافة معاوية بن يزيد

٤٠ يوما وقيل ثلاثة أشهر (٢)

٥ ـ خلافة مروان بن الحكم

تسعة أشهر ، وقيل عشرة (٣)

٦ ـ خلافة عبد الملك بن مروان

٢١ سنة وشهرا ونصف (٤)

٧ ـ خلافة الوليد بن عبد الملك

تسع سنين وسبعة أشهر ، وقيل تسع سنين وثمانية أشهر ، وقيل تسع سنين وأحد عشر شهرا (٥)

٨ ـ خلافة سليمان بن عبد الملك

سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام ، وقيل سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام (٦)

٩ ـ خلافة عمر بن عبد العزيز

في عهده انقطع السبّ رسميا ، ولكنه بقي على ألسن الناس إلى آخر ملوك بني أمية ، ومدة خلافته : سنتين وخمسة أشهر (٧).

١٠ ـ خلافة يزيد بن عبد الملك

مدة خلافته : أربع سنين وشهرا وأياما (٨).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ / ١٢٥ ، وتاريخ الطبري ج ٤ / ٣٨٤.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٤ / ١٤٠ ، والطبري ج ٤ / ٣٨٦.

(٣) تاريخ الطبري ج ٤ / ٤٧٥.

(٤) الكامل ج ٤ / ٣٣٧ ، والطبري ج ٤ / ٢١١.

(٥) الكامل ج ٥ / ٨ ـ ٩.

(٦) الكامل ج ٥ / ٣٧.

(٧) الكامل ج ٥ / ٥٨.

(٨) الكامل ج ٥ / ١٢٠.


١١ ـ خلافة هشام بن عبد الملك

مدة خلافته : ١٩ سنة وسبعة أشهر (١) ، وقيل : تسعة أشهر وواحد وعشرين يوما.

١٢ ـ خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

مدة خلافته : سنة وشهرين (٢) واثنين وعشرين يوما.

١٣ ـ خلافة يزيد بن الوليد

مدة خلافته : ستة أشهر (٣) واثني عشر يوما.

١٤ ـ خلافة إبراهيم بن الوليد

مدة خلافته : ثلاثة أشهر (٤) ، وقيل أربعة أشهر.

١٥ ـ خلافة مروان بن محمد

مدة خلافته : ٥ سنين وعشرة أشهر (٥) وستة عشر يوما.

وبالجملة تكون فترة السبّ منذ عهد معاوية إلى عهد عمر بن عبد العزيز ٦٩ سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما تقريبا. أما إذا جمعنا ثلاث وعشرين سنة فترة معاوية وابنه يزيد مع مدة السبّ السري الذي دام حدود ١٦ سنة فيكون المجموع ٣٩ عاما وثمانية أشهر ، بل يمكن أن نتخطّى المدة المذكورة فيما لو حسبنا أن بداية ولايته على بلاد الشام ومبايعة أهلها له إنّما كانت عام ٣٧ للهجرة ـ حسبما جاء في تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٣٩ ـ فيكون مجموع عهده ٢٣ عاما.

__________________

(١) كشكول البهائي ج ٣ / ٣٨٨ والكامل ج ٥ / ٢٦١.

(٢) الكشكول ج ٣ / ٣٨٨ والكامل ج ٥ / ٢٨٩.

(٣) الكامل ج ٥ / ٣١٠.

(٤) الكامل ج ٥ / ٣١١.

(٥) الكامل ج ٥ / ٤٢٨ والكشكول ج ٣ / ٣٨٨.


وبالغضّ عن كل ذلك فإنّ «مؤتمر علماء بغداد» لم يحدّد تجاهر معاوية بالسبّ وإنما قال ما نصّه : «لأنه [أي معاوية] كان يسبّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى أربعين سنة ، وقد امتدّ سبّ الإمام إلى سبعين سنة» فأين هذا من قول صاحب الدعوى من أنّه [أي معاوية] «قد أعلن بسبّ الإمام عليّ عليه‌السلام حوالى ٢٣ سنة ..» ففرق بين سبّ الإمام عليه‌السلام إلى أربعين سنة وبين «الإعلان» بالسبّ الذي ادّعاه المحقق المذكور!! .. فالسبعة عشرة عاما المتبقية كانت قبل حكم معاوية ، وعليه فما قاله في «المؤتمر» ليس خطأ فادحا بل هو موافق للاعتبار عند التدقيق.

وفي الختام سواء أكان السبّ سبعين عاما أم ثمانين وأكثر فإنه لا يقدح بأصل المحاورة لا سيما وأن المحاور لا يستجمع فكره جيدا في المعلومات التاريخية المبثوثة في بطون الكتب ، وطبيعة المحاورات أن يخطئ المتحاوران في ضبط المعلومات.

تخيل أيها العزيز أن على المحاور في جلسة ما أن يحضر معه إلى جلسة التحاور مكتبة لينطق عن مدة سب الإمام بالتحديد وغيره من المواضيع فجأة دون تحضير لحساسية الخوض في تاريخ ملك فلان وفلان. أفيحتمل ذلك العقل احتواء كل المعلومات وسط محاورة ضخمة وأن يسع فكره تواريخ الزمان برمّتها وبالتحديد دون زيادة أو نقصان؟! كيف وكلّ منا معرّض للسهو والنسيان؟!

هذا مضافا إلى أنه ليس لدينا معلومات دقيقة عن فترة السب ، لكن ما لدينا أنها تراوحت ما بين الأربعين إلى ثلاث وثمانين سنة أي إلى آخر حكم بني أميّة. فالمؤرّخ الأميني رضوان الله تعالى عليه ذكر في كتابه الغدير ج ١٠ ص ٢٦٥ قال : لم يزل معاوية وعماله دائبين على ذلك ـ أي السبّ ـ حتى تمرّن عليه الصغير وهرم الشيخ الكبير ، ولعلّ في أوليات الأمر كان يوجد هناك من


يمتنع عن القيام بتلك السبّة المخزية ، وكان يسع لبعض النفوس الشريفة أن يتخلّف عنها ، غير أن شدّة معاوية الحليم في إجراء أحدوثته ، وسطوة عماله الخصماء الألداء على أهل بيت الوحي ، وتهالكهم دون تدعيم تلك الإمرة الغاشمة وتنفيذ تلك البدعة الملعونة ، حكمت في البلاد حتى عمّت البلوى وخضعت إليها الرقاب .. فكانت العادة مستمرة منذ شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى نهي عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر وفي الحواضر الإسلامية كلها من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرّفة إلى حرم أمن الله مكة المعظّمة إلى مشرق العالم الإسلامي وغربه ، وعند مجتمعات المسلمين جمعاء ، لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابر الشرق والغرب ولم يلعن على منبر سجستان إلا مرّة ..».

فهنا صرّح قدّس سره : أن اللعن دام أربعين سنة في حين لو دققنا بالفترة ما بين حكم معاوية وعمر بن عبد العزيز لكان العدد فاق الأربعين قطعا.

إذن هناك تسامح بتحديد الفترة بدقة ؛ لكنّ القدر المتيقن أن السبّ بقي أربعين عاما بالضبط ، أما الزائد فمختلف فيه ، والله أعلم بحقائق الأمور.

الإيراد الحادي عشر : مفاده : أن الكتاب خلط بين السبّ واللعن ، حيث ادّعى الكتاب جواز سبّ الصحابي المنحرف ، ولكنه استدل بما يثبت جواز اللعن لا السبّ.

والحق أن يقال :

إنّ هذا الإيراد صحيح لا غبار عليه ، لكن سبحان من لا ينسى ولا يجهل. لكن قد يقال : إن السب من اللوازم البعيدة للعن ، لأن اللعن عبارة عن الطرد من الرحمة الإلهية والسب عبارة عن الانتقاص من الفاسقين والمارقين والكافرين ، وجواز لعن هؤلاء وطردهم من الرحمة يستتبع الانتقاص منهم وعدم


استحقاقهم لنيل الرحمة والغفران ، وليس هذا إلا انتقاصا منهم واستحقارا لشأنهم ، وإلّا لو لم يستتبع الانتقاص لا لاستتبع الإطراء والمديح ، وهذا لم يقل به أحد ، لأن اللعن لا يخلو من أمرين:

إما فيه مديح وإطراء ، وإما فيه انتقاص وازدراء ، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني لأن الطرد كما قلنا لا يعتبر عرفا ولغة مديحا حتى يقال : إنه لا يستتبع الانتقاص ، لذا جمع الكليني في أصوله روايات نزّلت اللعن منزلة السب. روى في باب السباب الحديث السادس عن أحدهما عليه‌السلام قال : إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها تردّدت ، فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها.

فقد أقحم الكليني عليه الرحمة أخبار اللعن في باب السباب ، وذلك لوجود مشابهة بين المفهومين في بعض اللوازم كما لا يخفى عند التأمل.

من هنا نهى سبحانه المؤمنين أن يسبّوا الذين يدعون من دون الله لئلا يسبوا الله عدوا بغير علم (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١). فعلّة تحريم السب من أجل أن لا يتطفل المسبوبون على الله تعالى فيسبونه بغير علم.

من هنا أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة فقال لهم : «لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم». وغيرها من الروايات التي نهت عن سبّ وشتم معتقدات الكافرين لأن السبّ والشتم لا يمنعان أحدا من المضي في طريق الخطأ ، بل إن السب يزيد في تعصبهم وعنادهم ولجاجهم ، فيستسهلون إطلاق ألسنتهم بسب مقام الربوبية ومقام الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

الإيراد الثاني عشر : وهو أن الكتاب ذكر أن سورة عبس نزلت في عثمان كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وصاحب الإيراد لم يرتض هذا

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٨.


الكلام بل هو غير دقيق بنظره لأن الرواية إنما ذكرها القمي في تفسيره ، وذكرها الطبرسي في مجمع البيان ، فلا يوجد أحاديث بصيغة الجمع ، بل إن رواية الطبرسي عن الإمام الصادق لم تصرّح باسم عثمان ، بل قالت : نزلت في رجل من بني أمية.

والجواب :

١ ـ إنّ الإتيان بصيغة الجمع قد يراد منه الجمع المنطقي وهو اثنان ، وفي هذا المورد توجد روايتان : الأولى تصرح باسم عثمان وقد ذكرها علي بن إبراهيم القمي ، والثانية تبهم اسمه بل تصرّح بكونه من بني أمية ، وقد رواها صاحب البرهان والشيخ الطبرسي وأمثاله.

وإن كان الأرجح أن الرجل من بني أمية هو عثمان لكونه أمويا ، ولو كان العابس غير عثمان لكان ورد خبر يدل عليه ، وحيث لم يرد أي خبر يفصح عن غير عثمان ، ثبت أن عثمان هو المقصود ، فعدم التصريح باسم عثمان في روايات العامة يشهد بما قلنا من أنه المقصود بالعبوس لا غيره. فالإتيان بصيغة الجمع يعدّ تسامحا لكون المسألة من المتسالم عليها في الأوساط العلمية آنذاك وما زالت ، فما ذكره الكتاب لا يقدح أو يخدش في صحة المضمون.

٢ ـ عدم تصريح الطبرسي باسم عثمان ليس دليلا على أنه غير مقصود ، لأن فحوى الرواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنها في مورد التقية. هذا مضافا إلى أن الاعتقاد بنزول السورة في رجل من بني أمية أو الاطمئنان على أقل تقدير لتسالم الشيعة على هذا الأمر يوجب الاعتقاد أو الاطمئنان بصحة صدوره عن الأئمة عليهم‌السلام ، فعمل الطائفة مبني على هذا التسالم والارتكاز.

وبالجملة :

لقد قام الإجماع عند الإمامية ـ سدّدهم المولى عزوجل ـ أن العابس هو


غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل المتسالم عليه أن العابس رجل من بني أمية ولدلالة الخبر عليه ، وأنه عثمان كما أفاد الخبر الآخر ، من خلال هذا كله نطمئن أن العابس هو عثمان وإلّا فلما ذا لم تصرّح الأخبار والإجماعات ـ عدا هذين الخبرين ـ عن اسم العابس وأنه غير عثمان بن عفّان أسوة بغيرها من آيات النزول حيث صرّحت بمورد نزولها وبمن نزلت؟! فعدم التصريح بغير عثمان دلالة واضحة أنّ عثمان هو المقصود فالتعبير بصيغة الجمع لدلالة الإجماع على أن العابس هو عثمان لكونه أمويا ، وإجماع من هذا النوع يقوم مقام الأحاديث الكثيرة والتي من المقطوع به أنها كانت تصلنا بطرق متعددة ومتواترة لو سنحت الظروف بذلك يوم ذاك ، فالمستشكل لم يأخذ بنظر الاعتبار تسالم الإمامية على مورد نزول السورة في حق رجل من بني أمية ، كما لم يأخذ بنظر الاعتبار أيضا ظروف التقية والخوف وتحريف الأخبار والنصوص من قبل بني أمية لكل ما يمتّ إلى القدح بهم ، أو يخدش بكيانهم.

الإيراد الثالث عشر :

ومفاده : أن نسبة القول بالزيادة والنقيصة إلى أهل السّنّة أو إلى المشهور فيهم بعنوان كونهم طائفة ، ليس دقيقا أيضا (١).

والجواب :

أولا : من البعيد جدا أن يكون قصد العلوي من نسبة التحريف إلى مشهور العامة هو الزيادة أو النقيصة في الآيات ـ وإن كان هذا ينطبق على بعض أقسام التحريف وقد تعرّضنا إليه في البحوث اللاحقة فلتراجع ـ وإن حاول بعض علماء العامّة التنصل من هذه النسبة لا سيّما وأنهم رووا في صحاحهم الستة وغيرها حسبما ذكر ذلك صاحب الإيراد ، وسبب تنصّلهم يرجع في الحقيقة إلى

__________________

(١) مأساة الزهراء ج ١ / ٣٦٩.


تبرئة عائشة وعمر بن الخطّاب اللذين ادعيا وجود نقص في القرآن الكريم في عهد الجمع الأول للقرآن في زمن أبي بكر.

كما من البعيد أن يكون قصد العلوي من نسبة التحريف إلى المشهور بين عوامهم بمقدار ما كان قصده المشهور بين علمائهم ، وذلك لأن الشهرة عند العوام هي نتيجة حتمية للشهرة عند العلماء ، وحيث إنّ هناك روايات رواها أهل السنّة في صحاحهم الستة وكتبهم المعتبرة ـ على حد تعبير صاحب الإيراد ـ دل ذلك على وجود شهرة علميّة على المطلوب ، فدعوى العلوي مرتكزة على ما اشتهر في كتبهم القول بتحريف القرآن.

ثانيا : لعلّ مراد العلوي ـ وهو القدر المتيقن من إرادته لأحد الأقسام الستة للتحريف ـ هو نسخ التلاوة الذي هو بعينه القول بالتحريف لذا قال المحقّق الخوئي عليه الرحمة : «إنّ القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء أهل السنّة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف» (١).

وقال في موضع آخر : «من العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم ، حتى أن الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية وقال : إن أحدا من علماء السنّة لم يذهب إلى ذلك ـ إلى أن قال السيد الخوئيرحمه‌الله : فيمكن أن يدّعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة ..» (٢). وقال في موضع ثالث : «وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط» (٣). وقد التزم العامة بمضامين الروايات التي

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ص ٢٠١.

(٢) نفس المصدر ص ٢٠٦.

(٣) نفس المصدر ص ٢٠٥.


ادّعوا فيها نسخ التلاوة ، وعليه فالحق ما قاله العلوي في المحاورة.

ثالثا : المشهور عند محققي العامة القول بالزيادة والنقيصة في الحروف والحركات حسبما هو واضح من حيث عدم تواتر القراءات السبعة ، «لأن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه» (١). ومن تأمل بالقراءات السبعة أو العشرة يعلم يقينا بوجود زيادة ونقيصة في القرآن.

وعلى كل حال : فإن ما ذكره العلوي رحمه‌الله من أن القرآن زيد فيه ونقّص عنه وما شابه ذلك لا يخدش بأصل المحاورة حتى يجعلها صاحب الإيراد دليلا على افتراضيتها ، واشتباه العلماء في بعض الموارد لا يخرجهم عن حقيقة التلبس بالمبدإ ، كما لا يخرج الخلاف ـ الحاصل بين العلماء ـ في القضايا العلمية عن واقعها ، فقد يصيب المرء الواقع وقد يخالفه ، والعصمة لأهلها. ودعوى عدم دقة وصوابية نسبة القول بالزيادة والنقيصة إلى مشهور السّنّة بعنوان كونهم طائفة ـ حسبما أفاد الإيراد ـ ليست موفّقة وذلك لالتزام علماء العامة بعدم تواتر القراءات ، هذا بالنسبة إلى علمائهم ، وأما المثقفون من عوامهم فلا شك أنهم تبع لهم في أفكارهم ، والسذج منهم في واد غير واديهم وعالم غير هذا العالم ، فهم خارجون حكما عن هذه الدعوى.

الإيراد الرابع عشر :

ردّه لما نسبه العلوي إلى العامة من أن آيات حول الغرانيق نزلت على رسول الله ثم نسخت ، فقال : «إن الرواية التي تتحدث عن مدح الغرانيق التي هي الأصنام قد ردّها وفنّدها كثير من علماء السنة ، وإن كان يظهر من البخاري أنه لا يأبى عن قبولها».

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٢٣ وص ١٩٨.


والجواب :

صحيح أن عبارة «تلك الغرانيق العلى وأنّ شفاعتهن لترتجى» ليست آية قرآنية ، ولكنّ النبيّ ـ بحسب رواية الطبري والبخاري (وكلاهما من أكابر علماء العامة) بشهادة صاحب الإيراد وتبنّيهما لها ـ زلق لسانه بالكلمتين المتقدمتين ظنا منه أنها آية قرآنية ، فجاءه جبرائيل في المساء وعرض عليه السورة ، فلما بلغ هاتين الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه ، قال جبرائيل : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) (١) فما زال مغموما مهموما حتى نزل عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٢).

إذن مراد العلوي هو ما رواه القوم في كتبهم لا سيّما البخاري الذي تعدّ أفكاره وآراؤه وكتابه الصحيح في طليعة ما يتباهى به العامة بل كتابه «الصحيح» بنظرهم من أهم الكتب بعد القرآن الكريم. فما الضير ـ عند صاحب الإيراد ـ أن ينسب العلوي تلك القصة إليهم وهم لها معتقدون؟

فالآية التي نسخت ـ بنظر العلوي ـ هي تلك الآية الشيطانية التي أوحاها إبليس والتي اعتمدها سلمان رشدي في كتابه «آيات شيطانية» وليس مراده رحمه‌الله أن هناك آيات قرآنية (كالتي ادّعاها الطبري والبخاري) نزلت ثم نسخت ، فهذا المعنى يسخر منه المتفقهون من الشيعة الإمامية فبطريق أولى فقهاؤهم وعلماؤهم!

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٣.

(٢) سورة الحج : ٥٢.


الإيراد الخامس عشر :

تشكيكه بما ذكره «المؤتمر» من عدم صحة إيمان الخلفاء الثلاثة ، ونسبه إلى الطائفة الإمامية الاعتقاد بإيمان وإسلام هؤلاء ، قال : «إنّ هذا الاعتقاد لم يسجّله الشيعة ـ كطائفة ـ في كتبهم الاعتقادية ، ولا وقفوا عنده في تكوين البنية العقيدية وبلورة مفرداتها» (١).

يرد عليه :

أولا : لقد فنّدنا هذه المقالة في البحوث اللاحقة ، ونقول بالإجمال : إنّ الإمامية لا يعتقدون بإيمان هؤلاء أصلا ، فهناك الكثير من الآيات والنصوص المتواترة والقطعية الدالّة على عدم إيمانهم ، نعم هم مسلمون ، فالإيمان شيء والإسلام شيء آخر (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢). ويكفي في إثبات عدم إيمانهم إنكارهم للنصّ ونصبهم وعداوتهم لأهل البيت عليهم‌السلام .. ولو أردنا استعراض كلمات محققي الإمامية على هذه المسألة لطال بنا البحث.

ثانيا : دعوى القول بعدم إثبات الشيعة لهذا الاعتقاد في كتبهم الاعتقادية غير سديدة ، وذلك لأن كلّ من تطرّق لمسألة الخلافة ودفع النّص تعرّض إلى إيمان أو كفر من جحده ونصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ، بل إلقاء نظرة سريعة على أخبارنا المتواترة والمبثوثة في كتاب الكافي والمقنعة والتهذيب والحدائق والبحار وغيرها يرى بوضوح أن للمسألة جذورا في كتبنا الاعتقادية ـ وقد ذكرنا ذلك في كتاب الفوائد البهيّة ج ١ / ٢٥ الجهة الثانية ـ ومن لم يذكرها فلديه عذره إمّا لتقيّة ، وإمّا حرصا على مراعاة المشاعر والأحاسيس.

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ١ / ٣٧١.

(٢) سورة الحجرات : ١٤.


فعدم تسجيل الشيعة هذا الاعتقاد ـ لو سلّمنا بفرضية هذا الطرح وهو غير دقيق ـ في كتبهم لا يلازم الاعتقاد بإيمان اولئك النواصب الكفرة.

ثالثا : إنّ دعوى مصاهرة النبي لهم لمجرد إيمان بناتهم بحاجة إلى إثبات تاريخيّ من مصادرنا وهو غير موجود ، وإنما كان زواجه منهنّ سياسيا أو تأليفا للقلوب وما شابه ذلك .. نعم ، التظاهر بالإيمان شيء ووجوده في كيانهنّ شيء آخر! ..

الإيراد السادس عشر :

إيراده على الاستدلال بحديث «لا تجتمع أمّتي على خطأ» على صحّة قتل الناس عثمان بن عفان حيث إنّ العلويّ حكم على عدم إيمان عثمان بهذا الحديث ، فقال صاحب الإيراد : «والحديث الشريف إنما يدلّ على استحقاقه للعقوبة ، ولا يدلّ على إجماعهم على عدم إيمانه»(١).

والجواب :

أولا : من أين أثبت صاحب الإيراد أنّ الحديث «شريف» مع كونه ضعيفا لا يتلاءم مع ما ذهبت إليه الإمامية من أنّ الإجماع بنفسه ليس حجّة ما لم يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام!! ..

ثانيا : إنّ استناد العلويّ على عدم إيمان عثمان بهذا الحديث ليس مبتنيا عليه وحده بل لما كان كفره سائدا في الأوساط المسلمة يوم ذاك ، ويكفي ما كانت تردّده عائشة : «اقتلوا نعثلا فقد كفر» فعلام حكمت عائشة بكفر عثمان؟! وعلام اجتمعت الأمّة على قتله؟! وهل الكفر أن يجحد الإنسان ربّه فقط أو أنّ له مصاديق كثيرة كان عثمان يتّصف ببعضها على أقل تقدير؟! ..

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ١ / ٣٧٣.


فاستدلال العلويّ كان مبنيا على اللوازم الأخرى التي تلبّس بها عثمان وأمثاله ، وكأنّ العلوي عليه الرحمة أراد أن ينسف القاعدة التي اعتمدها العامّة في استدلالاتهم ونقوضاتهم على الإمامية ، وهذه القاعدة هي اتفاق الأمة بزعمهم على خلافة أبي بكر بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * * * *


بداية المؤتمر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله وحده ، والصلاة والسّلام على من بعث رحمة للعالمين محمّد النبيّ العربيّ وآله الطيّبين الطّاهرين وعلى أصحابه المطيعين.

وبعد ..

فهذا كتاب «مؤتمر علماء بغداد» الذي انعقد بين السنّة والشّيعة الذين جمعهم الملك الكبير (ملك شاه السلجوقي) تحت إشراف العالم العظيم الوزير (نظام الملك) ، وكان من قصّة ذلك أنّ الملك شاه لم يكن رجلا متعصّبا أعمى ، يقلّد الآباء والأجداد عن عصبيّة وعمى ، بل كان شابّا منفتحا محبا للعلم والعلماء ، وكان في نفس الوقت ولعا باللهو والصّيد والقنص.

أما وزيره (نظام الملك) فقد كان رجلا حكيما ، فاضلا ، زاهدا ، عازفا عن الدنيا ، قويّ الإرادة ، يحبّ الخير وأهله ، يتحرّى الحقيقة دائما ، وكان يحبّ أهل بيت النبي حبّا جما ... ، وقد أسّس المدرسة النظامية ـ في بغداد ـ وجعل لأهل العلم رواتب شهريّة ، وكان يحنو على الفقراء والمساكين.

وذات مرة دخل على الملك شاه أحد العلماء الكبار واسمه : (الحسين بن عليّ العلويّ) وكان من كبار علماء الشيعة ... ، ولمّا خرج العالم من عند الملك استهزأ به بعض الحاضرين وغمزه ، فقال الملك :


لما ذا استهزءت به؟ فقال الرجل : ألا تعرف أيّها الملك أنّه من الكفّار الذين غضب الله عليهم ولعنهم؟

فقال الملك ـ متعجبا ـ : ولما ذا؟ أليس مسلما؟

قال الرجل : كلّا ، إنّه شيعي!

فقال الملك : وما معنى الشّيعي؟ (١).

____________________________________

(١) من هم الشيعة؟

نبحث هنا في نقطتين :

الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا.

الثانية : مصدر التشيّع.

* أما النقطة الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا :

فالشيعة لغة : الفرقة والأتباع والأعوان ، أخذت من الشياع والمشايعة بمعنى المتابعة والمطاوعة ، وشايعه شياعا وشيعة : تابعه.

قال ابن منظور :

الشيعة كلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وكلّ قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيعة (١) ، والجمع شيع.

وقال الطريحيّ :

الشّيعة : الأتباع والأعوان والأنصار ، مأخوذ من الشّياع وهو الحطب الصغار التي تشتعل بالنار ، وتعين الحطب الكبار على إيقاد النار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة.

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨ ، مادة : شيع.


ثم صارت «الشيعة» جماعة مخصوصة (١).

وفي النهاية : أصل «الشيعة» الفرقة من الناس ، وتقع على الواحد والاثنين ، والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد ، وغلّب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يوالي عليا عليه‌السلام وأهل بيته ، حتى صار لهم اسما خاصا ؛ فإذا قيل فلان من الشيعة ، عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم ، وأصلها من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (٢).

قال الراغب الأصفهاني :

الشياع : الانتشار والتقوية ، ويقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم : انتشروا وكثروا ، وشيّعت النار بالحطب : قوّتها ، والشيعة من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه ، ومنه قيل للشجاع مشيع (٣).

وشايع فلان فلانا : والاه وتابعه على أمر وهو من الشيعة كما يقال : والاه من الولي أو الولاء (٤).

زبدة المخض :

إن كلمة «شيعة» تطلق على معنيين :

الأول : بمعنى الفرقة من الناس كقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي من كل فرقة.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي فرقهم وطوائفهم.

__________________

(١) مجمع البحرين ج ٤ / ٣٥٦ ، مادة : شيع.

(٢) نفس المصدر ، ولسان العرب ج ٨ / ١٨٩.

(٣) المفردات ص ٢٧١.

(٤) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨.


الثاني : بمعنى الأعوان والأنصار كقوله تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه).

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ).

والضمير المتصل في «شيعته» فيه وجوه :

الوجه الأول : راجع إلى النبي نوح عليه‌السلام أي أن من شيعة نوح لإبراهيم عليه‌السلام لأنه كان على منهاج نوح وسنّته في التوحيد واتباع الحق.

الوجه الثاني : راجع إلى النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أن من شيعة النبي محمد لإبراهيم عليه‌السلام لأن إبراهيم خبر مخبره فاتّبعه ودعا له ، هذا الرأي تبناه ابن الأعرابي ووافقه عليه الفراء (١) ، وكذا ذكره الطبرسي قدس‌سره في تفسيره (٢) ، وكذا الكلبي برواية الرازي في التفسير (٣). وقد اختار الوجه الأول جلّ مفسري الشيعة والسنّة ، واستدلوا عليه بأن الثاني لا دليل عليه من جهة اللفظ ، بمعنى أنه لم يجر لمحمد ذكر ، فهو ترك الظاهر (٤) ؛ هذا مضافا إلى عدم مساعدة السياق عليه (٥).

يجاب عنه :

أولا : سياق الآيات هنا لا يعارض بعض الأخبار الدالة على الوجه الثاني ، لا سيّما أنها في صدد بيان مراتب التأويل ـ أي البطون ـ فلا معنى حينئذ لتصور معارضة هذا السياق لها ، هذا فضلا عن أن يدّعى ترجيحه على دلالتها.

ثانيا : حجية السياق لا تتقدم على ظواهر الأخبار المبيّنة لمراتب التأويل ،

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨ وتفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٧.

(٢) مجمع البيان ج ٨ / ٢٣٤ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٣) تفسير الرازي ج ٢٦ / ١٤٦.

(٤) تفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٧.

(٥) تفسير الميزان ج ١٧ / ١٤٧.


«لأن الكناية عمّن لم يجر له ذكر جائزة إذا اقترن بذلك دليل كما قال تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ولم يجر للشمس ذكر» (١).

تبيّن بهذا أن السياق لا ينافي مراتب التأويل ، وشهد له ما روي عن مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال : قال قوله عزوجل (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي إبراهيم عليه‌السلام من شيعة عليعليه‌السلام(٢)

ويؤيد هذا التأويل ما رواه الشيخ محمد بن الحسن بسند طويل قال :

سأل جابر بن يزيد الجعفي ، جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام عن تفسير هذه الآية (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) فقال عليه‌السلام : إن الله سبحانه لمّا خلق إبراهيم عليه‌السلام كشف له عن بصره فنظر فرأى نورا إلى جنب العرش ، فقال : إلهي ما هذا النور؟ فقيل : هذا نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفوتي من خلقي ، ورأى نورا إلى جنبه فقال : إلهي وما هذا النور؟ فقيل له : هذا نور علي بن أبي طالب ناصر ديني ، ورأى إلى جنبهما ثلاثة أنوار ، فقال : إلهي وما هذه الأنوار؟ فقيل : هذا نور فاطمة ، فطمت محبيها من النار ، ونور ولديها الحسن والحسين ، فقال : إلهي وأرى تسعة أنوار قد حفّوا بهم؟ قيل : يا إبراهيم هؤلاء الأئمة من ولد علي وفاطمة ، فقال إبراهيم : إلهي بحق هؤلاء الخمسة إلّا ما عرفتني من التسعة؟ فقيل : يا إبراهيم أولهم : علي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي وابنه الحسن ، والحجة القائم ابنه ، فقال إبراهيم : إلهي وسيدي أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلا أنت؟ قيل : يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم ، شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال إبراهيم : وبما تعرف شيعته؟

فقال : بصلاة إحدى وخمسين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والقنوت قبل الركوع والتختم في اليمين ، فعند ذاك قال إبراهيم : اللهم اجعلني من شيعة

__________________

(١) تفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٨.

(٢) تفسير البرهان ج ٤ / ٢٠.


أمير المؤمنين. قال فأخبر الله في كتابه فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (١).

ولم يستبعد الشيخ الطوسي صحة ما روي عن أهل البيت : إن من شيعة علي لإبراهيم.

ورواه الشيخ المجلسي في بحار الأنوار بسندين مختلفين عن تأويل الآيات والروضة والفضائل لابن شاذان (٢).

وأما المعنى الاصطلاحي :

فيراد من كلمة «شيعة» كل من اتّبع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ونصره وقدّمه على غيره ممن اغتصب الخلافة منه.

قال الأزهري : «الشيعة قوم يهوون عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوالونهم». ولو أطلق لفظ «الشيعة» بأداة التعريف فهو على التخصيص ـ لا محالة ـ لأتباع أمير المؤمنين عليه‌السلام على سبيل الولاء والاعتقاد بإمامته بعد الرسول بلا فصل ، ونفي الإمامة عمّن تقدمه في مقام الخلافة ، ولو أسقطت الأداة من الكلمة مع إضافة «من» التبعيضية فيفيد كونه غير مخصص بمن تبع أمير المؤمنين فيقال حينئذ : هؤلاء من شيعة بني أمية أو شيعة بني العبّاس أو من شيعة فلان وفلان.

قال ابن منظور :

«قد غلّب هذا الاسم على من يتوالى عليا وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين حتى صار اسما خاصا ، فإذا قيل : فلان من الشيعة عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم(٣).

وقال الشهرستاني معرّفا «الشيعة» :

«الشيعة هم الذين شايعوا عليا عليه‌السلام على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ، ص ٢٠ ح ٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٦ / ١٥١ و ٢١٤.

(٣) لسان العرب ج ٨ / ١٨٩.


نصا ووصية ، إما جليا وإما خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده ، وقالوا : ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة ، وينتصب الإمام بنصبهم ، بل هي قضية أصولية ، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل إغفاله وإهماله ، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله» (١).

ولفظ «الشيعة» اصطلاحا وإن صدق مجازا على غير المعتقدين بإمامة باقي الأئمة عليهم‌السلام كفرقة الزيدية والإسماعيلية والفطحية وغيرهم من الواقفية ، إلا أنه حقيقة مختص بمن اعتقد بالأئمة الاثنى عشر ، أولهم مولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وآخرهم مهدي الأمم صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف ، ويعتقد الشيعة الإمامية أن كل من لم يوال بقية الأئمة بعد الإمام علي عليه‌السلام هو كمن لم يعتقد به عليه‌السلام وذلك للأحاديث المتواترة عن أئمتهم عليهم‌السلام.

قال الشيخ المفيد (قدس‌سره):

واتفقت الإمامية على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على إمامة الحسن والحسين بعد أمير المؤمنينعليه‌السلام وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا نصّ عليهما كما نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأجمعت المعتزلة ومن عددناه من الفرق سوى الزّيدية الجارودية على خلاف ذلك ، وأنكروا أن يكون للحسن والحسينعليهما‌السلام إمامة بالنصّ والتوقيف.

واتّفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلوات الله عليه وآله نصّ على علي بن الحسين وأنّ أباه وجدّه نصّا عليه كما نصّ عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه كان بذلك إماما للمؤمنين. وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيديّة والمرجئة والمنتمون إلى أصحاب الحديث على خلاف ذلك ، وأنكروا بأجمعهم أن يكون علي بن الحسين عليه‌السلام إماما للأمّة بما توجب به الإمامة لأحد من أئمة المسلمين.

واتّفقت الإمامية على أنّ الأئمة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إماما ، وخالفهم

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٤٦.


في ذلك كلّ من عداهم من أهل الملّة وحججهم على ذلك خلاف الجمهور ظاهرة من جهة القياس العقليّ والسمع المرضيّ والبرهان الجليّ الذي يفضي التمسك به إلى اليقين (١).

* أما النقطة الثانية : مصدر التشيّع :

من خلال ما تقدّم ، عرفنا معنى كلمة «شيعة» ومشتقاتها ، التي يجمعها معنى واحد هو «النصرة والمتابعة» ومن خلال قراءة المصادر التاريخية والتفسيرية نستطيع التعرّف على البدايات الأولى لولادة هذا المصطلح.

وهذه المصادر تؤكد بوضوح أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من طرح مصطلح «شيعة» في مناسبات عدة ، وجذّره في وعي الأمة ومن خلال التأكيد النبوي لهذا الطرح ، تكوّنت نخبة متميّزة من صحابة الرسول عرفوا بولائهم ومتابعتهم ونصرتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام حتى أصبح هذا اللقب ـ أي شيعة ـ خاصا بهم دون بقية الصحابة ، منهم : سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأمثالهم.

إذن التشيع مصدره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاهنا طائفة من النصوص تبيّن حقيقة ما قلنا منها :

ما رواه ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ عليه‌السلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، فنزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢).

وأخرج الحاكم الحسكاني من عدة طرق روايات عدة من هذا القبيل ؛ قال : أخبرنا أبو بكر ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة ، أخبرنا المنذر بن محمد بن المنذر ،

__________________

(١) كتاب أوائل المقالات ، ص ٤٠ ـ ٤١ ، ط / دار المفيد.

(٢) الدر المنثور للسيوطي ج ٨ / ٥٨٩.


قال : حدّثني أبي قال : حدثني عمي الحسين بن سعيد عن أبيه عن إسماعيل ابن زياد البزّاز ، عن إبراهيم بن مهاجر مولى آل شخبرة ، قال : حدثني يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عليه‌السلام قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول : حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال : يا عليّ ، أما تسمع قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (١) ، هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّاء محجّلين(٢).

وأخرج أيضا :

عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فلما نظر إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قد أتاكم أخي ، ثم التفت إلى الكعبة ، فقال : وربّ هذه البنية إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : أما والله ، إنه أوّلكم إيمانا بالله وأقومكم بأمر الله ، وأوفاكم بعهد الله ، وأقضاكم بحكم الله ، وأقسمكم بالسّويّة ، وأعدلكم في الرعية ، وأعظمكم عند الله مزيّة. قال جابر : فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ؛ فكان عليّ إذا أقبل قال أصحاب محمد : قد أتاكم خير البرية بعد رسول الله (٣).

كما أخرج القندوزي الحنفي في باب المناقب حديث ٤٥ :

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة (٤). وأورد ابن الصبّاغ المالكي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) سورة البيّنة : ٧.

(٢) شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ / ٣٥٦ ، ط / الأعلمي.

(٣) شواهد التنزيل ج ٢ / ٣٦٢ ، وقد روى فيه ما يناهز ستة عشر حديثا من أن عليا وشيعته هم خير البرية ، فلاحظ.

(٤) ينابيع المودة.


الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي لعلي : هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين ، ويأتي أعداؤك غضابا مفحمين (١).

كما أورد ابن جرير الطبري (٢) بسنده عن أبي الجارود عن محمد بن علي : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت يا علي وشيعتك.

وفي الصواعق المحرقة ص ٩٦ قال : الآية الحادية عشرة قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال : أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس : إن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابا مفحمين ، قال : ومن عدوي؟ قال : من تبرأ منك ولعنك.

كما ذكره الشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٠ و ١٠١.

أبعد هذا يصح أن يقال : أنّ مصدر التشيع عبد الله بن سبأ حيث نسب هذا إلى الشيعة جماعة من العامة منهم محمد رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» المصرية في كتابه (السنّة والشيعة) ص ٤٥ قال :

«وكان مبتدع أصول التشيع يهوديا اسمه عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام خداعا ، ودعا إلى الغلو في علي كرّم الله وجهه ، لأجل تفريق هذه الأمة ، وإفساد دينها ودنياها عليها». ولحقه من الكتّاب المحدثين أحمد أمين في كتابه «فجر الإسلام» وفريد وجدي في دائرة المعارف ج ٦ / ٦٣٧ عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمته للإمام علي عليه‌السلام ، وكذا حسن إبراهيم حسن في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» في فصل أخريات خلافة عثمان قال :

«فكان هذا الجو ملائما تمام الملائمة ، ومهيئا لقبول دعوة عبد الله بن سبأ ، ومن لفّ لفه ، والتأثر بها إلى أبعد حد ، وقد أذكى نيران هذه الثورة صحابي قديم

__________________

(١) الفصول المهمة لابن الصبّاغ ، ص ١١٧ ، ط / دار الأضواء.

(٢) تفسير الطبري ج ٣٠ / ١٧١.


اشتهر بالورع والتقوى وكان من كبار أئمة الحديث ـ وهو أبو ذر الغفاري ـ الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبد الله بن سبأ ، وكان يهوديا فأسلم ثم أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية».

وكذا اعتقدها ابن خلدون في تاريخه ، حادثة الجمل.

هذا بالنسبة للكتّاب المحدثين ، وأما القدامى فأول من أثارها ابن جرير الطبري وجعلها من المسلّمات التاريخية فقال : «فيما كتب به إلى السري ، عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء ، أمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام ...» (١).

وقال في موضع آخر :

«إنّ عثمان أخذها ـ أي الخلافة ـ بغير حق وهذا وصي الله ـ يقصد الإمام عليا عليه‌السلام ـ فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته ، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة ...» (٢).

هذه خلاصة ما ذكره الكتّاب القدامى والجدد بحق أصل التشيع ، وأنه وليد السبئية بزعمهم ، وهناك نظريات أخرى ترجع أصل التشيع إليها منها :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٣٧٨ ، ط / الأعلمي.

(٢) نفس المصدر ج ٣ / ٣٧٩ ، والكامل في التاريخ ج ٣ / ١٥٤.


النظرية الثانية :

ترجع التشيّع إلى ما بعد وفاة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر العلّامة الشيخ جعفر السبحاني أن المؤرّخ اليعقوبي ممن تبنّوا هذه النظرية ، فقال :

«وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم: العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس ، والزبير بن العوّام ، وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب»(١).

ولكن يرد عليه :

إن مجرد الميل إلى الإمام علي عليه‌السلام ليس دليلا على أنّ مصدر التشيع كان يوم السقيفة ، فلا توجد ملازمة بين الميل إلى مولانا علي عليه‌السلام وبين مصدر التشيع.

النظرية الثالثة :

ترجع أصل التشيّع إلى عهد عثمان بن عفّان ، نتيجة أحداث وتناقضات أفرزتها سياسة الحكّام المنحرفين ، مما هيّأ جوا ملائما لنشوء الفرق والأحزاب.

ومن مؤيدي هذا الاتجاه جماعة من المؤرّخين منهم : ابن حزم وجماعة آخرون ذكرهم يحيى هاشم فرغل في كتابه «عوامل وأهداف نشأة علم الكلام» ج ١ ص ١٠٥.

النظرية الرابعة :

ترجع أصل التشيّع إلى أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وممن قال بهذا الرأي ابن النديم في الفهرست ص ٢٢٣ قال : «لما خالف طلحة والزبير عليا عليه‌السلام وأبيا إلّا الطلب بدم عثمان بن عفّان ، وقصدهما علي عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٤.


ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله تعالى ، تسمى من اتّبعه على ذلك بالشيعة ، فكان يقول : «شيعتي».

النظرية الخامسة :

ترجع أصل التشيّع إلى أيام شهادة الإمام الحسين عليه‌السلام وما أفرزته تلك الواقعة الفريدة من تطورات هامة في داخل الساحة الإسلامية ، ومن مؤيدي هذا الاتجاه : الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه «الصلة بين التصوف والتشيع» ج ١ ص ٢٢ ، وبروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» ص ١٢٨.

النظرية السادسة :

ترجع أصل التشيّع إلى الأصول الفارسية ، ومن أنصار هذه النظرية كثير من المستشرقين حيث لهم تلميحات وإيحاءات تشير إلى ذلك ، وكذا أبو زهرة في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية» وأحمد عطية في كتابه «القاموس الإسلامي».

النظرية السابعة :

ترجع أصل التشيّع إلى عهد الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قام تلميذه هشام بن الحكم بوضع قواعد وأسس المذهب الشيعيّ ، ومن مؤيّدي هذه النظرية الدكتور محمد عمارة في كتابه «الإسلام وفلسفة الحكم» ص ١٥٨.

هذه أهمّ النظريات عن أصل التشيّع وكلها مردودة جملة وتفصيلا ، لأن التشيّع ـ وكما قلنا سابقا ـ أوّل حركته كانت منذ عهد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي أصّل قواعده وثبّت دعائمه ، فمن خلال إلقاء نظرة تدبّرية على النصوص المحمديّة نجد بوضوح أنّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل شيعيّ مناصر لعليّ عليه‌السلام ؛ ألم يصرّح النبي في غدير خم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، وما ورد عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : عليّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة(١).

والتشيّع برأي تلكم النظريات ، لا يحظى بجذور فكرية أصيلة ، فهو وإن كان

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج ٢ / ٦١.


في نشأته الأولى تيارا سياسيا محضا ـ وهو ما أكّد عليه عدد من المستشرقين منهم : برنار لويس وجولد تسيهر وغيرهما ـ إلّا أنه في تكوينه المذهبي اللاحق كان من وحي اليهودي المتأسلم عبد الله بن سبأ ، وهذا ما أكدته المصادر السّنية المتقدمة ، حيث صوّرت للآخرين إن هذا التشيع الذي بدأ سياسيا ـ نتيجة ظروف تاريخية ـ سرعان ما انتظم في تعاليم دخيلة انتحلها بشكل منتظم بعض الثوار على النظام الأموي أو هشام بن الحكم في بداية الحكم العباسي ، كما نصت عليه النظريتان الأخيرتان ، ومن خلال هذه المماحكة ، يحاول أعداء الشيعة لفت الأنظار إلى كون الأمة التي تفجّر منها ذلك الصراع السياسي الأول ، وبالتالي الموقف الشيعي من الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، يصعب الإمساك بها ، في حين لم تعد الجماعة التي ناصرت عليا عليه‌السلام تملك مشروعية ما ، غير أنّها ضالة ، وانتهى بها الإخفاق السياسي إلى مدّ الجسور مع القوى المتآمرة ضد السلطة السياسية القائمة ، وضد الإسلام بشكل عام.

نحن إذن ، أمام مشروعية زئبقية للموقف الشيعي ، مشروعية لم تبرح كونها في الزمن الأول ولاء سياسيا للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث تنطلي عليه اللعبة ، فلا يكون الإمامعليه‌السلام سيد الحملة التصحيحية التي يسميها بعضهم «الفتنة» بل كان الأمر هنا يتعلق بيهودي مجهول الأصل ، وظّف شخصية علي بن أبي طالب عليه‌السلام في مؤامرة يهودية.

زبدة المخض :

إنّ ما ذكره المفترون من كون مصدر التشيّع عبد الله بن سبأ يشكل عليه بالنقاط التالية :

أولا :

إنّ مبدأ التشيع كان سابقا على ظهور عبد الله بن سبأ ، ولكنّ أعداء الشيعة استغلوا دعوى اعتقاده بأحقية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبالبراءة من أعدائه ، حيث إن الرجل المذكور قد كاشف مخالفي الإمام عليه‌السلام وكفّرهم ، من هنا قال من


خالف الشيعة أن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود حسبما نقل الرجالي المرموق العلّامة الممقاني نقلا عن محمد بن قولويه القمي (١).

ثانيا :

ما جاء به الطبري وأتباعه ، من أن الرجل المذكور أغرى كبار الصحابة ما هو إلا أسطورة اختلقها أعداء الشيعة بغضا بهم ، إذ كيف يصدّق المرء أن يهوديا جاء من صنعاء استطاع أن يغري كبار الصحابة والتابعين ، ويحرّضهم على الخروج ضد أمرائهم في تلك الفترة القاسية ، وهل أغراهم بالمال والسلطة أم بشيء آخر؟ مع أنّ المذكورين من أهل التقوى والورع واليقين ، عرضت عليهم الدنيا بزخارفها منذ عهد النبي إلى خلافة عثمان فرفضوها ، هل يمكن إذن أن يغري هكذا رجل جماعة بهذا المستوى الإيماني؟ وهل كانوا سذّجا حتى يمكن أن يستميلهم عبد الله بن سبأ؟ ولو سلّمنا أنه حرّضهم على الخروج ضد أمرائهم ـ وفرض المحال غير محال ـ فما الضير في ذلك ما دام حكّام تلك الفترة لم يحكموا بمبادىء الإسلام ، لا سيما عثمان بن عفّان الذي تمادى كثيرا في ظلم شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث نفى أبا ذر الغفاري إلى الربذة تلك المنطقة الصحراوية الجرداء حتى مات فيها وحيدا غريبا ، وضرب عمّار بن ياسر الصحابي الجليل حتى حصل له فتق في بطنه ، وضرب أيضا عبد الله بن مسعود سيد القراء ، إلى غير ذلك من أفعال نكراء صدرت منه ، حرّكت ضمائر أشراف المسلمين ، فنهضوا لقتاله ، والمرء يستغرب كيف يترك ابن سبأ المحرّض ضد السياسة العثمانية ، في حين كان الذين حرّضهم ابن سبأ قد وقعوا فريسة أنياب عثمان ، فشرّد من شرّد ، وقتل من قتل؟!

ولا يبعد القول : أن السبئية فكرة خيالية ، نسجتها أياد خبيثة طعنا بالشيعة واتهامهم بالرفض اليهودي ، ويؤكد هذا ما ذكره بعض كبار العامة كعبد ربه المالكي : قال : «بأنّ الرافضة ـ يعني الشيعة ـ يهود هذه الأمّة» (٢).

__________________

(١) لاحظ تنقيح المقال للممقاني ج ٢ / ١٨٤ ، ط / حجري.

(٢) الغدير في الكتاب والسنّة / الأميني ج ٣ / ٧٨ نقلا عن العقد الفريد.


وكعبد الله الجميّلي صاحب كتاب «بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود» ط / مكتبة الغرباء الأثرية في المدينة المنورة.

قال الدكتور طه حسين :

«وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ ، وإن كان كل ما يروى عنه صحيحا إنما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها ، وإن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين ، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على علي عليه‌السلام وشيعته من ناحية أخرى فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة» (١).

ثالثا :

على فرض أنّ الرجل حقيقة وليس أسطورة تاريخية لكن لا شكّ أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، لأننا نشك أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق مؤثّرا على صحابة بلغوا القمّة في العلم والعمل ، عدا عن أنه أحدث انشقاقا عقائديا بين طائفة كبيرة من المسلمين.

رابعا :

إنّ الشيعة برمّتهم يتبرّءون من الرجل المذكور لغلوّه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على فرض صحّة ما نسب إليه وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه بالنار.

وإذا راجعنا كتب الشيعة نرى أئمتهم وعلماءهم يتبرّءون منه. فقد روى الكشّي أحد كبار علماء الإمامية في علم الرجال وهو من علماء القرن الرابع ، قال : عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوّة ، وأنّ عليا هو الله ، فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (٢).

__________________

(١) الفتنة الكبرى / طه حسين ، فصل ابن سبأ.

(٢) رجال الكشّي ، ص ٩٨ ، رقم ٤٨.


وقال الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين : عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ (١).

وقال الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦) : غال ملعون ، حرّقه أمير المؤمنين بالنار ، كان يزعم أنّ عليا إله وأنه نبي ، لعنه الله (٢).

وقال ابن داود (٦٤٧ ـ ٧٠٧) : عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ (٣).

وقال الشيخ حسن (ت ١٠١١) في التحرير الطاوسي : غال ملعون ، حرّقه أمير المؤمنينعليه‌السلام بالنار (٤).

خامسا :

على فرض أن كل ما ساقوه في القصة صحيح ، ولكن لا ملازمة بين التصديق بها ، وبين أن ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة ، فإن التشيّع حدث ـ كما قلنا ـ في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقته أمة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأما ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه ، فإنه يعبّر عن موقف فردي ، وتصرّف شخصي خارج عن اطار المذهب ومن تبعه.

فالواجب على أصحاب الضمائر الحرّة عند علماء العامّة أن لا يقعوا في محذور إساءة الظن بالشيعة الذين تمسّكوا بالكتاب وسنّة النّبيّ وعترته الطاهرة الذين أمر النبيّ المسلمين بالتمسّك بهما ، وأن من تخلّف عنهما غرق وهوى.

__________________

(١) رجال الطّوسي ، باب أصحاب علي (ع) ، رقم ٧٦ ، ص ٥١.

(٢) الخلاصة للعلامة الحلي : القسم الثاني ، الباب الثاني ص ٢٣٦.

(٣) رجال ابن داود : القسم الثاني ص ٢٥٤ رقم ٢٧٨.

(٤) التحرير الطاوسي ، ص ١٧٣ ، رقم ٢٣٤.


أليس الشيعة هم فرقة من فرق (١) المسلمين؟!

____________________________________

كم هي الفرق الإسلامية؟

روى المحدّثون في مجامعهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه حدّث عما سيصيب أمته من الانقسام والتفرق ، ولن ينجو من هذا سوى طائفة أو فرقة واحدة هي على طريق الحق وهناك طائفتان من النصوص بشأن هذا الافتراق :

الطائفة الأولى :

الحديث الأول : ما رواه الترمذي في السنن باب الإيمان ح ٢٥٦٤ قال : حدّثنا الحسين بن حريث أبو عمّار ، حدّثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

وفي نفس الباب : عن سعد وعبد الله بن عمرو ، وعوف بن مالك قال أبو عيسى : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

الحديث الثاني : أيضا روى الترمذي بطريق آخر حديث رقم ٢٥٦٥ قال : حدّثنا محمود بن غيلان ، حدّثنا أبو داود الجفريّ عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلّهم في النار إلّا ملّة واحدة.


قالوا : ومن هي يا رسول الله؟

قال : ما أنا عليه وأصحابي.

الحديث الثالث : ما أخرجه أبو داود في السنن حديث رقم (٣٩٨٠) قال : حدّثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله : «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

كما أخرج الحديث نفسه الترمذي في سننه باب الإيمان حديث رقم (٢٥٦٤) وأخرجه ابن ماجه في الفتن رقم (٣٩٨١) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي قال : «تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

كما أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين حديث رقم (٨٠٤٦) ونسب الشهرستاني في الملل والنحل ص ١٣ إلى النبي قال :

«ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ، والباقون هلكى ، قيل : ومن الناجية؟

قال : أهل السنة والجماعة ، قيل : ما السنّة والجماعة؟

قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

لكن هذا الحديث ، وذيل الحديث الثاني عليهما آثار الكذب على رسول الله ، لأن مصطلح السنّة والجماعة لم يكن شائعا في عهد النبي الأكرم ، وإنما اشتهر في عصر بني أمية ، هذا مضافا إلى أن هناك أحاديث تذم بأكثر أصحابه صلوات الله عليه وآله فكيف يثبت هذان الحديثان صحة ما عليه أصحابه؟!


الطائفة الثانية :

ذكر البشاري المقدسي في «أحسن التقاسيم» متن حديث الافتراق بشكل آخر هكذا :

«تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في الجنة ، وواحدة في النار».

ثم قال : هذا أصح إسنادا من النص الآخر «اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة ناجية» وإن كان الأخير الأشهر.

أقول :

ليت شعري كيف يتجرأ هذا المذكور على رسول الله بالكذب ، فيطرح خبرا مشهورا ، ويأخذ بخبر واحد لغاية في نفس المقدسي قضاها لأنه يعلم يقينا أن كل فرق المسلمين مع ما تحمله كل فرقة من معتقدات سخيفة لا تمت إلى العقل والدين بصلة ، كل هؤلاء يقفون موقف رجل واحد ضد الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، لذا أراد أن يدخل كل هذه الفرق الجنّة ويدخل الشيعة الإمامية النار.

وليس في هذه الطائفة الثانية سوى هذا الحديث ، فكيف يؤخذ بخبر واحد مخالف للأخبار المشهورة على حد اعترافه بذلك؟!!

هذا مضافا إلى ما روى في الطائفة الأولى من أن الفرقة الناجية هي أصحابه مبني على النظرية القائلة إن كل أصحاب النبيّ عدول ، وهذا غير صحيح ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أكثر أصحابه إلى النار ، فقد رووا في الصحاح أن النبيّ قال :

الحديث الأول : «إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني» (١).

الحديث الثاني : وما رواه الخاصة والعامة من أن النبيّ صلوات الله عليه وآله قال في حجة الوداع لأصحابه :

__________________

(١) مسند أحمد ج ٦ / ٣٠٧.


«ألا وإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفّارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم» (١).

الحديث الثالث : ما ورد عن النبيّ أيضا قال لأصحابه :

«إنّكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وأنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

الحديث الرابع : ما ورد عنه صلوات الله عليه وآله ، قال :

«أيّها الناس ، بينا أنا على الحوض ، إذ مرّ بكم زمرا ، فتفرق بكم الطرق ، فأناديكم : ألا هلموا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي : إنّهم بدّلوا بعدك ، فأقول : ألا سحقا ، ألا سحقا»(٣).

الحديث الخامس : ما ورد أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«ما بال أقوام يقولون : إنّ رحم رسول الله لا تنفع يوم القيامة ، بلى ـ والله ـ إنّ رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة ، وإني ـ أيّها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم ، قال الرجل منكم : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، وقال الآخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أما النسب فقد عرفته ، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقرى» (٤).

__________________

(١) الجامع الصحيح للترمذي ج ٤ / ٤٦١ ، ح ٢١٥٩ و ٤٨٦ ح ٢١٩٣ وصحيح البخاري ج ٧ / ١٨٢ وج ٨ / ٢٨٥ وصحيح مسلم ج ٣ / ٢٩ ـ ٣١ ح ١٣٠٥ وسنن أبي داود ج ٤ / ٢٢١ ح ٤٦٨٦ ومسند أحمد ج ١ / ٢٣٠ وسنن النسائي ج ٧ / ١٢٧ والدارمي ج ٢ / ٦٩ والإفصاح للمفيد ص ٥٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ١٠٨ صحيح مسلم ج ٤ / ٥٨ ح ٢١٩٤ والجامع الصحيح للترمذي ج ٤ / ٦١٥ ح ٢٤٢٣ وسنن النسائي ج ٤ / ١١٧.

(٣) مسند أحمد ج ٦ / ٢٩٧.

(٤) مسند أحمد ج ٣ / ١٨ و ٦٢.


الحديث السادس : خاطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه ، وقال :

«لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟

قال : فمن إذن» (١).

هذه نبذة من النصوص رواها الثقات من أصحاب الآثار ، دلت على ماهية أصحاب النبي وكشفت الزيف الذي كانوا عليه ، وهذه الطائفة تؤكد ما ذكره الله في كتابه مخاطبا أصحاب النبي :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢).

فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القطع والثبات.

عود على بدء :

إذن فلا يعتمد على الطائفة الثانية لعدم وفرة النصوص فيها إلا ما رواه المقدسي ، هذا بالإضافة إلى تفرده بنقل هذه الرواية ، وتفرده ليس حجّة على الثبوت ، فلا يمكن حينئذ الاعتماد على رواية ، وطرح روايات دلت عليها الطائفة الأولى. هذا وقد شكّك بعض العامة بالطائفة الأولى ، منهم ابن حزم إمام المذهب الظاهري حيث حكم بعدم صحة حديث الافتراق وحديث لعن القدرية والمرجئة ، وقال :

«هذان حديثان لا يصحّان أصلا عن طريق الإسناد ، وما كان هكذا فليس بحجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف بمن لا يقول به» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٢ / ٥١١. سنن ابن ماجه ج ٢ / ١٣٢٢ ح ٣٩٩٤. صحيح البخاري ج ٤ / ٣٢٦ / ٢٤٩.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) الفصل ج ٣ / ٢٤٨.


وعارضه جماعة من العامة أمثال الترمذي الذي نقل عن أبي عيسى الذي صرّح بصحة الحديث.

هذا بالإضافة إلى أن الواقع الخارجي للأمّة الإسلامية ينبئك عن صحة الحديث ، واعتبار مضمونه.

والحديث رواه الشيخ الصدوق من الإمامية بطريقين في كتابه الخصال ج ٢ ص ٥٨٤ أبواب السبعين وما فوق.


قال الرجل : كلا ، إنهم لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان.

قال الملك : وهل هناك مسلم لا يعترف بخلافة هؤلاء الثلاثة؟

قال الرجل : نعم ، هؤلاء هم الشيعة.

قال الملك : وإذا كانوا لا يعترفون بإمامة هؤلاء الصحابة ، فلما ذا يسميهم الناس مسلمين؟

قال الرجل : ولذا قلت لك إنهم كفّار.

فتفكّر الملك مليا ثم قال :

لا بدّ من إحضار الوزير «نظام الملك» لنرى جليّة الحال.

أحضر الملك «نظام الملك» وسأله عن الشيعة ، هل هم مسلمون؟

قال نظام الملك : اختلف أهل السنة ، فطائفة منهم يقولون : إنّهم مسلمون ، لأنهم ـ أي الشيعة ـ يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله ويصلون ويصومون ، وطائفة منهم يقولون : إنهم كفّار.

قال الملك : وكم عددهم؟

فقال نظام الملك : لا أحصي عددهم كاملا ، ولكنهم يشكّلون نصف المسلمين تقريبا.

قال الملك : فهل نصف المسلمين كفار؟

قال الوزير : إن بعض أهل العلم يعتبرونهم كفارا وإني لا أكفّرهم.

قال الملك : فهل لك أيها الوزير أن تحضر علماء الشيعة وعلماء السنة لنرى جليّة الحال؟


قال الوزير : هذا أمر صعب ، وأخاف على الملك والمملكة.

قال الملك : لما ذا؟

قال الوزير : لأن قضية الشيعة والسّنّة ، ليست قضية بسيطة ، بل هي قضية حق وباطل قد أريقت فيها الدماء ، وأحرقت فيها المكتبات ، وأسرت فيها نساء ، وألفت فيها كتب وموسوعات ، وقامت لأجلها حروب!!

تعجب الملك الشاب من هذه القضية العجيبة ، وفكّر مليا ثم قال :

أيها الوزير ، إنك تعلم أن الله أنعم علينا بالملك العريض ، والجيش الكثيف ، فلا بد أن نشكر الله على هذه النعمة ، ويكون شكرنا أن نتحرى الحقيقة ، ونرشد الضّال إلى الصراط المستقيم ، ولا بد أن تكون إحدى هاتين الطائفتين على حق ، والأخرى على باطل ، فلا بد أن نعرف الحق فنتبعه ، ونعرف الباطل فنتركه ، فإذا هيأت ـ أيها الوزير ـ مثل هذا المجلس بحضور العلماء من الشيعة والسنّة ، بحضور القوّاد والكتّاب ، وسائر أركان الدولة ، فإذا رأينا أن الحق مع السنّة ، أدخلنا الشيعة في السنّة بالقوة.

قال الوزير : وإذا لم يقبل الشيعة أن يدخلوا مذهب السنّة ، فما ذا تفعل؟

قال الملك الشاب : نقتلهم!

فقال الوزير : وهل يمكن قتل نصف المسلمين؟

قال الملك : فما هو العلاج والحل؟


قال الوزير : أن تترك هذا الأمر.

انتهى الحوار بين الملك ووزيره الحكيم العالم (١) ، ولكن الملك بات تلك الليلة متفكرا قلقا ، ولم ينم إلى الصباح ، فكيف يستعصي عليه هذا الأمر المهم.

وفي الصباح الباكر دعا نظام الملك وقال له :

حسنا ، نستدعي علماء الطرفين ، ونرى نحن من خلال المحادثات والمناقشات التي تدور بينهما أن الحق مع أيهما ؛ فإذا كان الحق مع مذهب السنة ، دعونا الشيعة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ورغّبناهم بالمال والجاه ، كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المؤلفة قلوبهم(٢) ..

____________________________________

(١) فبقرينة «الحكيم العالم» يعرف أن الملك الشاب كان متسرّعا بحكمه بقتل الشيعة في بغداد أو من كان تحت سيطرة الملك ؛ والتسرّع سكرة الشباب.

(٢) «المؤلفة قلوبهم» قوم يراد تأليف قلوبهم ، وجمعها على الإسلام لدفع شرها ، أو ليستعين بهم المسلمون في الدفاع عنهم وعن مبادي الدين الحنيف ، فيعطى هؤلاء من الزكاة المفروضة بنص الكتاب المجيد لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ) (سورة التوبة : ٦٠).

ويوجد خلاف بين الفقهاء ، على لفظ «المؤلفة» في باب الزكاة : هل هم قوم أظهروا الإسلام على شك منه أم خاص بمن لم يظهر الإسلام؟

المشهور قال بالتعميم ، بمعنى : أن لفظ المؤلفة قلوبهم يشمل الكفّار وضعاف العقول من المسلمين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.


قال العلّامة الطباطبائي قدس‌سره في كتابه العروة الوثقى فصل الزكاة :

«المؤلفة قلوبهم من الكفّار ، الذين يراد من إعطائهم ألفتهم وميلهم إلى الإسلام ، أو إلى معاونة المسلمين في الجهاد مع الكفّار أو الدفاع ، ومن المؤلفة قلوبهم الضعفاء من المسلمين لتقوية اعتقادهم أو لإمالتهم إلى المعاونة في الجهاد أو الدفاع».

وسهم المؤلفة قلوبهم باق إلى يومنا هذا عند الإمامية ، أما الأحناف فذهبوا : إلى أن هذا الحكم قد شرّع في بداية الإسلام لضعف المسلمين ، أما اليوم ، وقد أصبح الإسلام قويّا فذهب الحكم بذهاب سببه.

أجاب الشيعة :

إنّ الحكم باق ما دام على وجه الأرض غير مسلم ومناوئ للإسلام إذ محال أن يسقط المسبب ، مع بقاء سببه ، ويرتفع المعلول مع وجود علّته.

ووافقهم بعض الفرق الإسلامية ، وأنّ السهم المذكور باق حكمه يعطى للمسلم وغيره على شريطة أن يعود العطاء بالخير والمصلحة على الإسلام والمسلمين ، وقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفوان بن أميّة وهو مشرك ، كما أعطى أبا سفيان وأمثاله بعد أن أظهروا الإسلام خشية من شرّهم وكيدهم للدين والمسلمين.


وبذلک نتمکن من خدمة الإسلام والمسلمين.

فقال الوزير : رأيك حسنّ ، ولكني أتخوف من هذا الحوار (المؤتمر)!

قال الملك : ولماذا الخوف؟

فقال الوزير : لأني أخاف أن يتغلب الشيعة على السنّة ، وترجّح احتجاجاتهم علينا ، وبذلك يقع الناس في الشك والشبهة!

فقال الملك : وهل يمكن ذلك؟

قال الوزير نعم : لأن الشيعة لهم أدلة قاطعة ، وبراهين ساطعة من القرآن والأحاديث الشريفة على صحة مذهبهم وحقيقة عقيدتهم (١)!

____________________________________

(١) الأدلة على صحة عقيدة الشيعة :

إنهم ـ أي الشيعة الإمامية ـ يعتقدون طبقا للأدلة القرآنية والأحاديث النبويّة الصحيحة والصريحة على أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هو الخليفة الحقّ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وأنّ من نازعه في ذلك فقد أخذ ما ليس له ونازع الله تعالى ورسوله.

والأدلة على صحة عقيدة الشيعة أصولا وفروعا كثيرة ، نذكر بعضا منها على صحّة عقيدتنا بالإمامة المتمثلة أوّلا بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانتهاء بالإمام الغائب المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ؛ ولن نستغرق هنا بالبحث في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّ ذلك يطيل بالبحث وهذا ما نتجنّبه دوما للاختصار (إلّا أننا سنذكر بعضا منها في الصفحات الآتية) ، ونكتفي بإقامة الأدلة على إمامة الأئمة بشكل عام ، وهو عبر طريقين :


* الطريق الأول : ويتمثّل بالأدلة العقلية.

* الطريق الثاني : ويتمثّل بالأدلة النقليّة.

أما الأدلة العقلية فمفادها :

أولا :

إنّ الإمامة واجبة عقلا بمقتضى قاعدة اللطف التي هي عبارة عمّا يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية من باب الرحمة والكمال المطلق لله تعالى ، وهي تماما كالنبوّة : لطف منه تعالى بعباده حيث يرسل إليهم الرسل ليرشدوهم إلى منافعهم ومصالحهم ويبعّدوهم عن المضارّ في الدنيا والآخرة ، لأنّ العقل محدود في تفكيره فلا يكفي إرشادهم إلى ما ينفعهم وما يضرّهم ؛ كما أنّ التجريبيّات الحاصلة للبشر طوال التاريخ لم تكن وافية بذلك. هذا مضافا إلى أن حاجات الإنسان لا تنحصر بالعالم المادي المشهود ، وأنّ ما وراءه لا يكشف عادة بالعقل ولا يكون في حيطة الحسّ والتجربة ، والوجدان غير كاف للكشف عمّا وراء الطبيعة بشكل تفصيليّ ، لأنّ الكشف عن الأمور التفصيلية عما وراء الطبيعة بحاجة إلى عوامل مساعدة تحيط بذاك العالم ، وهذا لا يكون إلا بواسطة الأنبياء والأولياء والرسل ، ولو أهمل سبحانه الإنسان مع ما له من العقل والوجدان ولم يرسل لهم الأنبياء والأولياء لكان لهم العذر والحجّة على الله تعالى لعدم تمكّنهم من نيل السعادة بدون وساطة الأنبياء ، ولكنّ إرسال الرسل يقطع عذرهم وتكون الحجّة عليهم آكد ، وذلك لقوله تعالى :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١).

إذن فائدة بعثة الأنبياء والأولياء إرشاد العباد إلى الخير والصّلاح وإبعادهم عن الشرّ والفساد. وهناك فوائد أخر لبعثتهم وهي تزكية النفوس البشرية المركّبة من

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٦٥.


عقل وشهوة ، وبما أنّ طبيعة المخلوق الأرضيّ ونزوعه نحو المادّة سوف تطغى عليه عوامل الشرّ والفساد فيزيغ عن الصراط السويّ وفي ذلك فساد كبير ونقض للغاية التي خلق لأجلها الإنسان وهي المعرفة والعبادة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وحتى تنتظم عوامل الخير عند الإنسان أرسل سبحانه المبشّرين والمنذرين لتنال البشرية حظها الأوفر من المعرفة الإلهية.

ومن فوائد بعثة الأنبياء (عليهم‌السلام):

ضبط الروابط الاجتماعية من الانحراف نحو الظلم والفحشاء والمنكرات بردع الظّالم عن ظلمه ، وحفظ الشريعة من الانحراف والزيادة والنقصان ؛ وإزالة الشبهات التي تعترض معتنقيها.

هذه أهم الفوائد لبعثة الأنبياء وهي بنفسها وظائف للإمام أو الإمامة ، لأنّ الإمامة خلافة عن النبوّة ، قائمة مقامها إلّا في تلقي الوحي ، فكما أن البعثة واجبة على الله تعالى بحكم العقل كذلك الإمامة واجبة عليه تعالى بحكم العقل وطبقا لقاعدة اللطف.

وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوّة على طول خط الزمن ، فكما أنّ زمنا ما لم يخل من نبيّ منذ آدم عليه‌السلام إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كذلك لن يخلو زمن بعد خاتم الأنبياء من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضّح المتشابهات ، خصوصا وأنّ شريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لكل الشرائع فلا بدّ لها أن تعطي لكلّ حادثة متجددة حلا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة فيتعيّن إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ويشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفّله المعصوم الذي ينوب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا لم يبعث الله تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك ، دلّ على خلوّ الزمان من إمام ، وهو فاسد.

قال العلّامة النّراقي قدس‌سره :


«إن رتبة الإمامة قريب من رتبة النبوّة إلّا أنّ النبي مؤسس للتكاليف والأحكام الشرعية بمعنى أنه جاء بالشريعة والأحكام والأوامر والنواهي من جانبه ابتداءً والإمام يحفظها ويبقيها بعنوان النيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

«فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أنّ النبي رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي وتنتشر منه وبتوسّطه إلى الناس وفيهم ، والإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبيّ دليل يهدي إلى الاعتقادات الحقّة والأعمال الصالحة» (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره العلّامة الطباطبائي قدّس سره في تعريف وظائف الإمام وأنها باطنية لا يناقض وظائفه الظاهرية التي كانت من مختصّات النبي إذ لا فرق بين النبي والإمام إلا في تلقّي الوحي.

ثانيا :

يجب أن يكون الإمام «الذي ثبتت حاجة الناس إليه» معصوما عن الخطأ وبما أنّ غير الأئمة عليهم‌السلام ليسوا معصومين إجماعا فتعيّنت العصمة لهم وإلّا لزم خلوّ الزمان من المعصوم وهو مستحيل لما تقدّم من فائدة بعثة الأنبياء والأولياء وأنها لطف ، وكون وجود الإمام لطفا من وجوه :

أحدها : إنّ الإمام يحفظ الشرائع ويحرسها من الزيادة والنقصان.

ثانيها : إنّ اعتقاد المكلّفين بوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم من الصلاح وهذا معلوم بالضرورة.

ثالثها : إنّ تصرّفه لا شك أنه لطف وذلك لا يتم إلا بوجوده فيكون وجوده بنفسه لطفا ، وتصرّفه يعدّ لطفا آخرا.

__________________

(١) أنيس الموحّدين ، ص ١٢٧.

(٢) تفسير الميزان ج ١٤ / ٣٠٤ ، ط / مؤسسة الأعلمي.


ثالثا :

إنّ الكمالات النفسانية والبدنية بأجمعها موجودة في كل واحد من أئمتنا عليهم‌السلام ، ومن كان كاملا في نفسه كذا هو مكمّل لغيره وذلك يدلّ على استحقاقه الرئاسة العامّة لأنه أفضل أهل زمانه ، وحيث يقبح تقديم المفضول على الفاضل ، يقبح تقديم غيرهم عليهم ، فيثبت كون كل واحد منهم إماما وهو المطلوب.

وأما الأدلة النقليّة :

فمن الكتاب ، قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١).

بتقريب :

إنّ الله سبحانه هو الجاعل للناس خليفة ولا يحقّ لغيره أن ينتخب خليفته سبحانه ، وحيث إنّ حيثية الخلافة لم تكن مقيّدة بجهة معيّنة. يفهم من ذلك أن الخلافة ظاهرة في كون هذا الخليفة نائبا عن المستخلف له في جميع شئون ما استخلف عليه ، فلا تختصّ خلافته ببعض دون بعض وفي مورد دون آخر بل هي عامة لمختلف الشئون الخاصّة والعامّة ، وهذا يدلّ على أنّ الخليفة يفرض له أن يتحلّى بكل الأسماء الإلهية والصّفات الربانية لأنه نائب عنه سبحانه فيها ، وحيث إنّ تعبيره سبحانه ب «إني جاعل» ولم يقل «سوف أجعل» أو «جعلت» يدلّ على استمرار هذا الجعل في أمد الزمان من أوّل خلقه آدم إلى يوم القيامة ، فأوّل فرد من أفراد الإنسان يكون كذلك ، وإلّا لم يكن جاعلا في الأرض خليفة ، ويدوم ذلك كذلك إلى آخر الزمن ، فوجود الإنسان الكامل الخليفة لا يختصّ بزمان دون زمان.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.


ومن الآيات أيضا قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١).

هنا ، أوجب سبحانه طاعة أولي الأمر وهم أئمتنا عليهم‌السلام على الوجه الذي أوجب طاعته تعالى وطاعة رسوله بمقتضى العطف الموجب لإلحاق حكم المعطوف بالمعطوف عليه ، ومن المعلوم ضرورة عموم طاعته تعالى وطاعة رسوله في كل الأزمنة والأمور فليست طاعته تعالى وطاعة رسوله منحصرة أو مقيّدة بزمن دون آخر بل هي عامة إلى يوم القيامة ، فيجب مثل ذلك لأولي الأمر بموجب الأمر ، وذلك يقتضي توجّه الخطاب ب : «أولي الأمر» إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لأنه لا أحد قال بعموم طاعة أولي الأمر إلّا خصّ بها عليا أمير المؤمنين والأئمة من ذريّته عليهم‌السلام ، وإذا عمّت طاعته الأمّة والأزمان والأمور ثبت كونه معصوما لاجتماع الأمة على إمامة من كان كذلك وعدم استحقاقه لغيره.

ومن الآيات قوله تعالى :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

اتفق الخاصّة والعامة على نزول الآية المباركة بأهل الكساء الخمسة في بيت أم المؤمنين «أم سلمة» ، فقد أخرج ابن كثير في تفسيره عن أحمد بن حنبل ، بسند معنعن عن أم سلمة ، قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، فأتته فاطمة (رضي الله عنها) ببرمة فيها خزيرة أو عصيدة ، تحملها على طبق ، فوضعتها بين يديه فقال لها : «ادعي زوجك وابنيك» قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين رضي الله عنهم ، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك العصيدة ، وكان تحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله عزوجل الآية ، قالت أم سلمة : فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثم قال :

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٥٩.

(٢) سورة الأحزاب ، آية : ٣٣.


«اللهم هؤلاء هم أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فأدخلت رأسي ، فقلت : وأنا معكم يا رسول الله؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك إلى خير ، إنك إلى خير».

وعن أحمد بن حنبل بإسناده إلى أنس بن مالك أنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» (١).

والآية المباركة تشير إلى عصمة أهل البيت الذين كانوا تحت الكساء ، وقد اعترض جمهور علماء العامة في مصادرهم بأنّ الآية نزلت لبيان فضل النبي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ولا يراد من إذهاب الرجس والتطهير سوى العصمة ، فإذا ثبتت عصمتهم عليهم‌السلام ثبتت قيادتهم للمجتمع ، وإنهم أئمة وقادة ، فمن كان معصوما فهو جدير بأن يكون خليفة ، يأخذ بيد البشرية إلى غايتها المنشودة ، فقياس المعصوم على غيره قياس مع الفارق ، حيث إن المعصوم يستحيل أن يتطرق إلى ساحته خطأ ، بعكس غيره ، فإن جلّ تصرفاته تكون مشوبة بالخطر والخطأ والسهو والنسيان ، فتقديم غير المعصوم على المعصوم في إدارة شئون المجتمع بعد رحيل النبي يعتبر تنكيسا لحكم العقل القائل بقبح تقديم الجاهل على العالم ، والظلمة على النور ، قال تعالى مقرّعا هؤلاء : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٣).

وهناك آيات كثيرة دلت على فضائل العترة الطاهرة فوق المائة آية ، ولكن من أراد المزيد فليراجع «نهج الحق» للعلّامة الحلّي قدّس سره.

وأما الأخبار : الدالة على إمامة الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام فكثيرة ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤١٣ ، ط / دار القلم.

(٢) سورة الزمر ، آية : ٩.

(٣) سورة فاطر ، آية : ١٩.


منها : ما رواه الطرفان : أن الأئمة عليهم‌السلام اثنا عشر خليفة إلى يوم القيامة. فعن جابر ابن سمرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ؛ ثم تكلم النبي بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي : ما ذا قال رسول الله؟ قال : كلّهم من قريش» (١).

وبسند آخر عن جابر بن سمرة قال :

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة. قال : ثم تكلّم بشيء لم أفهمه ، فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : كلهم من قريش» (٢).

وفي طريق آخر عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ؛ قال : كتبت إلى جابر بن سمرة ، مع غلامي نافع : أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فكتب إليّ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة ، عشية رجم الأسلمي ، يقول : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (٣).

وبلفظ آخر رواه البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي يقول : يكون اثنا عشر أميرا .. (٤).

والمقصود من الاثني عشر خليفة أو أمير : هم النقباء الذين عيّنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته بدءا بعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام وانتهاء بالإمام المهدي عليه‌السلام.

وقد فشلت كل المحاولات التي قام بها بعض العامة لتطبيق الحديث المذكور على خلافة الأربعة وأطلقوا عليهم اسم الخلفاء الراشدين ، مرورا ببعض

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ١٧٠ ح ٦ ـ ٧.

(٢) نفس المصدر ح ٨.

(٣) نفس المصدر ج ١٠ رقم ١٨٢٢.

(٤) صحيح البخاري ج ٨ / ٤٧٢ ح ٧٢٢٢ باب الأحكام ، ورواه الترمذي في الصحيح ج ٢ / ٣٥ وأحمد بن حنبل في المسند ج ٥ / ٩٢.


خلفاء بين أمية وبني العباس ، ولنا على هذه المحاولة ملاحظات تبطل ما ذهب إليه القوم منها :

إن العدد ١٢ لا يستغرق تاريخ الخلافة الأموية والعباسية ولا تاريخ الخلفاء الراشدين الأربعة أو الخمسة بانضمام الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام لكونهم أقل عددا أو خلافة في سواهم لكونهم أكثر عددا.

هذا مضافا إلى أن بني أمية وبني العبّاس أغلبهم من أهل الفسق والفجور قد قضوا أعمارهم بشرب الخمور والملاهي والمحرّمات ، فكيف يصح أو يجوز أن يكونوا خلفاء رسول الله ، مع أن الخلافة منصب رباني يعتبر في الخليفة أن يكون القدوة في الإيمان والصالحات ، كما لا بدّ أن يكون الخليفة المرجع في كل الأمور لا سيّما العلمية منها ، في حين نرى كل هؤلاء الخلفاء ليست فيهم صفة واحدة من صفات العترة الطاهرة. هذا بالغض عن أن هؤلاء تربّعوا على سدنة الخلافة بالقهر والقوة.

كما أن الحديث المزبور لا ينطبق أيضا على ما تعتقده سائر فرق الشيعة من الزيدية والإسماعيلية والفطحية والواقفية وغيرهم لكون أئمتهم أقل ، فينحصر انطباقها على ما يعتقده الشيعة الاثنا عشرية من إمامة الأئمة الاثنى عشر الذين هم عترة النبي أوّلهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم المهدي الحجة ابن الحسن العسكري عليه‌السلام.

ومما يؤكد هذا ما رواه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول : بعدي اثنى عشر خليفة ثم أخفى صوته فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟

قال أبي : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّهم من بني هاشم (١).

ورواه بطريق آخر عن سماك بن حرب.

__________________

(١) ينابيع المودة ، ص ٣٨ ، ط / قم.


ومما يزيد الأمر جلاء وأن الخلفاء هم أناس مخصوصون بالتطهير والكرامة ، ما رواه القندوزي بطريقين عن الشعبي عن عمر بن قيس قال : كنا جلوسا في حلقة فيها عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي فقال : أيكم عبد الله بن مسعود؟

قال : أنا عبد الله بن مسعود ، قال : هل حدّثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال : نعم ، اثني عشر عدد نقباء بني إسرائيل (١).

وعن الشعبي عن مسروق قال : بينما نحن عند ابن مسعود نعرض مصالحنا عليه إذ قال له فتى : هل عهد إليكم نبيكم كم يكون من بعده خليفة؟

قال : إنّك لحديث السن ، وإنّ هذا شيء ما سألني أحد قبلك ، نعم ، عهد إلينا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل (٢).

وعن جرير عن أشعث عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الخلفاء بعدي اثنى عشر خليفة بعدة نقباء بني إسرائيل (٣).

وفي لفظ آخر : يكون بعدي عدد نقباء موسى عليه‌السلام قال الله عزوجل : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٤).

والروايات من مصادرنا كثيرة دلت على أن الأوصياء بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنى عشر وصيا ، ذكرهم النبيّ بأسمائهم منها ما رواه القندوزي :

عن الأصبغ بن نباتة عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون (٥).

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٣٠٧ المودة العاشرة.

(٢) نفس المصدر ص ٣٠٧.

(٣) نفس المصدر ص ٣٠٨.

(٤) الغيبة للطوسي ص ٩١.

(٥) ينابيع المودة ص ٣٠٨.


وعن عباية بن ربعي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا سيد النبيّين وعلي سيّد الوصيين ، إن أوصيائي بعدي اثنى عشر ، أولهم عليّ وآخرهم القائم المهدي (١).

فحديث نقباء بني إسرائيل دالّ على انحصار الخلافة في اثني عشر إماما ، وأنهم خلفاء بالنص من الله تعالى كعدة نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٢).

وقد عرفت ـ أخي القارئ ـ بما تقدم من أن الخلفاء بعد النبي اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل كخبر جرير وابن مسروق المروي في الينابيع ومسند أحمد بن حنبل ج ١ / ٣٩٨ وغيره من مصادر القوم.

إذن حديث النقباء دلالة واضحة على انحصار الخلافة في اثني عشر وأنهم خلفاء بالنص لقوله صلوات الله عليه وآله «كعدة نقباء بني إسرائيل» فإنّ نقباءهم خلفاء بالنص لقوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وسؤال الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان عن خلفائه بالنص ، وليس سؤالا عن تأمير الناس ، ولا تغلّب السلاطين على الأمة الإسلامية ، لأن تأمير الناس وتغلّب السلاطين لا يبتني عادة على الدين حتى يهمّ الصحابة بالسؤال عنه ، ولأن السلاطين بلا نص ، لا يحتاج إلى السؤال عنهم ، وعن عددهم ، لأن العادة جرت على وجود مثلهم ، وأنهم لا ينحصرون بعدد ، فظهر أن السؤال إنما هو عن الخلفاء بالنص ، وعنهم أجاب النبيّ ، ولا قائل بأن الخلفاء اثنى عشر بالنص غير أئمتنا عليهم‌السلام فيكونون هم المراد بالاثنى عشر في هذا الحديث.

ومن الأخبار : على إمامة الأئمة عليهم‌السلام ما رواه الفريقان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) سورة المائدة ، آية : ١٢.


فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (١).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، كما صحّحه ابن حجر في صواعقه.

وقد روي الحديث بطرق وألفاظ متعددة منها ما أخرجه محمد بن المنكدر عن أبيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خرج ذات ليلة وقد أخّر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة ، والناس ينتظرون في المسجد ، فقال :

ما تنتظرون؟ فقالوا : ننتظر الصلاة ، فقال : إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ، ثم قال : أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : النجوم أمان لأهل السماء ، فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون (إلى أن قال) وأهل بيتي أمان لأمتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون (٢).

ورواه القندوزي عن أحمد في المناقب عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه قال : قال رسول اللهعليه‌السلام :

النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض.

ثم قال القندوزي : «أيضا أخرجه ابن أحمد في زيادات المسند والحمويني في فرائد السمطين عن عليّ كرّم الله وجهه ، أيضا أخرجه الحاكم عن محمد الباقر عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم» (٣).

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٤٩ وفضائل الخمسة من الصحاح السنة ج ٢ / ٥٩ وابن حجر في الصواعق ص ١٤٠.

(٢) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٥٩ نقلا عن مستدرك الصحيحين ج ٣ / ٤٥٨ وكنز العمال ج ٦ / ١١٦ والصواعق المحرقة ص ١١١ وذكره الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٧٤ وقال : رواه الطبراني. كما ذكره المناوي في فيض القدير ج ٦ / ٢٩٧ والمتقي الهندي في كنز العمال ج ٧ / ٢١٧ وذخائر العقبى للطبري ص ١٧.

(٣) ينابيع المودة ص ٢١ الباب الثالث.


وهذا الحديث المبارك شاهد صدق على إمامة الأئمة عليهم‌السلام إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه فضلا عن أن يكون أمانا لغيره.

فإذا كانوا أفضل الناس باعتبار كونهم أمانا لأهل الأرض فإن ذلك دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، وهذه حجّة على المخالفين الذين أنكروا ولادة الإمام المهديّ المنتظر عجّل الله فرجه الشريف وادّعوا أنه سيولد.

والسرّ في كون الأئمة عليهم‌السلام أمانا لأهل الأرض هو أنهم منزهون مقدّسون مطهرون عنده سبحانه ، هذا مضافا إلى إحاطتهم لصفات الجمال والكمال الرباني وعبادتهم لله وحده ؛ وهذه المكرمة التي اختصهم بها المولى سبحانه تماما كمكرمة نبيّه الأعظم الذي به دفع العذاب عن العباد ما دام بين ظهرانيهم وما داموا يستغفرون قال تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١) والأئمة عليهم‌السلام هم نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٢).

ومثل حديث الأمان حديث السفينة المروي عند الفريقين أيضا بسند صحيح عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ باب الكعبة : أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (٣).

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية : ٣٣.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ٦١.

(٣) مستدرك الصحيحين ج ٢ / ٣٤٣ وكنز العمال ج ٦ / ٢١٦ والهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٩٨ والطبراني في الكبير والأوسط والصغير ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٥٦ ـ ٥٧.


وفي تاريخ بغداد ج ١٢ / ١٩ روى بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما مثلي ومثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

كما رواه القندوزي (١) بطرق متعددة :

وورد في مستدرك الصحيحين حديث رقم (٤٧٢٠) زيادة «وهوى» في ذيل الحديث هكذا :

«مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى».

ودلالة الحديث واضحة على أن من يتخلّف عن ركب سفينة الأئمة عليهم‌السلام فهو هالك لا محالة ، لأن سفينتهم هي خشبة الخلاص من أمواج الكفر والضلال والشبهات ، فتصور ـ أخي المسلم ـ أنك على شاطئ تريد السفر ، وأمامك ثلاث وسبعين سفينة ، كلها ستغرق إلّا واحدة ستصل بأمان ، وكل أصحاب السفن ينادون : نحن الناجون ، وأثناء حيرتك جاءك خبير السفن ـ وكنت تعرف صدقه ـ وقال لك : إذا ركبت السفينة رقم اثني عشر نجوت وإذا تخلّفت عنها غرقت. بعد هذا هل ستترك السفينة رقم اثني عشر وتعدل إلى غيرها؟!!

ـ لا نعتقد أن عاقلا يفعل ذلك.

ونحن هنا في سفينة الحياة يحدّد لنا سيد الخلق السفينة الناجية من بين ثلاث وسبعين سفينة ، وعلى المعتقد بخبير السفن أن لا يعدل عنه إلى غيره ، لأن هذا الخبير ـ أي سيد الرحمة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نصح بركوبها ، فما لنا لا نقبل إرشاده ونصحه؟ ألا يحب أحد النجاة؟!

لقد نادى نوح ابنه ليركب سفينته (يا بنيّ اركب معنا) شفقة عليه ، وهكذا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٣٠.


رسول الله ينادي أمته التي علم بتفرقها يناديها «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» ، فلنذكر هذا ولا نكن كابن نوح الذي قال (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(١).

هذا مضافا إلى أن الحديث دالّ على وجودهم ما دام وجود الناس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث «فيكم» المروي في الينابيع ص ٣٠ نقلا عن الأوسط قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له (٢).

ومن الأخبار : حديث الثقلين.

وقد رواه الفريقان بأسانيد صحاح وطرق متعددة ، فهو من الأحاديث المتواترة التي لا خدشة فيها.

روى الترمذي بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قالا :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ؛ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (٣).

وأورد في كنز العمال ج ١ / ٩٦ قال : عن محمّد بن عمر بن علي عن أبيه عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله سبب بيد الله ، وسبب بأيديكم ، وأهل بيتي».

قال : أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار وصحّحه ، انتهى.

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٤٣.

(٢) أيضا رواه الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٦٨.

(٣) صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠٨.


كما أخرجه الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٦٤ بطريقين عن حذيفة بن أسيد وعن زيد بن أرقم.

وأورده ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ٧٥ فقال : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في مرض موته : أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إني مخلّف فيكم كتاب ربي عزوجل ، وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد عليّ عليه‌السلام فقال : هذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألوهما ما خلّفت فيهما.

ثم قال ابن حجر : «اعلم أنّ لحديث الثقلين طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا».

فسنده في غاية الاعتبار ، ويكفي أن أجلّاء الصحابة ومشاهيرهم قد رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي ذر ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وزيد بن أرقم ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت ، وحذيفة بن أسيد الغفاري ، وعبد الله بن حنطب وغيرهم.

وأما دلالة الحديث على إمامة أئمتنا عليهم‌السلام فمن وجوه :

الأول : كون الكتاب والعترة ، لا يفترقان أبدا إلى يوم القيامة ، لوجود التلازم بينهما ، وقد أكد هذا التلازم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

الثاني : إنّ المتمسك بهما لن يضلّ أبدا ، ولا يكفي التمسك بالكتاب دون العترة ، لأن في الكتاب محكمات ومتشابهات لا يمكن الأخذ بواحد منها من دون الرجوع إلى من عنده علم الكتاب في توضيح مراد الكتاب.

الثالث : إن اقتران العترة بالكتاب دليل على علمهم بما في الكتاب ، وأنهم لا يخالفونه أبدا ، وعلمهم به ، دليل فضلهم على غيرهم ، وأما عدم مخالفتهم للكتاب فدليل على عصمتهم.


وبحديث الثقلين نثبت خلافة مولانا علي عليه‌السلام ووصايته على الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، بل لو لم يكن للشيعة دليل على خلافة علي عليه‌السلام سوى حديث الثقلين لكفاهم ذلك حجة على المخالف.

وكل ما ثبت لأمير المؤمنين هو بعينه ثابت لبقية الأئمة الطاهرين ، مع سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام التي هي أم الأئمة الأطهار ، والمطهّرة بنص الكتاب ، إذ لا أحد يدّعي أنها ليست من العترة ، والحديث دال على حجية أقوال وأفعال العترة الطاهرة ومن ضمنهم سيدتنا الزهراء عليها أفضل التحية وأشرف الصلوات.

ومما يزيدك في المقام توضيحا وأنّ المتعيّن من بين أهل البيت عليهم‌السلام ـ الذين استخلفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعلهم عدلا للقرآن المجيد وشريكا له ـ هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأولاده الميامين خاصة ، ما أفاده ابن حجر الهيثمي في صواعقه فإنّه ـ مع شدّة تعصّبه على الشيعة حتى سمّى كتابه ب : الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة ـ يعني بهم الشيعة ـ له كلام في المقام قد أدّى به حقّه ، وها نحن نذكره بعينه لنرى كيف قد أجرى الله تعالى الحقّ على لسانه.

قال في صواعقه ص ١٥١ : تنبيه :

سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقيّة الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين لأن الثقل كل نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة ، والأسرار والحكم العليّة ، والأحكام الشرعية ولذا حثّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسّك بهم ، والتعلّم منهم ، وقال : الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت (وقيل) سمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما ، ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض. ويؤيّده الخبر السابق (ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم) وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرّ بعضها ، وسيأتي


الخبر الذي في قريش (وتعلّموا منهم فإنّهم أعلم منكم) فإذا ثبت هذا العموم لقريش فأهل البيت أولى منهم بذلك لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقيّة قريش ، وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ويشهد لذلك الخبر السابق : (في كل خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ... إلخ) ، ثم أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لما قدمنا من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته ومن ثم قال أبو بكر : عليّ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي الذين حثّ على التمسّك بهم فخصّه لما قلنا. وكذلك خصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما مرّ يوم غدير خم ، (انتهى).

ومن الأخبار : الخبر المتواتر الوارد عن مولانا الإمام المهديّ عليه‌السلام عن جدّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية (١).

ومن طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعا : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.

ومن طريق عبد الله بن عمر ، وزاد : ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له(٢).

وهذا الحديث معتضد بألفاظ أخرى من طرق شتى منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (٣).

واستدل بهذا اللفظ شاه ولي الله في كتابه «إزالة الخفاء» ج ١ ص ٣ على وجوب نص الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوبا كفائيا.

__________________

(١) كمال الدين ج ٢ / ٤١٢ والكافي ج ١ / ٣٧٦ وغيبة النعماني ص ٣٣٠ وحلية الأولياء ج ٣ / ٢٢٤ ، مسند أحمد ج ٤ / ٩٦ ومجمع الزوائد ج ٥ / ٢١٨ والإفصاح ص ٢٨ والغدير ج ١٠ / ٣٥٩ وبحار الأنوار ج ٢٣ / ٩٢.

(٢) أخرجه ابن داود الطيالسي في مسنده ص ٢٥٩.

(٣) أخرجه ابن كثير في تفسيره ج ١ / ٤٤٤ ومسلم في الصحيح ج ٦ / ٢٢.


والحديث دال على وجود إمام في كل عصر ، لأن لكل زمان حجة من الله تعالى على العباد ، بحيث إذا مات المرء ولم يعرفه ويعتقد بإمامته مات ميتة ضلال مما يعني الدخول في النار وبئس القرار.

وهناك أخبار كثيرة تدل على أحقية مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وبطلان عقيدة من تمسك بغير أذيالهم.

إذن مقتضى الأخبار المتواترة أن الأئمة عليهم‌السلام هم اثنا عشر إماما عترة النبيّ محمّد ، أوّلهم ابن عمه وأخيه وصهره ووصيه ووزيره وحبيبه عليّ بن أبي طالب روحي فداه وآخرهم الإمام المفدّى الحجّة بن الحسن العسكري عجّل الله فرجه الشريف لا ينقصون واحدا ، ولا يزيدون ، ولازم هذا بطلان من اعتقد الأزيد كالزيدية حيث ذهبوا إلى مبايعة كل رجل من نسل النبي ، بشرط أن يخرج بالسيف على الظالمين ؛ كما أن لازمه بطلان من اعتقد الأقل كالكيسانية الذين قالوا بإمامة ابن الحنفية وأنه الإمام المهدي وهو مستتر ـ بزعمهم ـ إلى الآن في جبل رضوى قرب المدينة.

ويتبع في البطلان عقيدة الواقفية ؛ ومهما شرّق المرء وغرّب فلن يجد إلا عترة رسول الله محمّد حيث يدور الحق معهم حيثما داروا ، إلهي فبحقّهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقّهم وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم إنك أرحم الراحمين.

* * * * *


فلم يقتنع الملك بهذا الجواب من وزيره «نظام الملك» وقال له : لا بدّ من إحضار علماء الطرفين ، لينكشف لنا الحق ونميّزه عن الباطل ، فاستمهل الوزير الملك إلى شهر لتنفيذ الأمر ، ولكنّ الملك الشاب لم يقبل ذلك.

وأخيرا تقرر أن تكون المدة خمسة عشر يوما. وفي هذه الأيام جمع الوزير «نظام الملك» عشرة رجال من كبار علماء السنّة الذين يعتمد عليهم في التاريخ والفقه والحديث والأصول والجدل ، كما أحضر عشرة من علماء الشيعة ، وكان ذلك في شهر شعبان في المدرسة النظامية ببغداد ، وتقرّر أن ينعقد الاجتماع على الشروط التالية :

أولا : أن يستمر البحث من الصباح إلى المساء باستثناء وقت الصلاة والطعام والراحة.

ثانيا : أن تكون المحادثات مستندة إلى المصادر الموثوقة والكتب المعتبرة لا عن المسموعات والشائعات.

ثالثا : أن تكتب المحادثات التي تدور في هذا المؤتمر (١).

وفي اليوم المعيّن ، جلس الملك ووزيره وقواد جيشه وجلس علماء السنّة عن يمينه ، كما جلس علماء الشيعة عن يساره.

____________________________________

(١) ذكرنا في المقدمة أن مصطلح «مؤتمر» أدخل على الكتاب في القرون المتأخرة عن تاريخ صدوره ، ولا علاقة لمقاتل بن عطية بهذه التسمية أصلا فما تمسك به بعض من أن تعنون الكتاب بها قرينة على افتراضيته ، دونه خرط القتاد.


وافتتح الوزير «نظام الملك» المؤتمر (١) باسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة على محمّد وآله وصحبه ، ثم قال : لا بدّ أن يكون الجدال نزيها ، وأن يكون طلب الحق هو رائد الجميع ، وأن لا يذكر أحد صحابة (٢) الرسول بسبّ أو سوء.

____________________________________

(١) الأصح استبدالها بكلمة : «محاورة» لأنها الأصل في الكتاب كما أفاد مقاتل بن عطية.

(٢) مفهوم الصحبة عند الشيعة الإمامية :

إن صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنفس المهام التي يمكن بواسطتها أن يتكامل الفرد المستصحب ، وأن يعرج بنفسه إلى أفق الكمال والفضيلة ، لما يكتسبه من حكمة وعلم نتيجة الرفقة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبما أن مفهوم الصحبة واسع يمكن أن يندرج تحته مصاديق صالحة وطالحة ، أحببنا أن نوضّح شيئا من مفهوم الصحبة عند الخاصة والعامة.

المعنى اللغوي للصحبة :

لقد عرّف اللغويون كلمة «صحابي» أنه الملازم للشيء ، والملازم تارة : يكون إنسانا أو حيوانا أو مكانا أو زمانا. وجمعه : صحب وأصحاب ، وصحاب وصحابة. ويطلق «الصاحب» على كل من تقلّد مذهبا ، فيقال : أصحاب الإمام علي عليه‌السلام وأصحاب فلان وفلان. ويقال : «اصطحب القوم» : أي انقاد لهم (١).

إذن ، مفهوم الصحبة يقع بين العاقل وبين البهيمة وغيرها ، ولو كان مطلق الصحبة وسام شرف للمصاحب ، لكانت البهيمة أشرف من الإنسان الذي لم يدرك صحبة النبيّ.

__________________

(١) لاحظ مجمع البحرين ج ٣ / ٩٨.


وقد أجاد أدباء العرب بتصويرهم للصحبة ، حيث سمّوا الحمار صاحبا فقالوا :

إنّ الحمّار مع الحمار مطية

فإذا خلوت به فبئس الصاحب

وأيضا فقد سمّوا السيف صاحبا فقالوا :

جاورت هندا وذاك اجتنابي

ومعي صاحب كتوم اللسان

يعني السيف.

وعند تتبع آيات القرآن الكريم يجد المرء عدة منها توضّح صورا مختلفة عن الصحبة ، سواء أكانت خيّرة أم شريرة ، فقد تكون الصحبة بين ولد ووالدين مختلفين بالاعتقاد كقوله تعالى :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (١).

وقد تكون بين مؤمن ومؤمنة كقوله تعالى :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

وقد تكون بين جارين قريبين أو بعيدين وبين رفيقي السفر لقوله تعالى :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (٣).

فالجيرة من أبرز مصاديق الصحبة ، بحكم تلاصق البيوت والنفوس مع بعضها البعض ، لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ،

__________________

(١) سورة لقمان : آية ١٥.

(٢) سورة التوبة : آية ٧١.

(٣) سورة النساء : آية ٣٦.


وجار له حق الجوار : المشرك من أهل الكتاب.

والمراد بالصاحب الجنب إما : الرفيق في السفر أو الزوجة ، أو المنقطع إليك يرجو نفعك أو الخادم يخدمك.

والأولى حمله على الجميع (١).

وقد تكون بين مؤمن وكافر كقوله تعالى :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) (٢).

وقد تكون الصحبة اضطرارية كدخول يوسف على النسوة فقطّعن أيديهنّ ، وكصحبته لزوجة العزيز ولفتيا السجن كقوله تعالى :

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣).

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٤).

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) (٥).

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) (٦).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ / ٦٣.

(٢) سورة الكهف : آية ٣٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٣١.

(٤) سورة يوسف : آية ٢٣.

(٥) سورة يوسف : آية ٣٦.

(٦) سورة يوسف : آية ٤١.


فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل وبين البهيمة ، وبين الحيوان والجماد فأي حجة لأصحابنا الأشاعرة الذين يتفاخرون بصحبة أبي بكر وعمر وغيرهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأما المعنى الاصطلاحي للصحبة :

فقد عرّفها ابن حجر العسقلاني بقوله :

«الصحابي من لقي النبي مؤمنا به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لو يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى» (١).

والتدبر في تعريف ابن حجر «للصحابي» يتمخض عنه :

أولا : إنّ الالتقاء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجب شرف الصحبة حتى لو كان الملاقي طفلا رضيعا ، لأن المشاهدة لا تنسب له إنما تنسب للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصدق على الطفل أنّه لاقى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثانيا : الإيمان بالنبيّ أنه نبي حقيقة ، وهذا لو أخذنا به بحسب تعريف ابن حجر لزم علينا أن نتأكد من حقيقة هذا الإيمان ، وهذا أمر خارج عن قدرة البشر ، وكان الأجدر لابن حجر أن يعرّفه هكذا :

«... مؤمنا به أو متظاهرا بالإيمان به» لأنّ كثيرا من الصحابة آمنوا بالنبي بألسنتهم دون قلوبهم ، ويلزم على تعريف ابن حجر أن يقال :

إن كل أهل المدينة يوم ذاك يعدّون من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وجود المؤمن والمنافق فيها لقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) (٢).

من هنا وقع الخلاف بين أتباع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأتباع

__________________

(١) الإصابة ج ١ / ١٠ مقدمة الإصابة الفصل الأول.

(٢) سورة التوبة : آية ١٠١.


الشيخين في مسألة : هل أن كل الذين رأوا النبي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبوه عدول ، أم أنّ الصحبة بالمعنى الحقيقي هي الناتجة عن إتباع بإحسان بحيث يصدق عليهم أن الله سبحانه رضي عنهم ورضوا عنه؟

اختار العامة (١) الأول ، والخاصة الثاني. وبالغ العامة في تعديلهم لكل الصحابة ، فقال ابن الأثير في مقدمته لكتاب أسد الغابة ص ١١٠ :

«ولأنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أمور الدين ، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها ، وأولهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول الله ، فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّ جهلا وأعظم إنكارا ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم هم وغيرهم من الرواة ، حتى يصح العمل بما رواه الثقات منهم ، وتقوم به الحجة ، فإن المجهول لا تصح روايته ، ولا ينبغي العمل بما رواه ، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلّا في الجرح والتعديل ، فإنهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح لأن الله عزوجل ورسوله زكياهم وعدّلاهم ..».

وقال النّوري :

«الصحابة كلّهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به» (٢).

وقال الخطيب البغدادي في «الكفاية» ص ٤٦ مبوبا على عدالتهم :

«ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة ، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيّ لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره

__________________

(١) مصطلح «العامة والخاصة» يقصد به السنّة والشيعة لأن الشيعة الإمامية هي الفرقة الوحيدة التي تقف بوجه الحملات المستعرة من قبل بقية الفرق الأشعرية.

(٢) المنهج الحديث في علوم الحديث ص ٦٣ نقلا عن السنة قبل التدوين.


عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن».

وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث ، في بيان حال الصحابة من العدالة ، من مقدمة الإصابة :

«اتفق أهل السنّة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة».

وقال أبو زرعة الرازي :

«إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة ، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة فالجرح بهم أولى» (١).

انظر ـ أخي القارئ ـ إلى العصبيّة العمياء كيف تعمي القلوب ، فكل من انتقص أحدا من الصحابة ، حتى ولو كان معاوية بن أبي سفيان ، فإنّه بنظر ابن زرعة زنديق. وقد ثبت في الصّحاح عندهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المتخلّف عن جيش أسامة ، وهذا بدوره انتقاص في حقّ الصحابة ، أفلا يجوز لغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينتقص صحابته بعد ما ثبت بالقطع واليقين أنّ النبيّ انتقصهم وتبرّأ من بعضهم كما روى الأخباريون «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار خالد بن الوليد وبعثه لإصلاح حال بني خزيمة ، وهو قد قتل جمعا كثيرا منهم بسبب عداوة وضغن ، وكان في قلبه سهم من أيام الجاهلية ، حتّى أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليّا عليه‌السلام في أثره لاستدراك حالهم وتسليتهم ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المقام : اللهم إني أبرأ إليك ممّا فعله خالد» (٢).

والشيعة ـ أيّدهم الله تعالى ـ لا ينكرون أنّ في الصحابة جماعة مؤمنين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم كقوله تعالى :

__________________

(١) الإصابة ج ١ / ١٨ ومقدمة تحقيق أسد الغابة ج ١ / ٢٣.

(٢) إحقاق الحق ج ٣ / ٤٩٦ ورواه البخاري في صحيحه ج ٥ / ١٢٧ ح ٤٣٣٩.


(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١).

وقوله عزّ اسمه :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٢).

فالآية الأولى تشير إلى أنّه تعالى رضي عن بعض المؤمنين الأوّلين الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة والذين آووا النبي ومن كان معه ، والذين سوف يتبعونهم بإحسان رضوا عنه تعالى وسلّموا أمورهم إليه سبحانه ، فلا اعتراض على حكمه كما اعترض بعض الصحابة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض المواقع كما سوف يأتيك بيان ذلك.

فالآية بصدد بيان فضيلة جماعة ممّن آمن وعمل صالحا بحيث رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه في كل شيء وهذا لا يكون إلّا لمن طهرت سيرته واستوت سريرته مع علانيّته ، وهؤلاء قلّة كانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وليس مدلول الآية أنّ من صدق عليه أنّه مهاجر أو أنصاري أو تابعي يعني أنّ الله تعالى رضي عنه رضى لا سخط بعده أبدا ، سواء أحسن بعد ذلك أو أساء؟. والظاهر أن المراد من الرضا في الآية (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) هو الرضا الذي لا سخط بعده ، فإنّه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصحّ فرض سخط بعد رضا وهو بخلاف قوله تعالى في الآية الثانية : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) فإنه :

«رضى مقيّد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط» (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٠.

(٢) سورة الفتح : آية ١٨.

(٣) تفسير الميزان ج ٩ / ٣٧٦.


وقد احتج المخالفون على الشيعة بآية المبايعة تحت الشجرة ، مستدلين بذلك على أن الآية دليل على أن كلّ الذين بايعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة عدول ، يحرّم القدح فيهم ، لأن الله سبحانه رضي عنهم ، قال تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ، وجعلوا الآية فضيلة للخليفتين أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطّاب لأنهما بايعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة.

لكن يرد على هذا ما يلي :

أولا : إنّ المبايعة ليست دليلا على الخلافة ، لأنه ـ وكما ذكر البيضاوي في تفسيره ـ «أنّ عدد المبايعين تحت الشجرة كانوا زهاء ألف وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة مبايع» (١) ، فيهم النساء ، فلو كانت المبايعة دليلا على الخلافة للزم كون كل هؤلاء الذين بايعوه خلفاء وهو واضح البطلان.

ثانيا : إنّ الله سبحانه يذكر في نفس السورة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٢).

هنا أشار عزوجل إلى أن الذين بايعوه تحت الشجرة لم يكونوا جميعهم أوفياء على المبايعة بل إن بعضهم أو أكثرهم سوف ينكث العهد.

فقد أورد البخاري في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي ، عن أحمد بن إشكاب ، حدّثنا محمد بن الفضل عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال :

لقيت البراء بن عازب ، فقلت له : طوبى لك صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعته تحت الشجرة!

فقال : يا بن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده (٣).

__________________

(١) تفسير البيضاوي ج ٢ / ٤١٠.

(٢) سورة الفتح : آية ١٠.

(٣) صحيح البخاري ج ٥ / ٧٩.


نعم ، لقد أحدثوا أمورا كثيرة عجيبة بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد ظلموا ابن عمه وابنته الزهراء عليهما‌السلام وعصروها بين الحائط والباب ، فأسقطوا جنينها ، وضربوها وغصبوا حقّها وكذّبوها ومنعوها من الإرث والخمس ، وبدّلوا أحكام الإسلام إلى آخر ما فعله القوم من منكرات وقبائح ، هذا مضافا إلى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أخبر عن لسان الغيب أنّهم سيحدثون أمورا قبيحة بعده فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وأنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي!

فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (١) ، فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

وفي رواية أخرى : «ليردّنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي!

فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (٣).

وفي رواية المغيرة قال : سمعت أبا وائل عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٤).

وعن سهل بن سعد قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إني فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ،

__________________

(١) سورة المائدة : آية ١١٧.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب «وكنت عليهم شهيدا» ، والترمذي أبواب صفة القيامة.

(٣) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ، وابن ماجه باب المناسك.

(٤) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٣ ح ٦٥٧٦ وحديث رقم ٦٥٨٢.


ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» (١).

وعن النعمان بن أبي عيّاش قال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها :

«فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» (٢).

وعن ابن المسيّب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلئون (٣) عنه ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» (٤).

وفي رواية عطاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟

قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، قلت : أين؟

قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النّعم»(٥).

وفي رواية ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر قالت :

قال النبي : إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس من

__________________

(١) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٥ ح ٦٥٨٣.

(٢) نفس المصدر والباب ح ٦٥٨٤ وقريب منه حديث رقم ٦٥٨٥.

(٣) «يحلئون» : أي يطردون.

(٤) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٥ ح ٦٥٨٦.

(٥) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٦ ح ٦٥٨٧.


دوني ، فأقول : يا رب مني ومن أمتي! فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم» فكان ابن مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا (١).

ثالثا : إنّ الله سبحانه قد خصّ الثناء بالمؤمنين من حضروا بيعة الشجرة ، ولم يشمل المنافقين الذين حضروها مثل عبد الله بن أبيّ وأوس بن خولي (٢) وأضرابهم.

رابعا : لقد أخبر القرآن الكريم أن في صحابة النبي جماعة من المنافقين ذمّهم الله في آيات كثيرة مثل قوله تعالى :

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣).

وفيهم من أخبر سبحانه عنهم بالإفك حيث رموا فراش رسول الله بالخيانة.

وفيهم من أخبر سبحانه عنهم بقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً)(٤).

وكان ذلك عند ما كان النبيّ قائما في مسجده يخطب خطبة الجمعة.

وفيهم من قصد اغتيال النبي في عقبة هرش عند رجوعه من غزوة تبوك كما عند العامّة (٥) ، أو من حجة الوداع أيضا كما عند الخاصة (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ، حديث رقم ٦٥٩٣.

(٢) راجع خبر بيعة الشجرة أو الرضوان في مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي ص ٢٩١.

(٣) سورة التوبة : آية ١٠١.

(٤) سورة الجمعة : آية ١١.

(٥) صحيح مسلم ، باب صفات المنافقين ومغازي الواقدي ج ٣ / ١٠٤٢ ومسند أحمد ج ٥ / ٣٩٠ وفي تفسير قوله (وهموا بما لم ينالوا) سورة التوبة من الدر المنثور.

(٦) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٩٧.


خامسا : إنّ التشرف بصحبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس أكثر امتيازا من التشرف بالزواج من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ مصاحبتهن له كانت من أعلى درجات الصحبة ، وقد قال تعالى في شأنهنّ :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١).

وقال في اثنتين منهنّ «عائشة وحفصة» :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) إلى أن قال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢).

سادسا : إن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى ضابطة عامة بها يميّز المؤمن من المنافق ، وهذه الضابطة هي أنّه لا يحبه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) سورة التحريم : آية ٤ وآية ١٠ ـ ١١.

(٣) لاحظ مسند أحمد ج ١ / ٨٤ صحيح مسلم ج ١ / ٣٩ التاج الجامع للأصول ج ٣ / ٣٣٥ صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ سنن النسائي ج ٢ / ٢٧١ ذخائر العقبى ص ٤٣ والصواعق المحرقة ص ٧٤ وتاريخ الخلفاء ص ١٧٠ ونهج الحق ص ٢١٩.


وأخرج السيوطي في تاريخه ص ١٧٠ :

عن الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليّا.

وروى في مستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٢٩ وكنز العمال ١٥ / ٩١ عن أبي ذر قال : ما كنا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعليّ بن أبي طالب.

وعن عبد الله بن عبّاس قال : إنّا كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم عليّ بن أبي طالب (١).

إذن يوجد في الصحابة منافقون مدلّسون ، فكيف حينئذ يصح لنا أن نحكم على الكل بأنهم عدول أتقياء من جحد واحدا منهم كان زنديقا على حدّ تعبير ابن زرعة وأمثاله ، إن هذا إلّا اختلاق؟!!

سابعا : إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار بالمدح والثناء ما داموا على أخلاقهم وثباتهم ، أما إذا كانت الخاتمة سيئة فهل يمكن أن نحكم عليهم بالصحة وأنهم أناس مثاليون بحجة أنّ القرآن مدحهم في أول الدعوة ، مع أنّ المقياس للحكم على أي شخص هو دراسة جميع أحواله خصوصا الأخيرة التي هي مناط المدح والذم والثواب والعقاب.

بعد هذا كله فهل يصح أن يقال : إن كل الصحابة عدول ، يحرّم الطعن ببعضهم أو لعنه لخروجه عن مبادي الإسلام ، مع أن الله سبحانه لعن الظالمين بقوله تعالى :

(أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢).

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ٣ / ١٥٣.

(٢) سورة هود : ١٨.


(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (١).

ونحن نسأل العامة المدافعين عن عامة الصحابة حتى السّفّاكين منهم :

أليس في الصحابة من نقض عهد الله تعالى ، وأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل؟!!

فمن قال : لا ، فقد كذّب التاريخ ، ومن أقر فقد وافقنا بما نقول ، والحمد لله ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٥.


بداية الحوار بين العباسي والعلوي

حول الصّحابة

ـ قال كبير علماء السنّة (وهو الملقّب بالشيخ العبّاسي):

إني لا أتمكّن أن أجادل مذهبا يكفّر كلّ الصحابة.

ـ قال كبير (١) علماء الشيعة (وهو الملقب بالعلويّ واسمه الحسين بن علي) : ومن هم الذين يكفّرون الصحابة؟

ـ قال العبّاسي : أنتم الشيعة هم أولئك الذين تكفّرون كل الصحابة.

ـ قال العلوي : هذا الكلام منك خلاف الواقع ، أليس من الصحابة : علي عليه‌السلام والعبّاس وسلمان وابن عبّاس والمقداد وأبو ذرّ ، وغيرهم ، فهل نحن الشيعة نكفّرهم؟

ـ قال العبّاسي : إني قصدت بكلّ الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وأتباعهم.

__________________

(١) المراد من قوله «كبير علماء الشيعة» إمّا أن يكون كبير الوفد المرافق ، وإما أن يكون ـ أي العلوي ـ كبيرهم بحسب تصور مقاتل بن عطية ، وإما أن يكون كبيرهم في المنطقة التي جرى فيها الحوار ، وإما أن يكون كبير الشيعة يوم ذاك لكنه لم تردنا تفاصيل عنه لأسباب الله أعلم بها.


ـ قال العلوي : نقضت نفسك بنفسك ، ألم يقرّر أهل المنطق أن (الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكليّة) فإنك تقول مرة أنّ الشيعة يكفّرون كل الصحابة ، وتقول مرة : إنّ الشيعة يكفّرون بعض الصحابة!

وهنا أراد نظام الملك أن يتكلّم ، لكنّ العالم الشيعي لم يمهله وقال :

أيها الوزير العظيم لا يحقّ لأحد أن يتكلّم إلّا إذا عجزنا عن الجواب وإلّا كان خلطا للبحث ، وإخراجا للكلام عن مجراه من دون نتيجة.

ـ ثم قال العالم الشيعي : تبيّن أيها العباسي أنّ قولك إنّ الشيعة يكفّرون كلّ الصحابة كذب صريح.

ولم يتمكّن العبّاسي من الجواب واحمرّ وجهه خجلا ثم قال :

دعنا من هذا ، ولكن هل أنتم الشيعة تسبّون أبا بكر وعمر وعثمان؟

ـ قال العلوي : إنّ في الشيعة من يسبّهم وفيهم من لا يسبّهم.

ـ قال العبّاسي : وأنت أيّها العلوي من أيّ طائفة منهم؟

قال العلوي : من الذين لا يسبّون ، ولكن رأيي أنّ الذين يسبّون لهم منطقهم ، وإنّ سبّهم لهؤلاء الثلاثة لا يوجب شيئا : لا كفرا ولا فسقا ولا هو من الذنوب الصغيرة.

ـ قال العبّاسي : أسمعت أيها الملك ما ذا يقول هذا الرجل؟


قال العلوي : أيها العبّاسي ، إنّ توجيهك الخطاب إلى الملك مغالطة ، فإنّ الملك أحضرنا لأجل التكلّم حول الحجج والأدلّة لا لأجل التحاكم إلى السلاح والقوّة.

ـ قال الملك : صحيح ما يقوله العلويّ ، ما هو ردّك أيّها العبّاسي؟

ـ قال العبّاسي : واضح أن من يسب الصحابة كافر.

ـ قال العلوي : واضح عندك لا عندي ، ما هو الدليل على كفر من يسبّ الصحابة عن اجتهاد ودليل ، ألا تعترف أنّ من يسبّه الرسول يستحق السبّ؟

ـ قال العبّاسي : أعترف.

ـ قال العلوي : فالرسول سبّ (١) أبا بكر وعمر.

قال العبّاسي : وأين سبّهم؟ هذا كذب على رسول الله!!

ـ قال العلوي : ذكر أهل التاريخ من السنّة أنّ رسول الله هيّأ جيشا بقيادة «أسامة» وجعل في الجيش أبا بكر وعمر وقال :

__________________

(١) لقد خلط المحاور العلوي بين السبّ واللعن مع أن الفرق بينهما واضح ، وإن كان السبّ من اللوازم البعيدة للعن كما أفدنا ذلك في الإجابة على الإيراد الحادي عشر فليراجع.


لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (١) ، ثم أنّ أبا بكر وعمر تخلّفا عن جيش أسامة ، فشملهم لعن الرسول ومن يلعنه الرسول يحقّ للمسلم أن يلعنه.

____________________________________

(١) قد يسأل البعض :

ما وجه الحكمة من إرسال بعض الصحابة في جيش أسامة بن زيد؟

والجواب :

إنّ هذا تدبير وقائي صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتجاه الذين سيغتصبون الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد تواتر النصوص القرآنية والنبويّة على أنه الخليفة ، بدءا من أول البعثة إلى آخر عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيّما وهو على فراش الموت حيث رأى إجراء أمرين لإبعاد القوم عن المدينة ريثما يتم الأمر لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لكنّ الحق أن يقال : إنّ أمر النبيّ بإرسال القوم في جيش أسامة لم يكن أمرا وقائيا محضا لإبعادهم عن منازعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنما وجه الحكمة فيه هو فضحهم وتعريتهم أمام المسلمين وأنهم لا يستحقون أن يكونوا أوصياء النبيّ على أمة رسول الله محمّد ، حيث إنّهم عصوه في حياته فكيف لا يعصون أوامره بعد مماته ، وهذان الأمران هما :

الأول : إرسال هؤلاء في جيش أسامة.

الثاني : أمرهم بإحضار الدواة والكتف.

ولكنّ الأمرين لم يتحققا ؛ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يقين أنهما لن يتحققا للنكتة التي ذكرنا آنفا ، وليس كما أخذه مشهور علمائنا أخذ المسلمات ، وهذا برأي المتواضع يترتب عليه مسألة جهل النبي بالموضوعات التي يترتب عليها حكم شرعي مع أن علمه بهما من وظائفه (١) المقرّرة.

__________________

(١) لاحظ تحقيقنا لرسالة المعارف السلمانية في علم المعصوم عليه‌السلام.


أما بيان الأمر الأول

فقد اتفق المؤرخون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بتجهيز جيش أسامة فقال :

«جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه».

فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته (١).

ولم يكتفوا بمخالفتهم لأمر النبي حتى طعنوا بإمارة أسامة مدّعين حداثة سنّة في مقابل مشيختهم العاجية ؛ فروى ابن عبّاس فقال :

كان النبي قد ضرب بعث أسامة فلم يستتبّ لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه فخرج النبي على الناس عاصبا رأسه من الصداع فقال :

«وقد بلغني أنّ أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا جيش أسامة ..» (٢).

وروى مثل هذا ابن الأثير فقال :

«... وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال : لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣).

إلفات نظر : مما لا ريب فيه إن عبارة ابن الأثير تحريف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة.

إذن لقد طعن القوم بإمارة الفتى الصغير.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٣.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣١ حوادث سنة ١١.

(٣) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣١٨ والطبري ج ٢ / ٤٣١.


والسؤال الذي يطرح نفسه ويثير انتباه الكثيرين : لما ذا عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد قائدا على جيش كبير يريد غزو جيش الامبراطورية الرومية القابع في مستعمرات قرى البلقاء والداروم من أرض فلسطين (١) يوم ذاك ، في حين وجود شخصيات من أكابر الصحابة أكبر منه سنا؟!

والجواب من وجوه :

أولا : أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله الحكيم ذاك أن يهيئ المسلمين لقبول قاعدة «الجدارة والكفاءة» في ولاية أمورهم من الناحية العملية ، فليس الجاه والشهرة أو المال أو النسب أو تقدّم العمر هو الأساس لاستحقاق الإمارة والولاية ، لذا عبّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسامة أنه كان جديرا بالإمارة كما كان أبوه من قبل.

ثانيا : لكي يترسخ في أذهان المسلمين أن صغر السنّ ليس عائقا ولا شرطا لقيادة الجيوش والمجتمعات ، فإذا جاز لأسامة بن زيد قيادة جيش إسلامي كبير ينضوي تحته مشايخ كبار ، فبطريق أولى جاز لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يتولى الخلافة وهو لا يتجاوز الثلاثين من عمره.

ثالثا : أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك أن يقيم الحجة للناس أن من لم يكن جديرا لقيادة جيش فكيف يكون جديرا لقيادة مجتمع بكامله وهي ولاية أمور جميع المسلمين قاطبة؟!!

وبالجملة فما ادّعاه محبو الشيخين من أنّ القوم إنما تخلّفوا عن جيش أسامة لصغر سنّه ، ليس سببا كاملا أو حقيقيا لتخلفهم ، وإنما لأجل أن يبقوا بجانب النبي ليتمّ ما اتفقوا عليه سابقا ، وإلا لو كان صغر السنّ سببا وافيا لما تنفّذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة ، وحسب رواية ابن الأثير في تاريخه ج ٢ / ٣٣٤ أن عمر بن الخطاب كان في جيش أسامة بالجرف ، فطلب أسامة من أبي بكر أن يستعفي ابن الخطاب من الخدمة العسكرية فأعفاه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٢٩.


وأما بيان الأمر الثاني

فإنّ القوم لمّا لم يمتثلوا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنفاذ جيش أسامة ، أراد أن يدبّر أمرا آخر عسى أن يكون أنجع وحجة على القوم ، وأمرهم بإحضار دواة وكتف ليكتب لهم كتابا لا يضلون من بعده أبدا ، فنسب عمر بن الخطّاب إلى النبيّ الهجر ، وقد رواها العامة في مصادرهم ، لكنّهم بدّلوا في بعضها عبارة «النبي ليهجر» ب «غلبة الوجع».

فعن عبد الله بن عبّاس قال : لمّا اشتدّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات فيه ، قال :

ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله. وكثر اللغط ، فقال النبي : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع ؛ قال ابن عبّاس :

الرزية كلّ الرّزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (١).

وفي رواية سعيد بن جبير قال :

قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع.

فقالوا : ما شأنه أهجر؟

استفهموه! فذهبوا يردّون عليه ، فقال :

دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه (٢).

وعن ابن عبّاس قال :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٢ وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦٢ ح ٤٤٣٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ ، باب مرض النبي.


يوم الخميس وما يوم الخميس ـ ثم جرت دموعه على خدّيه ـ اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه ووجعه ، فقال : ايتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا ، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ـ فقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر ، فجعلوا يعيدون عليه ، فقال : دعوني فما أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه ، فأوصى [بثلاث] : أن يخرج المشركون من جزيرة العرب ، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم ، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال : نسيتها (١).

والثالثة التي نسيها أو تناساها الراوي الذي نقل عن ابن عبّاس هي التي أرادها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي كتابة الكتاب يوصيهم فيه بعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال : لما حضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب قال : «هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده» قال عمر : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قوموا عنّي.

قال عبيد الله : فكان ابن عبّاس يقول : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٢).

هذا وقد التمس السّنة الأعذار لعمر ولكنّ واقع الحادثة يأبى ذلك ، حتى لو أبدلت كلمة يهجر بلفظة غلبه الوجع ، فسوف لن نجد مبرّرا لقول عمر : «حسبنا كتاب الله».

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠ ، ط / بيروت ، وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ ، وصحيح مسلم ج ١١ / ٧٥ ح ١٦٣٧ كتاب الوصية.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ / ٥١٦ ح ٧٣٦٦ وصحيح مسلم ج ٢٢ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ ح ١٦٣٧ ، كتاب الوصية.


ومما يدعو للاستغراب ما ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم حيث (جعل اعتراض عمر على رسول الله واتّهامه إياه بالهجر من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه ـ بحسب نظر النووي ـ خشي أن يكتب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقّوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، فعلم أنّ الله أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله فكان عمر أفقه من ابن عبّاس وموافقيه) (١).

يرد عليه :

أنّ هذا الكلام مخالف لصريح العقل والنقل ، وما هو إلّا شنشنة (٢) بغض لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وموافقيه ، وهل من الفقه أن ينسب عمر إلى رسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهذيان والخبل ، مع أنّ الله اصطفاه وطهّره من كل نقص ورذيلة ، أو ليس الهذيان والهجر من علائم النقص في شخصية النبي الذي لا يتحرّك إلّا بوحي من الله؟!

وهل كان عمر ـ حسب هذا الكلام ـ أفقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يكون حريصا على أمة محمد من نفس نبيّ الرحمة محمّد بن عبد الله؟!!

هذا مضافا إلى أنّ عدم كتابتهم للكتاب من أجل عجزهم عن تحقيق مضمونه خوف استحقاق العقاب لأنها منصوصة ، هذا الكلام دونه خرط القتاد ، وخلاف ظواهر لغة العرب ؛ أليس أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنصوص الذي لا مجال للاجتهاد فيه؟! وأيّ ترفيه على رسول الله وقد زجرهم وامتعض منهم حتى قال لهم : دعوني.

فهل هناك أبلغ للقوم من هذا التصريح ، ولو كان ما يقوله صحيحا لشكره

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ ، كتاب الوصية.

(٢) الشنشنة : السجية أو الطبيعة.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك وقرّبه بدلا من أن يغضب عليه ويقول لهم : قوموا عنّي ، لا ينبغي عندي التنازع.

ولما ذا لم يتهموه بالهجر عند ما طردهم من الحجرة؟ ألأنهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة ، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم.

أنسي أو تناسى عمر وتبعه النووي أنّ النبيّ لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى ، حتى ولو كان على فراش الموت ، فلا يؤثّر فيه المرض كما اتهمه عمر ، أيحق له أن يعترض على رسول الله والله يقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١).

ولقد تعدّى عمر وأصحابه حدود رفع الأصوات والجهر بالقول إلى رميه بالهجر والهذيان.

ولعمري فلقد كان عمر ومن جرى على منواله أحقّ بالهذيان والهجر ، والخبل ، من أن يتّهم به سيد العالمين رسول الرحمة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو خصمه على الحوض ، وسيعلم الذين ظلموا رسول الله وآل بيته أيّ منقلب ينقلبون.

كما إنّا لنا ملاحظات أخر على مقالة عمر بن الخطاب هي كما يلي :

أولا :

إن نسبة الهجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إساءة أدب معه بل كفر بمقامه ، لأنّ الهجر يعني الهذيان وهو ممتنع عقلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحته ومرضه ، لأن من جاز عليه الهجر ولم يؤمن عليه الهذيان والخطأ ، أمكن التشكيك في أقواله وأفعاله ، فلا يكونان حجة وهو مناف لمنزلة النبوة ومناف لفائدة البعثة لاستلزامه التنفير عن قبول الأحكام.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٢.


ثانيا :

إنّ الله سبحانه وتعالى أطلق طاعة النبي في حال الصحة والمرض بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وقوله أيضا (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) (٢) وقوله تعالى (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٣).

وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٤) ولقوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٥).

ونسبة الهجر إلى النبيّ مناف لهذا الإطلاق بالطاعة وبالأخذ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخلاف كونه أمينا.

وقوله تعالى (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) إشارة إلى بعض أصحابه الذين قذفوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر لأن من وقع عليه الهجر كان مجنونا ، لأن الجنون حالة في الإنسان يستتر فيها العقل ، وكل ذلك ينافي فائدة البعثة.

ومما ذكر يعلم أنه لا فائدة فيما قصدوا به إصلاح هذه الغلطة إذ بدّلوا في بعض أخبارهم لفظ الهجر إلى «غلبه الوجع» لأن النتيجة بهما واحدة وهي إثبات الهذيان للنبي «حاشاه» صلوات الله عليه وآله.

ثالثا :

لما ذا لم ينسب عمر بن الخطّاب إلى أبي بكر «الهذيان» عند ما أوصى بالخلافة إلى عمر نفسه وكان قد أغمي على أبي بكر أثناء تحرير الاستخلاف فأتمّ

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة التكوير : ٢١.

(٥) سورة النجم : ٢.


ذلك عثمان بن عفّان بالنصّ على عمر من دون علم أبي بكر خشية أن يدركه الموت قبل الوصية ، فأمضى ما كتبه عثمان لمّا استفاق.

ذكر ابن الأثير في تاريخه أنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان ليكتب عهد عمر بن الخطاب ، فقال له : اكتب :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين.

أما بعد ...

ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان :

أما بعد ...

فإني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا!.

ثم أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ عليّ. فقرأ عليه فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس ، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر ، فكان عمر بن الخطاب يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله فإنه لم يألكم صالحا ، فسكن الناس وقرأ عليهم الكتاب ثم أشرف أبو بكر على الناس وقال : أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني قد استخلفت عليكم ذا قربة ... (١).

انظر كيف افتروا على رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلوا أبا بكر خليفة رسول الله ولا عجب من عمر كيف ينصّت الناس ليسمعوا من خليفة رسول الله ليمهّد لنفسه أن ينصتوا ويسمعوا له ويطيعوا.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢٥.


رابعا :

قول عمر «حسبنا كتاب الله» يعني أنه لا يعطي لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أية أهمية ، ولو كان الكتاب كافيا لما احتجنا إلى السنّة المتمثلة بأقوال النبي وأفعاله ، ولو كان كافيا ذلك فلما ذا احتجّ هو وصاحبه على الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام عند ما احتجّت عليه بفدك فقال إنه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة». فإذا كان الكتاب الكريم حسبه ، فكيف يستشهدان بأقوال النبيّ على الصديقة عليها‌السلام؟!!

ولو كان الكتاب كافيا من دون تفسير من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان على عمر أن يصوم عن الكلام فقط لأن الله سبحانه وتعالى يقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهو لغة الصمت ؛ ولكنّ السنّة المباركة أوضحت لنا كيفية الصّوم بأحكامه المتقرّرة.

إذن ، لا يكفي الكتاب وحده من دون الرجوع إلى أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى :

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١).

* خلاصة الكلام :

إنّ الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو النص على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ويكفينا ذلك مقالة ابن الخطاب «حسبنا كتاب الله» حيث شعر أنّ النبي أراد من كتابته الكتاب توطيد الأمر للإمام علي عليه‌السلام لذا حال بينه وبين كتابته.

* * * * *

__________________

(١) سورة النساء : آية ٨٣.


وهنا أطرق العبّاسي برأسه ، ولم يقل له شيئا.

قال الملك ـ متوجّها إلى الوزير ـ :

وهل صحّ ما ذكره العلوي؟

ـ قال الوزير : ذكر أهل التواريخ ذلك.

ـ قال العلوي : وإذا كان سبّ الصحابة حراما وكفرا ، فلما ذا لا تكفّرون معاوية بن أبي سفيان ولا تحكمون بفسقه وفجوره لأنه كان يسبّ الإمام عليّ بن أبي طالب إلى أربعين سنة وقد امتدّ سبّ الإمام إلى سبعين سنة.

ـ قال الملك : اقطعوا هذا الكلام وتكلّموا حول موضوع آخر.

جمع القرآن وتدوينه

ـ قال العبّاسي : من بدعكم أنتم الشيعة أنكم لا تعترفون بالقرآن!

ـ قال العلوي : بل من بدعكم أنتم السنّة أنكم لا تعترفون بالقرآن والدليل على ذلك أنّكم تقولون : إنّ القرآن جمعه عثمان ، فهل كان الرسول جاهلا بما عمله عثمان؟ حيث إنّه لم يجمع القرآن حتى جاء عثمان وجمعه ، وثم : كيف أنّ القرآن لم يكن مجموعا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان النبيّ يأمر قومه وأصحابه بختم القرآن فيقول : من ختم القرآن كان له «كذا» من الأجر والثواب ، هل يمكن أن يأمر بختم القرآن ما لم يكن مجموعا؟ وهل كان المسلمون في ضلال حتى أنقذهم عثمان؟.

ـ قال الملك ـ موجّها كلامه إلى الوزير ـ : وهل يصدق العلوي أنّ


أهل السنّة يقولون بأنّ القرآن من جمع عثمان؟

ـ قال الوزير : هكذا يذكر المفسّرون وأهل التواريخ (١).

____________________________________

(١) وقع الخلاف في مسألة جمع القرآن الكريم وأنّه هل كان مجموعا على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أنه جمع على عهد أبي بكر وعثمان؟

المشهور عند المؤرخين والباحثين أن جمع السور وترتيبها بصورة مصحف مؤلف بين دفتين حصل بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب أنّ السور كانت مكتملة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتبة آياتها وأسماؤها ، غير أن جمعها بين دفّتين لم يكن حصل بعد ، نظرا لترقب نزول القرآن على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصح تأليف السور مصحفا إلّا بعد الاكتمال وانقطاع الوحي ، الأمر الذي لم يكن يتحقق إلّا بانقضاء عهد النبوة واكتمال الوحي ، فقبل انقضاء العهد النبوي كان القرآن منثورا على العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع وبعض الحرير والقراطيس وفي صدور الرجال ، وقد دل على ذلك روايات منها موثّقة أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ؛ القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، وإن كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه ، قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان (١).

والمشهور عند العامة إن أول من جمع القرآن زيد بن ثابت بأمر من أبي بكر ، كما قام بجمعه كلّ من ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ، حتى انتهى الأمر إلى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٨ نقلا عن تفسير القمي.


دور عثمان فقام بتوحيد المصاحف ـ حسبما يقولون ـ لكثرة انتشار القراءات ، فأرسل نسخة موحّدة إلى أطراف البلاد ، وحمل الناس على قراءتها وترك ما سواها.

فالقرآن جمع مرتان :

الأولى : على عهد أبي بكر كما قلنا ، وأشارت إليه روايات أكثرها من مصادر العامة ، ولكن أقصى ما تدل عليه هذه المرويات هو مجرد جمعهم لما نزل من السور والآيات لشتات السور المكتوبة في الرقاع والألواح.

والسبب الذي استدعى أبو بكر ـ بإيحاء من عمر بن الخطّاب ـ للقيام بمهمة جمع القرآن هو رفضهم القاسي لمصحف الإمام علي عليه‌السلام الذي قام بجمعه بوصية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كيف يصح أن يبقى مفرقا على العسب واللخاف (١) أو في صدور الرجال ، وهو المرجع الأول لأسس التشريع الإسلامي ، والأساس الركين لبناء صرح الحياة الاجتماعية في كافة شئونها ، ولم يكن جمعهم للقرآن بريئا كما تنص بعض آحاد الأخبار أن عمر بن الخطاب خشي أن يستحرّ القتل بالقرّاء في كل المواطن كما استحرّ بهم يوم القيامة ، وإنما كان جمعهم لغاية في نفوسهم قضوها ، وإلا فما معنى ردهم لمصحف أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام واستنكارهم عليه وإبعاده عن الساحة ، هذا مضافا إلى أن اختيارهم لزيد بن ثابت كان في محله لأن الرجل المذكور من دعاة القوم ورجالات سلطتهم ، ويشهد له ما ذكره نص البخاري ج ٦ ص ٤١٥ ح ٤٩٨٦.

«... قال أبو بكر لزيد : إنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ..».

كان الرجل ذا نزعة متلائمة مع أهداف السلطة آنذاك ، وقد أبدى ذلك يوم السقيفة ، حيث وقف موقف المدافع الحاد دون المهاجرين وهو أنصاري قائلا :

__________________

(١) العسب : جرائد النخل ، واللخاف : حجارة بيض عريضة رقيقة ، ويستحرّ : يشتدّ.


«إن رسول الله كان من المهاجرين وكنا أنصاره ، وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره .. فانبسط وجه أبي بكر وجزّاه خيرا فقال : جزاكم الله خيرا من حي يا معشر الأنصار ، وثبت قائلكم ـ يعني زيدا ـ والله لو قلتم غير هذا ما صالحناكم (١).

فلم ينس له أبو بكر هذا الموقف الخطير فجعله رئيس لجنة جمع القرآن وتركوا سادة القرّاء أمثال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ، وإلا لم يكن اختيارهم لزيد عن جدارة خاصة به دون غيره من وجوه الصحابة.

وكان منهج زيد في جمع القرآن مقتصرا على تلقي السور والآيات من العسب واللخاف وصدور الرجال ، وكان أول عمل قام به : أن وجّه نداء عاما إلى ملأ الناس :

«من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به» ، فكان هو ولجنته والمشرف عليها عمر بن الخطّاب يقفون على باب المسجد يوميا ، والناس يأتونهم بآي القرآن وسوره كل حسب ما عنده من القرآن ، وكانوا لا يقبلون من أحد شيئا حتى يأتي بشاهدين يشهدان بصحة ما عنده من قرآن سوى خزيمة بن ثابت ، أتى بالآيتين آخر سورة براءة ، فقبلوهما منه من غير استشهاد لأن رسول الله اعتبر شهادته وحده بشهادتين (٢).

وهنا لعبت اللجنة دورها إلهام في ترتيب بعض الآيات كيفما شاءت لها مطامعها وأهواؤها.

قال الزرقاني : صحف أبي بكر كانت مرتبة الآيات دون السور (٣).

وهذه الصحف أودعت عند أبي بكر مدة حياته ثم صارت عند عمر ، وبعده

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر ج ٥ / ٤٤٦.

(٢) التمهيد ج ١ / ٢٣٦ نقلا عن أسد الغابة ج ٢ / ١١٤.

(٣) مناهل العرفان ج ١ / ٢٥٤ والتمهيد ج ١ / ٢٣٧.


كانت عند ابنته حفصة ، وفي أيام توحيد المصاحف استعارها عثمان منها ليقابل بها النسخ ، ثم ردّها إليها (١).

الثانية :

حينما جمع في عهد عثمان حيث صيّر السور الطوال مع الطوال والقصار مع القصار ، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار والخل وقيل أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود ، قال أنس بن مالك :

فأرسل ـ عثمان ـ إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (٢).

من هنا رفض ابن مسعود أن يسلّم مصحفه لمن يحرقه أو يمزقه ، وظل محتفظا به في صرامة بالغة أدت إلى مشاجرة عنيفة جرت بينه وبين عثمان كان فيها إبعاده عن عمله وأخيرا حتفه نتيجة ضرب عثمان له وكسر أضلاعه وإخراجه من المسجد بصورة مزرية.

روى الواقدي بإسناده : أن ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلا ، وكانت ليلة جمعة ، فلمّا علم عثمان بدخوله ، قال : أيّها الناس قد طرقكم الليلة دويبة ، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، وقال ابن مسعود : لست كذلك ، ولكنني صاحب رسول الله يوم بدر وصاحبه يوم أحد ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق وصاحبه يوم حنين .. وصاحت عائشة : يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟

فقال عثمان : اسكتي.

__________________

(١) القسطلاني بشرح البخاري ج ٧ / ٤٤٩.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ٤١٦ ح ٤٩٨٧.


ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود : أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه ، فقال : ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.

قال الراوي : فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان ، حتى أخرج من المسجد وهو يقول : أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله (١).

وما فعله ابن مسعود كان في محله ، إذ أين المسوّغ الشرعي لكي يسلّم مصحفه لمن لا يعتقد شرعية خلافته ، مضافا إلى هتكه للمصاحف بحرقها أو تمزيقها لذا كان يقول ـ أي ابن مسعود ـ «إن رجالا لم يؤذن لهم قد تصرفوا في القرآن من تلقاء أنفسهم» (٢).

وقال أبو ميسرة : أتاني رجل وأنا أصلي فقال : أراك تصلي وقد أمر بكتاب الله أن يمزق كل ممزق! فتجوزت في صلاتي وكنت أجلس ... فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود يتقاولان ، وحذيفة يقول لابن مسعود : ادفع إليهم المصحف. قال : والله لا أدفعه إليهم ، اقرأني رسول الله بضعا وسبعين سورة ثم أدفعه إليهم ، والله لا أدفعه إليهم (٣).

وسبب الجمع عند عثمان هو اختلاف المصاحف باختلاف القراءات ، فقد روى أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فأشار حذيفة على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ارسلي إلينا بالصحف ننسخها في

__________________

(١) التمهيد ج ١ / ٢٥٠ نقلا عن شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٣ / ٤٣.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٢٧٠.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٢ / ٢٢٨.


المصاحف ثم نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هاشم ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ..»(١).

وكان منهج عثمان في ترتيب المصحف مقتصرا كما قلنا على توحيد القراءات ، وتقديم السور الطوال على القصار ، وهو مغاير نوعا ما لترتيب مصاحف سائر الصحابة ، والدليل عليه ما فعله عثمان من وضع الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين ، الأمر الذي أثار ابن عبّاس ليعترض على عثمان قائلا :

ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٢) ، وإلى براءة هي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟!

قال عثمان : كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال(٣).

وهذا يدل على اجتهاد الصحابة في ترتيب سور المصحف ، فكان عثمان يعرف أن آيات من سور ربما كان يتأخر نزولها فيأمر النبي أن توضع موضعها من

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٦ / ٤١٦ ح ٤٩٨٧.

(٢) في مصحف ابن مسعود جعلها من المثاني ، وفي مصحف أبي بن كعب هي من المئين.

(٣) التمهيد ج ١ / ٣٠٣ نقلا عن مستدرك الحاكم ج ٢ / ٢٢١ ومجمع البيان ج ٥ / ٤.


السورة المتقدمة فزعم عثمان أن سورة براءة هي من تتمة سورة الأنفال (١) لتشابه ما بينهما في السياق العام وهو تعنيف بمناوئي الإسلام وتحريض المؤمنين على الثبات والكفاح لتثبيت كلمة الله في الأرض ، وحيث لم يرد نقل بشأنهما فقرن بينهما وجعلهما سورة واحدة هي سابعة الطوال.

إذن فإن ترتيب عثمان للمصحف مغاير لترتيب سائر الصحابة أمثال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ، مضافا إلى مخالفته لترتيب مصحف مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث كان مصحفه مرتّبا بحسب النزول ، فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمّل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني ، نقله في الاتقان (٢) عن ابن فارس ، وفي تاريخ اليعقوبي (٣) ترتيب آخر لمصحفه عليه‌السلام. وهذا ما قال به أكثر محققي الشيعة بل نستطيع القول أن الإجماع قام عليه لأن ترتيبه على حسب ترتيب النزول ، وقد أشارت النصوص الكثيرة على أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام هو أول من تصدّى لجمع القرآن بعد وفاة النبيّ مباشرة بوصية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

من هذه النصوص ما أورده القمي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلّا وصيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤)

وعن جابر قال :

سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ما من أحد من الناس يقول : إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلّا كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلّا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعدهعليهم‌السلام(٥).

__________________

(١) كما أن العياشي (قدس‌سره) روى في تفسيره ج ٢ / ٧٩ عن أحدهما قال : الأنفال وسورة براءة واحدة.

(٢) الاتقان ج ١ / ٦٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١١٣ والتمهيد ج ١ / ٢٣٠.

(٤) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٨ نقلا عن تفسير القمي.

(٥) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٨٨ ح ٢٧.


وعن جبلة بن سحيم عن أبيه عن أمير المؤمنين قال : لو ثنّى لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفا كتبته وأملاه عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وروى محمد بن سيرين عن عكرمة قال :

لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن. قال : قلت لعكرمة : هل كان تأليف غيره كما أنزل الأول فالأول؟ قال : لو اجتمعت الإنس والجن على أن يألفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

وقال ابن جزى الكلبي :

كان القرآن على عهد رسول الله مفرّقا في الصحف وفي صدور الرجال فلما توفى ، جمعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد (٢).

وقال الشيخ المفيد في المسائل السرويّة :

«وقد جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن المنزل من أوله إلى آخره ، وألّفه بحسب ما وجب تأليفه ، فقدّم المكي على المدني والمنسوخ على الناسخ ، ووضع كل شيء منه في حقه» (٣).

وقال العلّامة المجلسي قدّس سره : وفي أخبار أهل البيت عليهم‌السلام : أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يؤلّف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله ، وهم مجتمعون في المسجد ، فأنكروا مصيره بعد انقطاع ، فقالوا : لأمر ما جاء أبو الحسن ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثم قال : إن رسول الله قال : إني مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ، فقام إليه الثاني ـ أي

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٥٢.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ج ١ / ٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٧٤.


عمر بن الخطّاب ـ فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحملعليه‌السلام الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة» (١).

ويروى عن ابن مسعود أنه قال :

«إن عليا جمعه وقرأ به ، وإذا قرء فاتبعوا قراءته» (٢). وحيث إنّ القراءات قد كثرت فأفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل وذلك أنه يظهر ما أدغمه غيره ويحقّق من الهمز ما ليّنه غيره ويفتح من الالفات ما أماله غيره.

وفي خبر طويل عن مولانا الصادق عليه‌السلام : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام حمل مصحفه ـ بعد أن رفضه القوم ـ وولى راجعا نحو حجرته وهو يقول «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون» (٣).

مميزات مصحف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

امتاز مصحفه عليه‌السلام بمميزات عدة :

أولا : بترتيبه الموضوع على ترتيب النزول في دقة فائقة.

ثانيا : إثبات نصوص الكتاب كما هي من غير تحوير أو تغيير أو تشذ منه كلمة أو آية.

ثالثا : إثبات قراءته كما قرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرفا بحرف.

رابعا : اشتماله على توضيحات ـ على الهامش ـ وبيان المناسبة التي استدعيت نزول الآية ، والمكان الذي نزلت فيه ، والساعة التي نزلت فيها ، والأشخاص الذين نزلت فيهم.

خامسا : اشتماله على الجوانب العامة من الآيات ، بحيث لا تخص زمانا ولا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٥٢.

(٢) نفس المصدر ج ٨٩ / ٥٣.

(٣) نفس المصدر ج ٨٩ / ٥٢.


مكانا ولا شخصا خاصا ، فهي تجري كما يجري الشمس والقمر ، وهذا هو المقصود من التأويل في قوله عليه‌السلام : ولقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل والتأويل (١).

فالتنزيل هو المناسبة الوقتية التي استدعت النزول والتأويل هو بيان المجرى العام.

كان مصحف مولانا عليّ عليه‌السلام مشتملا على كل هذه الدقائق أخذها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى ما حباه به الله سبحانه من العلم والفهم والحكم. قال عليه‌السلام :

ما نزلت آية على رسول الله إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فأكتبها بخطي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله لي أن يعلّمني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ فكتبته ..» (٢).

وهكذا بقي مع الإمام عليّ عليه‌السلام مصحفه يتوارثه أوصياؤه الأئمة من بعده ، وهو الآن مع الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فعند قيامه «يظهره للناس وتجري السنّة عليه» (٣).

وليس المهم إثبات أن القرآن جمع على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم كان بعده وإنما المهم إثبات أن ما بين الدفتين قرآن وأنه لم يحرّف ، وقد عدّ الشيعة عدم تحريف الكتاب من الضروريات ولا يعتد بقول من ذهب إلى وجود نقص أو زيادة في الآيات لأنها أقوال شاذة لا يعوّل عليها ، وليست هذه الآراء مما تفردت به بعض الإمامية بل سبقهم إلى ذلك جماعة من حشوية العامة وفقهائها. والتحريف بمعناه

__________________

(١) آلاء الرحمن ج ١ / ٢٥٧.

(٢) تفسير البرهان ج ١ / ١٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٣.


اللغوي «إمالة الشيء والعدول عن موضعه إلى جانب آخر». وقد حصل هذا التحريف في أوساط الأمة الإسلامية حتى حرّفوا الكلم عن مواضعه ، وأنت إذا تصفحت كتب التاريخ والتفسير عند علماء العامة وجدت الكثير من هذا التحريف في الآيات النازلة بحق آل البيت عليهم‌السلام وقد أشار القرآن لهذا التحريف بقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١). وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٢). وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (٣). وتحريف الكلم عن مواضعه عبارة عن : تفسيره على غير وجهه ، وتأويله بما لا يكون ظاهرا فيه تأويلا من غير دليل. فالتحريف عن غير المواضع المخصوصة فيه ؛ يعني صرف الكلام عن معناه الحقيقي الموضوع له إلى معنى آخر بعيد عنه وهذا ما يسمى بالتحريف المعنوي. وهنا تقسيمات أخر للتحريف هي بحسب الاصطلاح على وجوه :

١ ـ تحريف لمدلول الكلام كما تقدم آنفا وهو المعبّر عنه «التفسير بالرأي» المنهي عنه شرعا لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٤).

٢ ـ تحريف موضعي : بمعنى إثبات السور أو الآيات على خلاف ترتيب نزولها ، وهذا في الآيات قليل كآية التطهير والإكمال ، لكنه في السور يشمل كل القرآن لأن الترتيب الموجود للقرآن حاليا هو على خلاف ترتيب النزول.

٣ ـ تحريف قرائي : بمعنى أن تقرأ الكلمة على خلاف قراءتها المعهودة لدى جمهور المسلمين ، وهذا كأكثر اجتهادات القرّاء المبتدعة التي لا عهد لها في الصدر الأول للإسلام ، وهذا غير جائز ، وذلك لأن القرآن واحد نزل من عند واحد

__________________

(١) سورة المائدة : ١٣.

(٢) سورة آل عمران : ٧٨.

(٣) سورة المائدة : ٤١.

(٤) غوالي اللئالي ج ٤ / ١٠٤.


أحد كما في قوله عليه‌السلام : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (١). وعن الفضل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف. قال عليه‌السلام : كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد(٢).

٤ ـ تحريف في لهجة التعبير : كما في لهجات القبائل حيث كل قبيلة يختلف لهجها عن لهج الأخرى عند أداء الحرف أو الكلمة. ويمكن حمل حديث الأحرف السبعة على هذا القسم باعتبار أن الأحرف السبعة عبارة عن إرادة اختلاف لهجات العرب في أداء الكلمات والحروف ، والتحريف في اللهجة إذا عدّ لحنا في الكلام ومخالفا لقواعد الإعراب فإنه غير جائز لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (٣). إضافة إلى أننا أمرنا بقراءة القرآن بعربية صحيحة لقوله عليه‌السلام: «تعلموا القرآن بعربيته» (٤).

٥ ـ التحريف بزيادة حرف أو آية أو سورة : أما الزيادة التفسيرية على الآيات فلا بأس بها وقد ورد عنهم عليهم‌السلام زيادات تفسيرية توضيحا لآية أو بيانا لشأن نزولها أو تأويلها أو تعيينا لمصداق من مصاديقها.

٦ ـ التحريف بالنقص : بمعنى أن القرآن الموجود حاليا فيه سقط لبعض الآيات أو السور ، وهذا ما ترفضه الشيعة ومع هذا يتهمهم العامّة بمقالة التحريف مع أنهم رووا العديد من النصوص التي تشير إلى مسألة وجود سقط من الآيات في القرآن فمثلا يروون في مصادرهم أن خليفتهم عمر بن الخطاب يزعم وجود آية رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا وكان يقول : «والذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها «الشيخ والشيخة إذا زنيا

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٠ حديث ١٢.

(٢) نفس المصدر حديث ١٣.

(٣) سورة الزمر : ٢٨.

(٤) وسائل الشيعة ج ٤ / ٨٦٥ ب ٣٠ ح ١.


فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها (١).

ولكن يرد عليه : إن شريعة الرجم ليست منحصرة بالشيخ والشيخة بل هي شاملة للمحصن والمحصنة سواء كانا شيخين أم شابّين.

ـ وهناك آيات أخر زعمها عمر بن الخطّاب من القرآن وأسقطت منه مثل آية الرغبة قال : كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : «أن لا ترغبوا عن آباءكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آباءكم» (٢). وأخرج العامة عن أبي عبيدة بإسناده عن حميدة بنت أبي يونس مولى عائشة قالت : قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى» (٣). وعليه فالشيعة لا يقولون بوجود تحريف في القرآن وقد أقاموا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في كتبهم (٤) فلتراجع.

* * * * *

__________________

(١) صيانة القرآن من التحريف ص ١٢٥ نقلا عن تنوير الحوالك للسيوطي ج ٣ / ٤٢ وفتح الباري / ابن حجر ج ١٢ / ١٢٧.

(٢) نفس المصدر ، نقلا عن البخاري ج ٨ / ٢٠٨ وصحيح مسلم ج ٤ / ١٦٧.

(٣) الاتقان في علوم القرآن ج ٣ / ٧٣.

(٤) ومنها هذا الكتاب كما سوف ترى في البحوث اللاحقة.


قال العلوي : اعلم أيها الملك أنّ الشيعة يعتقدون أنّ القرآن جمع في زمن الرسول كما تراه الآن لم ينقص منه حرف ولم يزد فيه حرف ، أما السنّة فيقولون : إن القرآن زيد فيه ونقص منه ، وأنّه قدّم وأخّر وأنّ الرسول لم يجمعه وإنما جمعه عثمان لمّا تسلّم الحكم وصار أميرا.

قال العبّاسي ـ وقد انتهز الفرصة ـ : هل سمعت أيها الملك أنّ هذا الرجل لا يسمّي عثمان خليفة وإنما يسمّيه أميرا.

قال العلوي : نعم عثمان لم يكن خليفة.

قال الملك : ولما ذا؟

قال العلوي : لأن الشيعة يعتقدون بطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان! (١).

____________________________________

(١) جوهر النزاع بين الإمامية وبقية الفرق الأشعرية هو الخلافة ، لذا افترقوا في تعيين الطرق لإثباتها إلى ثلاثة أمور :

النص ـ الاختيار ـ الميراث.

الطريق الأول : «النص» :

وقد ذهب إليه الإمامية «أيدهم الله عزوجل» حيث على مسلكهم لا بدّ للخليفة أن يكون متحليا بنفس الصفات والكمالات التي كان يتحلى بها النبي الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خلافا للزيدية ـ التي هي من فرق الشيعة لكنها ليست إمامية اثنى عشرية ـ حيث قالوا إن تعيين الإمام إنما هو بالاختيار ، ووافقوا بذلك الأشاعرة.

لكننا نحن الإمامية نعتقد ـ طبقا للأدلة القاطعة ـ أن المرجع في تعيين الإمام


أو من ينوب لتسلّم قيادة الأمة بعد النبي هو أمران :

الأول : النص من الله سبحانه على لسان رسوله العظيم أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه من الرسول أو الإمام السابق.

الثاني : ظهور المعجزة على يديه ، للتدليل على أنه متعين من قبل الله تعالى ، والشيعة الإمامية حينما يشترطون النص والمعجزة وفقا لما يعتقدون من وجوب الإمامة ، لأنها بمثابة النبوة أو المكمّل لها إلا ما استثناه الدليل ، فالإمام عليه‌السلام له كل ما كان للنبي الكريم إلا الوحي التشريعي ، فبذا هي ركن عظيم ، وأصل من أصول الدين ، فالمسألة عند الشيعة توقيفية ، لا رأي للناس فيها حتى يمكنهم انتخاب إمام لهم ، ووفقا لأصوليتها كبقية الأصول لا مجال لرأي العباد فيها ، حينئذ لا بدّ أن يكون المعيّن لها هو الله سبحانه وتعالى.

ولا بدّ في النص أن يكون جليا واضحا لا خفيا مبهما ، بمعنى أنه لا بد أن يبرز النص اسم الإمام بعد النبيّ ، بحيث لا يوقع الناس في الريب ، لأن الإمامة واجبة عليه تعالى بعد وفاة النبيّ بحكم ضرورة العقل والنقل الدالين على وجوب النيابة بعد رحيل الرسول من عالم الدنيا ، بل إن صلاحيات الإمامة أكبر وأعظم لما تمثّله من بسط أحكام الشريعة وتطبيق قوانينها ودساتيرها إلى ما هنالك من وظائف هي من مختصات الإمام عليه‌السلام ، وكل هذا لا يتوفر إلّا برجل معصوم من الذنوب والخطايا والقبائح ومسدّد في كل حركاته وأقواله وأفعاله.

وملكة العصمة في الإمام ـ على مذاق الإمامية ـ هي من الأمور الخفية والباطنية التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، فإذا كان هكذا فلا مجال لغيره تعالى كي يعيّن الإمام ، ووافقنا على ذلك جماعة من المعتزلة كالنظّامية والحائطية حيث قالوا باشتراط النص الجلي على الخليفة.

الطريق الثاني : «الاختيار» :

في مقابل طريق النص الذي يعتقد به الإمامية ، ذهب العامة إلى طريق


ومرجع آخر لتعيين الإمام ، هذا الطريق هو مرجعية الأمة بمعنى أن تعيين الإمام الخليفة راجع إلى الأمة الإسلامية ، وألغوا خصوصية النص الجلي ، مدعين أن النبي ارتحل من عالم الوجود ولم ينصّب على الأمة أحدا ينوب مكانه ، بل ترك أمر تعيينه إلى الأمة.

وقد اختلف العامة فيما بينهم في تحديد ماهية الأمة التي يراد لها أن تنتخب الإمام ، هل المراد منها كل أفراد الأمة ، أو جماعة معيّنون يصطلح عليهم بأهل المشورة أو أهل الحل والعقد؟

الأول باطل بالوجدان عندهم لأنه لم يعهد أنّ خليفة من الخلفاء كان قد انتخبه المسلمون جميعا في كل أقطار البلاد الإسلامية ، لذا عدّلوا به إلى المعنى الآخر وهو أن المراد من أفراد الأمة الذين يجب عليهم أن ينتخبوا هم أفراد معيّنون في كل بلد من بلدان المسلمين ، وهذا أيضا باطل لأنه تكليف بما لا يطاق ، إذ من أين للمسلمين أن يعرفوا الأفراد المعينين في كل بلد ـ وهم ما يصطلح عليهم بأهل الحل والعقد ـ ومن يعيّنهم؟ وما السبيل إلى انتخاب الذين يعيّنون أهل الحل والعقد؟ كل هذا خارج عن الوسع وهو الحرج المنفي بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) ولا حرج ولا تعجيز أكثر من التعرّف على إجماع فضلاء كل بلدان المسلمين ، فبطل هذا القول الفاسد ، ولو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان ، إذ لو كان كذلك لما لزم أحد القيام بقسط ، ولا تعاون على بر وتقوى ، إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبدا لتباعد أقطارهم ، ولو كان هذا هو المطلوب ، لكان أمر الله بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلا فارغا ، وهذا خروج عن الإسلام وتفريغا له من مضمونه ، فسقط القول المذكور. ولكنّ الرأي الراجح والثابت عندهم هو أن المراد بأهل الحل والعقد هم جماعة معدودون يتواجدون في بلد الإمام ، وقد أشار إلى هذا المعنى الماوردي في الأحكام السلطانية.

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.


وقد اختلفوا في عدد أهل الحل والعقد إلى آراء :

منهم من قال : إن أقل عدد يتحقق به مفهوم الشورى هو خمسة أشخاص (١) يحق لهم أن ينتخبوا الإمام.

ومنهم من قال : يكفي أربعة أو ثلاثة بل اثنان (٢).

ومنهم من قال : بكفاية الواحد إذا شهد عليه الشهود (٣).

قال عبد القاهر البغدادي المتوفى عام ٤٢٩ ه‍ :

«إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها ، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته» (٤).

وقال الجويني المتوفى عام ٤٧٨ ه‍ :

«إن البيعة تنعقد بشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير» (٥).

وقال في موضع آخر :

«اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة ، وإن لم تجمع الأمة على عقدها ، والدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر ، ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ، ولا حدّ محدود ، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد» (٦).

__________________

(١) الأحكام السلطانية ص ٧.

(٢) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج ١ / ٤٣.

(٣) مغني المحتاج ج ٤ / ١٣١ ونظام الحكم والإدارة ص ١١٠.

(٤) أصول الدين ص ٢٨٠ عبد القاهر البغدادي ، ط أولى ، استانبول ١٣٤٦ ه‍.

(٥) إحقاق الحق ج ٢ / ٣٣٥.

(٦) الإلهيات ج ٢ / ٥١٣ نقلا عن الإرشاد ص ٤٢٤.


ليت شعري : كيف تنعقد الإمامة ـ حسبما ادّعاه القوم ـ بواحد من أهل الحل والعقد ، ولا تنعقد لمولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي تصافق على بيعته يوم الغدير مائة وعشرون ألف مسلم وعلى طليعتهم النبي الكريم محمد وثلة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر بن الخطّاب؟!!

وما ذهبوا إليه ما هو إلا تبريرا لما حصل في تلك الآونة الزمنية حيث إن البيعة انعقدت لأبي بكر بواسطة عمر بن الخطّاب ، لذا قال القرطبي المتوفى عام ٦٧١ ه‍ :

«فإن عقدها واحد من أهل الحلّ والعقد ، فذلك ثابت ، ويلزم الغير فعله ، خلافا لبعض الناس ، حيث قال : لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ، ودليلنا : أن عمر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، ولأنه عقد ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود» (١).

ولم يكتف علماء العامة بهذا بل أجازوا أن يتعين الإمام بالقهر والاستيلاء حسب تقرير التفتازاني المتوفى عام ٧٩١ ه‍ :

قال : وتنعقد الإمامة بطرق :

أحدها : بيعة أهل الحل والعقد من وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ولا اتفاق من في سائر البلاد ، بل لو تعلق الحلّ والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.

ثانيها : استخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف ، إلا أن المستخلف عليه غير متعين فيتشاورون ويتفقون على أحدهم ، وإذا خلع الإمام نفسه كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

ثالثها : القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ / ٢٦٠.


شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر» (١).

يلاحظ على هذه الأقوال :

أولا : إن اختلاف القوم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه ، جعل الخلافة وبالا على المسلمين ، حتى أخذت لنفسها شكلا يختلف كل الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه ، فقد أصبحت الخلافة الإسلامية امبراطورية ، وملكا عضوضا ، يتناقلها رجال العبث والفساد ، وقد أعانهم في تسنم ذروة تلك العروش ، مرتزقة متظاهرين باسم الدين ، فبرروا أفعالهم ووجهوا أعمالهم توجيها ملائما للظروف السائدة ، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة ، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل ، لتدعيم مراكزهم السياسية ، من هذه الأحاديث ما نسبوه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسي ، قال الراوي : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع» (٢).

ثانيا : كيف تنعقد الإمامة بواحد ، في حين لا ينعقد النكاح بين الزوجين إلا بشهادة رجلين (٣) ، فما هذه الغميزة في الخلافة حيث اعتبروها أقلّ شأنا من عقد الزواج الذي اهتمت به السنّة المطهرة على الخصوص بشئونه وأحكامه ، والعجب

__________________

(١) شرح المقاصد ج ٢ / ٢٧٢ ، ط / استانبول.

(٢) صحيح مسلم ج ١٢ / ١٩٩ ح ٥٢ ، ط / دار الكتب الإسلامية ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين وتحريم الخروج على طاعة السلطان.

(٣) أجمعت المذاهب الأربعة على أن الزواج لا ينعقد إلّا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين حال العقد ، لكن المالكية اشترطوا حضورهما عند الدخول ، أما الإمامية فلم يشترطوا شيئا من هذا القبيل.


أن عقد الإمامة الذي تتوقف عليه حياة الأمة ، لم يطرح في النصوص ـ حسبما زعم القوم ـ ولم تبيّن حدوده وشرائطه وسائر مسائله في حين لم يترك النبيّ بيان أحكام مسائل هي أدون بكثير من مسألة الخلافة؟!!

ثالثا : إنّ تنصيب بعض الصحابة للخلافة دون مشورة البقية يعدّ خرقا لنظرية الجمهور القائلة بأن «يد الله مع الجماعة» و «لا تجتمع أمتي على ضلالة» و «لا تجتمع أمتي على خطأ».

هذا مضافا إلى اعتراضات هائلة صدرت من نفس الصحابة على خلافة أبي بكر ، حتى إنّ الزبير ـ وكما يروي الدينوري ـ وقف في سقيفة بني ساعدة أمام المبايعين وقد اخترط سيفه ، وهو يقول : «لا أغمده حتى يبايع عليّ» فقال عمر : «عليكم الكلب» فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر فكسره (١).

وأيضا فإن الحباب بن منذر قد قام يوم السقيفة منتضيا سيفه قائلا : «أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزى إليّ الأسد ، فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف فأخذه ، ثم وثب على سعد بن عبادة ووثبوا على سعد أيضا وتتابع القوم على البيعة ، وبايع سعد ـ مكرها ـ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ، قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعدا ، فقال عمر : قتله الله ، إنه منافق ، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه» (٢).

ونحن نشك أن سعد بن عبادة بايعهم مكرها لشدة ما فعلوا به ، ولما رواه الطبري في رواية أخرى ، أن عمر بن الخطّاب قام على رأس سعد وقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك فأخذ سعد بلحية عمر فقال والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، فقال أبو بكر مهلا يا عمر الرّفق هاهنا أبلغ ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٥ ، ط / الأعلمي وشرح النهج ج ١ / ١٣٥ ط / الأعلمي ١٤١٥ ه‍.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.


فأعرض عنه عمر وقال سعد أما والله لو أنّ لي قوّة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك ، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، احملوني من هذا المكان فحملوه فأدخلوه في داره وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي واعلم ما حسابي ، فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر لا تدعه حتى يبايع ، فقال له بشير بن سعد إنه قد لجّ وأبى وليس بمبايعكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه فليس تركه بضارّكم إنما هو رجل واحد فتركوه .. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر» (١).

بل إن عمر نفسه قد اعترض بعد وفاة أبي بكر على خلافته فقال : «فلا يغرّن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرّها» (٢).

كيف لا تكون فلتة وقد قامت على ظلم آل محمّد عليهم‌السلام ، ونفسه أبو بكر يعبّر عن هويته حينما قال :

«إن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني ، وإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني» (٣).

أفيصح بعد ذلك أن يتشدق القرطبي ويقول : «ولم ينكر أحد من الصحابة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ والإمامة والسياسة ص ٢٧ ط / الرضي ، قم.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٤٤٦.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣٤.


ذلك» ، وكأن الحباب وسعدا والزبير وبني هاشم لا سيما مولى الثقلين أمير المؤمنين وزوجه الطهر الطاهر فاطمة روحي فداها لم يكونوا من الصحابة بل ولا ـ بنظر أبي بكر وعمر ـ من المسلمين؟!

رابعا : إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة يعرب عن بطلان نفس الأصل الذي ابتدعوه ، فلو كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة ، لكان على النبيّ العظيم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وهل أنها تنعقد بواحد أو باثنين من الصحابة ، أو بأهل الحل والعقد أو بالصحابة الحاضرين يوم وفاة النبي؟!!

خامسا : كيف يعقل أن يترك النبي أمته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل بأن أمته سوف يتسلط بعضهم على بعض ، وسوف يريق بعضهم دماء بعض من أجلها ، وهو القائل ـ وكما ورد في سنن أبي داود والنسائي ـ أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار» ، «وأنّ أصحابه لن ينجو منهم إلّا مثل همل النعم ، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفارا ، فيقال للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (١).

فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه النبيّ الكريم من اختلاف أمته ، وأن الخلافة من بعده من أولى قضاياه الكبرى ، ومع هذا يقال إنه «صلوات الله عليه وآله» لم يوص ، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة ، ولو كنّا نصدّقها مستسلمين لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا ، فإن الإسلام جاء رحمة للعالمين لينقذهم من الجاهلية والهمجية ساكتا عن أعظم أمر مني به الإسلام والمسلمون مع أنه كان على علم به؟!

فما علينا إلّا أن نتّهم التاريخ وحملة الحديث بالكتمان وتشويه الحقائق بقصد أو بغير قصد ، ولئن لم يكن محمّد نبيا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي ،

__________________

(١) تقدم مصادر هذا الحديث فلاحظ.


فليكن ـ على أقل تقدير ـ أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر ولا يضع له حدّا فاصلا؟!

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن أمة أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها ، أو التنويه عن إصلاحها إلّا أن يكون مسلوبا من كل رحمة وإنسانية؟ حاشا نبينا وسيّدنا محمّد العظيم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال الله تعالى منوّها بكمال الرسالة وتمامها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنوّرة ، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها ، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!

سادسا : كيف يعقل أن ينسب للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويض أمر تعيين الخليفة إلى الأمة المتمثلة بأهل الحل والعقد ، وقد حدّثنا التاريخ أن أهل الحل والعقد أو ما يعبّر عنهم بكبار الأمة ، هم بؤرة الخلاف والنزاع.

وهكذا على مر العصور كانت الطبقة الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس لا ينفكون عن تحيزات فيهم أعظم منها في غيرهم ، ويندر أن يتجردوا عن أهوائهم النفسية ، وأغراضهم الشخصية ، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب أو ذاك ، فهل أمر كهذا مع أهميته وخطورته يوكل إلى من وصفنا ، وهل يعقل أن أبا بكر تفطن إلى سوء عواقب هذا التشريع دون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!! فأسرع أبو بكر وأخوه عمر إلى تعيين الخليفة من بعدهما ، فعيّن الأول أخاه عمر بوصية كتبها بخط عثمان ، وعيّن الثاني عثمان بطريقة اخترعها

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.


ضمن ستة أشخاص سماها بالشورى (١) ، فصغى رجل لضغنه ومال الآخر لصهره على حدّ تعبير مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكيف تنسب الفطانة إلى الشيخين وعائشة دون النبي الذي لا يفعل إلا عن وحي ، ولا يحكم إلا بوحي ، هيهات هيهات أن يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع ، وكيف يخفى عليه ضرره ، ولا يخفى على عائشة وهؤلاء يوم أوصوا أن لا تترك أمة محمد بلا راع؟!!

سابعا : إنّ إيكال الاستخلاف للأمة أمر لم يقم عليه دليل ، فهو بالغض عن مخالفته للنص ، لكنه بحدّ ذاته لم يكن قائما على الأسس الموضوعية ، بحيث يختار على ضوئها المستخلف من يستخلفه لحيازته على الشروط المعتبرة في القيادة والإمامة كالمؤهلات العلمية والسلوكية والقدرة على الإدارة ، والتجسيد الكامل لمفهوم القدوة ، وإنما كان ـ هذا الاستخلاف ـ متأثرا بالوضع النفسي للمستخلف وعلاقته بالمستخلف معه في العاطفة والسلوك والمصالح والطموحات ، فمثلا كان استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ردا للجميل الذي حباه به الأول كما تنبأ بذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حينما قال له عمر : «لست متروكا حتى تبايع» فأجابه عليه‌السلام :

«احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا» (٢).

وقال الإمام عليه‌السلام في موضع آخر يصف فيه عهد أبي بكر إلى عمر : «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تراثي

__________________

(١) روى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة ص ٤١ : أن عمر بن الخطاب لمّا أحس بالموت قال لابنه : اذهب إلى عائشة واقرئها مني السلام ، واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها ، فقالت : نعم وكرامة ، ثم قالت : يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع أمة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا ، فإني أخشى عليهم الفتنة ..» يا سبحان الله صارت عائشة وغيرها أحرص على أمة الإسلام أكثر من النبي محمد (ص)؟! احكم أيها القارئ بعين الإنصاف.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٢٩ ط / الرضي ، قم ، تحقيق علي شيري.


نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان (١) بعده ، ثم تمثل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (٢) ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر» (٣).

والنتيجة : أن هذا الاستخلاف أدّى إلى تنافس على الخلافة بين ملوك بني أمية والعبّاس بعد انتزاعها من أصحابها الشرعيين من حين وفاة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسبب هذا الاختلاف منشؤه عدم اشتراط المؤهلات في المستخلف لفقدان النص برأي أصحاب هذه النظرية ، من هنا حاول بعض المتأخرين من فقهاء العامة تهذيب نظرية الاستخلاف ، مشترطين أن يكون المعهود له متصفا بصفات الإمامة كالفقاهة والعدالة ، ولا عبرة باستخلاف الجاهل والفاسق (٤).

مما يدل ـ بحسب هذا التعديل ـ أن ما سار عليه أغلب الحكّام في العهد والاستخلاف مخالف للأسس الشرعية حتى عند المذاهب السّنية.

وعلى ضوء التهذيب الطارئ على النظرية الأشعرية في تولّي الخلافة يكون حكم المعاصرين لأئمتنا المعصومين ـ بدءا بمولانا أمير المؤمنين وانتهاء بغياب

__________________

(١) أي إلى ابن الخطّاب.

(٢) المراد من العبارة : «أي أنهما اقتسما الخلافة فأخذ كل منهما شطرا» شرح النهج لصبحي الصالح ص ٥٦٥.

(٣) نهج البلاغة ص ٤٨ ، الخطبة ٣ شرح صبحي الصالح.

(٤) مغني المحتاج ج ٤ / ١٣١ محمد الشربيني ، دار الفكر ـ بيروت.


الإمام المهدي عليه‌السلام ـ غير شرعية ولا تستمد روحيتها من الشارع المقدّس لفقدانهم لشروط الخلافة ، ولمعاصرتهم لأشخاص أولى بالخلافة منهم.

وطرق التولّي لمسألة الحكم بعد وفاة النبي لم تقدّم للأمة إلّا مزيدا من الويلات والفتن والدماء ، فاستخلاف أبي بكر شجّع معاوية على استخلاف يزيد ، وأصبح الاستخلاف سنة متّبعة في حكم بين أمية وبني العبّاس.

أما الشورى التي ابتدعها عمر بن الخطاب فإنها كانت بلاء على المسلمين ، حيث خطط عمر كي يكون عثمان هو الخليفة ، وقد حصل ما أراده ابن الخطاب ، فأدّى تسلّم عثمان للخلافة إلى اقتطاع بيت مال المسلمين عن الفقراء واختصاصه ببني أمية وحاشية بلاطه ، مما أدى إلى قيام بعض صحابة النبي أمثال أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وجماعة معهما كطلحة والزبير على عثمان والاعتراض عليه وقتله.

وبعد مقتله خرج طلحة والزبير على الإمام عليّ عليه‌السلام يطالبانه بدم عثمان ، واستغل معاوية الفرصة فقاتل الإمام عليّا عليه‌السلام تحت ذريعة الطلب بدم عثمان ، فأضعف جيشه ، وفي واقعة التحكيم قام الخوارج عليه فقتل عليه‌السلام بسيفهم ، ثم اضطر الإمام الحسن عليه‌السلام لعقد الصلح مع معاوية حفاظا على البقية الباقية من قواعده الشعبية المؤمنة ، لكنّ معاوية لم يف بشرط من شروط ذاك الصلح ، لذا صعد المنبر وقال : كل شرط تصالحت به مع الحسن فهو تحت قدميّ هاتين.

وهكذا استمر حكم معاوية بسياسة البطش لكل مناوئيه ، فكان يقتل على الظن والتهمة ، واستخلف ابنه يزيد على المسلمين ، فابتدأ حكمه بقتل سبط النبيّ الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثم استباح مدينة الرسول وقتل حسب النصوص التاريخية المشهورة ما لا يقل عن ستة آلاف وخمسمائة من أبناء المهاجرين والأنصار.

وأدت نظرية الغلبة والاستخلاف إلى تسلط ملوك بني العبّاس الذين حكموا


بالحديد والنار واستباحوا الحرمات والمقدّسات ، ويكفي كشاهد ما فعله عبد الملك بن مروان حيث مات في حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة ، وأساء حكمهم سمعة الإسلام في نظر غير المسلمين ، واستمر الصراع على الخلافة والسلطة وأريقت الدماء واستبيحت الأعراض ، وطورد أهل البيت عليهم‌السلام وحوصروا وفي نهاية المطاف كانت نهايتهم الشهادة على أيدي خلفاء الجور ولم ينج منهم سوى مولانا الإمام المهدي عليه‌السلام حيث شاءت القدرة الإلهية أن يستمر هذا البيت الطاهر بعطائه يفيض على المستحقين ، فغاب عن قواعده المؤمنة سوى الخواص منهم يستفيدون منه ومن عطائه ، كما أنه لم ينقطع كليا عن قواعده المؤمنة به بل يراهم ويرونه ولكنّهم لا يعرفونه مع قضائه لحوائجهم وسماعه لصرخاتهم واستغاثتهم. ولو أنّ الأمة أطاعت أهل البيت عليهم‌السلام لكانوا ـ أي أئمتنا عليهم‌السلام ـ لها سفينة النجاة حقا ، ولما حدث ما حدث من مآس على طول التاريخ.

ثامنا : إن هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل ، لأنه إذا كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة ، كان من الواجب على النبي بالضرورة بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وأنه هل تنعقد بواحد أو باثنين من الصحابة؟ وهل أن أهل الحل والعقد هم أنفسهم من يعيّنون الخليفة أو لا؟ (١).

تاسعا : كيف يتصوّر أن يترك النبيّ الكريم الحكيم أمته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل سوف تراق الدماء من أجلها ، وقد ورد عنه بالمستفيض «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار» وأن أصحابه لن ينجو منهم إلّا مثل همل النعم ، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفارا ، فيقال له : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

__________________

(١) الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإمامية ج ٢ / ٤٩ ، ط / مركز العترة عام ١٤١٨ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ٤٣ ، باب إثبات حوض النبي ، ط / دار الكتب العلمية ، والحديث متواتر مضمونا.


وما ورد عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ قال :

«إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول ؛ سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» (١).

فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه الرسول الكريم من اختلاف أمته ، لذا كانت الإمامة من أولى قضاياه ، دفعا لحصول الخلاف ، والتقاتل على أقل تقدير (٢).

من هنا ورد عنه بالمستفيض أنه قال :

«لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(٣).

وقد أورد البخاري هذا الحديث من ثلاثة طرق ، ومسلم من تسعة طرق ، وأبو داود من ثلاثة ، والترمذي من طريق واحد ، والحميدي من ثلاثة طرق ، حسبما جاء في الينابيع.

وأهل البيت عليهم‌السلام أكثر انطباقا على هذا الحديث من خلفاء بني أمية وبني العبّاس ، لأن بني أميّة كانوا أقل من العدد المعلوم ، وبني العبّاس كانوا أكثر ، هذا مضافا إلى أن النبي أراد بهذا الحديث الإشادة بخلفائه من بعده ، لا سيما بقوله «لا يزال هذا الدين قائما» ولا يقوم الدين إلّا بالعدول ، وأين هي العدالة التي تحلّى بها الشيخان وأتباعهما من حكّام بني أمية وبني العبّاس؟!!

هل من العدالة أن يغتصب حق الإمام عليّ عليه‌السلام وتضرب السيدة الزهراء عليها‌السلام ويجري عليها ما جرى من ظلم الخليفة المزعوم؟! وحسبما قال ابن

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ٤٤ رقم الحديث ٢٢٩١.

(٢) الفوائد البهيّة ج ٢ / ٥٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٥٣٣ الباب السابع والسبعون ، ط / الرضي ـ قم.


أبي الحديد : «إنّ عمر بن الخطّاب هو أول من شيّد بيعة أبي بكر ووقم (١) المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا! وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها (٢) المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة عليهم‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (٣).

بعد هذا كله ، هل يصح أن يقال : ارتحل النبيّ الأعظم ولم يوص لأحد من بعده ، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة؟!!

ولو لم يوص ـ مع علمه المسبق بانشقاق الأمة من بعده وتضارب آرائها ـ لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا ، لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين ولينقذ الناس من الجاهلية والهمجية ، فدعوى أن النبيّ لم يوص ما هو إلّا اتهاما لهذا الرسول الكريم بعدم الكفاءة والجدارة.

ولو لم يكن محمّد نبيّا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي ، فليكن ـ على الأقل ـ أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر؟! أو أنه عليه‌السلام يعلم بهذا الاختلاف ولا يضع له حدّا فاصلا؟!!

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن أمة أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها ، أو التنويه عن إصلاحها إلّا أن يكون مسلوبا من كل رحمة وإنسانية؟

__________________

(١) وقم المخالفين : أي أذلّهم.

(٢) معنى «أنا جذيلها المحكّك ...» هو أنني ذو رأي يشفى بالاستضاءة به كثير في مثل هذه الحالة ، وأنا في كثرة التجارب في هذه الحالة وأمثالها كالنخلة الكثيرة الحمل.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٣٥ ، باب نبذة من أخبار عمر.


حاشا نبيّنا الكريم من جاء رحمة للعالمين ، ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين!! ومعنى كونه رحمة للعالمين أنه لم يترك شيئا إلّا بيّنه وحدّد تفاصيله ـ لا سيما هذا الأمر الخطير ـ وقد أوضح الباري العظيم هذا الأمر بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنورة ، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها ، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!

فلا يتبقى لنا إلّا أن نعتقد بوجوب تعيين الخليفة على الأمة حفظا لمصالحها ، ودرءا للأخطار عنها ، وطروء الشبهات عليها وانحراف أهلها ، وقد حصل هذا التعيين بنصوص قرآنية وأخرى نبوية أشارت إلى أن الإمام عليا وأبناءه المعصومين هم الخلفاء على هذه الأمة والشهداء عليها والقيمين على أفرادها. وبهذا يتضح بطلان الطريق الثاني لانتخاب الخليفة ، وأما الطريق الثالث فباطل مثله ، وإليك البيان.

الطريق الثالث : «الميراث» :

ذهب بعض الفرق الإسلامية كالعبّاسية والراوندية إلى ثبوت الإمامة بالوراثة باعتبار أنّ العبّاس بن عبد المطلب استحق الإمامة لقربه من النبيّ دون بني أعمامه.

ويلاحظ عليه :

١ ـ يشترط في الإمام العصمة ، وهي غير متوفرة في غير الإمام عليّ عليه‌السلام وأولاده المنصوص عليهم واحدا تلو الآخر.

٢ ـ لو ثبت التوارث في الإمامة لكان ثبت ذلك للنساء والصبيان مع أن ذلك باطل بإجماع الأمة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.


٣ ـ يشترط في الإمامة النص منه تعالى ، ولا شيء منه في العبّاس وغيره.

٤ ـ إنّ القول بالميراث يعني تسلط الفسّاق على الإمامة والحكم ، وقد نهى الله عزوجل عنه في محكم كتابه الكريم بقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) وتسليط الفسّاق على سدة الحكم وارتضاؤهم له يعتبر ركونا إليهم وهو حرام شرعا.

من هنا يتضح فساد الطريقين المتقدمين بما تقدم من البراهين ، هذا مضافا إلى عدم عصمتهما عدا الأول ، وعلينا إثبات الدليل عليه ، وهل أن النبي عيّن شخص الإمام بعده؟ ومن هو هذا الإمام؟ هل هو مولى الثقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أو أبو بكر بن أبي قحافة؟

استدلال العامة على خلافة أبي بكر :

استدل العامة على خلافة أبي بكر بوجهين :

الوجه الأول :

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه ، كي يصلي بالمسلمين إماما ، وحيث إن الصلاة عماد الدين (٢) ، دل ذلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبيّ به في الاقتداء به في الصلاة ، فيكون مرضيا عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة (٣).

وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر ، فقال الأول :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به وما عزله

__________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) كنز العمال ج ٧ / ٢٨٤ رقم ١٨٨٨٩ ، ط / مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍.

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٧٢ والصواعق المحرقة ص ٢٣ ، ط / مكتبة القاهرة.


فيبقى إماما فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل (١).

وقال الثاني : ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة ، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام ، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذلك ليس مقصودا بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم ، إذ لا يتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه ، فلذلك رضي النبيّ لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذلك ..» (٢).

يورد عليهما :

١ ـ دعوى أنّ النبي استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان وبيان وما نسبوه (٣) إلى النبي من أنه أمر عائشة بأن تأمر أباها أبا بكر مردود من أصله لكثرة الاضطراب والاختلاق في دلالته ، وذلك شاهد بفساده.

فروى أبو وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : صلّى رسول الله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا (٤).

وروى إبراهيم ، عن الأسود عن عائشة في حديث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى عن يسار أبي بكر قاعدا ، وكان أبو بكر يصلّي بالناس قائما (٥).

__________________

(١) هامش إحقاق الحق ج ٢ / ٣٦٠ نقلا عن شرح المواقف.

(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ / ٣٠١ ، ط / الحلبي ـ مصر ١٣٥٥ ه‍ / ١٩٣١ م.

(٤) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ / ٣٠٢ ، وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٠ ، ط / الأعلمي مصححة على نسخة ليدن ١٨٧٩ م والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤ ، ط / دار المعرفة ١٤٠٠ ه‍.

(٥) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤ ، وصحيح البخاري ج ١ / ٢١٧ ح ٧١٣ ، ط / دار الكتب.


وعن وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : قالت : صلّى رسول الله في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا وصلّى أبو بكر قائما بالناس (١).

وفي حديث عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : صلّى رسول الله بحذاء أبي بكر جالسا ، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (٢).

ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات ، وجميعها مروي عن عائشة ، فتارة تقول : كان رسول الله إماما بأبي بكر ، وتارة تقول : كان أبو بكر إماما ، وأخرى تقول : صلّى عن يمين أبي بكر ، ورابعا تقول : صلّى عن يساره ، وخامسا تقول : صلّى بحذائه ، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم ، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.

٢ ـ كيف يصلّي النبيّ جالسا ، والمأمومون قياما في حين أنّ عليهم الصلاة من جلوس اقتداء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى مناقضة هذا الحديث لما أمر به النبيّ ـ حسبما روى القوم في الصحاح ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة (٣) قالت : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته وهو شاك ، فصلّى جالسا ، وصلّى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا».

وورد عن أنس بن مالك قال : «سقط النبيّ عن فرس فشجّ شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده ، فحضرت الصلاة فصلّى بنا قاعدا فصلينا وراءه قعودا ، فلما قضى الصلاة قال : إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا سجد فاسجدوا ... وإذا صلّى قاعدا فصلّوا قعودا أجمعون» (٤).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٧ ، وسيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٢ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤.

(٣) صحيح البخاري ج ٢ / ٣٣٧ حديث رقم ١١١٣ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٤) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ والنووي بهامش صحيح مسلم ، والبخاري ج ١ / ٢٢١ ح ٧٣٢.


وفي رواية أخرى عن عائشة قالت : صلّى جالسا فصلوا بصلاته قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا (١).

وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال : اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياما ، فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعودا ، فلمّا سلّم قال : إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلّى قائما فصلوا قائما ، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا (٢).

فهذه الأحاديث تبطل حديث صلاة أبي بكر ، وتدلّ على اختلافه ، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ـ كما في هذه المرويات ـ مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبيّ ومشورته.

٣ ـ إن حديث صلاة أبي بكر ـ الذي تفردت بنقله عائشة ـ يتعارض بما روي عن ابن عبّاس قال :

قال رسول الله ابعثوا إلى عليّ عليه‌السلام فادعوه ، فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده جميعا فقال رسول الله انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا ، وقال رسول الله آن الصلاة؟ قيل : نعم ، قال : فأمروا أبا بكر ليصلّي بالناس ، فقالت عائشة إنه رجل رقيق ، فمر عمر ، فقال : مروا عمر فقال عمر : ما كنت لأتقدّم وأبو بكر شاهد ، فتقدّم أبو بكر ووجد رسول الله خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله فقرأ من حيث انتهى أبو بكر (٣).

والملاحظ في هذا الحديث أن النبيّ وقع في تهافت ـ وحاشاه أن يقع ـ إذ

__________________

(١) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ ، ط / دار الكتب الإسلامية ١٤١٥ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ ح ٤١٣.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.


كيف يأمر أبا بكر بن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتره بثوبه ليصلّي مكانه ، لو لا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن لا تكون صلاة أبي بكر ممسكا عليه إلى آخر الدهر ، وإلا لو كان النبيّ راضيا عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة ، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري (١) ، فليكن أبو بكر ـ على أقل تقدير مساويا لعبد الرحمن ـ فلا يجذبه النبيّ بثوبه ليصلّي مكانه. وعلى فرض اقتداء النبيّ بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذلك فضلا على النبيّ ولا على غيره من المسلمين.

ولو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راضيا عن صلاة أبي بكر لما خرج معصّبا رأسه (٢) متكئا على الفضل بن عبّاس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة ، وقد روى مسلم بذلك أخبارا مستفيضة عن عائشة قالت : أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة ، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها ، وأذن له ، قالت : فخرج ويد له على الفضل بن عبّاس ، ويد له على رجل آخر ، وهو يخطّ برجليه في الأرض ، فقال عبيد الله : فحدّثت به ابن عبّاس ، فقال : أتدري من الرجل الذي لم تسمّ عائشة؟ هو عليّ عليه‌السلام (٣).

فخروج النبيّ بهذه الحالة (٤) لينحّي أبا بكر عن الصلاة ، له دلالاته الهامة ، وعلى أقل تقدير كان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركه يؤمّ الصلاة ـ لو كان يحسن الظن به ـ حتى لا يسيء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة ، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!

هذا مضافا إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمر عمرو بن

__________________

(١) لاحظ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٣ / ٤٧٦ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٢.

(٣) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٧ ح ٩١ وصحيح البخاري ج ١ / ٢٠٢ ح ٦٦٥.

(٤) وكما نقل البخاري في صحيحه ج ١ / ٢٠٢ ح ٦٦٤ أن النبي خرج يهادى بين رجلين ، ورجلاه يخطّان من الوجع فلاحظ.


العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمّهم طول زمان إمارته في الصلاة ، ولم يدل ذلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمرو بن العاص.

ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة (١).

٤ ـ إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له ، ولا توجب أن يكون إماما على هذه الأمة ، وذلك لما يروون من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأمته : «صلوا خلف كل بر وفاجر» (٢). فأباح لهم النبيّ بحسب مضمون هذا الحديث الصلاة خلف الفجّار والفساق ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

هذا مضافا إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتون ومبتدع ، فقد روى البخاري عن أبي التّياح أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال النبيّ لأبي ذر :

اسمع وأطع ولو لحبشي كأنّ رأسه زبيبة (٣).

بل إنّ عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقدمته ـ على فرض أنّ النبيّ قدّمه ـ إنما كان لإظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شيء ، فإن من لا يصلح أن يكون إماما للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها ، فكيف يصلح أن يكون إماما عاما ورئيسا مطاعا لجميع الخلق ، فكان قصده صلوات الله عليه وآله إن كان وقع هذا الأمر منه إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذلك ، فيكون حجة عليهم لا لهم.

وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها ، وإنفاذه بالراية في يوم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ / ٢١١ ح ٦٩٢.

(٢) كنز العمال ج ٦ / ٥٤ ح ١٤٨١٥ عن سنن البيهقي.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢١٢ ح ٦٩٦.


خيبر ، فإن ذلك كله كان بيانا لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من أمور الدين والدنيا.

٥ ـ إنّ حديث صلاة أبي بكر وإصرار هذه المرويات على تقديمه على غيره من الصحابة لا سيما مولى الثّقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لا شك أنّ فيه غميزة بعمر بن الخطاب حيث قام ليصلي فأبعده النبيّ لأنه كان يريد ـ بزعمهم ـ أبا بكر.

فعن عبد الله ابن زمعة بن الأسود قال :

لما استعزّ برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين ، قال : دعاه بلال إلى الصلاة ، فقال: مروا من يصلّي بالناس ، قال فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائبا ، فقلت : قم يا عمر فصلّ بالناس ، قال : فقام ، فلما كبّر ، سمع رسول الله صوته ، وكان عمر رجلا مجهرا ، قال: فقال رسول الله فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون. قال : فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة ، فصلّى بالناس. قال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ما ذا صنعت لي يا بن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك ، ولو لا ذلك ما صليت بالناس ، قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله بذلك ، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس (١).

نلاحظ هنا

أولا : إن عمر بن الخطّاب لو كان أهلا لإمامة الصلاة لما نهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، فحيث أصرّ على أبي بكر دون عمر دل ذلك على عدم أهليته ولياقته لكي يؤم المسلمين بالصلاة.

ثانيا : كما أن عبد الله بن زمعة تصرف بدون إذن النبيّ فأمر عمر بالصلاة دون أبي بكر ، كذا أمكن لعائشة أن تتصرف بإعطاء الأمر دون إذن النبيّ لها بذلك ،

__________________

(١) السيرة النبوية ج ٤ / ٣٠٢ وكذا صحيح مسلم ج ٤ / ١١٩ ح ٩٤ و ٩٥ حيث أصرت عائشة على عمر ليصلّي بالناس ، لكن النبيّ بزعم هذه المرويات ـ أصر على أبي بكر.


وعلى كلا التقديرين فإن الأمر بالصلاة لم يكن مباشرة من النبيّ وإنما بواسطة ، والواسطة يحتمل بحقها الكذب ، ومن احتمل بحقه الكذب لم يبق في هذا الأمر حجة.

ثالثا : لم ير عبد الله بن زمعة في الصحابة من هو أفضل من عمر ، فأين نص الغدير الذي كان حجة على ابن زمعة ومن شاكله من القوم ، لكنّ حب الدنيا حجب نور الحق عن قلبه ، مما يعطينا انطباعا خاصا عن نفاق بعض الصحابة وعدم تورعهم عن الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحا ـ كما زعموا ـ وكان مع صحته دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبيّ بالإمامة ، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره ، فكيف لم يجعل أبو بكر ونظيره عمر ذلك دليلا على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف ، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لا يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل إلّا لعجزه عنه ، فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا.

٧ ـ ومما يشهد أن الأمر بالصلاة لم يكن عن رأي رسول الله وإذنه وأمره أن حديث صلاة أبي بكر جاء من غير طريق عائشة أنها قالت : جاء بلال فأذّن بالصلاة ورسول الله مغمى عليه ، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت ، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلّي بالناس (١).

وهذا تصريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها ، دون أمر رسول الله وإذنه ورأيه.

ويؤيد ذلك ويكشف عن صحته ، الإجماع على أن رسول الله خرج مبادرا معجّلا بين يدي رجلين من أهل بيته أحدهما أمير المؤمنين عليّ بن أبي

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ / ٦٣٤ ح ٤١١٦ عن اللالكائي في السنّة.


طالب عليه‌السلام حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه ، وقد ذم النبيّ عائشة وحفصة لعظيم فتنتهنّ في الأمة بقوله «إنكن كصويحبات يوسف» (١) وهو إخبار عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس ، ولو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدّم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها ، ولا رجع باللوم على غيره فيها.

٨ ـ إن إمامة أبي بكر في الصلاة وقياسها على إمامة الدين ، معارض باستخلاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في غزوة تبوك ولم يعزله ، وإذا كان خليفة على المدينة ، كان خليفة في سائر وظائف الأمة ، ولا قائل بالفصل ، لأن استخلافه على المدينة أقرب إلى الإمامة الكبرى لكونه متضمنا لأمور الدين والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصلاة.

٩ ـ الأحاديث في إمامة أبي بكر مضطربة جدا ، فتارة أنّ النبيّ أمر عمر بن الخطاب ، وأخرى أمر أبا بكر ، وثالثة أمر بلالا أن يأمر أبا بكر ، مما يذهب باطمئنان التصديق بالحادثة ، مضافا إلى وقوع الاضطراب في أصل الصلاة التي صلّاها أبو بكر هل هي الظهر أو العصر أو الصبح ، إلى ما هنالك من اضطرابات في أصل الحادثة وخصوصياتها مما يسقطها عن الحجية والاعتبار.

١٠ ـ إن قياس أمر الخلافة على إمامة الصلاة مبني على إثبات حجية القياس الذي قال بحجيته العامة ، وحرّمه الشيعة الإمامية وجمهور الظاهرية والمعتزلة.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدل بها العامة على إمامة أبي بكر ، هو الإجماع على انعقاد الإمامة له ، سواء فسّر الإجماع باتفاق الكل كما حكي عن المنخول ، أو اتفاق أهل الحل والعقد أو اتفاق أهل المدينة كما في أصول الخفري ، أو اتفاق العلماء.

__________________

(١) نفس المصدر وصحيح مسلم ج ٤ / ١١٩ ح ٩٤ و ٩٥ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ٤ / ١١٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.


والجواب :

١ ـ إن إجماع الأمة كلها على خلافة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، وهذا واضح مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهم‌السلام وبعض الصحابة كسعد بن عبادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه ، وكذا سلمان وأبي ذر والمقداد وبني جعفر وغيرهم من بني هاشم وسادات الحرمين وعظماء المسلمين.

وأما دعوى تحققه بعد وفاة النبيّ بزمن بعيد ، فهي خلاف حقيقة الإجماع الذي يعتبر فيه اتحاد الوقت ، وعلى فرض تحققه بعد زمن طويل فإنه لا يكون حجة إلّا إذا دخل الباقون فيه طوعا ، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل ، ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفا وكرها فلا ، ولا شك أنّ الحال كان كذلك ، فإنّ بني هاشم لم يبايعوا أولا ، ثم قهروا فبايعوا بعد مدة ، وأما أمير المؤمنينعليه‌السلام فقد أخرجوه من داره ليبايع وهو مقاد بحمائل سيفه.

وما قيل من أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام بايع مكرها غير صحيح ، ولا برهان عليه سوى بعض الأقاويل مصدرها العامة ، لذا قال الشيخ المفيد (قدس‌سره) أحد أعلام الإمامية (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍) :

أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تأخر عن بيعة أبي بكر ، فالمقلل يقول : كان تأخره ثلاثة أيام ، ومنهم من يقول : تأخر حتى ماتت السيّدة فاطمة عليها‌السلام ثم بايع بعد موتها ، ومنهم من يقول تأخر أربعين يوما ، ومنهم من يقول : تأخر ستة أشهر والمحققون من أهل الإمامية يقولون : لم يبايع ساعة قط. ومما يدل على أنه لم يبايع البتة ، أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا ، أو يكون ضلالا ، وتركه هدى وصوابا ، أو يكون صوابا وتركه صوابا ، أو يكون خطأ وتركه خطأ ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا ، لكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد ضل بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة


على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يقع منه ضلال بعد النبيّ ولا في طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة ، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا.

وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لا سيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدّموا عليه ، ومحال أن يكون التأخر خطأ وتركه خطأ للإجماع على بطلان ذلك أيضا ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.

وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا لأن الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادين ، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر .... فثبت بما بيّناه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر على شيء من الوجوه كما ذكرناه وقدّمناه ..» (١).

وبالجملة : فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر ، وما ورد على فرض صحته «من أنهعليه‌السلام مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك (٢) (أي أن الثاني صفق على يد أمير المؤمنين» فهو لا يدل على البيعة أصلا لا مختارا ولا مكرها ، لأن قبض اليد دلالة الإحجام والانقباض عن مصافحة المغتصبين.

وأما ما ورد من أنه قال : «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين» فليس فيه أية إشارة إلى بيعة القوم ولو كرها ، وإنما كل ما في الأمر أنه سكت ولم يحاربهم بسيف لقلة الأعوان والأنصار.

__________________

(١) الفصول المختارة ص ٥٦ ، ط / المفيد ١٤١٤ ه‍.

(٢) كتاب السقيفة ص ٢٣٣ المعروف بكتاب سليم بن قيس الهلالي العامري المتوفي عام ٩٠ ه‍ ، ط / دار الإرشاد الإسلامي ١٤١٤ ه‍.


٢ ـ إنّ تخصيص الإجماع بأشخاص معدودين دون آل البيت عليهم‌السلام وبعض أصحاب النبيّ من المهاجرين والأنصار لا سيما سعد بن عبادة وسلمان والمقداد وعمار وغيرهم يعدّ تخصيصا من دون دليل ؛ أو ليس هؤلاء من المسلمين ، وأ وليسوا من أهل المدينة أو من أهل الحل والعقد؟!! فما هذه الغميضة في حقهم وعدم الالتفات إليهم؟!! وهل هذا إلّا جفاء وشقاء بالنسبة إلى هؤلاء النبلاء؟.

٣ ـ إنّ الشيعة لا يعتبرون الإجماع حجة شرعية إلّا إذا كشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، فهو حجة حينئذ لهذا المناط ، وحيث إن بيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لم يتم عندهم الإجماع الحجة ، ولو سلمنا بوجود إجماع ، فحيث إن من يدور معه الحق حيثما دار (باتفاق النصوص عند الطرفين) غير راض عن اجتماعهم يوم ذاك فلا قيمة حينئذ لذاك الإجماع ، لكونه يعبّر عن آراء جماعة في مقابل النص القطعي الدال على أحقية الإمام عليّعليه‌السلام من غيره ممن ادّعى الخلافة لنفسه زورا ، فيعتبر وقوف الإمام عليه‌السلام بوجه المجمعين ضربة قوية للإجماع ، وهدما لأسسه لأنه لو كان مع الحق لوقف الإمام عليه‌السلام بجانبه ، فحيث إنهعليه‌السلام كان ضده ، يكشف هذا عن كون الإجماع أمرا باطلا فلا حجية فيه.

٤ ـ إذا كان الإجماع منعقدا على أبي بكر ، فلما لم ينعقد على ابن الخطّاب الذين عيّن من قبل أبي بكر ، فالسابق كان يعيّن اللاحق ، وحيث إنّ التعيين باختيار الأمة لم يتكرر ، فكيف يكون الإجماع حجة على بيعة الأول دون الثاني؟!

شبهة :

قد يقال : إنّ المراد بأهل الحل والعقد ، إجماع أهل الصدر الأول وأنه وإن لم يتحقق على خلافة أبي بكر يوم السقيفة لكنّه بعد ذلك إلى ستة أشهر قد تحقق اتفاق الكل على خلافته ورضوا بإمامته فتمّ الإجماع حينئذ.

والجواب :


إن الإجماع غير محقق بعدم بيعة مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه حتى بعد ستة أشهر ، بل إن سعد بن عبّادة وأولاده لم يبايعوا قطعا ، لذا قتله (١) ابن الخطّاب وأشاع بين الناس أن الجنّ قتله ، فيكون خروج المعارضين خرقا للإجماع المدّعى.

وبهذا يتبيّن عدم صحة خلافة أبي بكر ، وما اعتمده العامة على خلافة أبي بكر لا يصلح للدليلية ، فهو كناقل الشوكة بالشوكة ، وكنافخ في غير ضرام.

والأنكى من ذلك أن ابن حجر الهيثمي المكي (٨٩٩ ـ ٩٧٤ ه‍) ادّعى (٢) : «أن النبيّ نص على أبي بكر ظاهرا» ، ولكنّه لم يظهر لنا نصا واحدا على مدعاه ، مع دعواه أيضا : «أن النبيّ لو أوصى إلى غير أبي بكر ـ يقصد الإمام عليّا ـ لوجب على الأمة مبايعته ، ولبالغ رسول الله في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة فألزمهم ، ولمّا لم ينقل كذلك مع توفر الدواعي على نقله ، دل على ذلك على أنه لا نص» (٣).

ليت شعري كيف أنه قلب الحقائق وأنكر الحق والموازين ، وهو نفسه عقد فصلا خاصا بخلافة الإمام عليّ عليه‌السلام وزيّنه بذكر فضائله ومآثره وكراماته ، أو ليست الكرامات والفضائل والمآثر دليلا على أحقيته وعلو شأنه؟! أم أن الفضيلة شيء والخلافة شيء آخر كما ادعوا؟! وهل رضي الله أن يكون الخليفة جاهلا فاسقا؟! كلا وألف كلا.

وها هي كتبهم ومصادرهم تعج بمناقب الإمام عليّ عليه‌السلام وبما ورد عن الرسول الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق الإمام ، وأن هذا العبد المطيع لله ولرسوله قد قال عنه النبيّ يوم خيبر :

__________________

(١) لاحظ تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٦ الفصل الرابع في بيان هل نص النبي على خلافة أبي بكر؟.

(٣) نفس المصدر ص ٢٨.


«لأعطينّ هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها ، قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، فتساورت لها رجاء أن ادعى لها ، قال : فدعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها ، وقال : «امش حتى يفتح الله عليك» (١).

ونحن نسأل : هل يحبّ الله رجلا فاسقا جاهلا ليس أهلا للخلافة؟ وقد تشدق العامة مستدلين على خلافة أبي بكر بحديث إمامته للصلاة من باب القياس ، ولا يستدلون على خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام بهذا الحديث وغيره من الأحاديث القطعية الصدور والدلالة على خلافته وهي من حيث الوفرة والكمية ليس لأحد ممن تقدّم على أمير المؤمنين مثلها نوجزها بما يلي ونحيل بالرجوع إلى المصادر الكبرى (٢).

الأحاديث المقرّرة :

١ ـ حديث : الخلافة.

٢ ـ حديث : الوصية.

٣ ـ حديث : من أحب أصحابك؟.

٤ ـ حديث : لكل نبي وصي ووارث.

٥ ـ حديث : قراءة سورة براءة.

٦ ـ حديث : المناجاة.

٧ ـ حديث : المباهلة.

٨ ـ حديث : المنزلة.

٩ ـ حديث : إني رافع الراية غدا.

١٠ ـ حديث : سد الأبواب إلا باب عليّ عليه‌السلام.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٣ ـ ١٤٥ ح ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٣٥.

(٢) ننصح بمطالعة نهج الحق وشرحه إحقاق الحق ، والغدير وفضائل الخمسة من الصحاح الستة وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي والمراجعات.


١١ ـ حديث : المؤاخاة.

١٢ ـ حديث : إن عليا مني وأنا منه.

١٣ ـ حديث : إن فيك مثلا من عيسى.

١٤ ـ حديث : لا يحبك إلا مؤمن.

١٥ ـ حديث : خاصف النعل.

١٦ ـ حديث : الطائر المشوي.

١٧ ـ حديث : أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

١٨ ـ حديث : كسر الأصنام وردّ الشمس.

١٩ ـ حديث : الحق مع علي.

٢٠ ـ حديث : الثّقلين.

٢١ ـ حديث : الكساء.

٢٢ ـ حديث : الأمان.

٢٣ ـ حديث : اثنا عشر خليفة.

٢٤ ـ حديث : كونه عليه‌السلام نورا بين يدي الله تعالى.

وغيرها من الأحاديث الجليلة الدالة على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أليست كلها قرائن واضحة على صحة إمامته وأحقيته بالخلافة من غيره ممن نسبوا إليهم بعض الفضائل لتكون وساما رفيعا لأصحابها لينالوا شرف الخلافة ، ومن هذه الألقاب : الصدّيق والفاروق وذو النورين وأمثالها ولكنهم نسوا بل تناسوا وتجاهلوا الآيات العظام والأحاديث الضخام الواردة بشأن مولى الثّقلين ، هذا مضافا إلى سيرته الطاهرة وعلو همته وغيرها من الصفات التي لم ينكرها حتى الأعداء ، فهيهات أن يقاس بالإمام عليّ عليه‌السلام أحد من الناس ، فإنه ـ على حد تعبير ابن أبي الحديد ـ كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلّما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة (١).

__________________

(١) من مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.


عود على بدء :

لقد أثبتنا بالإجمال بطلان طريقي الاختيار والميراث الدالّين على إثبات الخلافة ، فيبقى الطريق الأخير عنيت به «النص» من الله على لسان رسوله العظيم في تعيين الخليفة ، وسوف تأتيك الأدلة عليه.

بيان الأدلة على بطلان خلافة أبي بكر :

وهي كثيرة إليك بعضا منها.

الأول : إنّ الخلافة نيابة عن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنائب يشترط فيه أن يحمل المواصفات والخصال الحميدة التي كان يحملها المنوب عنه ، ومسألة الخلافة هي من أمهات الأمور التي يجب مراعاة مواصفاتها وشروطها ، تماما كما هي شروط ومواصفات النبوة من العصمة والكمال والعلم والصفات الأخرى الكمالية ، لأن معنى كونه خليفة لا بد أن يتصف بنفس الصفات التي كان عليها النبيّ ، لأن مسألة الخلافة أو الإمامة ليست مركزا دنيويا ، أمر تفويضها إلى الناس فتكون كسائر المناصب الدنيوية كرئاسة الجمهورية في أزمنتنا الحاضرة ، الأمر ليس هكذا ، بل إن مسألة الخلافة فوق ما يتصوره السطحيون ، إنها إمرة إلهية تعيينها بيده تعالى لكونها استمرارا لوظائف النبوة ولا تفترق عنها سوى بالوحي التشريعي ، لأن الإمام يقوم بكل ما كان يقوم به النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيان والتبليغ وتفصيل المجملات وتفسير المعضلات ، وإظهار ما لم يتسنّ للرسول العظيم الإشارة إليه لعدم توفّر الظروف الموضوعية أو المناسبة لذلك ، أو لعدم تهيؤ النفوس لتقبل الحكم الشرعي ، مع وجود أحكام مشرّعة لم يحن الوقت لتبليغها ، عدا عن أنّ الإمام ببيانه يكمل الشريعة ويزيح شبه الملحدين ، ويدرأ عن الدين عادية أعدائه بقوته وسلطانه ، وبالجملة كل ما كان من الوظائف والمسئوليات الملقاة على عاتق الرسول هي ملقاة على عاتق الإمام إلّا التشريع.

وهناك شروط لا بدّ من توفرها بالإمام وليس كما يتوهم العامة عدم اشتراط


شيء مما كان مشروطا في النبيّ من العصمة والتسديد ولا أن يكون عارفا بأصول الشريعة وفروعها ومعارفها العليا ، لأن الهدف المتوخى من الإمام ـ حسبما يدّعون ـ هو أعمال السلطة وقيادة الهيئة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وتكفيه المقدرة العادية والعلم بمقدار محدود ، وقد عبّر الباقلاني عن ماهية الخليفة حيث قال :

«يجب أن يكون الإمام على أوصاف منها : أن يكون قرشيا من الصميم وأن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ، وأن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور (١).

هكذا ينظر الأشاعرة إلى الإمامة أو الخلافة ، فعلام إذن يكفّرون الشيعة ما دامت الخلافة أمرا اعتباريا كبقية المناصب والمراسيم الوضعية؟

إنّ الخلافة ـ بنظر المسلمين الشيعة الإمامية ـ هي سفارة ربّانية لا ينالها إلّا من ارتقى في عالم الملكوت ، من هنا فإن الإمامة التي هي من مختصات أهل البيت عليهم‌السلام كانت لجدهم إبراهيم الخليل حيث شرّفه بها بعد النبوة والرسالة بقوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

فالآية تتناول موضوع مطلق الإمامة التي تشرّف بها ابراهيم خليل الرحمن ، هذه الإمامة التي هي أرقى من مقام الرسالة ، والتي يعبّر عنها بالخلافة وهي في الواقع أثر من آثار الرسالة ورشح من رشحاتها ، والخلافة بهذا المعنى هي من لوازم إمامتهم المطلقة التي يطلق عليها اسم «الولاية» ، فولايتهم تعني الإمامة المطلقة التي من لوازمها العلم المطلق والقدرة المطلقة ، وهي بهذا المعنى أرقى من الخلافة التي نصطلح على تسميتها ب «مطلق الإمامة».

__________________

(١) التمهيد ص ١٨١.

(٢) سورة البقرة : آية : ١٢٤.


إشكال :

كيف قلتم انّ مطلق الإمامة أرقى من مقام الرسالة ، وفي نفس الوقت هي أثر من آثارها ، أليس هذا تعارضا في القول؟!

والحل :

لا تعارض عند التأمل ، وذلك لأن الخلافة أو الإمامة بالمعنى الأخص هي مقام تنفيذي ، الحصول عليه فرع وجود المقام التشريعي ـ أعني مقام الرسالة ـ ولمّا كان ابراهيم الخليل رسولا مشرّعا احتاج إلى مقام آخر يكون من خلاله قادرا على تنفيذ أحكام الله تعالى ، وهذا المقام هو مقام مطلق الإمامة ، إذ لو لا الرسالة لما كان لمقام «مطلق الإمامة» دور في المجال التطبيقي ، فهي بهذا المعنى رشح من رشحات الرسالة فتدبر.

وعلى أساس هذا التمايز بين الإمامة المطلقة ومطلق الإمامة ، نرى أنّ أئمة آل البيتعليهم‌السلام لم يهبطوا عن مستوى الإمامة المطلقة حينما أهبطوهم عن مستوى مطلق الإمامة ، فالثانية فرع الأولى ، وعلى كلا التقسيمين للإمامة لا بدّ أن يتوفر في مطلق الإمام ـ عنيت الخليفة ـ عنصر ملكة العدالة ، ونعني بالملكة : الصفة الواقعية في العدالة التي يجب أن يتحلى بها الإمام ، ولا نريد العدالة بمعناها الظاهري المشهور وهو المحافظة ظاهرا على ظواهر الشريعة.

إنّ مفهوم العدالة ـ بحسب الفهم القرآني ـ هي الصفة الواقعية التي لا تفارق العبد في آن من آناته أو لحظة من لحظات حياته ، وكل من تلبّس بظلم خلال فترة وجوده فهو ظالم ولو لفترة زمنية مضت. فالآية الكريمة تتناول عدالة الإمام الواقعية بحيث لا يستحق تلك الإمامة من كان خارجا عنها ولو للحظة من عمره حتى ولو تاب بعدئذ وذلك لأمرين :

الأمر الأول :

أن الإمامة عهد من الله العليّ القدير ويؤيده قوله تعالى في ذيل الآية (لا يَنالُ


عَهْدِي ...) وفي نفس الوقت هي إمرة ربانية ووثيقة إلهية لا تنالها يد الظالمين ، لأن مفهوم الإمام ـ بحسب المنهج القرآني ـ هو الإنسان المثالي ، الذي يفترض أن يكون نقي الثوب ، مشرق الصحيفة ، ناصع السيرة ، يكون لأمره ونهيه نفوذ في القلوب ، ولا تكون قيادته محلا لطعن الطاعنين وانتقاداتهم ، بل يجب أن يكون على حالة من الكمال بحيث يستقبله الناس بوجوه ملؤها الإجلال والإكبار ، وهذا لا يكون سوى لشخص لم يعص الله تعالى طيلة حياته ، أما إذا كان في فترة من عمره مقترفا للذنوب والمعاصي فلا شك أنه سيكون عرضة لسهام الناقدين ، ولا تقبل أقواله أو قيادته بسهولة ، لذا يفرض العقل بلزوم نقاوة الإمام عن كل زلة ومعصية ، وأن الإنابة لو كانت ناجحة في حياته الفردية لا تكون ناجحة في حياته الاجتماعية ، ولا يقع أمره ونهيه موقع القبول.

الأمر الثاني :

إنّ كلمة «الظالمين» الواردة في الآية جمع محلّى باللام وهو ـ بحسب الاصطلاح الأصولي ـ يفيد الاستغراق الافرادي والزماني ، فإذا كان الظالمون بعامة أفرادهم ممنوعين من نيل الإمامة ، يكون الظلم بكل أنواعه وصوره وأزمانه مانعا من الرقي لهذا المنصب الخطير.

والحكم بعدم استحقاق الظالم للإمامة لا يدور مدار ثبوت الموضوع كما تصوّر العامة ، حتى إذا ما انتفى الموضوع ـ وهو الظلم ـ انتفى الحكم ـ وهو عدم استحقاق الإمامة لو كان ظالما ـ بل الحكم هنا في الآية يدور مدار وجود الوصف والعنوان وكان للحظة أو آنا ما ، لعموم اللفظ الدال على عموم الحالات والأزمان من دون أن يرد مقيّد أو مخصص ، فيبقى اللفظ على عمومه.

مثال ذلك : الزاني والسارق يبقى محكوما عليه بالحدّ وإن زال عنوان التلبس بالزنا أو السرقة ، بل وإن تاب بعد ثبوت الحكم في حقه. ومثله عنوان المستطيع ، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وصار فقيرا ، ومثله عنوان


«أمهات نسائكم» فمن اتصفت كونها أما لزوجة ولو للحظة تحرم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية.

على هذا الأساس : فإن المشايخ الثلاثة قضوا أعمارهم في المعاصي قبل الإسلام وبعده ، ومن كانت سيرته كما وصفنا كيف يقاس بالإمام عليّ الذي لم يعهد منه خطل في رأي ولا فعل ، بل بقي عمره منذ كان صغيرا مع رسول الله لم يفارقه أبدا ، وهل يقاس بمن شهد له الله تعالى بالولاية عند ما تصدق بخاتمه وطهّره بمحكم تنزيله ، أحد من الناس؟!

فلو دار الأمر بين إنسان كان طاهرا ونقيا جميع عمره وبين إنسان كان ظالما في أول عمره تقيا في آخره فأيهما يختار ويفضّل العقل؟

والجواب : قطعا يفضّل الأول على الثاني ، ومن هذا القبيل يكون الخيار واقعا على أمير المؤمنين دون سواه لسبق المعاصي منهم.

الثاني :

إنّ المتقدمين على الإمام عليه‌السلام لم يكونوا بذاك المستوى من العلم والورع والجهاد ، حيث لم يعرف لأحد منهم موقف ولا مشهد ، هذا بالإضافة إلى سبق إسلامه عليهم ولم يشرك بالله طرفة عين ، فهو ممن شهد له الأعداء بفضله وعلو كعبه ، وتقديم المفضول الأدنى على الفاضل الأرفع قبيح عقلا وشرعا.

أما العقل فإنه يوبّخ من قدّم الأدنى على الأرفع والأشرف ، وهذا مبدأ عقلائي لا نزاع فيه.

وأما الشرع فإنه استنكر واعترض على من فعل ذلك بآيات كثيرة منها قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١).

__________________

(١) سورة يونس : آية ٣٥.


في الآية توبيخ لأناس جعلوا أنفسهم هداة وقادة للآخرين وهم أحوج للهداية من غيرهم ، إذ كيف ينصّب الفاسق أو الجاهل نفسه هاديا وقائدا وخليفة ، وهو في نفس الوقت بحاجة لمن يهديه إلى الحق وبحاجة لمن يعلّمه محاسن الأخلاق وأصول الديانات؟!!

فلا يستوي عند الله تعالى وعند العقلاء من كل دين ، الجاهل والعالم ، والفاسق والمؤمن ، ولا الوضيع والشريف قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١).

فمن أفتى من علماء العامة بوجوب تقديم أبي بكر وعمر على الإمام عليّ بن أبي طالب فهو مصداق قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٢).

إنّ الله تعالى رفع من شأن العلماء والمجاهدين والطيبين وأصحاب البصائر والعدالة بقوله تعالى :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٣).

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٤).

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (٥).

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٦).

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧).

__________________

(١) سورة الزمر : آية ٩.

(٢) سورة يونس : آية ٥٩.

(٣) سورة العنكبوت : آية ٤٣.

(٤) سورة النساء : آية ٩٥.

(٥) سورة المائدة : آية ١٠٠.

(٦) سورة الأنعام : آية ٥٠.

(٧) سورة النحل : آية ٧٦.


(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (١).

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (٢).

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٣).

فالعالم لا يقرن بالجاهل ، وقد اعترف أبو بكر بذلك عند ما استلم الخلافة «وليتكم ولست بخيركم وعليّ فيكم» «وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني» وأكّد ذلك عمر بن الخطاب فقال : «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها» وصرّح عن عجزه وجهله فقال : «حتى ربات الحجال أفقه منك يا عمر».

«لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

«لو لا عليّ لهلك عمر». وأيضا قال : «عليّ أقضانا» (٤).

ولمّا اعترف الشيخان بجهلهما وعدم فقههما فلم الاتباع يضعونهما في غير المحل المناسب لهما ، أليس هذا إجحافا بغيرهما؟!! أليس هذا خلاف ما أراد الله تعالى؟!

إن المتقدّمين على مولى الثّقلين أدون منه علما وعملا وحسبا ونسبا وجهادا وتضحية وإيمانا ، «بل لا يقاس بآل محمد أحد من الناس».

ورد في ذخائر العقبى ص ١٧ عن أنس بن مالك أنه قال :

قال رسول الله : نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد.

وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٢٥٣ أنه قال بعد حديث ابن عمر :

__________________

(١) سورة فاطر : آية ١٢.

(٢) سورة الحديد : آية ١٠.

(٣) سورة الحشر : آية ٢٠.

(٤) الصواعق المحرقة ص ١٢٦ الفصل الثالث.


قال أحمد بن محمد الكرزي البغدادي : سمعت من عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي أحمد بن حنبل عن أفضل الصحابة؟ فقال : أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم سكت ، فقلت : أين عليّ بن أبي طالب؟

قال : هو من أهل بيت لا يقاس به هؤلاء.

وروى في الجزء السادس من كنز العمال عن فردوس الأخبار للديلمي قال : قال عليه‌السلام : نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد.

وروى الخوارزمي الحنفي بإسناده عن رسول الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : خير من يمشي على الأرض بعدي عليّ بن أبي طالب.

وينقل ابن حجر الهيثمي عن ابن سمّان في كتابه المعروف ب «الموافقة» بإسناده عن ابن عبّاس أنه قال :

لما جاء أبو بكر وعليّ لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته بستة أيام ، قال عليّ لأبي بكر : تقدم ، فقال أبو بكر : لا أتقدّم رجلا سمعت رسول الله يقول فيه : عليّ مني كمنزلتي من ربي(١).

وعن ابن عبّاس عن النبيّ قال :

عليّ باب حطة من دخل منه كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا (٢).

وأخرج الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين أن رسول الله قال : ما تريدون من علي ، ما تريدون من علي ، إن عليا مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن من بعدي (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عنوان صحيفة المؤمن حب عليّ بن أبي طالب».

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٠٨.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢٥ الباب التاسع ، الفصل الأول في مآثر وفضائل الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٣) نفس المصدر والصفحة.


«عليّ إمام البررة وقاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله».

«عليّ مني بمنزلة رأسي من بدني».

«عليّ يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا».

«عليّ يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين».

وروى في نفس الفصل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال عند ما حاصر الطائف : «أوصيكم بعترتي خيرا ، وإن موعدكم الحوض والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتنّ الزكاة ولأبعثنّ إليكم رجلا مني أو كنفسي يضرب أعناقكم ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنه ثم قال : هو هذا» (١).

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في مرض موته :

«أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، إلّا إني مخلّف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها ، فقال : هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألهما ما خلّفت فيهما» (٢).

الثالث :

إنّ المتقدّمين على مولانا أمير المؤمنين قد ظلموه ، وكل ظالم ملعون ، والملعون لا ينوب الرسول بالخلافة.

فهنا صغرى وكبرى منطقية.

أما الصغرى فتقريرها بوجهين :

الأول :

إن القوم نازعوه في الخلافة ، وتقدّموا عليه ، واستقلوا بالأمر دونه ، وذلك

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، الفصل الثاني من الباب التاسع ص ١٢٦.

(٢) نفس المصدر السابق.


حقه دونهم بالدلائل العقلية (١) والنقلية ، ومنازعتهم له على الخلافة ظلم عليه ، وقد ذمّ الله الظالمين وأوعدهم بالعذاب ، منها قوله تعالى :

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٣).

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٤).

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٥).

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٦).

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٧).

(فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨).

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩).

(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) (١٠).

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١١).

__________________

(١) يأتي بيانها في الفصل الآتي.

(٢) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٣) سورة إبراهيم : ٢٧.

(٤) سورة الإسراء : ٨٢.

(٥) سورة الكهف : ٢٩.

(٦) سورة مريم : ٧٢.

(٧) سورة الأنبياء : ١٤.

(٨) سورة المؤمنون : ٢٨.

(٩) سورة المؤمنون : ٩٤.

(١٠) سورة الفرقان : ٣٧.

(١١) سورة القصص : ٥٠.


(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (١).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢).

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٣).

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤).

ونظيرها من الآيات الكريمة الدالة على قباحة الظلم والظالمين ، حيث إن الله تعالى لم يرد لظالم أن يحكم أو يتسلط على الرقاب ، لأن التسلط والحكم إمضاء للقبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح لكونه عبثا يتنزه الحكيم عنه.

الثاني : على تقدير عدم ثبوت كون الإمامة حقا لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكنها ليست حقا لأحد منهم بالنص من الله ولا من رسوله ، لأنهم جميعا متفقون على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص إلى أحد ، وأنه مات على غير وصيّة ، فالمقتضى لإمامتهم بزعم أهل البدعة إنما هو رأي الأمة واتفاقهم عليه ، ومعلوم أنّ الإمام عليا عليه‌السلام لم يكن حاضرا في وقت عقد البيعة يوم السقيفة ولا حصل منه موافقة على هذا الرأي السخيف ، فلم تنعقد إمامتهم بمقتضى ما قرّروه ولم يثبت لهم حق على أحد من الأمة ، لا سيّما أنّ مولاتنا وسيدتنا الصدّيقة الكبرى فاطمة بنت محمد عليهما‌السلام وولديها الإمامين السبطين الحسن والحسين وكذا العبّاس عم النبي وأولاده وأسامة بن زيد والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وغيرهم لم يرضوا بخلافة أبي بكر واعتبروها حقا اغتصب من الإمام عليعليه‌السلام ، ومع هذا فإن طلب القوم من الإمام عليه‌السلام أن يبايع يعتبر ظلما وطلبا لما لم يثبت لهم ولم يستحقوه شرعا ، فضلا عن إلزامهم له عليه‌السلام بها والتشديد عليه والتهديد له بتحريق الدار وجمع

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٤.

(٢) سورة غافر : ٥٢.

(٣) سورة الشورى : ٤٠.

(٤) سورة الشورى : ٤٤.


الحطب عند الباب واعتدائهم على بضعة المصطفى فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

وقد اعتذر بعض المتعصبين للشّيخين بأنّ الإمام عليا عليه‌السلام لم يتخلّف عن البيعة لأبي بكر إلّا رعاية لحق الصدّيقة السيدة الزهراء عليها‌السلام لكونها لم تكن راضية ، وأما زوجها فقد كان راضيا.

والجواب :

١ ـ أما كونه عليه‌السلام راضيا فلم ينقل عنه هذا بغير خلاف بين المؤرخين.

٢ ـ وعلى تقدير كونه راضيا ، لكنه هل رضي أن تظلم الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام؟! وهي القائلة للشيخين حينما زاراها : «... فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه .. ثم قالت لأبي بكر : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها» (١).

وهل يتصور عاقل أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام يسخط السيدة الزهراء ليرضي الشيخين اللذين ظلماه وزوجته عليها‌السلام؟!!

وكيف يرضيهما وهو القائل :

«لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير ... إلى أن يقول : فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ..» (٢).

والتقمص كناية عن اغتصاب الخلافة التي هي حق له عليه‌السلام ، ويؤكد هذا نفس قولهعليه‌السلام : «أرى تراثي نهبا» اغتصبه الأول بتدبير الثاني ، ثم رده الأول عليه.

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ص ٣١.

(٢) الخطبة الشقشقية ، نهج البلاغة ج ١ / ٢٦ ، شرح محمّد عبده.


وله اعتراضات كثيرة على الظالمين له باغتصابهم حقه والاعتداء عليه وعلى سيّدة النساء مولاتنا فاطمة عليها‌السلام ، فكيف جاز حينئذ أن يترك حقا واجبا عليه ـ وهو على أقل تقدير نصرة السيدة الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها حسبما جاء في المتواتر ـ وكيف يجرؤ هؤلاء بأن ينسبوا إلى الإمام عليّ رضاه عن الشّيخين اللذين ظلما زوجه الطاهرة الزكية وقد قال في حقه رسول الله : عليّ مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار؟.

وقال عنه : إنه من ثاني الثقلين اللذين لم يفترقا حتى يردا عليه الحوض وحكم بأن من تمسك بهما لن يضل أبدا ، ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا؟!

٣ ـ إنّ عدم رضا سيدة النساء الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام بيعة أبي بكر إمّا أن يكون بحق أو باطل.

فإن كان الأول كان أبو بكر ظالما ، وإن كان الثاني وجب على أمير المؤمنين أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ، وبعدم فعلهم يكونون مخلّين بالواجب ، وكونهم لم يفعلوا دل ذلك على أنها كانت محقة ، وأن أبا بكر وأتباعه ظالمون لها.

ودعوى أن الشيخين اعترضا عليها فيدل أنهما محقان دونها باطلة ، لأن السيدة فاطمة مطهّرة بنص الكتاب دونهما ، فالاعتراض عليها يكون ردا على كتاب الله الدال على طهارتها وكونها بضعة الرسول وثمرة فؤاده ومهجة كبده وتفاحة الفردوس وسيدة النساء ، كيف يردّ أبو بكر قولها ويعتدي عليها بحجة أخذ البيعة له من زوجها وهو ما فتئ بايع الإمام عليا يوم غدير خم في نفس العام الذي توفى فيه رسول الله!!؟

وليس من العجب أن يجتري الشيخان على بضعة النبيّ التي ربّاها رسول الله ، وهي إحدى العترة الذين هم أحد الثقلين ، فينسبان إليها مخالفة الواجب ، وينعتانها بالباطل ، فقد اجتريا على الله تعالى بادعائهما الخلافة لهما وتغييرهما حلال الله


وانتهاك حرماته ، واجتراؤهما على رسول الله ونعت الثاني له بالهجر وهو على فراش الموت.

وبالجملة :

إنّ تخلّف أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن مراعاة لحق مولاتنا الزهراء ، لأن البيعة لو كانت حقا خاصا لأبي بكر لم يكن للإمام عليه‌السلام أن يهادن عليه محاباة ولو للحظة واحدة ، وإنما تخلّفه كان من أجل الاعتراض على القوم ، وأنهم ادّعوا ما ليس لهم ، لأنّ الخلافة أمرها منوط بالنص الإلهي ، ولا مدخلية لآراء الناس فيها ، وعلى تقدير كونها منوطة بآراء الأمة فلا يخلو الأمر من ثلاثة :

أولها : أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية التي يكون الكتاب والسّنّة كافلين ببيان من له أهليتها وأحقيتها لأنهما قد اشتملا على بيان كل شيء ، فيلزم على هذا اجتماع كل من له أهلية استنباط الأحكام من المدارك المقررة ثم يتدارسونها ويستخرجون منها أحقية شخص معين للإمامة ، فمتى اتفقوا كلهم على دلالة الكتاب والسّنّة على إمامته انعقدت ، ومتى لم يتفقوا لم تنعقد ويعيدون النظر مرة أخرى وأخرى إلى أن يحصل الاتفاق ، ويلزم من هذا الوجه اعتبار قول من له أهلية الاستخراج من كتاب الله وسنّة رسوله من الرجال والنساء وغيرهم ، ويلزم منه أيضا أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة ، بل يجب إعادة النظر لأن نصب الإمام واجب على الخلق ، ولا يتم إلّا بالنظر ، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب ولا يكون لكل واحد أن يعمل برأيه ، وإن عمل لا يكون مؤاخذا لأن ذلك في المسائل الظنية التي لا دليل عليها قطعا.

ثانيها : أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية ، لكن المقتضى لثبوت حقوقها على الخلق من الطاعة والانقياد هو مبايعة الخلق ، فكل شخص يثبت الحق على نفسه ببيعته بمجرد الرأي من غير رجوع إلى الكتاب والسنة ، فإذا بايع الجميع انعقدت الإمامة شرعا عموما لأن كل شخص ـ بحسب هذه الدعوى ـ


يحق له أن يبايع شخصا على أن يكون حاكما عليه ، وهذا مع ظهور فساده يستلزم دخول الناس ومنهم النساء في ذلك ، وكذا العوام المستضعفون ، فلو تخلّف واحد حينئذ لم تثبت الإمامة عموما.

وثالثها : أن تكون الإمامة من المناصب الدنيوية التي لا تعلق لها بالشرع بل هي منوطة برأي عرفاء الرجال كما يصنع كفّار الهند والإفرنج وكما هو سائد في زماننا هذا حيث يرشّح لرئاسة البلاد العارف بالسياسة ، وعلى هذا لا يكون الشيخان خليفتي رسول الله لأن انتخابهما لم يكن منوطا برأي عرفاء الرجال ، لأن من انتخب أبا بكر هم ثلة ممن لا عهد لهم بالسياسة ولا معرفة عندهم بالكتاب والسّنّة ، وعلى فرض أن لديهم من التجربة السياسية والمعرفة بالكتاب والسنّة ما يؤهلهم لئن يكونوا من أهل البصائر ، لكن أين سلمان وأبو ذر والمقداد وجابر وعمّار؟ بل أين الإمام عليّ وأين العبّاس وابنه عبد الله؟! أليسوا هؤلاء من أهل البصائر والمعرفة بأصول السياسة والكتاب والسنّة؟.

وعلى هذا الأساس فالإمامة على مقتضى قول أهل السنة لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة ، ووجه الحصر فيها :

أن الإمامة إمّا أن تكون منصبا شرعيا أو لا ، والأول إمّا أن يكون باستخراج أهل الحل والعقد ، أو بأن يبايع كل شخص عن نفسه ، وعلى كل هذه التقديرات يكون طلب أبي بكر وعمر وسائر من بايعهما الإمام عليا إلى البيعة ظلما ، فيثبت بذلك أن الظالم لا يستحق أن يكون الخليفة.

وأما الكبرى المنطقية حيث مفادها : أن كل ظالم ملعون ، فلا غبار عليها إذ إنّ كل من نازع أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام فهو كافر وملعون ، والملعون لا يستحق الخلافة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

الرابع :

ومن الأدلة على بطلان إمامة أبي بكر وصاحبيه عمر وعثمان ، كثرة المنكرات


التي فعلوها في حياة النبيّ وبعد وفاته. ولا يمكننا في هذا البحث المقتضب أن نعدّد تلك المنكرات والمطاعن لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، فمنها :

ما فعلوه بالنبيّ وهو على فراش الموت حيث خالفوا أمره بتجهيز جيش أسامة والالتحاق به ، ثم لغطهم عند النبيّ عند ما طلب منهم إحضار الدواة والكتف ليكتب لهم الوصية بالكتاب والعترة ، ثم نعتهم له بالهجر والاكتفاء بكتاب الله حسبما جاء في كتب القوم من أن عمر قال : إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله.

ثم تركهم جنازة النبيّ واجتماعهم في السقيفة المعروفة ، والاعتداء على كرامة أمير المؤمنين ببيته وضربهم لسيّدة نساء العالمين وكسرهم لضلعها وإسقاطهم لجنينها والاستهانة والازدراء بها وتكذيبها ومنعهم إرثها واغتصابهم لحقها من الخمس وفدك. ولو لم يكن من المنكرات سوى اعتدائهم على حق الزهراء لكان كافيا بخروجهم من الدين والمروق عن شريعة سيّد المرسلين.

ومطاعن أبي بكر كثيرة نستعرض بعضا منها :

الطعن الأول :

تأمّره على الناس من دون أن يبيح الله تعالى له ذلك ولا رسوله ومطالبة جميع الأمة بالبيعة له والانقياد إلى طاعته طوعا وكرها فكان ذلك منه أول ظلم ظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله ، إذ كان هو وأولياؤه مقرين بأن الله ورسوله لم يولياه ذلك ولا أوجبا طاعته ولا أمرا ببيعته.

فلما انقاد الناس له طالبهم بالخروج إليه مما كان يأخذه رسول الله من الصدقات والأخماس وما شاكلها ، ثم سمّى نفسه بخليفة رسول الله ونفذت بذلك كتبه إلى الأمصار من خليفة رسول الله فكانت هذه الحالة منه جامعة للظلم والمعصية والكذب على النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنه لما طالبهم بالخروج إليه مما كان يأخذه منهم رسول الله من الصدقات وغيرها كان ذلك منه ظلما ظاهرا إذ كان يعلم أن الله ورسوله لم يجعلا له ولا إليه شيئا منه ولم يجعل الله ولا رسوله


ولا ولاته شيئا من ذلك كان ظالما في مطالبته لهم به فظهرت منه المعصية لله ولرسوله إذ طالب بما ليس له بحق ، ولدعواه أنه خليفة رسول الله وقد علم وعلم معه الخاص والعام أنّ الرسول لم يستخلفه كان ظالما كاذبا بذلك على الله وعلى رسوله ، وصدق عليه قول النبيّ : من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

الطعن الثاني :

أن النبيّ لم يولّ أبا بكر شيئا من الأعمال مع أنه كان يولّيها غيره ، ولمّا أنفذه لأداء سورة براءة إلى أهل مكة عزله وبعث الإمام عليا عليه‌السلام ليأخذها منه ويقرأها على الناس ، ولما رجع أبو بكر إلى النبيّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يؤدي عني إلّا أنا أو رجل مني.

فمن لم يصلح لأداء سورة واحدة إلى أهل بلدة كيف يصلح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء جميع الأحكام إلى عموم الرعايا في البلاد؟

الطعن الثالث :

لما انقاد لأبي بكر الناس طوعا وكرها امتنعت عليه قبيلة من العرب في دفع الزكاة إليه وقالوا له : إن الرسول لم يأمرنا بالدفع إليك ولا أمرك بمطالبتنا به فعلام تطالبنا بما لا يأمرك الله به ولا رسوله فسماهم أهل الرّدّة ، وبعث إليهم خالد بن الوليد في جيش فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وجعله فيئا قسّمه بين المسلمين ، فقبلوا ذلك منه مستحلين له إلا نفر كرهوا ذلك منهم عمر بن الخطّاب فإنه عزل سهمه منهم وكان عنده إلى أن ملك الأمر ثم رده عليهم فكانت خولة بنت جعفر بن قيس والدة محمد بن الحنفية منهم فبعث بها إلى أمير المؤمنين فتزوجها ولم يتملكها ، واستحل الباقون فروج نسائهم ، وقتل خالد بن الوليد رئيس القوم مالك بن نويرة وأخذ امرأته فوطأها من ليلته تلك من غير استبراء لها ، ولا وقعت عليها قسمة ، فأنكر عمر ذلك من فعله عليه وقال لأبي بكر في أمره فاحتج عليه بأن خالدا تأوّل فأخطأ ، فلما أكثر عليه عمر قال


أبو بكر : ما كنت لأشيم سيفا سلّه الله تعالى.

لقد نصر أبو بكر خالدا ولم ينكر عليه مع أن القوم الذين كانوا مع خالد قالوا : إن جماعة مالك أذّن مؤذنهم وصلينا وصلوا وشهدنا الشهادتين وشهدوا فأي (١) ردة لهؤلاء.

وفي لفظ ابن الأثير : قال عمر لأبي بكر إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : هيه يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين ، وودى مالكا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، ودخل المسجد وعليه قباء ، وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها وقال له : قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك ..» (٢).

ليت شعري كيف تأوّل أبو بكر فعل خالد ولم يتأوّل لمولاتنا بضعة المصطفى السيدة الزهراء عند ما طالبته بحقها من الخمس وفدك ، وإنكارها عليه اغتصابه الخلافة؟!!

ونحن نسأل الأتباع : كيف يسوغ لكم أن تتبعوا رجلا أفتى بدون علم قتل الأبرياء والاعتداء على الأعراض ، وصدقتموه بما فعل لمجرد كونه صحابيا ولم تتبعوا السيّدة الزهراء عليها‌السلام التي طهّرها الله في محكم قرآنه المجيد فقال عنها : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ...) وقال عنها نبيه الكريم : «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «من أسخط فاطمة فقد أسخط الله»؟!

الطعن الرابع : التخلف عن جيش أسامة :

من بدع أبي بكر أنه لم يمتثل أمر رسول الله اجتهادا منه كما يدّعي أتباعه لكن هذا الاجتهاد محرّما لكونه في مقابل النص (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ

__________________

(١) الاستغاثة ص ١٠ لأبي القاسم الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٥٧ ، ط / دار صادر.


وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

فالأمة مجمعة في روايتها على أن رسول الله كان قد ضمه قبل وفاته إلى أسامة بن زيد مع صاحبه وجماعة من رؤساء المهاجرين والأنصار وأمرهم بالمسير معه إلى الشام وخرج أسامة في حياة الرسول فعسكر خارج المدينة واعتل الرسول علته التي توفي فيها ، وكرّر لهم النبي مقالته «نفذوا ـ أي جهزوا ـ جيش أسامة لعن الله المتخلّف عن جيش أسامة» إلى أن ارتحل النبي ولم ينفذوا جيش أسامة ثم أقبلا ـ أي أبو بكر وعمر ـ يخاصمان الأنصار في طلب البيعة ، فبايع الناس أبا بكر ، وأسامة على حال معسكره خارج خارج المدينة يراسلهم فلا يلتفتون إليه حتى إذا استوى لهم الأمر ، بعث ـ أبو بكر ـ إلى أسامة أن الناس نظروا في أمورهم فلم يجدوا لهم غنى عني ، وقد نظرت في أمري فلم أجد عن عمر غنى فخلفه عندي وامض في الوجه الذي أمرك به الرسول بالمضي فيه ، فكتب إليه أسامة من الذي أذن لك في نفسك بالتخلف عني حتى تطلب مني الإذن لغيرك إن كنت طائعا لله ولرسوله فارجع إلى معسكرك ومركزك الذي أقامك فيه رسول الله (٢).

ولم يكتف القوم بتخلفهم عن جيش أسامة حتى طعنوا بإمارته وقدحوا برسول الله مدّعين أنه أمر عليهم غلاما.

«فغضب الرسول غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة ، وعليه قطيفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيّها الناس فما مقالة بلغني عن بعضكم في تأمير أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إنه كان للإمارة لخليقا وان ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ..» (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) البحار ج ٣١ / ١٤ والاستغاثة ص ٢٥.

(٣) البحار ج ٣١ / ١٥.


ولا يخفى على الفطن : أن تثاقلهم عن السير وتخلفهم عن الجيش ليحكموا قواعد سياستهم في سقيفة بني ساعدة ترجيحا منهم لذلك على التعبد بالنصّ النبوي ، ولو ذهبوا مع أسامة لكان فاتهم ما كانوا يرومونه من الطمع بالخلافة ، لذا تخلفوا حتى مات النبيّ ، فهمّوا بإلغاء البعث وحلّ اللواء تارة ، وبعزل أسامة أخرى.

فإذا كان حال القوم مع نبيهم حال حياته من العصيان وعدم الاحترام وقلة الإيمان ، فكيف بهم بعد موته مع بضعته الطاهرة وزوجها علي أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه حيثما دار؟! وهل يمكن أن نحسن بهؤلاء الأوباش الظن بحجة أن القوم من الصحابة ، أو ليس الإمام عليّ والصدّيقة الزهراء من الصحابة؟ فترجيح أبي بكر وعمر على الإمام عليّ وزوجه فاطمة عليها‌السلام يعتبر ترجيحا من دون مرجح في حال مساواتهم مع بعض في الفضائل ، مع أن الإمام وزوجه لا يساويهما أحد من الناس ، فتقديم غيرهم عليهما يعتبر قبيحا عقلا ونقلا لا يفعله العقلاء.

الطعن الخامس :

جهله بالأحكام الشرعية ، فكيف يكون خليفة لرسول الله وهو لا يدري الكثير من الحلال والحرام ، لذا لما سئل عن الكلالة (١) قال : «أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني» (٢).

ولم يعرف ميراث الجدّة ، فقال لجدة سألته عن إرثها : لا أجد لك شيئا في كتاب الله وسنة نبيه ، فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة أنّ الرسول أعطاها السدس ، وقال : اطعموا الجدات السدس (٣).

__________________

(١) الواردة في سورة النساء : ١٢ و ١٧٦ ، والكلالة : الميت لا ولد له ولا والد بل له إخوة وأخوات ، وسائل الشيعة ج ١٧ / ٤٨١ ومجمع البيان سورة النساء.

(٢) البحار ج ٣١ / ٦ نقلا عن شرح النهج ١٧ / ٢٠٢.

(٣) سنن أبي داود ج ٣ / ١٦٧.


وفي لفظ آخر :

إن جدتين أتتا أبا بكر هما أمّ الأم وأم الأب ، فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب ، فقال له عبد الرحمن بن سهيل أخو بني حارثة : يا خليفة رسول الله لقد أعطيت التي لو أنها لو ماتت لم يرثها ، فجعله أبو بكر بينهما يعني السدس (١).

كما أنه حرق الفجاءة السلمي وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف فقال لأبي بكر : إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتدّ من الكفار فاحملني وأعنّي فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ، فأمر أبو بكر طريفة بن حاجز أن يأسره أو يقتله ، فأسره طريفة ثم قدما على أبي بكر فقال له أبو بكر : يا طريفة اخرج به إلى هذا البقيع فحرّقه بالنار ، فخرج به وأوقد له نارا فقذفه فيها.

وفي رواية ابن الأثير والطبري : أوقد له نارا في مصلّى المدينة على حطب كثير ثم رمى فيها مقموطا أي : جمعت يداه إلى قفاه (٢).

ولأبي بكر سوابق في إحراقه الناس بالنار ، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال : كان في بني سليم ردّة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد فجمع رجالا منهم الحظائر ثم أحرقها عليهم بالنار ، فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال : تدع رجلا يعذّب بعذاب الله عزوجل ، فقال أبو بكر : والله لا أشيم سيفا سلّه الله على عدوه حتى يكون هو الذي يشيمه ، ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة (٣).

وقد أحرق باب سيّدة الطهر فاطمة روحي لنعلها الفداء كما هو متواتر

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ١٢١ نقلا عن موطأ مالك ج ١ / ٣٣٥ ، سنن البيهقي ج ١ / ٢٣٥ ، بداية المجتهد ج ٢ / ٣٤٤ ، الاستيعاب ج ٢ / ٤٠٠ ، الإصابة ج ٢ / ٤٠٢ وكنز العمال ج ٦ / ٦.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ / ٣٥٠ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٩٢ ، ط / الأعلمي ، والغدير ج ٧ / ١٥٦ ، ط / دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

(٣) الغدير ج ٧ / ١٧٦ نقلا عن الرياض النضرة ج ١ / ١٠٠.


ومشهور بين الإمامية ، فكان أبو بكر يهوى تعذيب مخالفيه بالنار لشدة غيظه وفوران حقده.

إنّ التعذيب بالنار من مختصات الخالق القدير وقد نهى عزوجل عن الإحراق على لسان رسوله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النار. وقوله : لا يعذّب بالنار إلا ربّها (١).

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من بدّل دينه فاقتلوه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان فإنه يرجم ، ورجل يخرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها (٢).

هذا موافق لقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣).

قد يقال :

ورد عند الإمامية أن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام قد أحرق عبد الله بن سبأ وأصحابه ، فلم لا يصح لأبي بكر أن يفعل ذلك بمخالفيه أسوة بالإمام عليّ عليه‌السلام؟

والجواب :

إن ما فعله أمير المؤمنين بابن سبأ وأصحابه لم يكن إحراقا وإنما حفر لهم حفرا وخرق بعضها إلى بعض ، ثم دخن عليهم حتى ماتوا.

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ١٥٦ نقلا عن صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ؛ باب لا يعذّب بعذاب الله ، وسنن أبي داود ج ٢ / ٢١٩ ومصابيح السنة ج ٢ / ٥٧ وتيسير الوصول ج ١ / ٢٣٦.

(٢) سنن أبي داود ج ٢ / ٢١٩ ومصابيح السنة ج ٢ / ٥٩ ومشكاة المصابيح ص ٣٠٠ والغدير ج ٧ / ١٥٦.

(٣) سورة المائدة : آية ٣٣.


هذا مضافا إلى أن أبا بكر نفسه تندّم وهو على فراش الموت من فعلته النكراء مما يجعل المسألة في عداد المحرمات القطعية التي ارتكبها أبو بكر ، والندم عليها في آخر حياته لا يستلزم صلاح خلافته لأن المورد ليس كعقد الفضولي حتى يقع صحيحا بعد تعقّبه بالإجازة على نحو الشرط المتأخر.

فكان على أبي بكر أن لا يحرق الفجاءة لكونه متظاهرا بالإسلام وتلقاه الخليفة المذكور بالقبول يوم أعطاه ظهرا وسلّحه ، وإن كان فاسقا بالجوارح بحسب دعوى أبي بكر ، فالواجب عليه أن يتأوّل له كما تأوّل لخالد بن الوليد وتلقيبه له بسيف الله المسلول.

وقد دافع القاضي عضد الإيجي عن أبي بكر في المواقف من أن أبا بكر مجتهد وما إحراقه للفجاءة سوى اجتهادا ، وكذا جرى مجراه القوشجي في شرح التجريد ص ٤٨٢ حيث قال : إن إحراقه فجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين. أقول :

أولا : إن هذا الاجتهاد مرفوض لكونه في مقابل نص الكتاب والسنّة وإلا فإنه سيعطي المبرر للظالمين والسفاكين بإراقة الدماء تحت عنوان الاجتهاد ، وعلى هذا الأساس يكون ما ارتكبه بنو أمية وبنو العبّاس اجتهادا جائزا بحسب هذه الدعوى ، وبالتالي فكلهم إلى الجنّة لأنهم معذورون باجتهادهم بقتل الأبرياء وانتهاك الأعراض وسرقة الأموال.

ثانيا : يفرض على الخليفة أن يكون صبورا متأنيا لا عجولا متسرعا ، كما لا بدّ له أن يكون محتاطا بأقواله وأفعاله حتى لا يقع فريسة الحواشي والغواشي فتنتفي الحكمة من نصبه ووجوده.

الطعن السادس :

إقدام خالد على قتل مالك بن نويرة بأمره وزنى بامرأته من ليلته. فإن الاعتداء على الأعراض وسفك الدماء كانا من مهام الخليفة أبي بكر ، فها هم


مؤرخو العامة يثبتون القصة كاملة في كتبهم بل ويستنكر بعضهم ذاك الفعل السيئ الذي يتنزه عنه حتى اليهودي أو المشرك آنذاك.

مفاد القصة :

أن خالد بن الوليد دخل البطاح ولم يجد بها أحدا ، ووجد مالكا قد فرّقهم عن الاجتماع وقال : يا بني يربوع إنّا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر ، ولما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلا ، فإن أذّن القوم فكفّوا عنهم ، وإن لم يؤذّنوا فاقتلوا وانهبوا ، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة ، فإن أقرّوا فاقبلوا منهم ، وإن أبوا فقاتلوهم.

فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بين ثعلبة بن يربوع ، فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة ، فكان فيمن شهد أنهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ، فأمر خالد مناديا فنادى : ادفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فظن القوم أنه أراد القتل ، ولم يرد إلّا الدفء ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكا ، وسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمرا أصابه ، وتزوّج خالد أم تميم امرأة مالك ، فقال عمر لأبي بكر :

إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : هيه يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين ، وودى مالكا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ودخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها ، وقال له : قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك! وخالد لا يكلّمه يظن أن رأي أبي


بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه ، فعذره وتجاوز عنه وعنّفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب ، فخرج خالد وعمر جالس ، فقال : هلمّ إليّ يا ابن سلمة ، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلّمه (١).

وفي لفظ الطبري وغيره :

أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تساءلوهم ما الذي نقموا ، وإن لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة فاقتلوا وحرّقوا ، وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا بعدها ، وكان يحدث أنهم لمّا غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا إنّا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا فما بال السلاح معكم؟ قلنا فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، قال فوضعوها ثم صلينا وصلّوا وكان خالد يعتذر في قتله ...» (٢).

ولم يكتف خالد «القائد العسكري عند أبي بكر» بما صنع بمالك وأصحابه حتى انتهك حرمة جسد المسلم بعد الموت فجعل رأس مالك ورءوس أصحابه أثافي للقدور يطبخون عليها اللحم والمرق فرحين بمقتل مؤمنين بالله وبرسالة محمد وعترته الطاهرة.

وعند ما تسأل بعض علماء العامة عن سبب قتل مالك يجيبونك دائما إن مالكا ارتد عن الإسلام.

لكن يرد عليهم :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٥٧ والطبري ج ٢ / ٥٠٣. وفي لفظ الطبري : هلمّ إليّ يا ابن أم شملة.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤ والغدير ج ٧ / ١٥٩ وأسد الغابة ج ٥ / ٤٨.


أولا : إن مالك بن نويرة كان صحابيا قد بعثه رسول الله على صدقة بني تميم وبني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم (١) ، ولم يثبت بدليل قطعي أنه ارتدّ ، ولو شككنا بإسلامه بعد اليقين فنستصحب إسلامه.

ثانيا : إن عامة المؤرخين ذكروا أن أبا بكر ودّى مالكا في بيت المال وردّ سبيهم لأخيه متمم بن نويرة.

ثالثا : إن عمر بن الخطاب نفسه يعترف بأن مالكا مسلم عند ما قال لأبي بكر : إن عدو الله ـ أي خالد ـ عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته (٢). وشهد على ذلك أيضا أبو قتادة حيث قال : إن مالكا وأصحابه أذّنوا وصلّوا (٣).

رابعا : وعلى فرض ارتداد مالك فهل يسوغ لخالد أن يزني بزوجة الرجل في ليلة مقتل زوجها ، ألم يأمر الله عزوجل في القرآن الكريم بعدة الوفاة مع الاستبراء بالحيض بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٤) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٥) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (٦). فالارتداد لا يسوّغ البناء بها قبل الاستبراء بالحيض وعدة الوفاة ، فكيف خفي ذلك على خالد سيف الله المسلول على حدّ زعم أبي بكر الخليفة؟!!

أنّى لنا أن نعدّه سيفا من سيوف الله وقد اغتصب فروج الحرائر وسفك تلكم الدماء الزكيّة من الذين آمنوا بالله ورسوله واتّبعوا سبيل الحق وصدّقوا بالحسنى ، وأذّنوا وأقاموا وصلّوا وقد علت عقيرتهم : بأنّا مسلمون؟!! وأنّى لنا أن نعدّه كذلك

__________________

(١) أسد الغابة ج ٥ / ٤٨ و ٥٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٩ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤ والكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٥٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٥) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٦) سورة الطلاق : ١.


وقد تبرّأ منه نبيّ الإسلام الأعظم غير مرّة ، مستقبل القبلة شاهرا يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب؟!

زه زه بالاجتهاد تجاه نصّ الكتاب والسنّة ، ولا مرحبا بمجتهد يخالف دين الله! أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ أو يحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ* وَقِيلَ مَنْ راقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (١) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢).

إذن فإن مالكا رجل مسلم عاصر النبيّ الأعظم ، وأحسن صحبته واستعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ، وقد عدّ من أشراف الجاهلية والإسلام ومن أرداف الملوك ، لقد قتله خالد بأمر من أبي بكر لثلاثة أسباب :

الأول : عدم مبايعته لأصحاب السقيفة.

الثاني : عدم دفعه الزكاة لأبي بكر.

الثالث : طمعا بزوجته.

والسبب الثالث كان أمرا مشهودا ، فقتل الرجل مظلوما غيرة ومحاماة على ناموسه ، فهو شهيد لما في المتواتر : من قتل دون أهله فهو شهيد ، وفي الصحيح : من قتل دون مظلمته فهو شهيد (٣).

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرّي خالدا من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة ، ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيّه الأقدس ، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون ، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن؟

__________________

(١) سورة القيامة : ٢٦ ـ ٣٠.

(٢) سورة العنكبوت : ٤.

(٣) الغدير ج ٧ / ١٦٢ نقلا عن مسند أحمد ج ١ / ١٩١ والنسائي والفيض القدير.


لا ها الله. أيوجب الردّة مجرّد امتناع الرجل المسلم الموحّد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الإنسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة؟ أو يحكم عليه بالقتل عندئذ؟ وقد صحّ عن المشرّع الأعظم قوله : لا يحلّ دم رجل يشهد إن لا إله إلا الله ، وإني رسول الله إلّا بإحدى ثلاثة : النفس بالنفس ، والثيّب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة (١).

أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال اولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبي الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون ، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟ (٢).

لذا قال الجزري :

«وقد اختلف في ردته ـ أي مالك ـ وعمر يقول لخالد : قتلت امرأ مسلما ، وأبو قتادة يشهد أنهم أذّنوا وصلّوا ، وأبو بكر يردّ السبي ويعطي دية مالك من بيت المال ، فهذا جميعه يدل على أنه مسلم.

ووصف متمم بن نويرة أخاه مالكا فقال : كان يركب الفرس الحرون ويقود الجمل الثّفال وهو بين المزادتين النّضوحتين في الليلة القرّة وعليه شملة فلوت ، معتقلا رمحا خطّيا فيسري ليلته ثم يصبح وجهه ضاحكا كأنه فلقة قمر رحمه‌الله ورضي عنه» (٣).

لقد قتل مالك ونزي على زوجته وعلى الحرائر من قوم مالك بمرأى ومسمع أبي بكر ولم يبال بإلحاح عمر بن الخطاب على إقامة القصاص على خالد ، أليس هذا انتهاكا لحرمات الله وتجرؤا على الله عزوجل؟!

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المحاربين ـ باب قول الله إن النفس بالنفس.

(٢) الغدير ج ٧ / ١٦٣.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٩.


لقد جنّد أبو بكر تلك الجنود لنكح النساء وفضّ ناموس الحرائر ، وهو ينزّه ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد ، وكأنهما يبيحان قتل الأنفس وهتك الأعراض وسلب الأموال. إن اجتهادا كهذا لا يبقي على الإسلام شيئا بل يعطي مبررا للسفاكين لئن يسفكوا أكثر ، فتنقلب الموازين ، ويسود الظلم والعدوان بدلا من شريعة العدل والأمن والأمان.

الطعن السابع :

تخلّفه عن جيش أسامة ، وقد لعن الرسول المتخلّف عنه ، قال أصحابنا رضوان الله عليهم : كان أبو بكر وعمر وعثمان من جيشه ، وقد كرّر النبيّ لما اشتد مرضه الأمر بتجهيز جيش أسامة ولعن المتخلّف عنه ، فتأخروا عنه واشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة ، وخالفوا أمره ، وشملهم اللعن ، ومن لعنه النبيّ استحق الطرد من الرحمة الإلهية ، ومن طرد لا يصلح للخلافة.

واتفق عامة المؤرخين على أن النبيّ أمر بتجهيز جيش أسامة وأن جماعة طعنوا في إمارته ولعن المتخلف عنه إلا أن العامة حرّفوا في كتابي الطبري وابن الأثير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من تخلّف عنه» إلى «لعن الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد» وهاك ـ أخي القارئ ـ نص هاتين العبارتين لتعلم صحة ما أقول.

قال ابن الأثير :

«ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا : أمر غلاما على جلّة المهاجرين والأنصار ، فقال رسول الله : إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقا لها ، وأوعب (١) مع أسامة المهاجرون الأوّلون ، منهم : أبو بكر وعمر ، بينما الناس على

__________________

(١) أي أدخل.


ذلك ابتدئ برسول الله مرضه» (١).

ثم قال : «وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال : لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(٢).

وقال الطبري :

«كان النبيّ قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسليمة والأسود وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه ، فخرج النبيّ على الناس عاصبا رأسه من الصداع .... إلى أن قال : قد بلغني أن أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فانفذوا بعث أسامة ، لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، فخرج أسامة فضرب بالجرف» (٣).

فخطاب رسول الله إلى القوم المنافقين من أصحابه الذين لم يمتثلوا أمره بإحضار الدواة والكتف ليكتب لهم كتابا بولاية أمير المؤمنين ، فطعنوا بكلامه ونسبوه إلى الهجر ، هو نفسه خطاب للذين تخلّفوا عن جيش أسامة.

لقد لعن رسول الله بعض أصحابه المنافقين ، لكنّ يد الدس حرّفت الحقيقة ، فبدلا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة» وضعوا مكانها ـ في أكثر مصادرهم ـ تلك العبارة الممسوخة «لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

ووقوع العبارة الممسوخة بعد الأمر بإنفاذ جيش أسامة خلاف سياق حديث رسول الله وتوبيخه لمن طعن في إمارة أسامة وأبيه زيد ، فالذيل شيء والصدر شيء آخر ، الشيء الذي يستتبع الجزم بوقوع التحريف في مقاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ مشيئة الله

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣١٧ أحداث سنة ١١ ه‍.

(٢) نفس المصدر ص ٣١٨.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣١ حوادث سنة ١١ ه‍.


تعالى حالت دون جبروت المحرّفين فأبقت على عبارة اللعن في كتاب الملل والنحل للشهرستاني ، قال عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النبي ، الخلاف الثاني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : جهّزوا جيش أسامة لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة ، وقال قوم : يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبيّ فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحال هذه فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره» (١) فعدم خروجهم مع أسامة وتخلّفهم عنه مما لا نزاع فيه أصلا ، وأما دعوى أن تخلّفهم إنما كان لأجل محبتهم لرسول الله فلم تسع قلوبهم مفارقته ، هذه الدعوى مردودة لأن محبّة النبيّ تعني إطاعته فيما يأمر وينهى قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) وهذا تماما كعدم امتثالهم لأمره بإحضار الدواة والكتف ، وهل أن عدم إحضارهم لما أمرهم به النبيّ كان أيضا محبة منهم له؟!!

فتخلّفهم وعدم خروجهم يعتبر قدحا في خلافتهم لكونهم مأمورين بالانقياد لأسامة ، فما لم يمتثلوا لم يتم غرض الرسول في إنفاذ الجيش ، فلم يكن لأبي بكر الحكم على أسامة ، والخلافة رئاسة عامة تتضمن الحكم على الأمة كافة بالاتفاق فبطلت خلافة أبي بكر ، وإذا بطلت خلافته ثبت بطلان خلافة عمر ، لكونها بنص أبي بكر ، وبطلت خلافة عثمان لابتنائها على الشورى بأمر عمر ، هذا مضافا إلى أن عدم الانقياد لأمره بعد تكريره الأمر إيذاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٣) (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤).

فتثاقلهم عن السير ثم تخلّفهم عن الجيش أخيرا من أجل أن يحكموا قواعد

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ص ٢٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٤) سورة التوبة : ٦١.


سياستهم ويقيموا عمدها ترجيحا منهم لذلك على التعبد بالنص حيث رأوه أولى بالمحافظة وأحق بالرعاية ، إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير ولا يتخلف من تخلّف منهم عن الجيش ، فلو انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانصرفت عنهم الخلافة لا محالة ، لذا أراد النبي أن تخلو منهم المدينة فيصفوا الأمر من بعده لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب على سكون وطمأنينة ، فإذا رجعوا قد أبرم عهد الخلافة وأحكم للإمام عليّ عليه‌السلام عقدها كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد لكونهم فطنوا إلى كل ما دبّره النبي فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبيّ بربه ، فهمّوا حينئذ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة وبعزل أسامة أخرى ، ثم تخلّف كثير منهم عن الجيش إيثارا لرأيهم وترجيحا لاجتهادهم على التعبد بنصوصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«وبقي أسامة يراسلهم خارج المدينة فلا يلتفتون إليه حتى إذا استوى لهم الأمر ، فبعث أبو بكر إلى أسامة أن الناس نظروا في أمورهم فلم يجدوا غنى عني ، وقد نظرت في أمري فلم أجد عن عمر غنى فخلّفه عندي وامض في الوجه الذي أمرك به الرسول بالمضي فيه ، فكتب إليه أسامة : من الذي أذن لك في نفسك بالتخلّف عني حتى تطلب مني الإذن لغيرك إن كنت طائعا لله ولرسوله فارجع معسكرك ومركزك الذي أقامك فيه رسول الله ، فلم يزالوا يدارونه ويعدونه ويمنونه إلى أن أجاب وقبل منه وتركهم» (١).

شكّك بعض الصحابة بإمارة أسامة الفتى اليافع بحجة أنه صغير وهم مشايخ كبار ، فالمشكلة ليست في صغر سنه وإنما أرادوا استلام السلطة والحكم بعد رحيل النبي ، لذا لو كان ما يدّعون من صحبتهم لرسول الله فلم لم ينفذوا ما أمر به النبي ، ولما ذا لم يلتحقوا بالركب بعد وفاة النبي ، من هنا ذكر المؤرخون تخلّفهم عن الالتحاق وتشكيكهم بقيادة أسامة ، قال ابن الأثير :

«وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب إن أبا بكر خليفة رسول

__________________

(١) الاستغاثة ص ٢٧ ، ط / قم.


الله فإن أبى إلّا أن نمضي فأبلغه عنّا واطلب إليه أن يولّي أمرنا رجلا أقدم سنّا من أسامة.

فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قالوا ، وأن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة ، فوثب أبو بكر وكان جالسا ، وأخذ بلحية عمر وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطّاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله؟

ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيّعهم وهو ماش وأسامة راكب .. فلما أراد أن يرجع قال لأسامة : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ، فأذن له» (١).

من خلال عرض هذا المقطع نلاحظ شيئين :

الأول : إن الذي شكّك بأسامة إنما هو عمر وأصحابه ، من هنا أخذ بلحيته أبو بكر مستنكرا عليه بأن النبيّ أمّره وعمر يريد أن يعزله بحجة صغر سنه ، تماما كما فعل أبو عبيدة بن الجراح بالإمام عليّ عليه‌السلام حينما قهروه على البيعة فقال للإمام عليه‌السلام : «يا بن عمّ إنك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ..» (٢).

الثاني : طلب أبي بكر من أسامة استبقاء عمر بجانبه لحاجته إليه في السلطة ، ما يقتضي الاعتقاد أن المسألة دبراها وعقدا فصولها بإحكام ، وأجادا توزيع الأدوار لتحقيق ما أراداه.

لقد عصيا الله ورسوله ، ومن يعص الله ورسوله له عذاب عظيم ، قال تعالى :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً) (٣).

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٤).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣٥.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٢٩ / لابن قتيبة الدينوري ، المتوفى عام ٢٧٦ ه‍.

(٣) سورة النساء : ١٤.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٦.


(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (١).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(٢).

ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ويقلب الموازين الشرعية والأخلاقية كيف يرضى به المسلمون خليفة وهم يرون بأعينهم ما فعلاه بنبيه الكريم وأهل بيته المطهرين؟!!

الطعن الثامن :

أنه لمّا حضرته الوفاة جعل ما كان اغتصبه وظلمه في الاستيلاء عليه لعمر من بعده ، وطالب الناس بالبيعة والرضا به ، كره بذلك من كره ورضي به من رضي ، وقد أجمعوا في روايتهم أن الغالب من الناس يومئذ الكراهة ، فلما أكثروا عليه في ذلك وخوّفوه من الله ، قال أبالله تخوفوني (٣) ، إذا لقيته قلت له استخلفت فيهم (٤) خيرا ، فقد تقلّد من الإثم ما جعله لعمر من بعده مثل الذي تقلده منه في حياته ولزمه وزر ما يجري في أيام عمر من تصييره ذلك إليه من غير أن ينقص عمر من ذلك شيئا إذا ملكه ما لم يكن هو له.

قد يقال : إذا كانت خلافة أبي بكر أساسا لخلافة عمر وسببا لدفع الإمام علي عليه‌السلام عنها ، فكيف كان عمر مع شدة حيلته ودهائه يقول على رءوس الأشهاد «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرّها» (٥)؟

والجواب :

إن حكاية الفلتة كانت بعد استقرار خلافة عمر ، وتمكّن رعبه وغلظته وهيبته

__________________

(١) سورة الجن : ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢٥ / فصل في استخلاف عمر بن الخطاب.

(٤) لاحظ الإمامة والسياسة ص ٣٧.

(٥) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٦ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٧.


في القلوب ، وقد دعاه إليها أنه سمع عمار بن ياسر يقول : لو قد مات عمر لبايعت عليّا عليه‌السلام ، وقد روى القصة عامة المؤرخين لا سيما البخاري والطبري وابن الأثير :

أن ابن عبّاس قال : كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن فحجّ عمر وحججنا معه ، فقال لي عبد الرحمن : شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنى ، وقال له رجل : سمعت فلانا يقول : لو مات عمر لبايعت فلانا ، فقال عمر : إني لقائم العشيّة في الناس أحذّرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم (١) ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك ، وأخاف أن تقول مقالة لا يعوها ولا يحفظوها ويطيّروا بها ، ولكن امهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله فتقول ما قلت فيعوا مقالتك. فقال : والله لأقومنّ بها أول مقام أقومه بالمدينة.

قال : فلما قدمت المدينة هجّرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن ، فلمّا جلس عمر على المنبر ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه : إنه بلغني أن قائلا منكم يقول : لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرّنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك ، ولكنّ الله وقى شرّها ، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله ، وإن عليا والزبير ومن معهما تخلّفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلّفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ..» (٢).

الطعن التاسع :

أنّه همّ بإحراق بيت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام بإيحاء من عمر بن الخطاب ، وقد كان فيه أمير المؤمنين وفاطمة مهجة المصطفى والحسنان عليهم‌السلام وهدّدهم

__________________

(١) انظر ـ أخي القارئ ـ كيف نعت عمر من اعترض عليه بأنه مغتصب ، وقد تناسى ما فعله بعترة رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتصابه لحقوقهم!!

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٦ فصل حديث السقيفة وخلافة أبي بكر.


وآذاهم ، مع أن رفعة شأنهم عند الله تعالى وعند رسوله مما لا ينكره أحد إلا من أنكر ضوء الشمس ونور القمر ، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في الصفحات التالية.

واعتداؤه على بيت الطهر وفيه مفاخر الإسلام عليّ وفاطمة والحسنان ، مما أوجب ندم أبي بكر وهو على فراش الموت ولكن لا ينفع الندم وفي قلبه حقد على آل محمد فقال : «والله ما آسى إلّا على ثلاث فعلتهنّ ، ليتني كنت تركتهنّ ، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهنّ ، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهنّ ، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهنّ ، فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن عليّ الحرب ، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير ، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا ولم أكن أحرقته بالنار .... وأما اللاتي كنت أود أني سألت رسول الله عنهنّ فليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه فيه أحد ، وليتني كنت سألته : هل للأنصار فيها من حق؟ وليتني كنت سألته عن ميراث بنت الأخ والعمة فإن في نفسي من ذلك شيئا» (١).

الطعن العاشر :

ظلمه لمولاتنا فاطمة عليها‌السلام واغتصابه فدكا منها.

لقد ذكر عامة المؤرخين قصة فدك وأن أبا بكر سلبها من السيّدة المعظّمة الزهراء البتولعليها‌السلام وجعل ذلك كله بزعمه صدقة للمسلمين.

فقد عاشت السيّدة المطهّرة روحي فداها مأساة بعد مأساة مذ رحل أبوها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ القوم أرادوا أن يتشفوا من رسول الله بابنته مولاتنا فاطمة عليها‌السلام ، والجانب المأساوي الذي عاشته روحي فداها ذو شقين :

الأول : الجانب النفسي.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٣٦ ـ ٣٧.


الثاني : الجانب الحقوقي.

فالشق الأول : يتناول الاعتداء على جسدها الطاهر وروحها الزكية المطهّرة ، وقد تعرضنا له في البحوث القادمة فراجع.

وأما الشق الثاني : ويتناول الاعتداء على متعلقاتها وحقوقها المالية ، أعني بذلك فدكا ، ومنعها حقها من الخمس ، وهذا ما سنبحثه هنا لتسليط الضوء على منكرات القوم الذين افتروا على مقامات رسول الله وآله الأطهار.

والسؤال الذي طالما يردده كثيرون ـ مشفقون ومشكّكون ـ : لما ذا اغتصبوا من مولاتنا الزهراء فدكا؟

والجواب :

١ ـ استضعف الحلف الثنائي وزمرتهما أهل البيت ، وأرادوا من عميد البيت الهاشمي الإمام عليا عليه‌السلام البيعة لأبي بكر ولو قهرا ، لما في بيعته دعما للخط القبلي المتمثل بأبي بكر وابن الخطّاب ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام رفض البيعة ، لأن مبايعته لهم تعني أنهم أصحاب الحق ، وأنهم خلفاء رسول الله ، مما يستلزم إغراء المكلفين بالقبيح وقد نهى عنه الله عزوجل ، لذا حاول القوم الضغط على البيت الهاشمي الذي يتزعمه مولى الثّقلين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من خلال تشديد الحصار عليهم إعلاميا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا تماما كما فعل المشركون بالنبيّ من خلال حصارهم له وللمؤمنين بدعوته أمثال المجاهد العظيم أبي طالب عليه‌السلام ، فكانت مدة حصارهم للنبيّ في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ، وما أشبه اليوم بالأمس ، وما أشبه السقيفة بيوم الحصار في أواسط البعثة النبوية الشريفة.

٢ ـ ليستعين (١) القوم المغتصبون بمحاصيل فدك ، حيث كانت تدر الأموال

__________________

(١) وفي كلام لصاحب السيرة الحلبية نقلا عن سبط ابن الجوزي قال : بعد أن كتب أبو بكر للسيدة ـ


الطائلة ، وهذا بدوره عامل قوي في دفع العجلة السياسية للحكّام آنذاك لبسط سلطتهم وهيمنتهم على بلاد المسلمين.

من هنا فإن القوم ضربوا حصارا اقتصاديا يتمحور في الأمور التالية :

الأول : منع آل البيت من الخمس.

الثاني : اغتصاب فدك.

الثالث : منع آل البيت من سهم خيبر.

الرابع : تحجيم تحركات آل البيت مع قواعدهم الشعبية.

ولو سألنا أبا بكر الخليفة المزعوم لما ذا أقدمت على هذا الإجراء التعسفي لكان جوابه : إني خليفة رسول الله والحاكم الفعلي على هذه الأمة ، مع دعواه أن النبيّ لم يورّث أحدا من المسلمين.

وهنا نبحث في عدة نقاط :

النقطة الأولى : في ماهية فدك.

وفدك هذه بلدة بينها وبين المدينة يومان ، وهي من القرى الثلاث التي صالحت النبيّ على أن يأخذ النصف من ثمارهم وأموالهم بشرط أن لا يقاتلهم ، وقد أفاءها الله على رسوله سنة سبع صلحا ، وذلك أنّ النبيّ لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاثة ، واشتد بهم الحصار ، أرسلوا إلى رسول الله يسألونه أن ينزلهم على الجلاء ، وقد فعل ، وبلغ ذلك أهل فدك ، فأرسلوا إلى رسول الله أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك ، فهي مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، فكانت خالصة لرسول الله.

__________________

ـ فاطمة عليها‌السلام حقها من فدك ، دخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال عمر : بما ذا تنفق على المسلمين ، وقد حاربتك العرب؟! ثم أخذ الكتاب فشقه!! لاحظ السيرة الحلبية ج ٣ / ٣٦٢ ، ط / دار إحياء التراث العربي.


وهي على هذا الأساس ملك خاص بالرسول حباه الله تعالى بها عند نزول قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢).

ومعنى (أَفاءَ اللهُ) أي ردّ ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إياه ، ومعنى «منهم» : أي من اليهود الذين أجلاهم الرسول بسيف أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما استوليتم على تلك الأموال بخيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي يمكّن الله رسله من عدوهم من غير قتال ، بأن يقذف الرعب في قلوبهم ، فجعل الله أموال بني النضير وقريظة لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء ، وليست من قبيل الغنائم التي توزع على المقاتلين.

ومعنى قوله تعالى في الآية الثانية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : أي من أموال كفار أهل القرى كيهود خيبر وغيرها ، (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) أي أنه عزوجل جعل تلك الأموال ملكا لرسوله ، (وَلِذِي الْقُرْبى) أي قرابة النبيّ وليس هناك أقرب من ابنته السيّدة فاطمةعليها‌السلام ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وهذه القرى حسبما ورد عن ابن عباس وعامة المفسّرين هي : فدك وخيبر وعرينة وينبع ، جعلها الله لرسوله يحكم فيها بما أراد ، وأخبر أنها كلّها له ، فقال أناس : فهلّا قسّمها؟ فنزلت الآية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ...).

إذن هي خالصة لرسول الله لا يشاركه فيها أحد ، لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهداها لمولاتنا

__________________

(١) سورة الحشر : ٦.

(٢) سورة الحشر : ٧.


الزهراء عليها‌السلام ، وهذا ما لا يريد مفسرو العامة أن يفهموه بل هم على استعداد أن يكذّبوا السيّدة الزهراء المطهّرة بنص الكتاب والتي قال عنها النبيّ : «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن أسخطها فقد أسخطني» ويصدّقوا أبا بكر النبيّ الذي لم يكن أهلا لكي يبلّغ سورة براءة ، بل هم مستعدون دائما لكي يكذّبوا النبيّ الذي قال بحق الإمام عليّ عليه‌السلام : «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار» فهم دائما على استعداد لتكذيب الإمام عليّ وتصديق عدوه ، اللهم احكم بيننا وبين قومنا وأنت خير الحاكمين ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ويشهد لما قال الإمامية من أن فدكا هي نحلة من رسول الله لابنته السيّدة الزهراء عليها‌السلام ، مضافا لما قالته مولاتنا المعظّمة التي يدور الحق معها حيثما دارت والتي هي سيّدة نساء أهل الجنة كما في الحديث المشهور بين الفريقين ، ما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من أن النبيّ أعطى الصدّيقة فاطمة فدكا ، والروايات في مصادر الإمامية فوق التواتر منها :

ما رواه العيّاشي عن ابان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كان رسول الله أعطى فاطمة فدكا؟

قال : كان وقفها ، فأنزل الله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فأعطاها رسول الله حقّها ، قلت: رسول الله أعطاها؟

قال : بل الله أعطاها (١).

وعن عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا أنزل الله (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ) قال رسول الله : يا جبرائيل قد عرفت المسكين ، فمن ذوي القربى؟ قال : هم أقاربك ، فدعا حسنا وحسينا وفاطمة ، فقال : إن ربي أمرني أن أعطيكم مما أفاء عليّ ، قال : أعطيتكم فدك (٢).

__________________

(١) تفسير العياشي السمرقندي ج ٢ / ٣١٠ ح ٤٧.

(٢) نفس المصدر ح ٤٦ وما ورد في وسط الرواية من أن النبي لم يعرف من هم ذوي القربى يؤوّل على ـ


وعن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أتت فاطمة أبا بكر تريد فدكا ، قال : هاتي أسود أو أحمر يشهد بذلك ، قال : فأتت بأم أيمن ، فقال لها : بم تشهدين؟ قالت : أشهد أن جبرائيل أتى محمّدا فقال : إن الله يقول : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فلم يدر محمّد من هم؟ فقال : يا جبرائيل سل ربك من هم؟ فقال : فاطمة ذو القربى فأعطاها فدكا ، فزعموا أن عمر محى الصحيفة وقد كان كتبها أبو بكر (١).

وقد صرّح ثلة من علماء العامة بذلك منهم :

١ ـ ما أورده الحسكاني من عدة طرق إلى عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزل قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أعطى رسول الله فاطمة عليها‌السلام فدكا (٢).

ومن طريق آخر بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال :

لمّا نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام وأعطاها فدكا(٣).

ومن طريق آخر أيضا بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال :

لمّا نزلت على رسول الله (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدكا والعوالي ، وقال : هذا قسم قسمه الله لك ولعقبك (٤).

__________________

ـ غيره باعتبار أن النبي يمثّل النوع تماما كما فعل موسى عليه‌السلام عند ما قال لربه : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).

(١) تفسير العياشي ج ٢ / ٣١٠ ح ٤٩ وتفسير القمي ج ٢ / ١٨ وبحار الأنوار ج ٢٩ / ٥٤ ، وكشف الغمة ج ١ / ٤٧٦ ، تفسير الفرات ص ٢٣٩ ، مجمع البيان ج ٦ / ٢٤٣ ، وتفسير التبيان للطوسي ج ٦ / ٤٦٩.

(٢) شواهد التنزيل ج ١ / ٣٣٨ ح ٤٦٧.

(٣) شواهد التنزيل ج ١ / ٣٣٩ ح ٤٦٨ و ٤٦٩ و ٤٧٠ و ٤٧١.

(٤) شواهد التنزيل ج ١ / ٣٤٠ ح ٤٧٢.


٢ ـ ما أورده الخوارزمي بإسناده إلى شيرويه الديلمي يرفعه إلى عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال :

لمّا نزلت آية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدكا (١).

٣ ـ ما أورده صاحب كنز العمال ، بإسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فاطمة لك فدك (٢). ثم قال صاحب الكنز : وأخرجه الحاكم في تاريخه وابن النّجار. وكذا أخرج مثله في منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد بن حنبل ج ١ / ٢٢٨.

٤ ـ وأخرج السيوطي عن البزّار ، وأبي يعلى ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال :

لمّا نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدكا(٣).

وأخرج عن ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا (٤).

وأهل القربى هم أولى الناس برسول الله ، وهل هناك أولى من السيّدة الزهراء بأبيها رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

لذا أخرج السيوطي عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال : هو أن تصل ذا القرابة ، وتطعم المسكين ،

__________________

(١) مقتل الإمام الحسين للخوارزمي ج ١ / ٧٠.

(٢) كنز العمال ج ٢ / ١٥٨ وج ٣ / ٧٦٧.

(٣) الدر المنثور ج ٤ / ٣٢٠.

(٤) نفس المصدر.


وتحسن إلى ابن السبيل (١).

وأخرج أيضا عن ابن جرير عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟

قال : نعم ، قال : أفما قرأت في بني إسرائيل (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال : وإنكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال : نعم (٢).

وأخرج بسند آخر عن السدي في الآية ، قال :

كان ناس من بني عبد المطلب يأتون النبيّ فيسألونه ، فإذا صادفوا عنده شيئا أعطاهم ، وإن لم يصادفوا عنده شيئا سكت لم يقل لهم نعم ولا : لا ، والقربى قربى بني عبد المطلب (٣).

٥ ـ وأخرج الآلوسي عن البزّار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري وذكر عين ما تقدم عن الدر المنثور (٤).

٦ ـ وقال الحافظ أبو الفداء الدمشقي : قال الحافظ أبو بكر البزار ـ يرفعه ـ إلى أبي سعيد أنه قال :

لمّا نزلت الآية وذكر عين ما ذكره السيوطي في الدر المنثور. ثم قال بعد إيراده للحديث ما لفظه :

وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ، لأن الآية مكية وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو إذا حديث منكر ، والأشبه أنه من وضع الرافضة والله أعلم (٥).

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور ج ٤ / ٣١٨.

(٣) نفس المصدر.

(٤) روح المعاني ج ٩ / ٩٠ ، ط / دار الفكر.

(٥) تفسير ابن كثير القرشي الدمشقي ج ٣ / ٣٤ سورة الإسراء.


يرد عليه :

١ ـ الآية تأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب إعطاء ذي القربى حقّه ، وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يملك ما يمكن إعطاؤه لذي القربى في مكة سوى بعض المال من الصدقات بحيث لم يألوا جهدا في إنفاقه على الفقراء والمساكين آنذاك ، فالآية ليست بصدد الانفاق المستحب وإنما الواجب هو إعطاء الحقوق المتوجبة عليه لبعض ذوي القربى ، وهذا لا ينطبق إلّا على بعض الحقوق كفدك التي كانت بمثابة عوض عن مهر الصدّيقة الطاهرة خديجة الكبرى عليها‌السلام كما أشارت بذلك بعض النصوص (١).

ففدك مما أفاءها الله عزوجل على رسوله لقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (٢).

٢ ـ أنّ السورة مكيّة لكن بعض آياتها ـ ومنه آية القربى ـ مدنية وهذا حاصل في كثير من السور المكية والمدنية حيث يتضمنهما بعض الآيات المعاكسة لهم بحسب مورد النزول ، ومما يؤكد استثناءها ما جاء في مجمع البيان للشيخ الطبرسي عليه الرحمة قال : سورة بني إسرائيل (الإسراء) مكيّة كلها إلا خمس آيات .. وعدّ منها (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ، رواه عن الحسن ، وزاد ابن عباس ثلاث أخر وقيل مكية إلّا ثمان آيات ... عن قتادة والمعدّل عن ابن عباس.

ومما يؤكد كون الآية مدنية ما جاء في تفسير روح المعاني للآلوسي قال : سورة الإسراء مكية على قول الجمهور ، وقيل إلّا خمس آيات وعدّ منها الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (٣).

__________________

(١) الخرائج والجرائح ج ١ / ١١٢ ح ١٨٧ للمحدّث قطب الدين الراوندي.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) روح المعاني للآلوسي ج ٩ / ٣ ، سورة الإسراء.


ولكنه في موضع آخر من كتابه رفض كون فدك من المستثنيات بناء على أن السورة كلها مكية ، وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف النبيّ ، بل إن مطالبة الصدّيقة الزهراء بفدك بعنوان أنها إرث (١) لا نحلة. وعلى كل فإنه وافق على كون أرض فدك هي من ميراث رسول الله لابنته الصدّيقة الطاهرة.

وكذا صرّح الزمخشري في الكشاف فقال : سورة الإسراء مكية إلّا الآيات ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ و ٥٧ ومن آية ٧٣ إلى غاية آية ٨٠ فمدنية (٢).

٦ ـ بالإسناد عن أبي سعيد قال : لما نزلت آية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى) دعا رسول الله فاطمة فأعطاها فدكا (٣). ثم قال : ورواه الطبراني.

٧ ـ ما أورده الرازي في تفسير قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٤).

قال : ومعنى الآية ، أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسّم الفيء بينهم كما قسّم الغنيمة بينهم ، فذكر الله الفرق بين الأمرين ، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب ، بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعبا ، فكان الأمر فيه مفوضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.

إن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول من غير حرب ، فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله ، ويجعل الباقي في السلاح والكراع ، فلما مات ادعت فاطمة عليها‌السلام أنه كان ينحلها فدكا ، فقال أبو بكر : أنت أعز الناس عليّ فقرأ ، وأحبهم إليّ غنى ، لكني لا أعرف

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ٩ / ٩٠ ، سورة الإسراء بتصرف ببعض الألفاظ.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ / ٦٢١ سورة الإسراء.

(٣) مجمع الزوائد للهيثمي ج ٧ / ٤٩ ، ط / مكتبة القدس عام ١٣٥٢ ه‍.

(٤) سورة الحشر : ٦.


صحة قولك ولا يجوز أن أحكم بذلك ، فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول ، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن ، فأجرى أبو بكر ذلك ما كان يجريه الرسول(١) ..

تنبيه :

انظر ـ أخي القارئ ـ كيف يحطّون من درجة الصّديقة الطاهرة فينعتونها بالكذب حيث ـ وبنظر المشكّك الكبير الرازي ـ أن السيّدة المطهّرة عليها‌السلام ادعت أن فدكا نحلة من أبيها ، لذا لم يقبل دعواها سيده أبو بكر حيث أسموه بالصدّيق وقد ارتكب الجرائر بحق المؤمنين لا سيّما أمير المؤمنين وزوجه الزهراء وشيعتهما الميامين ، ونسي الرازي ما ذكره أصحابه من المفسرين والمؤرخين لا سيّما البخاري (٢) في الصحيح في كتاب بدء الخلق ، في باب مناقب قرابة رسول الله باب ١١ منقبة فاطمة بنت النبيّ وباب ٣٠ مناقب فاطمة رضي الله عنها.

روى بسنده عن المسور بن مخرمة أن رسول الله قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني. وذكره المتقي في كنز العمال ج ٦ / ٢٢٠ وقال : أخرجه ابن أبي شيبة.

وذكره المناوي أيضا في فيض القدير ج ٤ / ٤٢١ وقال :

استدل به السهيلي على أن من سبّها كفر لأنه يغضبه وإنها أفضل من الشيخين. ورواه النسائي أيضا في خصائصه ص ٣٥ (٣).

ملاحظة :

ونؤكد كلام السهيلي بأنه إذا كان سبّ الزهراء سببا للكفر فإن تكذيبها سبب أيضا للكفر، بل إنّ التكذيب من أبرز مصاديق الكفر والمروق من الدين.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٨٤ سورة الحشر.

(٢) وصحيح البخاري يعتبره علماء العامة بعد القرآن من حيث القداسة والاحترام.

(٣) فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٣ / ١٥١.


وورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إنما هي فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها(١).

ورواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة عليها‌السلام وصحيح الترمذي ج ٢ / ٣١٩ ، ومستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٥٨ وكنز العمال ج ٦ / ٢١٩ وج ٨ / ٣١٥ وخصائص النسائي ص ٣٦ والصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٠٧ والإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، فصل بيعة عليّ بن أبي طالب.

كما روى المؤرخون الحديث المتواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (٢).

من العجيب أن نرى الرازي وأمثاله يعتقدون بهذه الأحاديث ويروونها في كتبهم ، ثم في نفس الوقت يقدّمون أقوال أبي بكر عليها ، بل يكذبونها من أجل عيون الخليفة المزعوم ، كل ذلك من أجل صحبته لرسول الله ، وكأن الإمام عليا وزوجه الزهراء لم يكن لهما علاقة برسول الله!!

وقد روى العامة من النصوص بفضل الإمام عليّ مئات الأحاديث الدالة على علو شأنه ، منها ما ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال :

١ ـ عن معاذ مرفوعا إلى النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«يا عليّ ، أنا أخصمك بالنبوة ، ولا نبوة بعدي ، وأنت تخصم الناس بسبع : أنت أوّلهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ،

__________________

(١) صحيح البخاري كتاب النكاح ، ورواه أبو داود في صحيحه في باب ما يكره أن يجمع بينهنّ من النساء ، ورواه ابن حنبل في المسند ج ٤ / ٣٢٨ وأبو نعم في حليته ج ٢ / ٤٠.

(٢) لاحظ فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٣ / ١٥٥ نقلا عن المصادر العامية كالمستدرك ج ٣ / ١٥٣ وأسد الغابة ج ٥ / ٥٢٢ والإصابة لابن حجر ج ٨ / ١٥٩ وتهذيب التهذيب ج ١٢ / ٤٤١ وكنز العمال ج ٧ / ١١١ وج ٦ / ٢١٩ وميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ / ٧٢ ، وذخائر العقبى ص ٣٩.


وأعدلهم ، وأبصرهم بالقضاء ، وأعظمهم عند الله مزية يوم القيامة» (١).

ملاحظة : لم يقل النبيّ عن أبي بكر أنه أبصر الصحابة بالقضاء ، بل حصر هذا بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، فإذا ثبت القضاء لأمير المؤمنين فأي حجة للرازي وأمثاله حينما أثبتوا الحق لأبي بكر دون السيّدة المعظّمة فاطمة عليها‌السلام ، وهل قال النبيّ لأبي بكر أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنا من عليّ ، وعليّ مني ، وأنت بضعة مني ويسخطني ما يسخطك ، ويؤذيني ما يؤذيك؟!

٢ ـ وعن حكيم بن جبير ، عن جميع بن عمير ، عن ابن عمر : أن رسول الله قال لعليّ : أنت أخي في الدنيا والآخرة (٢).

٣ ـ عن الشعبي مرفوعا إلى النبي قال : يا عليّ أنت وشيعتك في الجنّة. ثم عقّب الذهبي فقال : ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (٣).

أقول : إذا كان الحديث من الموضوعات بنظر الناصبي ابن الجوزي لكنّ الحديث له شواهد صحيحة بطرق متعددة رواها أجلّة القوم كالسيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) في سورة البيّنة ، قال : وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل على عليّ عليه‌السلام فقال : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ونزلت الآية المتقدمة ، فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا : جاء خير البرية (٤).

ـ وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول الله لعليّ :

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ١ / ٣١٣ ح ١١٨١.

(٢) ميزان الاعتدال ج ١ / ٤٢١ ح ١٥٥٢.

(٣) ميزان الاعتدال ج ١ / ٤٢١ ح ١٥٥١.

(٤) تفسير الدر المنثور ج ٦ / ٦٤٣.


«هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين» (١).

ـ وأخرج ابن مردويه عن الإمام عليّ عليه‌السلام قال :

قال لي رسول الله : ألم تسمع قول الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جئت (٢) الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين (٣).

ـ وروى الهيثمي بإسناده إلى عبد الله بن أبي قال :

إن الإمام عليّا عليه‌السلام أتي يوم البصرة بذهب وفضة فقال : ابيضي واصفري غري غيري ، غري أهل الشام غدا إذا ظهروا عليك ، فشق قوله ذلك على الناس فذكر ذلك له فأذّن في الناس فدخلوا عليه فقال : إن خليلي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

يا عليّ إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابا مقمحين ، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم الإقماح ، قال ـ أي الهيثمي ـ رواه الطبراني في الأوسط (٤).

وأخرج الديلمي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

يا عليّ إنّ الله قد غفر لك ولذريتك وولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبي شيعتك ، فأبشر فإنك الأنزع البطين (٥).

٤ ـ عن ابن عباس مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عليّ عيبة علمي (٦).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ / ٦٤٣ سورة البيّنة.

(٢) الأصح «جاءت» وما في المتن تصحيف.

(٣) الدر المنثور ج ٦ / ٦٤٣.

(٤) المجمع للهيثمي ج ٩ / ١٣١ وفضائل الخمسة للفيروزآبادي ج ٢ / ٩٤.

(٥) الصواعق المحرقة لابن حجر ص ٩٦ ، والمراد من «الأنزع البطين» الأنزع من الشرك ، البطين بالإيمان كما ورد في نصوص معتبرة.

(٦) ميزان الاعتدال ج ٢ / ٣٢٧ ح ٣٩٥١.


٥ ـ وعن أنس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ : أنت تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي(١).

٦ ـ عن جابر مرفوعا إلى النبيّ قال :

يا عليّ ، لو أن أمتي أبغضوك لأكبّهم الله على مناخرهم في النار (٢).

٧ ـ وبالسند المتقدّم عن النبيّ قال :

يا عليّ ، ادن مني ، خمسك في خمس (٣) ، يا عليّ خلقت أنا وأنت من شجرة ، أنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، من تعلّق بغصن منها أدخله الله الجنّة (٤).

عود على بدء :

فخلاصة الأمر فإنّ فدكا كانت خالصة لرسول الله لكونها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وعلى هذا اتفاق عامة المؤرخين والمفسرين واللغويين (٥) ، ثم أعطاها النبيّ لبضعته الزهراءعليها‌السلام عوضا عن مهر أمها خديجة كما أشارت بعض النصوص (٦).

ومسألة المهر في التشريع الإسلامي يكون في ذمة الرجل في حالة عدم دفعه بعد وفاة الزوجة ، ولا بدّ من إعطائه للورثة الذين هم أبناء الزوجة ، لذا كانت مولاتنا فاطمة الوريث الوحيد لأمها الطاهرة خديجة في مهرها ، فأعطاها فدكا مقابل ذلك ، من هنا جاء في رواية أبي مريم قال : سمعت الإمام جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) نفس المصدر ج ٢ / ٣٢٨ ح ٣٩٥١.

(٢) ميزان الاعتدال ج ٣ / ٤١ ح ٥٥٢٣.

(٣) وفي نسخة : ضع خمسك في خمسي.

(٤) ميزان الاعتدال ج ٣ / ٤١ ح ٥٥٢٣.

(٥) راجع معجم البلدان ج ٤ / ٢٣٨ ولسان العرب ج ١٠ / ٢٠٣ ومجمع البحرين ج ٥ / ٢٠٣.

(٦) الخرائج والجرائح ج ١ / ١١٢ والبحار ج ٢٩ / ٥٥ ح ١٠ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ / ١٤٢.


يقول : لما نزلت الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أعطى رسول الله فاطمة فدكا ، فقال ابان بن تغلب : رسول الله أعطاها؟ فغضب الإمام جعفر ثم قال : الله أعطاها (١).

وفي صحيحة ابان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكان رسول الله أعطى فاطمة فدكا؟

قال عليه‌السلام : كان لها من الله (٢).

فالله تعالى أمر النبيّ أن يعطي فدكا للسيّدة الزهراء عليها‌السلام فهي حق واجب عوضا عن مهر أمها ، ولم تكن من الصدقات المستحبة حتى يتصدق بها النبيّ على ابنته فاطمة ، ولو كانت من الصدقات لثبت ما ادعاه أبو بكر عليها بحديث اختلقه على النبيّ «إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» ، وحاشاها أن تدّعي ما ليس لها ، فما تقوله السيدة الزهراء هو الحق وما دونها هو الباطل.

النقطة الثانية : الأدلة على أن فدكا للسيّدة الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام.

يستدل على ذلك بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول :

أن يد السيّدة المطهّرة فاطمة عليها‌السلام كانت عليها ، أي كانت متصرفة في فدك ولها عليها وكلاء (٣) في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما رويناه من النصوص المتقدمة قرينة أخرى على صحة هذا الوجه.

وعلى هذا الأساس فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلّا بدليل وبيّنة كما هو الحال في كل قضية تنازع عليها طرفان ، كل هذا إذا كان المدّعي إنسانا عاديا ، أما لو كان المدّعي فوق المستوى العادي كالسيّدة الزهراء صلوات الله عليها فكيف

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي ص ٢٣٩ ح ٣١٢ وأخرجه العياشي بسندين عن ابان عن الإمام الصادق ، والحسكاني في شواهد التنزيل.

(٢) تفسير العياشي ج ٢ / ٣١٠ ح ٤٨.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٥٤٣ ح ٥ كتاب الحجة باب الفيء والأنفال.


يطلب الخليفة المزعوم منها البيّنة مع تصديق الكتاب العزيز لها ، فإذا كانت شهادة حذيفة بمثابة شاهدين تقبل دعواه في كل الشئون والقضايا والمنازعات التي يشترط فيها شاهدان ، فأولى للزهراء أن تقبل شهادتها لكونها المطهّرة بنص آية التطهير ولأنها بضعة أبيها ، وأن الله يسخط لسخطها ويرضى لرضاها.

ومع هذا فإن من كانت يده على شيء لا يطلب منه البيّنة ، لكنّ أبا بكر طلبها من الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام مع أنها ذات يد ، فيكون قد ردّ كلام النبيّ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر».

وليس على السيّدة المطهّرة أن تقيم البيّنة لأنها ذات يد ، لأن اليد إمارة الملكية.

الوجه الثاني :

أنّها عليها‌السلام كانت تملك فدكا بالنحلة والعطية والهبة من أبيها رسول الله ، والنصوص على ذلك كثيرة جدا تفوق حد التواتر (١).

الوجه الثالث :

أنها عليها‌السلام كانت تملك فدكا بالإرث من أبيها (٢) ، ولكنّ الحلف الثنائي خالفا هذه الوجوه ، فقد طالبوها بالبيّنة ، ثم بالشهود على النحلة ، ثم أنكروا وراثتها من أبيها.

ويحق لمولاتنا فاطمة عليها‌السلام أن تطالب بحقها بكلّ وجه من هذه الوجوه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٩ / باب ١١ والاحتجاج ج ١ / ١١٩ والاختصاص ص ١٨٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٩ والاحتجاج ج ١ / ١١٩ قرب الإسناد ص ٤٧ والاختصاص والكشكول فيما جرى على آل الرسول ص ٢٠٣ وصحيح البخاري ج ٣ / ٣٧٢ ح ٣٠٩٢ وح ٣٠٩٣ وج ٥ / ٣٠ ح ٤٠٣٤ وح ٤٠٣٥ وتاريخ الطبري ج ٣ / ٢٠٨ وصحيح مسلم ج ٥ / ٢٥ وجامع الأصول ج ١٠ / ٣٨٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ / ٣٠٠ ومسند فاطمة للسيوطي ص ١٥ ح ١٥ ومسند أحمد ج ١ / ١٣ وشرح النهج ج ١٦ / ٢٣٢.


الثلاثة ، ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أولا ، ثم عن طريق الإرث ثانيا ، وقد صرّح بذلك أعلام القوم أمثال :

١ ـ الحلبي في سيرته قال :

إنّ فاطمة أتت أبا بكر بعد وفاة رسول الله وقالت : إنّ فدكا نحلة أبي ، أعطانيها حال حياته ، وأنكر عليها أبو بكر وقال : أريد بذلك شهودا فشهد لها الإمام عليّ (١) ، فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن ، فقال لها : أبرجل وامرأة تستحقينها؟ (٢).

٢ ـ وروى البخاري عن عروة بن الزّبير قال : إن عائشة أخبرته : أنّ فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله أن يقسّم لها ميراثها ، مما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورّث ما تركناه صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر.

قالت : وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به .. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس ، فأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم (٣).

ملاحظة : أما قول عمر «وأمرهما إلى ولي الأمر» فيه دلالة واضحة إلى أن اغتصابهما لقرى خيبر وفدك إنما كان لتدعيم سلطانهما ولم يكن من أجل توزيع

__________________

(١) انظر أخي القارئ إلى الحقد والعصبية التي كان يبيّتها القوم لعترة النبيّ ، فشهادة الإمام عليّ لا تقبل وقد قال عنه النبيّ «اللهم أدر الحق معه حيثما دار» وتقبل شهادة جابر وحذيفة وعائشة التي ورثت سهمها من حجرة النبي وسهم بقية نسوة النبيّ فدفنت أباها بجنب النبيّ وكذا عمر؟!

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٣٩.

(٣) صحيح البخاري ج ٣ / ٣٧٢ ح ٣٠٩٣ وكذا رقم ٣٠٩٢ ، وصحيح مسلم ج ١٢ / ٦٩ ح ٥٣.


ريعهم على فقراء المسلمين مع أن التوزيع ـ لو صح ـ فهو حرام لكونه تصرفا بأموال الغير من دون استئذان.

وعن عروة بن الزبير أيضا عن عائشة قالت :

إنّ فاطمة عليها‌السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبيّ فيما أفاء الله على رسوله تطلب صدقة النبيّ التي بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمّد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل (١).

أقول : لم يعهد من سيرة النبيّ أنه ترك مالا حتى يكون صدقة لفقراء المسلمين بل لم يعهد منه أنه كان يكنز الأموال لغده ، فكيف تنسب هذه الأحاديث إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الأموال وتكديسها فقام أبو بكر ليوزّعها على فقراء المسلمين أو يدخرها لولي الأمر حسبما قال عمر بالحديث المتقدم؟!!

وعن عائشة أيضا :

إن فاطمة عليها‌السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر فقال أبو بكر : سمعت النبيّ يقول : لا نورّث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمّد في هذا المال(٢).

٣ ـ روى ابن أبي الحديد عن أبي صالح عن أمّ هانئ : أن فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك إذا متّ؟

قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لك ترث رسول الله دوننا؟

قال : يا ابنة رسول الله ، ما ورّث أبوك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة ، قالت : بلى سهم الله الذي جعله لنا ، وصار فيئنا الذي بيدك (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩ ح ٣٧١١ و ٣٧١٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٣٠ ح ٤٠٣٥.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٥٠ فصل فدك في السير والأخبار.


أقول : كيف يدّعي أن النبيّ لم يورّث مالا ولا دارا ، وقد ورث هو عن النبيّ خيبر وفدك ، وورثت عائشة ابنته سهم غيرها من حجرات النبيّ؟!!

فالاضطراب حاصل في كلام أبي بكر ، فمرة يقول : إن النبيّ قال لا نورّث ما تركناه صدقة ، ومرة يقول إن النبيّ لم يترك شيئا ليورّثه ، فإذا لم يورّث فكيف ورثت عائشة منه وسمحت له بأن يدفن بجانب رسول الله؟!

وروي أيضا عن أبي الطفيل قال : أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال : بل أهله ، قالت : فما بال سهم رسول الله؟ قال : إني سمعت رسول الله يقول : إن الله أطعم نبيه طعمة ، ثم قبضه ، وجعله للذي يقوم بعده ، فوليت أنا بعده على أن أردّه على المسلمين ، قالت : أنت وما سمعت من رسول الله أعلم (١).

أقول : إن في الحديث إشارة إلى افتراء أبي بكر على رسول الله بحديثه المطعون فيه «لا نورّث» حيث اعترف هنا بأن النبيّ موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله «لا نورث».

٤ ـ ما رواه أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي سلمة :

إن فاطمة عليها‌السلام قالت لأبي بكر : من يرثك إذا متّ؟

قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لنا لا نرث النبيّ؟ (٢).

٥ ـ ما رواه الطبري بإسناده عن عروة ، عن عائشة : إنّ فاطمة عليها‌السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله وهما حينئذ يطلبان أرضه في فدك ، وسهمه من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : سمعت النبيّ يقول : لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمّد من هذا المال ... قال : فهجرته فاطمة ، فلم تكلّمه في

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ١٣.


ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليّ عليه‌السلام ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر (١).

أما أعلام الإمامية فقد رووا أحاديث كثيرة بلغت التواتر ، مفادها مطالبة السيّدة الزهراءعليها‌السلام للخليفة المزعوم أبي بكر بفدك وغيرها عن طريق الإرث ، نذكر بعضا منها :

١ ـ ما رواه الشيخ الجليل أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري (٢) عن حنّان بن سدير قال : سأل صدقة بن مسلم أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده ، فقال : من الشاهد على فاطمة بأنّها لا ترث أباها؟

فقال : شهدت عليها عائشة وحفصة ورجل من العرب يقال له «أوس بن الحدثان» من بني النضير ، شهدوا عند أبي بكر بأنّ رسول الله قال : لا أورث فمنعوا فاطمة ميراثها من أبيها(٣).

٢ ـ ما رواه الشيخ المفيد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا قبض رسول الله وجلس أبو بكر مجلسه ، بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها فأخرجه من فدك.

فأتته فاطمة عليها‌السلام فقالت : يا أبا بكر! ادعيت أنك خليفة أبي ، وجلست مجلسه ، وأنت بعثت وكيلي فأخرجته من فدك ، وقد تعلم أن رسول الله صدّق بها عليّ ، وأن لي بذلك شهودا.

فقال : إن النبيّ لا يورّث!!

فرجعت إلى الإمام عليّ عليه‌السلام فأخبرته ، فقال : ارجعي إليه وقولي له : زعمت أن النبيّ لا يورّث (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) وورث يحيى زكريا ، وكيف لا أرث أنا أبي؟!

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٠٨ والسنن الكبرى ج ٦ / ٣٠٠.

(٢) من أعلام القرن الثالث الهجري ومن أصحاب الإمام العسكري والحجّة المنتظر عليه‌السلام.

(٣) قرب الإسناد ص ٩٩ ح ٣٣٥.


فقال عمر : أنت معلّمة! قالت : وإن كنت معلّمة ، فإنما علّمني ابن عمي وبعلي.

قال أبو بكر : فإن عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا رسول الله وهو يقول : إن النبيّ لا يورّث.

فقالت : هذه أول شهادة زور شهدا بها ، وإنّ لي بذلك شهودا بها في الإسلام ، ثم قالت: فإنّ فدكا إنما هي صدّق بها عليّ رسول الله ولي بذلك بيّنة فقال لها : هلمي ببيّنتك قال : فجاءت بأم أيمن والإمام عليّ عليه‌السلام ، فقال أبو بكر : يا أم أيمن سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في فاطمة؟

فقالت : سمعت رسول الله يقول : إن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة. ثم قالت : أم أيمن : فمن كانت سيّدة نساء أهل الجنة تدّعي ما ليس لها؟! وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلّا بما سمعت من رسول الله. فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص ، بأي شيء تشهدان؟

فقالت : كنت جالسة في بيت فاطمة عليها‌السلام ورسول الله جالس حتى نزل عليه جبرائيل فقال: يا محمّد قم فإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أخطّ لك فدكا بجناحي ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جبرائيل عليه‌السلام فما لبث أن رجع ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : يا أبة! أين ذهبت؟ فقال: خطّ جبرائيل عليه‌السلام لي فدكا بجناحه ، وحدّ لي حدودها.

فقالت : يا أبة! إني أخاف العيلة والحاجة من بعدك ، فصدّق بها عليّ. فقال : هي صدقة عليك ، فقبضتها ، قالت : نعم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا أم أيمن! اشهدي ، ويا عليّ اشهد.

فقال عمر : أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها ، وأمّا عليّ فيجرّ إلى نفسه.


قال : فقامت مغضبة ، وقالت : اللهم إنهما ظلما ابنة [محمّد] نبيّك حقها فاشدد وطأتك عليهما. ثم خرجت وحملها عليّ على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها أربعين صباحا في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين عليهما‌السلام معها وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا الله فإني ابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيعتكم.

قال : فما أعانها أحد ، ولا أجابها ، ولا نصرها.

قال : فانتهت إلى معاذ بن جبل ، فقالت : يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة ، وقد بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن تنصره وذرّيته وتمنع مما تمنع منه نفسك وذرّيّتك ، وإنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال : فمعي غيري؟ قالت : لا ، ما أجابني أحد.

قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك؟

قال : فخرجت من عنده ودخل ابنه ، فقال : ما جاء بابنة محمّد إليك؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر ، فإنّه أخذ منها فدكا.

قال : فما أجبتها به؟ قال : قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي. قال : فأبيت أن تنصرها؟ قال : نعم.

قال : فأي شيء قالت لك؟ قال : قالت لي : والله لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فقال : أنا والله لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم تجب ابنة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : وخرجت فاطمة عليها‌السلام من عنده وهي تقول :

والله لا أكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم انصرفت. فقال عليّ عليه‌السلام لها : ائتي أبا بكر وحده فإنّه أرقّ من الآخر ، وقولي له :


ادّعيت مجلس أبي وأنك خليفته وجلست مجلسه ، ولو كانت فدك لك ثمّ استوهبتها منك لوجب ردّها عليّ. فلما أتته وقالت له ذلك قال : صدقت.

قال فدعا بكتاب ، فكتبه لها بردّ فدك ، فقال : فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر ، فقال : يا بنت محمّد! ما هذا الكتاب الذي معك؟ فقالت : كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال : هلميه إليّ ، فأبت أن تدفعه إليه ، فرفسها برجله ـ وكانت حاملة بابن اسمه : المحسن (١) ـ فأسقطت المحسن من بطنها ، ثم لطمها ، فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نقف.

ثم أخذ الكتاب فخرقه.

فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوما مريضة ممّا ضربها عمر ، ثم قبضت ، فلما حضرتها الوفاة دعت عليّا صلوات الله عليه ، فقالت :

إمّا تضمن وإلّا أوصيت إلى ابن الزبير. فقال علي عليه‌السلام : أنا أضمن وصيّتك يا بنت محمد. قالت : سألتك بحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أنا متّ ألّا يشهداني ، ولا يصلّيا عليّ ، قال : فلك ذلك.

فلما قبضت عليها‌السلام ، دفنها ليلا في بيتها ، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها ، وأبو بكر وعمر كذلك ، فخرج إليهما عليّ عليه‌السلام فقالا له : ما فعلت بابنة محمّد؟! أخذت في جهازها يا أبا الحسن؟ فقال عليّ عليه‌السلام :

قد ـ والله ـ دفنتها. قالا : فما حملك على أن دفنتها ولم تعلمنا بموتها؟ قال : هي أمرتني. فقال عمر :

والله لقد هممت بنبشها والصلاة عليها فقال عليّ عليه‌السلام :

أما والله ما دام قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي ، إنك لا تصل إلى

__________________

(١) الأصح : «محسن» بدون إضافة لام التعريف.


نبشها ، فأنت أعلم. فقال أبو بكر : اذهب فإنّه أحقّ بها منّا ، وانصرف الناس (١).

٣ ـ روى الطبرسي عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا بويع أبو بكر ، واستقام له الأمر على المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك من أخرج وكيل «السيّدة» فاطمةعليها‌السلام بنت رسول الله منها ، فجاءت فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى أبي بكر ، ثم قالت : لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله بأمر من الله؟

فقال : هاتي على ذلك بشهود! فجاءت بأم أيمن ، فقالت له أم أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول الله ، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال :

أم أيمن امرأة من أهل الجنّة؟ فقال : بلى ، قالت : فاشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فجعل فدكا لها طعمة بأمر الله.

فجاء الإمام علي عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتابا ودفعه إليها ، فدخل عمر ، فقال : ما هذا الكتاب؟ فقال : إن فاطمة عليها‌السلام ادّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعليّعليه‌السلام ، فكتبته لها.

فأخذ عمر الكتاب من فاطمة ، فتفل فيه ومزّقه (٢)!!

__________________

(١) الاختصاص ص ١٨٣ ، وما ورد في النصّ من أنها كانت تريد أن توصي «لابن الزبير» لعلّه تصحيف «للزبير بن العوّام» ولأن عبد الله بن الزبير كان صغيرا آنذاك ، من البعيد جدا بل من المقطوع به أن لا توصي الصدّيقة إليه لعدائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن ابن الزبير هو «عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم النبيّ وهو أخو ضباعة بنت الزبير ، وكان الزبير أخا عبد الله أبي رسول الله وأخا أبي طالب لأبيهما وأمهما ، وشهد عبد الله قتال الروم في عهد أبي بكر .. راجع ترجمته في أسد الغابة ج ٣ / ٣٤١ رقم ٢٩٤٨.

(٢) وفي رواية ذكرها المحقق العلّامة المقرّم في كتابه «وفاة الصدّيقة الطاهرة» ص ٧٨ نقلا عن كتاب اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء : أن الزهراء قالت لعمر : بقرت كتابي بقر الله بطنك.


فخرجت فاطمة عليها‌السلام تبكي ، فلمّا كان بعد ذلك جاء عليّ عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد ، وحوله المهاجرون والأنصار فقال :

يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكته في حياة رسول الله؟!

فقال أبو بكر : هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهودا أن رسول الله جعلها لها وإلّا فلا حق لها فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا.

قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إياك أسأل البيّنة.

قال : فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يديها ، وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بيّنة على ما ادّعوها شهودا ، كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟!

فسكت أبو بكر ، فقال عمر : يا عليّ دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلّا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال : نعم ، قال : أخبرني عن قول الله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فيمن نزلت؟ فينا أم في غيرنا؟ قال : بل فيكم ، قال : فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعا بها؟

قال : كنت أقيم عليها الحدّ ، كما أقيمه على نساء المسلمين.

قال : إذن كنت عند الله من الكافرين ، قال : ولم؟ قال : لأنك رددت شهادة


الله لها بالطهارة ، وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، إن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها ، وأخذت منها فدكا ، وزعمت أنه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» فرددت قول رسول الله «البيّنة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه».

قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : صدق ـ والله ـ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ورجع إلى منزله.

قال : ثم دخلت فاطمة المسجد ، وطافت بقبر أبيها ، وهي تقول :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة (١)

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنّا فكل الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

تجهمتنا رجال واستخفّ بنا

إذ غبت عنّا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منّا العيون بتهمال لها سكب

قال : فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلها ، وبعث أبو بكر إلى عمر فدعاه ، ثم قال له : أما رأيت مجلس عليّ منّا في هذا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا آخر مثله ليفسدنّ علينا أمرنا ، فما الرأي؟ فقال عمر : الرأي أن تأمر بقتله ، قال : فمن يقتله ، قال : خالد بن الوليد.

فبعثوا إلى خالد ، فأتاهما ، فقالا : نريد أن نحملك على أمر عظيم ، قال : احملاني على ما شئتما ، ولو على قتل عليّ بن أبي طالب!!

قالا : فهو ذلك ، قال خالد : متى أقتله؟

__________________

(١) في نسخة شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٦ يوجد «وهينمة» أي الصوت الخفي. و «هنبثة» هو الأمر العظيم.


قال أبو بكر : احضر المسجد ، وقم بجنبه في الصلاة ، فإذا سلّمت فقم إليه واضرب عنقه!! قال : نعم.

فسمعت أسماء بنت عميس ، وكانت تحت أبي بكر ، فقالت لجاريتها : اذهبي إلى منزل عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وأقرئيهما السلام وقولي لعليّ : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ، فجاءت ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون. ثم قام وتهيأ للصلاة ، وحضر المسجد ، وصلّى خلف أبي بكر ، وخالد بن الوليد يصلّي بجنبه ومعه سيفه.

فلما جلس أبو بكر في التشهّد ، ندم على ما قال ، وخاف الفتنة ، وعرف شدة عليّ وبأسه ، فلم يزل متفكّرا لا يجسر أن يسلّم حتى ظنّ الناس أنه قد سها ، ثم التفت إلى خالد ، فقال : يا خالد لا تفعلنّ ما أمرتك!! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا خالد ما الذي أمرك به؟ فقال : أمرني بضرب عنقك.

قال : أو كنت فاعلا؟ قال : أي والله ، لو لا أنّه قال لي لا تقتله قبل التسليم ، لقتلتك!!

قال : فأخذه عليّ عليه‌السلام فجلد به الأرض ، فاجتمع الناس عليه ، فقال عمر : يقتله وربّ الكعبة. فقال الناس : يا أبا الحسن! الله الله ، بحق صاحب القبر.

فخلّى عنه ، ثم التفت إلى عمر ، فأخذ بتلابيبه وقال : يا بن صهّاك! والله لو لا عهد من رسول الله ، وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقلّ عددا. ودخل منزله (١).

وفي رواية أخرى عن المفضّل بن عمر قال :

__________________

(١) الاحتجاج / ج ١ / ١١٩.


قال مولاي الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : لما ولي أبو بكر ابن أبي قحافة ، قال له عمر : إنّ الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن عليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليّا وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا ومحاماة عليها ، ففعل أبو بكر ذلك وصرف عنهم جميع ذلك ، فلمّا قام أبو بكر بن أبي قحافة نادى مناديه :

من كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دين أو عدّة فليأتني حتى أقضيه ، وأنجز لجابر بن عبد الله ولجرير بن عبد الله البجلي.

قال الإمام عليّ عليه‌السلام للصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام صيري إلى أبي بكر وذكريه فدكا ، فصارت السيّدة فاطمة عليها‌السلام إليه وذكرت له فدكا مع الخمس والفيء ، فقال : هاتي بيّنة يا بنت رسول الله ، فقالت : أما فدك فإن الله عزوجل أنزل على نبيه قرآنا يأمر فيه أن يؤتيني وولدي حقي ، قال الله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فكنت أنا وولدي أقرب الخلائق إلى رسول الله فنحلني وولدي فدكا ، فلما تلا عليه جبرائيل عليه‌السلام المسكين وابن السبيل ، قال رسول الله : ما حق المسكين وابن السبيل؟ فأنزل الله تعالى :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

فقسّم الخمس على خمسة أقسام فقال عزوجل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) (٢) فما لله فهو لرسوله ، وما لرسول الله فهو لذي القربى ، ونحن ذو القربى ، قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣).

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الشورى : ٢٢.


فنظر أبو بكر إلى عمر بن الخطّاب ، وقال : ما تقول؟

قال عمر : ومن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

فقالت السيّدة فاطمة عليها‌السلام : اليتامى الذين يأتمون بالله وبرسوله ، وبذي القربى والمساكين الذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم ، قال عمر : فإذا الخمس والفيء كله لكم ولمواليكم وأشياعكم؟

فقالت الصدّيقة المطهّرة عليها‌السلام :

أما فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله ، قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟

قالت مولاتنا فاطمة عليها‌السلام :

إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسّمها الله وأوجبها في كتابه ، فقالعزوجل: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ)(١).

قال عمر : فدك لك خاصة ، والفيء لكم ولأوليائكم ، ما أحسب أصحاب محمّد يرضون بهذا!

قالت عليها‌السلام : فإن الله عزوجل رضي بذلك ورسوله رضي به ، وقسّم على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن خالفنا فقد خالف الله ، ومن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة ، فقال عمر : هاتي بيّنة يا بنت محمّد على ما تدّعين؟ فقالت السيّدة المطهّرة عليها‌السلام : قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البيّنة ، وبيّنتي في كتاب الله ، فقال عمر : إن جابرا وجريرا ذكرا أمرا هينا ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.


وأنت تدّعين أمرا عظيما يقع به الرّدة من المهاجرين والأنصار.

فقالت عليها‌السلام : إن المهاجرين برسول الله هاجروا إلى دينه ، والأنصار بالإيمان بالله وبرسوله وبذي القربى أحسنوا فلا هجرة إلّا إلينا ، ولا نصرة إلّا لنا ، ولا اتّباع بإحسان إلّا بنا ، ومن ارتدّ عنا فإلى الجاهلية.

فقال لها عمر : دعينا من أباطيلك (١) ، واحضرينا من شهد لك بما تقولين ، فبعثت إلى الإمام عليّ والحسن والحسين وأم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر ابن أبي قحافة ، فأقبلوا إلى أبي بكر وشهدوا لها بجميع ما قالت وادّعته ، فقال عمر : أمّا عليّ فزوجها ، وأما الحسن والحسين فابناها ، وأما أم أيمن فمولاتها ، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم ، وقد كانت تخدم فاطمة عليها‌السلام ، وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم.

فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : وأما فاطمة عليها‌السلام فبضعة من رسول الله ، ومن آذاها فقد آذى رسول الله ، ومن كذّبها فقد كذّب رسول الله ، وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنّة من كذّبهما فقد كذّب رسول الله إذ كان أهل الجنّة صادقين.

وأما أنا فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني وأنا منك ، وأنت أخي في الدنيا والآخرة والرادّ عليك هو الرادّ عليّ ، من أطاعك فقد أطاعني ، ومن عصاك فقد عصاني.

وأما أم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنّة ، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها ، فقال عمر : أنتم كما وصفتم به أنفسكم ، ولكنّ شهادة الجار إلى نفسه لا تقبل.

__________________

(١) لا نعجب من عمر بن الخطاب بلهجته القاسية التي تنمّ عن خبث سريرته اتجاه السيّدة الزهراء عليها‌السلام وقد جرّح برسول الله حينما نعته عمر بالهجر وهو على فراش الموت ، وقد روى الخبر عامة مؤرخي العامة!! كيف ينعتها بالباطل وقد طهّرها المولى عزّ ذكره وجعلها النبيّ بضعة منه؟!


فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : إذا كنّا نحن كما تعرفون ولا تنكرون ، وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل ، وشهادة رسول الله لا تقبل ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون ، إذا ادّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة ، فما من معين يعين ، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بيّنة ولا حجّة (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) (١) ثم قال للسيّدة فاطمةعليها‌السلام : انصرفي حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

قال المفضل : قال مولاي جعفر عليه‌السلام :

كل ظلامة حدثت في الإسلام أو تحدث ، وكل دم مسفوك حرام ومنكر مشهور وأمر غير محمود فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما أو تابعهما ورضي بولايتهما إلى يوم القيامة (٢).

ولمّا رأت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة ولم تنجح مساعيها ، جاءت تطالب بحقها عن طريق الإرث ، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق ، وهي تعلم أن أهل السلطة يوم ذاك لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع ، وصدق الشاعر حين قال :

وآية السيف تمحو آية القلم.

وعلى كل حال ، فإنّ احتجاج السيّدة الزهراء عليها‌السلام لا من أجل استلام قطعة أرض ، كيف؟ وهي الزاهدة بحطام الدنيا ، وهي التي كانت توزّع ما يأتيها من خراج فدك على فقراء المسلمين وأيتامهم ، وهي التي آثرت اليتيم والمسكين والفقير على نفسها وهي صائمة حتى نزل فيها قرآن يتلوه المسلمون آناء ليلهم وأطراف نهارهم ، وإنّما كان همها وهدفها من المطالبة الاعتراف بحقوق آل البيت لأن أبا بكر لو اعترف للزهراء عليها‌السلام بفدك ، فإنه سيجر إلى الاعتراف بأنه غاصب للخلافة.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٩ / ٩٢ ح ٤٠ نقلا عن كشكول العلّامة.


فلو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وطالبته بالخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لأنه يكون قد سجّل على نفسه أنها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود.

هذا مضافا إلى أنّ منعهما السيّدة الزّهراء عليها‌السلام من فدك ليس [إلّا أن لا يتقوّى الإمام عليّ عليه‌السلام بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا اتبعا ذلك بمنع سيدة النساء عليها‌السلام وزوجها أمير المؤمنين وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس ، فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراس والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة ، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء ، وهو داء لا دواء له ، وما أكثر ما تزول الأخلاق والشّيم ، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها] (١).

هذا مضافا إلى أنّ سيّدة النساء أرادت أن تسجّل اعتراضا على الظالمين حتى لا يكون السكون سبة إلى يوم القيامة ، مع تسجيل مظلوميتها في سجل التاريخ وكشف الغطاء عن نوايا القوم وأفعالهم ، من هذا المنطلق ذهبت سيدة النساء وبضعة أبيها إلى المسجد النبوي لتأكد الحجة ، فخطبت تلك الخطبة القاصعة التي قصمت ظهور القوم إلى يوم القيامة.

وها نتشرف بعرضها على القارئ الكريم ليرى بلاغة مولاتنا الزهراء روحي فداها ومدى مظلوميتها لدى بعض الصحابة الذين اتخذوا من الصحبة غطاء يمررون مشاريعهم من خلاله.

وهذه الخطبة العصماء التي ارتجلتها العالمة غير المعلّمة في حشد من المهاجرين والأنصار بعد أن ضرب بينها وبينهم ملاءة ، فكان وقعها أشدّ من الحسام المهند على نفوس السامعين إلّا نفر ضئيل لا يفقه شيئا قد غلّف الرين قلبه ، فغدا حجرا صلدا بل أشد ، وسأوردها بأسانيدها المعتبرة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج ١٦ / ٣٦٣.


فقد روى ابن أبي الحديد نقلا عن كتاب «السقيفة وفدك» لأبي بكر الجوهري بأربعة طرق :

أ ـ قال أبو بكر : حدثني محمّد بن زكريا ، قال : حدثني جعفر بن محمّد بن عمارة الكندي قال ؛ حدثني أبي ، عن الحسين بن صالح بن حيّ ، قال : حدثني رجلان من بني هاشم ، عن زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام (١).

ب ـ قال : وقال ؛ حدّثني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه (٢).

ج ـ قال أبو بكر : وحدثني عثمان بن عمران العجيفي ، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام (٣).

د ـ قال أبو بكر : وحدّثني أحمد بن محمّد بن يزيد عن عبد الله بن محمّد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد الله بن حسن بن الحسن ، قالوا جميعا :

لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها (٤).

وروى الخطبة السيّد المرتضى علم الهدى (رحمه‌الله) في كتاب الشافي بأسانيد متعددة :

أ ـ عن أبي عبد الله محمّد بن عمران المرزباني ، عن محمد بن أحمد الكاتب ، عن أحمد بن عبيد الله النحوي ، عن الزيادي ، عن الشرقي بن القطامي ، عن محمّد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة (٥).

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٥ ورواها أبو جعفر محمد بن جرير رستم الطبري في دلائل الإمامة ص ٣٣ بخمسة طرق.

(٢) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٥.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الشافي في الإمامة ج ٤ / ٦٩ ، ط / مؤسسة الصادق ـ طهران.


ب ـ عن المرزباني قال : وحدّثني أحمد بن محمّد المكي ، قال : حدثنا أبو العيناء محمّد بن القاسم السيمامي ، قال : حدثنا ابن عائشة (١) قال : لما قبض رسول الله أقبلت السيّدة فاطمةعليها‌السلام في لمّة من حفدتها إلى أبي بكر (٢).

ج ـ وعن المرزباني أيضا ، قال : حدّثني عليّ بن هارون ، قال : أخبرني عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال : ذكرت لأبي الحسين زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام كلام الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام عند منع أبي بكر إياها فدك ، وقلت له : إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه كلام أبي العيناء ، لأن الكلام منسوق البلاغة ، فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ، ويعلّمونه أولادهم ، وقد حدّثني به أبي عن جدّي يبلغ به فاطمةعليها‌السلام على هذه الحكاية ، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدّ أبي العيناء ، وقد حدّث الحسين بن علوان ، عن عطية العوفي ، أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام (٣).

ورواها ـ أي الخطبة ـ أيضا الشيخ الصدوق في العلل بأسانيد متعددة عن :

أ ـ ابن المتوكل (٤) عن السعدآبادي ، عن البرقي ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أحمد بن محمّد بن جابر عن زينب بنت عليّ عليهما‌السلام (٥).

ب ـ عن علي بن حاتم ، عن محمّد بن أسلم ، عن عبد الجليل الباقطاني ، عن الحسن بن موسى الخشّاب ، عن عبد الله بن محمّد العلوي ، عن رجال من أهل بيته ، عن زينب بنت عليّعليهما‌السلام عن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام (٦).

__________________

(١) ابن عائشة : عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي ، نسبة إلى عائشة بنت طلحة ، توفي سنة ٢٢٨ ه‍.

(٢) الشافي ج ٤ / ٧٠.

(٣) الشافي ج ٤ / ٧٦.

(٤) هو محمد بن موسى.

(٥) بحار الأنوار ج ٢٩ / ١٠٦ ح ٥٢ نقلا عن علل الشرائع للصدوق.

(٦) نفس المصدر.


ج ـ عن علي بن حاتم ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن عمارة ، عن محمد بن إبراهيم المصري ، عن هارون بن يحيى ، عن عبيد الله بن موسى العبسي ، عن حفص الأحمر ، عن زيد بن علي ، عن عمته زينب بنت عليّ عن السيّدة فاطمة عليها‌السلام (١).

وكذا رواها بنفس السند المتقدم الشيخ المفيد في الأمالي (٢) ، وكذا السيّد ابن طاوس في كتاب الطرائف بسند آخر (٣).

كما رواها الشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج وأرسلها إرسال المسلمات كما هي عادته في الكتاب ، ونحن هنا نوردها بتمام ألفاظها.

عن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام : أنه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها‌السلام فدكا وبلغها ذلك ، لاثت خمارها (٤) على رأسها ، واشتملت بجلبابها (٥) ، وأقبلت في لمّة (٦) من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها (٧) ، ما تخرم (٨) مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت (٩) دونها ملاءة ، فجلست ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) اللوث : الطي والجمع ، والخمار بالكسر : المقنعة ، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى.

(٥) الاشتمال بالشيء : جعله شاملا ومحيطا لنفسه ، والجلباب : الرداء والإزار.

(٦) لمّة : جماعة.

(٧) الذيول : الأثواب الطويلة ، فكانت تستر قدميها بحيث تطأ ذيولها.

(٨) الخرم بضم الخاء : النقص.

(٩) نيطت : علقت ووصلت ، والملاءة : الريطة والإزار.


أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها فقالت :

الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في الفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيّته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلّا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته ، وتعبّدا لبريّته ، وإعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة (١) لهم إلى جنّته.

وأشهد أن أبي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها (٢) ، وجلى عن الأبصار غممها (٣) ، وقام في الناس

__________________

(١) حاش الإبل : جمعها وساقها.

(٢) بهمها : مشكلاتها.

(٣) الغمم : جمع غمة وهي الشيء الملتبس.


بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم ، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار ، فبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تعب هذه الدار في راحة ، قد حفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه على الوحي ، وصفيّة وخيرته من الخلق ، ورضيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت :

أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأمم ، زعيم حق له فيكم وعهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبط به أشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ، مؤدّ إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزّا للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبرّ الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام [منساة في العمر و..] منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس ، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة إيجابا للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية. (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١)

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٢.


وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١).

ثم قالت : أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقول عودا وبدءا ولا أقول ما أقول غلطا ولا أفعل ما أفعل شططا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

فإن تعزوه (٣) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزّى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبلّغ الرسالة ، صادعا بالنذارة (٤) ، مائلا عن مدرجة المشركين ، ضاربا ثبجهم (٥) ، آخذا بأكظامهم (٦) ، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسّر الأصنام ، وينكث إلهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتى تفرّى (٧) الليل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق (٨) الشياطين ، وطاح وشيظ (٩) النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص (١٠) ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة (١١) الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام (١٢) ، تشربون الطرق (١٣) وتقتاتون القدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٨.

(٢) سورة التوبة : ١٢٨.

(٣) تعزوه : تسندوه.

(٤) الصدع : الإظهار ، والنذارة بالكسر : الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.

(٥) الثبج : وسط الشيء ومعظمه.

(٦) الكظم بالتحريك : مخرج النفس من الحلق.

(٧) تفرّى : انشق حتى ظهر وجه الصباح.

(٨) شقاشق جمع شقشقة بالكسر وهي : شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج.

(٩) طاح : هلك ، والوشيظ السفلة والرذل من الناس.

(١٠) الخماص : نقي البطن عن الحرام.

(١١) نهزة الطامع : الفرصة أي محل نهزته.

(١٢) قبسة العجلان : مثل في الاستعجال. وموطئ الأقدام : مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.

(١٣) الطرق : بالفتح ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر. وبهم الرجال : شجعانهم.


يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اللتيا والّتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (١) ، أو نجم قرن (٢) للشيطان وفغرت فاغرة (٣) من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها (٤) ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها (٥) بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدود في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّد أولياء الله ، مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون (٦) الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون عند القتال.

فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة (٧) النفاق ، وسمل (٨) جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فينق (٩) المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم (١٠) فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٤.

(٢) نجم بالفتح : ظهر ، وقرن الشيطان : أمته وتابعوه.

(٣) فغرفاه : أي فتحه ، والفاغرة : جماعة أو طائفة.

(٤) لهوات : جمع لهات : وهي اللحمة في أقصى الفم.

(٥) الصّماخ : خرق الأذن وقيل هو الأذن نفسها ، والأخمص : ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض.

(٦) تتوكفون : تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا.

(٧) حسيكة : العداوة.

(٨) سمل : صار خلقا.

(٩) الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ، والفينق المكرم من الإبل لا يركب ولا يهان.

(١٠) أحمشكم : حملكم على الغضب.


ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١).

فهيهات منكم! وكيف بكم؟! وأنى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم؟ أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

ثم لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبيّ الصفي ، تسرّون حسوا في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ، ووخز السنان في الحشا وأنتم تزعمون الآن أن لا إرث لنا (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٣) ، بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته ، أيها المسلمون أأغلب على إرثي؟!

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٤) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه‌السلام (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٥).

وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٦).

__________________

(١) سورة التوبة : ٤٩.

(٢) آل عمران : ٨٥.

(٣) سورة المائدة : ٥٠.

(٤) سورة النمل : ١٦.

(٥) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٦) سورة الأنفال : ٧٥.


وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١).

وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢).

وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا إرث من أبي! ولا رحم بيننا! أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أم هل تقولون : إن أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!

فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (٣). (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤). ثم رمت بطرفها نحو الأنصار ، فقالت :

يا معشر النقيبة ، وأعضاد الملّة ، وحضنة الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي يقول : «المرء يحفظ في ولده» ، سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون مات محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فخطب جليل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الرحمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم ، هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم.

__________________

(١) سورة النساء : ١١.

(٢) سورة البقرة : ١٨٠.

(٣) سورة الأنعام : ٦٧.

(٤) سورة الزمر : ٣٩ ـ ٤٠.


(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

إيها بني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصّلاح ، والنجبة التي انتجبت ، والخيرة التي اختيرت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الأمم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ، (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢). ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوّغتم.

(إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣) ، ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القنا ، وبثة الصدر ، وتقدمة الحجّة ، فدونكموها ، فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله (الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٤) ، فبعين الله

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٢) سورة التوبة : ١٣.

(٣) سورة ابراهيم : ٨.

(٤) سورة الهمزة : ٦ ـ ٧.


ما تفعلون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا فإنا عاملون انتظروا فإنا منتظرون.

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان فقال :

يا ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رءوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما ، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخا لبعلك دون الأخلّاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد ، ولا يبغضكم إلا كلّ شقي ، فأنتم عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عدوت رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا عملت إلّا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وإني أشهد الله وكفى به شهيدا إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضّة ولا دارا ولا عقارا وإنّما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة الفجّار وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرّد به وحدي ، ولم استبدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا نزوى عنك ولا ندّخر دونك ، وأنت سيدة أمة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا ندفع ما لك من فضلك ، ولا نوضع من فرعك وأصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك؟.

فقالت عليها‌السلام : سبحان الله ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتاب الله صادقا ولا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.


لأحكامه مخالفا ، بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، وناطقا فصلا ، يقول : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (١) ، (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٢) فبيّن عزوجل فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشرّع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين ، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٣).

فقال أبو بكر : صدق الله وصدق رسول الله وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجّة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما قلّدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبدّ ، ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود. فالتفتت فاطمة عليها‌السلام إلى الناس وقالت :

معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اغتصبتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلا ، وغبّه وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ورائه الضرّاء ، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون. ثم عطفت على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم وقد نكبوا

__________________

(١) سورة مريم : ٦.

(٢) سورة النمل : ١٦.

(٣) سورة يوسف : ١٨.

(٤) سورة محمّد : ٢٤.


وكل أهل له قربى ومنزلتي

عند الإله على الأدنين مقترب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الترب

تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا

لما فقدت وكل الأرض مغتصب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فقد فقدت فكلّ الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما مضيت وحالت دونك الكثب

إنّا رزينا بما لم يرز ذو شجن

من البريّة لا عجم ولا عرب (١)

ثم انكفأت عليها‌السلام وأمير المؤمنين عليه‌السلام يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلما استقرّت بها الدار ، نسب إليها أنها قالت لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

[يا ابن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الضنين نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي ، وبلغة (بليغة) ابني ، لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألدّ في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها ، والمهاجر وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، أضرعت خدّك يوم أضعت حدّك ، افترست الذئاب ، وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلا ، ولا خيار لي ، ليتني متّ قبل هينتي (هنيئتي) ، ودون زلّتي ، عذيري الله منك عاديا ، ومنك حاميا.

ويلاي في كل شارق ، مات العمد ، ووهن العضد ، شكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربّي ، اللهمّ أنت أشدّ قوة وحولا ، وأحدّ بأسا وتنكيلا.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا ويل عليك ، بل الويل لشانئيك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقيّة النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعدّ لك أفضل ممّا

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٣١ ـ ١٤٥ ، وبحار الأنوار ج ٢٩ / ١٠٧ ـ ١١٥ والشافي في الإمامة ج ٤ / ٧٠ ودلائل الإمامة للطبري ص ٣٣.


قطع عنك ، فاحتسبي الله ، فقالت : حسبي الله ، وأمسكت] (١).

أقول :

إن هذه الخطبة الجليلة من ذخائر بيت الوحي ، حافظ عليها رجالات الشيعة عامة ، والعلويون منهم خاصة ، يحرصون على روايتها لما فيها من حجج دامغة تثبت ظلامة الصدّيقة الشهيدة الزهراء وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام عند مناوئيهم ، بحيث لم تترك مجالا لأولئك الظلمة الذين بلغوا الذروة في باطلهم وتهالكهم على جمع الحطام ، واضطهادهم ذرية نبيهم وتماديهم على الضلالة ، وقد طفحت الكتب من الفريقين بذكرها واشتبكت الأسانيد على نقلها. «ومن استشف حقائقها ، وألمّ بها إلمامة صحيحة لا يشك في أنها تنهدات الصدّيقة الحوراء وأنها نفثة مصدور وغضبة حليمة لا تجد مندوحة من الأصحار بالحقيقة حيث بلغ السكين المذبح فصبتها في بوتقة البيان لتبقى حجة بالغة مدى الأحقاب تعريفا للملإ الديني في الحاضر والغابر محل القوم من الفظاظة والحيف المفضيين إلى عدم جدارتهم لمنصب الخلافة وبعدهم عن مستوى الإمامة ومباينتهم للحق.

على أن جملها شاهدة فذّة على إثبات نسبتها إلى ابنة الرسالة لما فيها من إلماعة ضوء النبوة ونشرة من عبق الإمامة ونفحة من نفس الهاشميين مداره الكلام وأمراء البلاغة» (٢).

وأمّا ما ورد في الفقرة الأخيرة فإنّا نشك بصحة صدورها عن الصدّيقة الطاهرة وذلك للملاحظات التالية :

أولا : شدة التوبيخ الصادر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مع علمها بعصمته وكونه مأمورا من الله تعالى على لسان رسوله الكريم بعدم حمل السلاح لدفع القوم إلّا بعد إتمام العدّة وهي أربعون رجلا ، مما يستلزم صدور العبث والجهل منها ـ

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٤٥ وبحار الأنوار ج ٢٩ / ١١٥.

(٢) وفاة الصدّيقة الطاهرة / المقرّم ص ٧٨.


حاشاها روحي فداها ـ وقد دفعه المولى عزّ اسمه عنها. مضافا إلى أن صدور ذلك منها يعدّ اعتراضا على أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه حيثما دار ، وهي على علم بذلك كلّه.

ثانيا : الدعاء على نفسها بالويل والثبور ، ولا نتصوّر أن مؤمنا يدعو على نفسه بالويل الذي لا يعرف مداه إلّا الله تعالى ، فإذا لم يعقل هذا بحق المؤمن فكيف بمن هي سيّدة المؤمنين والتي طهّرها الله في محكم التنزيل؟!

ثالثا : اتهام أمير المؤمنين لزوجه الصدّيقة بأنها أرادت البلغة من فدك لتحصيل الرزق ووعظه لها بأن رزقها مضمون وما اعدّ لها خير وأفضل مما قطع عنها ، وكل ذلك مخالف لمسلكها في الزهد والتقى ، وخلافا لسيرتها الطاهرة في إيثار الفقراء على نفسها حتى نزلت فيها آيات ، مضافا إلى مخالفة ما ذكر لمبدإ العصمة الذي حباها المولى عزّ اسمه به ، من خلال هذه القرائن نطمئن إلى عدم صحة صدورها من الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لمخالفتها لصريح الكتاب الكريم القائل بطهارتها وقداستها ، ونحن مأمورون من قبل أئمتنا عليهم‌السلام بعرض أخبارهم على كتاب الله فإن كان موافقا له نأخذ به وإلّا فلا ـ حسبما تقتضيه قواعد الترجيح في أصول الفقه وعلم الكلام. نعم يمكن أن نأخذ بهذه الفقرة إذا أمكن تأويلها بما يتناسب وأصول عقيدتنا ، بحيث لا تخالف ما ذكرنا آنفا ، وعليه فيمكننا القول إن الفقرة المذكورة خطاب من الصدّيقة الطاهرة لأمير المؤمنين عليهما‌السلام والمقصود غيره من تلك الأمة النائمة والخانعة التي حنثت بعهدها إلى أمير المؤمنين عليّ في غدير خم وأمثالها من المواقع التي أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها الميثاق على هذه الأمة بنصرة وليّ الله الأعظم وزوجه الصدّيقة فاطمة صاحبة الدلالات والآيات الباهرات والحجة على من في الأرض والسماء.

وبعبارة أخرى : لقد أرادت مولاتنا الصدّيقة الشهيدة من خلال تلك العبارات اللاذعة استنهاض تلك الثلة التي اشتملت شملة الجنين فسمعت الحقّ وتغافلت عن نصرته ، كما أرادت ـ فديتها بنفسي ـ فديتها بنفسي ـ أن تشعل فيهم ثورة الغضب على الباطل ،


وتأجّج فيهم شعلة الإيمان واليقين بالعترة الطاهرة ، فكان خطابها كخطاب القرآن الكريم لرسول الله من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).

وبالجملة فإن الخطبة الشريفة قصمت ظهور القوم وبدّدت أحلامهم ، فكان من أبي بكر أن تجرأ على الصدّيقة الطاهرة بكلام ينمّ عن عدم اعتقاد بما نزل بحقها من قرآن ، ولا بما كان يكنّه النبيّ لها من احترام.

فكان ردّه عليها لاذعا قال ـ حسبما ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ـ :

أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فليتكلم ، إنما هو ثعالة شهيدة ذنبه ، مربّ (١) لكل فتنة ، هو الذي يقول : كرّوها جذعة (٢) بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ، ويستنصرون بالنساء ، كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي!! ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إني ساكت ما تركت.

ثم التفت إلى الأنصار ، فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، وأحقّ من لزم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا إني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل ، فانصرفت «الصدّيقة» فاطمة عليها‌السلام إلى منزلها.

ثم قال ابن أبي الحديد : قلت للنقيب أبي يحيى بن أبي زيد البصري : بمن يعرّض؟

فقال : بل يصرّح ، قلت : لو صرّح لم أسألك.

فضحك ، وقال : بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قلت : هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله؟

__________________

(١) مرب : ملازم.

(٢) الجذعة : الصغير من الغنم وهنا كناية عن الفتنة.


قال : نعم ، إنه الملك يا بنيّ! قلت : فما مقالة الأنصار؟

قال : هتفوا بذكر عليّ فخاف من اضطراب الأمر عليه فنهاهم.

فسألته عن غريبه ، فقال :

أما الرعة ـ بالتخفيف ـ اي الاستماع والإصغاء.

والقالة : القول.

وثعالة : اسم الثعلب ، علم غير مصروف ، ومثل ذؤالة للذئب ، وشهيدة ذنبه : أي لا شاهد له على ما يدّعي إلا بعضه وجزء منه وأصله مثل ، وقالوا : إن الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب ، فقال : إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك وكنت حاضرا ، قال : فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم ، وكان الأسد قد افتقد الشاة ، فقبل شهادته ، وقتل الذئب.

ومربّ : ملازم ، اربّ بالمكان.

وكرّوها جذعة : أعيدوها إلى الحال الأولى ، يعني الفتنة والهرج.

وأم طحال : امرأة في الجاهلية ، يضرب بها المثل ، فيقال : أزنى من أم طحال (١).

روى الشيخ جمال الدين في الدر النظيم : أنّ أم سلمة زوجة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمعت ما جرى للسيّدة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ردت على أبي بكر فقالت :

ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول؟!

هي ـ والله ـ الحوراء بين الإنس ، والنفس للنفس ، ربّيت في حجور الأتقياء ، وتناولتها أيدي الملائكة ، ونمت في حجور الطاهرات ، ونشأت خير نشأة ، وربيت

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٧.


خير مربى ، أتزعمون أن رسول الله حرّم عليها ميراثها ولم يعلمها ، وقد قال الله تعالى :

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١).

أفأنذرها وخالفت مطلبه؟ وهي خيرة النسوان وأمّ سادة الشبان ، وعديلة مريم ، تمّت بأبيها رسالات ربه ، فو الله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ ، ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله ، رويدا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمرأى منكم ، وعلى الله تردون ، واها لكم ، فسوف تعلمون.

قال : فحرمت عطاؤها تلك السنة (٢).

ولا يمكنني إلّا أن أتجاهر بالحق وأصدع به : إن التجاسر على سيدة نساء العالمين وبضعة رسول رب العالمين سببه كفر هؤلاء وعدم اعتقادهم برسول الله ، وإلا لو كانوا مؤمنين بالله وبرسوله لكان عليهم مراعاة من قال عنه نبيّ الرحمة «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار» و «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» ، ولا عجب أن يصدر من أبي بكر كلام كهذا وقد صدر منهما ما هو أعظم حينما اعتديا عليها باقتحام دارها وكسر ضلعها ورفسها على بطنها!!

ونصيحتي للأتباع أن يفتحوا قلوبهم على الحقيقة ، فلا ميزة للصحابي عن غيره من المسلمين إلّا بمقدار ما يتقي الله في حلاله وحرامه ، فليست الصحبة معيارا للإيمان ودخول الجنان ، كما ليست من اللوازم الذاتية لثبوت الإسلام ، بل الاعتقاد والعمل الصالح هما الميزان قال تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣).

والنتيجة :

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢١٤.

(٢) الصدّيقة فاطمة من المهد إلى اللحد / القزويني ص ٥٠٥.

(٣) سورة العصر.


لقد كفر أبو بكر بسبب ستة أمور هي القدر المتيقن :

١ ـ ادّعى الخلافة لنفسه.

٢ ـ اعتداؤه على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام وضربها وكسر ضلعها وأسقط جنينها واسمه محسن عليه‌السلام.

٣ ـ تغييره لأحكام الإسلام.

٤ ـ تكذيبه للسيّدة الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ولأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وردّ شهادته وولديه الإمامين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة كما في الحديث المتواتر بين الفريقين ، وقد طهّرهم الله تعالى في محكم قرآنه.

٥ ـ نفى العصمة عنها ، ومن نفى العصمة عمّن طهّره الله فقد كفر بما نزل على رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ ادّعى كذبا على رسول الله أن الأنبياء لا يورّثون ، ويعتبر هذا ردا لحكمه تعالى ، وإبطالا له ، ومن أبطل حكم الله عزوجل فقد كفر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون) (١).

وقد حكّمت الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بينها وبين أبي بكر القرآن الكريم فلم يرض ، وقد قال الله بحق من لم يرض بحكمه :

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة البقرة : ٢١٣.

(٣) سورة آل عمران : ٢٣.


(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢).

لقد دعته الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام إلى الله ورسوله فأبى :

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا)(٣).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٥).

لقد استهزأ أبو بكر بكلام السيدة فاطمة وأمير المؤمنين وولديهما وشيعتهما أمثال أسماء بنت عميس وأم أيمن وأم سلمى وغيرهما وقد قال الله عن المستهزئين :

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(٦).

من هذا المنطلق هجرته (٧) الصديقة الزهراء ولم تكلّمه بل أوصت أن تدفن

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٥.

(٢) سورة المائدة : ٤٧.

(٣) سورة النور : ٥١.

(٤) سورة النساء : ٦٥.

(٥) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٦) سورة النساء : ١٤٠.

(٧) اتفق على رواية هجرانها لأبي بكر عامة المؤرخين ، لاحظ شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠ ، والإمامة والسياسة للدينوري.


سرا حتى لا يشاركا المؤمنين بالصلاة عليها استنكارا عليهما.

وقد أبطلت مولاتنا الصدّيقة الطاهرة كلام أبي بكر وفنّدته من أساسه ، ومما قالت :

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه‌السلام إذ قال ربّ (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢).

وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٣).

وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٤).

وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٥).

ثم قالت : وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا إرث من أبي! أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟! أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!

وهكذا مضت مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام تفنّد له مقالته بندا بندا وهو ساكت لا يمكنه الجواب على سليلة الطهر والكرامة.

لقد أبطلت عليها‌السلام دعواه التي هي عكس قانون الوراثة والتوارث بين الأنبياء ، أما كان داود وابنه سليمان من الأنبياء؟!.

__________________

(١) سورة النمل : ١٦.

(٢) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٣) سورة الأنفال : ٧٥.

(٤) سورة النساء : ١١.

(٥) سورة البقرة : ١٨٠.


لقد أشارت سيّدة الطهر عليها‌السلام على أبي بكر أن معنى قوله تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) هو إرث المال ، وهكذا فهم أبو بكر وجميع المسلمين آنذاك وهم يستمعون إلى خطبة الصدّيقة الشريفة فاطمة عليها‌السلام ، ومعنى ذلك أن سليمان ورث أموال أبيه داود ، ولم يفهموا غير هذا ، وهذا الكلام له دلالاته في اللغة العربية ، إذ إن كلمة «إرث» عند ما تطلق يتبادر منها معناها الحقيقي ، إلّا إذا جاءت قرينة صارفة عن معناها الحقيقي إلى آخر مجازي.

فحينما طلب زكريا من الله عزوجل أن يرزقه غلاما يرثه بالمال حرصا من أن يرثه الفسّاق من أقاربه ، وليس المراد من الإرث وراثة العلم لأن الله قادر أن يهب العلم ليحيى من دون استعانة بزكريا أو بآل يعقوب (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فزكريا لم يطلب من الله أن يرزقه ولدا يرث العلم من آل يعقوب بل أراد إرث المال.

قد يقال : إن زكريا أراد إرث النبوة بمعنى أن يرثه بالنبوة.

قلنا : إن النبوة لا تورّث ، فمن كان قادرا على إيهاب النبوة على زكريا قادر على إيهابها من دون تعلّم أو تعليم.

ودعوى أن سليمان ورث داود بالعلم لا بالمال ، وكذا يحيى ورث زكريا بالعلم لا المال مردودة بما يلي :

أولا : إن لفظ الإرث والميراث يستعمل شرعا وعرفا ولغة في المال ، فإذا قلنا : إن زيدا ورث عمروا ، فالظاهر منه أنه ورثه بالمال ، لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة ، إلّا إذا كانت هناك قرينة كما قلنا آنفا تدل على إرث العلم والمعرفة كقوله تعالى :

(وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (١).

__________________

(١) سورة غافر : ٥٣.


فالكتاب قرينة على أن الإرث هو المعرفة هنا لا المال ، وكذا قوله تعالى :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (١).

وكذا قوله تعالى :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٢).

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٣).

ثانيا : إنّ الوراثة لسليمان عليه‌السلام ويحيى من داود وزكريا هو إرث المال لا العلم لأن سليمان كان نبيا في حياة أبيه داود حسبما قصّ علينا القرآن الكريم في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٤).

وورد في تفسير قوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٥) إن النبيّ سليمان ورث من أبيه داود ألف فرس حينما أصابها النبيّ داود من العمالقة (٦) ، وهي الجياد استعرضها سليمان مسرورا بها.

فسليمان ورث أباه داود تلك الخيول والأفراس وغيرها من الأموال التي تركها داود ، فثبت بهذا أن سليمان ورث أباه بالمال لا بالعلم.

ودعوى الآلوسي في تفسيره «بأن الأنبياء لا يورّثون لحديث رواه أبو بكر محتجا به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم» (٧) مردودة عليه وذلك :

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٣٧.

(٣) سورة الشورى : ١٤.

(٤) سورة الأنبياء : ٧٩.

(٥) سورة ص : ٣١.

(٦) بحار الأنوار ج ١٤ / ١٠٢ ومجمع البيان ج ٨ / ٢٧٦ وتفسير الكشاف للزمخشري ج ٤ / ٨٨.

(٧) روح المعاني ج ١٣ / ٢٨٠.


١ ـ لأن الخبر الذي رواه أبو بكر هو خبر واحد ولا حجية في أخبار الآحاد لا سيّما الصادر منه لكونه غير مأمون على الدين والدنيا.

٢ ـ أن الخبر مشكوك الصدور يصادم العمومات القرآنية القطعية الصدور ، فكيف يقدّم المشكوك على المقطوع؟!

٣ ـ أن الآلوسي يكذّب الإمام عليّا والسيّدة الزهراء عليهما‌السلام وجلة الصحابة أمثال سلمان وجابر وأم سلمى وأسماء بنت عميس وغيرهم ممن وقفوا مع أمير المؤمنين ، أوليس هؤلاء من الصحابة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم؟!!

إذن وراثة سليمان لداود مالية ، وأما وراثة يحيى لزكريا فكانت مالية أيضا لا علمية لأن علوم الأنبياء لدنية إفاضية لا اكتسابية تحصيلية كما تشير إلى ذلك النصوص القرآنية كقوله تعالى :

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١).

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢).

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٣).

(وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٤).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) (٥).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٦).

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٣.

(٢) سورة البقرة : ٨٧.

(٣) سورة النساء : ٥٤.

(٤) سورة النساء : ١٦٣.

(٥) سورة الأعراف : ١٧٥.

(٦) سورة يوسف : ٢٢.


(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢).

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٣).

هذا مضافا إلى أنه لا معنى لدعاء زكريا لكي يهبه ولدا يرثه بالعلم ، وقد أفاض الله عزوجل على يحيى الحكم صبيا ، بمعنى أن زكريا لم يطلب ولدا ليورّثه العلم والنبوة لأنهما مما لا يورثان بل يفاضان من الله تعالى على صاحبهما ، فلا يمكن حينئذ لزكريا أن يهب النبوة أو العلم لابنه يحيى ، مع التأكيد على أن قول زكريا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٤).

فقد طلب زكريا وارثا لأجل خوفه من أن يرثه الموالي الفسقة من بين إسرائيل ، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم ، لأنه عليه‌السلام كان أعلم بالله عزوجل من أن يخاف أن يبعث الله نبيا من ليس أهلا للنبوة ، وأن يورّث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ، لأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟!!

إشكال وحل :

كيف تقولون إن زكريا طلب ولدا ليرثه بالمال ، أليس في هذا إضافة البخل إليه؟

قلنا : معاذ الله أن يطرق إلى ساحته بخل ، وإنما طلب الولد ليرثه حرصا منه

__________________

(١) سورة الكهف : ٦٥.

(٢) سورة مريم : ١٢.

(٣) سورة الأنبياء : ٧٤.

(٤) سورة مريم : ٣ ـ ٦.


أن يظفر الفسّاق وأهل الفساد بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي ، وطلبه هذا في غاية الحكمة ، فإن تقوية الفسّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين.

توضّح بما تقدّم أنّ قانون الوراثة عام يشمل الأنبياء وغيرهم ، ولم يرد بدليل معتبر تخصيصه ، فيبقى العام سار بعمومه من دون تقييد أو تخصيص.

هذا بالإضافة على أن آيات الإرث عامة ، ولو كان هناك ما يوجب التخصيص بالرسول ، لكان على الرسول أن يعلمه ويخبر ابنته بذلك ، مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخبرها ولا غيرها من الناس بهذا الحكم الخاص ، وهل من المعقول أن يخفي رسول الله هذا الحكم عن ابنته الزهراء عليها‌السلام مع شدة اتصالها به وكثرة تعلّقها به وتعلّقه بها ، وشدة الحاجة إلى بيان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبيها؟

وكيف يطلع أبو بكر ابنته عائشة على ذاك الحديث الذي سمعه من النبيّ ، أو أنها سمعت النبيّ يقول لأبيها «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» ، ولم يطلع النبيّ ابنته الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام هذا الحديث مع علمه بما سيجري عليها من الاضطهاد والتكذيب وغير ذلك؟!!

وزبدة المخض :

يرد على أبي بكر ما يلي :

أولا : إنّ العمومات القرآنية كقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١).

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢) (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (٣).

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٤) وغيرها من الآيات

__________________

(١) سورة النمل : ١٦.

(٢) سورة مريم : ٥.

(٣) سورة النساء : ١١.

(٤) سورة الأحزاب : ٦.


تكذّب الحديث المزعوم الذي اختلقه أبو بكر بلفظين ، الأول قوله : إنّا معشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة (١).

والثاني قوله : إنّا معشر الأنبياء لا نورّث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا لكنّما نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنة (٢). ثم ادّعى أنه سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنما هي طعمة اطعمناها الله ، فإذا متّ كانت بين المسلمين (٣).

وفي خبر آخر عنه : أن الله أطعم نبيّه (٤) طعمة ثم قبضه ، وجعله للذي يقوم بعده ، فوليت أنا بعده (٥) ، على أن أرده على المسلمين.

فهذه العمومات يدخل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من المسلمين الذين يورّثون أبناءهم ، لا سيّما وأنه قدوة لغيره في توريث أولادهم ، وقد ورّث رسول الله نساءه الحجرات اللاتي كن يسكن فيها ، وقد تبرعت عائشة بسهمها وسهم غيرها من دون إذنهن لكي يدفن فيه أبو بكر وعمر بن الخطّاب ، فمن عجائب الدهر أن تدفع مولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من دعواها وتمنع من فدك بقولها وقيام البيّنة على ذلك وتترك حجر أزواج النبيّ في أيديهن من غير بيّنة ولا شهادة.

ودعوى «أن الأنبياء فقراء لا يملكون شيئا» مردودة : لما ثبت من سيرة

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ٦٦ ح ١٧٥٨ وفروعه.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٧.

(٣) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) ملاحظة : قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ١٦ / ٣٥٠ : في هذا الحديث عجب ، لأنها قالت له : أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موروث يرثه أهله وهو خلاف قوله لا نورّث. وأقول : بل مخالف لقوله : إن الله أطعم نبيّه طعمة فإذا مت كانت بين المسلمين. ونحن نسأل : لما ذا لم يطعم أبو بكر شيعة الزهراء حينما طالبته بحقها ، أليست من المسلمين حتى منعها هذه الطعمة؟! أم لئن منعه منها لأجل شيء كان في نفس أبي بكر وصاحبه عمر؟!!


بعضهم كداود وسليمان وزكريا ، هذا مضافا إلى أن الوراثة تكون حتى بالأشياء الحقيرة الثمن كالعمامة والثوب والعصا والخاتم وما شبههم ، فلا مجال للقول إن هذه الأشياء يرثها من الآباء ، الأنبياء الأجانب عنهم دون الأولاد.

ثانيا : لقد اعترف بعض علماء العامة (١) أن أبا بكر اغتصب من الصدّيقة الطاهرة أرض فدك ، ومنعها من حقها من الخمس وسهمها من خيبر ، مع وجود إجماع على أن فدكا لم يوجف عليها بخيل أو ركاب ، فهي ملك خاص لرسول الله ، وقد نص على ذلك علماؤهم لا سيّما الطبري (٢) منهم ، فإذا كانت ملكا خاصا لرسول الله ـ وقد كانت كذلك ـ فكيف جاز لأبي بكر شرعا وعقلا وعرفا أن يجعلها من صدقات النبيّ؟!

ثالثا : إنّ الخبر المزعوم «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث» خبر واحد ، لم يعرف أحد من الصحابة موافقة أبي بكر على نقله ، وقد تفرّد أبو بكر بنقله ، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل (٣) ـ حسبما جاء عن عمر بن الخطاب ردّا على الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام عند ما جاءتهما بالشهود ـ فكيف يعارض ـ أي هذا الخبر ـ الكتاب الكريم المقطوع الصدور؟! فالحديث غريب ، لأن المشهور أنه لم يروه إلا أبو بكر وحده (٤) ، بل قام الإجماع على عدم صحته ، والخارج عن الإجماع شاذ لا يعبأ به.

__________________

(١) كابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ، والسمهودي في تاريخ المدينة ، والحلبي في السيرة ، والرازي في تفسيره ، وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ، وقال الأخير في تاريخه ج ٥ / ٢١٨ بعد عرضه لما جرى على السيّدة الزهراء : «هجرت فاطمة أبا بكر فلم تكلّمه حتى ماتت ؛ وهذا الهجران فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا وجهلا طويلا ، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله ، وقبلوا منه عذره ، ولكنهم طائفة مخذولة ، وفرقة مرذولة ، يتمسكون بالتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ..» لقد اعترف بأن الصدّيقة الزهراء ماتت وهي غضبى على أبي بكر ولكنّ للخليفة المزعوم مبرراته ، وعلى الآخرين أن يقبلوها ويسلّموا لها بنظره!!

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٣٠٦ ، ط / الأعلمي وشرح النهج ج ١٦ / ٣٤٤.

(٣) البحار ج ٢٩ / ٩٤.

(٤) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٢.


وبعبارة أوضح :

لو دار الأمر بين محتمل الصدور ـ عدا عن كونه مقطوع عدم الصدور ـ وبين مقطوع الصدور ، يقدّم الثاني بلا تردد ، وما فعله العامة هو أنهم قدّموا الاحتمال على القطع ، حفظا لماء وجه أبي بكر وتلميعا لصورته.

وزبدة المقال :

إن آية الإرث والرواية المزعومة متعاكستان ، وكل ما عارض الكتاب فهو زخرف ، وساقط عن الاعتبار وغير حجة ، ولم سلّمنا صدور الحديث المزعوم من النبيّ فلم بيّنه لغير ورثته وأخفاه عمّن يرثه؟ ولو كان الحديث صحيحا عند عترة النبيّ التي يدور الحق معها حيثما دارت لم يمسك أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام سيف رسول الله وبغلته وعمامته ، وقد احتج عليه‌السلام بهذه الأمور على القوم مشيرا عليهم أنه أحق بابن عمه من غيره.

فلو كان الحديث معروفا عند هؤلاء الأعاظم لم يجز لهم كتمانه.

وعلى فرض صحة الحديث فلم لم يصادر أبو بكر الأشياء الخاصة برسول الله كعمامته ودابته وحذائه وسيفه تطبيقا للحديث المزعوم «لا نورّث ما تركناه فهو صدقة» فهذه الأشياء مما تركها رسول الله فكان على الخليفة أن يصادرها لتوزع على الفقراء والمساكين ، هذا بالإضافة إلى حجرات النبيّ ، كان الواجب على أبي بكر أن يصادرها ويوزّعها على الفقراء ويحرم أن يطلب الإذن من عائشة لتسمح له بأن يدفن في حجرتها!!

قد يقال : إن رسول الله دفع دابته وحذاءه ولوازمه الخاصة إلى الإمام عليّ عليه‌السلام بعرضة (١) أن ترث زوجته الزهراء من أبيها ، فأهدتهم السيّدة الزهراء للإمام عليه‌السلام لكون هذه الأشياء من مختصات الرجال.

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٤.


قلنا : هذا صحيح ثبوتا لو لا النصوص الدالة على أن الإمام عليا ورث النبيّ بهذه الأشياء لكونه الخليفة الحق بعد رحيل النبيّ حسبما جاء في النصوص (١) الكثيرة من أن الإمام يرث الرسول في متعلقاته الخاصة والصحائف السماوية ، فقد ورد في صحيحة أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :

ترك رسول الله في المتاع سيفا ودرعا وعنزة (٢) ورحلا وبغلته الشهباء فورث ذلك كله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

رابعا : إن خلفاء بني أمية وبني العبّاس فهموا من فدك أنها ملك للصدّيقة الزهراء روحي فداها ، لذا كان السابق يرجعها إلى ورثة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من أولادها ، ثم إذا جاء اللاحق استردها منهم.

روى أبو بكر الجوهري عن محمّد بن زكريا عن ابن عائشة قال : «... لمّا ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفّان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن عليّ عليه‌السلام فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز ، فلمّا وليّ عمر بن عبد العزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردّها ، دعا الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقيل : بل دعا الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فردّها عليه ، وكانت بيد أولاد فاطمة عليها‌السلام مدة ولاية عمر بن عبد العزيز ، فلمّا وليّ يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها ، حتى انتقلت الخلافة منهم ، فلمّا ولي أبو العبّاس السّفاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها أبو جعفر لمّا حدث من بني الحسن ما حدث ، ثم ردّها المهدي ابنه على ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثم قبضها موسى بن المهدي وهارون

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٢٣٤ باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله ومتاعه.

(٢) العنزة : رميح بين العصا والرمح ، والرحل : مركب البعير.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٢٣٤ ح ٣.


أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتى وليّ المأمون ، فردّها على الفاطميين (١).

قال أبو بكر الجوهري : حدّثني محمّد بن زكريا قال : حدّثني مهدي بن سابق ، قال : جلس المأمون للمظالم ، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى ، وقال للذي على رأسه : ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه درّاعة وعمامة وخفّ ثغري ، فتقدم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ، ثم أمر أن يسجّل لهم بها ، فكتب السجلّ وقرئ عليه فأنفذه ، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله بيده ، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها ، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ...» (٢).

خامسا : إن أبا بكر طلب من الصدّيقة الزهراء البيّنة فجاءته بها وقد ردّها ، مع أن البيّنة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي ، ألا ترى إنّ العدالة معتبرة في الشهادات لكونها مؤثرة في غلبة الظن ، ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة ، لأن علمه أقوى من الشهادة ، ولهذا كان الإقرار أقوى من البيّنة من حيث كان أبلغ في تأثير غلبة الظن ، وإذا قدّم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدّم العلم على الجميع ، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي ، فلا يحتاج أيضا ـ مع العلم ـ إلى ما يؤثر الظن من البيّنات والشهادات.

ويدل على صحة ذلك ما شهده خزيمة بن ثابت على بيع جرى بين رسول الله

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٩ و ٣٩٠.

(٢) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٩.


وأعرابي ، مع أن خزيمة لم يكن حاضرا حال البيع ، ولكنه شهد على صدق النبيّ من حيث كونه نبيا مرسلا ومعصوما مسددا ، فجعل النبيّ شهادته بمثابة شهادتين ، فسمي خزيمة بذي الشهادتين ، وهذه قصة مشهورة مشابهة لقضية مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ، فإذا كانت شهادة خزيمة بمثابة شهادتين من حيث علمه أن النبيّ لا يقول إلّا حقا لمكان عصمته وطهارته ولم يدفعه عن الشهادة من حيث لم يحضر ابتياعه ، كذا شهادة مولاتنا الزهراء بطريق أولى ، حيث كان يجب على من علم أن السيّدة فاطمة لا تقول إلّا حقا ، ألّا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بيّنة.

سادسا : كيف يجوز أن يكون الخبر المزعوم صحيحا وأزواج النبيّ لا يعلمن ذلك ، حتى وكّلوا عثمان بن عفان في المطالبة بحقوقهنّ (١) ، ولا يعرف العبّاس ـ حسبما جاء في بعض النصوص ـ حتى تنازع مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في الميراث ، وكل ذلك يدل على بطلان الخبر.

ومن كان له شيطان يعتريه ـ كما صرّح هو بذلك ورواه عامة المؤرّخين ـ فإن استقام أعانوه وإن زاغ قوّموه ، كيف يؤمن عليه من تلفيق الأحاديث على رسول الله القائل بما معناه : كثر عليّ الكذّابون ، ألا فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

وفي الختام أقول : إن مولاتنا الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تسلم من بعض صحابة أبيها ، فلاقت منهم الظلم والاستبداد ، وما يؤسفنا أن إتباع السلف نمّقوا لهؤلاء الصحابة أفعالهم ، بحجة أنّ الصحابة لا يخطأون ، وكأن الصحبة ملازمة للعصمة ، فسبحان الذي وهب العقول ، ولكنّ أصحابها لا يعقلون!!

فعلى الأتباع سلوك طريق الحق المتمثّل بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي قال عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني وأنا منك» (٢) ، ولا يكون كمن

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٣.

(٢) رواه البخاري ، باب فضائل الإمام علي عليه‌السلام.


يجمع بين الأضداد ، فيصدق عليهم قول الشاعر (١) :

أهوى عليا أمير المؤمنين ولا

أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا

ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا

بنت النبي ولا ميراثها : كفرا

الله يعلم ما ذا يحضران به

يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

النقطة الثالثة :

ونتطرق فيها إلى بعض الشبهات الراجعة إلى اغتصاب فدك من الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام.

الشبهة الأولى :

مفادها : إنّ الإمامية اتهموا أبا بكر بوقوفه بجانب ابنته عائشة حيث لم يطلب منها البيّنة على سكناها في الحجرة ، وكذا حجر أزواج النبي ، في حين طلبها من الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، والسبب يرجع في ذلك أن الحجر كانت لهنّ ، لأن الله تعالى نسبها إليهنّ بقوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) (٢).

والجواب :

لا ملازمة بين القرن بالبيوت وبين ملكيتها ، فالقرن بالبيوت أعم من الملك ، وذلك إن هذه الإضافة لا تقتضي الملك ، بل العادة جارية فيها بأنها تستعمل من جهة السكن ، ولهذا يقال: هذا بيت فلان ومسكنه ، ولا يراد بذلك : الملك ، وقد قال الله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (٣) ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون فيها زوجاتهم ، ولم يرد به : إضافة الملك.

__________________

(١) قال ابن الصبّاح : قال لي أبو الحسن : أتقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر؟ قلت : نعم ، قال : كذاك هو ، لاحظ شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٩.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٣) سورة الطلاق : ١.


قد يقال : قد روي إن النبيّ قسّم الحجر بين نسائه وبناته ، والتقسيم دلالة الملكية.

قلنا : من أين العلم أن القسمة تستلزم التمليك دون الإسكان والإنزال؟ ولو كان قد ملّكهنّ ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهودا ، ودعوى «أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ترك أزواج النبيّ في حجرهن ولم يطالبهنّ بالميراث» مدفوعة بأن تركه الحجرات في يد الأزواج لمثل ما ترك المطالبة بفدك حرصا على أن لا يعقب ما هو أعظم منه.

الشهبة الثانية :

إذا كان أبو بكر قد حكم بخطإ في دفع الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام عن الميراث ، واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ، ولم تنكر عليه ، وفي رضاهم وإمساكهم دليل على صوابه (١).

والجواب :

١ ـ إن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا.

وبعبارة أخرى : لا ملازمة بين ترك النكير والرضا ، فقد يكون عدم النكير لتقية أو خوف أو مصلحة أهم.

٢ ـ أن النكير قد كان واقعا من السيّدة فاطمة عليها‌السلام ، ويشهد لهذا خطبتها القاصعة ، وهجرانها لأبي بكر إلى أن ماتت ، ووصايتها بأن لا يصليا عليها ودفنها ليلا.

٣ ـ وكما قال الجاحظ في كتابه «العبّاسية» : [لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ، أنّ تركهم ـ أي الصحابة ـ النكير على المتظلمين منهما والمحتجبين

__________________

(١) تلخيص الشافي لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ج ٣ / ١٥٠.


عليهما والمطالبين لهما دليل على صدق دعواهم ، أو استحسان مقالتهم ، ولا سيّما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة وظهرت الحسيكة واشتدت الموجدة ، وبلغ ذلك من فاطمة عليها‌السلام أنها أوصت ألّا يصلّي عليها أبو بكر ، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة لرهطها : من يرثك إذا متّ يا أبا بكر؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، وجنح في أمرها ، وعاينت الهضم وأيست من النزوع ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعونّ الله عليك.

فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعها ، إنّ في ترك النكير على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام دليلا على صواب طلبها ، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن الخطأ ـ حاشاها من كل ذلك ـ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا وتقطع واصلا ، فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا ، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم] (١).

الشبهة الثالثة :

كيف يظن بأبي بكر أنه ظلم السيّدة فاطمة عليها‌السلام وتعدى عليها ، في حين كلما ازدادتعليها‌السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث تقول : «والله لا أكلمك أبدا» فيقول : «والله لا أهجرك أبدا» ، ثم تقول : «والله لأدعونّ الله عليك» فيقول : والله لأدعونّ الله لك» ثم يتحمل منها هذا القول الغليظ والكلام الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، ما حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك من أن يعتذر إليها متحننا عليها بقوله : ما أحد أعزّ عليّ منك فقرا ولا أحب إليّ منك غنى (٢).

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٣ / ١٥١ نقلا عن العثمانية للجاحظ ، بشيء من التصرف.

(٢) نفس المصدر.


والجواب :

١ ـ إن الشّيخين أجادا استعمال لعبة شد الحبل ، فواحد يشد ويقسو وآخر يلين ويتراخى ، وهذه لعبة الساسة الذين يمررون مشاريعهم تحت عناوين لا تمت إلى الواقع بصلة ، فيكذبون ويماكرون في سبيل تحقيق مشتهياتهم الرخيصة.

٢ ـ إن أسلوب اللين والرقة ـ لو صحت نسبة ذلك إلى أبي بكر ـ ليس دليلا على براءته من الظلم وسلامته من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر ـ إذا كان أريبا وللخصومة معتادا ـ أن يقلب الحقائق على المظلوم أمام الناس ، فيظنون أن الظالم بريء ، والمظلوم أو المنتصف ظالما ، وهذا نوع مكر ودهاء لا رقة وحنان!.

٣ ـ لينه ورقته ـ بحسب ما أفادت هذه الدعوى ـ يتعارض مع خشونته لها بالقول بعد إيرادها الخطبة حسبما ذكره النقيب أبو يحيى بن أبي زيد البصري وقد تقدمت مقالته آنفا ، مضافا لخشونته عليها بسياطه التي هوت على جسدها الطاهر من قبل عمر وخالد وبعض جلاوزته ، وفي هذه الحال لا يبقى مجال لدعوى اللين والرّقة بالقياس إلى شناعة ما صدر منه اتجاهها فديتها بنفسي.

الشبهة الرابعة :

لو كانا ـ أي أبو بكر وعمر ـ ظلماها فلم أمسك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما ـ وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ النصوص ولو كانا ـ كما يقولون وما يصفون ـ ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلها فيه ، وحيث لم يثبوا عليهما دل ذلك على صلاحهما؟

والجواب :

إن إمساك الصحابة عن خلعهما مع ما ارتكبا من جحد التأويل ورد النصوص ليس مفاده صحة أفعالهما ، بل لأنّ بعضهم لم يعرف حقائق الحجج ، بل أكثرهم


ارتدّ عن الإسلام بسبب تركهم لمولى الأنام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، من هنا لم يحاربهم عليه‌السلام خوفا من تعنتهم وشدة تصلّبهم ، فيتقوى المشركون على بلاد الإسلام وهو مما لا تحمد عقباه. وبعض الصحابة الموالين لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قد استنكروا على خلفاء الجور آنذاك ، ولكنّ هذا الإنكار لم يصل إلى المستوى المطلوب في عملية التغيير ، لا لضعف عند هؤلاء بل لعدم توفّر السّبل الأخرى التي هي شرط في عملية التغيير ، منها وجود النخبة الصالحة من القواعد الشعبية الموالية ، فقلة الأنصار سبب في سكون هؤلاء وعدم خروجهم على اولئك الذين يملكون كل عناصر الإرهاب الفكري والعسكري ، مع وفرة المؤيدين لهم والمناصرين لخطهم ، وهذه طريقة السفهاء في كل عصر ومكان.

الشبهة الخامسة :

إنّ خطأ أبي بكر تماما كخطإ أبوينا آدم وحواء عليهما‌السلام حيث أزلهما الشيطان عن الجنّة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (١) فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه ، فلم عذرتم ـ أيّها الشيعة ـ فعل آدم ولم تعذروا فعل أبي بكر.

والجواب :

لا يقاس خطأ أبي بكر بما صدر من أبينا النبيّ آدم عليه‌السلام ، فقياس الأول على الثاني قياس مع وجود فارق ، إذ إنّ خطأ أبي بكر عبارة عن شيطنة مع إطاعة ، فأبو بكر أخبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جارية ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ويزيّن له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ، ووجه يتضاعف معه الثواب.

وأما قوله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) فإن معناه : أن أبوينا آدم وحواء عليهما‌السلام كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها ، ولم يكن ذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٦.


عليهما واجبا لازما ، لأن الأنبياء عليهم‌السلام لا يخلّون بالواجب ، فوسوس لهما الشيطان حتى تركا المندوب إليه من الامتناع من تناول الشجرة ، وحرما أنفسهما بذلك الثواب ، فسماه الله إزلالا ، لأنه حط لهما عن درجة الثواب ، وفعل الأفضل ، وأما قوله تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فلا ينافي هذا التأويل ، لأن المعصية قد يسمى بها من أخلّ بالواجب والندب معا ، وقوله «فغوى» أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه. وعليه فإن معصية آدم مجازية لا يستحق عليها ذما ولا عقابا ، فأين هذا من قول أبي بكر مخبرا عن نفسه «بأن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار» فكيف يسوّى بينه وبين ما لا يستحق عليه عقاب ولا يثبت عليه ذم ، وهو يجري مجرى المباح من حيث إنه لا يؤثر في حال فاعله.

قد يقال : إنما قال أبو بكر ذاك القول على نحو الخشية والإشفاق لا الحقيقة والحال.

قلنا : إن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك ، ألا ترى أنه قال : «إن لي شيطانا يعتريني» وهذا قول من تلبّس فيه الشيطان فهو ملازم له في ليله ونهاره ، ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف لكان قال «إني لا آمن من كذا وإني لمشفق منه».

هذه أهم النقاط في الطعن العاشر الوارد في أبي بكر بن أبي قحافة أثرتها ابتغاء إجلاء الحقيقة وكشف القناع عن ماهية الخليفة المزعوم ، وهناك طعون أخرى أعرضنا عن ذكرها خوف ملل القارئ.

كما أن هناك طعونا على نظيره عمر بن الخطاب أهمها :

الطعن الأول :

ما روته العامة والخاصة ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد في مرضه أن يكتب لأمته كتابا لئلا يضلوا بعده ولا يختلفوا ، فطلب دواة وكتفا أو نحو ذلك ، فمنع عمر من إحضارهما ، وقال إنه ليهجر!! أو ما يؤدي هذا المعنى ؛ حسبما ادّعى العامة ـ وقد


وصفه الله بأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) ، وأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، وكثر اختلافهم وارتفعت أصواتهم ، فتسأمّ الرسول منهم وتضجّر. وها نحن نورد بعض الشواهد على هذا الطعن هي :

١ ـ ما رواه البخاري كشاهد على حديث الهجر بعدة طرق في أماكن متفرقة من كتابه ، عن سعيد بن جبير سمع ابن عباس يقول :

يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى ، قلت : يا ابن عبّاس ما يوم الخميس؟

قال : اشتدّ برسول الله وجعه فقال : «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ، فقالوا : ما له؟ أهجر؟ استفهموه ، فقال : ذروني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، فأمرهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، والثالثة إما أن سكت عنها ، وإما أن قالها فنسيتها (٢) ، قال سفيان : هذا من قول سليمان.

٢ ـ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس ، قال :

لمّا اشتدّ بالنبيّ وجعه قال : «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا أو كثر اللغط ، قال النبيّ : قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ؛ فخرج ابن عبّاس يقول : إن الرّزيئة كلّ الرّزيئة ما حال بين رسول الله وبين كتابه (٣).

٣ ـ وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال :

__________________

(١) سورة النجم : ٣.

(٢) صحيح البخاري مجلد ٣ / ٣٩٩ ح ٣١٦٨ ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ، والثالثة التي نسيها الراوي هي أمر النبيّ بحفظ أهل بيته عليهم‌السلام ونصرتهم. ورواه في باب جوائز الوفد حديث رقم ٣٠٥٣.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٤٥ ح ١١٤ ، باب كتابة العلم.


لمّا حضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النبيّ : «هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» فقال عمر : إن النبيّ قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قرّبوا يكتب لكم النبيّ كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ ، قال رسول الله : «قوموا» ، قال عبيد الله ، وكان ابن عبّاس يقول : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١).

٤ ـ وعن ابن عبّاس قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله وجعه فقال : «ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه أهجر؟ استفهموه! فذهبوا يردّون عليه ، فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصاهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين .. (٢).

٥ ـ عن الزّهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال :

لمّا حضر النبيّ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : «هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ ، قال : قوموا عني.

قال ابن عبّاس : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ / ١١ ح ٥٦٦٩ باب قول المريض قوموا عنّي.

(٢) نفس المصدر ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ و ٤٤٣٢.

(٣) صحيح البخاري ج ٧ / ٥١٨ ح ٧٣٦٦ وصحيح مسلم ج ١١ / ٨٠ ح ١٦٣٧ و ١٦٣٨.


وقد روى خبر الهجر مسلم في صحيحه بثلاثة طرق ، باب : ترك الوصية.

وقد ذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم كلاما ليس لله فيه رضى ، نعرضه على القارئ الكريم ليكون على إلمامة بما يلبّسه القوم من حقائق ، من أجل رفعة الشيخين ، حتى لو أدى هذا الرفع إلى توهين مقام رسول الله الشاهد على الأمة ، والذي كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى ، قال :

«حين اشتدّ وجعه ـ أي النبيّ ـ قال : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله يهجر ، وفي رواية قال عمر بن الخطّاب : إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، ثم ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر وأنه لمّا أكثروا اللغو والاختلاف ، قال النبيّ : «قوموا». اعلم أن النبيّ معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه ، ومعصوم من ترك بيان ما ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه وليس معصوما من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته ، وقد سحر (صلى الله عليه (١)) حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ولم يصدر منه (صلى الله عليه) وفي هذا الحال كلام من الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها ، فإذا علمت ما ذكرناه ، فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي همّ النبيّ به ، فقيل : أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معيّن لئلا يقع نزاع وفتن ، وقيل : أراد كتابا يبيّن فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه ، وكان النبيّ همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول ، وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في

__________________

(١) قال النبيّ كما ورد في مصادر العامة : لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء ، قيل : وما البتراء؟ قال : تقولون : اللهم صل على محمد وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ / ٢٢٣ نقلا عن الصواعق المحرقة ص ٨٧.


شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب (صلى الله عليه) أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها ، فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه.

ثم حكى عن البيهقي أنه قال : وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم أنه (صلى الله عليه) أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله ذلك ، كما همّ بالكتاب في أول مرضه حين قال : وا رأساه ثم ترك الكتاب ، وقال : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة.

ثم قال : وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصا أو دلالة ، وفي تكلف النبي في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة ، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصا أو دلالة تخفيفا عليه ..» (١).

وقال الخطابي :

«ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال ، لكنّه لما رأى ما غلب على رسول الله من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين ، وقد كان أصحابه يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم

__________________

(١) شرح النّووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ باب ٥ كتاب الوصية.


الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش. فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم ، قال : وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه ، وقد أجمعوا كلّهم على أنه لا يقر عليه ، قال : ومعلوم أنّه وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزّهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية ، وقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظنّ به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبيّن حقيقته ، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر» (١).

يرد على النّووي ما يلي :

أولا : نسب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قد سحر حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ، معنى هذا أن السحر يؤثر في ذات الرسول محمّد الذي جعله الله رحمة للعالمين وحجة على الخلائق أجمعين.

وفحوى كلامه أنّ أمر الرسول لهم بإتيان الدواة والكتف كان نتيجة خيال كالسحر حيث يخيل إلى المسحور بعض الأمور التي لا واقع لها.

وقد روى مفسرو العامة أن رجلا يهوديا سحر النبيّ فأتاه جبريل بالمعوذتين وقال له : إنّ رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان فأرسل الإمام عليا عليه‌السلام فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبيّ كأنما نشط من عقال (٢).

فحاصل المرويات عندهم : أن الرسول أصيب بسحر بعض اليهود ، ومرض على أثر ذلك ، ثم أخبره جبرائيل أن آلة السحر موجودة في بئر ، فأرسل من يخرجها ، ثم تلا سورة الفلق فتحسنت صحته.

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٧.

(٢) تفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٦ / ٧١٦ سورة الفلق.


ويدفعه :

١ ـ أن السورة مكية ، ومجابهته لليهود إنما كان في المدينة ، فتسقط هذه المرويات عن الحجية والاعتبار ، هذا بالإضافة إلى ضعف أسانيدها ، وعدم موافقة مداليلها للكتاب الكريم.

٢ ـ لو كان السحر يفعل بجسم النبيّ ما فعله لأمكن أن يؤثّر في روحه أيضا ، وتكون أفكاره بذلك لعبة بيد السحرة ، وهذا يزلزل مبدأ الثقة بالنبيّ ، مع أن النبيّ مصون من تأثير السحر ، كيف؟ وقد ردّ القرآن الكريم على اولئك الذين اتهموه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه مسحور ، إذ يقول : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(١).

قد يقال : إن المراد من قوله «مسحورا» فاسد العقل بالسحر ، وأما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه ـ حسبما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي ـ (٢).

قلنا : إن هذا مدفوع بإطلاق كلمة «مسحورا» الشامل للسحرين : العقلي والجسمي ، ولا قرينة معتبرة دالة على التقييد ، والاعتماد على نصوص ضعيفة أكثرها من مصادر العامة مشكل شرعا ، هذا بالإضافة إلى كونها تمسّ بقدسية مقام النبوة ، ولا يعتمد عليها في فهم الآيات.

٢ ـ لو كان اليهود بمقدورهم أن يفصلوا بسحرهم ما فعلوه بالنبيّ حسبما جاء في بعض هذه المرويات لاستطاعوا أن يصدوه عن أهدافه بسهولة عن طريق السحر ، والله سبحانه قد حفظ نبيه كي يؤدي مهام النبوة والرسالة (٣).

فما ادعاه العامة من تأثر النبيّ بالسحر حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء

__________________

(١) سورة الفرقان : ٨ ـ ٩.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ / ٣٩٤.

(٣) تفسير الأمثل ج ١٠ / ٥١١.


ولم يكن فعله ، ليثبتوا صحة مقالة عمر بن الخطاب ، لا دليل عليها ولا برهان ، بل هي افتراء وبهتان عليه صلوات الله عليه وآله ، لكون السحر لا يؤثّر في جسده المبارك حيث من فاضل طينته خلق الله النبيين والأولياء والمرسلين والشيعة من الملائكة والمؤمنين ، فمن كان هذا حاله كيف يؤثر فيه السحر ، علاوة على عقله وروحه الذي من أجله أثاب وعاقب. وهل يؤمن على الرسالة من أثّر فيه السحر والشعوذة؟!

وعلى فرض أنّ السحر أثّر في جسده المبارك ـ وفرض المحال ليس محالا ـ فهل يؤثّر على أقواله وأفعاله؟

إن قلنا إنه يؤثّر ، لصار تابعا غير متبوع وبطل حينئذ كونه قدوة وأسوة حسنة ، وخلاف قوله تعالى (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤).

ثانيا : إنّ ما ذكره النّووي وأمثاله «من الاعتلال بأنّ عمر بن الخطاب لشدة فقاهته ودقة نظره رأى أن الأوفق بالأمة ترك البيان ، ليكون المخطئ مأجورا ، وأنه خشي من أن يكتب الرسول أمورا يعجزون عنها ، فيستحقون العقوبة بعصيانهم لها» مردود جملة وتفصيلا وذلك :

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة النساء : ٦٥.


١ ـ إن دعواه تلك تستلزم أن يكون عمر بن الخطاب أفقه وأعلم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن النبيّ أراد أن يكتب فمنعه عمر لمصلحة الإشفاق على الأمة ، وهذا هو الفسق بعينه والخروج عن ربقة الإيمان ، لأن هذا الكلام يعدّ ردا على الله عزوجل القائل :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

٢ ـ إن دعوى النّووي تلك تجيز الناس منع الرسول عن تبليغ الأحكام ، وكان الأحرى أن لا يبعث الله الرسل إلى الخلق ويكلّفهم بالتكاليف الشاقة واحتمال العذاب في تبليغ الأحكام ، ويترك الناس حتى يجتهدوا فيحصلوا على الأجر نتيجة اجتهادهم ، وهذا خلاف ما قامت عليه الضرورة وشهد به الوجدان من أن الاجتهاد متعسر على عامة الأفراد ، وعليه فإن تعذّر الاجتهاد وتعسّر على عامة الأفراد فلا أجر حينئذ لكونه ـ أي الأجر ـ يدور مدار الاجتهاد ، وهذا عكس ما دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية من أن الأجر على النية الحسنة والعمل الصالح.

هذا مضافا إلى أن تحمّل النبيّ للمشاق في هداية الأمة أعظم وأشد من تسطير الكتاب الذي لم يكن مبدأه ، فكيف لم يشفق عمر على النبيّ في شيء من

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ٦٥.

(٣) سورة النساء : ٨٠.

(٤) سورة النساء : ١١٥.


المواضع إلّا فيما فهم أن المراد تأكيد النص على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ كما لا ريب أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشفق على نفسه وأعلم بحاله من عمر بن الخطاب ، قال تعالى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣).

وأما الخوف من أن يكتب أمرا يعجز الناس عنه ، فلو أريد به الخوف من أن يكلّفهم فوق الطاعة ، فقد ظهر له ولغيره بدلالة العقل قوله تعالى :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٤) وبغيره من الأدلة النقلية أن رسول الله لا يكلّف أمته إلّا دون طاقتهم.

ولو أريد الخوف من تكليفهم بما فيه مشقة ، فلم لم يمنع عمر وغيره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن فرض الحج والجهاد والصيام؟!

يرى عمر بحسب هذا الفهم أن كثيرا من الناس يعصون الله ورسوله في الأوامر الشاقة ، وعليه فإنه أراد أن يخفّف عن الأمة فغيّر وبدّل في أحكام الله وفرائضه ، فحرّم المتعتين وحيّ على خير العمل وغيرها من الأحكام تسهيلا على الأفراد ورفعا للمشقة عن أنفسهم ، وكأنه أرأف بهذه الأمة من الله ورسوله وأعرف

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٨.

(٢) سورة الحجرات : ٧.

(٣) سورة الحجرات : ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢٨٦.


بدينه منهما ، وصدق عزوجل حيث قال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

وأما المشقة البالغة التي تعدّ في العرف حرجا وضيقا وإن كان دون الطاقة ، فقد نفاه الله تعالى بقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

وعن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا شرائع نوح .. والفطرة الحنيفية السمحة» (٣) ولا بدّ لكل عاقل أن يسأل ؛ كيف فهم عمر بن الخطاب من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي» أنه أراد أن يكتب لهم ما يعجزون عن القيام به؟! وأي ملازمة بين هذا الاعتذار وبين قوله «أنه قد غلبه الوجع» أو أنه ليهجر؟!! وهل يجوّز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب رأي من وصفه الله سبحانه بالخلق العظيم ، وبعثه رحمة للعالمين؟!

وأما ما ذكره من أن عمر علم أنه تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فيرد عليه أيضا :

أنه لو كان المراد بكمال الدين ما فهمه عمر للزم استغناء الناس عن الرسول ، وعدم احتياجهم إليه بعد نزول الآية في حكم من الأحكام ، ومفاد الآية تماما كوصيته (عليه وآله أفضل التحية والسلام) بالتمسك بالكتاب والعترة ، حيث لا دلالة فيه على أنه لم يبق أمر مهم للأمة أصلا حتى تكون الكتابة التي أرادها النبيّ لغوا وعبثا ، ويصح منعه عنها ، وقد كان المراد من الكتابة تأكيد الأمر باتّباع الكتاب والعترة الطاهرة الحافظة له ، والعالمة بما فيه على وجهه ، خوفا من ترك الأمة الاعتصام بهما ، فيتورّطون في أودية الهلاك ، ويضلوا كما فعل كثير منهم وضلوا عن سواء السبيل.

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٦.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

(٣) أصول الكافي ج ٢ / ١٧ ح ١.


ولو فرضنا أن مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرا وراء ذلك ، فليس هذا الاعتذار إلّا التزاما للمفسدة وقولا بأن النبيّ حاول أن يكتب عبثا لا فائدة فيه أصلا ، وكان قوله «لا تضلوا بعده أبدا» هجرا من القول وهذيانا محضا ، ولو كانت الوصاية بالعترة كافية فلم لم يتمسك عمر بعد النبيّ بها ، ولا رآهم أهلا للخلافة ولا للمشورة فيها ، فترك الرسول والعترة عليهم‌السلام وسارع إلى سقيفة بني ساعدة لعقد الخلافة لأبي بكر؟!

ثالثا : لقد ادّعى النّووي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله ذلك.

لكنه مرفوض وذلك لأنه :

لو كان ما ذكره النووي صحيحا فلم قال عمر «حسبنا كتاب الله» في حين أن عمر نفسه خطط لاستلام أبي بكر الخلافة ، بل يمكننا القول إن عمر هو الرأس المدبّر لذلك (١) ، من هنا أفصح أمير المؤمنين عن هوية تحرّك عمر لأخذ البيعة لأبي بكر من جموع الصحابة ، فقال عمر بن الخطاب للإمام علي عليه‌السلام : «إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال عليه‌السلام :

احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا ، ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه» (٢).

فمن يجرّ الأمر لنفسه لا يرفض أمر النبيّ بكتابة الكتاب ، ثم أنه نفسه النووي يروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف أبا بكر على الأمة عند ما قدّمه في الصلاة ، ومعناه أن المسلمين ـ بحسب هذا الادّعاء الموهوم ـ كانوا على علم تام بأن أبا بكر هو الخليفة ، فعلام إذا الخلاف عليه بعد وفاة النبي؟ ولما ذا منعوا النبيّ من تسطير الكتاب ليؤكد على خلافة أبي بكر؟!!

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في الشرح ج ١ / ١٣٥ : أن عمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها ..

(٢) الإمامة والسياسة ص ٢٩ فصل تخلّف سعد بن عبادة عن البيعة.


شبهات وردود

الشبهة الأولى :

المراد من الهجر هو الإنكار على من قال : [لا تكتبوا أي لا تتركوا أمر رسول الله وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه .. وكذا قول عمر «رض» : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى الله عليه] (١).

أو يحمل قول عمر بن الخطاب «اهجر» «أيهجر» على الدهشة والحيرة لعظم ما شاهد من حال الرسول وشدة وجعه ، فأجري الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد جواز الهجر عليه بمعنى الهذيان أو الغلط. أورد هذه الشبهة العيّاض المالكي في كتابه الشفاء.

والجواب :

أولا : ما تأوّله القاضي عيّاض ليس إلّا تمحّلا واضحا بحاجة إلى قرينة صارفة وهي مفقودة هنا ، بل دلت القرائن الخارجية على أن عمر هو القائل لا غيره ، منها تخلّفهم عن جيش أسامة وقد لعنهم الرسول بسبب ذلك ، ومنها ظلمهم للصدّيقة الطاهرة من أجل الاستيلاء على الخلافة ، كل ذلك يشير إلى أن القائل هو عمر ، ولو كان سواه لوجب على عمر أن يلبّي أمر رسول الله بإحضار الدواة والكتف ليكتب النبيّ ما أراده ، فعدم إحضاره للدواة أو عدم استنكاره ـ على أقل تقدير ـ على من حال بين النبيّ وبين كتابة الكتاب يستلزم القول بتفرده بتلك المقالة القبيحة تشكيكا برسول الله وبما سيئول إليه الكتاب ، ولو لم يكن هو القائل ـ أي عمر ـ لكان أحضر الكتاب ليفضح من استنكر على رسول الله أمره بإحضار الدواة.

ثانيا : سواء حملنا «الهجر» على الدهشة والحيرة من قائله أو على نحو الاستفهام فإن المعنى واحد وهو نسبة الهذيان ، وقد اعترف بذلك ابن حجر مع

__________________

(١) شرح النّووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٨.


شدة تعصّبه في مقدمة شرحه لصحيح البخاري.

وما رواه البخاري في باب العلم صريح في أنّ عمر نسب إلى النبيّ أنه قد غلبه الوجع ، ومعناه : لا يلزمنا إجابته في إحضار الكتاب لأنه يهذي». وعبارة «ما له أهجر استفهموه» هي نفس عبارة «قد غلبه الوجع» فمفاد العبارتين واحد ، ومعلوم من سياق الأخبار : أن اللّغط والاختلاف لم يحصلا إلّا من قول عمر ، وإنّ ترك النبيّ الكتابة إمّا أن يكون من جهته لكون عمر آذى النبيّ وأغاظه ، وإمّا لأنهم منعوا من إحضار الدواة ، وكلاهما يشكّلان علة تامة في عدم الكتابة.

ودعوى الاعتذار بأنّه صدر منه هذا الكلام من الدهشة تعتبر باطلة ، لأنه لو كان كذلك لكان يلزمه أن يتدارك ذلك بما يظهر للناس أنه لا يستخف بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى أن عمر لو كان في هذه الدرجة من المحبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يضطرب بسماع ما هو مظنّة وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حدّ يختل نظام كلامه ، لكان حاله أشد اضطرابا بعد تحقق الوفاة ، ولو كان كذلك لم يبادر إلى السقيفة قبل تجهيزه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغسله ودفنه ، ولو سلم ذلك فهو لا ينفعه لأن مناط اللعن مخالفة أمر الرسول وممانعته فيما يوجب صلاح عامة المسلمين إلى يوم القيامة.

الشبهة الثانية :

أن عمر ونظائره فهموا أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحضار ما طلب كان راجعا إلى اختيارهم أي فهموا منه الندب أو الإباحة ولم يستظهروا منه الوجوب.

يرد عليه :

إنه ظاهر الفساد ، وذلك لأن الأمر ظاهر في الوجوب كما حرّر في علم الأصول ، ويشهد له أنه قد اقترن به في المقام ما يمنع من أن يراد به الندب والإباحة ، فإنّ النبيّ علّل الكتاب بأن لا يضلّوا بعده ، والظاهر أن الأمر الذي يكون في تركه ضلال الأمة لا يكون مباحا ولا مندوبا ، وليس مناط الوجوب إلّا قوة المصلحة في الفعل وشدة المفسدة في الترك ، وقد علّل من منع الإحضار بأنه يهجر


أو أنه قد غلبه الوجع ، وظاهر هذا الكلام عدم ارتباطه بمفهوم الإباحة أو الندب ، ويؤيده قول ابن عبّاس مع اعتراف الجمهور له بجودة الفهم وإصابة النظر : إن الرّزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين الكتابة.

وهل يسمّى فوت أمر مباح أو مندوب رزية كلّ الرزيّة ، ويبكي عليه حتى بلّ دمعه الحصى ، ولا ينكر من له أدنى ألفة بكلام العرب ، أنهم يكتفون في فهم المعاني المجازية ونفي المعاني الحقيقية بقرائن أخفى من هذا ، فكيف بالمعنى الحقيقي إذا اقترن بمثل تلك القرينة؟!

على أن اشتغال الرسول [في حال المرض وشدة الوجع ودنو الرحيل ، وفراق الأمة التي بعثه الله تعالى بشيرا ونذيرا لهم] بكتابة ما كان نسبة الخير والشر إليه على حد سواء حتى يكون ردّه وقبوله مفوّضا إليهم وراجعا إلى اختيارهم ، مما لا يقول به إلّا من بلغ الغاية في السفه.

وإن كان على وجه الندب فظاهر أن ردّ ما استحسنه الرسول وحكم به ولو على وجه الندب ، وظنّ أن الصواب في خلافه وعدّه من الهذيان ، تقبيح قبيح لرأي من لا ينطق عن الهوى ، وتجهيل وتضليل لمن لا يضلّ ولا يغوى ، وليس كلامه إلا وحيا يوحى ، وهو في معنى الردّ على الله سبحانه ، وعلى حدّ الشرك بالله ، ولعلّ المجوّزين للاجتهاد في مقابل النص ولو على وجه الاستحباب لا يقولون بجواز الردّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الوجه المشتمل على إساءة الأدب وتسفيه الرأي.

الشهبة الثالثة :

لو سلّمنا أن أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحضار ما طلب كان على وجه الإيجاب والإلزام للخوف ـ لو ترك الكتابة ـ من ترتب مفسدة عظيمة هي ضلال الأمة ، فكيف تركها رسول الله ولم يصر على الطلب؟ أليس هذا تقصيرا في هداية الأمة واللطف بها؟!

والجواب :

١ ـ كيف يصرّ على الطلب وقد تنازعوا عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قال : «قوموا عني» ،


فلما رأى من حال الحاضرين أمارة العصيان ؛ وشاهد منهم إثارة الفتنة وتهييج الشر ، خاف من أن يكون في الوصية وتأكيد التنصيص على من عيّنه الله للإمامة ، وجعله أولى الناس من أنفسهم في غدير خم ، أمارة على تعجيل الفتنة بين المسلمين ، وتفريق كلمتهم ، فيتسلط بذلك الكفّار وأهل الرّدة عليهم ، وينهدم أساس الإسلام ودعائم الإيمان ، وذلك لأن الراغبين في الإمامة والطامعين في الملك والخلافة قد علموا من مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباره تصريحا وتلويحا في عدة مواقف بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دنا أجله ، ولا يبرأ من مرضه ، فوطّنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين بأنه لو كتب الكتاب وأكّد الوصيّة بأنه على وجه الهجر والهذيان ، فيصدّقهم الذين في قلوبهم مرض ، ويكذّبهم المؤمنون بأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، فتقوم فيهم المحاربة والقتال وينتهي الحال إلى استئصال أهل الإيمان وظهور أهل الشرك والطغيان ، فاكتفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّه يوم الغدير وغيره.

وقد بلّغ الحكم وأدّى رسالة ربه كما أمره بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ والرسالة ، وإنما منعت طائفة من الأمة لشقاوتهم ذلك الفضل ، وسدّوا باب الرحمة ، فضلّوا عن سواء الصراط وأضلّوا كثيرا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢).

٢ ـ إن القوم لم يتركوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجالا كي يكتب تلك الوصية ، ويشهد له ما رواه ابن عبّاس من أن الرزية كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين الكتابة.

فهناك من حال ومنع من كتابة الكتاب ، والمانع هو عمر بن الخطّاب وجماعته ، حيث سيطروا على الموقف لعلمهم أن أمير المؤمنين لن يدافعهم لكونه

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.


موصى ولقلة أنصاره ، ولا يصح دفعهم ، والحال أن النبيّ على فراش الموت مما يسبّب أذية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن آذاه فقد آذى الله تعالى.

وقد يكون السكوت أهم من حيث كونه اختبارا للأمة وامتحانا لها ، إذ كان من اللازم على المسلمين أن يرغموا أنف من منع وصول الدواة والكتف إلى رسول الله ، ولمّا فشلوا في ذلك ، ثم تأكد فشلهم عند ما وقفوا على الأطلال يتفرّجون على بضعة الرسول كيف كان يضربها عمر وخالد وقنفذ ، أبعد هذا يقال إن النبيّ لم يصر على الطلب وقد فشلوا في نصرته ودفع الضّيم عنه وأهل بيته ـ وكان يعلم بما سيئول إليه أمرهم ـ لقد سقط المسلمون آنذاك في مخالب الشيطان ، ألا في الفتنة سقطوا.

قد يقال : إن النبيّ كفّ عن الطلب لما رأى من صواب قول عمر بن الخطاب.

قلنا : ليس في الكلام ما يدل على تصويب رأي عمر ، فإن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المستفيض : «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» صريح في الغيظ والتأذي بتلك المخالفة.

وهل يجوّز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب رأي من وصفه الله بالخلق (١) العظيم والشاهد (٢) على الأمة؟!!

الشبهة الرابعة :

إن قوله «حسبنا كتاب الله» يدل على أنه لا خوف على الأمة من الضلال بعد كتاب الله في حكم من الأحكام وإلّا لم يصح أن يستند إليه عمر في منع كتابة ما أراده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصرّح بتعيينه ، ولعلّ ما أراد النبيّ كتابته هو بيان ما يرفع الاختلاف في أمته.

__________________

(١) كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم : ٤.

(٢) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) الأحزاب : ٤٥.


والجواب :

١ ـ إن كلام عمر يعتبر ردا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يستلزم الإنكار والكفر ، لأن الراد عليه راد على الله تعالى واستخفاف به.

هذا مضافا إلى أن مقدار الآيات التي يستنبط منها الأحكام يتراوح ما بين الخمسمائة آية إلى السبعمائة ، وليست كلها في الظاهر مدركا لكثير من الأحكام ، وليس دلالتها على وجه يقدر على استنباط الحكم منها كل أحد ، ولا يقع في فهمه اختلاف بين الناس حتى ينسدّ باب الضلال.

ومن راجع كلام المفسرين علم أنه ليس آية إلّا وقد اختلفوا في فهمها واستخراج الأحكام منها على أقوال متضادة ووجوه مختلفة ، والكتاب يشتمل على ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ، وظاهر ومأوّل ، وعام وخاص ، ومطلق ومقيّد وغير ذلك مما لا يصيب في فهمه إلّا الراسخون في العلم المعصومون من الزيغ والضلال ، ومن ذلك يعلم أن غرض النبيّ من طلب الكتاب لم يكن إلا لتعيين الأوصياء إلى يوم القيامة ، لأنه إذا كان كتاب الله عزوجل بطوله وتفصيله لم يرفع الاختلاف بين الأمة فكيف يتصور في مثل هذا الوقت منه إملاء كتاب يشتمل على أسطر قلائل يرفع الاختلاف في جميع الأمور عن الأمة ، إلّا بأن يعيّن في كل عصر من يرجعون إليه عند الاختلاف ، ويرشدهم إلى جميع مصالح الدين والدنيا ، ويفسّر القرآن المجيد على وجهه الصحيح بحيث لا يقع منهم اختلاف فيه ، ويشهد لما ذكرنا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق» (١).

٢ ـ إن اعتماد ابن الخطّاب بقوله «حسبنا كتاب الله» على كتاب الله دون أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماما كقول المريض : لا حاجة لنا إلى الطبيب لوجود كتب

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٢٠ ح ١٢.


الطب بين أظهرنا ، مع أن الكتب الطبية أشمل للفروع من الكتاب الكريم لتفاصيل الأحكام الشرعية.

هذا مضافا إلى أن الكتاب دعا لإطاعة رسول الله (١) والأخذ منه (٢) ، ولم تقيّد إطاعته أو الأخذ منه في حال الصحة دون المرض ، فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور عرفا وعقلا وشرعا ، فما فعله عمر من المنع عن كتابة ما يمنع عن الضلال عين الضلال والإضلال ، وكثرة الخلاف بين الأمة ، وتشتت طرقها مع وجود كتاب الله بينهم دليل قاطع على عدم رفع الاختلاف (٣).

الشبهة الخامسة :

أن عمر أشفق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحمل مشقة الكتابة مع شدة الوجع.

يرد عليه :

إن رسول الله لم تجر عادته في أيام صحته بأن يكتب الكتاب بيده ، وإنما كان يملي على الكاتب ما يريد ، إما لكونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ـ حسبما يميل إلى هذا الرأي جمهور العامة ـ أو لكونه لا يتعاطى القراءة والكتابة ، ـ وهو الحق عندي ـ ولم يكن ذلك مستورا على عمر ، فكيف أشفق عليه من الكتابة؟

وأمّا الإملاء فمن أين علم أنه لا يمكن للرسول التعبير عمّا يريد بلفظ مختصر ، وعبارة وجيزة لم يكن في إلقائها إلى الكاتب مشقة لا يقدر على تحمّلها ، على أن تحمّله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمشاق في هداية الأمة لم تكن هذه الكتابة مبدأه ، فكيف لم يشفق عمر في شيء من المواضع إلّا فيما فهم أن المراد تأكيد النص في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟

__________________

(١) كآية إطاعة الرسول وأولي الأمر.

(٢) كقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر : ٧.

(٣) جرت محاورة بين هشام بن الحكم أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام مع رجل شامي ، وقد بيّن فيها هشام عدم كفاية الكتاب وحده لرفع الاختلاف ، راجع أصول الكافي ج ١ / ١٧١ ح ٤ والاحتجاج للطبرسي ج ٢ / ١٢٢.


ولا ريب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشفق على نفسه وأعلم بحاله من عمر بن الخطاب ، فبرودة مثل هذا الاعتذار مما لا يرتاب فيه ذو فطنة ، ورب عذر أقبح من ذنب ، وهنا موضعه.

وأما اشتداد الوجع فإنما استند إليه عمر لإثبات أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس مما يجب الإصغاء إليه ، لكونه ناشئا من اختلال العقل لغلبة الوجع وشدة المرض ، وهذا الاختلال نوع جنون ، وقد نزهه سبحانه عنه ، كما أنه تعالى كشف حقيقة بعض الأصحاب الذين نعتوه بالهذيان بقوله تعالى:

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (١).

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٢).

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٣).

إن قيل : إن قول عمر «حسبنا كتاب الله» ردّ على من نازعه ، لا على أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلنا : إن هذا ظاهر الفساد ، وذلك لأن الرواية التي رواها البخاري في باب كتابة العلم صريحة في أنه ردّ على قول النبيّ ، وأنّ الاختلاف من الحاضرين إنما وقع بعد قوله ذلك ، وكذلك روايته في باب قول المريض : قوموا عنّي. هذا مضافا إلى ما أوردناه سابقا على هذه الشبهة فليراجع.

__________________

(١) سورة سبأ : ٤٦.

(٢) سورة النجم : ١ ـ ٥.

(٣) سورة التكوير : ١٩ ـ ٢٢.


الشبهة السادسة :

إن كلمة «الهجر» التي تلفّظها عمر لم يقصد بها ظاهرها ، ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزية ولم يتحفظ منها ، وقد تبنّى هذه الشبهة ابن أبي الحديد (١) ؛ فقال : وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، ويتوهّم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ولم يتحفّظ منها ، وكان الأحسن أن يقول : «مغمور» أو «مغلوب بالمرض» وحاشاه أن يعني بها غير ذلك! ولجفاة الأعراب من هذا الفنّ كثير ، ثم قال :

وعلى نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألم تقل لنا : ستدخلونها ـ أي مكة ـ في ألفاظ نكرة حكايتها ، حتى شكاه النبيّ إلى أبي بكر ، وحتى قال له أبو بكر : الزم بغرزه (٢) ، فو الله إنه لرسول الله.

ويرد عليه :

أولا : أنه لا وجه لحمل الكلام على المحامل البعيدة وإخراجه عن ظاهره من غير دليل ، وظاهر الكلام تقبيح لرأي رسول الله وردّ لقوله على أقبح وجه ، ولم يقم برهان على عدم جواز الخطأ والارتداد على عمر بن الخطّاب حتى يؤوّل ابن أبي الحديد كلامه بالتأويلات البعيدة ، وما رووه في فضله من الأخبار فمع أنها من موضوعاتهم ، لا حجة فيها على الخصم لتفرّدهم بروايتها ، فأكثرها لا دلالة فيها على ما يجديهم في هذا المقام.

والعجب أنّهم يثبتون أنواع الخطايا والذنوب للأنبياء عليهم‌السلام لظواهر الآيات الواردة فيهم ، وينكرون علينا حملها على ترك الأولى وغيره من الوجوه ، مع قيام

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٢ ، ط / الأعلمي.

(٢) أي اتبع قوله.


الأدلة العقلية والنقلية على عصمتهم وجلالة قدرهم عمّا يظنون بهم ، ولا يرضون بمثله في عمر بن الخطّاب ، مع عدم الدليل على عصمته ، واشتمال كتبهم ورواياتهم على جرائره ، ولو جانبوا الاعتساف لم يجعلوه أجلّ قدرا من أنبياء الله.

ثانيا : إن الطعن ليس مقصورا على سوء الأدب والتعبير بالعبارة الشنيعة ، بل به وبالردّ لقول الرسول والإنكار عليه ، وهو في معنى الردّ على الله عزوجل والشرك به ، وإن كان أحسن الألفاظ وأطيب العبارات.

وأما قصة صلح الحديبية (١) التي أشار إليها ابن أبي الحديد وغيره من الرواة فليس الطعن فيها بلفظ يشتمل على سوء الأدب حتى يجري فيه تأويل ، بل بالإنكار لقول الرسول وعدم تصديقه بعد قوله : «أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به ولن يضيّعني» وهو إما تكذيب صريح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لم يصدّقه في قوله ذلك ، أو تقبيح صريح لما قضى الله به لو صدّق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى مسلم في كتاب الجهاد والسير عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل ، قال : قامسهل بن حنيف يوم صفّين فقال : أيّها الناس! اتّهموا أنفسكم ، لقد كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله والمشركين ، فجاء عمر بن الخطّاب ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدّنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال : يا ابن الخطّاب! إني رسول الله ولن يضيّعني الله أبدا. قال : فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا ، فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال : فعلام نعطي الدّنية في ديننا ، نرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟

__________________

(١) رواها البخاري في الصحيح ج ٣ / ٢٤٤ ح ٢٧٣١ و ٢٧٣٢ باب الشروط في الجهاد ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٢ / ٢٣٢ باب سيرة عمر ، وتاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٠ ومجمع البيان ج ٩ / ١١٠ والمجلسي في بحار الأنوار وغيرهم من المؤرخين.


فقال : يا ابن الخطّاب! إنه رسول الله ولن يضيّعه الله أبدا ، قال : فنزل القرآن على رسول الله بالفتح ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال : نعم ، فطابت نفسه ورجع (١).

ومن نظر في هذه الأخبار لم يشك في أن عمر بن الخطاب لم يرض بقول رسول الله وكان في صدره حرج مما قضى به رسول الله وقد قال الله عزوجل : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

وظن عمر أن رسول الله كاذب في وعده «حاشاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وإلّا فلا معنى لقيامه مغضبا متغيّظا غير صابر حتى جاء إلى أبي بكر يبث له شكواه من رسول الله ، كان دائما يغيظ رسول الله ، ومما يدل على شدة غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر ما رواه البخاري في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي عن زيد بن أسلم عن أبيه :

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطّاب يسير معه ليلا فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، وقال عمر بن الخطاب : ثكلتك أمّك يا عمر نزرت (٣) رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحرّكت بعيري ثم تقدّمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، قال : فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن وجئت رسول الله فسلّمت فقال : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس» ثم قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ١١٧ ح ١٧٨٥.

(٢) سورة النساء : ٦٥.

(٣) قوله «نزرت» أي ألححت عليه.

(٤) صحيح البخاري ج ٥ / ٨٠ ح ٤١٧٧.


ولا يخفى على ذي بصيرة أن ما ظهر من رسول الله من الغضب والغيظ عليه في الحديبية وفي مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أمره بالخروج من البيت مع المتنازعين لم يظهر بالنسبة إلى أحد من الصحابة ، وكذلك ما ظهر عنه من سوء الأدب كان فيه مميّزا عن غيره من الصحابة.

وظهور الغيظ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خلقه العظيم وعفوه الكريم وخوفه في الفظاظة والغلظة من انفضاضهم كما قال سبحانه (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١) لم يكن إلّا لشدة تفاحشه في ترك الأدب والوقاحة وبلوغ تأذي رسول الله إلى الغاية وقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٣).

وقد كان رسول الله يصبر على كثير من الأذى ويستحي من زجرهم حتى نزل في ذلك قرآن بقوله تعالى (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) (٤).

فإذا كان دخولهم إلى بيوت النبيّ من غير إذن يؤذي النبيّ ، فإن الاعتراض عليه والتشكيك به يؤذيه بطريق أولى.

وقد أخفى اتباع عمر بن الخطاب وحزبه كثيرا من كلماته الشنيعة ، وما قال فيه رسول الله كما يظهر من قول ابن أبي الحديد في ألفاظ نكرة حكايتها حتى شكاه النبيّ إلى أبي بكر (٥).

ثالثا : إن ما اعتذر به ابن أبي الحديد من أن عمر كان يرسل تلك الألفاظ

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٢) سورة التوبة : ٦١.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٤) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٥) شرح النهج ج ١ / ١٤٢


على مقتضى غريزته وخشونة طبعه وجبلّته ، ولم يكن يقصد بها ظواهرها ، ففيه اعتراف بأنه كان لا يملك لسانه يتكلم بما يحكم به عقله ، وظاهر أن رجلا لم يقدر على ضبط لسانه في مخاطبة مثل النبيّ مع علو شأنه في الدنيا والآخرة معدود عند العقلاء في المجانين ، ومثله لا يصلح للرئاسة العامة ، وخلافة من اصطفاه الله على العالمين.

ومن رضي بإمامة من يكره حكاية ألفاظه كما مرّ من كلام الموجّه «ابن أبي الحديد وأمثاله» فقد بلغ الغاية في السفاهة ، وفاز بالقدح المعلّى من الحماقة.

رابعا : إن ما ذكره ابن أبي الحديد من أن الأحسن كان أن يقول : مغمور أو مغلوب بالمرض ، فهو هذيان كقول إمامه ، إذ الكلام في أنّه لا يجوز الردّ على الرسول ، وإنكار قوله مطلقا سواء كان في حال المرض أو غيره ، للآيات والأخبار الدالة على وجوب الانقياد لأوامره ونواهيه ، وأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا حقا ، والهجر وغلبة المرض ، وإن كان أمرا شائعا في أكثر البشر إلّا أنه لا استبعاد في براءة من اصطفاه الله على العالمين عنه ، كما أن غلبة النوم يعم سائر الخلق ، وقد روى الخاص والعام أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا ينام قلبه إذا نامت عيناه (١).

ومن الغرائب عند العامة ، أنهم يستدلون على خلافة عمر بن الخطّاب بما نص عليه أبو بكر في مرضه وأثبته في وصية ، وكان الكاتب له عثمان بن عفّان ، ولم يجوّز أحد فيه أن يكون هجرا وناشئا من غلبة المرض ، مع أنه أغمي عليه أثناء كتابة العهد كما رواه ابن أبي الحديد في كيفية عقده الخلافة لعمر ، من أنه كان يجود بنفسه فأمر عثمان أن يكتب عهدا وقال : «هذا ما عهد به عبد الله بن عثمان (٢) إلى المسلمين ، أما بعد ، ثم أغمي عليه ، وكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ، وأفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ فقرأه ، فكبّر أبو بكر وسرّ ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟!

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٢٩ ح ٣٥٦٩ و ٣٥٧٠ وبحار الأنوار ج ١٦ / ١٣٢ ح ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١.

(٢) عثمان اسم أبي قحافة.


قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله ، ثم أتمّ العهد وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ..» (١).

فجوّزوا في رسول الله أن يكون عهده هجرا وهذيانا ، ولا يكون كذلك في عهد أبي بكر ، أمن العدل أن ينسبوا الهجر إلى رسول الله وينزّهوا عنه أبا بكر وعمر مع أنه لم يدل دليل من العقل والنقل على براءتهما من الهذيان ، فالأنسب لأشياعهما الذين يجوّزون الهذيان على سيّد الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصحيحا لقول عمر بن الخطاب أن يتردّدوا في إمامته ولا يستندوا إلى وصية أبي بكر في شأنه.

ثم إن قول عمر بن الخطّاب في مقام الردّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حسبنا كتاب الله» يدل على أنه لا حاجة إلى الخليفة مطلقا ، فكيف سارع إلى السقيفة لعقد البيعة وجعله أهمّ من دفن سيّد البريّة عليه وآله أكمل الصلاة والتحية.

الشبهة السابعة :

إنّ ردّ عمر بن الخطّاب على رسول الله كان من فضائله من حيث إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستشير أصحابه ويأخذ بالرأي الراجح ، من هنا كان عمر يردّ على رسول الله في كثير من المواطن ، وكان النبيّ بدوره يرجع إلى قوله ويترك ما حكم به ، ويستشهد العامة على ذلك بأخبار تدل بنظرهم على جرأته وفضله ، روى ابن أبي الحديد منها روايتين :

الأولى :

لما توفّى عبد الله بن أبي ، رأس المنافقين في حياة رسول الله ، جاء ابنه وأهله ، فسألوا رسول الله أن يصلّي عليه ، فقام بين يدي الصفّ يريد ذلك ، فجاء عمر فجذبه من خلفه ، وقال: ألم ينهك الله أن تصلي على المنافقين! فقال : إنّي خيّرت فاخترت ، فقيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٢٨.


يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (١) ، ولو أني أعلم إني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت. ثم صلّى رسول الله عليه ومشى معه ، وقام على قبره.

فعجب الناس من جراءة عمر على رسول الله ، فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (٢) ، فلم يصلّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها على أحد من المنافقين (٣). وفي رواية البخاري : قال عمر : أتصلّي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم.

الثانية :

روى أبو هريرة ، قال : كنّا قعودا حول رسول الله في نفر ، فقام من بين أظهرنا ، فأبطأ علينا ، وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا ـ وكنت أول من فزع ـ فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النّجار ، فلم أجد له بابا إلّا ربيعا ، فدخلت في جوف الحائط ـ والربيع الجدول ـ فدخلت منه بعد أن احتفرته ، فإذا رسول الله ، فقال : أبو هريرة؟ قلت : نعم ، قال : ما شأنك؟ قلت : كنت بين أظهرنا ، فقمت فأبطأت عنّا ، فخشينا أن تقتطع دوننا ، ففزعنا ـ وكنت أول من فزع ـ فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب ، والناس من ورائي.

فقال : يا أبا هريرة ، اذهب بنعليّ هاتين ، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشّره بالجنّة ، فخرجت ، فكان أول من لقيت عمر ، فقال : ما هذان النعلان؟ قلت : نعلا رسول الله بعثني بهما وقال : من لقيته يشهد أن لا إله إلّا الله ، مستيقنا بها قلبه فبشّره بالجنة.

فضرب عمر في صدري فخررت لاستي ، وقال : ارجع إلى رسول الله ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٨٠.

(٢) سورة التوبة : ٨٤.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٢٢٩ فصل سيرة عمر بن الخطاب ، وصحيح البخاري ج ٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ ح ٤٦٧٠ و ٤٦٧١ و ٤٦٧٢ وفيه قال النبيّ : «أخّر عني يا عمر».


فأجهشت بالبكاء راجعا ، فقال رسول الله : ما بالك؟ قلت : لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب صدري ضربة خررت لاستي ، وقال : ارجع إلى رسول الله فخرج رسول الله ، فإذا عمر ، فقال : ما حملك يا عمر على ما فعلت؟ فقال عمر : أنت بعثت أبا هريرة بكذا؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل ، فإني أخشى أن يتّكل الناس عليها فيتركوا العمل ، خلّهم يعملون ، فقال رسول الله : خلّهم يعملون (١).

والجواب :

أما الرواية الأولى : فسوء الأدب فيها بالأخذ بالثوب وجذبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلفه واضح ، وكذلك الإنكار على قول الرسول كما يظهر من قوله في رواية نافع عن ابن عمر من قوله : «إنه منافق بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني خيّرت» وقوله : فلما أكثرت عليه بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخّر عني.

ونزول الآية والنهي عن الصلاة على المنافقين لا يدلّ على تصويبه ، ويمكن أن تكون المصلحة في اختياره الصلاة ونزول النهي أن يظهر للمنافقين أو غيرهم أن رسول الله لم يتنفر عنهم لما يعود إلى البشرية والطبع ، بل لمحض الاتباع لما أمره الله سبحانه ، وفي ذلك نوع من الاستمالة وتأليف القلوب (٢).

والشاهد عليه ما رواه العياشي عن مولانا الإمام الباقر عليه‌السلام قال : إن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لابن عبد الله بن أبي إذا فرغت من أبيك فأعلمني وكان قد توفي فأتاه فأعلمه ، فأخذ رسول الله نعليه للقيام ، فقال له عمر : أليس قد قال الله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)؟ فقال : ويحك أو ويلك إنما أقول اللهم املأ قبره نارا واملأ جوفه نارا ، واصله يوم القيامة نارا.

وفي رواية أخرى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد ابنه في الجنازة ومضى فتصدى له عمر ثم قال : أما نهاك ربك عن هذا أن تصلّي على أحد مات منهم أبدا أو تقوم على

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٢٣٠.

(٢) بحار ج ٣١ / ١٠١.


قبره ، فلم يجبه ، فلما كان قبل أن ينتهوا به إلى القبر أعاد عمر ما قاله أولا ، فقال النبيّ لعمر عند ذلك ما رأيتنا صلينا له على جنازة ولا قمنا على قبر ، ثم قال : إن ابنه رجل من المؤمنين وكان يحق علينا أداء حقه ، فقال عمر : أعوذ بالله من سخط الله وسخطك يا رسول الله (١).

وروى القمي مثله مع زيادة :

إن عبد الله طلب من النبيّ أن يستغفر لأبيه فاستغفر له النبيّ ، فاعترض عليه عمر فقال له النبيّ : إني خيّرت فاخترت أن الله يقول : «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم» إلى آخر قوله فبدا من النبيّ ما لم يكن يحب (٢).

قال المولى الفيض الكاشاني :

كان رسول الله حييّا كريما كما قال الله عزوجل (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) فكان يكره أن يفتضح رجل من أصحابه ممن يظهر الإيمان وكان يدعو على المنافقين ويورّي أنه يدعو لهم ، وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر ما رأيتنا صلّينا له على جنازة ولا قمنا على قبر ، وكذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث القمي «خيرت فاخترت» فورّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باختيار الاستغفار ، وأما قوله فاستغفر له فلعلّه استغفر لابنه لما سأل لأبيه الاستغفار وكان يعلم أنه من أصحاب الجحيم ، ويدل على ما قلناه قوله عليه‌السلام فبدا من رسول الله ما لم يكن يحب هذا (٣).

أقول : إنّ بعض الخطابات القرآنية المتشابهة يكون موجها لرسول الله لكن يقصد منها غيره ، ومنها هاتان الآيتان المباركتان (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ...).

فما خوطب به النبيّ لا يراد منه شخصه الكريم وإنما أمته ، وذلك لكونه

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٢ / ٣٦٤ نقلا عن تفسير العياشي أبي النصر محمّد بن مسعود.

(٢) تفسير القمي ج ١ / ٣٣٠.

(٣) تفسير الصافي ج ٢ / ٣٦٥.


مشرّعا لا لكونه عبدا وحبيبا لله تعالى ، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق عليه‌السلام فقال : «نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة» (١).

فما كان يفعله الرسول هو الحق والصواب ، وخسر ما دونه المبطلون والمشككون والمنافقون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

كل هذا الكلام كان تعقيبا على الرواية الأولى التي دلت على أن عمر جذب ثوب النبيّ ناهيا إياه عن الصلاة على المنافقين.

وأما الرواية الثانية : «مع أن راويها أبو هريرة الكذّاب ينادي ببطلانها سخافة أسلوبها ، وبعث أبي هريرة مبشّرا للناس وجعل النّعلين علامة لصدقه وقد أرسل الله رسوله مبشّرا ونذيرا للناس وأمر أن يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه ، ولم يجعل أبا هريرة نائبا له في ذلك ، ولم يكن القوم المبعوث إليهم أبو هريرة غائبين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يتعذر عليه أن يبشّرهم بنفسه ، وكان الأحرى تبليغ تلك البشارة في المسجد عند اجتماع الناس لا بعد قيامه من بين القوم وغيبته عنهم واستتاره بالحائط.

ولم تكن هذه البشارة ممّا يفوت وقتها بالتأخير إلى حضور الصلاة واجتماع الناس أو رجوعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحائط ، وكيف جعل النّعلين علامة لصدق أبي هريرة مع أنه متوقّف على العلم بأنهما نعلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد جاز أن لا يعلم ذلك من يلقاه أبو هريرة فيبشّره ، وإذا كان ممّن يظن الكذب بأبي هريرة أمكن أن يظن أنه سرق نعليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يعتمد على قوله ، ولو فرضنا صدق أوّل الخبر أمكن أن يكون ما رواه أخيرا من رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قول عمر من أكاذيبه.

ويؤيده ما رواه مسلم في الموضع المذكور ورواه غيره في عدة روايات أنه بشّر الناس بأنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنّة. وقد روى أبو هريرة نفسه ما يقرب من هذا المعنى.

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ / ٢١ ح ٤.


ثم لو سلّمنا صدق الخبر إلى آخره فلا شكّ في أنه يتضمّن أن عمر ردّ قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أخشن الوجوه وأقبحها ، كما هو دأب الطغام والأجلاف ، ومع قطع النظر عما عرفت وستعرف من عدم جواز الاجتهاد في مقابلة النصّ ، وأنّ الردّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، كيف يجوز هذا النوع من سوء الأدب والغلظة في مقام الردّ على المجتهد ولو كان مخطئا وهو مأجور في خطئه وقد أمكنه أن يردّ أبا هريرة برفق ويناظر برسول الله ويوقفه على خطئه.

ثم من أين استحقّ أبو هريرة أن يضرب على صدره حتى يقع على استه ، ولم يقدم على أمر سوى طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطاعة الله ، وقد أمر الله تعالى بها في زهاء عشرين موضعا من كتابه ، بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١).

وأمّا رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأمر بتبشير الناس فعلى تقدير صحّته لا دلالة فيه على اجتهاده ، وخطئه في رأيه ، ولا نفي الشناعة عن فعل عمر ، لجواز أن يكون الرجوع لنزول النسخ بالوحي لمصلحة يعلمها الله تعالى ، ويمكن أن يكون لمصلحة تأليف قلب هذا الفظّ الغليظ كما أمر الله سبحانه بذلك في سائر المنافقين لئلا ينفضّوا عن رسوله فيلحق بالإسلام ضرر أعظم من فوت المصلحة بترك التبشير في ذلك الوقت.

ولا يخفى أنّ الاجتهاد المذكور ممّا لم يجوّزه كثير من العامة ، لكون المسألة مما يتعلق بأمور الدين لا الحروب وأمور الدنيا ، قد صرّح بذلك شارح صحيح مسلم في شرح هذا الخبر ، وقال : عدم جواز الخطأ عليه في الأمور الدينية مذهب المحقّقين.

وحكى عن شيخه أبي عمرو بن الصلاح توجيه النّافين للاجتهاد المذكور : بأنّه كان لوحي ناسخ للوحي السابق (٢).

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١ / ٢١٢ ط / دار الكتب العملية.


الطعن الثاني :

التخلّف عن جيش أسامة.

ولا خلاف بين المؤرخين في أن عمر بن الخطاب كان من الجيش ، وقد لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتخلّف عنه ، وقد سبق في مطاعن أبي بكر ما فيه كفاية في هذا المعنى.

الطعن الثالث :

من بدع عمر بن الخطّاب أنه حرّم المتعتين : متعة الحجّ ومتعة النساء ، فقال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء» (١).

وفي لفظ آخر : وأنا محرّمهما ومعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج (٢).

أما متعة النساء فلا خلاف بين المسلمين قاطبة في أصل شرعيتها وإن اختلفوا في نسخها ودوام حكمها ؛ مع تأكيد العامة على حرمتها وكونها منسوخة ، ونحن نسأل : إذا كانت قد نسخت فكيف جهل كل أصحاب النبيّ ذلك وفيهم خيرتهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأهل بيته وشيعتهم أمثال جابر وسلمان والمقداد وأبي ذر؟! حتى أن أبا بكر لم يدّع نسخها طبقا لما صرّح به عمر بن الخطّاب بحديثه المتواتر بين الفريقين : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما ..» فقد اعترف أن المتعة لم تنسخ أيام رسول الله وإنما هو من نسخها ، وهل يحق للصحابي أن ينسخ حكما إلهيا أو آية قرآنية؟!

تساؤلات أجيب عليها ـ بإذن الله تعالى ـ ضمن نقاط متعددة :

__________________

(١) زاد المعاد لابن القيم ج ٢ / ٢٠٥ فصل «إباحة متعة النساء» وبداية المجتهد ج ١ / ٣٤٦ باب القول في التمتع ، والمغني لابن قدامة ج ٧ / ٥٢٧ والمحلّى لابن حزم ج ١٠٧٧ وتفسير القرطبي ج ٢ / ١٦٧ وتفسير الرازي ج ١٠ / ٥٠ سورة النساء ، وكنز العمال ج ٨ / ٢٩٣.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٤٢.


النقطة الأولى : في تعريف المتعة وأحكامها.

وللمتعة تعريفان :

واحد لغوي وآخر اصطلاحي.

أمّا اللغوي : فإن لفظ المتعة يفيد الالتذاذ والاستمتاع ، وكلّ ما ينتفع به على وجه ما فهو متاع ومتعة ، ومتع الرجل ومتع : جاد وظرف ، وقيل كل ما جاد فقد متع ، والماتع من كل شيء : البالغ في الجودة. الغاية في بابه. وأمتع بالشيء وتمتّع به واستمتع : دام له ما يستمده منه.

ومتّعه الله وأمتعه بكذا : أبقاه ليستمتع به ، يقال : أمتع الله فلانا بفلان إمتاعا أي أبقاه ليستمتع به فيما يحبّ من الانتفاع به والسرور بمكانه ، وأمتعت بالشيء أي تمتعت به.

والمتعة والمتعة والمتعة (بالضم والكسر والفتح) : البلغة. وشراب ماتع : شديد الحمرة ، فالشراب هو الذي يمتع بجودته وليست الحمرة بخاصّة للماتع وإن كانت أحد أوصاف جودته.

والمتاع : المنفعة ومنه قوله تعالى (مَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي انتفاع إلى انقضاء أجلكم. و (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي منفعتها التي لا تدوم.

و (استمتع بعضنا ببعض) أي استنفع ، واستمتعت بكذا وتمتّعت به ومنه قوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ).

والتّمتّع أصله التلذذ ، وسمّي هذا النوع به لما يتخلّل بين عمرته وحجته من التحلل الموجب لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان قد حرّمه الإحرام مع ارتباط عمرته بحجه حتى أنهما كالشيء الواحد شرعا ، فإذا حصل بينهما ذلك فكأنه حصل في الحج. والمتاع : المنفعة وما تمتعت به.

والمتعة بالضم فالسكون : اسم من تمتّعت بكذا أي انتفعت به ، ومنه متعة


النكاح ، ومتعة الطلاق ، ومتعة الحج لأنه انتفاع (١).

وأما الاصطلاحي :

هو عقد مخصوص بين الرجل والمرأة بمهر معلوم إلى أجل مسمّى. أو بعبارة هو نكاح بلفظ التمتع إلى وقت معيّن لأجل مسمّى. ويتوقف عقد المتعة أو المنقطع على أركان أربعة :

الأول : الصيغة.

الثاني : المحل.

الثالث : الأجل.

الرابع : المهر.

أما الصيغة : فهي اللفظ الذي وضعه الشرع وعيّنه وصلة إلى انعقاده ، كغيره من العقود اللازمة.

واللفظ هو إيجاب وقبول ، فالإيجاب منها والقبول منه ، وألفاظ الإيجاب :

زوّجتك ، ومتّعتك ، وأنكحتك ، وأيها حصل وقع الإيجاب به ، ولا ينعقد بغيرها من الصيغ كالتمليك والهبة والإجارة ، كأن تقول له : ملكتك نفسي ، أو وهبتك ، أو آجرتك.

والقبول : هو اللفظ الدال على الرضا بذلك الإيجاب ، كقول الرجل للمعقود عليها : قبلت النكاح أو المتعة ، والأحوط التطابق بين الإيجاب والقبول ، فلو قالت له : زوّجتك نفسي بمهر قدره كذا لمدة كذا ، عليه أن يقول : قبلت التزويج ولا يقول قبلت النكاح. ولو قال : قبلت من دون ذكر المتعلق كفي في الصحة ، تماما كغيره من العقود.

__________________

(١) مجمع البحرين ج ٤ / ٣٩٠ مادة متع ، ومفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ٤٦٠ ، ولسان العرب لابن منظور ج ٨ / ٣٢٨.


كما يعتبر في صيغة العقد الماضوية لكونه صريحا في الإنشاء وهو قول المشهور ، وإن كان هناك رأي آخر في عدم اعتبار الماضوية بل يصح بصيغة المضارع كما قال صاحب المسالك ووافقه صاحب الجواهر (١) ودعواهما : أن المقصود من العقد لمّا كان هو الدلالة على القصد الباطني ، واللفظ كاشف عنه ، فكل لفظ دل عليه ينبغي اعتباره.

لكنّ الاحتياط يقتضي الأخذ بقول المشهور وذلك :

أولا : لأن الماضي دال على صريح الإنشاء المطلوب في العقود ، أما المضارع فيحتمل منه الوعد ، والعقود ـ كما نصّ على ذلك علماء البلاغة ـ تكون بالماضي كثيرا نحو : بعت واشتريت وزوّجت ، وبغيره قليلا نحو : أنا بائع ، ولا يعدل عن الشائع بالشاذ النادر.

الثاني : لأن العقد مع الإتيان باللفظ الماضي متفق على صحته وغيره مشكوك فيه ، فيقتصر على المتيقن ، ولأن تجويز غيره يؤدي إلى انتشار الصيغة وعدم وقوفها على قاعدة ، فيصير العقد اللازم مشبها للإباحة ، والعقود اللازمة موقوفة على ثبوت أمر من الشارع لأنها أسباب توقيفيّة فلا يتجوز فيها.

فاللفظ في الصيغة شرط في صحة العقد ، ولا يتم الزواج سواء كان منقطعا أم دواما بالمراضاة والمعاطاة ، ولا بالإشارة والكتابة مع القدرة على اللفظ ، وبهذا يفترق عقد الزواج بقسميه عن غيره من العقود.

إشكال وحل :

وجه الإشكال : لما ذا اشترطتم اللفظ؟ وهل اللفظ إلا وسيلة للكشف عن الرضا الباطني والإرادة الواقعية ، فإذا تأكدنا من وجود الرضا الباطني كان اللفظ وعدمه سواء؟.

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج ٢٩ / ١٣٥ باب صيغة العقد.


والحل : إن الهدف أو الغاية من التلفظ بالصيغة هو الالتزام بالزوجية وآثارها ، بحيث لا يبقى مجال للتهرب منها بحال ، تماما كتوقيع سند البيع من المتبايعين ، وتوقيع المعاهدة بين دولتين ، بل إن الزوجية أهم وأخطر من المعاملات التجارية ، والمعاهدات الدولية لأنها ميثاق غليظ بين الزوجين كما في قوله تعالى : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١) فكما أن كلا من المتبايعين والدولتين في حل من أقوالهما ووعودهما «رسميا» حتى يتم التوقيع كذلك المخطوبة والخاطب لا يتحقق الميثاق بينهما والالتزام إلا باللفظ الذي هو بمنزلة التوقيع ، فمتى تلفظ كل منهما بالزواج فقد ألزم به نفسه ، وقيّدها بعهده وميثاقه ، وعلى الأصح بسلاسله وأغلاله.

وأما المحل : وهو المتعاقدان ، فيشترط أن تكون الزوجة مسلمة أو كتابية كاليهودية والنصرانية والمجوسية على أشهر الروايتين ، ويمنعها من شرب الخمر وارتكاب المحرمات ، وأما المسلمة فلا تتمتع إلا بالمسلم خاصة ولا يجوز بالوثنية ولا الناصبة العداوة لأهل البيت أو لواحد منهم عليهم‌السلام كالخوارج ، ولا يستمتع بأمة وعنده حرّة إلّا بإذنها ولو فعل كان العقد باطلا أو موقوفا على الإذن ، وكذا لا يدخل عليها بنت أختها ولا بنت أخيها إلّا مع إذنها ، ولو فعل كان العقد باطلا أو موقوفا على الإذن ، وغير ذلك من المحرمات عينا وجمعا ، ضرورة كون المنقطع أحد فردي النكاح الذي هو عنوان الحرمة ، بل منه يعلم أن الأصل اشتراك الدائم والمنقطع في الأحكام التي موضوعها النكاح والتزويج ونحوهما مما يشمل المنقطع إلّا ما خرج بالدليل من عدم الإرث والنفقة والقسم والزيادة على الأربع ونحو ذلك.

ويستحب أن تكون المتمتع بها مؤمنة ، وأن تكون عفيفة ، كما يستحب له أن يسألها عن حالها مع التهمة لخبر ميسّر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ألقى المرأة

__________________

(١) سورة النساء : ٢١.


بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها : هل لك زوج؟ فتقول : لا ، فأتزوجها؟ قال : نعم هي المصدّقة على نفسها (١).

وليس السؤال عن حالها شرطا في الصحة للأصل وحمل فعل المسلم على الصحيح.

ويكره أن تكون زانية ، فإن فعل فليمنعها من الفجور ، فعن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام : سئل عن رجل أعجبته امرأة فسأل عنها ، فإذا الثناء عليها يثني في الفجور ، فقال : لا بأس بأن يتزوجها ويحصنها.

وعن عليّ بن رئاب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الفاجرة يتزوجها الرجل المسلم؟ قال : نعم وما يمنعه ولكن إذا فعل فليحصن بابه مخافة الولد (٢).

ومنعها من الفجور ليس شرطا في صحة العقد.

كما يكره أن يتمتع بالبكر لها أب لقول الإمام الصادق عليه‌السلام في خبر البختري : في الرجل يتزوج البكر متعة؟ قال : يكره للعيب على أهلها.

كان يكره على البكر التي مات أبوها أو جدها ، فإن فعل لا يفتضها للأخبار منها خبر ابن أبي الهلال قال عليه‌السلام : لا بأس أن يتمتع بالبكر ما لم يفض إليها كراهية العيب على أهلها(٣).

وأما الأجل : فإنه شرط في عقد المتعة ، ولو لم يذكره انعقد دائما ، لأن ذكر الأجل شرط في تحقق عقد المتعة ، فإذا أهمل اللفظ ذكر الأجل تعيّن للدوام وللنصوص منها قول مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام في موثق ابن بكير : وإن سمى الأجل فهو متعة ، وإن لم يسم الأجل فهو نكاح بات(٤).

__________________

(١) فروع الكافي ج ٥ / ٤٦٢ ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٤ / ٣٤٣ ح ٢ وح ٦ أبواب ما يحرم بالمصاهرة باب ١٢.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٤ / ٤٥٧ ح ١ و ٢ و ٧ الباب ١١ من أبواب المتعة ، وص ٤٥٩ ح ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ج ١٤ / ٤٦٩ الباب ٢٠ من أبواب المتعة.


ولما ورد عن ابان بن تغلب قال له عليه‌السلام لمّا علّمه كيفية عقد المتعة : إني أستحي أن أذكر شرط الأيام ، فقال : هو أضر عليك ، قلت : وكيف؟ قال : إنك إن لم تشترط كان تزويج مقام ، ولزمتك النفقة والعدة ، وكانت وارثا ولم تقدر على أن تطلقها إلا طلاق السنة (١).

ويشترط تقدير الأجل عند العاقدين ، طال أو قصر كالسنة والشهر واليوم ، ولا بدّ أن يكون معينا ، محروسا من الزيادة والنقصان فلا يجوز أن يكون كليا كشهر من الشهور ويوم من الأيام وسنة من السنين ، ولا غير محروس من الزيادة والنقصان كقدوم الحاج وإدراك الثمرة ونحوهما ما يمكن فيه طول الزمان وقصره المؤدي إلى الجهالة عند المتعاقدين.

ولو اقتصر على بعض يوم جاز بشرط أن يقرنه بغاية معلومة كالزوال والغروب أو بمقدار معين كالنصف والثلث ونحوهما ، فيعملان حينئذ بما يعلمانه من ذلك مع اتفاقه وإلّا رجعا إلى أهل الخبرة فيه (٢).

ولو ترك الرجل المرأة المتمتع بها حتى انقضى قدر الأجل المسمّى خرجت عن عقده واستقر لها الأجرة.

وأما المهر : فإنّه شرط في عقد المتعة ، يبطل بفواته العقد لأن ذكر المهر شرط في صحة هذا العقد ، والمشروط عدم عند عدم شرطه. ويشترط فيه أن يكون مملوكا معلوما ، إما بالكيل أو الوزن أو المشاهدة أو الوصف ، ويتقدّر بالمراضاة قلّ أو كثر ولو كان كفا من برّ ، ويلزم دفعه بالعقد ، ولو وهبها المدة قبل الدخول لزمه النصف ، ولو دخل استقر المهر بشرط الوفاء بالمدة ، ولو أخلت ببعضها كان له أن يضع من المهر بنسبتها ، ولو تبين فساد العقد ، إمّا بأن ظهر لها زوج أو كانت أخت زوجته ، أو أمها ، وما شاكل ذلك من موجبات الفسخ ، ولم يكن دخل بها

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) جواهر الكلام في شرائع الإسلام ج ٣٠ / ١٧٧.


فلا مهر لها ، ولو قبضته كان له استعادته ، ولو تبيّن ذلك بعد الدخول كان لها ما أخذت ، وليس عليه تسليم ما بقي (١) ، ولها المهر إن كانت جاهلة ، ويستعاد ما أخذت إن كانت عالمة.

يتلخص مما تقدّم أن أركان أو شروط زواج المتعة أمور :

الأول : الإيجاب والقبول.

وألفاظ الإيجاب في عقد المتعة ثلاثة : متعت ، وزوجت ، وأنكحت ، وأي واحد منها حصل وقع الإيجاب به ، ولا ينعقد الزواج بغير هذه الألفاظ ، كلفظ التمليك والهبة والإجارة.

والقبول يقع بكل لفظ دال على إنشاء الرضا بذلك الإيجاب ، كقول الرجل : قبلت المتعة أو التزويج أو النكاح. ولو اقتصر على لفظ : قبلت أو رضيت كفى في صحة القبول.

ولو بدأ بالقبول فقال : تزوجتك أو رضيت بك زوجة وما شابه ذلك ، فقالت : زوجتك نفسي صح العقد.

وصيغة العقد في الزواج المنقطع أو المتعة هي أن تقول الزوجة : متعتك نفسي إلى مدة كذا على مهر قدره كذا.

أو تقول : أنكحتك نفسي إلى مدة كذا على مهر قدره كذا.

فيقول الزوج : قبلت ، ولا بد أن يقصد الطرفان إنشاء العلقة الزوجية بينهما ، فيقصد الرجل بذلك قبول التزويج على ما وقع في الإيجاب من المدة والمهر.

ويجوز لكل من الزوجين توكيل غيرهما في إجراء عقد زواج المتعة.

فلو وكلا شخصا في إجراء الصيغة عنهما يقول الوكيل :

__________________

(١) شرائع الإسلام للعلّامة الحلي القسم الثاني في النكاح المنقطع.


ـ متّعت موكلتي فلانة موكلي فلان في المدة المعلومة بالمبلغ المعلوم.

ـ ثم يقول مباشرة : قبلت التمتيع لموكّلي فلان في المدة المعلومة بالمبلغ المعلوم.

أما لو كان الزوج وكيلا عن الزوجة في إنشاء الصيغة فعليه أن يقول في الإيجاب والقبول هكذا :

متّعت موكلتي فلانة نفسي في المدة المعلومة بالمهر المعلوم.

ثم يقول مباشرة :

قبلت التمتيع لنفسي في المدة المعلومة بالمبلغ المعلوم.

الثاني : ذكر المهر وتعيينه رفعا للجهالة والغبن ، وليس للمهر حد قلّ أو كثر ، فيصح بكل ما يقع عليه التراضي بينهما عملا بالآية المباركة : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١).

الثالث : ذكر الأجل وإلّا بطل العقد أو انقلب دائما على أظهر الأقوال.

الرابع : لا يجوز التمتع بغير المسلمة والكتابية ، كما لا يجوز التمتع بذات البعل ولا بذات العدة ولا بالغلاة والخوارج والنواصب.

كما لا يجوز التمتع بالأمة على الحرة إلا بإذنها ، ولا يجوز الجمع بين الأختين في المتعة ، ولا يتمتع على العمة بنت أخيها ولا الخالة بنت اختها إلا بإذنهما أو إجازتهما ولو لم يستأذنهما كان العقد باطلا.

ويجوز التمتع بأكثر من أربع نساء وإن كان عنده أربع زوجات بالدائم. فزواج المتعة عقد شرعي له ما للعقد الدائم وعليه ما عليه إلّا ما أخرجه الدليل ، لذا فهما يشتركان في أمور ويتباينان في أمور.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٠.


أما الأمور المشتركة بينهما فهي كالتالي :

أولا : أنهما يشتركان في المرأة المعقود عليها دواما وانقطاعا من حيث يجب أن تكون عاقلة بالغة راشدة ، فلا يجوز التمتع بالمتزوّجة ، ولا بالمعتدة من طلاق أو وفاة ، ولا بالمحرّمة نسبا أو مصاهرة أو رضاعا ، ولا بالمشركة عدا ما أخرجه الدليل كاليهود والنصارى ، ولا بالملحدة ومن ذكرنا أعلاه ، كما لا يجوز للمسلمة أن تتمتع إلا بالمؤمن العارف والخالي من جميع الموانع.

ثانيا : يتفق الزواج المنقطع بالدائم من حيث اللزوم في حق الرجل والمرأة أي أن العقد فيهما لازم لا ينحل إلّا بسبب ، فللزوج أن يطلّق الزوجة الدائمة ، كما للزوج أن يهب المدة المتفق عليها للمتمتع بها ، كما عبّر عنه في النصوص المعلوم إرادة ما يشبه الإبراء من ذلك «فإنه في الحقيقة إسقاط ما يستحقه عليها ، فلا يحتاج إلى قبول ولا إلى قابلية المتمتع بها لذلك» (١).

ثالثا : لا يصح الزواج المنقطع بالمعاطاة أو الهبة أو التمليك أو الاجارة أو مجرد المراضاة ، بل لا بدّ فيه من العقد اللفظي الدال صراحة على قصد الزواج ، تماما كالزواج الدائم ، ولا يقع عقد المتعة بشيء من تلك الألفاظ ، بل ينحصر لفظ العقد بخصوص انكحت وزوجت ومتعت.

رابعا : أن الزواج المنقطع ينشر الحرمة تماما كالدائم ، فإن المتمتع بها تحرّم على والد الزوج مؤبدا ، وبنتها ربيبته ، كما يحرّم الجمع بين الأختين متعة وانقطاعا ، والرضاع من المتمتع بها كالرضاع من الدائمة من غير تفاوت ، أما الرضاع من الزانية فلا أثر له إطلاقا ، والفرق أن المتمتع بها زوجة شرعية ، وفراش صحيح ، أما الزانية فلها الحجر.

خامسا : الولد من الزوجة المنقطعة كالولد من الدائمة في وجوب التوارث

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٠ / ١٦٦.


والإنفاق ، أي أن الابن المتولد من المتعة يجب الإنفاق عليه ، ويرث من أبيه وأمه ، ويرثان منه تماما كابن الدائم.

سادسا : يلحق ولد المتعة بالزوج بمجرد الجماع ، حتى ولو عزل وأراق ماءه في الخارج لأن المتمتع بها فراش شرعي كالدائمة ، والولد للفراش إجماعا ونصا.

سابعا : المهر في الزواج المنقطع كالمهر في الدائم ، من حيث عدم تقديره قلة أو كثرة ، فيصح بكل ما يقع عليه التراضي واحدا كان أو مائة مليون عملا بالآية الكريمة (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً).

ثامنا : ثبت للزوجة الدائمة إذا طلقت قبل الدخول نصف المهر المسمّى ، وكذا لو وهب المدة للمتمتع بها قبل أن يدخل ، أما إذا انقضت المدة دون أن يدخل فلها المهر كاملا ، وقيل : نصف المهر.

تاسعا : يشتركان أيضا في العدة ، فالمتمتع بها عليها أن تعتد مع الدخول بها بعد الأجل ، ولا عدة عليها إذا لم يدخل ، تماما كالزوجة الدائمة إذا طلقت من غير تفاوت ، وعليهما معا العدة الكاملة من وفاة الزوج سواء أدخل أو لم يدخل.

عاشرا : تحرم مقاربة الزوجة وهي في الحيض منقطعة كانت أو دائمة.

وهناك أحكام أخرى يشتركان فيها فلتلاحظ المطولات الفقهية (١).

وأما الأحكام التي يتباينان فيها هي كالتالي :

١ ـ لا بد في الزواج المنقطع أن يذكر في متن العقد أجل معيّن لا يقبل الزيادة والنقصان ، أمّا الزواج الدائم فلا يصح ذكر الأجل فيه بحال.

وإذا قصد كل من الرجل والمرأة الزواج المنقطع ، وتركا ذكر الأجل في متن العقد نسيانا ، فهل يبطل العقد أو ينقلب إلى الدوام؟

__________________

(١) جواهر الكلام وشرائع الإسلام والحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة.


ذهب مشهور الإمامية بشهادة صاحب المسالك إلى أن الزواج والحال هذه ، يقع دائما ، بل قال صاحب الجواهر : «لعله مجمع على ذلك ، لصلاحية اللفظ للدوام ، ولقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا سمّى الأجل فهو متعة وإن لم يسمّ فهو نكاح بات» أي ثابت.

٢ ـ المهر ركن من أركان العقد في المنقطع ، فلو أخلّ بذكره في متن العقد بطل من رأس.

أما الزواج الدائم فالمهر ليس ركنا له ، بل يصح مع المهر ودونه ، فمن تزوّج امرأة ولم يذكر لها مهرا في متن العقد ، ودخل بها فعليه مهر المثل.

٣ ـ إذا طلقت الزوجة الدائمة قبل الدخول فلا عدة لها ، ومثلها المنقطعة إذا انتهى الأجل قبل الدخول ، وإذا طلّقت الدائمة بعد الدخول وكانت غير حامل فعدتها ثلاث حيضات أو ثلاثة أشهر ، وإن كانت حاملا فعدتها وضع الحمل ، أما المنقطعة فعدتها بعد الدخول وانقضاء الأجل حيضتان أو خمسة وأربعون يوما إن كانت غير حامل ، وإن كانت حاملا فعدتها وضع الحمل.

هذا بالقياس إلى طلاق الدائمة وانتهاء أجل المنقطعة ، أما بالنسبة إلى عدة الوفاة فلا فرق بينهما إطلاقا ، فكل منهما تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء أكان قد دخل الزوج أو لم يدخل ، هذا مع عدم الحمل ، أما معه فتعتدان بأبعد الأجلين من وضع الحمل والمدة المذكورة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام.

٤ ـ التباين في الميراث ، فإنهما يتوازنان في حال الشرط ، لأن عقد الزواج بطبيعته لا يقتضي التوارث ولا عدمه ، ومتى حصل الشرط وجب العمل به عملا بالحديث المشهور : «المؤمنون عند شروطهم» وللنص عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «وإن اشترطا الميراث فهما على شرطهما» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٤ / ٤٨٦ ح ٥ والاستبصار ج ٣ / ١٤٩ قريب منه.


٥ ـ لا نفقة للمنقطعة إلّا مع الشرط ، أما الدائمة فلها النفقة ، حتى ولو اشترط عليها عدم الإنفاق.

٦ ـ يكره التمتع بالأبكار ، أما الزواج بهنّ دواما فمندوب.

٧ ـ للزوجة الدائمة حق على الزوج أن ينام في فراش قريب من فراشها ليلة واحدة من كل أربع ليال معطيا لها وجهه ، وإن لم يتلاصق الجسدان ، والمهم أن لا يعدّ هاجرا ، أما المواقعة فتجب عليه في كلّ أربعة أشهر مرة ، ولها أن تطالب إن امتنع عن المبيت أو المواقعة.

ولا يجب شيء من ذلك للمنقطعة ، بل يترك له الخيار ، وليس لها أن تطالبه ، لا بالمبيت ولا بالمواقعة.

٨ ـ إذا طلّقت الزوجة الدائمة طلاقا رجعيا بعد الدخول ، فللمطلّق أن يرجع إليها قبل انقضاء العدة ، وإذا كان الطلاق خلعيا ، وعن كره وبذل منها له ، فلها الحق أن ترجع بالبذل ما دامت في العدة.

أما المنقطعة فإنها تبين منه بمجرد انتهاء المدة أو هبتها ، ولا يحق له ولا لها بالرجوع أثناء العدة ، وبالأولى بعد انتهائها ، أجل يجوز له أن يجدّد العقد عليها دواما أو انقطاعا ، وهي في العدة منه ، ولا يجوز ذلك لغيره إلا بعد انقضاء العدة.

٩ ـ إذا دخل بالزوجة الدائمة فقد استقر عليها تمام المهر ، فإن امتنعت بعد ذلك ولم تمكّنه من نفسها نشوزا منها وعصيانا فلا يسقط من مهرها شيء ، وإنما تسقط نفقتها ، لأنها في مقابل الطاعة.

أما إذا دخل بالمنقطعة ، ثم امتنعت من غير عذر فللزوج أن يضع من مهرها بنسبة الوقت الذي امتنعت فيه.

١٠ ـ يجوز أن يتمتع الرجل بأكثر من أربع نساء ، ولا يجوز له في الدائم الزيادة على الأربع.


وبالجملة : فإن حقيقة المنقطع والدائم واحدة ، ويشتركان في الأحكام معا إلّا ما استثناه الدليل.

النقطة الثانية : في زواج المتعة في كتاب الله.

قال الله سبحانه : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١).

لا إشكال ولا خلاف أن مورد هذه الآية هو الزواج المؤقت أو المتعة ، ويستفاد منها أنّ زواج المتعة كان قطعيا ومسلّما عند المسلمين ، ويشهد لهذا أمور :

الأول : إن كلمة «متعة» التي اشتق منها لفظة «استمتعتم» تعني الزواج المؤقت لأن لفظ «الاستمتاع» إذا أطلق لا يستفاد منه شرعا إلّا العقد المؤجّل ، وإن كان في أصل الوضع معناه الانتفاع ، ولا خلاف عند المتشرعة أن الشيء إذا كان له وضع وعرف شرعي يجب حمله على العرف الشرعي دون الوضع ، لكونه صار حقيقة ، والوضع مجازا والحكم للطارئ ، ألا ترى أنهم يقولون : فلان يقول بالمتعة وفلان لا يقول بالمتعة» ولا يريدون إلا العقد المخصوص.

وبعبارة أخرى : المتعة حقيقة شرعية في هذا النوع من الزواج ، فصارت مخصوصة بهذا العقد المعروف ، ويدل على هذا استعمال أئمة آل البيت عليهم‌السلام وأكثر الصحابة هذا اللفظ بالزواج المنقطع. منها ما ورد :

١ ـ عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة ... فقال : هو أن يتزوجها إلى أجل مسمّى ثم يحدث شيئا بعد الأجل (٢).

٢ ـ وعن زرارة ، قال : جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى الإمام أبي جعفر عليه‌السلام فقال له : ما تقول في متعة النساء؟

__________________

(١) سورة النساء : ٢٤.

(٢) تفسير العياشي ج ١ / ٢٦٠ ح ٨٧ و ٨٨ ،


فقال : أحلها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إلى يوم القيامة ، فقال : يا أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر ونهى عنها؟

فقال عليه‌السلام : وإن كان فعل. قال : إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئا حرّمه عمر ، قال : فقال له : فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله ، فهلم ألا عنك أن القول ما قال رسول الله وأن الباطل ما قال صاحبك (١) ..

الثاني : أن لفظة «متعة» إذا لم تكن بالمعنى المذكور ، يجب أن تفسّر حتما بمعناها اللغوي وهو «الانتفاع» فتدل الآية حينئذ على الزواج الدائم ، فيصير المعنى هكذا : «إذا انتفعتم بالنساء الدائمات فادفعوا إليهن أجورهن» في حين نعلم أن دفع المهر غير مقيّد ولا مشروط بالانتفاع بالزوجات الدائمات بل يجب دفع تمام المهر في حال الدخول ، ونصفه بمجرد العقد دون دخول.

الثالث : [إن أئمة آل البيت عليهم‌السلام الذين هم أولى برسول الله وبأحاديثه من غيرهم ، وكذا كبار الصحابة والتابعين أمثال ابن عبّاس حبر الأمة ، وجابر بن عبد الله الأنصاري وعمران بن حصين وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي وأبي بن كعب وجماعة كبيرة من مفسري العامة والخاصة ، فهموا من الآية المزبورة حكم الزواج المؤقت إلى درجة أن الفخر الرازي ـ رغم تعصّبه على الشيعة ـ اعترف بشرعيتها إلا أنه ادّعى أنها منسوخة فقال :

«إنّا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله : إنها صارت منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا ، وهذا هو الجواب أيضا من تمسّكهم بقراءة أبي وابن عبّاس ، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله : إن النسخ طرأ عليه» (٢).

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ / ٣٦٠ ح ٣ والنصوص عنهم عليهم‌السلام كثيرة جدا فلاحظ.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ٥٣ سورة النساء. وهكذا قال ابن كثير في تفسيره ج ١ / ٤٠٨.


يرد عليه باختصار :

كيف صارت الآية منسوخة ، وقد نفى عمر بن الخطّاب نسخها بقوله : «متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما ..» وهل نصدّق الرازي أو عمر بن الخطاب؟ فعلى العامي أن يختار ، فلو صدّق الرازي يكون بهذا قد كذّب عمر ، وإن صدق عمر ثبت أن الرازي كذّاب مفتر على عمر.

قد يقال

إن تفسير الآية ليس بمعنى المتعة ولو بمجرد العقد ، بل المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا ، فتكون السين والتاء في استمتعتم للتأكيد ، والمعنى : تمتعتم.

والجواب :

١ ـ إن تداول نكاح المتعة على مجرد العقد لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين ، لأن المعنى اللغوي هو الانتفاع ، لكنّ العرف الشرعي كما قلنا سابقا استعمله بالعقد المخصوص.

٢ ـ إن هذا المعنى على تقدير صحته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم ، لا يلائم الجزاء المترتب عليه أي قوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فإن المهر يجب بمجرد العقد ، ولا يتوقف على نفس التمتع ولا على طلب التمتع الصادق على الخطبة وإجراء العقد والملاعبة والمباشرة ، بل يجب نصفه بالعقد ونصفه الآخر بالدخول.

[على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره ، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب ، وذلك كقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (١) وقوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ

__________________

(١) سورة النساء : ٤.


إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١) وقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٢) إلى أن قال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٣).

وما احتمله بعضهم أن الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (٤) مسوقة للتأكيد ، يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ) الآيتين أشد وآكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك] (٥).

ولا بأس هنا أن نستعرض كلمات القوم لإيضاح هذه الحقيقة من ناحيتها التشريعية ومن كتب القوم.

١ ـ قال أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي :

«استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ مرتين .. وقد روي عن ابن عبّاس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد وكان ابن عبّاس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ... وأما قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) ومن حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمّى قال : لا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تتراضوا على زيادة به وزيادة للجعل ، قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة

__________________

(١) سورة النساء : ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٦.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٧.

(٤) سورة النساء : ٢٤.

(٥) تفسير الميزان للطباطبائي (قدس‌سره) ج ٤ / ٢٧٣.


الأولى يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك بكذا وبكذا. ثم قال : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث (١).

٢ ـ وقال الآلوسي :

«والآية أحد أدلة الشيعة على الجواز وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبي «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى ، وكذلك قرأ ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم والكلام في ذلك شهير ، ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا ، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ..» (٢).

وما نسبه مفسرو العامة ومنهم الآلوسي في روح المعاني من أن الإمام عليا عليه‌السلام قد نهى ابن عبّاس عن المتعة وقال له : «إنّك رجل تائه إن رسول الله نهى عن المتعة» لا أساس له من الصحة ، وتعدّه الشيعة الإمامية من الأحاديث المكذوبة والمفتعلة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ روى الطبراني فقال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه ، حتى نزلت الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فكل فرج سواهما فهو حرام ، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار (٣).

أقول : إن زواج المتعة يندرج تحت قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) وإلا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، سورة النساء آية ٢٤.

(٢) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٨.

(٣) روح المعاني ج ٤ / ٩ نقلا عن الطبراني ، وروى مثله السيوطي في تفسيره ج ٢ / ٢٥٠.


كيف أجازها النبي في السفر وحال الاضطرار كما يدّعي العامة؟ وهل أجاز في السفر الزنا؟ حاشاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فنسخ النبيّ لها ـ لو سلّمنا جدلا ـ لا يعني أنها كانت قبل النسخ من قبيل الزنا ، بل هي زواج شرعي وبقي إلى ما بعد رحيل النبيّ ولم يثبت بدليل شرعي نسخها.

٤ ـ قال الزمخشري :

نزلت ـ أي آية المتعة ـ في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت ، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو اسبوعا بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها ، وعن عمر قال : لا أوتي برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة .. وعن ابن عبّاس هي محكمة ، يعني لم تنسخ وكان يقرأ : «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» (١).

٥ ـ وأخرج السيوطي عن ابن أبي داود عن سعيد بن جبير وعبد بن حميد وابن جرير وقتادة وابن الأنباري وعبد الرزاق عن عطاء والسدي وغيرهم بأسانيد متعددة عن أن الآية واضحة الدلالة في المتعة (٢).

٦ ـ كما أنه أخرج عن عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول الله عام فتح مكة في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ـ ولي عليه فضل في الجمال ـ وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد ، أما بردي فخلق ، وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض ، حتى إذا كنّا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت : وما تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده ، فجعلت تنظر إلى الرجلين ، فإذا رآها صاحبي قال : إن برد هذا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ / ٤٨٧.

(٢) تفسير الدر المنثور ج ٢ / ٢٥٠.


خلق وبردي جديد غض ، فتقول : وبرد هذا لا بأس به ، ثم استمتعت منها فلم تخرج حتى حرّمها رسول الله (١).

كيف حرّمها رسول الله ، وعمر نفسه يقول : كانتا في عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما؟ وليس كما ادعى الآلوسي (٢) من أن عمر نهى عن المتعة لإظهار حرمتها لمن لم يبلغه النهي عنها من النبيّ ، وذلك كيف يخفى هذا على أمير المؤمنين خازن علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلة الصحابة ، وهل كان سبرة الجهني ألصق برسول الله من الإمام علي وابن عباس؟!

٧ ـ روى البيهقي في سننه الكبرى عن محمّد بن كعب أن ابن عباس قال : كانت المتعة في أول الإسلام وكانوا يقرءون هذه الآية «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» (٣).

٨ ـ قال القرطبي : وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، وقرأ ابن عبّاس وأبي وابن جبير «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن» (٤).

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس قالا : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمّد ، ولو لا نهيه عنها ـ أي عمر ـ ما احتاج إلى الزنا إلا شقي ، قال : وهي التي في سورة النساء (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إلى كذا وكذا من الأجل ، على كذا وكذا ، قال : وليس بينهما وراثة ، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم ، وإن تفرقا فنعم ، وليس بينهما نكاح ، وأخبر أنه سمع ابن عباس يراها الآن حلالا (٥).

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٥١.

(٢) تفسير الآلوسي في روح المعاني ج ٤ / ٩.

(٣) سنن البيهقي ج ٧ / ٢٠٥.

(٤) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠.

(٥) الدر المنثور ج ٢ / ٢٥٢.


٩ ـ قال المراغي :

ونكاح المتعة وهو نكاح المرأة إلى أجل معيّن كيوم أو اسبوع أو شهر كان مرخّصا فيه في بدء الإسلام ، وأباحه النبيّ لأصحابه في بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم فرخّص فيه مرة أو مرتين (١).

١٠ ـ قال الشوكاني : قال الجمهور : إن المراد بالآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ويؤيده قراءة أبي بن كعب وابن عبّاس وسعيد بن جبير «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» (٢).

١١ ـ قال علاء الدين البغدادي : المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة ، وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم ، فإذا انقضت المدة بانت منه بغير طلاق ، وكان هذا في ابتداء الإسلام (٣).

هذه نبذة من كلمات مراجع تفسير القرآن عند العامة ، وكلها تشير إلى مشروعية المتعة في الإسلام.

نكاح المتعة في السنّة :

في باب نكاح المتعة من صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرّمه ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. قال محمد : يقال إنه عمر (٤).

وأخرج عن قيس عن عبد الله قال : كنّا نغزو مع النبيّ وليس معنا نساء فقلنا : ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ، ثم قرأ :

__________________

(١) تفسير المراغي ج ٤ / ٨.

(٢) تفسير الشوكاني ج ١ / ٤١٤.

(٣) تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٧.

(٤) صحيح البخاري ج ٥ / ١٨٨ رقم الحديث ٤٥١٨ وحديث رقم ١٥٧١ ج ٢.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١).

وأخرج بسند آخر متصل بإسماعيل عن قيس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنّا نغزو مع النبيّ ليس لنا نساء (٢) إلخ ..

فلمّا نهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخصاء لا بدّ أن يأمرهم بالبديل وقد فعل وهو الزواج المنقطع لمن لم يقدر على الزواج الدائم ، وقد أجازهم بالمنقطع كما أشار إليه حديث رقم (٤٦١٥) و (٥٠٧٥). فقد أورد البخاري حديثين في باب كراهة التبتل والخصاء أحدهما عن ابن شهاب وثانيهما عن الزهري.

قال سعيد بن المسيّب : سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول : ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتّل ، ولو أذن له لاختصينا (٣).

وأخرج أيضا عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا : كنّا في جيش فأتانا رسول الله فقال : إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا (٤).

وأخرج عن سلمة عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أيّما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال ، فإن أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا» فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة (٥) ، وبيّنه عليّ عن النبيّ أنه منسوخ.

ملاحظة : ذيل الرواية عن الإمام عليّ عليه‌السلام مكذوب عليه لما ورد بالمتواتر عنه عليه‌السلام من الطرفين أنه قال : لو لا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.

وأخرج مسلم عن أبي وكيع وابن بشر عن إسماعيل عن قيس قال : سمعت عبد الله يقول : كنّا نغزو مع رسول الله ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي (٦)؟ فنهانا

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ / ٢٢٨ رقم الحديث ٤٦١٥ وحديث رقم ٥٠٧٥.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٣٩ رقم الحديث ٥٠٧١.

(٣) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٤٠ رقم الحديث ٥٠٧٣ و ٥٠٧٤.

(٤) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٥٣ حديث رقم ٥١١٧.

(٥) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٥٣ حديث رقم ٥١١٩.

(٦) الخصاء : سلّ الخصي ونزع البيضة بشق جلدها حتى يخلص من الشهوة.


عن ذلك ، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب (١) إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢).

وأخرج عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله فقال: إن رسول الله قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء (٣).

وأخرج عن ابن جريج قال : قال عطاء : قدم جابر بن عبد الله معتمرا ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة. فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٤).

وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير قال :

سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام ، على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر ، في شأن عمرو بن حريث (٥).

وعن عاصم عن أبي نضرة ، قال : كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (٦).

وعن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه سبرة أنه قال : أذن لنا رسول الله بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر ، كأنها بكرة عيطاء ، فعرضنا عليها أنفسنا ، فقالت : ما تعطي؟ فقلت : ردائي ، وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي ، وكنت أشبّ منه ، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها ،

__________________

(١) المراد من قوله (تنكح المرأة بالثوب) إشارة إلى المهر مما تراضيا عليه.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٥ ح ١٤٠٤.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ حديث رقم ١٤٠٥ ـ ١٣ و ١٤ ، ومسند أحمد ج ٤ / ٥١.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٥.

(٥) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٦.

(٦) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٧ ـ ١٨ وفي بداية المجتهد لابن رشد ج ٢ / ٦٣ : ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس.


وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثم قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ، ثم إنّ رسول الله قال : «من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخلّ سبيلها» (١).

وفي مسند الطيالسي عن مسلم القرشي قال :

دخلنا على أسماء بنت أبي بكر فسألناها عن متعة النساء ، فقالت : فعلناها على عهد النبيّ (٢).

وفي مصنّف عبد الرزاق : لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا (٣).

وروى الترمذي والبيهقي عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس أنه قال :

إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيزوّج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، قال ابن عبّاس : فكل فرج سوى هذين فهو حرام (٤).

وأخرج عن عطاء ، قال : قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٥).

وفي لفظ آخر لأحمد بن حنبل : «حتى إذا كان في آخر خلافة عمر» (٦).

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٨ رقم الحديث ١٤٠٦ ـ ١٩ و ٢٠ و ٢١ ، ومعنى «العيطاء» الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام.

(٢) الطيالسي : حديث ١٦٣٧.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٤٥٨.

(٤) الترمذي ج ٥ / ٥٠ باب نكاح المتعة ، والبيهقي ج ٧ / ٢٠٥.

(٥) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ ح ١٤٠٤ ـ ١٥.

(٦) مسند أحمد ج ٣ / ٣٨٠.


وفي بداية المجتهد : ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس (١).

وفي حديثين آخرين لمسلم في صحيحه : عن جابر قال : فعلناهما ـ أي المتعتين ـ مع رسول الله وأبي بكر ثم نهى عنهما عمر (٢).

وعن اياس بن سلمة عن أبيه ، قال : رخّص رسول عام أوطاس في المتعة ثلاثا ، ثم نهى عنها (٣).

وعن الربيع بن سبرة عن أبيه ، أنّ رسول الله نهى يوم الفتح ، عن نكاح المتعة (٤).

وعن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن عليّ عن أبيهما ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية (٥).

وعن إبراهيم التيمي عن أبيه ، قال : قال أبو ذر رضي الله عنه : لا تصلح المتعتان إلّا لنا خاصة. يعني متعة النساء ومتعة الحج (٦).

وعن غنيم بن قيس ، قال : سألت سعد بن أبي وقّاص عن المتعة؟ فقال : فعلناها ، وهذا ـ أي معاوية بن أبي سفيان ـ كافر بالعرش ـ أي بيوت مكة ـ (٧).

من خلال هذا العرض الموجز للنصوص المتعلقة بالمتعة من مصادر القوم نحصل على طائفتين منها :

__________________

(١) بداية المجتهد ج ٢ / ٦٣.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦ ـ ١٧.

(٣) نفس المصدر ح ١٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٠ ح ٢٤ كتاب النكاح.

(٥) نفس المصدر ح ٢٩ ـ ١٤٠٧ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢.

(٦) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٢٢٤ ـ ١٦٢.

(٧) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٢٢٤ ـ ١٦٤.


الأولى : تشير إلى أن التحريم صدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة مواقع كخيبر ومكة بعد عام اوطاس ، وفي بعض النصوص أن المتعتين مخصوصتان بأصحاب رسول الله دون غيرهم (١). وأغلب هذه النصوص تدل على إباحة المتعة في السفر.

الثانية : إلى أن النهي صدر من عمر بن الخطاب ، مع اعترافه أن المتعتين كانتا على عهد رسول الله واستنكار كثير من الصحابة عليه.

لذا دفعا لمحذور التناقض الحاصل بين هذه المرويات نسبوا تكرار النسخ في حكم واحد ، حتى ولو أدى هذا النسخ إلى التلاعب بالدين واضطراب المشرّع الإسلامي وعدم استقراره على حكم معيّن في واقعة واحدة.

وعلى فرض جواز تكرر النسخ في حكم واحد دفعا لتناقض الأحاديث ، فلا بدّ من القول بتكرر النسخ بعدد الأحاديث المتناقضة ، وعلى هذا فقد صحّ ما نقله القرطبي حيث قال :

«وقال غيره ـ أي ابن العربي ـ ممن جمع الأحاديث في المتعة ، أنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات ، فروى ابن عمرة : أنها كانت في صدر الإسلام ، وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام اوطاس ، ومن روايات على تحريمها يوم خيبر ، ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح ، وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم ، وفي غيره عن عليّ نهيه عنها في غزوة تبوك ، وفي سنن أبي داود عن الربيع بن سبرة النهي في حجة الوداع ، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك ، وقال عمرو عن الحسن : ما حلت قبلها ولا بعدها ، وروى هنا في سبرة أيضا. فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة ثم حرّمت ..» (٢).

فالتزام العامة بصحة كل ما ورد في الكتب الموسومة بالصحة عندهم أدى إلى القول بنسخ حكم المتعة في الشرع مرات متعددة ، ولنعم ما قاله ابن القيّم في

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٦٠ ـ ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠ ـ ١٣١.


هذا الصدد : «وهذا النسخ ، لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقع مثله فيها» (١).

هذا مضافا إلى ما ذكرنا ، كيف تصح واحدة من تلك الروايات مع ما تواتر نقله عن عمر بن الخطّاب نفسه حيث قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج ، فأما أن يعتقد العامة بهذه الرواية وأمثالها ويتركوا تلك الروايات المضطربة التي نسبت إلى رسول الله النسخ المتكرر ، وإما أن يكذّبوا بقية الصحابة الأجلّاء أمثال ابن عبّاس وجابر بن عبد الله والذين قالوا بحليتها وعدم نسخها وأنهم تمتعوا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصف من خلافة عمر ، هذا بالغض عن أن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام على رأس القائلين بعدم نسخها ، فهل يكذّب الإمام عليّ وجلة الصحابة حتى تلمّع صورة عمر بن الخطّاب؟!

كيف تصح واحدة من تلك الأحاديث ولم يسمع بها الخليفة عمر ولا أحد من الصحابة ولا التابعين حتى عصر ابن الزبير ، ولا كان عند أحد من المسلمين علم بإحدى تلك الروايات في كل تلك العصور وإلّا لأسعفوا بها عمر فاستشهد بها ، وأسعفوا بها عصبة الخلافة حتى عهد ابن الزبير فاستشهدوا بها ، في حين أن المعارضين أمثال ابن عبّاس وجابر وابن مسعود وغيرهم كانوا يجبونهم بسنّة الرسول ، ويستشهد بعضهم الآخر على ذلك فيسألون أسماء أم ابن الزبير ، ويقول الإمام عليّ وابن عبّاس لو لا نهي عمر لما زنى إلّا شقي ، وفي كل تلك الموارد لم يقل أحد بأن الرسول نهى عن متعة النساء.

أجل ، إن تلكم الأحاديث وضعت احتسابا للخير وتأييدا لموقف عمر بن الخطاب ودفعا للقالة عنه ، كما وضعت أحاديث الأمر بإفراد الحج والنهي عن العمرة احتسابا للخير ودفعا للقالة عنه.

عرفنا مما تقدم عدم صحة تلك الروايات الدالة على النسخ وسوف يأتي مزيد

__________________

(١) زاد المعاد ج ٢ / ٢٠٤.


نقض عليها ، ولكن يتساءل المرء عن سبب نهي عمر بن الخطّاب عن المتعتين ، هل كان بداعي الإصلاح أم وراء الأكمة ما وراءها؟!

إن الخلفية الذهنية التي انطلق منها عمر بن الخطّاب ، هي خلفية عشائرية حملها معه قبل الإسلام ، تلزم الباحث بالوقوف بوجه أفكاره الجاهلية ، وبالإذعان بشدة العصبية التي كان يتصف بها الرجل المذكور ، فعند ما أطلق تحريمه للمتعتين كغيرها من الموارد التي حرّمها على المسلمين ، كان يروم من خلاله تقويض مبادي الإسلام ، وهل يملك الصلاحية التشريعية لكي يحرّم ما أحلّه الله؟! لا أحد يملك صلاحية كهذه ، لأن الله وحده هو المشرّع ، فلا حكم إلا له ، ولا راد لقضائه ولا سلطان إلّا سلطانه ، وكيف يتجرأ على الله سبحانه بقوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما؟!

إن ما ذهب إليه عمر ينمّ عن انعدام الثقة بالله وبرسوله بل وانعدام الإيمان بهما ، هذا مضافا إلى سيطرة المشاعر الجاهلية على قلبه وعقله ، فلم يكن تحريمه لهما غيرة على الدين ـ كما يحاول البعض إلصاقها به ـ لأن الغيرة لا تستتبع أن يحرّم ما أحلّ الله ، وهل هناك أحد أشدّ غيرة على الدين من الله ورسوله وآل رسوله؟! وهل الغيرة أن يحرّم المرء ما أحلّ الله ورسوله؟!

قد يقال : إن تحريم عمر لمتعة النساء كان نتيجة خلل حصل من سوء الاستفادة منها كما أومأ لذلك صاحب الإصابة «من أن سلمة بن أمية استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها ، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة».

والجواب : لا ملازمة بين معالجة الخلل وبين تحريم المتعة ، فبدلا من التحريم ، كان عليه التقويم والتنظيم ، بمعنى أنه كان عليه أن ينظّم العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة من خلال العقد المنقطع ، لا أنه يحرّم ويعاقب فاعلها ، وإلّا على هذا الأساس كان عليه أن يحرّم أغلب الأوامر الإسلامية نتيجة سوء الاستفادة


منها ، فالعيب ليس في حكم المتعة وإنما في بعض الأفراد الذين أساءوا الاستفادة منها ، وإذا تنصّل الزوج من ولده بالمتعة ، فليس معناه أن النقص فيها ، وإنما في متعلقها أعني الزوج المنكر لولده من المتعة.

وهل حصل خلل في متعة الحج حتى حرّمها عمر قياسا على الخلل الحاصل بنظره في متعة النساء؟! وما هذه الفطانة التي كان يتحلّى بها عمر دون بقية أكابر الصحابة لا سيّما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟!

إنّ مقتضى ما دلت عليه النصوص الواردة عن عمر أنه حرّمها لما بلغه أن نساء تمتعنّ فحبلن ، لكنّ الحقيقة غير ما تظاهر به عمر ، لأن واقعه وباطنه هو عدم الاعتقاد بالمتعة كحكم تشريعي هبط به الوحي على قلب خاتم الرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من هنا أراد أن يقلب الموازين الشرعية بتغيير الحلال إلى حرام ليرجع الناس عن دين الله تعالى ، وإلّا لم منع من تدوين الأحاديث الصادرة عن النبيّ بل هدّد بالنفي والضرب كل من أراد بثها ونشرها (١) بين المسلمين!!

فقد ورد في صحيح مسلم وغيره من كتب القوم ، واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام ، على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر ، في شأن عمرو بن حريث.

وفي لفظ المصنّف لعبد الرزاق عن عطاء عن جابر :

استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة ـ سمّاها جابر فنسيتها ـ فحملت المرأة فبلغ ذلك عمر فدعاها فسألها ، فقالت : نعم ، قال : من أشهد؟ قال عطاء : لا أدري ، قالت : أمي ، أم وليّها ، قال : فهلّا غيّرهما ، قال : خشي أن يكون دغلا (٢).

وفي رواية أخرى قال جابر : قدم عمرو بن حريث من الكوفة فاستمتع بمولاة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٣ حوادث عام ٢٣.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٤٩٦ باب المتعة.


فأتي بها عمر وهي حبلى فسألها ، فقالت : استمتع بي عمرو بن حريث ، فسأله فأخبره بذلك أمرا ظاهرا ، قال : فهلّا غيّرها ، فذلك حين نهى عنها (١).

إن قيل : إنّ عمر لم يحرّم متعة النساء وإنما هدّد من تمتّع من دون شهود عدول كما يوحي إليه بعض الأخبار منها خبر عمرو بن حريث السابق.

قلنا :

إن عمر تدرّج في تحريمه للمتعة بدءا بالتشديد في أمر شهود نكاح المتعة ، وطلب أن يشهده عدول المؤمنين كما يظهر من خبر محمّد بن الأسود بن خلف : «أن عمرو بن حريث استمتع بجارية فحملت منه ، فذكر ذلك لعمر فسألها ، فقالت : استمتع مني عمرو بن حريث فسأله فاعترف ، فقال عمر : من أشهدت؟ قال : أمها أو أختها أو أخاها وأمها ، فقام عمر على المنبر فقال : ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا ..» (٢) ثم نهيه عنه بتاتا حتى قال : «لو تقدّمت في نهي لرجمت» (٣).

وبعد هذا أصبح نكاح المتعة محرّما في المجتمع الإسلامي ، وبقي عمر مصرّا على رأيه إلى آخر عهده لم يؤثر فيه نصح الناصحين ، ولمّا أشكل عليه عمران بن سواد بقوله : «ذكروا أنك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.

أجاب عمر : إن رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى سعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها ، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت ..» (٤).

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٥٠٠ ، وفتح الباري ج ١١ / ٧٦.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٥٠٠.

(٣) كنز العمال ج ٨ / ٢٩٤ ، ط / دائرة المعارف ، حيدرآباد ـ دكن سنة ١٣١٢ ه‍.

(٤) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٠ حوادث عام ٩٣ في باب شيء من سيره.


يرد على اعتذاره في تحريم المتعة من أن عهده يختلف عن عهد رسول الله من حيث ضرورة المتعة فيه دون غيره ، بأن جلّ الروايات التي صرّحت بوقوعها في عصر رسول الله وبإذن منه ذكرت أنها كانت في الغزوات وحال السفر ، بل صريح بعضها (١) ـ وهو يفوق حد الاستفاضة ـ عدم دخالة السفر في جوازها بل الحاجة والضرورة ، ولا فرق في ذلك بين عهد رسول الله وعهد أبي بكر وعمر إلى زماننا الحاضر وإلى أبد الدهر.

فإن الإنسان لم يزل منذ أن وجد على ظهر هذا الكوكب ولا يزال بحاجة إلى السفر والاغتراب عن أهله أسابيع وشهورا ، بل وسنين طويلة أحيانا ، فإذا سافر الرجل ما ذا يصنع بغريزة الجنس في نفسه؟ هل يتركها عند أهله حتى إذا عاد إليهم عادت غريزته ليصرفها مع زوجه؟

أم أنها معه لا تفارقه في السفر والحضر؟ وإذا كانت غريزته غير مفارقة له فهل يستطيع أن يتنكر لها في السفر ويستعصم؟

وإذا كان الشاذ النادر في البشر يستطيع أن يستعصم فهل الجميع يستطيعون ذلك أم أن الغالب منهم تقهره غريزته؟

وهذا الصنف الكثير من البشر إذا طغت عليه غريزته في المجتمع الذي يمنعه من التصرف في غريزته ويطلب منه أن يخالف فطرته وما تقتضيه طبيعته ما ذا يفعل عند ذاك؟ وهل له سبيل غير أن يخون ذلك المجتمع؟!

والإسلام الذي وضع حلا مناسبا لكل مشكلة من مشاكل الإنسان هل ترك هذه المشكلة بلا حل؟! لا ، بل شرّع لحل هذه المشكلة : الزواج المؤقت ولو لا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي (أو شفى (٢)) على حد تعبير مولى المؤمنين عليّ بن

__________________

(١) لاحظ صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ح ١٤ ـ ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

(٢) في بعض الروايات ، والمراد من «شفى» القليل من الناس.


أبي طالب عليه‌السلام ؛ أما المجتمعات البشرية فقد وضعت لها حلا بتحليل الزنا في كل مكان.

ولا يقتصر الأمر في ما ذكرنا على من يسافر من وطنه ، فللبشر كثير من الحالات في وطنه تمنعه من الزواج الدائم أحيانا سواء في ذلك الرجل والمرأة ، فما يصنع إنسان لم يتمكّن من الزواج الدائم سنين كثيرة من عمره في وطنه أن لم يلتجئ إلى الزواج المؤقت؟ ما ذا يصنع هذا الإنسان ، والقرآن يقول له (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (١) ويقول لها : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (٢)؟!

أمّا ما ذكره عمر بن الخطّاب خليفة أبي بكر ، في مقام العلاج من تبديل نكاح المتعة بالنكاح الدائم على أن يفارق عن ثلاث بالطلاق ، فالأمر ينحصر فيه بين أمرين لا ثالث لهما :

إمّا أن يقع ذلك بعلم من الزوجين وتراض بينهما فهو الزواج الموقت أو نكاح المتعة بعينه.

وإمّا أن يقع بتبييت نية من الزوج مع إخفائه عن الزوجة فهو غدر بالمرأة واستهانة بها بعد أن اتفقا على النكاح الدائم وأخفى المرء في نفسه نية الفراق بعد ثلاث ، وكيف يبقى اعتماد للمرأة وذويها على عقد الزواج الدائم مع هذا؟

وزبدة المخض :

إن كل تلك الروايات التي رويت عن رسول الله في تحريمه المتعتين ونهيه عنهما والتي حفلت بتدوينها أمهات كتب الحديث والتفسير وضعت بعد عصر عمر ، والشاهد عليه ، أن واحدا من الصحابة على عهد عمر لو كانت عنده رواية عن رسول الله تؤيد سياسة الخليفة في المتعتين والتي كان يجهر بها ويهدد على مخالفتها بقوله (وأعاقب عليها) لو كان واحد من الصحابة على عهده عنده من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٥.

(٢) سورة النساء : ٢٥.


رسول الله شيء يؤيد هذه السياسة لما احتاج إلى كتمانها عن الخليفة ولنشرها ، ولو كان الخليفة في كل تلك المدة قد اطلع على شيء يؤيد سياسته لاستشهد به ولما احتاج إلى كل هذا العنف بالمسلمين.

وهكذا انتهى عهد عمر بن الخطّاب ، بعد أن كبت المعارضين لسياسة حكمه وكتم أنفاسهم ومنعهم حتى من نقل الحديث عن رسول الله ، واستمر الأمر على ذلك إلى ست سنوات من خلافة عثمان ، وانتشر الأمر متدرجا بعد ذلك فنشأ جيل جديد لا يعرف من الإسلام إلا ما سمحت سياسة الخلافة بنشره وبيانه.

متعة الحج :

وأما متعة الحج التي حرّمها عمر بن الخطّاب فهي الفترة الواقعة بين العمرة وحج التمتع ، وانعقد الإجماع على حلية متعة الحج واستمرارها ودوامها عدا فريق من المسلمين لم يعملوا إلّا برأي سيّدهم عمر فحرّموها طبقا لتحريم عمر لها ، فخالفوا سنّة رسول الله واتّبعوا بدعة عمر.

وقد عيّنت النصوص التاريخية متعة الحج التي لم يتقبّلها عمر ، وأراد من خلال تحريمه للمتعة في أشهر الحج أن يرفع من البنية الاقتصادية في مكة لأن المتعة هي أن يأتي المكلف بالعمرة ثم يحل من إحرامه ، فيحلّ له كل ما حرم عليه ثم يأتي بإحرام جديد لحج التمتع ، فكان هدف عمر أن يفصل بين العمرة وحج التمتع ، فتكون الأولى في غير أشهر الحج لئلا تبقى مكة خالية من الحجيج ، وقد أشار عمر بن الخطّاب إلى هذا في عدة مواطن نذكر بعضا منها :

١ ـ عن الأسود بن يزيد قال :

بينا أنا واقف مع عمر بن الخطّاب بعرفة عشية عرفة فإذا هو برجل مرجّل شعره يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم ، فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر ، قال : إني قدمت متمتعا وكان معي أهلي ، وإنما أحرمت اليوم ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه


الأيام فإني لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ثم راحوا بهن حجاجا (١).

قال ابن القيم : قال ابن حزم ـ معلّقا على الخبر ـ : وكان ما ذا؟ وحبّذا ذلك وقد طاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نسائه ثم أصبح محرما ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين ، والله أعلم.

٢ ـ وعن أبي حنيفة عن حمّاد عن ابراهيم عن عمر بن الخطّاب : أنه بينا هو واقف بعرفات إذ أبصر رجلا يقطر رأسه طيبا ، فقال له عمر : ألست محرما؟ ويحك! فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : ما لي أراك يقطر رأسك طيبا ، والمحرم أشعث أغبر ، قال : أهللت بالعمرة المفردة وقدمت مكة ومعي أهلي ففرغت من عمرتي ، حتى إذا كان عشية التروية أهللت بالحج ، قال : فرأى عمر أن الرجل قد صدّقه إنّما عهده بالنساء والطيب بالأمس ، فنهى عمر عند ذلك عن المتعة وقال : إذا والله لأوشكتم لو خلّيت بينكم وبين المتعة أن تضاجعوهن تحت أراك عرفة ثم تروحون حجّاجا (٢).

٣ ـ عن عبد الله بن عمر قال : إنّ عمر بن الخطّاب قال : افصلوا بين حجّكم وعمرتكم ، فإنّ ذلك أتمّ لحجّ أحدكم ، وأتمّ لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج (٣).

٤ ـ عن سعيد بن المسيّب :

أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهي عنها ، وذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج ، وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ، ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ

__________________

(١) زاد المعاد / ابن القيم ج ١ / ٢١٤.

(٢) المتعة للفكيكي ص ١٤٠ نقلا عن كتاب الآثار ص ٩٧.

(٣) موطأ مالك ص ٢٣٨ ، سنن البيهقي ج ٥ / ٥ ، تيسير الوصول ج ١ / ٢٧٩ ، والدر المنثور في ذيل آية ١٩٦ من سورة البقرة.


ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه ، حتى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى من يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك ، مع أن أهل البيت (١) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم (٢).

٤ ـ وعن أبي موسى : أن عمر قال : هي سنّة رسول الله ـ يعني المتعة ـ ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ، ثم يروحوا بهن حجّاجا (٣).

٥ ـ وعن ابن عبّاس : قال لمن كان يعارضه في متعة الحج بأبي بكر وعمر : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر (٤).

وهكذا حدّث الرواة عن حال عمر وبعض الصحابة الذين لم يكونوا على استعداد لتلقي حكما يخالف ما دأبوا عليه في العصر الجاهلي حيث كانوا يرون المتعة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فقد ورد عن ابن عبّاس أنه قال : إن المشركين في الجاهلية كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرّم صفر ، ويقولون : إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر ، حلّت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبيّ وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحلّ؟ قال : الحلّ كله (٥).

__________________

(١) يقصد أهل مكة.

(٢) المتعة للفكيكي ص ١٤٢ نقلا عن السيوطي في جمع الجوامع.

(٣) مسند أحمد ج ١ / ٤٩.

(٤) زاد المعاد لابن القيم ج ١ / ٢١٥ وهامش شرح المواهب ج ٢ / ٣٢٨.

(٥) صحيح مسلم ج ٨ / ١٨٣ ح ١٢٤٠ باب جواز العمرة في أشهر الحج ، وصحيح البخاري ج ٢ / ٤٨٥ ح ١٥٦٤ ومسند أحمد ج ١ / ٢٤٩ وسنن أبي داود ، كتاب المناسك ـ باب العمرة ، والنسائي : كتاب الحج ، وسنن البيهقي ج ٤ / ٣٤٥ ومشكل الآثار للطحاوي ج ٣ / ١٥٥.


ملاحظة :

المراد من قوله «ويجعلون المحرّم صفر» هو الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه ، وكانوا يسمّون المحرم صفرا ويحلّونه وينسئون المحرم أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر ، لئلا يتوالى بينهم ثلاثة أشهر محرّمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها.

وأما قوله «إذا برأ الدبر» أي برأ ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج.

«وعفا الأثر» أي اندرس أثر الإبل وغيره في سيرها.

قال ابن حجر في تعليل هذا الأمر :

وجه تعلق جواز الاعتماد بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحج ، وكذلك المحرّم أنهم لمّا جعلوا المحرّم صفرا ولا يبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ، ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية ، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرّم الذي هو في الأصل صفر ، والعمرة عندهم في أشهر الحج(١).

كان هذا دأب قريش وسنتهم في العمرة وقد خالفهم الرسول في ذلك فقد روي عن الصحابي عمران بن الحصين قال :

تمتعنا على عهد رسول الله ونزل القرآن ، وقال رجل برأيه ما شاء (٢).

وحسب رواية مسلم عن عمران بن الحصين قال المطرّف :

إني لأحدّثك بالحديث اليوم ، ينفعك الله به بعد اليوم ، واعلم أن رسول الله قد اعمر طائفة من أهله في العشر ، فلم تنزل آية تنسخ ذلك ، ولم ينه عنه حتى

__________________

(١) راجع شرح الحديث بشرح النووي على مسلم وشرح ابن حجر بفتح الباري.

(٢) صحيح البخاري ج ٢ / ٤٨٧ ح ١٥٧١.


مضى لوجهه ، ارتأى كلّ امرئ بعد ، ما شاء أن يرتئي (١). ومن شاء برأيه ما شاء هو عمر (٢).

وعن جابر بن عبد الله قال : كنّا مع رسول الله فلبينا بالحج وقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة ، فأمرنا النبيّ أن نطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، وأن نجعلها عمرة ولنحلّ ، إلا من كان معه هدي قال : ولم يكن مع أحد منّا هدي غير النبي وطلحة ، وجاء «الإمام» عليّ من اليمن معه الهدي ، فقال : أهللت بما أهلّ به رسول الله ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ... قال : ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة ، فقال يا رسول الله : ألنا هذه خاصة؟ قال: لا بل للأبد (٣).

النقطة الثالثة : عدم وجود ناسخ لآية متعة النساء.

وقع خلاف بين الخاصة والعامة في المتعة هل نسخت أو لا بعد اتفاقهم على حصولها بنص الكتاب والسنّة المطهّرة؟

قالت الإمامية : إنها لم تنسخ ، وأما العامة فقالوا بوقوع النسخ عليها كغيرها من الأحكام المنسوخة.

والنسخ لغة بمعنى الإزالة والإعدام ، وفي الاصطلاح يراد منه : رفع الحكم التكليفي الثابت السابق ، الظاهر في الدوام ، بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء كان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أو في شرائع عدة ، كما أن كل شريعة لاحقة تنسخ الشريعة السابقة عليها.

إن قيل : أليس في النسخ نسبة النقص أو الجهل إلى المشرّع بظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق ، عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول؟

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٧ ح ١٢٢٦.

(٢) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٧ ح ١٦٦ ذيل حديث ١٢٢٦.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ / ٤٧٥ ح ٧٢٣٠ كتاب التمني.


قلنا :

إن هذا المعنى للنسخ مستحيل عليه تعالى لكونه بهذا المعنى يستدعي تبدل رأي المشرّع بظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق ، والخطأ مستحيل على الذات الإلهية لاستلزامه الفقر وهو منزّه تعالى عنه ، وهذا المعنى من التشريع إنما يخص اولئك المشرّعين الذين لا يحيطون بالمصالح والمفاسد الكامنة وراء الواقع ، أما العالم بالواقع وبالخفايا المحيط بكل شيء ، مثل هذا يمتنع عليه الخطأ عقلا وشرعا.

فالنسخ المنسوب إليه تعالى ـ كما في نسخ حكم قبلة بيت المقدس بحكم قبلة الكعبة المشرّفة ـ إنما هو نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، والله سبحانه لم يشرّعه حين شرّعه إلا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت ، وقد شرّعه الله تعالى وفق تلك المصلحة المحدودة من أول الأمر ، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الله تعالى بيان الأمد وأجله إلى وقته المحدود ثم في نهاية الأمد جاء البيان إلى الناس : إن هذا التشريع قد انتهى بهذا الأجل ، فالنسخ في الحقيقة ليس سوى تأخير بيان الأمد المضروب من الأول ، ولعلّ في تأخير هذا البيان مصلحة للأمة كالتشديد على العباد بالتكليف وتسبيبا لهم لمزيد الأجر ، أو لنقصان في قابلياتهم فاستدعى إخفاء البيان تلطفا بهم.

والمشهور أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنّة المتواترة ، وكذا تنسخ السنة المتواترة بالكتاب أو بمثلها.

وقد خالفهم الشافعي فلم يجوّز نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ولا نسخ السنّة المتواترة بالقرآن(١).

__________________

(١) معارج الأصول للعلامة الحلي ص ١٧٢ ، المسألة التاسعة والعاشرة.


ووافقه على ذلك أبو مسلم الأصفهاني حسبما نقل عنه الخضري في كتابه أصول الفقه فقال :

«إن خلاف أبي مسلم إنما هو في نسخ نصوص القرآن ، فهو يرى أن القرآن كله محكم لا تبديل لكلمات الله» (١).

يرد عليه :

أولا : لا قيمة لكلام المذكور بعد تصريح القرآن بإمكان النسخ في آياته بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٢).

ثانيا : أن النسخ المدّعى هنا ليس تبديلا لكلمات الله ، وإنما هو شرح للمراد منها وتقييد أو تخصيص لظهوراتها (٣) ، أو نقول إن الناسخ ظرفه متأخر ، وملاكه مصلحة أخرى ، تبدلت عن مصلحة سابقة كانت مستدعية لذلك الحكم المنسوخ (٤).

ثالثا : دعواه أن القرآن كله محكم يكذّبه القرآن نفسه بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٥).

وبالجملة : فإن الذين قالوا بنسخها هي عندهم محرّمة ، ومن لم يعتقد بذلك هي عنده حلال حيث لم يثبت تحريمها أو نسخها ، وقد مال إلى هذا مالك حسبما نسب إليه ذلك شيخ الإسلام المرغيناني مستدلا عليه بقوله : «لأنه ـ أي نكاح المتعة ـ كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه» (٦).

__________________

(١) الأصول العامة للفقه المقارن : محمد تقي الحكيم ص ٢٤٦ نقلا عن أصول الفقه ص ٢٤٦ للخضري.

(٢) سورة البقرة : ١٠٦.

(٣) الأصول العامة للفقه المقارن ص ٢٤٦.

(٤) التمهيد في علوم القرآن ج ٢ / ٢٩٢.

(٥) سورة آل عمران : ٧.

(٦) البيان في تفسير القرآن للخوئي ص ٣١٤ نقلا عن الهداية في شرح البداية ص ٢٨ ، ط / بولاق مع فتح القدير.


ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة (١).

وقد تزوج ابن جريج أحد الأعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (٢).

فمدلول آية المتعة لم يرد عليه ناسخ ، وذلك لأن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف على أمرين :

الأول : على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة.

الثاني : على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.

أمّا الأمر الأول : «إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع» فلا ريب في ثبوته وقد تضافرت في ذلك الروايات من الطرفين ، قال القرطبي : قال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، وقرأ ابن عباس ، وأبي ، وابن جبير فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى ـ فآتوهن أجورهن ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن : بأن المراد منها النكاح الدائم ، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه ، ونسب هذا القول إلى مجاهد ، وابن عبّاس أيضا ، والروايات المرويّة عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذّب هذه النسبة ، وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته ، وعن إطالة الكلام فيه.

وأمّا الأمر الثاني : «تحريم نكاح المتعة بعد جوازه» فهو ممنوع ، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد أمور ، وجميعها لا يصلح لأن يكون ناسخا ، وهي ثلاثة : آيات ، روايات ، وإجماع.

أمّا الآيات : فقوله تعالى :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٠٨ عند تفسيره الآية المباركة ٢٤ من سورة النساء.

(٢) شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء ج ٨ / ٧٦.


١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (١).

قالوا : إن النسخ لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة ؛ قلنا : ليس في الآية تعرّض لبيان موارد الطلاق ، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون ، ولأن تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء وشرعيته بما كان موردا للطلاق ، وإلا فما ذا يقولون في التسري والوطء بملك اليمين ، فإن مورد الطلاق هو العقد المبني على الدوام لأنه حل لعقدة الزواج الدائم.

وإن قالوا : أن النسخ بالعدة لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقلّ من عدة المطلقة.

قلنا : إن المتمتع بها عليها عدة ، ولكنها تنقص عن عدة الدائم بحسب ما دل عليه الدليل تماما كنقصان عدة الأمة ، فنقصان عدة الأمة لا يستلزم نسخها وهو المتفق عليه عند جميع الإمامية ومشهور العامة.

هذا مضافا إنه لا دلالة في الآية ولا في غيرها على أن عدة المتمتع بها كعدة المطلّقة وعلى نحو واحد ، بل الاختلاف في العدة بحسب ما دلّ عليه الدليل ، هذا بالغض عن أن الطلاق يقصد منه الفراق وهو أعم من الدائم فيشمل المنقطع وغيره ، فعلام حملوا الطلاق على الزواج الدائم؟!

٢ ـ قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) (٢).

استدل المحرّمون للمتعة بهذه الآية من حيث إنّ المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة.

والجواب :

١ ـ إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لآية الإرث

__________________

(١) سورة الطلاق : ١.

(٢) سورة النساء : ١٢.


ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث ، وقد ثبت أنّ الكافر لا يرث المسلم ، وأن القاتل لا يرث المقتول ، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم ، وأين هذا من النسخ؟!

٢ ـ لعلّ الحكمة من عدم توارث في النكاح المنقطع هي ضعف علقة الزوجية بينهما لكونها مؤقتة ، والعلاقة المؤقتة لا توجب التوارث إلّا إذا اشترطت الزوجة الإرث من بعد وفاته وهي في عهدته.

٣ ـ إن المتمتع والمتمتع بها زوجان ، لكنهما لا يرثان لوجود دليل على ذلك ، ولا يقدح هذا بزوجيتهما ، بل عدم التوارث لا يخرجهما عن الزوجية ، لا سيما إذا كانت الزوجة من أهل الكتاب فإنها لا ترث من الزوج لما رواه العامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يتوارث أهل الملتين مع اتفاقهم على جواز نكاح الكتابية بالعقد الدائم ، واتفاقهم على عدم التوارث بينها وبين زوجها المسلم تخصيصا منهم لعموم الإرث للحديث المتقدم. بل إن آية الميراث تقتضي بنفسها أن يتوارث المستمتع والمستمتع بها لأنهما زوجان ، لكنّ الدليل دل على عدم توارثهما ، فخصص به الكتاب.

٤ ـ إن آية المواريث وآية الأزواج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (١) مكيتان ، وآية المتعة مدينة نزلت بعد الهجرة ، ولا يمكن تقديم الناسخ على المنسوخ ، بمعنى لو أن آية المتعة منسوخة لما تأخرت عن آية الأزواج المكية ، لأن الناسخ يأتي دائما متأخرا والمفروض العكس حيث تقدمت آية الأزواج وتأخرت آية المتعة.

٥ ـ لا توجد ملازمة عقلية بن الزوجية والإرث كما لا اتحاد في المفهوم ، وهل الوراثية إلّا حكم شرعي يثبت للزوجة بدليله ويرتفع بدليله كما في الكتابية والقاتلة؟.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦.


وأما الروايات التي ادّعى أنها ناسخة لآية المتعة منها :

١ ـ ما رووه عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنه قال لابن عبّاس :

«إنك رجل تائه (١) ، إن رسول الله نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر»(٢).

٢ ـ ورووا عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال :

رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول : يا أيّها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا» (٣).

٣ ـ وروى سلمة عن أبيه ، قال :

رخّص رسول الله عام اوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها (٤).

والجواب :

أولا : إن هذه المرويات أخبار آحاد ، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد.

ثانيا : إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت عليهم‌السلام المتواترة التي دلت على إباحة المتعة ، وأن النبيّ لم ينه عنها أبدا.

ثالثا : إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله لا يكفي في الحكم بنسخ الآية ، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة ، وقد استفاضت الروايات من طرق العامة على حلية المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان خلافة عمر ، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بدّ من طرحه.

__________________

(١) (رجل تائه) : حائر وحائد عن الطريق المستقيم.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٢ ح ١٤٠٧ ـ ٢٩.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٩ ح ١٤٠٦ ـ ٢١ ـ ٢٢ وفي نصوص : فليخلّ سبيلها.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٤٠٥ ـ ١٨.


من هذه الروايات ما روى أبو الزبير قال :

سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتى نهى عنه ـ أي نكاح المتعة ـ عمر في شأن عمرو بن حريث (١).

وروى أبو نضرة قال :

كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثم نهى عنهما عمر فلم نعد لهما (٢).

وروى أبو نضرة عنه أيضا قال :

متعتان كانتا على عهد النبيّ فنهانا عنهما عمر فانتهينا (٣).

وروى شعبة عن الحكم بن عيينة قال :

سألته عن هذه الآية ـ آية المتعة ـ أمنسوخة هي؟ قال : لا.

قال الحكم : قال عليّ لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي (٤).

وروى القرطبي (٥) ذلك عن عطاء عن ابن عباس.

وبالجملة : لم يثبت بدليل قطعي ومقبول نهي رسول الله عن المتعة ، ومما يدل على أن رسول الله لم ينه عن المتعة : أن عمر ينسب التحريم إلى نفسه حيث قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما» (٦) ولو كان التحريم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان عليه أن يقول : نهى النبيّ عنهما.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦.

(٢) نفس المصدر ح ١٧.

(٣) مسند أحمد ج ٣ / ٣٢٥.

(٤) تفسير الطبري ج ٥ / ٩.

(٥) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠.

(٦) سنن البيهقي ج ٧ / ٢٠٦ باب نكاح المتعة وكنز العمال ج ٨ / ٢٩٣.


وأمّا الروايات التي استدل بها القائل بالنسخ فهي على طوائف منها : ما ينتهي بسنده إلى الربيع بن سبرة عن أبيه ، ومنها ما روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، ومنها ما روي عن سلمة بن الأكوع.

«أمّا ما ينتهي سنده إلى سبرة ، فهو وإن كثرت طرقه إلّا أنه خبر رجل واحد «سبرة» وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد كذبها ، إذ كيف يعقل أن يقوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا بين الركن والمقام ، أو بين الباب والمقام ، ويعلن تحريم شيء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين ، ثم لا يسمعه غير سبرة ، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه ، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحظات عينيه ، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟! أضف إلى ذلك أنّ روايات سبرة متعارضة ، يكذّب بعضها بعضا ، ففي بعضها أنّ التحريم كان في عام الفتح وفي بعضها أنه كان في حجّة الوداع. وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الأخذ بها من جهات شتى. وأما ما روي عن علي عليه‌السلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا ، وذلك لاتفاق المسلمين على حلّيتها عام الفتح ، فكيف يمكن أن يستدل علي عليه‌السلام على ابن عبّاس بتحريمها في خيبر.

وأمّا ما روي عن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال : «رخّص رسول الله في متعة النساء عام اوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها» فهو خبر واحد ، لا يثبت به النسخ ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وجابر ، وعمرو ابن حريث ، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين ، وكيف يصح ذلك ولم يحرّم أبو بكر المتعة أيام خلافته ، ولم يحرّمها عمر في شطر كبير من أيامه ، وإنما حرّمها في أواخر أمره ، هذا مع ثبوت حليتها عند جماعة من الصحابة والتابعين» (١).

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن للخوئي ص ٣٢١.


وأما الإجماع المدعى على نسخ المتعة وتحريمها فمردود بأمرين :

الأول : إن الإجماع لا حجية له بذاته إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم ، وقد عرفت ـ أيّها القارئ ـ أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا عن الخطأ؟

ولو صحّ ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب ، أو أثبتتها السنّة القطعية ، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج بآراء المجتهدين ، وهذا مما لا يرضى به مسلم.

الثاني : إن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة ، وكيف يدّعي الإجماع على ذلك ، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ، ولا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وإذن فلم يبق إلا تحريم عمر. ومن البيّن أن كتاب الله وسنة نبيّه أحق بالاتباع من غيرهما ، ومن أجل ذلك أفتى عبد الله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج ، فقال له ناس :

«كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك ، فقال لهم : ويلكم ألا تتقون أفرسول الله أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟

والخلاصة : أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة ، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الإسلام.

النقطة الرابعة : في رد بعض الشّبهات.

الشبهة الأولى :

وهي لصاحب المنار حيث زعم : «أن التمتع ينافي الإحصان ، بل ليس من الإحصان في شيء ، أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ، فتكون كما قيل :


كرة حذفت بصوالجة

فتلقفها رجل رجل

وزعم أنه ينافي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (١).

ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه ، فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بيّن تحريمها ، أو أنه أنفذه ، أو أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة (٢).

والجواب :

أمّا دعواه منافاة التمتع للإحصان فمبنيّ على ما يزعمه هو من إنّ المتمتع بها ليست زوجة ، وفساده واضح من حيث إن المتعة عقد قامت الأدلة المعتبرة على ثبوته وفعله كبار الصحابة إلى عهد عمر فحرّمه عليهم وهدّد بالوعيد على فاعلها ، فالمتمتّع بها زوجة كالدائمة لا يفترقان إلا ببعض الشروط.

فالقدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية زواج المتعة كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا قطعيا ومفروغا عنه ، وليس ثمة دليل معتبر يمكن الاطمئنان إليه ويثبت نسخ هذا الحكم ، ولهذا لا بدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم المستصحب بناء على ما هو مقرر في علم الأصول.

والعبارة المشهورة عن عمر بن الخطّاب خير شاهد على هذه الحقيقة ، وهي أن هذا الحكم لم ينسخ في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم انّ من البديهي أنه لا يحق لأحد أن ينسخ الأحكام ، فالرسول وحده يحق له ـ وبأمر من الله وإذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام ، وقد سدّ باب نسخ الأحكام بعد

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٧.

(٢) تفسير المنار ج ٥ / ١٣.


وفاة النبيّ ، وإلّا لاستطاع كل واحد أن ينسخ شيئا من الأحكام الإلهية حسب اجتهاده ومزاجه ، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية ، هذا مضافا إلى أن الاجتهاد في مقابل النص النبوي محرّم وكفر لكونه ردا على الله ورسوله.

وأمّا تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها ، وتشبيه المرأة بالكرة التي تلقفها الأيدي فهو ـ لو كان صحيحا ـ لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله ، لأن هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمان ، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله ، وقد عرفت أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.

هذا مضافا إلى أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم ، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر بعد عدتها من الأول ، فيستحب لها أو يجب عند خوف الفتنة أن تتزوج ثم يطلقها أو يموت وبعد العدة ييسر الله لها ثالثا فتتزوجه على كتاب الله وسنة رسوله ثم يطلقها أو يموت فييسر الله لها رابعا وهكذا إلى ما شاء الله كرة حذفت بصوالجة ، يتلقفها رجل رجل ، على ما سوغته الشريعة من الزواج بحدود العدة ، فهل يمكن أن يقال إن هذا لا يكون فيه شيء من إحصان المرأة ، ولو كان هذا الحال قبيحا فاسدا عند الله لا يصحّ أن يشرّع ما يؤدي إليه للزم أن يقيد شرع النكاح والطلاق والعدة ووطء الإماء والتسري بهنّ وبيعهن بما لا يؤدي إليه ولا يقع فيه ذلك ، فيقيد به نكاح المتعة أيضا ، ولئن جاز أن ينقطع الإحصان بالطلاق بعد يوم أو أكثر فما هو المانع من انقطاعه بأجل المتعة الذي قد يبلغ خمسين سنة أو أكثر.

وأمّا ما ادّعاه من نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه ، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه ، فإن بيان عمر للتحريم إمّا أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبيّ ، وإمّا أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبيّ إياها ، وإمّا أن يكون رواية منه للتحريم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبيّ فلا يساعد عليه نسبة التحريم ، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات ، على أنه إذا كان رواية ، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر ، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟ وهلّا أظهر روايته لأبي بكر ولسائر المسلمين؟ على أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.

وأمّا احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبيّ نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة إباحته في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وفاته. على أنّ اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع اجتهاده ورأيه ، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما».

وإذن فقد انحصر الأمر في أنّ التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالإباحة ، ولأجل ذلك لم تتبعه الأمة في تحريمه متعة الحجّ وفي ثبوت الحدّ في نكاح المتعة ، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أحللت إلا ما أحلّ الله ، ولا حرّمت إلّا ما حرّم الله»(٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه ـ فمه ـ إلا حق» (٣). ومع هذا كله فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة خلافا لرسول الله وأجيب : «بأنّ ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع» (٤).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٤ / ٧٢ ، ط / مصر.

(٣) رواه أبو داود ـ التاج ج ١ / ٦٦.

(٤) شرح التجريد ، مبحث الإمامة ، والبيان في تفسير القرآن ص ٣٢٩ والغدير ج ٦ / ٢٣٨.


وما ادعاه القوشجي من نسبة الاجتهاد لعمر وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضح الفساد لكون معارف النبيّ كلها من وحي الله إليه ولا علاقة للاجتهادات الشخصية فيها ، قال تعالى :

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢).

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٣).

فالآراء التي لا تستند إلى وحي الله تبقى معرّضة للخطأ والله سبحانه لم يرد لنبيّه الكريم الوقوع في الخطأ لكونه قدوة حسنة ، ولأن الوقوع في الخطأ رجس نزهه الله سبحانه عنه.

وأما اجتهاد عمر فإنه اجتهاد في مقابل النص ، وهكذا اجتهاد يعتبر مرفوضا عند المسلمين لا سيّما الإمامية منهم حيث حرّموه واستنكروا على من قال به.

والنتيجة : أن آية المتعة لا ناسخ لها ، وأن تحريم عمر ، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص ، وقد اعترف بذلك جماعة ، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر ، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنّة الخلفاء كاتباع سنّة النبيّ.

وعلى أيّ حال فما أجود ما قاله عبد الله بن عمر : «أرسول أحق أن تتبع سنّته أم سنّة عمر؟!» ومن مساوئ الدهر أن يقاس النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواحد من أمته ويجعل كلّا منهما مجتهدا وما ينطقه الرسول الأمين هو عين ما ثبت في اللوح المحفوظ.

__________________

(١) سورة النجم : ٤.

(٢) سورة الأحقاف : ٩.

(٣) سورة الحاقة : ٤٤ ـ ٤٥.


الشّبهة الثانية :

إن النكاح يحتاج إلى ولي وشهود فتبطل المتعة (١).

والجواب :

١ ـ ليس الإشهاد شرطا في صحة العقد عند الإمامية بل هو مستحب ، لأن الإشهاد شرط زائد ، والأصل عدمه حتى يثبت الدليل ، ولا دليل عليه ، وأما قبول الولي فهو شرط في صحة تمتع البكر على بعض الأقوال ، لكنّ المشهور ـ وهو الأظهر (٢) عندي ـ لا يقولون بشرطيته ، هذا مضافا إلى أن التمتع بالسفر في عهد رسول الله ـ حسبما جاء في مرويات العامة(٣) بالخصوص ـ لم يلحظ فيها حضور الولي ، فلا يوجد نص يشير إلى أن الصحابة تمتعوا بحضور ولي المتمتع بها أو حضور الشهود.

٢ ـ الشيعة يشترطون في المتعة كل شرط ثبت في الكتاب أو السنّة أنه شرط في المتعة بل قد يلتزمون بالاحتياط عند الشك في الشرط.

الشّبهة الثالثة :

إن القول بحلية المتعة تناقض بل تهدم روح الآية المباركة (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤).

فإطلاق النكاح في الآية لا يشمل إلا العقد الدائم ، فلو كانت المتعة حلالا لكان قول الله جل جلاله (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ..) مهملا لا معنى له ، وعبثا لا طائل تحته ، وأي معنى لقوله : «لا يجدون نكاحا» لو حل تمتع بكف

__________________

(١) هذه الشبهة لروزبهان الأشعري ، حكاها عنه البلاغي.

(٢) «رسالة في المختار من ولاية الأبكار» بحث فقهي استدلالي للمؤلف ، مخطوط.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٠ باب نكاح المتعة.

(٤) سورة النور : ٣٣.


من برّ (١)؟ وأي معنى لقوله «حتى يغنيهم الله» وأي حاجة إلى الاستعفاف؟ فوجوب الاستعفاف عند العجز عن النكاح يناقض حلية المتعة.

يجاب عليه :

إن كلمة النكاح الواردة في الآية تفيد معنى المهر والنفقة ، فمن لم يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد المهر والنفقة ، عليه أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة حتى يوسّع الله عليه من رزقه(٢).

كما أن من معاني كلمة نكاح» إذا أطلقت ما يلي :

ـ العقد لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٣).

ـ للعقد والوطء لقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(٤).

ـ للحلم والعقل لا الوطء والعقد لقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)(٥).

ـ للمهر حيث سمّي المهر باسم النكاح لقول تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً).

ـ للسفاح لقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (٦) فسمى السفاح نكاحا هنا.

__________________

(١) كما في رواية أبي الزبير عن جابر قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق : صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦.

(٢) مجمع البيان ج ٧ / ١٩٥ سورة النور ، آية : ٣١٣.

(٣) سورة الأحزاب : ٤٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٥) سورة النساء : ٦.

(٦) سورة النور : ٣.


فيكون معنى الآية الكريمة : أن على المعدمين الذين لا يملكون مهرا لنكاحي المؤقت والدائم وجوب الاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله ، ونهاهم عن ارتكاب الفاحشة بأنواعها وأمرهم أن يصونوا فروجهم بالاستعفاف عن خطر الأمراض الفتاكة كالسيدا أو الزهري والسيلان وبقية العاهات ، وقد تضمنت الآية المباركة حكمة الزواج الدائم والمنقطع ، ومن لم يوفّق لأحدهما ولو بكفّ من طحين أو قبضة تمر عليه أن يستعفف ، وهذا تسهيل من الشارع الحكيم وتيسير للمسلمين (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

لئلا يقع المسلمون في حرج الزّنى وويلاته ، كما يكون المهر في المتعة كف من بر ، قد يكون من تبر ، وهذا تابع لحالة الأمة الاقتصادية وما تصاب به من رخاء وترف أو فقر وشظف.

الشّبهة الرابعة :

مفاد الشبهة هو : التوفيق بين الروايات الدالة على جواز الاستمتاع في عهد الرسول ، وبين الدالة على تحريم عمر للمتعة ، فتحمل الأولى على أن أصحابها لم يبلغهم التحريم ، ولم يكن قد اشتهر التحريم بين صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر ، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها.

والجواب :

من البعيد جدا أن يكون كل هؤلاء الأصحاب على غفلة من تحريم النبيّ للمتعة وفيهم من هو أكثر ضبطا وورعا من عمر ، لا سيّما فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، بل الاعتقاد بهذا يوجب إساءة الظن بكل أصحاب

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.


رسول الله وبالأخص أهل بيته ، إذ كيف يعقل أن يحرّم الرسول شيئا كالمتعة إلى يوم القيامة بجمع من المسلمين ، ثم لا يسمعه غير عمر بن الخطاب ، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه ، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبيّ وأفعاله؟

وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبيّ ولحظات عينيه ، ليشاركوا عمر في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن روايات التحريم ليستغني بها عن إسناد التحريم إلى نفسه؟!!

هذا مضافا إلى أن العامة رووا في مصادرهم أن الأصحاب تمتعوا في عهد النبيّ ، وأيضا فإن عمر قد قرن تحريم المتعتين بلفظ واحد ، ولم يدّع أحد منهم النسخ في متعة الحج.

الشّبهة الخامسة :

لا فرق بين الزواج المؤقت والزّنا من حيث إن كليهما يهدفان إلى شيء واحد وهو بيع جسد المرأة لقاء دفع مبلغ معين ، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا ، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إجراء ما يسمّى بالصيغة ، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

الجواب :

إنّ مساواة الزواج المؤقت بالزنا ليس إلا خلطا بين مفهوميهما وجعلهما شيئا واحدا ، فحقيقة الزواج المؤقت تختلف بجوهرها عن الزنا ، وليس عبارة عن مجرد كلمتين تقال وينتهي كل شيء ، بل ثمة مقررات له نظير ما في الزواج الدائم إلا ما أخرجه الدليل ، فالمرأة المتمتع بها تكون طوال المدة المضروبة في الزواج المؤقت خاصة بالرجل المتمتع ، ثم عند ما تنتهي المدة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد بحيضتين بمعنى أن تمتنع من الزواج مطلقا برجل آخر لمدة خمسة وأربعين يوما التي هي مقدار حيضتين ، حتى يتبيّن أنها حملت من الرجل الأول أو لا ، على أنها


يجب أن تعتد حتى لو توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضا ، وإذا حملت من ذلك الرجل فالولد لهما ، ويجب على الوالد أن يتكفله تماما كما يتكفل أولاده من الزواج الدائم ، ويجري عليه كل ما يجري على الأولاد من الزواج الدائم ، في حين إنّ الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود ، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟ نعم هناك فروق بين الزواج المؤقت والدائم من حيث التوارث بين الزوجين ، والنفقة وبعض الأحكام ، ولكن هذه الفروق لا تجعل الزواج المؤقت بغاء.

الشّبهة السادسة :

يتيح لبعض طلاب الهوى أن يسيء استعمال الزواج المؤقت ، ويرتكبوا كل فاحشة تحت ستار المتعة ، حتى صار هذا العقد منبوذا عند أكثر الناس ، ومورد اشمئزاز لدى العديد من النساء ، لما يستلزم رفضه من الأساس.

والجواب :

الإساءة إلى القانون لا يبرّر عدم استعماله ، وأي قانون في العالم لم يسأ استعماله؟!.

وهل من الحكمة أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الاجتماعية الملحة بحجة أن هناك من يسيء استعماله؟ أم أنّ علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

فمثلا : لو أن البعض استعمل موسم الحج لبيع المخدرات أو لنشر الرذيلة بين الحجيج ، فهل علينا أن نمنع من هذا التصرف الشّائن ، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المكان المقدّس؟! الأصح هو الأول ، وهكذا الأمر في مقامنا هذا ، فإذا كره أكثر الناس هذا الزواج ـ إما لأنهم لا يؤمنون به من الأساس ، وإما لسوء استعماله ـ لا يكشف ذلك عن عيب في القانون ، بل يكشف عن عيب العاملين به. فلو قامت المجتمعات الإسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح ، وضمن ضوابطه


ومقرراته الخاصة به ، أمكن المنع من استخدام المستغلين لهذا القانون ، ولأمكن لكل الناس أن يحبّوا هذا القانون ولا يرفضونه ، لا سيّما وأن الحاجة إليه في وقتنا الحاضر عظيمة لكونه يسدّ حاجة طبيعية عند الرجل والمرأة خاصة عند الذين لا يملكون ما يمكّنهم من الزواج الدائم لظروف موضوعية قاسية ، فحاجة المرأة المطلقة أو الأرملة إلى هذا العقد أكثر من حاجة الرجل ، لأن هكذا امرأة لا يرغب عادة في الزواج منها بالعقد الدائم ، فلا بد من وجود بديل يمكن من خلاله أن تنفّس المرأة عن حاجتها الطبيعية خوفا من الوقوع في الزنا أو النظرة الحرام ، كما أن المرأة العانس بحاجة إليه أكثر من غيرها لما فيه من قضاء وطرها وتلبية رغبتها التي قد تهوي بها إلى الحرام إن لم تتزوج.

الشّبهة السابعة :

تترتب على الزواج المؤقت آثار سلبية منها بقاء أطفال بلا أسر تماما كما يحصل عند الأولاد غير الشرعيين.

والجواب :

إن قياس أولاد الزواج المؤقت على أولاد البغاء فاسد لأن أولاد البغاء غير مرتبطين بآبائهم ولا أمهاتهم من الناحيتين القانونية والشرعية ، في حين إنّ أولاد المتعة لا يختلفون في أي شيء عن أولاد العقد الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الاجتماعية والشرعية.

وبالجملة : فإن المتعة لم يطرأ عليها نسخ ، وكل ما هناك أن عمر بن الخطاب هو من حرّمها للحديث الشهور والمتفق عليه أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما.

وما ادعاه العامة من وجود روايات ناسخة لحكم المتعة فجميعها مضطرب ، فبعضها ينسب التحريم للنبيّ ، وبعضها ينسب التحريم لآية الطلاق (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) مع أن الآية لا علاقة لها بالمسألة المطروحة لأن آية


الطلاق تبحث في الزواج الدائم ، في حين إنّ الزواج المؤقت لا طلاق فيه ، هذا مضافا إلى أن الطلاق لغة بمعنى الإبانة والافتراق وهو متحقق بالزواج المنقطع فتشمله الآية المذكورة بلا إشكال.

والقدر المتيقن في المقام أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالزواج المنقطع ، وليس ثمة دليل قطعي يثبت نسخ هذا الحكم ، فما ثبت باليقين لا يرتفع بالشك بل بيقين مثله.

وأما دعوى أن بإمكان الصحابي أن ينسخ هذا الحكم فمردودة على أصحابها وذلك لأن نسخا كهذا لا يبقي شيئا من الشريعة الخالدة ، ولأمكن لغير عمر بن الخطاب أن ينسخ أحكاما غيرها ، وهو تلاعب بالدين وشريعة سيّد المرسلين ، هذا مضافا إلى كونه اجتهادا في مقابل النص وردا على الله ورسوله ، مع التأكيد على أن الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدا ، فبعضها يقول نسخت يوم خيبر وبعضها يوم فتح مكة ، وأخرى في تبوك أو يوم اوطاس وما شابه ذلك ، من هنا يتبيّن معنا أن هذه الأحاديث الدالة على النسخ موضوعة برمّتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح ، لا سيّما مع وجود قرائن أخرى من الروايات الدالة على أن أكابر الصحابة كانوا يعملون بها ويدافعون عنها كابن عبّاس حبر الأمة وابن مسعود وغيرهما لا سيّما سيّد المؤمنين وأميرهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي يدور الحق معه حيثما دار ، وما رواه العامة عنه من تحريمه للمتعة غير صحيح بل كذب وافتراء عليه لما روي عنه بالمتواتر «لو لا نهي عمر للمتعة ما زنا إلا شقي» ولما رواه آل البيت من بعده ، فآل البيت أدرى بما فيه.

ولا يخفى أنه لا عمر بن الخطاب ولا أي شخص آخر يحق له أن ينسخ حكما ثبت على عهد رسول الله ، بل لا معنى للنسخ ـ أساسا ـ بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانسداد باب الوحي وانقطاعه ، وحملهم كلام عمر على الاجتهاد مثير للعجب لأنه من الاجتهاد في مقابل النص.

ونحن نسأل من حرّموا المتعة :


ما الداعي لكي تنسخ المتعة بعد ما أبيحت للضرورة ، وهل الضرورة والحاجة مختصة بزمن رسول الله فقط أو أن الضرورة تبقى ضرورة في كل الأزمان؟ الذي نراه هو الثاني وتؤيده الشواهد العقلية والشرعية والعرفية والأخلاقية لأن المتعة ضرورة اجتماعية لتلبية الحاجات الغريزية للرجل والمرأة معا ، ولا يكفي الزواج الدائم لتلبية تلك الحاجات ، لوجود مشكلات ناتجة عن ضرورات يعيشها الإنسان بعيدا عن أهله فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء ، كما أن هناك ضرورات تعيشها الأمة في بعض حالات الحرب ، أو تعيشها المرأة بفقدان الزوج ، أو تعيشها الفتاة العانس التي لا يرغب أحد بالزواج منها بالعقد الدائم ، ما ذا يفعل هؤلاء؟ هل يعيشون الرهبنة وقد حرّمها الله تعالى ، كما ليس بمقدور الكثير أن يعيش الرهبانية ، وهل يزنون وقد هدّد سبحانه فاعليه بأشد العذاب؟

لذا فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما وهي : إما أن نسمح لهؤلاء بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم) أو أن نعالج المسألة عن طريق زواج المتعة الذي هو الحل الوحيد الذي يقضي على المشكلة الجنسية قضاء تاما.

والخلاصة : أن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الاحتياجات الجنسية ، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات فلا بدّ من بديل يتم من خلاله تلبية كل الطموحات المشروعة والتي لا تكلّف المجتمعات والأفراد أي مئونة أو كلفة ، بل العكس هو الصحيح حيث إن زواج المتعة لا مئونة زائدة فيه فيكفي أن يتفق الطرفان على المدة والمهر ولو كان هذا المهر دولارا أو دينارا فيتزوجان ويسعدان بحياتهما شهورا وسنين من دون أن يعكر صفوهما مشكلات النفقة والأسرة وما شابه ذلك.

وقد التفت إلى هذه الحقيقة أحد أعظم فلاسفة الغرب برتراند راسل الذي


اشتهر بالجرأة في الرأي والاستقلال في شئون السياسة والدين ، فرأى أن سنن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتي سنة في نحو الثامنة عشرة أو العشرين ، فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذ أثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقلّ من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان ، أما في العصر الحاضر فالطلاب يتخصصون لعلومهم وصناعاتهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية ، ولا يتسنى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهناك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سنّ البلوغ وبين سنّ الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة.

وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي ، والرغبة الجامحة ، وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن يسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني ، كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟ كلا إن ذلك غير مستطاع ، وأننا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل بين الشبان والشابات ، فلا بد أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات ، لا يثقلهم بتكاليف الأسرة ، ولا يتركهم لعبث الشهوات والموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات» (١).

وقد أراد «راسل» أن يكون هذا الزواج عاصما من الابتذال ومدربا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت ، وهذا الذي تبناه «راسل» ما هو إلا زواج المتعة ، ولعلّه قرأه في كتب التشريع الإسلامي الشيعي فتأثر به وتبناه ، أو يكون مجرد التقاء في وجهة النظر ولدته وحدة الشعور بالحاجة إلى تشريع مثله ، وهي قائمة في كل مكان وزمان.

__________________

(١) المتعة للفكيكي ص ٢٦٤ نقلا عن زواج بغير أطفال (Childless Marriage (.


ورغم أهمية ما أبداه «راسل» إلّا أن دعوته للزواج المؤقت يبرر إباحة الإجهاض ، وإذا ندى منهما طفل فما ذا يكون حسابه لدى هذه القوانين ، فهل تعترف بشرعيته وتلحقه بأبويه ، أو تتركه عالة على المجتمع لتزيد به المتشردين من الأطفال أم ما ذا؟

الطعن الرابع : جهل عمر بموت النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد بلغ من جهله أنه لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت حتى رسول الله لكونه أسوة الأنبياء في ذلك ، ولأن الموت من السنن الحتمية على المخلوقات. ومع هذا فلم يدر عمر أن النبيّ لم يمت فقال : والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم ، فقال له أبو بكر : أما سمعت قول الله عزوجل :

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢). قال عمر : فلمّا سمعت ذلك أيقنت بوفاته وسقطت إلى الأرض ، وعلمت أنه قد مات (٣).

فلو كان يحفظ القرآن أو يفكّر فيه لما قال ذلك ، وهذا يدل على بعده عن القرآن وتلاوته ، ومن هذه حاله كيف يجوز أن يكون إماما واجب الطاعة على جميع الخلق.

وقد حمل العامة جهل عمر بموت النبيّ على محامل ثلاثة :

المحمل الأول : لظنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يموت حتى يظهره الله على الدين كله كما هو مقتضى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٤) ، ولقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٢ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ / ٣٢٤ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣١٩ وبحار الأنوار ج ٣١ / ١٠٦ والشافي للمرتضى ج ٤ / ١٧٣.

(٤) سورة التوبة : ٣٣.


أَمْناً) (١) لذلك نفى موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه الشّبهة لقاضي القضاة في معرض دفاعه عن عمر بن الخطّاب في كتابه «المغني»(٢).

أورد عليه السيّد المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي :

[بأنه لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال ، والاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه ، أو يكون منكرا لموته في تلك الحال ، من حيث لم يظهر دينه على الدين كله ، وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب : إنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال.

فإن كان الوجه الأول ، فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله ، والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل ، والعلم من إظهار دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه سيموت كما مات من قبله ضروريّ ، وليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر ، من قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وما أشبهها.

وإن كان خلافه على الوجه الثاني ، تأوّل ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت ، وإنما خالف في تقدّمه ، وقد كان يجب أن يقول له : وأي حجة في هذه الآيات على من جوّز عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموت في المستقبل ، وأنكره في هذه الحال!

وبعد ، فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق! ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم! وكيف حمل معنى قوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة! وكيف لم يخطر هذا إلّا لعمر وحده ، ومعلوم أن

__________________

(١) سورة النور : ٥٥.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٠ والشافي ج ٤ / ١٧٣.


ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة (١) وقلة التأمل والبصيرة؟! وكيف لم يوقن بموته لمّا رأى ما عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته ، وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده؟! وهلّا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد ، فلم يحتج إلى موقف ومعرّف! وقد كان يجب ـ إن كانت هذه شبهة ـ أن يقول في حال مرض رسول الله وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه من الوفاة ، حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله يكرّر ويردد الأمر حينئذ بتنفيذه : لم أكن لأسأل عنك الركب ، ما هذا الجزع والهلع ، وقد أمنكم الله من موته بكذا وفي وجه كذا ، وليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب] (٢).

كما أورد المحدّث الجليل الشيخ محمد باقر المجلسي «أعلى الله مقامه الشريف» على قاضي القضاة بالقول :

«وأعجب من قول عمر قول من يتوجه لتوجيه كلامه ، وأيّ أمر أفحش من إنكار مثل هذا الأمر عن مثل عمر ، مع اطّلاعه على مرض النبيّ منذ حدث إلى أوان اشتداده ، وانتهاء حاله حيث إلى حيث انتهى ، وكانت ابنته زوجة النبيّ من ممرضاته ، وقد رجع عن جيش أسامة بعد أمر النبيّ له بالخروج بالخارجين ، خوفا من أن تحضره الوفاة ، فينقل الأمر إلى من لا تطيب نفسه به.

وكان النبيّ قد بيّن للناس في مجالس عديدة دنو أجله ، وحضور موته ، وأوصى للأنصار ، وأمر الناس باستيفاء حقوقهم كما هو دأب من حضره الموت ، كما روي مفصلا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي وجامع الأصول وكامل ابن الأثير وغيرها من كتب السير والأخبار.

من هذه الأخبار ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال : قام

__________________

(١) في نسخة البحار : «الفطرة».

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٢١ والبحار ج ٣١ / ١٠٧ والشافي ج ٤ / ١٧٦.


رسول الله يوما فينا خطيبا بما يدعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكرهم ثم قال : أما بعد ألا أيّها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثّقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي».

وقد روي متواترا من الطريقين قوله للإمام عليّ عليهما‌السلام : ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : عليّ ولي كل مؤمن من بعدي.

وقد روي في المفتريات : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر.

وقد كان كثير مما خطب به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رءوس الأشهاد ، فهل يجوّز عاقل أن لا يقرع شيء من ذلك سمع عمر مع شدة ملازمته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن شك في مثل ذلك هل يجوّز من شم رائحة من العقل أن يفوّض إليه أمر بهيمة ، فضلا أن يفوّض إليه أمر جميع المسلمين ، ويرجع إليه في جميع أحكام الدين.

وأمّا اعتذار ابن أبي الحديد بأنّه لم ينكر عمر ذلك على وجه الاعتقاد ، بل على الاستصلاح ، وللخوف من ثوران الفتنة قبل مجيء أبي بكر ، فلما جاء أبو بكر قوي به جأشه ، فسكت عن هذه الدعوى ، لأنه قد أمن بحضوره من خطب يحدث ، أو فساد يتجدّد.

فيرد عليه أوّلا : أنه لو كان إنكاره ذلك إيقاعا للشبهة في قلوب الناس حتى يحضر أبو بكر ، لسكت عن دعواه عند حضوره ، وقد روى ابن الأثير في الكامل : إنّ أبا بكر أمره بالسكوت فأبى ، وأقبل أبو بكر على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا إليه وتركوا عمر (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٢١٩.


وثانيا : أنّه لو كان الأمر كما ذكر ، لاقتصر على إنكار واحد بعد حضور أبي بكر ، وقد اعترف ابن أبي الحديد بتكرّر الإنكار بعد الحضور أيضا.

وثالثا : قال ابن أبي الحديد : روى جميع أرباب السير أنّ رسول الله لما توفّي كان أبو بكر في منزله بالسنح ، فقام عمر بن الخطاب فقال : ما مات رسول الله ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كلّه ، وليرجعنّ فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته ، ولا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.

فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله وقال : بأبي وأمّي طبت حيّا وميّتا ، والله لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج والناس حول عمر ، وهو يقول لهم : إنّه لم يمت ويحلف ، فقال له: أيّها الحالف! على رسلك ثم قال : من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ، وقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢) ، قال عمر : فو الله ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض ، وقد علمت أن رسول الله قد مات (٣).

المحمل الثاني : ما حكاه الفضل بن روزبهان الأشعري عن بعضهم :

إن ما صدر من عمر يوم ذاك كان من شدة المصيبة وغلبة المحبة ، فلم يأذن له قلبه أن يحكم بموت النبيّ ، وهذا أمر كان قد عمّ جميع المؤمنين بعد النبيّ ، حتى جنّ بعضهم ، وأغمي على بعضهم من كثرة الهم ، فغلب عمر شدة حال المصيبة ، فخرج من حال العلم والمعرفة وتكلم بعدم موته ، وأنّه ذهب إلى مناجاة ربه ، وأمثال هذا لا يكون طعنا (٤).

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٠٧ ـ ١١٠.

(٤) بحار الأنوار ج ٣١ / ١١١ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٢.


يرد عليه :

إن فقدان الحبيب لا يستلزم فقدان السكينة والهذيان بكلمات يتنزه عنها أبسط الزّهاد فكيف برجل كعمر ظن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بحسب زعمهم ـ أن السكينة نزلت عليه لما احتبس الوحي عنه ، وأنّه فاروق هذه الأمة يفرق بن الحق والباطل ، بل كان من اللازم أن يذهب عقله بالكلية لشدة محبته للنبيّ ، وهل كان الوحيد من بين الصحابة متيّما بعشق النبيّ حتى سلبه العشق الاتزان بالكلام؟ فأين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأين الزهراء سيدة النساء وأهل بيتهما الأطهار وبقية الصحابة الأجلّاء أمثال عمّار وجابر وسلمان؟!

بل إن من الضروريات العادية أن من عظمت عليه المصيبة ، وجلّت الرّزية بفقد حبيبه حتى اشتبهت عليه الأمور الضرورية أن لا يترك تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، ولا يسرع إلى سقيفة بني ساعدة لعقد البيعة وتهديد كل من لم يبايع أبا بكر ، والسؤال : لم لم يتكلم عمر في ذلك المجلس من شدة الحزن والوجد ما ينافي غرضه ، ولا يلائم تدبيره المشئوم ، ولم يأت في أمر الرئاسة وغصب الخلافة بهجر وهذيان ، ولم يتخلل من الزمان ما يسع لاندمال الجرح ونسيان المصيبة ، وكيف لم يأذن قلبه في الحكم بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه لم يضق صدره بأن يقول في وجهه الكريم : إنه ليهجر ويمنعه من إحضار ما طلب ويقول : حسبنا كتاب الله ، الذي هو في قوة قوله: لا حاجة لنا بعد موتك إلى كتاب تكتبه لنا.

ومن بلغ به الحبّ إلى حيث يخرجه من حدّ العقل لا يجبه حبيبه بمثل هذا القول الشنيع ولا يرفع صوته في الردّ عليه ومنازعة المنازعين إلى حد يخرجه الحبيب رسول الله وإياهم من البيت ، ويقول : اغربوا عني ، ولا ينبغي التنازع عندي ، ولا ينكر ذلك إلا متعنّت لم يشم رائحة الإنصاف ، وما ذكر من جنون بعض الصحابة وإغماء بعضهم وخبل الآخرين شيء لم أسمعه إلى الآن ، نعم لو عدّ ما أتوا به من ترك جسده المطهّر والمسارعة إلى السقيفة طمعا في الرئاسة وشوقا إلى الإمارة من فنون الجنون ، وضروب الخبل ، لكان له وجه.


المحمل الثالث :

إنّ ما ادعاه عمر كان لإظهار قوة الإسلام وشوكته على المنافقين ليرتدعوا عمّا كانوا يفكرون به من الاستيلاء على المدينة بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخاف ـ أن لو اشتهر موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البيعة للخليفة ـ تشتت أمر الإسلام فابتدع هذه الكذبة دفعا للمحذور المتقدم.

يرد عليه :

أنه لو كان خائفا من تشتت أمر الإسلام واستيلاء المنافقين قبل البيعة فلم ترك مقالته لقول أبي بكر ، والحال أن البيعة لم تقع ، بل كان عليه أن يشير إلى أبي بكر بالسكوت ويعرّفه غرضه ويشتغلا بالبيعة ، وكيف يرتدع المنافقون الذين لم يؤمنوا بأصل نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرد قول عمر «ما مات ولكن ذهب إلى المناجاة» وهم يرونه بينهم ميتا ساكن الحركات ، بل يعدون هذا القول من عمر والنبيّ مسجى بينهم من الهذيان والخرافات ، هذا مضافا إلى أن العامة يرون أن الصحابة كلهم عدول وأن المنافق بينهم قليل مخفي الحال ، فكيف يستولي المنافقون أو يخاف منهم بأسرع وقت تشتت أمر الإسلام.

هذا الطعن المتوجه على عمر ، لا يسمّى في الحقيقة من ناحية جهله بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما يعتبر طعنا من ناحية أخرى وهي تجاهله بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب المكر والكيد بالمسلمين لوصول أبي بكر إلى سدة الخلافة التي كان عمر بن الخطاب المهندس والمخطط لها.

فعمر الداهية لا تخفى عليه مسألة من أبده البديهيات ، كيف! وهو الذي ابتدع الشورى وكيفيتها لا يجهل جواز موت النبيّ الذي نعى نفسه الشريفة للمسلمين عامة وللصحابة خاصة مرارا ، ونطق الكتاب العزيز بموته ، وما تخلّف عمر عن جيش أسامة إلّا ارتقابا لموته ، ولا قال «حسبنا كتاب الله» إلّا بناء على وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نسبه إلى الهجر إلا طعنا برأيه فيما يوصى به لما بعد الموت ، فكيف


يجهل حينئذ موته وقد فارقت روحه الدنيا أو يحتمل ذهابه إلى مناجاة ربه وهو مسجّى بينهم؟!!

بل لا نرى ذلك منه إلا دهاء ومكرا وكيدا لعلمه أن الهاشميين وبعض الصحابة الأكابر كسلمان وعمار والمقداد وأبي ذر وحذيفة وأمثالهم يريدون بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام فخاف أن يبايعوه ويتبعهم الناس لسبق أمر الغدير فادّعى أن النبيّ ما مات ليشغل الناس بهذا الكلام ، فيحصل لبيعة الإمام علي عليه‌السلام تأخير حتى يأتي أبو بكر من منزله بالسنح ليعملا رأيهما ويمضيا على ما أبرماه وأصحابهما في الصحيفة من منع أمير المؤمنين عليه‌السلام خلافته ، ولما حضر أبو بكر لم يسعه العدول عن مقالته دفعة بل بقي يتكلم إلى أن قرأ أبو بكر الآية (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...) فأظهر المغلوبية وزعم كأنه لم يسمعها ، ومن أنصف وعرف بعض أحوال عمر صدّق بما قلناه ، فالأصح أن عمر لم يجهل وإنما تجاهل ، فالطعن عليه من هذا الباب ، وإن كان جاهلا في كثير من الأحكام وهو طعن آخر عليه يختلف بمضمونه عن هذا الطعن فتأمل.

شبهة وردّ :

ادّعى ابن أبي الحديد أن عمر بن الخطاب هو أول من سنّ للشيعة بطول عمر الإمام المهدي عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف الميمون حيث نسب إلى رسول الله عدم الموت ، فعلى الشيعة أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد (١).

يرد عليه :

أولا : إن اعتقاد الشيعة بغيبة الإمام وأنه لم يمت بل سيرجع لم يأخذه المسلمون الشيعة عن عمر بن الخطاب حتى يجب عليهم شكره ، وإنما هو مبدأ قرآني أيدته النصوص الشريفة عن النبيّ وآله الطاهرين.

ثانيا : ما دام القول بطول عمر الإمام المهدي عليه‌السلام من ابتكارات عمر فلما ذا

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٢٣.


يعيّب علينا ابن أبي الحديد وأمثاله من العامة لأننا نقول برجعته بعد غياب طويل؟!!

الطعن الخامس :

أن عمر بن الخطاب أمر برجم امرأة حامل ، فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل ، فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر (١).

ومن جهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجري مجرى أصول الشرائع ، بل العقل يدل عليه ، لأنّ الرجم عقوبة ، ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق (٢).

وأجاب قاضي القضاة عن خطأ عمر بالقول :

إنّه ليس في الخبر إنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل ، لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر ، وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع ، وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر ، وإنما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل (٣).

كما أن الفضل بن روزبهان اعترف بخطإ عمر في الأحكام وليس في الموضوعات ـ وحسب ـ لأن المجتهدين قد يعرض لهم الخطأ في الأحكام إما لغفلة أو نسيان أو عروض حالة تدعو إلى الاستعجال في الحكم ، والإنسان لا يخلو عن السهو والنسيان والعلماء وأرباب الفتوى يرجعونهم إلى حكم الحق ، وإن صح ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة فربما كان لشيء مما ذكرناه ولا يكون هذا طعنا (٤).

__________________

(١) في نسخة شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٥ : «لو لا معاذ لهلك عمر» وكذا في الشافي للمرتضى حيث نبهه معاذ على خطئه.

(٢) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٥٠ ، نهج الحق وكشف الصدق ص ٢٧٧ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٤.

(٣) أي أن الشبهة ـ بنظر قاضي القضاة ـ موضوعية لا حكمية حتى يستوجب عليها العقاب والمؤاخذة.

(٤) دلائل الصدق ج ٣ / ٧٤.


ثم لم يكتف روزبهان بدفاعه عن عمر حتى نسب إليه أنه ـ أي عمر ـ شارك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علمه. سبحانك ربنا ما هذا البهتان العظيم!!

يرد عليهما :

أولا : أن هذا الأمر لو كان على ما ظنه قاضي القضاة لم يكن تنبيه معاذ على هذا الوجه ، بل كان يجب أن ينبّهه بأن يقول : هي حامل ، ولا يقول له : إن كان عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، لأن ذلك قول من عنده أنه يرجمها مع العلم بحالها ، وأقلّ ما يجب لو كان الأمر كما ظنه أن يقول لمعاذ : ما ذهب عليّ أن الحامل لا ترجم ، وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها ، فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة ، وفي إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا ، وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم ، فإذا علم انتفاءه أمر بالرجم.

ثانيا : أن التفصيل بين الشّبهة الموضوعية والحكمية من حيث ادّعاء جهل عمر بالأولى دون الثانية فصل من دون دليل ، تكذّبه القرائن المقالية الدالة على خطأه في تشخيص الموضوعات والأحكام. هذا مضافا إلى أن الاشتباه هنا حكمي لا موضوعي ويشهد له قول معاذ أو أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها.

وقد اعترف قاضي القضاة بتقصير عمر من حيث تركه البحث في تعرّف حال الحامل.

مع التأكيد على أن عمر لم يكن محتاطا في سفك الدماء ـ حسب تصريح القاضي الأرموي (١) ـ لكونه لم يبحث عن حالها ولم يعلم كونها حاملا ، كما أن تنبيه معاذ له يؤكد الطعن عليه ونقصه.

__________________

(١) حسبما صرح في دلائل الصدق ج ٣ / ٧٥ نقلا عن السيد السعيد.


ثالثا : أن الإمام لا بد أن يكون معصوما من الخطأ محيطا بأحكام الشريعة فلا يجوز أن يجهل حكما أو يخطأ فيه ولا سيّما واضحات الشريعة كهذه الأحكام ، وخصوصا فيما يتعلق بالدماء ونحوها خاصة مع الاستعجال وإلّا كان أضر الناس على الأمة والشريعة ، فتمتنع إمامته.

الطعن السادس :

أنه أمر برجم المجنونة فنبهه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : إن القلم موضوع عن المجنون حتى يفيق» فقال : لو لا عليّ لهلك عمر ، وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة (١) ، فلما كان كذلك كيف يكون إماما وخليفة؟!

وقد اعترف قاضي القضاة وسائر من تصدّى للجواب عنه بصحته ، لكنه أوّل كلامه كعادته فقال : «أنّ عمر لم يعرف جنون المرأة ، فيجوز أن يكون الذي نبّه عليه أمير المؤمنين هو جنونها دون الحكم ..» (٢).

وأورد عليه السيّد المرتضى عليه الرحمة :

بأنه لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق؟! بل كان يقول له بدلا عن ذلك : هي مجنونة ، وكان ينبغي أن يكون عمر لمّا سمع من التنبيه له على ما يقتضي الاعتقاد فيه أنه أمر برجمها مع العلم بجنونها يقول متبرئا من الشّبهة : ما علمت بجنونها ، ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم.

فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال : لو لا عليّ لهلك عمر ، دلّنا على أنه كان تأثم وتحرّج بوقوع الأمر بالرجم ، وأنه مما لا يجوز ولا يحل وإلّا فلا معنى لهذا الكلام (٣).

__________________

(١) نهج الحق ص ٢٧٧ وشرح النهج ج ١٢ / ٣٢٦.

(٢) الشافي في الإمامة ج ٤ / ١٨١.

(٣) نفس المصدر ص ١٨٢.


الطعن السابع :

أن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء ـ أي مهورهن ـ وقال : من غالى في مهر ابنته اجعله في بيت مال المسلمين ، لشبهة أنه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج ريحانته السيّدة فاطمة عليها‌السلام بخمسمائة درهم ، فقامت إليه امرأة ونبهته بقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١) على جواز المغالاة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (٢).

وقد أكّد هذا المعنى عامة مؤرخي العامة ، منهم ابن كثير فقد روى نصوصا مستفيضة منها :

عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال :

قال عمر : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر إنّ الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ..) من ذهب ، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا ، فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته (٣). وفي لفظ آخر قال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ (٤).

وأجاب المتعصّبون (٥) لعمر :

__________________

(١) سورة النساء : ٢٠.

(٢) دلائل الصدق ج ٣ / ٧٦ والشافي ج ٤ / ١٨٣. وفي نسخة شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٩ «كل النساء أفقه من عمر».

ملاحظة : خمسمائة درهم تعادل خمسا وعشرين ليرة عثمانية ، والليرة تعادل مثقالين شرعيين ، والمثقال يعادل ٢٥ ، ٤ غراما من الذهب.

(٣) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٠١ سورة النساء ، آية : ٢٠.

(٤) نفس المصدر ، وفي نص آخر : قال عمر : ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته. شرح النهج ج ١١ / ٢٠٤.

(٥) شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٩ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٧ نقلا عن العامة.


بأنه لم ينه نهي تحريم بل نهي تنزيه ، وقوله : كل الناس أفقه ـ أو كل النساء ـ أفقه من عمر محمول على التواضع وكسر النفس.

يرد عليهم :

أن المروي أنه منع من ذلك وحظره (١) حتى قالت له المرأة ما قالت ، ولو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة عليه حيث احتجت بها المرأة عليه ، ولا كان لكلام المرأة موقع ، ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه ، بل كان الواجب عليه أن يردّ عليها ويوبّخها ويضربها بالدرة كعادته مع مخالفيه ، ويعرّفها أنه ما حظر ذلك ، وإنما تكون الآية حجة عليه لو كان حاظرا مانعا ، وأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح ، وتصويب الخطأ ، إذ لو كان الأمر على ما توهمه المجيب لو كان هو المصيب والمرأة مخطئة ، وكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهي المصيبة (٢).

الطعن الثامن :

تجسّسه على بعض المسلمين ، فقد روى ابن أبي الحديد وغيره أن عمر كان يعسّ ليلة ، فمر بدار سمع فيها صوتا ، فارتاب وتسوّر ، فرأى رجلا عند امرأة وزق خمر ، فقال ؛ يا عدو الله ، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال : لا تعجل يا أمير المؤمنين ، إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث :

قال الله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) وقد تجسست ، وقال (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وقد تسوّرت ، وقال «فإذا دخلتم بيوتا فسلّموا على أهلها» وما سلّمت ، فقال : هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال : نعم والله لا أعود ، فقال : اذهب فقد عفوت عنك (٣). وفي نص آخر: دخل على جماعة ظنا منه أنهم على حرام فكان العكس (٤).

__________________

(١) لاحظ ما رواه ابن كثير في تفسيره من أن عمر نهى عن كثرة الصداق ثم رجع عن ذلك.

(٢) الشافي ج ٤ / ١٨٥.

(٣) شرح النهج ج ١١ / ٢٠٥ سيرة عمر.

(٤) مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٩ / ١٧٠ سورة الحجرات ، آية : ١٣.


وحاول قاضي القضاة تصحيح اعوجاج عمر فقال :

أما حديث التجسس ، فإن فعله فقد كان له ذلك ، لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل ، وإنما لحقه الخجل لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر (١).

يرد عليه :

إن التجسّس حرام ومحظور بالقرآن والسنّة ، ولا يجوز للرجل أن يجتهد في محرّم ومخالفة الكتاب والسّنّة. خصوصا مع عدم علمه ولا ظنه ، ولذا ظهر كذب افترائه على ذينك المسلمين.

قال السيّد المرتضى عليه الرحمة :

إن التجسّس محظور بالقرآن والسّنة ، وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنّة ، وقد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطّأه في وجهه وقال له : إنك أخطأت السّنة من وجوه ، فإنه بمعاذير نفسه أعلم من غيرها ، وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإدامة العذر ، ولك هذا تلزيق وتلفيق (٢).

شبهة وردّ :

مفاد الشبهة (٣) :

إن ما فعله عمر ليس من الاجتهاد الحرام ، لأن الاجتهاد في الحرام يكون حراما فيما لو لم يكن للحكم الحرام معارض ، وهاهنا ليس كذلك لأن إزالة المنكر على المحتسب والإمام واجب بقدر الوسع والإمكان فهذا يجوّز التجسس لأنه من جملته ، ومع الإزالة ، فكان التجسس لإزالة المنكر خارجا عن حكم مطلق

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ١٨٤ نقلا عن المغني ٢٠ ق ٢ / ١٤.

(٢) الشافي ج ٤ / ١٨٥ والبحار ج ٣١ / ١٤٤.

(٣) صاحب الشبهة هو : الفضل بن روزبهان الأشعري أحد أعلام العامة.


التجسس ، فيجوز فيه الاجتهاد ، ألا يرى أن رسول الله أمر بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمير الأهلية مع أن الكسر إتلاف مال الغير وهو حرام للنص والإجماع ومع ذلك أمر به لأن إزالة المنكر كانت تدعو إلى ذلك ، فإزالة المنكر إذا دعت إلى أمر لا يتيسر الإزالة إلا به يجوز للمحتسب الإقدام عليه ، كما يجوز للمحتسب أن يكسر الدنان التي فيها الخمر إذا تيسر الإهراق بدون الكسر ، ويجوز أن عمر اجتهد فدخل الدار وتجسس ثم لما ذكّروه بالقرآن تغيّر اجتهاده فتركهم وخرج ، وأمثال هذه الأمور لا يبعد عن أئمة العدل.

والجواب :

أولا : لا تزاحم بين وجوب النهي عن المنكر ودليل حرمة التجسس لتباين موضوعيهما فلا وجه لدعوى خروج التجسس لإزالة المنكر عن حكم مطلق التجسس ، ولو سلمت المزاحمة فالمقتضى لحرمة التجسس أهم وأقوى من مقتضى وجوب النهي عن المنكر ، فيلزم القول بحرمة التجسس تقديما لها على وجوب النهي عن المنكر المحتمل ، ويدل عليه الأحاديث الناهية عن الفضيحة وطلب الستر. مضافا إلى أن إزالة المنكر بالتسوّر على الحيطان يستلزم هتك الخليفة واتهامه بالتجسّس على عورات النساء ، علاوة على هتك الأعراض الذي قامت الأدلة القطعية على حرمته.

وليت شعري إذا لم يرخّص الله سبحانه ولا رسوله بذلك ، فما بال عمر يتجسس ويهتك ستر الله ، وكيف صار التجسس عند الخصم راجحا لإزالة المنكر وقد أمر الله ورسوله بالستر وعدم الفضيحة؟!

ثانيا : لا يصح قياس ما نحن فيه على كسر الدنان إذا توقف إهراق الخمر عليه ، فإن التكليف بإتلاف الخمر معلوم فتجب مقدمته وهي كسر الدنان ، بخلاف التكليف بالنهي عن المنكر المحتمل فإنه غير معلوم بل محكوم بالعدم فكيف يجب التجسس مقدمة لإزالته على أن إتلاف الخمر أهم في نظر الشارع المقدّس من


ضغط الدنان بخلاف النهي عن المنكر في المقام ، فإن الستر على الناس أهم منه ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.

هذا مضافا إلى أن النهي عن المنكر لو كان أهم من التجسس لكان وجب على كل مسلم أن يتجسس على جاره في حال احتمل صدور منكر منه لينهاه عنه وهو مقطوع الحرمة للأدلة القطعية وللإجماع.

ثالثا : وأمّا ما روي من أمر رسول الله بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية فكذب ، إذ لو سلم حرمة أكل لحمها فترك الأكل لا يتوقف على كسر القدور فكيف يأمر به رسول الله ويتلف المال بلا مقتض ، ولو سلم صحة الرواية ، وتوجيهها بأن الأمر بالكسر لبيان الاهتمام بحرمة أكل الحمير ، فقياس ما نحن فيه على كسر القدور خطأ ، ضرورة أن الاهتمام في المقام إنما هو بالستر على الناس لا بالنهي عن المنكر حتى يستباح لأجله التجسس.

الطعن التاسع :

أعطيات عمر من بيت المال.

منها : أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز ، حتى إنّه أعطى عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم ، وحرّم على أهل البيت خمسهم ، وكان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال ، ومنع الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام إرثها ، ونحلتها ، التي وهبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها.

وأجاب قاضي القضاة وروزبهان :

إن لعمر تفضيل بعض النساء على بعضهن ككون بعضهن أكثر مئونة من بعض ، كما له أن يفضلهن بالعطاء على الرجال أيضا.

يرد عليهما :

أن التفضيل لا بدّ أن يكون لسبب يقتضيه كالجهاد وغيره من الأمور العام


نفعها للمسلمين ، ومسألة أن لهنّ حقا في بيت المال لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن ، وما عيب بدفع حقهن وإنما عيب بالزيادة عليه ، لا سيّما وقد كنّ في أيام النبيّ يعشن على الكفاف وبأبسط العيش ، وكونهن أمهات المؤمنين لا يصح زيادة الإنفاق لأنهنّ أولى بأن يساوين أبناءهن وأولى بأن يساوين أيامى المؤمنين ليكنّ أسوة لغيرهن كما كنّ في حياة النبيّ أسوة للغير ، فما بال عمر يريد أن يدخلهن في زي الثراء وأبهة الملوك وترفهم ويدخل الحسرة في قلوب الفقراء والأيامى.

قد يقال : إن تحريم التزويج عليهنّ يقتضي تفضيلهن بالعطاء على غيرهنّ.

والجواب : أن تحريم التزويج عليهنّ لا يقتضي أكثر من الإنفاق عليهنّ بنحو ما تعودنه لا ذلك الإنفاق العظيم ، لا سيّما أن أكثرهن التحقن بأهاليهنّ مما يخفف عليهن الكثير من النفقات التي قد يصرفنها لوحدهن.

هذا مضافا إلى أن التفضيل إن كان بالفضل فالسيّدة المعظّمة مولاتنا الزهراء عليها‌السلام وأمير المؤمنين وجملة من الصحابة أفضل منهنّ ، وإن كان بالقرب من النبيّ فالإمام علي وزوجه ريحانة النبيّ وأبناءهما أقرب إليه منهنّ ، وإن كان بالجهاد والنفع في الإسلام فلا جهاد عليهنّ ولا على غيرهن ، بل هنّ مأمورات بالقرن في بيوتهن ، وإن كان التفضيل بكثرة المئونة فكثير من الرجال أكثر منهنّ مئونة.

وما وجه تفضيل عمر بعض نساء النبيّ على بعضهنّ الآخر كتفضيله عائشة وحفصة سوى أن بعضهنّ كنّ من أعوانه وأنصاره على أذية مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ وزوجه سيّدة النساء فاطمة عليهما‌السلام ، فروى الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين عن سعد قال :

كان عطاء أهل بدر ستة آلاف ، وكان عطاء أمهات المؤمنين عشرة آلاف ، عشرة آلاف لكل امرأة منهنّ غير ثلاث نسوة : عائشة ، فإن عمر قال : أفضّلها ألفين لحب رسول الله إياها ، وصفية وجويرية سبعة آلاف سبعة آلاف ، وعن مصعب بن


سعد : أن عمر فرض لأمهات المؤمنين عشرة آلاف وزاد عائشة ألفين.

وروى ابن أبي الحديد عن الجوزي قال :

إن عمر فرض لزوجات رسول الله لكل واحدة عشرة آلاف ، وفضّل عائشة عليهنّ بألفين(١).

الطعن العاشر :

أنه عطل حدّ الله في المغيرة بن شعبة ، لمّا شهد عليه بالزنا ، ولقّن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة ، وقال له : أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين ، فلجلج في شهادته ، ابتاعا لهواه ، فلمّا فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدّهم وفضحهم.

وتجنب أن يفضح المغيرة ، وهو واحد قد فعل المنكر ، ووجبت عليه الحد ، وفضح الثلاثة ، مع تعطيله حكم الله ، ووضعه الحدّ في غير موضعه (٢).

وأجاب قاضي القضاة : بأن عمر أراد صرف الحدّ عنه ، واحتال في دفعه.

يرد عليه :

أنه كيف يجوز أن يحتال في صرف الحدّ عن واحد ، ويوقع ثلاثة فيه وفي الفضيحة ، مع أن عمر كان كلما رأى المغيرة يقول : قد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء (٣).

فقد أقر عمر بقوله هذا أنّ المغيرة فاسق ومع هذا لم يعزّره مع أنه يستحقه ، وذلك لما ثبت عند عمر بشهادة الأربعة أن المغيرة جلس من المرأة مجلس الفاحشة وأنه تبطنها وجلس بين فخذيها وحفز عليها ، فهلّا ضم إلى جلد الثلاثة تعزير المغيرة ، وقد عرف عن عمر أنه حدّ الصائم حدّ شارب الخمر معللا بجلوسه مع

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣٣٢.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٣٤٢ ونهج الحق ص ٢٨٠.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج ١٤ / ٣٣٥ وشرح النهج ج ١٢ / ٣٤٣.


السكارى (١) ، فلم لا عزّر المغيرة بفعله الشنيع كما فعل الإمام عليّ عليه‌السلام حيث روى عبد الرزاق عن أبي الضحى أنه شهد ثلاثة نفر على رجل وامرأة بالزنى ، وقال الرابع : رأيتهما في ثوب واحد ، فجلد الإمام عليّ الثلاثة وعزّر الرجل والمرأة (٢). وهذا التعزير واجب عند أحمد بن حنبل لأنه يرى وجوب التعزير في كل معصية لا حدّ فيها ولا كفارة (٣).

وكذا ذهب مالك وأبو حنيفة إلى وجوب التعزير إذا غلب على ظن الحاكم أنه لا يصلح العاصي إلّا الضرب (٤) كما هو كذلك في المغيرة لكونه فاجرا.

وزبدة المخض : أن عمر ارتكب معصية بترك تعزير المغيرة ، ولو سلم عدم وجوب تعزيره فلا شك برجحانه ولا أقل من رجحان إهانته ، فما لعمر بن الخطاب أبقى المغيرة في محل الكرامة عنده وهو يعلم فجوره حتى ولّاه البصرة (٥) والكوفة (٦).

ونحن لا نتفاجأ من تكريم عمر للمغيرة ، فإنه يريد مكافأته على حمله قبس النار عند هجومهم على دار الصدّيقة فاطمة روحي فداها ولعن الله ظالميها.

الطعن الحادي عشر :

أنه كان يتلوّن في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجدّ سبعين قضية ، وروى مائة قضية ، وأنه كان يفضّل في الغنيمة والعطاء وقد سوّى الله بين الجميع ، وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن ، وهذا يدل على قلة عمله ، ومثل هذا لا يليق بإمامة المسلمين ورئاسة الدنيا والدين.

__________________

(١) كنز العمال ج ٣ / ١٠١ كتاب الحدود.

(٢) كنز العمال ج ٣ / ٩٦.

(٣) حكاه عنه الشعراني في الميزان ج ٢ / ١٤٩ باب التعزير.

(٤) الميزان للشعراني ج ٢ / ١٤٩.

(٥) تاريخ الطبري ج ٣ / ١٥٢ حوادث عام ١٧ ه‍ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٢٤٠ وأسد الغابة ج ٥ / ٢٣٩.

(٦) الإصابة لابن حجر ، ترجمة المغيرة ، وأسد الغابة ج ٥ / ٢٣٩.


الطعن الثاني عشر :

قصة الشورى ، وقد أبدع فيها أمورا ، فإنه خرج بها عن الاختيار والنص جميعا وحصرها في ستة ، وذمّ كل واحد منهم بأن ذكر فيه طعنا لا يصلح معه للإمامة ، ثم أهّله بعد أن طعن فيه ، وجعل الأمر إلى ستة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وصفه بالضعف والقصور وقال : «إن اجتمع عليّ وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة وثلاثة ، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن عوف» ؛ وذلك لعلمه بأنّ الإمام عليّا وعثمان لا يجتمعان ، وأنّ عبد الرحمن بن عوف لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمّه ، وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام ، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين ليس فيهم عبد الرحمن.

وروى الجمهور أنّ عمر لما نظر إليهم قال : «قد جاءني كل واحد منهم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة ؛ أما أنت يا طلحة أفلست القائل : إن قبض النبيّ لننكحنّ أزواجه من بعده ، فما جعل الله محمدا أحق ببنات عمنا منّا ، فأنزل الله فيك : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (١) ؛ وأما أنت يا زبير فو الله ما لان قلبك يوما ولا ليلة وما زلت جلفا جافيا مؤمن الرضا كافر الغضب يوما شيطان ويوما رحمان شحيح ؛ وأما أنت يا عثمان لروثة خير منك ، ولئن وليتها لتحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس ، ولئن فعلتها لتقتلنّ (ثلاث مرات) ؛ وأما أنت يا عبد الرحمن فإنك رجل عاجز تحب قومك جميعا ؛ وأما أنت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة ومقنب وقال لا تقوم بقرية لو حمّلت أمرها.

وأما أنت يا عليّ فو الله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم».

فقام الإمام عليّ عليه‌السلام مولّيا يخرج ، فقال عمر : «والله إني لأعلم مكان الرجل ، لو ولّيتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء» ، قالوا : من هو؟ قال :

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٥٣.


«هذا المولّي عنكم ، إن ولّوها الأجلح سلك الطريق المستقيم» ، قالوا ؛ فما يمنعك من ذلك؟ قال : «ليس إلى ذلك سبيل» ، قال له ابنه عبد الله : فما يمنعك منه؟ قال : «أكره أن أتحمّلها حيا وميتا» وفي رواية : «لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة».

وكيف وصف كل واحد بوصف قبيح كما ترى ، رغم أنه يمنع من الإمامة ، ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف؟!

وأي تقليد أعظم من الحصر في ستة ، ثم تعيين من اختاره عبد الرحمن ، والأمر بضرب رقاب من يخالف منهم؟!

وكيف أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام؟ ومن المعلوم أنهم لا يستحقون ذلك لأنهم إن كلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام فربما طال زمان الاجتهاد وربما نقص بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمر بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة ثم أمر بقتل من يخالف الأربعة ومن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن وكلّ ذلك مما لا يستحق به القتل؟(١).

شبهة وحل :

مفاد الشّبهة : أن لو كانت الشورى بدعة فلم دخل أمير المؤمنين عليّ فيها ، ألا يدل دخوله فيها على إقراره بأنه غير منصوص عليه؟

والجواب :

لا ملازمة بين دخوله عليه‌السلام في الشورى وبني إقراره على أنه غير منصوص عليه ، بل دخوله فيها لجهات اقتضت ذلك :

(منها): أن الإمام عليا عليه‌السلام لو لم يدخل فيها لكان نال عمر بغيته ومقصوده من عزل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الخلافة في المستقبل ، فيتوجه حينئذ اللوم ظاهرا

__________________

(١) نهج الحق ص ٢٨٧ والشافي في الإمامة ج ٤ / ٢٠٣.


على الإمام عليه‌السلام ، فاضطر إلى الدخول فيها وأن يقرن بتلك النظائر حتى تصل النوبة إليه ، فكان من الواجب التوصل إلى نيل الخلافة ولو بعد حين طلبا لحفظ الشريعة بالممكن المقدور.

(ومنها): أن الإمام عليا عليه‌السلام أراد تذكيرهم بما يعينه للخلافة في مورد يحسن فيه التذكير ويصغى فيه إليه ، ويمكن عود الحق فيه إلى نصابه ، فلا يبقى لأحدهم عذر في المخالفة حتى تيسّر له أن يصرح بنص الغدير ، ومن خلاله نقض عليه‌السلام خلافة من تقدّمه.

(ومنها): أنه عليه‌السلام أراد تضليل أمرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وتهجين أعمالهما ليعتبر من له قلب ، وقد فعل ذلك لمّا عرض عليه عبد الرحمن بن عوف البيعة بشرط أن يسير بسيرتهما فأبى ، إذ لو كانت سيرتهما صحيحة وعلى النهج المستقيم لوافق عليهما وقبل الشرط.

ويشهد لما ذكرنا النصوص التاريخية الدالة على رفض ما اشترطه عبد الرحمن عليه ، منها ما رواه أحمد في مسنده (١) :

عن أبي وائل قال ؛ قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليّا عليه‌السلام؟ قال: ما ذنبي قد بدأت بعليّ عليه‌السلام فقلت : أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر ، فقال : فيما استطعت ، قال ثم عرضتها على عثمان فقبلها.

فالحديث وإن لم ينطق بالحقيقة كما هي حفظا لشأن الشيخين ، لكنه دال على أنه عليه‌السلام لا يستطيع العمل بسيرة الشيخين ، ضرورة استطاعته العمل بالكتاب والسّنّة لأنه قرين الكتاب وباب السنّة ، وليس عدم استطاعته للعمل بسيرتهما لعجزه عن العمل بالحق لأن الحق يدور معه حيث دار بل لعدم كونها ـ

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ٧٥ وتاريخ اليعقوبي ج ١ / ١٦٢.


أي سيرة الشيخين ـ مع الحق والصراط المستقيم ، ولذا جعلها عبد الرحمن مغايرة للكتاب والسنة(١).

(ومنها): أنه عليه‌السلام أراد أن لا يقال عنه أنه زهد في الخلافة التي زويت عنه ، وهو يعلم أنه لن ينال شيئا منها ، ويشهد له ما روي :

من أن الإمام عليا عليه‌السلام شكا إلى عمه العبّاس ما سمع من قول عمر : كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، وقال : والله لقد ذهب الأمر منّا ، فقال العبّاس : وكيف قلت ذلك يا ابن أخي؟

فقال عليه‌السلام : إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره فأحدهما لا يخالف صاحبه لا محالة ، وإن كان الزبير وطلحة معي فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين (٢).

(ومنها): دخوله عليه‌السلام في الشورى ليظهر للناس مناقضة فعل عمر لروايته القائلة : لا تجتمع النبوة والإمامة في البيت الهاشمي ، وقد أشار الراوندي أن عمر لمّا قال : كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها ، قال ابن عبّاس للإمام عليّ عليه‌السلام ذهب الأمر منا ، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان ، فقال الإمام علي عليه‌السلام : وأنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهّلني الآن للخلافة وكان قبل ذلك يقول : إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته (٣).

وبالجملة : فإن الشورى في مسألة تعيين الخليفة لم ينهض عليها دليل علمي ، وكل ما هناك أنها من مبتدعات عمر لتعيين عثمان ، وقد خالف بذلك طريقة أبي بكر نفسه الذي أوصى عمر أن يكون الخليفة على الأمة من بعده.

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٣ / ١١٩.

(٢) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٥ / ١٩.

(٣) شرح النهج ج ١ / ١٤٧ وج ١٢ / ٢٢٨.


«على أنّ هذه الشورى قد أنشأت بين رجالها الستّة من التنافس والفتن ما قد فرّق جماعة المسلمين ، وشق عصاهم ، إذ رأى كلّ من رجالها نفسه كفوءا للخلافة ، ورأى أنه نظير الآخرين منها ، ولم يكونوا قبل الشورى على هذا الرأي ، بل كان عبد الرحمن تبعا لعثمان ، وسعد كان تبعا لعبد الرحمن ، والزبير إنما كان من شيعة عليّ ، والقائمين بنصرته يوم السقيفة على ساق ، وهو الذي استل سيفه ذودا عن حياض أمير المؤمنين وكان فيمن شيّع جنازة الزهراء عليها‌السلام وحضر الصلاة عليها إذ دفنت سرا في ظلام الليل بوصية منها ، وهو القائل على عهد عمر : «والله لو مات عمر بايعت عليا» ، لكنّ الشورى سوّلت له الطمع بالخلافة ، ففارق عليا مع المفارقين ، وخرج عليه يوم الجمل الأصغر ويوم الجمل الأكبر مع الخارجين ، كما أن عبد الرحمن بن عوف ندم على ما فعله من إيثار عثمان على نفسه بالخلافة ، ففارقه وعمل على خلعه فلم يأل جهدا ، ولم يدّخر وسعا في ذلك لكنّه لم يفلح ، وقد علم الناس ما كان من طلحة والزبير من التأليب على عثمان وانضمام عائشة في ذلك إليهما نصرة لطلحة ، وأملا منها برجوع الخلافة إلى تيم وكانت تقول : اقتلوا نعثلا فقد كفر.

وقد عمل هؤلاء وأولياؤهم من الإبكار على عثمان ، ما أهاب بأهل المدينة وأهل الأمصار إلى خلعه وقتله ، فلما قتل وبايع الناس عليّا كان طلحة والزبير أول من بايع ، لكن مكانتهما في الشورى أطمعتهما بالخلافة ، وحملتهما على نكث البيعة ، والخروج على الإمام ، فخرجا عليه ، وخرجت معهما عائشة طمعا باستخلاف طلحة ، وكان ما كان في البصرة وصفين والنهروان من الفتن الطاغية ، والحروب الطاحنة ، وكلّها من آثار الشورى ، حيث صورت أندادا لعليّ ينافسونه في حقه ويحاربونه عليه ، بل نبهت معاوية إلى هذا وأطمعته بالخلافة ، فكان معاوية وكلّ واحد من أصحاب الشورى عقبة كئودا في سبيل ما يبتغيه الإمام من إصلاح الخلائق ، وإظهار الحقائق.

على أنّ الشورى أغرت الأمة بعثمان وبذرت بذورا أجذرت بعد قتله ،


فاستغلها الناكثون والقاسطون والمارقون» (١).

الطعن الثالث عشر :

أن عمر أبدع في الدين بأمور كثيرة. منها :

صلاة التراويح (٢) : فقد روى عروة بن الزبير عن بعد الرحمن بن عبد القاريّ أنه قال :

خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرّهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوله (٣).

وقد نطقت السّنة بحرمة النافلة جماعة وأنها بدعة وقد أجمعت الإمامية على تحريمها نافلة إلا في نفل أصله فرض كالإعادة والعيدين والاستسقاء لما فيها من غرض الاجتماع لإجابة الدعاء (٤).

وهناك نصوص كثيرة تدل على كونها بدعة منها ما رواه سليم بن قيس الهلاليّ قال :

خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم خلّتان : اتباع الهوى ، وطول الأمل ، إلى أن قال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله متعمّدين لخلافه ، فاتقين

__________________

(١) النص والاجتهاد ص ٣٠٧ للسيد عبد الحسين شرف الدين ص ٣٠٧.

(٢) وهي صلاة النوافل جماعة ، وسميت بالتراويح لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات.

(٣) صحيح البخاري ج ٢ / ٦١٨ كتاب صلاة التراويح ، وشرح النهج ج ١٢ / ٢٤٢.

(٤) كنز العرفان للسيوري ج ١ / ١٩٤ باب صلاة الجماعة.


(ناقضين) لعهده ، مغيّرين لسنته ، ولو حملت الناس على تركها فتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي ، إلى أن قال : والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيّرت سنة عمر ، نهانا ـ أي الإمام علي ـ عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا ، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري (١).

وعن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن الإمام الرضا عليه‌السلام في حديث قال : ولا يجوز التراويح في جماعة (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ، ولا تصلوا صلاة الضحى فإن تلك معصية ، ألا وإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ، ثم قال : قليل في سنّة خير من كثير في بدعة (٣).

وروى البخاري ومسلم في صحيحهما وصاحب جامع الأصول عن أبي سلمة أنه سأل عائشة : كيف كانت صلاة رسول الله في شهر رمضان؟

فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيرها على إحدى عشرة ركعة يصلّي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي ثلاثا ، فقلت :

يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال : يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٥ / ١٩٣ باب ١٠ ح ٤ أبواب نافلة شهر رمضان.

(٢) نفس المصدر ح ٦.

(٣) نفس المصدر ح ١.

(٤) صحيح البخاري ج ٢ / ٦١٨ ح ٢٠١٣ صلاة التراويح ، والبحار ج ٣١ / ١٦٠.


وفي رواية النسائي أن رسول الله اتخذ حجرة في المسجد من حصير ، فصلّى رسول الله فيها ليالي ، فاجتمع إليه ناس ، ثم فقد صوته ليلة ، فظنوا أنه قد نام ، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج ، فلم يخرج ، فلمّا خرج للصبح قال : ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم ، حتى خشيت أن يكتب عليكم ، ولو كتب عليكم ما قمتم به ، فصلّوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (١).

هذه الأحاديث وأمثالها تشير إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يصلي النوافل جماعة ولا في شهر رمضان.

الطعن الرابع عشر :

أنه وضع الخراج على أرض السواد ولم يعط أرباب الخمس منها خمسهم ، وجعلها موقوفة على كافة المسلمين ، وقد اعترف بجميع ذلك المخالفون وقد صرّح بها ابن أبي الحديد وغيره (٢) ، وكل ذلك مخالف للكتاب والسنة وبدعة في الدين.

وأرض الخراج هي المفتوحة عنوة ، يخرج خمسها لأرباب الخمس ، وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة ، الغانمون وغيرهم سواء في ذلك ، ويكون للإمام النظر فيها يتصرف فيها كيفما شاء (٣).

كما أن من بدعه أنه منع الغانمين بعض حقوقهم من أرض الخراج ، وجعلها موقوفة على مصالح المسلمين (٤).

__________________

(١) سنن النسائي ج ٣ / ١٦١ وجامع الأصول ج ٧ / ٦٤.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٣٨٠ وبحار الأنوار ج ٣١ / ١٦٤ والمغني لقاضي القضاة ، ودلائل الصدق ج ٣ / ١٢٦ نقلا عن الفضل بن روزبهان الأشعري.

(٣) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٦٦ نقلا عن المبسوط للشيخ الطوسي ج ٢ / ٣٤.

(٤) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٦٦ ، وشرح النهج ج ١٢ / ٣٨٥.


وكان الباعث على منعه الخمس عن أصحابه هو إضعاف جانب بني هاشم ، والحذر من أن يميل الناس إليهم لنيل الحطام ، فتنتقل إليهم الخلافة ، فينهدم ما أسسوه يوم السقيفة.

ومن بدعه أيضا أنه زاد الجزية عمّا قررها رسول الله وهو حرام على مذاهب فقهائهم الأربعة إلا أحمد في رواية (١).

الطعن الخامس عشر :

تغريب نصر بن الحجاج أبي ذويب من غير ذنب من المدينة.

فقد روى ابن أبي الحديد في شرح النهج عن محمد بن سعيد قال : بينا عمر يطوف في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج

إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل

سهل المحيا كريم غير ملجاج

تنميه أعراق صدق حين تنسبه

أخي قداح عن المكروب فرّاج

سامي النّواظر من بهر له قدم

تضيء صورته في الحالك الدّاجي

فقال عمر : ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن! عليّ بنصر بن حجاج ، فأتي به ، فإذا هو أحسن الناس وجها وعينا وشعرا ، فأمر بشعره فجزّ ، فخرجت له وجنتان كأنه قمر ، فأمره أن يعتم فاعتمّ ، ففتن النساء بعينه ، فقال عمر : لا والله لا تساكنني بأرض أنا بها ، قال : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : هو ما أقول لك ، فسيّره إلى البصرة.

وخافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يبدر إليها منه شيء ، فدسّت إليه أبياتا :

قل للأمير الذي تخشى بوادره

ما لي وللخمر أو نصر بن حجّاج

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣٨٠ وبحار الأنوار ج ٣١ / ١٦٧.


إني بليت أبا حفص بغيرهما

شرب الحليب وطرف فاتر ساج

لا تجعل الظنّ حقّا أو تبيّنه

إن السبيل سبيل الخائف الراجي

ما منية قلتها عرضا بضائرة

والناس من هالك قدما ومن ناج

إن الهوى رعية التقوى تقيّده

حتى أقرّ بإلجام وإسراج

فبكى عمر وقال ؛ الحمد لله الذي قيّد الهوى بالتقوى.

وأتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها ، فتعرضت لعمر بين الأذان والإقامة ، فقعدت له على الطريق ، فلما خرج يريد الصلاة هتفت به وقالت : يا أمير المؤمنين لأجاثينّك (١) غدا بين يدي الله عزوجل ، ولأخاصمنّك إليه ، يبيت عاصم وعبد الله إلى جانبيك وبيني وبين ابني الفيافي والقفار والمفاوز والأميال! قال : من هذه؟ قيل : أم نصر بن الحجّاج.

فقال لها : يا أم نصر إن عاصما وعبد الله لم يهتف بهما العواتق من وراء الخدور (٢). ووجه البدعة فيه ظاهر ، فإن إخراج نصر من المدينة وتغريبه ونفيه عن وطنه بمجرد أن امرأة غنت بما يدل على هواها فيه ، ورغبتها إليه ، مخالف لضرورة الدين لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٣).

ولا ريب أن التغريب تعذيب عنيف ، وعقوبة عظيمة ولم يجعل الله تعالى في دين من الأديان حسن الوجه ولا قبحه منشأ العذاب لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد كان يمكنه دفع ما زعمه مفسدة من افتتان النساء به بأمر أخف من التغريب وإن كان بدعة أيضا ، وهو أن يأمره بالحجاب ، وستر وجهه عن النساء أو مطلقا حتى لا يفتتن به أحد. ثم ليت شعري ما الفائدة في تيسير نصر إلى البصرة؟! فهل كانت نساء البصرة أعفّ وأتقى من نساء المدينة؟ مع أنها مهبط إبليس ومغرس الفتنة ،

__________________

(١) أي لأجثو على ركبتيّ للخصومة.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٣) سورة الفاطر : ١٨.


اللهم إلّا أن يقال لمّا كانت المدينة يومئذ مستقر سلطة عمر كان القاطنون بها أقرب إلى الضلال ممن نشأ في مغرس الفتنة ، وقد حمل أصحابنا من العامة على ما يناسب هذا المقام ما روي في فضائل عمر : ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجا غير فجّك ، وكأنه المصداق لما قيل :

وكنت امرأ من جند إبليس فارتقت

بي الحال حتى صار إبليس من جندي

وهذه البدعة من فروع بدعة أخرى له ، عدّوها من فضائله ، قالوا : هو أول من عسّ في عمله بنفسه ، وهي مخالفة للنهي الصريح في قوله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) (١).

وروى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعسّ ، فإذا نسوة يتحدّثن ، وإذا هنّ يقلن : أي فتيان المدينة أصبح؟ فقالت امرأة منهنّ : أبو ذؤيب والله. فلما أصبح عمر سأل عنه ، فإذا هو من بني سليم ، وإذا هو ابن عمّ نصر بن حجاج ، فأرسل إليه ، فحضر ، فإذا هو أجمل الناس وأملحهم ، فلمّا نظر إليه ، قال : أنت والله ذئبها! يكرّرها ويردّدها ، لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا.

فقال : يا أمير المؤمنين إن كنت لا بدّ مسيّري فسيّرني حيث سيّرت ابن عمي نصر بن حجاج ، فأمر بتسييره إلى البصرة ، فأشخص إليها.

أقول : يظهر أن الحسد في أعماق عمر جعله يعيش العقدة النفسية من أصحاب الوجوه الحسان ، فلا يمكنه مساكنتهم وهذا دأب الحسود.

ذكر المبرّد محمد بن يزيد الثمالي ، قال : كان عمر أصلع ، فلما حلق وفرة نصر بن حجّاج ، قال نصر وكان شاعرا :

تضنّ ابن خطّاب عليّ بجمّة

إذا رجّلت تهتزّ هزّ السّلاسل

فصلّع رأسا لم يصلّعه ربّه

يرفّ رفيفا بعد أسود جائل

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٢.


لقد حسد الفرعان (١) أصلع لم يكن

إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل (٢)

وا عجبا من عمر كيف يغرّب شابا جميلا تغنّت به امرأة ولم يغرّب غيره ممن عرفوا بالحرام كالمغيرة بن شعبة حيث شهد عليه ثلاثة بالزنى وشهد الرابع بأنه جلس منها مجلس الفاحشة؟! وكان الأجدر به أن يتغرّب هو نفسه عن المدينة من أجل ما ارتكبه من الجرائر والموبقات بحق الآمنين المستضعفين!!

الطعن السادس عشر :

أن عمر بن الخطاب أحرق باب دار الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ، وقد كان في الدار أمير المؤمنين عليه‌السلام وسيّدة النساء فاطمة والإمامان الحسنان عليهم‌السلام ، وهدّدهم وآذاهم ، مع أن رفعة شأنهم عند الله تعالى وعند رسوله مما لا ينكره أحد من البشر إلّا من أنكر ضوء الشمس ونور القمر ، وسيأتي الكلام فيه مستوفى إن شاء الله تعالى.

الطعن السابع عشر :

أنه أوصى بدفنه في بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك تصدّى لدفن أبي بكر هناك ، وهو تصرف في ملك الغير من غير جهة شرعية ، وقد نهى الله الناس عن دخول بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير إذن بقوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (٣) وضربوا المعاول عند إذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) (٤) ؛ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا» (٥).

__________________

(١) الفرعان : جمع أفرع وهو الوافر الشعر.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢١٢.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٤) سورة الحجرات : ٢.

(٥) التهذيب / الشيخ الطوسي ج ١ / ٢٧٤.


وتفصيل القول في ذلك أنّه ليس يخلو موضع قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يكون باقيا على ملكه أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة كما ادّعاه بعضهم ، فإن كان الأول لم يخل من أن يكون ميراثا بعده أو صدقة فإن كان ميراثا فما كان يحلّ لأبي بكر وعمر من بعد أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة ولم نجد أحدا خاطب أحدا من الورثة على ابتياع هذا المكان ولا اشتراه منه بثمن ولا غيره ، وإن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين وابتياعه منهم إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى ، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجّة فيه ، فلم يقتنع عمر من الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام في انتقال فدك إلى ملكها بقولها ولا شهادة من شهد لها.

وأما استدلال بعضهم بإضافة البيوت إليهنّ في قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) (١) فمن ضعيف الشبهة إذ هي لا تقتضي الملك ، وإنما تقتضي السكنى ، والعادة في استعمال هذا اللفظ فيما ذكرناه ظاهرة ، قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (٢) ، ولم يرد تعالى إلّا حيث يسكن وينزلن ، دون حيث يملكن بلا شبهة ، وأيضا قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (٣) متأخر في الترتيب عن قوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) ، فلو كان هذا دالا على ملكية الزوجات لكن ذلك دالا على كونها ملكه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجمع بين الآيتين بالانتقال لا يجديهم لتأخر النهي عن الدخول من غير إذن عن الآية الأخرى في الترتيب ، والترتيب حجّة عند كلهم أو جلّهم ، مع أنه ظاهر أن البيوت كانت في يدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصرّف فيها كيف يشاء ، واختصاص كل من الزوجات بحجرة لا يدلّ على كونها ملكا لها.

وأما اعتذارهم بأنّ عمر استأذن عائشة في ذلك ، حيث روى البخاري عن

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٢) سورة الطلاق : ١.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣.


عمرو بن ميمون في خبر طويل يشتمل على قصة قتل عمر ، قال : قال لابنه عبد الله : انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي ، وقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فقالت : كنت أريده لنفسي ولا وثرنّ به اليوم على نفسي.

فلما أقبل قيل : هذا عبد الله بن عمر قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، فقال: ما لديك؟ فقال : الذي تحبّ يا أمير المؤمنين أذنت ، فقال : الحمد لله ما كان شيء أهم إليّ من ذلك ، قال : فإذا أنا قبضت فاحملوني ثم سلّم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين.

فهذا دليل واضح على جهله أو تسويله أو تمويهه على العوام ، لما قد عرفت من أنه إن كان صدقة يشترك فيه المسلمون ، كما يدلّ عليه الخبر الذي افتراه أبو بكر ، فتحريم التصرّف فيه بالدفن ونحوه واضح ، وإن كان ميراثا فالتصرف فيه قبل القسمة من دون استئذان جميع الورثة أيضا محرّم ، ولا ينفع طلب الإذن من عائشة وحدها.

ومن أعجب العجب أنّ الجهال من المخالفين بل علماؤهم يعدّون هذا الدفن من مناقبهما وفضائلهما ، بل ويستدلون به على استحقاقهما للإمامة والخلافة ، فقد روى الشيخ المفيد قدّس الله روحه في محاسنه أنّ فضال بن الحسن بن فضال مرّ بأبي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه ، فقال لصاحب كان معه : والله لا أبرح أخجل أبا حنيفة ، فدنا منه فسلّم عليه فردّ وردّ القوم بأجمعهم السلام عليه ، فقال : يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخا يقول : خير الناس بعد رسول الله عليّ بن أبي طالب ، وأنا أقول : أبو بكر خير الناس وبعده عمر ، فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال : كفى بمكانهما من رسول


الله كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره فأي حجّة أوضح لك من هذا؟ فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي فقال : والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق ، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله فقد أساءا وما أحسنا إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما ؛ فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له : لم يكن له ولا لهما خاصّة ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما ، فقال فضال : قد قلت له ذلك فقال : أنت تعلم إنّ النبيّ مات عن تسع نساء ونظرنا فإذا لكلّ واحدة منهن تسع الثمن ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر ، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك؟ وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟! فقال أبو حنيفة : يا قوم نحّوه عني فإنه والله رافضيّ خبيث (١) ، اه.

ثم على تقدير جواز دفنهما هناك فلا دلالة له على فضلهما بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى ، فإنّ ذلك إنما يكون بالصالحات من الأعمال كما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) ، نعم لو كان ذلك بوصية من النبيّ لكان كاشفا عن فضل ودليلا على شرف.

وما روي من أنه يلحق بالميّت نفع في الآخرة بالدفن في المشاهد المشرفة فإنما هو في الحقيقة إكرام لصاحب المشهد بالتفضل على من حلّ بساحته وفاز بجواره إن كان من شيعته والمخلصين له(٣).

وقال العلّامة الأميني عليه الرحمة :

«ليت الخليفة عمر عرّفنا ما وجه الاستيذان من عائشة؟ فهل ملكت هي حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإرث؟ فأين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المزعوم : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة؟

__________________

(١) الفصول المختارة ص ٧٤.

(٢) سورة الحجرات : ١٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٩٩ ـ ٢٠٢.


وبذلك زحزحوا عن الصدّيقة الطاهرة فدكا ، وبذلك منع أبو بكر عائشة وبقية أزواج النبيّ لما جئن إليه يطلبن ثمنهنّ ، وإن كان الخليفة عدل عن ذلك الرأي لما انكشف له من عدم صحة الرواية؟ فإن ورثة ابنة رسول الله كانت أولى بالإذن فإنها هي المالكة إذن ، وأما عائشة فلها التسع من الثمن ، فإن رسول الله توفّي عن تسع ، فكان الذي يلحقه عائشة من الحجرة الشريفة التسع من الثمن ، وما عسى أن يكون من ذلك لها إلّا شبرا أو دون شبرين ، وذلك لا يسع دفن جثمان الخليفة ، وهب أنه كان يضم إلى ذلك نصيب ابنته حفصة فإن الجميع يقصر عن ذلك المضطجع ، فالتصرف في تلك الحجرة الشريفة من دون رخصة من يملكها من العترة النبوية الطاهرة وأمهات المؤمنين لا يلائم ميزان الشرع المقدس.

ربما يقرأ القارئ في المقام ما جاء به ابن بطّال من قوله : إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها وكان لها فيه حق ، فيحسب هناك حقا لأم المؤمنين يستدعي ذلك الاستيذان ويصححه ، وإن هو إلا حقّ السكنى ، ومجرد إضافة البيت إلى عائشة لا يوجبان الملك.

قال ابن حجر في فتح الباري ج ٧ / ٥٣ : استدلّ به وباستيذان عمر لها على ذلك على أنها كانت تملك البيت ، وفيه نظر بل الواقع أنها كان تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان ولا يورث عنها ، وحكم أزواج النبي كالمعتدات لأنهنّ لا يتزوّجن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال في موضع آخر : ويؤيده ـ يعني عدم الملك ـ أنّ ورثتهنّ لم يرثن عنهن منازلهنّ ، ولو كانت البيوت ملكا لهنّ لانتقلت إلى ورثتهنّ وفي ترك ورثتهنّ حقوقهم دلالة على ذلك ، ولهذا زيدت بيوتهن في المسجد النبوي بعد موتهن لعموم نفعه للمسلمين كما فعل فيما كان يصرف لهنّ من النفقات.

وقال العيني في عمدة القاري ج ٧ / ١٣٢ في حديث عائشة [لما ثقل رسول الله استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي] : أسندت البيت إلى نفسها ، ووجه ذلك أنّ


سكنى أزواج النبي في بيوت النبي من الخصائص ، فلما استحققن النفقة لحبسهنّ استحققن السكنى ما بقين ، فنبّه البخاري بسوق أحاديث هذا الباب وهي سبعة على أنّ بهذه النسبة تتحقق دوام استحقاق سكناهنّ للبيوت ما بقين ، اه.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري ج ٥ / ٣١٠ : أسندت [عائشة] البيت إلى نفسها ووجه ذلك أنّ سكن أزواجه عليه الصلاة والسلام في بيوته من الخصائص ، فكما استحققن النفقة لحبسهنّ استحققن السكنى ما بقين ، فنبّه على أن بهذه النسبة تحقق دوام استحقاقهنّ لسكنى البيوت ما بقين ، اه.

فالقارئ جدّ عليم عندئذ بأنّ أم المؤمنين لم يكن لها من حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا السكنى فيها كالمعتدة ، وليس لها قطّ أن تتصرف فيها بما يترتب على الملك.

والخطب الفظيع عدّ الحفّاظ هذا الاستيذان وهذا الدفن من مناقب الخليفة ذاهلين عن قانون الإسلام العام في التصرف في أموال الناس.

ولست أدري بأيّ حق أوصى الإمام الحسن السبط الزكيّ صلوات الله عليه أن يدفن في تلك الحجرة الشريفة؟ وهل منعته عائشة عن أن يدفن بها؟ أو أذنت له وما أطيعت؟ ـ ولا رأي لمن لا يطاع ـ فتسلّح بنو أمية وقالوا : لا ندعه أن يدفن مع رسول الله وكاد أن تقع الفتنة .. لم هذه كلها؟ أنا لا أدري (١)!

أقول : إن الحق الذي من أجله استدعى الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام أن يدفن في تلك الحجرة هو قرابته من رسول الله ، فهو وريث جده وأمه سيدة النساء فاطمة عليها‌السلام الوريثة الوحيدة لرسول الله محمّد ، ويضاف إلى هذا سبب آخر هو كونه إمام هذه الأمة ، فالأولى أن يدفن بجانب جدّه ، وهل هناك أولى من الإمام الحسن عليه‌السلام حتى يدفن بقربه دون سبط النبيّ وريحانته؟!

__________________

(١) الغدير ج ٦ / ١٩١.


وهناك بدع أخرى صدرت من عمر منها :

إسقاطه لجزء من الأذان والإقامة وهو «حيّ على خير العمل». ويشهد له ما روي عنه بالحديث المشهور قال عمر : ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهن وأحرّمهن وأعاقب عليهن : متعة النساء ومتعة الحج وحيّ (١) على خير العمل.

وتبعه على ذلك عامة من تأخر عنه من المسلمين ، حاشا أهل البيت ومن يرى رأيهم حيث أن «حيّ على خير العمل» من شعارهم.

وقد وافق عبد الله بن عمر الإمام زين العابدين على ذلك فكان يقول في الأذان ـ بعد حيّ على الفلاح ـ حيّ على خير العمل ، حسبما نقل العلّامة الحلبي في باب بدء الأذان ومشروعيته.

وقد أراد عمر من تحريمه «لحي على خير العمل» الحرص على أن لا يعتمد الناس على الجهاد دون الصلاة ، لكون هذا الفصل يمثّل الجهاد كما أنه يمثّل الولاية ، فأصاب عمر عصفورين بحجر واحد ، فحرّم الجهاد المفضول بنظره على الصلاة الفاضلة ، وفي نفس الوقت حرّم التمسك بالولاية ، فعن مولانا الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام ، عند ما سأله محمد بن أبي عمير ، عن حيّ على خير العمل ، لم تركت من الأذان؟!

قال عليه‌السلام : تريد العلة الظاهرة أو الباطنة؟

قلت : أريدهما جميعا ، فقال عليه‌السلام :

أما العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد اتكالا على الصلاة ، وأما الباطنة ، فإن خير العمل الولاية ، فأراد من ترك حيّ على خير العمل من الأذان ، ألّا يقع حث عليها ودعاء إليها(٢).

__________________

(١) حيّ : اسم فعل بمعنى أقبل وعجّل ، فحيّ على خير العمل أي هلمّ واقبل على الولاية حيث هي خير العمل.

(٢) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، النص والاجتهاد ص ٢٢٤.


ولم يكتف عمر بحذف فصل من الأذان والإقامة حتى زاد فصلا آخر عليه وهو «الصلاة خير من النوم»! أوليس هذا تشريعا في مقابل تشريع الله تعالى؟!

ومنها : أن عمر أبي أن يورّث أحدا من الأعاجم إلّا من ولد في بلاد العرب.

روى مالك ـ إمام المالكية ـ عن الثقة عنده أنه سمع سعيد بن المسيّب يقول : أبى عمر بن الخطاب أن يورّث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب.

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت ، وترثه إن مات ، ميراثها في كتاب الله (١).

قال الأميني عليه الرحمة :

«هذا حكم حدت إليه العصبية المحضة ، وإنّ التوارث بين المسلمين عامة عربا كانوا أو أعاجم أينما ولدوا وحيثما قطنوا من ضروريات دين الإسلام ، وعليه نصوص الكتاب والسنّة ، فعمومات الكتاب لم تخصّص ، وليس من شروط التوارث الولادة في أرض العرب ولا العروبة من شروط الإسلام ، وهذه العصبية إلى أمثالها في موارد لا تحصى هي التي تفكّك عرى الاجتماع ، وتشتت شمل المسلمين ، وإنما المسلمون كأسنان المشط لا تفاضل بينهم إلّا بالتقوى ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٢) ويقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣) ويقول : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (٤). وهذا هتاف النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له يوم الحج الأكبر في ذلك المحتشد الرهيب بقوله :

أيّها الناس ، إنما المؤمنون إخوة ـ فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ـ أيّها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من

__________________

(١) الغدير ج ٦ / ١٨٧ نقلا عن الموطأ ج ٢ / ١٢.

(٢) سورة الحجرات : ١٠.

(٣) سورة الحجرات : ١٣.

(٤) سورة فصلت : ٤٤.


تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! قالوا : نعم ، قال : فليبلّغ الشاهد الغائب» (١).

هذه نبذة من بدع عمر بن الخطاب رواها العامة في مصادرهم ، فإن كانوا صادقين بصحتها ، فكيف يجوز حينئذ الاقتداء بمن طعن فيه بهذه المطاعن؟ وإن كانوا كاذبين ، فالذنب لهم ، والوزر عليهم وعلى من يقلّدهم. حيث عرفوا كذبهم فنسبوا الروايات إلى الصحة ، وجعلوها واسطة بينهم وبين الله تعالى.

لكننا نعتقد أن جلّ تلك الروايات الدالة على المطاعن إن لم يكن جميعها تكشف حقيقة عن ماهية الشيخين ومن جاء بعدهما عثمان (٢) ومعاوية ومن لفّ لفهم ودار في فلكهم ، فعلى الاتباع أن يصغوا لصوت الحق ويفتحوا آذان قلوبهم للحقيقة ، قال تعالى :

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣).

بهذا نكون قد انتهينا من إثبات بطلان خلافة المشايخ الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهنا نرجع إلى المحاورة بين العلوي والملك.

__________________

(١) الغدير في الكتاب والسنّة والأدب ج ٦ / ١٨٧.

(٢) سيأتي لاحقا ذكر مطاعن عثمان بن عفّان.

(٣) سورة الأحقاف : ٣١ ـ ٣٢.


حيث قال العلوي : إن الشيعة يعتقدون ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.

قال الملك (بتعجّب واستفهام) : ولما ذا؟

قال العلوي :

لأن عثمان جاء إلى الحكم بشورى ستة رجال ، عيّنهم عمر (١) وكل أهل الشورى الستة لم ينتخبوا عثمان ، وإنما انتخبه ثلاثة أو اثنان منهم.

____________________________________

(١) روى مؤرخو العامة :

أن عمر بن الخطاب لمّا طعن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال : لو كان أبو عبيدة الجرّاح حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : إنه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته ، وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : «إن سالما شديد الحب لله تعالى» إلى أن قال : عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ عليه‌السلام وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلا ، فإذا ولوا وليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه.

فخرجوا فقال العبّاس للإمام عليّ عليه‌السلام : لا تدخل معهم ، قال : إني أكره الخلاف ، قال: إذن ترى ما تكره ، فلمّا أصبح عمر دعا عليّا وعثمان وسعدا وعبد الرحمن والزبير فقال لهم :

إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم ، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ، ووضع رأسه وقد نزفه الدم.


فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقال عبد الله بن عمر : سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ، فسمعه عمر فانتبه وقال : اعرضوا عن هذا ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيام وليصلّ بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم ، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر ، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فامضوا أمركم ، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد ابن أبي وقاص : أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى ، فقال عمر : أرجو أن لا يخالف إن شاء الله ، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين : علي أو عثمان. فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي عليّ ففيه دعابة ، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق ، وإن تولّوا سعدا فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي ، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة ، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف فاسمعوا منه وأطيعوا.

وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة ، إنّ الله طالما أعزّ بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.

وقال لصهيب صلّ بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل هؤلاء الرهط بيتا وثم على رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتفق أربعة ، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلا ، وثلاثة رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس.

فخرجوا فقال «الإمام» عليّ عليه‌السلام لقوم معه من بني هاشم ، وتلقاه عمّه العباس فقال : عدلت عنا! فقال : وما علمك؟ قال : قرن بي عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلا ، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمه ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان


فيولّيها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني (١).

ونلاحظ في هذا النص أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر للشورى من أهل الرضى عند الله ورسوله بدليل قول عمر : إن النبيّ قبض وهو عنهم راض. وفي نفس الوقت نجد نصا آخر يناقض عمر نفسه به حيث ينسب إلى هؤلاء ما يوجب سخط الله عليهم ، فقد نقل لنا ابن أبي الحديد صورة الواقعة ، فقال :

إن عمر لمّا طعنه أبو لؤلؤة ، وعلم أنه ميّت ، استشار فيمن يولّيه الأمر بعده ، فأشير عليه بابنه عبد الله ، فقال : لاها الله إذا! ثم قال : إن رسول الله مات وهو راض عن الستة من قريش : عليّ وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثم قال : إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله ـ ثم قال : ادعوهم لي ، فدعوهم فدخلوا عليه ، وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه.

فنظر إليهم ، فقال : أكلّكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا ، فقال لهم ثانية ، فأجابه الزبير وقال : وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

فقال عمر : أفلا أخبركم عن أنفسكم! قال : قل ، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا ، فقال : أما أنت يا زبير فوعق لقس (٢) ، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوما إنسان ، ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير! أفرأيت إن أفضت إليك! فليت شعري ، من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة ، وأنت على هذه الصفة.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٦٦ قصة الشورى ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٢ حوادث عام ٢٣ ه‍.

(٢) المتغير المزاج.


ثم أقبل على طلحة ـ وكان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر ـ فقال له : أقول أم أسكت؟ قال ؛ قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئا ، قال : أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد ، والبأو (١) الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب.

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب ، قال طلحة : ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم! وسيموت غدا ـ أي رسول الله ـ فننكحهنّ. قال أبو عثمان : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول الله مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه‌السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها! لكان قد رماه بمشاقصه ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا؟.

قال : ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال : إنما أنت صاحب مقنب (٢) من هذه المقانب ، تقابل به ، صاحب قنص وقوس وأسهم ، وما زهرة (٣) والخلافة وأمور الناس.

ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن ، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر!

ثم أقبل على الإمام عليّ عليه‌السلام فقال : لله أنت لو لا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنّهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء.

ثم أقبل على عثمان فقال : هيها إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فحملت بني أمية وبني معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء ،

__________________

(١) الكبرياء والأنفة.

(٢) أي صاحب خيل.

(٣) زهرة : اسم قبيلة ، كان سعد منها.


فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلت ليفعلنّ ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان كذلك فاذكر قولي فإنه كائن (١).

ونلاحظ في هذا النص : دعوى عمر أن قريش ستقلّد عثمان هذا الأمر لحبها له وإيثارهم بالفيء ثم تذبحه العرب على فراشه ، وهي ـ أي هذه الدعوى ـ تفرّس بعلم الغيب وأنى لعمر به لو صحت نسبته إليه ، لأن الغيب لله تعالى يطلعه على خاصة أوليائه ، ولم يكن عمر منهم ، وهل الولاية أن يسلب أمير المؤمنين عليا وزوجه الزهراء عليهما‌السلام حقهما ، وقد ورد في حقهما ما ورد من المديح والإطراء؟! ويحتمل أن عمر يعلم نفسية عثمان وإيثاره لأقاربه على غيرهم.

والذي نراه أن عمر كان يظن نفسه أنه يمثّل قبيلة قريش كلها ، من هنا ما اختاره عمر فكأنما اختارته قريش ، فتنصيب عثمان كان بإيحاء من عمر نفسه ، وما عابه عمر على أهل الشورى (عدا أمير المؤمنين حيث نعته عمر بالدعابة) يصلح لأن يكون سببا في حرمة تولية أحد منهم للخلافة ، أما الدعابة المنسوبة لأمير المؤمنين فليست كذلك ، وهل من العيب أن يلاطف المؤمن اخوانه بالإيمان ، وكان ورد عن النبيّ أمثال ذلك ولكنه لم يقل إلّا حقا. هذا مضافا إلى أن نسبة الدعابة إلى أمير المؤمنين غير صحيحة لكونها تعارض المرويات الصحيحة الأخرى الدالة على عكس ذلك ، مع أن رواية الدعابة هي خبر واحد تفرد بنقله عمر بن

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، وقريب منه في نفس المصدر ج ١٢ / ٢٢٧ وص ٣٦٤ وفيها قال : إن فيه ـ أي الإمام علي ـ بطالة وفكاهة. أقول : حاشا لله أن يوصف الإمام عليّ بذلك! وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو ، وكما قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ١٢ / ٣٧٨ : إن الإمام عليه‌السلام كان طلق الوجه ، سمح الأخلاق ، وأراد عمر بعبارته تلك أن يكون الإمام عليّ مثله بالفظاظة والخشونة ، لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه ، ولا يستحسن طبع من يباينه في الخلق والطبع. وقد اعترض الإمام عليه‌السلام على عمرو بن العاص عند ما وصفه بالدعابة فقال : «عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس ، لقد قال باطلا ونطق آثما ، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت» نهج البلاغة ، صبحي الصالح ، خطبة ٨٤.


الخطاب ، كاتفرد برواية «الأجلح» ومعلوم أن الخبر الواحد لا يصلح دليلا على كشف شخصية مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فمع اعتراف عمر بأن الإمام عليا صاحب الفضائل والمناقب (١) فلم لم يرجع له حقا جعله الله تعالى له ، وما قصة الدعابة وما شابهها إلّا هروبا من الاعتراف بحقه عليه‌السلام ، ويشهد لما قلنا (من أن الدعابة ليست سببا أو علة تامة لعدم استلام الأمير عليه‌السلام منصب الخلافة بل وراء الأكمة ما وراءها) ما رواه البلاذري في تاريخه : أن عمر لمّا خرج أهل الشورى من عنده قال :

إن ولّوها الأجلح (٢) سلك بهم الطريق ، فقال عبد الله بن عمر : فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟

قال عمر : أكره أن أتحمّلها حيا وميّتا (٣).

وقوله الأخير «لا أتحملها» يعدّ عزوفا عن النص إلى واحد من بين ستة ، وهو في الواقع قول متلمّس متخلّص ، «لا يفتات (٤) على الناس في آرائهم ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كلّه ، ثم رتّب العدد مخصوصا ، يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدّم ، وأيّ شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا!! وأي فرق بين أن يتحمّلها بأن ينص على واحد بعينه ، وبين أن يفعل من الحصر والترتيب!» (٥).

__________________

(١) ورد عن عمر بألفاظ متعددة قوله : لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠ ، وما ورد عن ابن عبّاس عند ما نصح عمر بالإمام عليّ ليكون من بعده ، حيث لا يمنعه من ذلك شيء مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! فقال عمر : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابة. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٢٧ ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٤.

(٢) الأجلح : الذي في رأسه صلع.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ٣٦٥.

(٤) لا يفتات : لا يستبد.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٦٥ والشافي في الإمامة ج ٤ / ٢٠٥.


هذا مع التأكيد على أنّ وصف كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة ، ثم جعلها في جملتهم حتى كأن تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع ، مع أن الذي ذكره عمر كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد ، كذا هو مانع مع الاجتماع ، مع أنه وصف الإمام عليا عليه‌السلام بوصف لا يليق به ، ولا ادّعاه عدو قط عليه ، وهو معروف بضده من الركانة والبعد عن المزاج والفكاهة ، وهذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره عليه‌السلام وكيف يظن به ذلك وقد روي عن ابن عبّاس أنه قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا أطرق هبنا أن نبتدؤه بالكلام ، وهذا لا يكون إلّا من الوقار ، وما يخالف الدعابة والفكاهة (١).

وبالجملة فإنّ رجحان الأمر كان لصالح عثمان ويشهد له ما قاله أمير المؤمنين في خطبته المباركة المعروفة ب «الشقشقية» :

«حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففت (٢) إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه (٣) ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن».

فالذي صغى لضغنه هو سعد (٤) ، والذي مال لصهره هو عبد الرحمن مال إلى عثمان ، لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته ، وأم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز (٥).

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ٢٠٤.

(٢) أي دخلت في الأمر الدنيء احتجاجا عليهم.

(٣) الضغن : الحقد. وانظر الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة خطبة ٣ ج ١ / ٤٨ شرح صبحي الصالح.

(٤) قال القطب الراوندي : إن المصغي لضغنه هو سعد بن أبي وقاص ، ووافقه ابن أبي الحديد وذلك لأن أم سعد هي حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، والضغينة التي عنده على الإمام علي عليه‌السلام من قبل أخوال سعد الذين قتل صناديدهم ، ولم يعرف أن الإمام عليه‌السلام قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه ، شرح النهج ج ١ / ١٤٧.

(٥) شرح النهج ج ١ / ١٤٧.


قال ابن أبي الحديد :

إن عمر دعا أبا طلحة الأنصاري وقال له : انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم ، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم ، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ، فإن أصرّت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقهم ، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم.

فلما دفن عمر ، جمعهم أبو طلحة ، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ، ثم تكلّم القوم وتنازعوا ، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا وعثمان ، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان ، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه‌السلام بهبة أمر لا انتفاع له به ، ولا تمكّن له منه.

فقال الزبير في معارضته : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعليّ ، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليّا قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقّه لعثمان ، دخلته حميّة النسب ، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي صفية بنت عبد المطلب ، وأبو طالب خاله ، وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن الإمام عليّ عليه‌السلام باعتبار أنه تيمي ، وابن عم أبي بكر ، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة ، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم ، وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، وخصوصا طينة العرب وطباعها ، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك ، فبقي من الستة أربعة.


فقال سعد بن أبي وقّاص : وأنا قد وهبت حقّي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن وذلك لأنهما من بني زهرة ، ولعلم سعد أن الأمر لا يتم له ، فلما لم يبق إلا الثلاثة ، قال عبد الرحمن لعليّ وعثمان : أيكما يخرج نفسه من الخلافة ، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد ، فقال عبد الرحمن : اشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما ، فأمسكا. فبدأ بالإمام عليّ عليه‌السلام ، وقال له : أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم ، فعاد إلى عليّ عليه‌السلام ، فأعاد قوله ، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا ، فلما رأى أن عليّا غير راجع عمّا قاله ، وأنّ عثمان ينعم له بالإجابة ، صفق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إن عليّا عليه‌السلام قال له : والله ما فعلتها إلّا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم (١).

قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن.

هذه الشورى السداسية التي أمر بها عمر بن الخطاب وهو يعلم يقينا أن القوم سينصرفون فيها إلى عثمان دون الإمام علي عليه‌السلام بتخطيط من مبتكرها عمر ، وقد تم ذلك ، وأبعد الإمام عليّ عليه‌السلام عنها إلى أن آل الأمر إلى مقتل عثمان ، فبايع المسلمون الإمام عليا عليه‌السلام لأن لا سبيل لهم إلى ذلك سواه.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٥ ـ ١٤٦ وقريب منه ما رواه الطبري في تاريخه ج ٣ / ٢٩٣ ، ومعنى «عطر منشم» مثال يضرب على كل خصمين ، ومنشم اسم امرأة عطّارة كانت تبيع الطيب لخزاعة وجرهم ، كانت بعض القبائل إذا تعطرت بعطرها تكثر القتلى في الأعداء ، فلذا يقولون : أشأم من عطر منشم.


فشرعية خلافة عثمان مستندة إلى عمر ، وعمر جاء إلى الحكم بوصية أبي بكر (١).

____________________________________

(١) ذكر المؤرخون عامة تحت فصل «أبو بكر يعهد بالخلافة إلى عمر» أن أبا بكر لمّا نزل به الموت ، دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : أخبرني عن عمر ، فقال : إنه أفضل من رأيك فيه [الظاهر أنه تصحيف : «أفضل من رأيت»] إلّا أنّ فيه غلظة.

فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقا ، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه ، وقد رمّقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضا عنه ، وإذا لنت له أراني الشدة عليه ، ودعا عثمان بن عفان ، وقال له : أخبرني عن عمر ، فقال : سريرته خير من علانيته ، وليس فينا مثله ، فقال أبو بكر لهما :

لا تذكرا مما قلت لكما شيئا ، ولو تركته ما عدوت عثمان ، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا ، ولوددت أني كنت من أموركم خلوا وكنت فيمن مضى من سلفكم.

ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر ، فقال : استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك نسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر : اجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : أبا لله تخوّفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت : استخلفت على أهلك خير أهلك.

ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليا ليكتب عهد عمر ، فقال له : اكتب ؛ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد. ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيرا ، ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟ قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.


فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس ، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه ، فكان عمر يقول للناس : أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله فإنه لم يألكم نصحا ، فسكن الناس ، فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا .. (١).

وفي نص آخر : لمّا ولى أبو بكر عمر خليفة ، قال بعض : قد وليت علينا فظا غليظا ، وارتفع الخلاف بقول أبي بكر : لو سألني ربي يوم القيامة لقلت : ولّيت عليهم خيرهم لهم (٢).

وفي تعبير آخر أيضا : أن طلحة اعترض على أبي بكر عند ما اختار عمر للخلافة فقال له : «أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله! فاشتد غضب أبي بكر وقال : أي والله ، هو خيرهم وأنت شرّهم ، أما والله لو ولّيتك لجعلت أنفك في قفاك ، ولرفعت نفسك فوق قدرها ، حتى يكون الله هو الذي يضعها! أتيتني وقد دلكت عينك ، تريد أن تفتنني عن ديني ، وتزيلني عن رأيي! قم لا أقام الله رجليك ، أما والله لئن عشت فواق ناقة ، وبلغني أنك غمصته فيها ، أو ذكرته بسوء ، لألحقنّك بمحمضات قنّة حيث كنتم تسقون ولا تروون ، وترعون ولا تشبعون ، وأنتم بذلك بجحون راضون! فقام طلحة فخرج (٣).

ملاحظة :

هذه النصوص وغيرها دلت على أن في أخلاق عمر بن الخطّاب فظاظة ورعونة ، وهذا أمر شائع عنه ، فكيف عيّب عمر بأصحاب الشورى في حين كان الأجدر به أن يسكت عن معايبهم سترا عليهم كما ستر على آخرين ممن درأ عنهم الحد لحاجة في نفسه ، ولأنه ملئ بالمعايب ، ويكفي أنه مشهور بحمل الدّرّة ، التي قيل عنها :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢٥ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٨ وشرح النهج ج ١ / ١٢٨.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٥.

(٣) شرح النهج ج ١ / ١٢٨.


«إن درّة عمر أهيب من سيف الحجّاج ، بل هو أول من حمل الدرّة وأدّب بها» (١).

ويروى أن عمر أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية ، لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله كانوا يأتونها ، فيقيلون تحتها ، فلما تكرّر ذلك أوعدهم عمر فيها ، ثم أمر بها فقطعت (٢).

يظهر أن ابن تيمية الذي حرّم التبرك بقبور الأولياء ، وآثارهم وحرّم البكاء على الأموات كان ذلك تبعا وتقليدا لسيّده عمر ، ويشهد لهذا ما ذكرناه آنفا ، ولموقفه من تقبيل الحجر الأسود حيث دنا منه وقال : إني لأعلم إنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله قبّلك واستلمك ، لمّا قبّلتك ولا استلمتك ، فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : بلى إنه ليضر وينفع ، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣).

فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عزوجل ، وأنهم العبيد ، كتب ميثاقهم في رق ، ثم ألقمه هذا الحجر ، وأن له لعينين ولسانا وشفتين ، تشهد من وافاه بالموافاة ، فهو أمين الله عزوجل في هذا المكان ، فقال عمر : لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن (٤).

وأتى رجل من المسلمين إلى عمر ، فقال : إنّا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس ، وكلام معجب ، فدعا بالدرّة فجعل يضربه بها ، ثم قرأ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٥) ويقول : ويلك! أقصص أحسن من كتاب الله!

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٢.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠.

(٣) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٤) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠.

(٥) سورة يوسف : ٣.


إنما هلك من كان قبلكم ، لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم ، وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا ، وذهب ما فيهما من العلم (١).

يرد عليه :

١ ـ ما الإشكال ـ عند عمر ـ أن يستطلع المسلمون على حضارات الشعوب الأخرى ويأخذوا منها ما ينفعهم ، فلم يرو عن رسول الله أنه نهى عن ذلك بل إن الانفتاح على الآخرين ودراسة ما لديهم من معارف وعلوم أمر يقره العقلاء ويؤكده القرآن الكريم لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٢). فليس الغرض (عند عمر) هو المحافظة على الكتاب الكريم وإنما ليمنع الرواية والحديث عن الأعاجم والفرس لفرط حساسيته منهم ، ولعقدة العنصرية العربية عنده ، وقد اشتهر عمر بذلك كما أنه اشتهر بمنعه من كتابة أحاديث النبيّ ، فقال يوما :

«جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم» (٣).

وقال لأبي هريرة الذي يروي عنه العامة كثيرا :

«لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس» (٤).

ولما أراد بعضهم أن يكتب السنن فاستشاروه بذلك فقال :

«إن قوما قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا» (٥).

وعبارته المشهورة التي واجه بها النبيّ أكبر شاهد على مدعانا وهي : «حسبنا كتاب الله».

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦١.

(٢) سورة الحجرات : ١٣.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣.

(٤) تاريخ ابن عساكر وأضواء على السنّة المحمدية الشيخ محمود أبو ريّة ص ٣٠١.

(٥) الملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٧ نقلا عن تقييد العلم ص ٢٩.


ونحن نسأل : هل يكفي الكتاب لنفهم أحكامه وفيه آيات محكمات وأخر متشابهات؟ وكيف يكون الكتاب حسبنا ، وقد قال الله في الكتاب : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١).

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٢).

ومن فصّل لعمر وللمسلمين الصلاة وشرائطها وأجزائها وكذا الزكاة والصوم والحج وبقية الأحكام؟! فهل فصّلها لنا عمر أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وهل هناك آيات فصّلت لنا أن صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعا والمغرب ثلاثة؟!

وهلّا دلّنا عمر على آية تفصّل لنا أحكام الصوم أو غيرها من أحكام الإسلام؟!

٢ ـ إن ترك اليهود والنصارى لكتبهم لم يكن سببه إقبالهم على كتب علمائهم وإنما يرجع إلى العلماء أنفسهم الذين حرّفوا لهم كتبهم فأطاعوهم ، فالعلة كانت من العلماء لا من الأتباع فحسب ، وإلا لو كانت قراءة الكتب سببا لتحريف الشرائع المقدّسة لكان على المسلمين اليوم أن يكتفوا بالقرآن دون السنّة المطهّرة ودون الانكباب على كتب الأقوام والشعوب الأخرى ، فتكون النتيجة أن نتوقع ضمن منظومتنا العربية فقط بنظر عمر بن الخطّاب!.

فلم يكن زجر عمر الآخرين عن مطالعتهم لأفكار الفرس والعجم إلا لعقدة نقص في ذاته تنم عن جهله وبغضه للمعارف والعلوم ، ويشهد لما نقول :

ما روي من أن عمر جاءه رجل ، فقال : إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين ، فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن ، فقال : اللهم أمكنّي منه ،

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣٢ ويجدر بالقارئ أن يطالع الآيات التالية : آل عمران ١٣٢ والنساء ٥٩ والمائدة ٩٢ الأنفال ١ و ٢٠ و ٤٦ وطه ٩٠ والنور ٥٤ ـ ٥٦ ومحمد ٣٣ والمجادلة ١٣ والتغابن ١٢.


فبينا عمر يوما جالس ، إذ جاءه الضبيع ، وعليه ثياب وعمامة ، فتقدم من عمر وقال : يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (١)؟ قال : ويحك أنت هو! فقام إليه فحسر عن ذراعيه ، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فإذا له ضفيرتان ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، ثم أمر به فجعل في بيت ، ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة ، فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ، ثم حمله على قتب وسيّره إلى البصرة ، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرّم على الناس مجالسته ، وأن يقوم في الناس خطيبا ، ثم يقول : إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه وعند الناس حتى هلك ، وقد كان من قبل سيّد قومه (٢).

ملاحظة :

هل من العدل أن يضرب ضبيع مائة جلدة كل يوم ويغرّب عن بلده وتقاطع مجالسته من أجل سؤاله عمر بن الخطاب عن آية قرآنية أو عن الحروف المقطعة في القرآن؟! وهل كانت سيرة النبيّ كذلك حتى استنّ بها عمر؟! أم أن في حشاشته عصبية لا يسكّنها إلا انتقامه من الأبرياء والمستضعفين؟!!

وقد اعترف بعصبيته وغلظته رجل طالما دافع عن عمر ألا وهو ابن أبي الحديد فقال :

«وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ، ولم يتحفظ منها ، وكان الأحسن أن يقول «مغمورا» أو «مغلوب بالمرض» وحاشاه أن يعني بها غير ذلك.

__________________

(١) سورة الذاريات : ١ ـ ٢.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦١.


ولجفاة العرب من هذا الفن كثير .. ثم قال : وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة ، بل مفارقة دار الإسلام كلها ، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية (١).

وقيل لابن عبّاس لمّا أظهر قوله في العول (٢) بعد موت عمر ولم يكن قبل يظهره : هلّا قلت هذا وعمر حي؟ قال : هبته ، وكان امرأ مهابا.

واستدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر ـ وكانت حاملا ـ فلشدة سطوته ورهبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا ، فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك ، فقالوا : لا شيء عليك إنّما أنت مؤدب ، فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام : إن كانوا راقبوك فقد غشوك وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا وعليك غرّة ـ يعني عتق رقبة ـ فرجع عمر والصحابة إلى قوله (٣).

هذا النص وأمثاله حجة على عمر والصحابة حيث جهلوا أبسط أحكام دينهم إلى أن جاء حلّال المعضلات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فحلها ومع هذا يقول الأتباع : تجوز خلافة المفضول على الفاضل ، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.

* * * * *

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٢.

(٢) زيادة سهم الفريضة ليدخل النقصان على أهل الفرائض.

(٣) شرح النهج ج ١ / ١٣٥.


وجاء أبو بكر إلى الحكم بانتخاب جماعة صغيرة تحت شراسة السيف والقوة ، فشرعية خلافة أبي بكر مستندة إلى السلاح والقوة.

ولذا قال عمر في حقه : «كانت بيعة أبي بكر فلتة من فلتات الجاهلية وقى الله المسلمينشرها ، فمن عاد إليها فاقتلوه» وأبو بكر نفسه كان يقول : «أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» ولذا فالشيعة يعتقدون بأن خلافة هؤلاء باطلة من أساسها (١).

____________________________________

(١) وسبب بطلانها ـ بنظر الشيعة الإمامية ـ أنها لم تقم على أساس النص الإلهي ، بل قامت بالقهر والسيف ، وقد ادّعى العامة تبعا لمقولة عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينص على تعيين الخليفة بل ترك تعيينه شورى بين أهل الحل والعقد لذا لمّا طعن عمر بن الخطاب دخل عليه ابنه عبد الله فقال له : سمعت الناس يقولون مقالة ـ وآليت أن أقولها لك ـ زعموا أنك غير مستخلف ، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيّع ، فرعاية الناس أشد ، فوضع رأسه ثم رفعه ، فقال : إن الله تعالى يحفظ دينه ، إن لم أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف ، وإن استخلفت فإن أبا بكر قد استخلف (١).

ففي هذا النص احتجاج من عبد الله بن عمر على أبيه أنه كيف يترك الأمة بلا راع ، ولو أن راعيا ترك غنمه ألا يرى الناس أنه ضيّعهم ، فرعاية الناس أشد من رعاية الغنم ، فما بال رسول الله ـ وحاشاه ـ ترك الأمة بلا راع ألا يرى الناس أنه قد ضيّعهم وتركهم فريسة التناحر والتقاتل من أجل الخلافة والخليفة؟!

وهل أن أبا بكر الذي استخلف على الأمة عمر بن الخطاب أكثر حنكة وحكمة من رسول الله الذي لم يستخلف بنظر عمر؟!!

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٦.


إن الأدلة القرآنية والنبوية التي سيقت للتدليل على وجود خليفة بعد رسول الله بها الغنى والكفاية ، فالأعشى يخفى عليه نور الشمس ، كما أن النائم في غفلة عن انفلاق الفجر ..

أما وجه بطلان خلافة أبي بكر فلما تقدم في المتن من أنه جاء للحكم بقوة السيف ويشهد له الكم الوفير من النصوص التاريخية عند الطرفين ، منها :

ـ ما رواه ابن قتيبة الدينوري وهو أحد أعلام القرن الثالث ومن تابعي التابعين (ولد عام ٢١٣ وتوفي ٢٧٦ ه‍).

قال : لمّا اجتمعت الأنصار في منزل سعد بن عبادة ، فزع أبو بكر أشد الفزع ، وقام معه عمر فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة ، فلقيا أبا عبيدة الجراح فانطلقوا جميعا ، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة ، وفيها رجال من الأشراف ، معهم سعد بن عبادة ، فأراد عمر أن يبدأ بالكلام ، وقال : خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام (١) ، فلما تيسر عمر للكلام ، تجهّز أبو بكر وقال له : على رسلك ، فستكفى الكلام ، فتشهد أبو بكر ، وكان من جملة ما قال : كنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، والناس لنا فيه تبع ، ونحن عشرة رسول الله ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا ، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة ، وأنتم أيضا والله الذين آووا ونصروا ، وأنتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله ، وأنتم اخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله وفيما كنّا فيه من سراء وضراء ، والله ما كنّا في خير قط إلا كنتم معنا فيه ، فأنتم أحب الناس إلينا ، وأكرمهم علينا ، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمر الله ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين ، وهم أحق الناس فلا تحسدوهم وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين

__________________

(١) إن مقالة عمر هذه تدل على شيئين : الأول : أن أبا بكر لا يجيد المحادثة والخطابة ، والثاني : أن عمر هو الرأس المدبّر لخلافة أبي بكر ، فما قصد نسجه عمر لا يمكن لأبي بكر أن يعبّر عنه لعدم لياقته بنظر عمر بن الخطاب.


الخصاصة ، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم ، وأبعد أن لا تحسدوا اخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم ، وإنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر ، وكلاهما له أهل ، فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر أنت صاحب الغار ثاني اثنين ، وأمرك رسول الله بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر ، فقال الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وإنّا لكما وصفت يا أبا بكر والحمد لله ، ولا أحد من خلق الله تعالى أحب إلينا منكم ولا أرضى عندنا ولا أيمن ولكنّا نشفق مما بعد اليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم ، فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا.

ثم ردّ عليهم أبو بكر فقال :

«... أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام رضيكم الله تعالى أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم مهاجرته ، فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات دونكم بمشورة ولا تنقضي دونكم الأمور.

فقام الحبّاب بن المنذر فقال :

يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أيديكم ، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم ولن يجير مجير على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة ، وإنما ينظر الناس ما تصنعون .. أنتم أهل الإيواء والنصرة ، وإليكم كانت الهجرة ، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم ، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم ، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم ، ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم ، ولا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم ، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر وإن أبى القوم ، فمنا أمير ومنهم أمير.


فقام عمر فقال :

هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم ، وأولو الأمر منهم ، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة فردّ عليه الحباب بن المنذر فقال :

يا معشر الأنصار : املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم ، وتولوا هذا الأمر عليهم ، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم ، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا ، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، والله لا يردّ عليّ أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف.

قال عمر بن الخطّاب : فلما كان الحباب هو الذي يجيبني ، لم يكن لي معه كلام لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله فنهاني عنه.

ثم قام أبو عبيدة فقال :

يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى ، فلا تكونوا أول من يبدّل ويغيّر (١).

ثم تكلّم بشير بن سعد فقال :

يا معشر الأنصار ، أما والله لئن كنّا أولى الفضيلة في جهاد المشركين ، والسابقة في الدين ، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا وطاعة نبينا والكرم لأنفسنا ، وما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس ولا نبتغي به عوضا من الدنيا فإن الله ولي

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٢ ـ ٢٥ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٦ وشرح النهج ج ٣ / ١٧٧.


النعمة والمنّة علينا بذلك (١).

ولمّا استقر الوضع قليلا ، قام أبو بكر مستغلا الفرصة فقال :

إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين : أبي عبيدة بن الجراح ، أو عمر فبايعوا من شئتم منهما ، فقال عمر : معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا ، أنت أحقنا بهذا الأمر ، وأقدمنا صحبة لرسول الله وأفضل منا في المال وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين وخليفته على الصلاة ، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام فمن ذا ينبغي أن يتقدمك ويتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك أبايعك ، فلما ذهبا يبايعانه سبقهما إليه بشير الأنصاري فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير بن سعد عقّك عقاق ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة؟ قال: لا والله ، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا لهم.

فلما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وهو من سادات الخزرج ، وما دعوا إليه المهاجرين من قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير : لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ، ولا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه.

فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه ، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه ، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، فقال : فعلتموها يا معشر الأنصار أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء.

فقال أبو بكر : أمنا تخاف يا حباب؟

قال : ليس منك أخاف ، ولكن ممن يجيء بعدك. قال أبو بكر : فإذا كان ذلك كذلك ، فالأمر إليك وإلى أصحابك ، ليس لنا عليك طاعة. قال الحباب :

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٦.


هيهات يا أبا بكر ، إذا ذهبت أنا وأنت ، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم (١). وفي نص آخر قال سعد لعمر : نحن الوزراء وأنتم الأمراء ، فاتفقا (٢).

تنبيه :

إذا لم يكن لأبي بكر طاعة على الحباب وأصحابه فلم يلزمه بالبيعة له ، فلما ذا ألزم الإمام عليا وأصحابه بها حتى اقتحموا داره لأجل أخذ البيعة منه؟!

على كل صاحب ضمير أن ينصف بحكمه عند ما يقرأ تاريخا كهذا.

وهكذا اتفق أكثر الأنصار والمهاجرين ممن حضر السقيفة على بيعة أبي بكر إما طمعا أو خوفا إلا القليل منهم حيث ثبتوا على مواقفهم الباسلة منهم سعد بن عبادة ، فانتصب مجابها للقوم قائلا لهم :

أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض ، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك ـ يقصد أبا بكر ـ وأصحابك ، ولألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، خاملا غير عزيز ، فبايعه الناس جميعا حتى كادوا يطئون سعدا ، فقال سعد : قتلتموني ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، فقال سعد : احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياما ، ثم بعث إليه أبو بكر فقال له : أن أقبل فبايع ، فقد بايع الناس ، وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ، ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ، وأعلم حسابي ، فلما أتى بذلك أبو بكر من قوله ، قال عمر : لا تدعه حتى يبايعك ، فقال لهم بشير بن سعد : إنه قد أبى ولجّ ، وليس يبايعك حتى يقتل (٣) ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه وأهل بيته

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٦.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٤٤ حوادث عام ١١ ه‍.

(٣) وبالفعل قتل سعد بن عبادة ، وقاتله عمر بن الخطاب ، فقد روى البلاذري في تاريخه أن ابن الخطّاب أشار إلى خالد بن الوليد ومحمّد بن سلمة الأنصاري بقتل سعد ، فرماه كل واحد بسهم ،


وعشيرته ، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج ، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس ، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم ، فاتركوه فليس تركه بضاركم ، وإنما هو رجل واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد ، فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يجمع ـ أي ولا يصلّي الجمعة ـ بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم ـ يعني لا يحج معهم ـ ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم ، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم ، فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر ، ووليّ عمر بن الخطاب ، فخرج إلى الشام ، فمات بها ، ولم يبايع لأحد رحمه‌الله (١).

وفي نصوص أخرى : أقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد اتقوا سعدا لا تطؤه فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، فأخذ سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ...» (٢).

وهنا بعض الملاحظات لا بدّ من الإشارة إليها :

الملاحظة الأولى : إن خط المعارضة لآل البيت عليهم‌السلام لم يهتم لموت النبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبرز ذلك من خلال اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة والنبيّ لا يزال مسجى على فراش الموت.

والعاقل يستغرب كيف أنهم تركوا النبيّ الكريم في تلك اللحظات الأليمة في حين كان الأجدر بهم أن يبقوا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقومون بتجهيزه وتولية أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصوصا وأن القيام بشئون الميّت أمر اعتاده العقلاء من

__________________

ـ ثم أوقعوا على أوهام الناس أن الجن قتلوه ووضعوا هذا الشعر على لسانهم :

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

فرميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده (انتهى)

وقد شهد النبيّ بفضل سعد لمواقفه المشرّفة بنصرة دين الله تعالى ، انظر : أسد الغابة ج ٢ / ٤٤١.

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٩ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.


كل دين حتى عبدة الأوثان.

قد يقال :

إن خوف الأنصار من المهاجرين للمنافسة الموجودة (١) بينهم ، أدت إلى اجتماع الأنصار بقيادة سعد بن عبادة ، وقد تبين لهم أن شيوخ المهاجرين قد تكتلوا لصرف الخلافة عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأرادوا الاستيلاء عليها في حين إنّ الأنصار قدّموا للدعوة وصاحبها ما لم يقدّمه أي مهاجر آخر غير الإمام عليّ عليه‌السلام.

هذا الرأي تبنّاه أحد المؤرخين (٢) ، لكنه مردود وذلك :

أولا : إن مؤازرتهم ونصرتهم للرسول لا يشك بها ذو مسكة ويؤجر عليها المخلص والثابت على الإيمان ، لكنّ استبدادهم بالأمر وتسرّعهم في عقد الاجتماع لنصب خليفة منهم ، مما دعا أبو بكر وعمر أن يلتحقا به ، هذا التسرع والاستبداد يعدّ خيانة عند أكثرهم للإسلام وتفريطا بحقوق المسلمين بلا مبرر ، في وقت دهمت الإسلام فاجعة أليمة ، والمسلمون مذهولون بموت نبيّهم ، في حين إنّ أصحاب السقيفة ومنهم بعض قادة الأنصار ـ عدا سعد بن عبادة ، وابنه قيس والمقداد ـ كانوا مشغولين بتنصيب خليفة ، وكأنهم لم يسمعوا تلكم النصوص الباهرة طيلة حياة النبيّ والتي أكّد فيها أن العترة الطاهرة بزعامة مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هي الممثّل الوحيد للإسلام من بعده ، وكأنّ على آذان القوم وقرا وبينهم وبين تلكم النصوص حجاب.

__________________

(١) ويؤيده ما ورد في نصوص متعددة : أن عمر لمّا سمع باجتماع الأنصار والمهاجرين في السقيفة أرسل وراء أبي بكر وقد كان في منزل النبي ، فأرسل إليه أبو بكر أني مشتغل ، فقال : عمر قد حدث أمر لا بد لك من حضوره ، فخرج إليه ، فأعلمه الخبر ، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة الجراح ، قال عمر : فأتيناهم وقد كنت زوّرت كلاما أقوله لهم ... انظر : كامل ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣ و ٤٥٦.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ / ٢٥٩ فصل السقيفة ، السيد هاشم معروف الحسني.


ثانيا : لو كان الأنصار أصحاب السقيفة يمخّضون النصيحة للإسلام والمسلمين لكان الأجدر بهم أن يلتفوا حول مولاهم الذي بايعوه في غدير خم فيكونوا له عليه‌السلام أنصارا كما كانوا للنبيّ في ساعة العسرة ، وقد كان الأمير عليه‌السلام ينتظر نصرة أربعين من المهاجرين والأنصار حسبما أوصاه رسول الله بأمر من الله بذلك.

الملاحظة الثانية : إنّ المهاجرين ادّعوا بخطبهم أمام الأنصار أنهم أولياء الرسول وعشيرته ، وأن منهم من كان ثاني اثنين في الغار ، ومن نصبه النبيّ ليصلّي عنه ، ومنهم أمين هذه الأمة (١) وفاروقها (٢) ، كل ذلك ليستدروا عواطف الأنصار ليحصلوا بذلك على دعمهم لهم بالبيعة.

والسؤال : لقد ادّعى المهاجرون أنّهم أحقّ بهذا الأمر ـ حسبما تقدّم آنفا عن أبي بكر وأمثاله ـ فهل كانوا حقيقة من عشيرة النبيّ والأولى بسلطانه وميراثه (٣)؟

والجواب :

الواقع يكذّب ذلك ، لأن الرءوس الثلاثة الكبيرة في السقيفة (أبو بكر ـ عمر ـ أبو عبيدة الجرّاح) كانوا من بطون متعددة مستقلة بعضها عن بعض ، فالنبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البطن الهاشمي المستقل عن هذه البطون والمتميز عليها ، وقد أشار إلى هذا العباس بن عبد المطلب في معرض رده على أبي بكر فقال : إن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

__________________

(١) أرادوا به عبيدة بن الجراح الذي قال عنه النبيّ برواية مفتراة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لأبعثنّ عليكم أمينا حقّ أمين ، فبعث معهم أبا عبيدة ، انظر : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٢) أي يقصدون عمر بن الخطاب.

(٣) ادعاها أبو بكر في خطبته أمام الأنصار في السقيفة ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٧ فصل في ذكر عما جرى بين المهاجرين والأنصار. وكذا ادعاها بشير بن سعد مع أنه أنصاري لكنه قالها تملقا لأبي بكر وحسدا لسعد بن عبادة ، انظر : الإمامة والسياسة فصل مخالفة بشير بن سعد ص ٢٥.


الملاحظة الثالثة :

إن المهاجرين الثلاثة في السقيفة صوّروا أن كل الأنصار يريدون أن يكون الخليفة منهم ، لكنّ الحقيقة غير هذا وذلك لوجود ثلة مؤمنة من الأنصار ثبتوا على ولائهم لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وأخلصوا بتشيعهم له أمثال سعد بن عبادة والمقداد والحباب بن المنذر وقيس بن سعد بن عبادة ، فهؤلاء كانوا في السقيفة يقودون جبهة الأنصار المعارضة للخط القبلي ، لذا يروى أن بعض الأنصار قالت : لا نبايع إلّا عليّا (١).

الملاحظة الرابعة :

إن الحلف الثلاثي كان قد خطّط للمؤامرة من قبل موت النبيّ ، من هنا تأخر أبو بكر بقدومه من منزله بالسنح حتى شوّش عمر على الحضور بإلقاء شبهته بأن النبيّ لم يمت ومن زعم ذلك فسوف يرجعنّ النبيّ ويقطع له يديه ورجليه ، فقضية الخلافة كانت متواجدة في ذهن عمر بن الخطاب وينتظر مجيء أبي بكر ليبدأ تحركهما في هذا المجال ، والأمر آنذاك كان يقتضي تسكين المسلمين وبث الشبهة في أذهانهم وانشغالهم بذلك ليتسنى لهم جمع الأعوان للانقلاب (٢) على الإمام عليّ وأصحابه ، ولا يعنينا ما رامه ابن أبي الحديد حيث ادعى أن عمر لمّا علم أن رسول الله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتغلب أقوام عليها ، إما من الأنصار أو من غيرهم ، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس فأظهر ما أظهر وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم حراسة للدين (٣) والدولة إلى أن جاء أبو بكر.

ولمّا اتسقت الأمور لرواد الانقلاب الذين لم يحضروا حتى جنازة النبيّ بل

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥.

(٢) كان الانقلابيون ينتظرون قدوم أعداد كبيرة من مرتزقة الأعراب للإطاحة بخلافة أمير المؤمنين علي ، لذا لما جاءوا ورآهم عمر قال : لمّا رأيت قبيلة أسلم تضايقت بهم السكك أيقنت بالنصر ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣١.

(٣) شرح النهج ج ٦ / ٢٤٨.


لم يل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أقاربه ، أما اولئك فكانوا منشغلين بمجالدة الناس وقهرهم على البيعة ، لذا قال ابن أبي الحديد : «وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم (١) المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا! وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة عليها‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (٢).

وعن البراء بن عازب قال :

«لم أزل لبني هاشم محبّا ، فلمّا قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر منهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجرة وأتفقّد وجوه قريش ، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، وإذ قائل يقول :

القوم في سقيفة بن ساعدة ، وإذ قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ، فلم ألبث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه ، وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء أو أبى ، فأنكرت عقلي ، وخرجت اشتدّ حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا ، وقلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة ، فقال العبّاس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ، فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمّارا ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين.

وبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى عبيدة وإلى المغيرة بن شعبة ،

__________________

(١) وقم المخالفين : أي أذلهم.

(٢) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ فصل نبذة من أخبار عمر بن الخطّاب.


فسألاهما عن الرأي ، فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له ولولده في هذه الإمرة نصيبا ، ليقطعوا بذلك ناحية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فانطلق أبو بكر وعمر وعبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العبّاس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ، فقام أبو بكر خطيبا فقال :

إن الله ابتعث لكم محمّدا نبيّا ، وللمؤمنين وليّا ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين عير مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، وما أنفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عمّ رسول الله وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم وعلى رسلكم بني هاشم ، فإن رسول الله منّا ومنكم.

فاعترض عمر كلامه ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته ، فقال : أي والله ، إنا لم نأتكم حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم ولعامّتهم ثم سكت.

فتكلم العبّاس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

إن الله ابتعث محمدا نبيّا كما وصفت ووليّا للمؤمنين ، فمنّ الله به على أمته حتى اختار له ما عنده ، فخلّى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، ما تقدّمنا في أمركم فرطا ، ولا حللنا وسطا ، ولا نزحنا شحطا ، فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين ، وما أبعد


قولك : إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك ، وأما ما بذلت لنا ، فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن يكن حقّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض ، وما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان ، وأما قولك : إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، وأما قولك يا عمر : إنك تخاف الناس علينا ، فهذا الذي قدمتموه أوّل ذلك ، وبالله المستعان»(١).

وهنا نبدي بعض الملاحظات التالية :

الملاحظة الأولى : إن أقطاب السقيفة أرادوا استمالة العبّاس بن عبد المطلب لشيئين :

الأول : ظنهم أنه يريد الزعامة ، لذا قالوا له : نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ، إذ كنت عمّ رسول الله.

الثاني : ليكون خصما (٢) بذلك على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقد عبّر عن هذين الأمرين المغيرة عند ما استشاره الشيخان.

ويا ليت القوم أعطوا أمير المؤمنين والصدّيقة الزهراء عليهما‌السلام نصيبا من الأمر لصلتهما الوثيقة برسول الله كما فعلوا مع العبّاس لكونه عمّ رسول الله.

إذن أراد القوم رشوة العبّاس لاستمالته إليهم لكنه رفض لأن معارضته لهم من أجل اغتصاب الحق ، وهيهات أن يداهن العبّاس عليه وقد كان عمر يستمطر السماء به فتمطر.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٢) يظهر من نص : أن الإمام عليّا عند ما ألقى الحجة على أبي بكر ، أقرّ أبو بكر بأحقية الإمام منه ، واتفقا أن يكون الموعد بينهما المسجد ، ولكنّ المغيرة بن شعبة تلاعب بفكر أبي بكر وقال له : الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذه الأمرة نصيبا وتكون لكما الحجة على علي إذا كان العباس معكم ، لاحظ : الإمامة والسياسة ص ٣٢.


الملاحظة الثانية : ادّعاء أبي بكر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأمر للمسلمين ليختاروا لأنفسهم وقد اختاروا أبا بكر عليهم واليا ، وهو ادعاء كاذب لا يمت إلى الحقيقة بصلة ، إذ لم يدع رسول الله الأمر شورى بين المسلمين بل نصّب عليهم بأمر من الله يوم غدير خم الإمام عليا عليه‌السلام خليفة وقيّما ووليا ، وقد هنأ الشيخان الإمام عليا بولايته على كل مؤمن ومؤمنة ، هذا مضافا إلى أن أبا بكر وعمر نفسيهما لم يذهبا من الدنيا حتى خلّفا على هذه الأمة من ينوب عنهما في أمور الرعية ، بل إن أبا بكر ذكر ذلك في خطبته تلك مخاطبا العبّاس : «فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا» فإذا ثبت الانتخاب للأدنى ليصلح الرعية ، ثبت بطريق أولى للأشرف أعني النبيّ بأمر من الله تعالى ، فما هذه الغميزة بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

الملاحظة الثالثة : أظهر أقطاب السقيفة امتعاضهم من أن يكون البيت الهاشمي الحصن المنيع لكل مستضعف يلجأ إليه ، وهذا الأمر له دلالاته عند الشيخين لكونه لا يتناسب وأسس الحكومة البكرية الجديدة ، التي تتعاطى مع الأحداث بالعنف والقسوة لبسط نفوذها وهيبتها.

الملاحظة الرابعة : ادعاء أبي بكر أن المسلمين عدلوا عن آل هاشم إلى آل تيم وعدي كما أن رسول الله من بني هاشم ومنهم ، في حين إنّ رسول الله من شجرة طيبة تختلف بجوهرها عن باقي الشجر ، وكما عبّر العبّاس : إن رسول الله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها.

هذا مضافا إلى أن المسلمين لم يعدلوا عن آل هاشم وإنما عدّلوا بالسيف والقهر إلى منطق السقيفة ، هذا إذا أحسنّا الظن بهم ، وإلّا أين كان المسلمون عند ما «احتاجت إليهم بضعة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنصرتها ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به» (١).

__________________

(١) لاحظ : الإمامة والسياسة ص ٢٩ فصل إباية الإمام علي عن البيعة لأبي بكر.


فمنطق أصحاب السقيفة لا يعرف سوى القوة لفرض آرائه على الناس ، فما قرّره الشيخان في مؤتمر السقيفة يجب أن ينفّذ حتى لو كان فاقدا للشرعية من حيث ترتبه على موقف مخالف وهو التخلف عن جيش أسامة ، بالإضافة إلى معارضته من قبل أعداد كبيرة من أجلّة الصحابة.

فيروي المؤرخون أن بني هاشم لما انعقدت البيعة بالقهر لأبي بكر اجتمعت حول الإمام عليّ عليه‌السلام ومعهم الزبير بن العوام وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب ، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم ، وكان الإمام عليّ عليه‌السلام يقول : ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه ، فصرفوه عنا (١) ، واجتمعت بنو أمية على عثمان ، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف ، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين فلمّا أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوه ، وقام بنو زهرة فبايعوا ، وأمّا الإمام عليّ عليه‌السلام والعبّاس بن عبد المطلب ومن معهما من خيرة أصحابهما وبني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرحيل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار (٢).

وما جرى على الزبير من بطش عمر كان في منزل الإمام علي عليه‌السلام عند ما همّوا بإحراقه ، ففي نصّ عن مروان بن عثمان قال :

لما بايع الناس أبا بكر ، دخل الإمام علي عليه‌السلام والزبير والمقداد بيت الصدّيقة فاطمةعليها‌السلام وأبو أن يخرجوا فقال عمر بن الخطاب : اضرموا عليهم

__________________

(١) وفي لفظ آخر قال عليه‌السلام : «ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله» ، لذا لمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه وقال : «اذهب فلا أرينّك» ، لم يزده على ذلك. انظر : شرح النهج ج ١ / ٢٧ باب لمع يسيرة من فضائل الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٢) الإمامة والسياسة / الدينوري ص ٢٨.


البيت نارا ، فخرج الزبير ومعه سيف ، فقال أبو بكر عليكم بالكلب فقصدوا نحوه فزلّت قدمه وسقط على الأرض ووقع السيف من يده ، فقال أبو بكر : اضربوا به الحجر (١).

إشارة :

لا أدري كيف يحقّ لصحابيّ أن يسبّ صحابيا مثله ، ولا يحقّ لغيره أن يشتم صحابيا أو يلعنه لمجرد منكر صدر منه؟! لقد روى مؤرخو العامة أن عمر نعت سعد بن عبادة بالنفاق ، كما نعت عثمان عمارا بشيء أنزّه لساني عن ذكره. انظر تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وأنساب الأشراف ج ٥ / ٥٤.

وروى ابن قتيبة أيضا تفاصيل اقتحامهم دار الإمام علي عليه‌السلام فقال : وإنّ أبا بكر تفقّد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرّم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، قيل له : يا أبا حفص ، إن فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلا عليا فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليا ، قال : فذهب إلى علي ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال علي : لسريع ما كذّبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلا ، فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ ، فأدى ما أمر به ، فرفع عليّ صوته

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٢٣١.


فقال : سبحان الله! لقد ادّعى ما ليس له ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا ، ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليا ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذا والله والذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يصيح ويبكي وينادي : يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد اغضبناها ، فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فمل تأذن لهما ، فأتيا عليا فكلماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها ، حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها ، فلم تردّ عليهما‌السلام ، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك متّ ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول : «لا نورّث ما تركناه صدقة» ، فقالت : أرأيتكما إن حدّثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟» ، قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا


عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي ، حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصليها ،. ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس ، فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم! أقيلوني بيعتي ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، إنّ هذا الأمر لا يستقيم وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة (١).

ثم ذكر ابن قتيبة كغيره من مؤرخي العامة أن الإمام عليا عليه‌السلام بايع أبا بكر بعد شهادة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها أفضل التحية والسلام بعد خمسة وسبعين ليلة (٢) من وفاة أبيها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعند الواقدي والطبري وابن الأثير بعد ستة (٣) أشهر.

لكنّ هذا الأمر غير صحيح لأن معنى البيعة : الاعتراف بشرعية المغتصبين لحقه المبارك ، كما أنه لا يمكنه التنازل عنه لكونه غير قابل للنقل والانتقال لأنه من مختصات الإمامة ، وعهد من الله لا يهبه لمن عهد منه المعصية يوما في حياته.

ويشهد لذلك ما ورد من النصوص الصادرة عن أئمة آل البيت عليهم‌السلام مضافا إلى أن القرائن الخارجية تشير إلى أنه لم يبايع ، منها :

قول أبي بكر لعمر : «لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه» (٤).

وهل عدم بيعة أمير المؤمنين للقوم سببه السيدة المطهّرة ، أراد الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٢) الإمامة والسياسة / الدينوري ص ٣.

(٣) هامش الإمامة والسياسة ص ٣١ والطبري ج ٢ / ٤٤٨ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣١ وشرح النهج مج ٣ / ٢٠٤ ، هذا بالإضافة إلى أن الراوي لخبر الستة أشهر هو الزهري عن عائشة وهما غير ثقتين عندنا.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣١.


أن يسايرها ، أم أنها مسألة مبدئية لا يساوم أو يهادن عليها الإمام عليه‌السلام؟!

إن عدم امتثال أمير المؤمنين للبيعة ـ كما قلنا ـ ليست مسألة شخصية يمكن أن يتنازل عنها الإمام علي عليه‌السلام للقوم ، إنها مسألة الخلافة الربانية التي وهبها الباري له ، فلا يحق له أن يحبي الآخرين بها.

ومنها : أن الإمام عليّا عليه‌السلام جابه الشيخين في مسجد النبيّ وأمام حشد من المسلمين الخانعين ، بعد أن اقتادوه إلى أبي بكر ليبايع قهرا ، فقال :

«أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟

ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم (١) لمّا كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميّتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلّا فبئوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له الإمام عليّ : احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال :

والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.

فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجراح لعليّ كرم الله وجهه : يا بن عمّ إنّك حديث السن (٢) وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك

__________________

(١) لقد قالها الشيخان في خطبتيهما أمام بعض الأنصار والمهاجرين في السقيفة ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٧ ، والإمامة والسياسة ص ٢٥ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣٠.

(٢) قد قال الشيخان نفس مقالة أبي عبيدة ، حينما أمرهما النبيّ بالالتحاق بجيش أسامة فقالا : يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار! فغضب الرسول لما سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه ، فصعد المنبر وقال : ما مقالة بلغتني عن بعضكم تأمير أسامة ، لئن طعنتم في تأميري ـ


مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ونسبك وصهرك ، فقال عليّ كرّم الله وجهه :

الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحق الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعدا.

فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ، قال : وخرج عليّ كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!

فقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (١).

وروى الشهرستاني عن النّظام المعتزلي أن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها ، وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ، وما كان

__________________

ـ في أسامة ، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة ، وأن ابنه من بعده لخليق بها ، وأنهما لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ، انظر : شرح النهج ج ١ / ١٢٥.

(١) تاريخ الخلفاء المسمى بالإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ٢٨ ـ ٣٠.


الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين (١).

وعن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال :

أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (٢).

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز بسند معنعن إلى أبي الأسود قال :

غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير فدخلا بيت فاطمة ، معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما ، فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما ، حتى بايعا (٣).

وعن أبي بكر أحمد قال : جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم ، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيد من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا ، حتى بايعوا أبا بكر (٤).

وعنه أيضا قال :

أخبرني أبو بكر الباهلي ، عن إسماعيل بن مجالد ، عن الشعبي قال : قال أبو بكر : يا عمر ، أين خالد بن الوليد؟ قال : هو هذا ، فقال : انطلقا إليهما ـ يعني عليا

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) شرح النهج مج ٣ / ٢٠٥ فصل خبر السيّدة فاطمة مع أبي بكر وعمر.

(٤) شرح النهج ج ٣ / ٢٠٦.


والزبير ـ فأتياني بهما ، فانطلقا ، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج ، فقال عمر للزبير ، ما هذا السيف؟ قال : أعددته لأبايع عليا ، قال : وكان في البيت ناس كثير ، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين (١) ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير ، فأقامه ثم دفعه فأخرجه ، وقال : يا خالد ، دونك هذا ، فأمسكه خالد ، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس ، أرسلهم أبو بكر ردءا لهما ، ثم دخل عمر فقال لعليّ : قم فبايع ، فتلكأ واحتبس ، فأخذه بيده ، وقال : قم ، فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، ثم أمسكهما خالد ، وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلى باب حجرتها ، ونادت : يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله ، قال : فلما بايع عليّ والزبير ، وهدأت تلك الفورة ، مشى إليها أبو بكر بعد ذلك فشفع لعمر ، وطلب إليها فرضيت عنه (٢).

تنبيه :

ما أشار إليه ابن أبي الحديد نقلا عن أبي بكر الجوهري «من أن الإمام عليا عليه‌السلام بايع في آخر المطاف ، ثم لما هدأت الفورة توسّط لعمر عند الزهراء عليها‌السلام فرضيت عنه» كذب صريح لأن كل النصوص من الطرفين تشير إلى أنها عليها‌السلام ماتت وهي واجدة (٣) على أبي بكر وعمر ، بل قالت لأبي بكر «والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها» (٤).

__________________

(١) ليس صحيحا أن دار الإمام علي عليه‌السلام كان مليئا بجمهور الهاشميين ، ولو كان معه أربعون منهم لكان خرج على القوم.

(٢) شرح النهج ج ٣ / ٢٠٦.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣١ وشرح النهج ج ٣ / ٢٠٧.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣١.


وقال الطبري : هجرته ؛ أي لأبي بكر ـ فاطمة عليها‌السلام فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت فدفنها الإمام عليّ ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر (١).

وأما إصرار العامة على أن الأمير عليه‌السلام بايع ، فالحق يقال : أن البيعة لا أساس لها من الصحة عندي لا اختيارا ولا اضطرارا ، فكيف يبايع وقد قادوه كما يقاد الجمل المخشوش (٢) على حدّ تعبير معاوية بن أبي سفيان عند ما بعث للأمير عليه‌السلام برسالة يعيّره فيها ويؤنبه بالقول : «إنك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع».

فردّ عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

«وقلت : إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت منها بقدر ما سنح من ذكرها» (٣).

وهل يعدّ القود قسرا بيعة؟ وكيف تنسب إليه البيعة ، وهو يحكي عن نفسه المقدّسة أنه مظلوم باقتيادهم له كما يقاد الجمل المخشوش (٤) إذن فلا الإمام أمير المؤمنين بايع ، ولا السيّدة الصدّيقة الطاهرة رضيت عنهما!

وكيف ترضى عمّن ظلمها حقها واعتدى عليها وأصرّ بعناده على غصب حقها وحق زوجها؟! مع أنّ أبا بكر نفسه اعترف على فراش الموت بأنه ودّ لو أنه لم يكشف بيت فاطمةعليها‌السلام ، فقال :

«والله ما آسى إلا على ثلاثة فعلتهنّ ، ليتني كنت تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٨.

(٢) المخشوش : ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب.

(٣) نهج البلاغة : خطبة ٢٨ ص ٣٨٧ شرح الدكتور صبحي الصالح ، وشرح محمد عبده ج ٣ / ٣٦.

(٤) الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية ج ٢ / ٥٩.


ليتني فعلتهن ، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهنّ ، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهنّ ، فليتني تركت بيت عليّ (١) وإن كان أعلن علي الحرب ، وليتني يوم سقيفة بن ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير ، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا ولم أكن أحرقته بالنار ..» (٢).

فكيف رضيت عنه ـ حسبما ادعاه أبو بكر الجوهري ـ وقد أسف وهو على فراش الموت أنه لم يكشف بيتها؟!!

عود على بدء :

قلنا إن الشيخين أرادا قهر أمير المؤمنين بأخذ البيعة منه ولو قسرا ، لكون بيعته لهم تعني لهم الكثير ، فيصفو الجو للمعارضة ، وقهرهم له مسبب عن اغتصابهم لحقه ، فمن الملحوظ دائما أن المغتصب يريد فرض سطوته على الآخرين لإسكاتهم وإخماد أنفاسهم قبل أن يبدءوا بأي حركة ضده ، وهكذا فعل المغتصبون من الصحابة بأمير المؤمنين وعياله وأهل بيته وخيرة أصحابه ، كلّ ذلك من أجل الاستيلاء على صهوة المملكة الإسلامية لتحقيق المجد والشهرة والجاه ، فمن أجل الملك يهون كل شيء عند اولئك الذين ادّعوا الإسلام واستغلوا صحبتهم لرسول الله وابتدعوا ألقابا (٣) لا واقع لها ليضلوا الناس ، وبالفعل تم ما أرادوا فاستخفوا قومهم فأطاعوهم وهذه سنّة الجاهلين الذين يرقصون بكل من ينقر لهم على دف.

وأما المؤمنون الأتقياء ـ وهم نادرون كندرة الكبريت الأحمر في كل زمن ـ

__________________

(١) في نسخة الطبري وشرح النهج لابن أبي الحديد : «ليتني لم أكشف بيت فاطمة».

(٢) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ص ٣٦ مرض أبي بكر واستخلافه عمر ، شرح النهج لابن أبي الحديد مج ٣ / ٢٠٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٩.

(٣) كالألقاب التي صبغوها عليهم أمثال : الفاروق والصدّيق وذو النورين وثاني اثنين وسيف الله المسلول وأمين الأمة.


فدائما لا يسمح لهم بأي نشاط ، فهم محاصرون من كل جانب ، لا يلوون على شيء لكثرة الباطل واضمحلال الحق عند أغلب البشر ، كما أن الحق ثقيل على النفوس المريضة ، لكنه مري خفيف على أصحاب القلوب الطاهرة ، لذا قال مولى الثقلين «إن الحق ثقيل مريء ، وإن الباطل خفيف وبي» (١).

فيا عجبا للدهر كيف رفع فيه الوضيع ، ووضع الشريف ، فها هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يضجر من أهل زمانه فيقول :

«فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ولم تكن له كسابقتي» (٢).

وبالجملة : فإن الانقلابيين لم يتوانوا عن ظلم المستضعفين ، لقد فعلوا الأعاجيب ، وتمخض عن ظلمهم (٣) شهادة سيدة نساء العالمين الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، بعد أن كسر عمر بن الخطاب ضلعها وأسقط جنينها.

كما أنهم : وطئوا سعدا وكادوا يقتلونه في السقيفة (٤) ، ثم آخر الأمر قتل على أيديهم (٥).

وضربوا الخباب بن المنذر وحطموا أنفه (٦).

ـ لم يمروا بأحد إلا خبطوه (٧).

ـ ضربوا الزبير بن العوام وكسروا سيفه (٨).

__________________

(١) نهج البلاغة / شرح محمّد عبده ج ٤ / ٢٤٤ رقم الحكمة ٣٧٦.

(٢) نهج البلاغة ج ٤ / ١١ شرح محمد عبده.

(٣) سيأتي فصل خاص بمآسي مولاتنا الزهراء عليها‌السلام وما جرى عليها منهم.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٢٧ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٥) تاريخ البلاذري وإحقاق الحق ج ٢ / ٣٤٦.

(٦) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٣٥.

(٧) شرح النهج ج ١ / ١٣٩ و ١٦٨.

(٨) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ وج ١٢ / ١٢ والطبري في تاريخه ج ٢ / ٤٤٣ والإمامة والسياسة ص ٢٨.


ـ توعدوا (١) من لجأ إلى دار الصديقة الطاهرة عليها‌السلام.

ـ هددوا (٢) بإحراق الدار ، وقد أحرق الباب فعلا.

ـ قهروا (٣) مولى الثقلين عليّا عليه‌السلام على الخروج من داره للبيعة قسرا.

ـ نفوا (٤) عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الأخوة بينه وبين رسول الله.

والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة :

لما ذا سكت الناس عن أصحاب السقيفة؟

والجواب :

أولا : لما قلناه سابقا أن الناس اضمحل الحق من نفوسهم ، فباتوا لا يفكرون إلا بالباطل وأهله.

ثانيا : أنهم كانوا متفرقين ، فمنهم من هو شانيء للإمام عليّ عليه‌السلام ، ومنهم ـ وهم الأكثرون ـ أعراب وجفاة وطغام أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح وينعقون مع كل ناعق لا يستضيئون بنور العلم ولا يهتدون إلى ركن وثيق ، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا ينكرون ، ولا يبحثون ، وهم مع أمرائهم وولاتهم ، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها ، فلذلك امحق النص ، وخفي ودرس ، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر ، وقوّاها زيادة على ذلك اشتغال الإمام عليّ وبني هاشم برسول الله.

ومنهم ذو الدين وصحة اليقين لكنهم قليلون جدا لم يكتملوا على الأربعين (٥) ، ولو اكتملوا لجاهد بهم أمير المؤمنين عصابة الباطل ودعاته.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٣٥.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٠ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٥) قال أبو حامد المدائني : أن الإمام عليا عليه‌السلام حمل السيّدة الزهراء ومعها ولداها ، يطلب ـ


وهؤلاء الأطياب لم يسكتوا مطلقا بل تكلموا واعترضوا ولكنهم لم يشهروا سيفا إلا الزبير منهم ، وذلك لعلة عدم اكتمال العدة ، ولكثرة أعوان أصحاب السقيفة من داخل المدينة وخارجها ، لا سيما «قبيلة أسلم حيث أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر» (١).

فكانت سلطة أبي بكر مدعمة بقوة الحديد والنار ، والمشيّد لها هو عمر بن الخطاب على حدّ تعبير ابن أبي الحديد (٢).

وبشدة بطشه وفظاظته وحرصه على الملك توطد حكم أبي بكر ، ثم رجع عمر نفسه فتعوّذ منها فقال : إن قوما يقولون : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا ، أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، إلا أن الله وقى شرها ... فإن امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين ، فإنهما بغرّة أن يقتلا» (٣).

حتى أن أبا بكر عبّر عن وصوله للحكم بالفلتة عند ما بايعه قوم من غير مشورة ، فغضب جماعة آخرون منهم أمير الثقلين بل أمير المؤمنين حتى الملائكة ، فقام أبو بكر ، فخطب الناس ، وقال :

«إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة ، وايم الله ما حرصت عليها يوما قط ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية قط» (٤).

يرد عليه :

__________________

ـ يرد عليه النصرة والمعونة ، فأجابه أربعون رجلا ، فبايعوه على الموت ثم أمرهم أن يحلقوا رءوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة : الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ، انظر : شرح النهج ج ١٢ / ١٢.

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣١.

(٢) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ ، قال : وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ١١ ـ ١٢ وفي لفظ ابن هشام : «فلتة فتمّت» سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٨.

(٤) نفس المصدر ج ٣ / ٢٠٥.


إذا لم يحرص عليها يوما قط ، ولا سألها الله تعالى في سر وعلانية ، فلم لم يسلّمها للأعلم والأشجع والأتقى أعني الإمام عليا الذي بايعه أبو بكر نفسه في غدير خم وقال له : بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وورد حديث «الفلتة» بألفاظ أخر منها : ما رواه بعض المؤرخين :

أن عمر صعد المنبر فذكر آية الرجم وقال : إن الله عزوجل بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ، وكان فيما أنزل آية الرجم .. وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد كنا نقول : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ثم أنه بلغني أن قائلا منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرّنّ امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها (١).

وفي لفظ آخر قال عمر :

«إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنهما تغرّا ـ أي غرّرا بنفسيهما ـ يجب أن يقتلا»(٢).

نعم إن بيعة أبي بكر فلتة من فلتات التاريخ الأسود ، إذ كيف لا تكون فلتة وليس في هذه الأمة من تقطع إليه الأعناق مثل مولى المؤمنين علي بن أبي طالب كيف يقاس الذنب بالرأس والظلمة بالنور؟! يا للعار والفضيحة أن يقاس الإمام علي بأبي بكر وأمثاله ، من هنا عبّر أبو بكر عن حقيقة جوهره فقال :

«أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٧.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٤ وشرح التجريد للقوشجي ص ٣٧١ حجري ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٦٧ ، والغدير للأميني ج ٧ / ٧٩ وج ٥ / ٣٧٠.

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٧١ ط / حجري ، وشرح النهج ج ١ / ١٣١ دون لفظ «علي».


ورواه غير واحد بألفاظ متعددة :

ففي لفظ ابن قتيبة الدينوري : «وما أنا إلّا كأحدكم ، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتّبعوني ، وإن زغت فقوموني ، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ، لا اوثر في أشعاركم وأبشاركم» (١).

وفي لفظ آخر : «قد أقلتكم في بيعتي هل من كاره؟ هل من مبغض؟ (٢).

وفي لفظ ثالث : عند ما خرج من دار مولاتنا الزهراء عليها‌السلام قال : «يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته ، مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم وأنت أعلمنا بذلك ، أنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة» (٣).

وبلفظ رابع : «أيّها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني» (٤).

وبلفظ خامس : «ألا وإنما أنا بشر ، ولست بخير من أحدكم ، فراعوني ، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني ، وإذا رأيتموني زغت فقوموني ، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني» (٥).

وفي لفظ آخر : «أما بعد فإني قد ولّيت أمركم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني» (٦).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٣٤.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٣.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣١.

(٤) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣٢ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٠ وسيرة ابن هشام ج ٤ / ٣١١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٧١.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٦٩ ـ ٧١.


وفي لفظ سادس : «إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره ، والله لوددت أنّ بعضكم كفانيه»(١).

ونحن نسأل :

كيف كان أبو بكر يكره أمرا جعله الله له ـ بحسب زعمه وصاحبه عمر ـ ثم يودّ أن يكفيه غيره ، وقد حالوا بين النبيّ وبين أمله بالوصية بالإمام عليّ وهو على فراش الموت؟! وكيف لا يرجو تلك الإمارة التي من أجلها ارتكبوا عظائم الأمور؟! وكيف كان يرى للناس في إقالته اختيارا ، ولرده لمشيئة الله به وعهده لنبيه مساغا وقد رووا عن النبيّ أنه قال : يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر (٢)؟!!

وكيف يكل أمر الأمة إلى مشيئتها وقد ردّت مشيئة النبيّ في ذلك؟ ووقع في السماوات ما وقع يوم أعرب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمنيته.

وكيف يستقيل منها أبو بكر في أول حياته ثم يعقدها لعمر بعد وفاته على حدّ قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «... أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى إلى فلان بعده ـ أي إلى عمر بن الخطّاب ـ.

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدّ ما تشطّرا ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشّورى ..» (٣).

__________________

(١) صفوة الصفوة لابن الجوزي ج ١ / ٩٩.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٣ فصل تمريض الرسول في بيت عائشة.

(٣) الخطبة الشقشقية : نهج البلاغة ج ١ / ٢٥ محمد عبده ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٢٦.


فأنت ـ أخي القارئ ـ أرشدك الله «إذا تأملت قول أمير المؤمنين في خطبته الشقشقية بقوله : «فيا عجبا ...» وجدته عجبا وعرفت منه المغزى الذي كان من الرجل في القول ، وبان خلاف الباطن منه للظاهر ، وتيقّنت الحيلة التي أوقعها ، والتلبيس وعثرت به على الضلال وقلة الدين» (١).

إن مقالة أبي بكر تلك ، دلالة واضحة على جهله وشيطنته «إن لي شيطانا يعتريني» ، وحري بأن ترعاه أمته ورعيّته ، فتعينه وتسدّده وتقوّمه عند الخطل والزيغ؟ ولعل تلك الشدّة في إباءة الله وملائكته والمؤمنين خلافة أي أحد إلّا أبا بكر كانت مكذوبة على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، أو كانت صحيحة غير أنها مقيّدة بإرادة أبي بكر نفسه ومشيئته؟ لاها الله كانت مكذوبة ليس إلّا.

والخلاصة : إن مقالة أبي بكر تلك «أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» فيها إشارة أيضا إلى تحريض المسلمين على قتل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بمعنى أن استقالته الأمر بقتل الإمام عليّعليه‌السلام أي ما دام عليّ فيكم موجودا فأنا لست بخيركم فاقتلوه حتى أكون خليفة بلا منازع (٢).

هذا مضافا إلى أن مقالته تلك تشير أيضا إلى عدم استحقاقه الخلافة ، بيان ذلك : أنه كان صادقا في كلامه فلا يصلح للخليفة أن يعتريه إبليس فيلبّس على المسلمين دينهم ، وإن كان كاذبا لم يصلح أيضا لها لاشتراط العصمة في الإمامة.

شبهة وحل :

وجه الشّبهة :

إن أبا بكر إنما قال «أقيلوني فلست بخيركم» ليثوّر ما في نفوس الناس من بيعته ، ويخبر ما عندهم من ولايته ، فيعلم مريدهم وكارههم ومحبهم ومبغضهم ، فلما رأى النفوس إليه ساكنة ، والقلوب لبيعته مذعنة ، استمر على إمارته ، وحكم

__________________

(١) الفصول المختارة للشيخ المفيد ص ٢٤٧.

(٢) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة / للميرزا حبيب الله الخوئي ج ٣ / ٥٧.


حكم [ظ : بحكم] الخلفاء في رعيته ، ولم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته ، وقد جرى مثل ذلك للإمام عليّ عليه‌السلام فإنه قال للناس بعد قتل عثمان : دعوني والتمسوا غيري ، فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا. وقال لهم : اتركوني ، فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. فأبوا عليه وبايعوه ، فكرهها أولا ، ثم عهد بها إلى الإمام الحسن عليه‌السلام عند موته(١).

والجواب :

إن الفرق بين الموضعين ظاهر ، لأن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يقل : إني لا أصلح ، ولكنه كره الفتنة ، وأبو بكر قال كلاما معناه : إني لا أصلح لها ، لقوله : «لست بخيركم» ومن نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة ، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره.

ووصايته بها إلى الإمام الحسن عليهما‌السلام لا بدّ منها لأمرين :

الأول : لكونها خلافة عن الله تعالى ورسوله نصا لا انتخابا.

الثاني : ليس هناك من هو أفضل من الإمام الحسن حتى يعهدها إليه.

قد يقال :

قلتم إن الإمام عليا عليه‌السلام لم يجد أفضل من الإمام الحسن عليه‌السلام كي يعهد بالخلافة إليه ـ عدا عن كونها نصا لا اختيار فيه ـ فما باله عليه‌السلام قد خيّركم بعد موت عثمان أن يولوها من شاءوا؟

نقول :

إنه عليه‌السلام عرف منهم أنهم لن يختاروا غيره لشدة مظلوميتهم من عثمان ومن سبقه وعمالهم ، فأراد أن يظهروا له ما بطن في نفوسهم ، ولو كانوا غير صادقين

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٣١ ، وشرح محمّد عبده ص ١٨٢ ج ١ خطبة ٨٨ ، وشرح صبحي الصالح خطبة ٩٢ ص ١٣٦.


لكان قوله عليه‌السلام حجة عليهم إلى أبد الدهر.

فمن خلال هذه كله : يتبيّن ويتوضّح للقارىء العزيز أن خلافة أبي بكر باطلة من أساسها كغيرها ممن لحقها ، لأن خلافته شيّدت على الظلم والعدوان ومعصية الرسول ، وخلافة الثاني استندت إلى وصية أبي بكر له بذلك ، وخلافة الثالث استندت إلى شورى ستة خطط لها عمر كي يكون عثمان الخليفة بلا منازع ، فثبت أن خلافة هؤلاء الثلاثة باطلة من أساسها كما أفاد العلوي في المحاورة.


قال الملك (موجّها الكلام إلى الوزير) : وهل صحيح ما يقوله العلويّ من كلام أبي بكر وعمر؟

قال الوزير : نعم هكذا ذكر المؤرخون (١).

قال الملك : فلما ذا نحن نحترم هؤلاء الثلاثة؟

قال الوزير : اتباعا للسلف الصالح (٢).

____________________________________

(١) تقدم ذكر المصادر التاريخية والأدلة على بطلان خلافة الثلاثة ، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة الفوائد البهية ، الجزء الثاني.

(٢) المراد من «السلف» هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين ، وهؤلاء كانوا قبل الخمسمائة الهجرية ، وينقل عنهم العامة أن لهم رؤية في الأسماء والصفات تمثّل ـ بنظرهم ـ العقيدة الصحيحة الواجب الالتزام بها واتّباعها.

وفي مقابل مصطلح «السلف» هناك مصطلح يطلق عليه ب «الخلف» ، وهم من كانوا بعد الخمسمائة للهجرة ، وقيل بعد القرون الثلاثة ، ولهؤلاء مذهب خاص أيضا في الأسماء والصفات ، فهم يؤولونها بما ينفي التشبيه والتجسيم بما يتناسب وقواعدهم الفكرية المرتكزة على الأقيسة والاستحسانات التي لم يقم الدليل على اعتبارها.

وقد تبنّى ابن تيمية وتبعه على ذلك الوهابيون في وقتنا الحاضر مذهب السلف ، وكل ما عند الوهابية هو من عند ابن تيمية.

قال الغزالي :

اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف : أعني مذهب الصحابة والتابعين ... وحقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل


من بلغه حديث من الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه سبعة أمور : التقديس والتصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الإمساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة.

أما التقديس فأعني به تنزيه الرب سبحانه عن الجسمية وتوابعها.

وأما التصديق فهو الإيمان بما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ما ذكره حق وهو فيما قال صادق وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده.

وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت فإنه لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.

وأما الإمساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف.

وأما الكف ، فإنه يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير فيه.

وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله أو على الأنبياء أو على الصدّيقين والأولياء.

فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على العوام لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها (١).

أما تفسيره للتقديس فغير معتمد عند السلف لأن مرادهم من التقديس هو تقديس كلمات السلف ، وليس تنزيه الرب عن الجسمية ، وذلك لوقوعهم في مغبّة

__________________

(١) عقائد السنة لصالح الورداني ص ٤٢ نقلا عن إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي.


الشرك لإلصاقهم الجسمية ولوازمها بالخالق العظيم. ويشهد لما قلنا ما ورد عن القرطبي ، قال : كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة (١).

ومذهب مالك ـ وهو من أئمة السلف وأصحاب الحديث ـ معروف في التجسيم ، «وأهل الحديث لا يرجعون إلى القياس الجليّ والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا ، فكل اهتمامهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص» (٢).

وفي مقابل أصحاب الحديث توجد فرقة تسمى بأصحاب الرأي ، «وسموا بذلك لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام ، وبناء الحوادث عليها وربما يقدّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. ومن دعاة الرأي أبو حنيفة قال : علمنا هذا رأي ، أحسن ما قدرنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ، ولنا ما رأينا» (٣).

فمالك بن أنس وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود الأصفهاني وغيرهم من أهل الحديث لم يتعرضوا للتأويل ، بل توقفوا فيه ، وقالوا لسنا مكلفين بمعرفة تفسير الآيات المتشابهات ـ التي ظاهرها التشبيه ـ وتأويلها ، بل التكليف عندهم قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء (٤).

__________________

(١) عقائد السنة ص ٢١ نقلا عن جامع أحكام القرآن للقرطبي ، وفي نسخة الملل والنحل ج ١ / ٩٣ ، قال مالك : «.. والكيفية مجهولة والإيمان به واجب».

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٠٦ أصناف المجتهدين.

(٣) الملل والنحل ج ١ / ٢٠٧.

(٤) نفس المصدر ج ١ / ٩٢ ـ ٩٣ بتصرف بالألفاظ وص ١٠٤.


وقد حاول بعض المتأخرين من العامة الدفاع عن الخط السلفي ، منهم ابن خلدون فقال : «أما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل .. لجواز أن تكون ابتلاء فيجب الوقف والإذعان له» (١).

لكنّ ضعفه ظاهر ، إذ كيف يغلّبوا أدلة التنزيه ثم يتوقفون في الآيات المتشابهة التي ظاهرها التجسيم ولا يؤولونها؟!! لأن من شروط التنويه تأويل كل خبر يخالف بظاهره تنزيه الباري عزوجل.

وبالجملة : فإن السلف سواء كانوا صحابة أم تابعين لا حصانة عليهم ضد أي نقد ولو كان بنّاء ، لأن أحقّ أن يتبع لا السلف.

وإضافة «الصالح» إلى السلف يعتبر تمويها وتزويرا للحقائق والمسلّمات الدينية والتاريخية. وأول من أصبغها على الصحابة هو عمر بن الخطاب يوم السقيفة ثم تبعه أصحاب مدرسته لا سيّما في عصر الدولة الأموية حيث إنّ أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة افتعلت أيام الأمويين تقرّبا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم ، وقد صفّت هذه الأحاديث بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض ، وتصبّ اللعنات على كل من سبّ أحدا منهم أو اتهمه بسوء.

وأشار محمّد عبده إلى ما صنعه معاوية لنفسه بأن وضع قوما من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على الإمام عليّ عليه‌السلام تقضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلفوا على ما أرضاه ، منهم أبو هريرة (٢).

__________________

(١) عقائد السنة ص ٤٢ نقلا عن مقدمة ابن خلدون.

(٢) مقدمة محمد عبده على رسالة التوحيد ص ٧ وشيخ المضيرة ص ٣٠١ محمود أبو ريّة.


ويقول أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» :

«ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الأمويين فعلا قد وضعوا أو وضعت لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواحي متعددة» (١).

وقد بذل معاوية للصحابي سمرة بن جندب خمسمائة ألف درهم ليروي له عن النبيّ أن آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب ؛ وأن قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لأنه قتل عليّا عليه‌السلام (٢).

وبالمناسبة نقول : إذا كان كل الصحابة عدولا صالحين ـ حسبما يعتقده الأشاعرة ـ فيفترض أن يكون آل محمد صحابة صالحين فيؤخذ منهم ويعتقد بهم وبما يروون ، وأن يكف الأمويون ومن حذا حذوهم عن الانتقاص منهم والإساءة إليهم.

وإذا كان الصحابة من السلف الصالح ، فآل محمد خيرة السلف الصالح ، فلم يؤخذ من الأباعد ويترك الأقارب؟!!

ولا عبرة بالسلف «الذي يسمونه صالحا» إذا لم يتوفر فيه ثلاثة عناصر مهمّة :

الأول : الإيمان بالله وبكل ما جاء به النبيّ الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : الصدق والأمانة والنزاهة.

الثالث : أن يكون ما جاء به السلف موافقا للأسس والموازين العقيدية والتشريعية الموافقة للكتاب الكريم وسنة نبيّه وآله الطاهرين.

فكل سلف يخالف ما جاء به الكتاب وقرينه آل البيت ، لا يعتد به بل دونه

__________________

(١) ضحى الإسلام ج ٢ / ١٢٣.

(٢) آراء العلماء في التقية والصحابة ص ٥٨ السيّد مرتضى الرضوي.


خرط القتاد ، لأن الله أمرنا باتّباعهم والكون معهم قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١).

وقال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢).

قال ابن حجر الهيثمي :

«حثّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسك بهم ـ أي آل محمد ـ والتعلّم منهم وقال الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت ... ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم» وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مر بعضها ، وسيأتي الخبر الذي في قريش : وتعلموا منهم فإنهم أعلم منكم. فإذا ثبت هذا العموم لقريش فأهل البيت أولى منهم بذلك ، لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقية قريش ، وفي أحاديث الحثّ على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ويشهد لذلك الخبر : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي .. ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته ...» (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٩.

(٢) مسند أحمد ج ٥ / ١٨١ ، ج ٤ / ٣٦٦ وصحيح مسلم في كتاب الفضائل.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٥١.


لا يسعني إلا أن أنحني تواضعا لكل صرخة حق ارتفعت دفاعا عن آل البيت عليهم‌السلام ، ونحن إذ نتواضع لكلمة ابن حجر الرائعة ، إنما نتواضع للحق المتمثّل بآل محمّد ، فما سطره يراعه هنا فاق ما نفثه من سموم بمواضع من كتابه ، فما ضره لو بقي على ذاك اليراع الذي طاب بطيب العترة المطهّرة؟!!


قال العلويّ للملك :

أيّها الملك قل للوزير ، هل الحقّ أحقّ أن يتّبع أم السلف؟

أليس تقليد السلف ضد الحق مشمولا لقوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]؟!

قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى العلوي ـ :

إذا لم يكن هؤلاء الثلاثة خلفاء لرسول الله فمن هو خليفة رسول الله؟

قال العلويّ : خليفة رسول الله هو الإمام عليّ بن أبي طالب (١).

____________________________________

(١) من هم الخلفاء الراشدون؟

روى العامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (١).

ولمعرفة مغزى الحديث وصحّة انطباقه على بعض الصحابة علينا أن نحلّل مفرداته فنقول :

ـ ما معنى عبارة «الخلفاء الراشدين» لغة واصطلاحا؟.

أما لغة : فإنّ «خلفاء» جمع خليفة ، والمصدر «خلافة» وهي بمعنى النيابة ، وخليفة الرجل من يقوم مقامه أو الذي يستخلف ممّن قبله ..

وفي الدعاء «اللهم أنت الخليفة في السفر» والمعنى : أنت الذي أرجوه

__________________

(١) لاحظ لسان العرب / ابن منظور ج ٣ / ١٧٥ ، ط / دار صادر وسنن ابن ماجه ج ١ / ١٦ ، ط / دار الكتب.


وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن تلمّ شعثهم وتقوّم أودهم وتداوي سقمهم وتحفظ عليهم دينهم ....

ومن «الخلافة» عدة اشتقاقات منها : خلف ـ استخلف ـ خالفة ... وجميعها ذكر في القرآن كقوله تعالى :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) (١).

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٢).

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) (٣).

(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٤).

والخالف : الفاسد في الدين ؛ والخالفة : القاعدة من النساء في الدار.

(وفي حديث عن ابن عبّاس أنّ أعرابيا سأل أبا بكر فقال له : أنت خليفة رسول الله؟ قال : لا ، قال : فما أنت؟ قال : أنا الخالفة بعده.

قال ابن الأثير : الخالفة : الذي لا غناء ولا خير فيه ، وإنما قال ذلك تواضعا وهضما لنفسه) (٥).

والعجب من ابن الأثير كيف يعد قول أبي بكر تواضعا! وهل من التواضع أن يصف المرء نفسه بالحمق أو يشبّه نفسه بالنساء القاعدات في بيوتهنّ وهو في مقام الخلافة.

وورد في القرآن لفظ (خليفة) مرّتين كما في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٩.

(٢) سورة الأنعام : ١٣٣.

(٣) سورة التوبة : ٨٧.

(٤) سورة التوبة : ٨٣.

(٥) لسان العرب ج ٩ / ٨٩ ، مادة «خلف».


خَلِيفَةً) (١) ، وقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٢).

وفي بقية الموارد جاءت الآيات بصيغة الجمع كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٣) ، وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٤).

ويراد من خلافة هؤلاء في هذه الآيات الحلول محلّ الغابرين والقيام مقامهم وهو مما تؤكده القرائن الحافة بالآيات إلا أنّ المراد من (الخلافة) في الآيتين اللتين ذكر فيهما اللفظ بصيغة المفرد هو القيام مقام الخالق والجاعل الله عزّ اسمه في الولاية والسلطنة ، وبتعبير آخر : هي «الخلافة الإلهية» وذلك لأن قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ) و (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ ...) لا يقصد منه عزوجل جعلهما خليفتين لمن سبقهما من المخلوقات الأخر التي كانت تعيش قبل ذلك على وجه الأرض كالجنّ والنسناس ، وذلك لأمور :

أولا : لأن داود عليه‌السلام إنما صار خليفة لله تعالى لا لمن تقدّمه من الأنبياء السابقين بقرينة تفريع الذيل بقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) والشواهد والقرائن الدالة على سلطنة داود على عالم المادة وتسخيرها والمخلوقات له عليه‌السلام مما يعكس خلافة الله سبحانه على الكائنات. مضافا إلى أن خلافة داود عن الأنبياء دون الله عزوجل لم يقم عليها دليل ، فهي منفية بالأصل. وعلى فرض أن خلافة داود هي انعكاس لخلافة الأنبياء فبما أن خلافتهم لازمة عن الخلافة الإلهية ، وخلافة داود لازمة لخلافتهم ، تكون خلافته لازمة للخلافة الإلهية ، إذ لازم اللازم لازم.

ثانيا : إنّ إطلاق لفظ «خليفة» من غير إضافة إلى المخلوق يؤكّد أن الإنسان

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٠.

(٢) سورة ص : ٢٦.

(٣) سورة الأنعام : ١٦٥.

(٤) سورة يونس : ١٤.


خليفة لمن جعله كذلك ، وهذا يظهر ما لو قال رئيس الدولة مثلا : «إني جاعل في الدولة خليفة» إذ يكون المفهوم العرفي له كون هذا خليفة لرئيس الدولة نفسه.

ثالثا : إنّ الحوار الذي دار بين الله سبحانه والملائكة لمّا تساءلوا عن معنى جعل خليفة يفسد في الأرض فأجابهم تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون ، وصلاحية تعلّم آدم الأسماء دون الملائكة يكشف بوضوح أنّ الخلافة المقصودة هي الخلافة الإلهية لا النيابة عن بعض المخلوقات التي كانت قبل آدم عليه‌السلام.

ـ وأما لفظة «راشدون» جمع «راشد» والمصدر «الرشد» من رشد ـ يرشد ـ رشدا ورشادا فهو راشد ورشيد ، خلاف الغيّ ونقيض الضلال ، يستعمل في الهداية وإصابة الحقّ. وصفة الرشد والرشيد من الصفات الجلالية التي إذا تحلّى بها المرء يعدّ مرضيا عنه عنده سبحانه ؛ والرشيد من أسماء الله عزوجل لأنه أرشد الخلق إلى مصالحهم بأن بعث لهم رسلا وأولياء عليهم‌السلام ، وأنعم عليهم بنعمة العقل.

وقد ذكرت لفظة «رشد» ومشتقاتها كثيرا في القرآن لبيان أهميتها منها قوله تعالى :

(وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (١).

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢).

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٣).

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) (٤).

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٥).

__________________

(١) سورة غافر : ٢٩.

(٢) سورة غافر : ٣٨.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٦.

(٤) سورة الجن : ٢.

(٥) سورة الكهف : ٦٦.


(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (١).

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٢).

(وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (٣).

ـ والفرق بين الرّشد والرّشد أن الرشد بالفتح أخصّ من الرّشد ؛ فإنّ الرّشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية ، والرّشد بالفتح يقال في الأمور الأخروية.

وأما معنى «خليفة ـ ورشيد» اصطلاحا :

فإنّ «خليفة» مفرد خلفاء مشتقة من المصدر «خلافة» ويقصد بها النيابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام مقامه في تنفيذ أحكام الدين والاقتداء بهداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لما تقتضيه كلمة «رشد» من معنى.

وغلّب هذا الاصطلاح «الخلفاء الراشدون» على أشخاص معيّنين هم : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان.

وإذا درسنا بإمعان حياة المتقدمين على مولى الموحّدين الإمام علي عليه‌السلام وروحي فداه نجدهم مغتصبين للاصطلاحين اغتصابا عنيفا ؛ فلا مصطلح «خليفة» ينطبق عليهم ، لأنهم ليسوا خلفاء بالمعنى الحقيقي لرسول الله ، نعم ، يصدق عليهم أنهم خلفاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى اللغوي أي أنهم خلفاء قاموا من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقهر والعدوان ؛ وليسوا خلفاء بمعنى لهم السلطنة الإلهية والولاية الربانية.

فكلمة «خليفة» كانت تحمل في طياتها خلفيات سياسية ولو أنّها كانت تعني

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٤.

(٢) سورة هود : ٩٧.

(٣) سورة هود : ٧٨.


المفهوم الاصطلاحي الحقيقي لكان سمّي أبو بكر إماما وأميرا للمؤمنين نظرا لتداخل معاني هذه الكلمات في الاعتبار الشرعي والاصطلاحي ، فكلمة إمام وأمير المؤمنين لم تكن متداولة اصطلاحا إلا في شخص الإمام علي عليه‌السلام سواء في زمن الرسول أو بعده كما يشهد له نصوص صدرت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق الإمام عليه‌السلام.

ولا مصطلح «راشدون» ينطبق عليهم أيضا فهم بعيدون عنه بعد المشرقين وبعد الأرض عن السماء ، ولأنه كما عرفت أن الراشد هو الملهم للخير والصواب ، وهل في سيرة هؤلاء شيء من الصواب سوى الوقوف في وجه الكتاب والعترة؟ ويشهد على ذلك تاريخهم الأسود المليء بالمتناقضات والمفارقات. ولو أردنا أن نجمع القرائن النبوية الدالة إلى معنى «خليفة» لوجدنا أن القوم مخطئون في تسمية هؤلاء بالخلفاء الراشدين.

فمن القرائن على أنّ الخلفاء الراشدين هم أئمة الهدى ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ...» ، قيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي» (١).

فهنا حدّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفات التي لا بدّ أن يتحلّى بها خلفاؤه في الخلافة ، والسمات التي يعتبر وجودها في شخصية الخليفة فقال : «يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي» ، ورواية الحديث والسنّة هي بمعنى القدرة على نشر سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته بين الأمة نشرا يتجلّى فيه مثاله الكامل من أقواله وأفعاله أجمع ؛ ويستفاد من ذلك أنّ هؤلاء الخلفاء سنّتهم واحدة وإلى هدف واحد وهي نشر حديث وسنّة النبيّ لا أحاديث الشّيخين وسيرتهما وعثمان التي كانت في مقابل سنّة وحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أضف إلى ذلك أنهم منعوا تدوين الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٦٥ ، ط / ثم ؛ والفقيه للصدوق ج ٤ / ٣٠٢ ؛ وعيون الأخبار ج ٢ / ٢٣ ؛ ومعاني الأخبار ص ٣٥٦ ، ط / الأعلمي.


وأول منع لتدوين الحديث كان في آخر حياة النبيّ على فراش الموت لمّا قال لهم : «هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعده أبدا. قال عمر بن الخطاب : إن النبيّ ليهجر» (١).

لذا لمّا منعوه عن الكتابة أجابهم روحي فداه :

«دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ...».

ثم قال أيضا : أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة عمدا أو قال الراوي : فنسيتها». ألم يقل ابن الخطاب «حسبنا كتاب الله»؟ (٢).

عندها منع القوم من إحضار الدواة والكتف!

ثم عند ما اعتلى أبو بكر سدة الخلافة نفّث عما في صدره فقال :

«إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه» (٣).

والعجب كل العجب من أبي بكر كيف يأمر الناس بكتاب الله في حين منع إرث الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام من الخمس وفدك لحديث انفرد به عن النبيّ «لا نورّث ما تركناه صدقة» ، وقد احتجت عليه سيدة النساء روحي فدا نعليها : بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ).

فرفض أبو بكر ذلك وتمسك بحديث يخالف صريح القرآن ، أضف إلى ذلك

__________________

(١) لاحظ تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠ وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ وفي لفظ الطبري ج ٢ / ٤٤٦ ، ط / الأعلمي «ما شأنه أهجر استفهموه ...» «إن رسول الله يهجر».

(٢) الملل والنحل ج ١ / ٢٢.

(٣) تذكرة الحفّاظ : ترجمة أبي بكر.


أنه كيف ينهى الناس عن الأخذ بأحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنها توجب اختلافا فيما بينهم في حين يتمسك بحديث غريب أوجب فتنة عظيمة بين المسلمين إلى يومنا هذا؟!

ومما روي عن سيرتهم بتطويق السنّة النبوية ما ورد عن قرظة بن كعب قال : لمّا سيّرنا عمر بن الخطّاب إلى العراق مشى معنا إلى صرار ثم قال : أتدرون لم شيّعتكم؟

قلنا : أردت أن تشيّعنا وتكرمنا.

قال : إن مع ذلك لحاجة إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم. قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله.

وفي نص آخر : قدم قرظة للعراق فقالوا له : حدّثنا ، فقال : نهانا عمر بن الخطاب (١).

وورد عن عبد الرحمن بن عوف قال :

«ما مات ابن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم في الآفاق : عبد الله بن حذيفة ، أبو الدرداء ، أبو ذر ، وعقبة ابن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا : أتنهانا؟ قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ، نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتى مات (٢).

وروي أيضا : أن ابن الخطّاب عمر ، كان كلّما أرسل حاكما أو واليا إلى قطر أو بلد يوصيه جملة ما يوصيه «جردوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم» (٣).

__________________

(١) لاحظ : تذكرة الحفّاظ : ترجمة أبي بكر.

(٢) كنز العمال ج ٥ / ٢٣٩ ، ط / أولى ، رقم الحديث ٤٨٦٥.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣.


وذكر صاحب كتاب تقييد العلم عن القاسم بن محمّد : إن عمر بن الخطّاب بلغه أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلّا أتاني به فأرى فيه رأيي ، قال : فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.

وقد تبعه على ذلك عثمان ثم معاوية ، وكان الأخير يقول :

«أيّها الناس اتقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر في زمن عمر» (١).

وأقر عثمان أيضا سيرة الشّيخين فقال :

«لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا عهد عمر» (٢).

وهكذا مضى من سمّوا أنفسهم بخلفاء رسول الله إلى أن وصل الدور إلى الداهية الأعظم معاوية بن أبي سفيان حيث كتب إلى عماله : «أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة» (٣).

وبسبب نشر فضائل مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قتل معاوية حجر بن عدي ، وقطع لسان رشيد الهجري وصلبه تماما كما فعل بميثم التّمار.

وهكذا تم إخماد الأنفاس التي أرادت التحدّث بسنّة رسول الله ؛ وقد يتساءل المرء لما ذا فعلوا هذا؟

بات الجواب واضحا عند اللبيب ، حيث إن أصحاب السقيفة قد اغتصبوا حقا

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٥ / ١٧٣.

(٢) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦٤.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ط / البابي الحلبي ج ٣ / ١٥.


جعله الله تعالى لغيرهم ، فمنعوا الناس من كتابة الحديث أو نشره لأن في ذلك توطيدا لحكمهم ، وفصل القادة الحقيقيين عن قاعدتهم الشعبية الموالية حتى ينعم المغتصبون بحلاوة الكرسي فلا أحد يزعجهم بأحاديث تروى عن النبيّ يذم فيها مغتصبي الخلافة.

وزبدة المخض :

إن من كانت هذه صفته فكيف يصح أن يقال إنه خليفة راشد وهو يمنع من التحدث بسنّة المستخلف ونشرها؟!

من أجل ذلك لا يسعنا إلّا أن نصرف دلالة الحديث عمّن زعموا أنفسهم خلفاء لو صح صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونثبت ذلك بقرائن :

الأولى : إن في سنن الخلفاء «المزعوم أنهم راشدون» ما يخالف سنّة الرسول ، والرسول لا يأمر بعمل يخالف سنته.

الثانية : لو كانوا حقيقة راشدين مهديين لما تعوّذ بعضهم من بعض كما ورد أن عمر قال في خلافة الأول :

«كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» (١).

الثالثة : يفرض بالخلفاء عن الرسول أن يكونوا على نهج واحد بأقوال واحدة ، في حين نرى أن اللاحق يناقض السابق في السيرة والأحكام ، مما يستدعي الجزم بعدم انطباق الحديث على هؤلاء.

فلا مجال إلا للقول بأن الحديث من مبتدعات ساسة ذاك الزمان لإمضاء تصرفاتهم الرعناء ، ولو أبيت ـ أخي القارئ ـ إلا نسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ وأن يصرف إلى الخلفاء الحقيقيين الذين أمر الكتاب والسّنّة باتباعهم وهم عترة آل محمّد عليه وآله السلام ، وذلك لقرائن هي :

__________________

(١) تقدمت مصادره سابقا.


* إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار في عدة مواطن إلى تعيين خلفائه ، وأنهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».

* وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (١).

وفي الجمع بين الصحاح الستة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (٢).

* وفي نصوص أخر خصّص قريش ببني هاشم ، فقد روى القندوزي عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال :

كنت مع أبي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول : بعدي اثنى عشر خليفة ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟

قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلهم من بني هاشم (٣).

وعن الشعبي عن مسروق ، وكلاهما من علماء العامة قال : كنا عند ابن مسعود ، فقال له رجل : هل حدّثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال : نعم وما سألني عنها أحد قبلك ، وإنك لأحدث القوم سنا ، سمعته يقول : يكون بعدي عدة نقباء موسى عليه‌السلام ، قال الله عزوجل (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٤).

* فحديث نقباء بني إسرائيل دال على انحصار الخلافة في اثني عشر ، وأنهم خلفاء بالنص منه تعالى كعدة نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥١٢ باب مناقب قريش.

(٢) مسند أحمد ج ٥ / ٨٩ ، مستدرك الحاكم ج ٤ / ٥٠١ ، مجمع الزوائد ج ٥ / ١٩٠ ونهج الحق ص ٢٣٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٣٠٨ ، ط / قم.

(٤) الغيبة للطوسي ص ٨٩ ، ط / قم.


(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (١).

وما رواه أحمد بن حنبل عن مسروق قال : كنا جلوسا عند ابن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل ، وساق الحديث كالأول (٢).

إذن كل هذه الأحاديث هي نص صريح على تعيين الخلفاء وأنهم اثنا عشر ، في حين إنّ العامة يقولون : إنهم أربعة ، لذا حتى لا يقعوا في مأزق زادوا على الأربعة بعض ملوك بني أميّة وبني العبّاس ، والجميع يعلم ما لهؤلاء (أعني ملوك بني أمية وبني العبّاس) من شنائع الأفعال ، ومظالم وسفك دماء ، سيرتهم تكذّب الحديث وتقلبه رأسا على عقب فتدبر.

__________________

(١) سورة المائدة : ١٢.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٣٩٨.


قال الملك : ولما ذا هو خليفة؟

قال العلوي : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنه (١) خليفة من بعده ، حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى خلافته في مواطن كثيرة جدا ومن جملتها : لمّا جمع الناس في منطقة بين مكة والمدينة يقال لها (غدير خم) ورفع يد عليّ وقال للمسلمين : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ، ثم نزل عن المنبر وقال للمسلمين وعددهم يزيد على مائة وعشرين ألف إنسان : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، فجاء المسلمون واحدا بعد واحد وهم يقولون لعليّ : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فجاء أبو بكر وعمر وسلّما على عليّ بإمرة المؤمنين وقال عمر : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة .. الخ ...

____________________________________

(١) قبل أن نستدل على ضرورة تعيين الخليفة ، علينا أن نوضح نقطتين مهمتين :

النقطة الأولى : في بيان الحكمة من وجود الإمام أو الخليفة.

تقريرها :

إن الأدلة التي أوجبت ضرورة بعثة الأنبياء والمرسلين هي بعينها توجب ضرورة الإمام ونصبه بعد النبي ، لأن الموضوعين يشتركان في جانب مهم من المناهج ، فقاعدة اللطف ـ مثلا ـ التي من خلالها أثبت المسلمون الشيعة الإمامية «أيدهم الله عزوجل» ضرورة إرسال الأنبياء من حيث إنّ الله تعالى بمقتضى رأفته بالعباد ولطفه بهم ، يجب عقلا ـ بعد أن فرض عليهم أحكاما وتكاليف ـ أن يوجد لهم من يبعّدهم عن المعصية ويقرّبهم إلى الطاعة ، فإيجاده للأنبياء عليهم‌السلام محصّل


لغرضه ، وهو طاعتهم له وانقيادهم له ، ولو لم يوجده لنقض غرضه ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقّق لهم الفرص التي تمكّنهم من العبادة والطاعة.

ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين ، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين من قبل الله جلّ وعلا ، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد لا يختلفون عن بعضهم البعض إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام أو الخليفة معصوما ، لأن غير المعصوم لا يؤمن عليه من الانحراف أو الزيادة والنقصان في الشريعة فاقتضت حكمته المتعالية أن ينصّب حججا بعد الرسول لكي يوصلوا النفوس إلى الكمال ، ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلّغ للناس لعدم وفرة الظروف الموضوعية لبيانها وتبليغها ، ويربّوا الأشخاص الذين لم يحظوا برؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستفادة منه ، فيقودونهم نحو طريق الهداية ، وليس من المعقول أن يهمل الله الأمة ويتركها بلا قائد أو راع لشئونها ، في حين أن جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم ، وجميعهم متكافئون من حيث شمولهم لقاعدة اللطف الإلهي.

فمن اللازم ـ إذن ـ أن يبعث الله عزّ اسمه من يوجّه النفوس إلى الكمال ، وهو ـ أي المربّي أو القائد ـ من يوضّح معالم الشريعة المقدّسة ببيانه ، ويدفع شبهات الملحدين والمشككين ، ويفسّر ويبيّن معارف الدين وأسراره للنفوس المستعدة ، ويصدّ أعداء الدين ، ويقوّم الاعوجاج بيده ولسانه ، ويرفع النقائص ويملأ الفراغ ، ولمّا كانت هنالك فاصلة زمنية بين نبيين ، ولا وجود لشريعة وقانون بعد خاتم النبيين ، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع ، وبعد وفاة النبيّ لازما وضروريا ، بوصفه العلة المبقية لأساس الغرض ، ولمّا أخذ الله تعالى على نفسه أن يمنّ على عباده بلطفه الخفي ، ويرعاهم رعاية دقيقة ، ويهديهم ويحسن بهم ، ولا يريد إلّا خيرهم وسعادتهم ، لذا عليه أن لا يترك دين نبيه ناقصا بارتحاله ، وإنما يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو فقط أن يحمل هذه المهمة الثقيلة وهو الأنموذج الأكمل ، والمثل الأعلى لوجود النبيّ في كافة


الخصوصيات ، وهو الذي يقود الناس نحو الكمال ، من هذا المنطلق كان تعيين الوصي فرضا على النبيّ ، لذلك نصّب الإمام عليا عليه‌السلام بأمر من الله تعالى وصيّا على الأمة (١).

وهذا ما يطلق عليه بالمكمليّة أي أن الإمام عليه‌السلام مكمّل للهدف الذي جاء من أجله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومضافا إلى عنصر اللطف وأهميته في مسألة بعث الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام هناك عناصر أخرى مهمة تدخل في تركيبة الشخصية الرسالية للإمام هي كما يلي :

العنصر الأول : قيادة الأمة سياسيا واجتماعيا.

اتفق العقلاء على أن كل جماعة لا يقودها نظام اجتماعي يقف على رأسه قائد قادر ، مدبّر حكيم ، لا تكون قادرة على إدامة حياتها ، لهذا نجد العقلاء منذ القدم حتى الآن يختارون لأنفسهم زعيما وقائدا ، كي تنتظم أحوالهم ، وتستقر أوضاعهم ، وإلا انتشرت الفوضى ، وعمّ الفساد ، وكثر الهرج ، وسفكت الدماء نتيجة عدم وجود رئيس أو قائد يتولى الأمور ، من هنا يتعيّن إيجاد خليفة بعد وفاة النبيّ دفعا للمحاذير المتقدمة ، لكون الخليفة المعصوم أو القائد المعصوم هو الوحيد الذي يمكنه أن يحمي أصالة الدين ، ويحول دون أي اعوجاج وانحراف وفساد ، أمّا غير المعصوم فكغيره تؤثر عليه العوامل النفسية والخارجية ، وتتلاعب به الأهواء والشهوات ، ولا يسلم من هذا إلّا النادر ، وهذا النادر لا يمكنه أن يأخذ بيد المكلفين إلى واقع الدين ، لأن وظيفة الخليفة ليست منحصرة ببيان الأحكام التشريعية فحسب ، وإنما مهمته أوسع من ذلك بحيث تطال جميع مناحي الحياة والدين ، فبيان الحكم الشرعي هو أثر من آثار وظائفه المقرّرة من عنده تعالى.

فالإنسان العادي المعرّض للخطأ غير قادر على حمل الرسالة العظيمة التي حملها الأنبياء والمرسلون ، بدليل ما نراه بأم أعيننا من انحراف قادة العالم عن جادة

__________________

(١) لاحظ : الفوائد البهية ج ٢ / ٦١.


الصواب ، ولا أحد بقادر على أن يقوّم اعوجاجهم نظرا لما يتصورون في أنفسهم من أنهم قادة يحرّم الاعتراض عليهم والوقوف بوجههم.

العنصر الثاني : ضرورة إتمام الحجة.

إنّ وجود الإمام لا يقتصر على إرشاد الناس إلى واقع التشريع ، وإنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل ، بل يعتبر إتماما للحجة على الذين ينحرفون عمدا عن الطريق السويّ ، وذلك كي لا يكون العقاب النازل بهم بدون سبب ، ولكي لا يعترض أحد منهم أنهم لو أخذ بأيديهم مرشد إلهي ليقودهم إلى طريق الرشاد ، لما ساروا في طريق الانحراف ، أي أن وجود الإمام يقطع الطريق على كل عذر وحجة ، بواسطة بيان الأدلة الكافية والتوعية اللازمة لغير الواعين ، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.

العنصر الثالث : الإمام باب الفيض الإلهي.

إنّ القيادة في الإسلام تماما كالرأس من الجسد وكالقلب من سائر الأعضاء ، فالقلب إذ ينبض يرسل الدم إلى جميع العروق ، ويغذّي جميع خلايا الجسد ، كذا الإمام (١) من حيث اعتباره إنسانا كاملا يكون سبب نزول الفيض الإلهي على الأفراد ، كل فرد ينهل منه بحسب سيره ومقدار ارتباطه بالنبيّ أو الإمام ، فمثلما كان القلب ضروريا لحياة الإنسان ، كذلك كان وجود واسطة نزول الفيض الإلهي ضروريا في جسد عالم البشرية.

النقطة الثانية : في بيان المواصفات المعتبرة في الخليفة.

اعلم أن الإمامة كالنبوة من المناصب العالية والمقامات الرفيعة لكونها سلطنة إلهية لا ينالها إلّا من كانت جميع قواه الشهوية والغضبية مقهورة له لغلبة عقله ، ولكونها خلافة عن النبوة تقوم مقامها ، لزم كون الإمام أيضا متصفا بالصفات

__________________

(١) لاحظ المحاورة التي جرت بين هشام بن الحكم أحد تلامذة الإمام الصادق (ع) مع عمرو بن عبيد قاضي البصرة. الاحتجاج ج ٢ / ١٢٥ ، ط / قم.


المعتبرة في النبيّ عدا الوحي التشريعي ، بل ينبغي الالتفات إلى أن مقام الإمامة أرفع حتى من مقام النّبوة والرسالة ، فهي من أعظم المناصب الإلهية ، والمراد من الإمامة هنا ليس الخلافة أو الوصاية إذ كيف تكون أعظم من النبوة والرسالة وهي فرع الرسالة ، وإنما يراد منها الإمامة المطلقة التي يعبّر عنها بالولاية المطلقة ، وهي التي عبّرت عنها النصوص أنها أفضل الأعمال والعبادات ، منها :

(١) ما ورد عن أبي حمزة ، عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية (١).

(٢) وما ورد عن فضيل بن يسار ، عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ـ يعني الولاية (٢) ـ.

(٣) وعن العرزمي عن أبيه عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

أثافي (٣) الإسلام ثلاثة :

الصلاة والزكاة والولاية ، لا تصح واحدة منهنّ إلا بصاحبتيها (٤).

(٤) وعن زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمسة أشياء :

على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، قال زرارة : فقلت : وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال : الولاية أفضل ، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهنّ ،

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ١٨ ح ١ وفي خبر الفضيل قال الإمام عليه‌السلام : ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية يوم الغدير ، حديث ٨.

(٢) نفس المصدر ح ٣.

(٣) الأثافي : جمع اثفية ، وهي أحجار توضع عليها القدر وأقلها ثلاثة.

(٤) أصول الكافي ج ٢ / ١٨ ح ٤.


قلت : ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال : الصلاة ، إن رسول الله قال : عمود دينكم الصلاة ، قال قلت : ثم الذي يليها في الفضل؟ قال : الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها ، وقال رسول الله : الزكاة تذهب الذنوب ، قلت : والذي يليها في الفضل؟ قال : الحج ، قال الله عزوجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١) .. ثم قال زرارة : قلت فما ذا يتبعه؟ قال : الصوم.

ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن ، الطاعة للإمام بعد معرفته ، إن الله عزوجل يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٢).

أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله عزوجل حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان ، ثم قال : اولئك المحسن منهم يدخله الله الجنّة بفضل رحمته (٣).

وعن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله عزوجل فرض على خلقه خمسا ، فرخّص في أربع ولم يرخّص في واحدة (٤).

ولا يتوهم أحد أن مقام الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام فوق مقام نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاشا وكلا ، بل النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى تسنّمه مقام النبوة والرسالة ، كان

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٨٠.

(٣) أصول الكافي ج ٢ / ١٩ ح ٥.

(٤) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢ ح ١٢. ووجه الرخصة في الأربع سقوط الصلاة عن الحائض والنفساء وعن فاقد الطهورين ، والزكاة عمّن لم يبلغ ماله النصاب ، والحج عمّن لم يستطع ، والصوم عن الذين يطيقونه ، هامش أصول الكافي.


إماما أيضا نصا لقوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١).

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه» فالآية والحديث ظاهران في إمامته المطلقة عليه وآله التحية والسلام.

وبعبارة أخرى : أن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة مناصب إلهية :

النبوة ، والرسالة ، والإمامة المطلقة.

فأئمة آل البيت الاثني عشر عليهم‌السلام كانوا أصحاب منصب الإمامة وحده من قبل الله تعالى دون النبوة والرسالة التشريعية.

ويشهد لهذا التفصيل ما جرى لإبراهيم خليل الرحمن ، حيث نال عهد الإمامة بعد أن كان نبيا مرسلا لقوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

وإبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام ، بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة ، واجتاز بنجاح كل ما امتحنه الله تعالى به ، ومنها ذبح ابنه اسماعيل الذي رزق به النبيّ إبراهيم بعد أن كان نبيا مرسلا ، فارتقى ابراهيم عليه‌السلام إلى المرحلة الرفيعة ، مرحلة الإمامة الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية في قيادة الأمة.

وادّعى مشهور مفسري العامة ، بل كاد يكون إجماعا ، أن المراد بالإمامة في الآية هي النبوة ، وهو في غاية السقوط ، لأنه عزوجل إنما جعله إماما بعد ما كان نبيا ورسولا ، بشهادة أنه طلب هذا المقام لذريته ، وإنما صار ذا ذريّة بعد ما كبر وهرم ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦.

(٢) سورة البقرة : ١٢٤.


إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (١).

ويؤيده ما ورد في (الكافي) بسنده عن زيد الشحّام قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإنّ الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإنّ الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وإنّ الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما ، فلمّا جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقي (٢).

وما ثبت لإبراهيم الخليل عليه‌السلام ثبت بطريق أولى لرسول الله محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان له مضافا إلى مقام النبوة والرسالة ، مقام القيادة والإمامة المطلقة على الخلق أجمعين ، وقد بلغ هذه المرحلة عدد من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان عليهم‌السلام.

والشروط التي يجب أن يتحلّى بها الإمام ، لا بدّ أن تتناسب مع الواجبات والمسئوليات الملقاة على عاتقه للقيام بها ، وكلما كان المنصب أرفع ومسئولياته أصعب ، كانت الشروط والصفات اللازم توفّرها في المنتخب لذلك المقام أهم وأثقل ، فمثلا يشترط الإسلام فيمن يتسنّم منصب القضاء ، وحتى الشاهد وإمام الجماعة لا بدّ أن يكون عادلا ، فإذا كان من يريد أن يدلي بشهادة ما ، أو أن يقرأ الحمد والسورة يجب أن يكون عادلا ، فما بالك بالشروط اللازمة لبلوغ مقام الإمامة الخطير الرفيع؟!

والإمام يجب أن يتوفر فيه شرطان :

الأول : العلم ويتفرّع منه الفضائل والكمالات النفسانية القابلة للإظهار.

الثاني : العصمة المطلقة عن الخطأ والإثم والجهل.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٩.

(٢) أصول الكافي : ج ١ / ١٧٥.


أما شرط العلم ؛ فلأن الإمام كالنبيّ هو الملجأ العلمي للناس ، فلا بدّ أن يكون عارفا بجميع أصول الدين وفروعه ، وبظاهر القرآن وباطنه ، وبسنّة النبيّ ، وبكل شيء له علاقة مباشرة بالإسلام أو غير مباشرة بحيث يشمل علمه كل شيء بإذن الله تعالى.

إنّ الذين يرتبكون (١) إذا ما واجهوا مشكلة معقّدة ، أو أنهم يرجعون إلى الآخرين يطلبون منهم الحلول «لأن ما عندهم من علم يقصر عن الإجابة على أسئلة المجتمع المسلم» ليس لهم أن يتحمّلوا مسئولية إمامة الأمّة وقيادتها .. فالإمام يجب أن يكون أعلم الناس وأوعاهم لدين الله ، وأن يملأ الفراغ الذي يتركه النبيّ لكي يستمر الإسلام بمسيره الصحيح الخالي من كل انحراف في مسيرته.

وأما شرط العصمة ؛ فلا بدّ أيضا أن يكون الإمام معصوما أي مصونا من كل خطأ وإثم ، وإلّا فإنه غير قادر على أن يكون قائدا فذا فريدا ، وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتبعونه.

لا بدّ للإمام من أن يستحوذ على قلوب الناس ، فيأتمرون بأمره دون اعتراض .. فمن كان ملوّثا بالإثم لا يمكن أبدا أن يبلغ هذا المبلغ في القلوب ، ولا أن يكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم.

ومن كان في أعماله اليومية عرضة للأخطاء والهفوات ، كيف يمكن أن يوثق به في إدارة أعمال المجتمع ، ويطمأنّ إلى آرائه وتنفيذها بدون أي اعتراض؟ إذن ، لا بدّ من أن يكون النبيّ معصوما وكذا خليفته مثله يجب أن يتحلّى بصفة العصمة لئلّا يقع في المعاصي فيغرّر غيره بالوقوع فيها ، وهو خلاف اللطف الإلهي من بعثه وإرساله ليقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية.

كما يجب على الإمام أن يكون متحرّرا من قيود النفس الأمّارة والثروة والجاه لكي لا يستطيع أحد إغراءه والتأثير عليه بحيث يحمله على الاستسلام والمساومة.

__________________

(١) الارتباك : الاضطراب والاختلاط.


هذا مضافا إلى اشتراط الجاذبية الأخلاقية لما في دماثة الأخلاق من تأثير على الدعوة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الفظاظة إحدى عوامل الهدم في الدعوة بقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١).

إنّ الخشونة وسوء الخلق مما يثير النفور والتباعد عند الناس ، بحيث يعتبر من العيوب الكبيرة في النبيّ أو الإمام .. لذلك فإنّ الأنبياء والأئمة منزّهون عن هذا العيب.

هذه أهم المواصفات في الإمام وهناك مواصفات أخرى يجب توفّرها فيه كأن يكون أعدل وأفقه وأورع وأحكم وأشجع وأسخى الناس ، إلخ ... (٢).

عود على بدء :

بعد أن انتهينا من هاتين النقطتين ، أعني الحكمة من وجود الإمام والشروط المعتبرة فيه ، تبقى نقطة هامة مفادها :

من المسئول عن تعيين الإمام؟

يعتقد العامة أنّ النبيّ توفّى دون أن ينصّب خليفة بعده ، ويعتقدون أيضا أنّ هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم ، فهم أنفسهم عليهم أن يختاروا قائدهم بطريق إجماع المسلمين أو ما يعبّر عنه بالشورى باعتباره ـ أي الإجماع ـ أحد الأدلة الشرعية لانتخاب الإمام ، ويؤكدون مقالتهم هذه بأنّ الانتخاب بواسطة الإجماع أو الشورى الجماعية قد حصل فعلا حيث اختاروا أبا بكر خليفة على الأمة بإجماع الأمة ، ثم اختار الخليفة الأول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، والثاني عيّن الثالث عثمان عبر طريق الشورى السداسية المؤلفة من ستة أشخاص يختارون أحدهم هم : الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٢) أصول الكافي ، باب صفات الإمام عليه‌السلام.


وقد اشترط عمر بن الخطاب أنّه إذا انقسمت الشورى إلى قسمين ، وكان كل ثلاثة في طرف ، فإن الطرف الذي فيه عبد الرحمن بن عوف (صهر عثمان) هو الذي يختار الخليفة ، وهذا ما حصل ، إذ الأكثرية المؤلفة من سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة اختاروا عثمان بن عفّان.

والسؤال الذي يفرض نفسه :

هل للأمة أن تختار خليفة النبيّ؟

... ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال ، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على المجتمع الإسلامي ، فإن اختيار الحاكم بالرجوع إلى آراء الناس أمر متداول بين العقلاء ، ومع هذا فإنّ اختيارهم لمن هو دون المستوى المطلوب من العلم والعدالة غير كاف لتبرير زعامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام من حيث إنّهم ليسوا بالمستوى المطلوب كي يستلموا إمامة الأمّة.

لكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي تعتقده الإمامية طبقا لمفهوم القرآن الكريم الذي اعتبر الخليفة أو الإمام بمستوى النبيّ لا يقلّ عنه بشيء ما خلا الوحي التشريعي ، فلا شك حينئذ أنه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النبيّ سوى الله تعالى ورسوله وبأمر من الله تعالى ، ولا خصوصية لانتخاب النبيّ للخليفة سوى ما يأمره الباري به عزوجل.

والخليفة بعد النبيّ يجب أن يتحلّى ـ كما قلنا سابقا ـ بشرطين رئيسيين :

أحدهما : العلم بأصول الديانات السماوية لا سيما القرآن الكريم والسنّة المطهرة.

وثانيهما : العصمة عن الخطايا والآثام ، وغير ذلك مما هو لازم لمن يتصدّى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب الجليل.

وتمييز هذه الصفات في شخص ما ، ليست مستطاعة لكلّ أحد إلّا من خلال الله عزوجل ورسوله الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو العالم فيمن توفرت فيه هذه الصفات أو


الشروط المعتبرة ، لا سيّما العصمة منها حيث لا يمكن لأحد أن يتعرّف على هذا المعصوم لكونها أمرا خفيا عن الناس ، يظهره الله على يد من جرت على يديه المعجزة أو الكرامة للتدليل على صحة تعيينه من قبل الله عزّ اسمه.

إنّ الذين عهدوا اختيار الإمام الخليفة إلى الناس ، قد غيّروا في الحقيقة المفهوم القرآني للإمامة ، وإدارة شئون الناس الدنيوية ، وإلّا فإن شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلا عن طريق الإلهام الربوبي ، لأنه عزوجل لوحده العالم «استقلالا» بهذه الصفات.

إن مسألة انتخاب الخليفة أشبه بانتخاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يمكن أن ينتخبه الناس بالتصويت ، بل الله هو الذي يختاره ويتعرّف عليه الناس عن طريق المعجزة ، لأن الصفات اللازم توفرها في النبيّ لا يعرفها إلّا الله عزّ قدسه.

من هنا يعتقد الإمامية أن النبيّ عيّن الخليفة بأمر من الله تعالى لأمور عدة :

الأول : إنّ الإسلام دين عالمي وخالد لا يقتصر على زمان ولا مكان معينين ، كما أن الإسلام لم يكن بعد قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند شهادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يكون عالميا وخالدا ، ولا يترك بعده من يبلّغ الناس أحكام الدين ومباديه.

الثاني : إن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ كل الأحكام الشرعية التي أنزلها الله عزوجل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفقدان الظروف الموضوعية كي يبلّغها للناس : إما لعدم توفر القابليات لذلك ، وإما لأنّ زمانها لم يأت بعد ، فلا بدّ من حامل لتلك الأحكام لكي يوصلها إلى أهلها.

الثالث : إنّ النبيّ كان يعلم أنه إن لم يعيّن الخليفة ، فسوف تكثر الخلافات والانشقاقات والتأويلات في فهم النصوص مما يؤدي إلى التقاتل والفتنة ، فضلا عن ذلك فإن التنبؤ بالمستقبل المشرق وإعداد المقدمات للاستمرار في إدامة الإسلام كدين تستوعب أحكامه كل مجالات الحياة ، كان من أهم الأمور التي لا بدّ أن يفكّر فيها كل قائد ، فكيف بسيّد القادة والحكماء رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟


وإذا تجاوزنا كل ذلك ، نلاحظ أن النبي كان أحيانا يصدر تعليمات خاصة في كثير من الأمور البسيطة العادية في الحياة اليومية ، فكيف يمكن أن يهمل قضية كقضية الخلافة والإمامة ولا يضع لها منهاجا خاصا؟!

فحياة النبيّ الأكرم زاخرة بالشواهد الحيّة على مدّعى الشيعة ، حيث إنه لم يترك المدينة يوما ما إلّا بعد أن يعيّن من يقوم مقامه فيها ، فكيف يترك الدنيا من غير أن يعيّن أحدا من بعده يخلفه على أمته ، وهو يعلم أن عدم الاستخلاف سيؤدي إلى إراقة الدماء ، وما لا تحمد عقباه؟!!

لا يشك ذو مسكة أن عدم تعيين الخليفة ، ينطوي على أخطار كبيرة على الإسلام اليافع ، وإنّ العقل والمنطق يحكمان بأن أمرا كهذا يستحيل صدوره عن نبيّ الإسلام.

وما قيل ـ والقائل هم العامة ـ من أن رسول الله عهد بذلك إلى الأمة ، عليهم أن يبيّنوا أدلتهم من الكتاب والسنّة والعقل ، وأن النبيّ صرّح بذلك علانية ، ولكن ليس ثمة دليل ـ عندهم ـ من هذا القبيل.

أما ما ادعوه من أن النبيّ أوكل الأمر إلى الأمة تنتخب الخليفة ولم يعيّن بنفسه أحدا ، فدونه خرط القتاد ، وذلك :

لأن الإجماع لم يتحقق على خلافة أبي بكر ، لأن معنى الإجماع هو أن يتفق المسلمون على أمر ما ، وحيث إن إجماعا كهذا لم يحصل عند انتخاب أبي بكر ، اللهم إلا ما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة في المدينة ، فانتخبوا أبا بكر ، مع أن سائر المسلمين في سائر بلاد الإسلام لم يشاركوا مطلقا في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم ، بل كان الكثيرون في المدينة نفسها كالإمام أمير المؤمنين وسيّد الموحدين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وبني هاشم وثلة من الصحابة الأجلّاء أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد لم يحضروا ذلك الاجتماع الخطير ، بل كانوا ضده ، وعليه ، فإنّ اجتماعا كهذا لا يمكن قبوله.


ثم إذا كان هذا الأسلوب هو الصحيح الذي يجب اتباعه ، فلما ذا لم يتبعه أبو بكر في انتخاب خليفته؟ ولما ذا عيّن بنفسه خليفته عمر بن الخطاب؟

فإذا جاز لأبي بكر أن يعيّن خليفته ، فلم لا يجوز لرسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ذلك ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

الحق أن يقال : يتعين على النبيّ قبل غيره أن ينصب خليفة على الأمة حتى لا يكون عدم التعيين أو التنصيب وصمة عار عليه إلى أبد الآبدين ، حاشاه روحي فداه ثم حاشاه.

وإذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة ، فإن ذلك وارد أيضا بالنسبة للنبيّ الأكرم وعلى أفضل وجه.

فضلا عن ذلك : إنّ عثمان بن عفّان جاء للخلافة عن طريق الشورى السداسية ، وهذا مخالف لطريقة عمر بن الخطاب الذي جاء نتيجة تعيين الأول له ، فمجيء عثمان خلاف الطريقة المتبعة في التعيين ، وكسرا للسنّة التي أتت به إلى الخلافة ، بمعنى أن عثمان لم يلتزم الإجماع ولا التعيين الفردي ، بل جاء بمجلس الشورى ، فتكون خلافته غير شرعية على مبدأ العامة القائلين : إنّ الخليفة يأتي بمرسوم تعييني أو انتخابي ، وكلاهما لم يتحققا.

هذا مضافا إلى أنه لو كانت الشورى صحيحة ، فلما ذا تقتصر على ستة أشخاص بعينهم ، ويكتفى برأي ثلاثة من ستة؟!

وهل هؤلاء الثلاثة الذين انتخبوا عثمان هم صفوة الصحابة؟

وهل هم أفضل من عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى يكون رأيهم مقدّما على رأيه الذي عبّر عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بأنه مع الحق والحق معه ، يدور معه حيثما دار»؟

وهل هناك رواية صحيحة دلت على أفضليتهم من أمير المؤمنين علي عليه‌السلام؟


أسئلة تخطر ببال كل باحث ومحقق يتعامل مع التاريخ الإسلامي بصدق وإخلاص ، وبقاؤها دون جواب يدل على أن تلك الأساليب الملتوية لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الإمام.

ولنفرض أن نبيّ الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وفرض المحال عادة ليس محالا ـ لم يعيّن أحدا يخلفه من بعده ، ولنفرض أن اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة ، فهل يجوز عند الانتخاب أن نتجاوز الأعلم والأتقى والأكثر تمييزا عن الآخرين من جميع الوجوه ، ثم نبحث عن الخليفة الأدون بكثير من الإمام عليّ عليه‌السلام ، بل لا يقاس بالإمام عليه‌السلام أحد من الناس (١).

لقد قام الإجماع بأعلمية الإمام علي عليه‌السلام من غيره من الصحابة ، بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون إليه في حلّ مشاكلهم والصعوبات التي كانت تعترضهم ، ومنهم عمر بن الخطاب الذي صرّح بعبارات شتى (٢) تدل على ذلك ، منها :

لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن.

ولو لا عليّ لهلك عمر.

فلو فرضنا جدلا : أن انتخاب الخليفة كان موكولا إلى الناس أنفسهم ، فإن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام كان أليق الموجودين وأجدرهم بالخلافة ، لكن ويا

__________________

(١) ورد في الحديث عن أمير المؤمنين قال : «لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ..» نهج البلاغة : خطبة ٢ ص ٤٢ ، صبحي الصالح.

وقال في الخطبة الشقشقية : «أما والله لقد تقمصها فلان ـ أي أبو بكر ـ وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير».

(٢) وبقول عمر يندفع ما ذكره ابن أبي الحديد وأمثاله : من أنه يكفي إمامة المفضول دون الفاضل ، فالمسألة بين الإمام علي وعمر لا تدخل في ميزان التفاضل حتى يقدّم عمر على الإمام عليه‌السلام ـ بحسب دعوى ابن أبي الحديد ـ بل تدخل في مقياس العلم والجهل ، وأين هذا من ذاك؟


للأسف للسياسة الفاحشة أصحابها ، وللدجل فنانوه ومهندسوه ، وسيأتي يوم يعلو فيه صوت الحق ، وتنكّس رايات الضلال ، ويظهر الصبح لذي عينين ، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (١) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢).

بما ذكرنا يتبيّن ـ معك أخي القارئ ـ ضرورة تعيين الخليفة بعد النبيّ ، لأن التغافل عنه منقصة في المشرّع الحكيم لا يصح صدوره عنه بحال من الأحوال ، والخليفة المنصوب هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والأدلة على إثبات خلافته أكثر من أن تحصى ، ولكنّنا سنذكر بعضا منها على نحو الاختصار ، تسهيلا على القارئ العزيز وتشريفا بذكر فضائله ومناقبه عليه‌السلام.

والأدلة على إثبات ذلك نوضحه ضمن مقصدين :

المقصد الأول : الأدلة العقلية الدالة على إمامته عليه‌السلام.

المقصد الثاني : الأدلة النقلية الدالة على ذلك.

أما المقصد الأول : فالأدلة على إثبات إمامته عليه‌السلام على ضوء العقل وأحكامه كثيرة منها :

الأول : اللطف الإلهي :

ومفاد هذا الدليل : إن الله تعالى بمقتضى رأفته بالعباد وتلطفه بهم ، يجب عقلا أن يبعث للناس رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وينذرهم عمّا فيه فسادهم ، ويبشرهم بما فيه صلاحهم. وإنما كان اللطف من الله تعالى واجبا ، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم ، فإذا كان المحلّ قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف ، فإنه تعالى لا بدّ أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ، ولا نقص في جوده وكرمه.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٨٩.

(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.


وليس معنى الوجوب هنا ، أن أحدا يأمره بذلك ـ كما ربما يتصور ـ فيجب أن يطيع ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود «أي اللزوم واستحالة الانفكاك». فكل ما كان له علاقة بما يبعّد الناس عن المعصية ، وما يقرّبهم من الطاعة ، يجب بضرورة العقل أن يوجده لأنه محصّل لغرضه وهو طاعتهم له وانقيادهم له ، ولو لم يوجده لناقض غرضه ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقق لهم الفرص التي تمكّنهم منها.

ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين ، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين والمبعوثين ـ تماما كالأنبياء والرسل ـ من قبل الله تعالى ، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد ، لا يختلفون عن بعضهم البعض إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام معصوما ، وغير الإمام علي عليه‌السلام من الثلاثة المتقدمين عليه لم يكن أحد منهم معصوما بالإجماع بين الفريقين ، فيتعين كونه عليه‌السلام هو الخليفة الحق (١).

وبعبارة أخرى : لمّا اقتضى اللطف الإلهي أن يصطفي الله سبحانه الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة الله وإبعادهم عن معصيته ، وللوصول إلى الكمال الذي أراده لهم المولى عزوجل وهو المعرفة ، استدعى هذا اللطف بعينه أن يستمر إلى ما بعد مرحلة الأنبياء ، بأن يجعل للدين أئمة هم أفضل الخلق وأعرفهم وأعلمهم بحقائق الدين ، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعد إلى الكمال ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلّغ للناس لأسباب خاصة ، ويربّوا من لم يتشرف برؤية النبيّ الأكرم والاستفادة منه ، وليس من المعقول أن يهمل الله الأمة ويتركها بدون من يدير شئونها ، في حين إنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم ، وجميعهم متكافئون بقاعدة اللطف.

فمن البعيد جدا وخلاف الحكمة أن يترك النبيّ أمته بلا راع أو يتركها إلى

__________________

(١) للاستفادة أكثر فليراجع الفوائد البهية ج ١ / ٤١٣ وج ٢ / ٦٠.


الظروف والصدف ، لأن الإمامة أو الخلافة بنظر الإمامية هي نيابة عن الرسول في المجالات التشريعية والتنفيذية ، وله الولاية المطلقة على العباد بأمر منه تعالى ، فولايته طولية لا عرضية ، لأن الخليفة الإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية كما أن النبيّ رابط بين الناس وربهم في إعطاء الفيوضات الظاهرية ، فإذا كان كذلك فكيف يمكن للناس أن يحيطوا بهكذا إنسان حتى يقال إنه يمكن للناس أو أهل الحل والعقد أو الشورى أن يعيّنوا الإمام السفير والحجة تماما كالنبيّ لا فرق بينهما سوى بالوحي التشريعي دون التسديدي حيث يتساويان به.

وبما أن رسالة الإسلام أكمل الرسالات والشرائع ، وقد بلّغ النبيّ الأعظم كل أحكامها الحقة من أصول وفروع ومعتقدات خلال فترة بعثته عليه‌السلام ثم ارتحل إلى ربه ، والرسالة لمّا تستكمل بعد جميع أهدافها ، لذا كان من الواجب في حكمته تعالى من باب اللطف والكمال المطلق المتصف تعالى بهما أن يوكل لإتمام مسيرة تطبيق الشريعة لأناس مطهرين معصومين عن الخطأ والزلل والهوى نتيجة علمه عزوجل الأزلي بأنهم سيطيعونه ولا يعصونه ، يبيّنون أحكامه تعالى في كل عصر ، وفي كل المجالات ، وبالأخص بعد وفاة النبيّ الأكرم حيث الإسلام لم يكن متمكّنا بعد في النفوس التي تربّت على تقاليد الصحراء الجافة ، بالإضافة إلى تربص المشركين في الجزيرة يكيدون للإسلام وللمسلمين ، وهجمات الروم المتكررة على أرض العرب ، مع تحذير النبيّ لأصحابه من أن يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض ، كل ذلك يستدعي وجود إنسان كامل نقي السريرة ، معصوم مسدّد بالفيض الإلهي ، يحلّ مكان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أداء الرسالة التي جاءت لتنقذ البشرية من جهل العصبية والحقد والرذيلة ، ولينعم الناس بقطر السماء وخيرات الأرض ، وليس في أصحاب النبيّ محمّد من العصمة والكمال سوى الإمام عليّ وأبنائه المطهرين عليهم‌السلام ، ولا يعني ذلك أن إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت ظرفا استثنائيا آنذاك ، وإنما هو إمام حتى مع وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمامته في حياة النبيّ


محمّد فعلية إلّا أنه سكت لوجود النبيّ العظيم كما سكت الإمام الحسين بوجود الإمام الحسنعليهما‌السلام لأن ما ينطق به الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو نفس ما يريد أن ينطق به الإمام عليّعليه‌السلام، وكذلك الحسنان عليهما‌السلام.

ومهام النّبوة عظيمة لا بد من مؤازر لها يكون بمستوى عال من الكمال ، فاقتضت حكمة العقل والشرع إيجاده ، وقد نص عليه الرسول منذ بداية بعثته بدءا بحديث الدار ، وانتهاء بحديث الدواة والكتف وهو على فراش الموت.

الثاني : العصمة :

يجب أن يكون الإمام معصوما ؛ ومن ليس بمعصوم فليس بإمام ، وغير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لم يكن معصوما بإجماع المسلمين ، فتعين أن يكون هو الإمام عليه‌السلام بعد رسول الله.

وبعبارة أخرى :

الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير الإمام عليّ لم يكن كذلك ، فتعين أن يكون هو الإمام ؛ فهنا صغرى وكبرى من الشكل الأول ؛ أما الكبرى فحاصلة بالإجماع منّا ومن العامة ، وأما الصغرى فلما سيمر من الأدلة النقلية الدالة على وجوب إطاعته عليه‌السلام إطاعة مطلقة ، فلو لم يكن الإمام معصوما لم يؤمن منه الخطأ ، فإما أن يجب متابعته عند صدوره منه ، وإما أن يجب ردعه عنه وإنكاره منه ، فعلى الأول يلزم أن يكون قد أمرنا الله سبحانه بالقبيح وهو محال ، وعلى الثاني يكون الإنكار له مضادا لوجوب طاعته ، وأيضا فإن الحاجة إلى الإمام تماما كالحاجة إلى الرسول أو النبي ، فكما أن زمنا لم يخل من نبي منذ آدم إلى سيّدنا خاتم الأنبياء محمّد كذلك لن يخلو زمن بعد نبينا من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضح المتشابهات ، ويأتي بالتكاليف الواقعية ، لا سيّما وأن شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لكل الشرائع ، فلا بد لها أن تعطي لكل حادثة مستجدة حلا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة ، فيتعين إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبيّ يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ، يشرحون


لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفله المعصوم الذي ينوب عن النبيّ ، فإذا لم يوجد الله تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك ، لأدّى ذلك إلى إغرائهم بالقبيح وهو مستحيل عليه تعالى.

الثالث : النص :

الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه ، وغير أمير المؤمنين علي عليه‌السلام من المشايخ الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكونوا متعينين من جهة النص بإجماع المسلمين ، وإنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من أن العصمة شرط في الإمام ، والعصمة من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فمن هنا أخبرنا عزوجل أن المتحلي بالعصمة والكمال هو الإمام علي عليه‌السلام دون غيره ، فثبت بذلك أنه المتعين قطعا.

الرابع :

أن سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقتضي التنصيص ، لأنه أشفق بالأمة من الوالد بولده ، ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئية مثل ما يتعلق بدخول المسجد والخروج منه ، بل بيّن أحكام الدخول إلى الحمام وكيفية الاغتسال والاستنجاء وقص الشارب واللحية والأظافر إلى غير ذلك مما تحتاجه الأمة حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ، ومع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهم الواجبات وأعظم المهمات ، ولا ينص على من يتولى أمرهم بعده؟!

ومضافا إلى كل ذلك ، فإن النبيّ لم يفارق المدينة قط إلّا وخلّف فيها من ينوب عنه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمر عليه كما تقتضيه الإدارة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن ، وغرضا لسهام الخلاف على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقع الانقلاب منهم ووجود من مردوا على النفاق ، وتربص الكفار بهم الدوائر كما نطقت به آيات الكتاب العزيز ، وكيف لم يطالبه المسلمون على كثرتهم بنصب إمام لهم مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته؟ فلمّا لم يقع


الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام علم أنه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب ، وما هو إلّا نص الغدير ونحوه ، فيكون أمير المؤمنين عليّ هو الإمام ، ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبيّ النص كما زعموا ، لأنّ من فوائد التشريع اتباع الناس للنبيّ المشرّع في فعله ، وبالضرورة لم يتفق عند أحد من الملوك أو الخلفاء ـ الذين تعاقبوا زورا على سدة الخلافة الإسلامية ـ أن ترك النص على من بعده عملا بالسنّة.

هذا مضافا إلى أن الله تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته في غدير خم بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١).

ومن المعلوم أن الإمامة من تمام الدين ، فمن زعم أن الله تعالى لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر ، ولو ذهب النبيّ ولم يعيّن خليفة لدل على أن الدين لم يكتمل ، وأن النعمة لم تتم ، وذلك بسبب حصول الخلاف والشّقاق بين المسلمين من جراء السقيفة وتعنت أصحابها وقمعهم للمخالفين لها.

الخامس : كون الإمام أفضل الرعية.

أي يجب أن يكون الخليفة أو الإمام أفضل الرعيّة علما وعملا ، وغير أمير المؤمنين عليه‌السلام من الثلاثة لم يكونوا كذلك ، فتعيّن كونه عليه‌السلام هو الإمام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما أن الإمام لا بدّ أن يكون أفضل فلأنه لو لم يكن أفضل لا يخلو إما أن يكون مساويا أو مفضولا ، فأما المساوي فيستحيل تقديمه لأنه يفضي إلى الترجيح بلا مرجح ، وأما المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ، ورفع مرتبة المفضول ، وخفض مرتبة الفاضل ، وهو بديهي عند العوام فضلا عن الخواص.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.


وخالف الأشاعرة ذلك ، فأجازوا تقديم المفضول على الفاضل تأسيسا لخلافة أئمتهم الذين سنّوا لهم هذا الاختيار مع الاعتقاد ضمنا أن الإمام عليا عليه‌السلام أفضل الجميع.

وقد خالفوا في ذلك مقتضى العقل ونص الكتاب ، فإن العقل يقبّح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل كما قلنا سابقا ، فلينظر الإنسان إلى عقله هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عبّاس وأمثاله؟! وقد نص على إنكاره القرآن أيضا فقال تعالى :

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(١).

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

وغير الإمام عليّ عليه‌السلام أدنى بدرجات منه بل لا يقاس به روحي فداه أحد من الخلق على الإطلاق سوى نظيره وحبيبه رسول الله محمّد والصدّيقة فاطمة عليهما‌السلام ، أما أن أحدا لم يكن أفضل منه فبتسليم أعيان العامة على ذلك منهم ابن أبي الحديد حيث قال :

«وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه‌السلام ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ، وبيّنا أنه عليه‌السلام أفضل على التفسيرين معا ، وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره ، ولهذا موضع هو أملك به» (٣).

__________________

(١) سورة يونس : ٣٥.

(٢) سورة الزمر : ٩.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٦. تنبيه : صحيح أن شارح النهج يقول بأفضلية الأمير عليه‌السلام على الثلاثة المتقدمين عليه ، لكنه لم يعتقد بوجود نص على الأمير عليه‌السلام كما يلوح ـ


وكثرة الثواب والخصال الحميدة مستجمعة فيه صلوات الله عليه ، أما كثرة الثواب فلظهور أنه مترتب على العبادة ، وبكثرتها وقلتها تتفاوت كمية الثواب والجزاء زيادة ونقصانا ، كما أن سيرته عليه‌السلام تشهد على أنه أعبد الكل ، فيكون أكثر مثوبة ، ولو لم يكن له من العبادات إلّا ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول الله : «إنها أفضل من عبادة الثقلين» لكفى في إثبات هذا المرام فضلا عن سائر عباداته التي لا يضبطها الدفاتر والصحف ولا تحصيها الزبر والطوامير.

وأما الخصال الحميدة والفضائل النفسانية وسائر جهات الفضل فكثيرة جمة يعجز الجن والإنس عن إحصائها ، إذ كل نفس من أنفاسه الطاهرة معجزة وفضيلة ، كانت من الله وإلى الله تعالى ، ومن كان كله لله فكيف يمكن إحصاء فضائله؟!

من هنا أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا الأمر بقوله كما روى الخطيب الخوارزمي : «لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حسّاب والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالبعليه‌السلام».

السادس : الوصية عند العقلاء.

اتفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم ، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.

أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم ، ووفقا لما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم ، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه ، فهو لا يريد أن يفلت زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه ، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت ، لذا نراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته

__________________

ـ ذلك من كلامه في شرح الخطبة الشقشقية عند قوله : أرى تراثي نهبا ، وهذا توهم فاسد صدر من ناصب عنيد ، وقد أجاد أستاذه النقيب أبو جعفر حينما قال له : أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٨.


أو حالت الظروف في عدم تحقّقها أو لديمومة استمرارها لأهميتها ، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات ، إذ أن أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ، ويرى علامات الموت ، فإنه يشيد لأفراخه بيتا محكما ، وعشا رصينا بعيدا عن كل خطر ، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه ، فهل يعقل أن يذهب النبيّ من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!

هذا بحسب الفطرة ، وأما بحسب العقل ، فلا شك أن العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أن يفيد منها في حياته ؛ والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركا وراءه زوجة وذرّية ومحل تجاري أو مزرعة أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلمية ، أو أمثال ذلك بدون تدبير ، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء ، ويرونه إنسانا ناقصا ويذمّونه على ترك الوصية على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيا كفوءا خبيرا بصيرا مدبرا يدير شئونه ويتولى أمر ذرّيّته من أولاده الصغار وغيرهم ، فإنهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملا إنسانيا.

وأما حكم الشرع الذي شرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها (١) : قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ

__________________

(١) الفوائد البهية ج ٢ / ٦٣.


تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

السابع :

الإمامة سلطنة إلهية وليست رئاسة عامة كما يدّعي العامة ، إذ الرئاسة العامة بعض لوازم تلك السلطنة ، وهذه تستلزم أن يكون صاحبها على مقدار كبير من المعرفة بالله وبما جاء به الأنبياء والمرسلون وأن يكون متحليا بأوصاف الزهد والشجاعة والإيمان والعبادة ، ومن الواضح اتفاق الأمة على أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الوحيد من بين الصحابة وجميع الأمة بل الخلق كان مستجمعا لهذه الصفات على الوجه الأكمل ، فتعيّن كونه عليه‌السلام الإمام والخليفة بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه بعض الأدلة العقلية الدالة على أحقية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالخلافة دون غيره ممن تقدّم عليه من المشايخ ومن تأخر عنه من ملوك بني أمية وبني العبّاس.

وأما المقصد الثاني : وهو الأدلة النقلية الدالة على أحقيته بالخلافة ، فهي على قسمين :

القسم الأول : الآيات القرآنية.

القسم الثاني : الأحاديث النبوية الشريفة.

أما القسم الأول : فالآيات المجيدة كثيرة جدا نذكر بعضا منها :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) سورة المائدة : ٥٥.


اتفق المفسرون (١) قاطبة على أنها نزلت في بيان وأحقية فضل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث تصدّق بخاتمه على فقير وهو راكع ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفقير :

من أعطاك هذا الخاتم؟ (وسؤاله لا من جهل وإنما تجاهل لإبراز الفضل).

قال الفقير : ذاك الراكع ، فأنزل الله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ ...).

وأخرج السيوطي اثني عشر حديثا بطرق متعددة تدل على أن الآية المباركة نزلت في الإمام عليّ عليه‌السلام ، منها ما أخرجه عن ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال :

أتى عبد الله بن سلام ورهط معه من أهل الكتاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الظهر ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بيوتنا قاصية لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد ، وإن قومنا لمّا رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يؤاكلونا ، فشق ذلك علينا ، فبينا هم يشكون ذلك إلى رسول الله إذ نزلت هذه الآية على رسول الله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) ونودي بالصلاة صلاة الظهر ، وخرج رسول الله فقال : أعطاك أحد شيئا؟

قال : نعم ، قال : من؟

قال : ذاك الرجل القائم ، قال : على أي حال أعطاكه؟

قال : وهو راكع ، قال : وذلك عليّ بن أبي طالب ؛ فكبّر رسول الله عند ذلك وهو يقول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

وتقريب الاستدلال بالآية المباركة :

__________________

(١) لاحظ : المناقب لابن المغازلي ص ٣١١ رقم ٣٥٤ وتفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٢ / ٥١٩ وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ / ١٦١ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ٦٤ وتفسير الكشاف ج ١ / ٦٣٥ وإحقاق الحق ج ٢ / ٣٩٩ والمراجعات ص ٢٥٢.


أن لفظ «الولي» قد جاء في اللغة تارة بمعنى المعين والناصر كقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

وأخرى بمعنى المتصرف بالأمر الشامل للأموال والأنفس والأحق به والأولى بذلك ، ولا يناسب مع وجود أداة الحصر استعمال لفظ «الولي» بغير الأولى بالتصرف لا سيّما في قولهم «السلطان وليّ من لا ولي له ، ووليّ الدم أولى به ، وأيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» إذ حمل الولاية في الآية على المعنى الأول غير صحيح ، لكونها بذلك المعنى عامة لجميع المؤمنين كما يشهد بذلك الآية السابقة ، فلا بد أن يكون المراد به المعنى الثاني كي يستقيم الحصر المستفاد من كلمة «إنّما».

وبعبارة أخرى :

إن الحصر في الآية لا يراد منه سوى الأولى بالتصرف وإلا فلا يصح الحصر إذ المحبة والنصرة لا اختصاص لهما بقوم دون قوم ، هذا مضافا إلى وحدة السياق فإن المراد من الولي في الله ورسوله هو الأولى بالتصرف ، وهكذا في الذين آمنوا ، كما أن خارجية القضية تشهد بكون المراد منها هو ما وقعت من الإمام عليّ عليه‌السلام بمحضر الصحابة.

فإذا ثبت أن المراد به الأولى بالتصرف فالمراد به أمير المؤمنين عليه‌السلام لا غير ، وذلك للإجماع المركّب الدال على أن الآية محصورة بشخص واحد نزلت بحقه وهو الإمام عليّ عليه‌السلام ؛ لدلالة الأخبار المتواترة من العامة والخاصة على نزوله فيه عليه‌السلام.

ولو قيل إن الولي مشترك معنوي موضوع للقائم بالأمر أي الذي له سلطان على المولى عليه ولو في الجملة ، لأجبنا بنعم فيكون مشتقا من الولاية بمعنى السلطان ، ومنه ولي المرأة والصبي والرعية أي القائم بأمورهم ، وله سلطان عليهم

__________________

(١) سورة التوبة : ٧١.


في الجملة ، ومنه أيضا الولي بمعنى الصديق والمحب فإن للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على صديقه ، وقياما بأموره ، وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره ، إلى غير ذلك من معاني لفظ الولي.

فحينئذ يكون معنى الآية إنما القائم بأموركم هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شك أن ولاية الله تعالى عامة في ذاتها بقرينة الحكمة ، وكذا ولاية النبيّ والوصي فيكون الإمام عليّعليه‌السلام هو القائم بأمور المسلمين والسلطان عليهم والإمام لهم.

ولو سلّم تعدد المعاني واشتراك الولي بينها معنى فلا ريب أنّ المناسب لإنزال الآية في مقام التصديق أن يكون المراد بالولي هو القائم بالأمور لا الناصر ، إذ أي عاقل يتصور أن إسراع الله سبحانه بذكر فضيلة التصدق واهتمامه ببيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلّا مجرد بيان أمر ضروري هو نصرة الإمام عليّ للمؤمنين.

ولو سلّم أنّ المراد الناصر ، فحصر الناصر بالله ورسوله والإمام عليّ عليه‌السلام لا يصحّ إلا بلحاظ إحدى جهتين :

الأولى : إنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرف بأمورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب.

الثانية : أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتم المطلوب أيضا ، إذ إنّ لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، لا سيّما وقد حكم الله عزوجل بأنها في قرن نصرته ونصرة رسوله.

فعلى هذا الأساس فإن نصرة الله تعالى لعباده المؤمنين بأن أخرجهم من الظلمات إلى النور بإرسال الأنبياء والرسل والأولياء ليبيّنوا لهم ما ينفعهم وما يضرهم فبذا يكونوا قد نصروهم بهدايتهم التشريعية والتكوينية لهم ، فنصرة النبيّ لهم بأن ينصّب عليهم خليفة لا أن يتركهم هملا بلا راع يتناحرون ويتقاتلون من


أجل تنصيب الخليفة ، كما أن نصرة الولي لهم إنما تكون ببسط معارفه وأحكامه وإنفاذ أمره والأخذ منه لا أن يحبسوه في داره يحصون عليه أنفاسه ، بل يعتدون عليه وزوجه فيضربونها ويجهضونها ويكسرون ضلعها ، ويأخذونه مكبّلا بحمائل سيفه ليبايع ، فأي نصرة حينئذ منه للمؤمنين وهو بهذه الحال؟! وهل من النصرة أن يكون عليه‌السلام منكسر البال والخاصر يصيح ويبكي يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؟!!

أم أن النصرة تستدعي أن يكون ذا أنصار يجاهدون بين يديه ، يذبّون عنه الضيم ويدفعون عنه الأذى ، ويبسطون أفكاره وأحكامه ومعارفه!!

وبالجملة : قد دلت الآية الكريمة على انحصار الولاية بالله وبرسوله وأمير المؤمنين بأي معنى فسرت به الآية ، وأن ولايتهم من سنخ واحد ، فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين ممتازا على الناس جميعا بما لا يحيط به وصف الواصفين ، فلا يليق إلا أن يكون إماما لهم ونائبا عن الله تعالى عليهم جميعا ، لأن معنى نصرة الله ونصرة رسوله ونصرة أوليائه إنما هو التدخل في خصوصيات العباد والقيمومة على تصرفاتهم وشئون حياتهم ، وليس هناك معنى غير هذا المعنى للنصرة ، فلتذهب تأويلات العامة العمياء أدراج الرياح أمام نصرة الله ورسوله لوليه الأعظم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية :

إن الله تعالى نفى أن يكون لنا وليّ غير الله وغير رسوله والذين آمنوا بلفظة «إنّما» ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين ، لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم ، قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) ويشهد لما قلنا : أنّ لفظة «إنما» تفيد التخصيص ، لأن القائل إذا قال : إنما لك عندي درهم ، فهم منه نفي ما زاد عليه ، وقام مقام قوله : ليس لك عندي

__________________

(١) سورة التوبة : ٧١.


إلّا درهم. ولذلك يقولون : «إنمّا النحاة ، المدققون البصريون» ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم ، ومثله قولهم : «إنما السخاء سخاء حاتم» يريدون نفي السخاء عن غيره ، قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزة للكاثر

أراد نفي العزة عمّن ليس بكاثر ، ويدل أيضا على أن الولاية في الآية خاصة بأمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال : «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ وغيره ، ثم قال : «ورسوله» فأخرج النبيّ من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ، فلما قال : «والذين آمنوا» وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلّا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه ، وأدى إلى أن يكون كل واحد منهم وليّ نفسه ، وذلك محال (١).

فإذا ثبت أن المراد بها في الآية هو ولاية التصرف ، فيثبت أن أمير المؤمنين هو المخصوص بها وذلك لأمور :

الأول : أن كل من قال : إن معنى الولي في الآية معنى الأولى بالتصرف قال إن الإمام عليّا هو المخصوص به ، ومن خالف في اختصاص الآية يجعلها عامة في المؤمنين وقد تقدم بطلانه.

الثاني : إن الفريقين (الخاصة والعامة) رووا أن الآية نزلت فيه عليه‌السلام خاصة.

الثالث : إن الله وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلّا فيه ، لأنه قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فبيّن أن المعنى بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع ، وأجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وبما أن الآية واضحة الدلالة في ولاية أمير المؤمنين ، لذا كانت بدرجة من

__________________

(١) تفسير التبيان ج ٣ / ٥٦١ والفوائد البهية ج ٢ / ٢٠٤.


الوضوح حيث استدعى الأمر أن ينظم الشاعر حسان بن ثابت الذي عاصر النبيّ واصطحبه قصيدة تثبت ما فهمه المسلمون آنذاك من أن الآية نزلت بحقه عليه‌السلام.

قال حسان :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضائعا

وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد

ويا خير شارك ثم يا خير بايع

فأنزل فيك الله ولاية

وبيّنها في محكمات الشرائع (١)

شبهات وردود

اعترض على الفهم الإسلامي العام للآية جماعة من المتعصبين النواصب وعلى رأسهم الفخر الرازي في التفسير الكبير ، ونحن هنا نسوق شبهاتهم ثم نردّها على نحورهم.

الشبهة الأولى :

صحيح أن الواو حالية ، لكنّ الركوع محمول على الخشوع والخضوع أي : يعملون ذلك حال الخشوع والإخبات والتواضع الله تعالى إذا صلوا وإذا زكوا (٢). فعلى هذا يكون معنى الآية : أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة ، وأنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون.

__________________

(١) الغدير ج ٣ / ١٥٦ وكشف الغمة ج ١ / ٤١٢ وفرائد السمطين ج ١ / ١٩٠ والبحار ج ٣٥ / ١٩٧ وشواهد التنزيل ج ١ / ١٨٢ والفصول المائة في حياة أبي الأئمة ج ٢ / ١٥٧ ومنهاج البراعة ج ٢ / ٣٥٠ وروح المعاني للآلوسي ج ٤ / ٢٤٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٥ وتفسير الكاشف ج ١ / ٦٣٥ وروح المعاني ج ٤ / ٢٤٧.


والجواب :

١ ـ إنّ الركوع وإن كان في اللغة بمعنى مطلق الخشوع والخضوع لكنّه صار في الشرع اسما لركوع الصلاة ، كما أنّ الصلاة كان معناها في اللغة مطلق الدعاء ولكنها صارت في عرف المتشرعة والشرع حقيقة للصلاة ذات الأركان المخصوصة ، فقوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) لا يصح أن يراد به «وهم خاضعون» لأن الحقيقة الشرعية والعرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية ، ولم يستعمل في القرآن إلّا في ذلك المعنى كقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (١) وقوله تعالى (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢) وغيرهما من الآيات الكثيرة في القرآن المشتملة على لفظ الركوع الذي هو ركوع الصلاة لا الخشوع والتواضع ، بل لا يصار إلى المعنى الثاني ـ أعني الخشوع ـ إلا بقرينة تعيّن ذلك ، فيطلق عليه اسم الركوع تشبيها ومجازا ، لأن فيه ضربا من الانخفاض ، ويدل على ما قلنا نص أهل اللغة عليه ، قال ابن منظور :

ركع ركعا وركوعا : طأطأ رأسه وكل قومة يتلوها الركوع والسجدتان من الصلوات فهي ركعة ، قال الشاعر :

وأفلت حاجب فوت العوالي

على شقّاء تركع في الظّراب

فالراكع : المنحني ، وكلّ شيء ينكب لوجهه فتمسّ ركبته الأرض أو لا تمسها بعد أن يخفض رأسه فهو راكع. وركع الشيخ : انحنى من الكبر (٣).

مضافا إلى دلالة الروايات المتكاثرة من طرق العامة والخاصة على أن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه وهو في ركوع الصلاة.

٢ ـ إنّ تفسير الزكاة بالخضوع والخشوع إخراج لها عن معناها اللغوي الذي

__________________

(١) سورة المرسلات : ٤٨.

(٢) سورة آل عمران : ٤٣.

(٣) لسان العرب ج ٨ / ١٣٣.


قامت الأدلة الروائية المتواترة على اختصاصها بمولى الثقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والخروج عن مورد النص إلى غيره يعدّ اجتهادا في مقابله وهو الكفر بعينه قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (١) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٢).

٣ ـ إن صرف الركوع عن معناه المقرر بعرف الشرع والمتشرعة ، يفكّك الغرض الذي من أجله تعرضت له الآية الكريمة وهو ولاية الله التكوينية والتشريعية ، وولاية رسوله ومن يليه ممن فنى في الذات الإلهية المقدّسة ، فإن هؤلاء هم الأولياء الحقيقيون للمؤمنين ، فالقول بأن الركوع هو الخشوع وأن الراكعين هم الخاشعون يخلّ بوحدة سياق مفردات الآية الدالة على ولاية الله ورسوله التكوينية والتشريعية ، لأن دلالة السياق تدل على أن هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى.

ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا ، كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس الواقع في فهم مراد الآية عند العامة ، فعدم إفراده ولاية أخرى للمؤمنين بل إنه تعالى عطف ولايتهم على ولايته وولاية رسوله كل ذلك فيه دلالة قطعية أن هؤلاء الأولياء ليسوا أناسا عاديين بل إن طاعتهم طاعة الله كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) فطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطاعة أولي الأمر هي نفس طاعة الله ، فكما أن للأمة الطاعة لرسول الله إطاعة مطلقة ليسوقهم إلى الله تعالى وليحكم فيهم بأمر الله ، ويقضي لهم في جميع شئونهم ، كذا للأمة الانقياد إلى ولايته المطلقة التي ترجع بذاتها إلى ولاية الله سبحانه ، ونعني بذلك أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقدم عليهم

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) سورة المائدة : ٤٤.

(٣) سورة النساء : ٥٩.


بالطاعة والولاية ، وكذا الذين آمنوا الذين طاعتهم مطلقة على العباد ، فلا يمكن الفصل بين طاعة أولي الأمر وبين طاعة الله ورسوله لأن الطاعات الثلاث مقترنة فيما بينها ولا يجوز التفكيك بين طاعة وأخرى.

وعلى هذا الأساس فإن وحدة سياق الطاعات والولايات يقتضي أن يكون المؤمنون في آية الولاية هم جماعة مخصوصون مميزون بنزاهتهم وطهارتهم وقداستهم ، وهذه النزاهة والطهارة المطلقة لا يتملكها المؤمنون جميعا بل أفراد معينون ، فصرف الراكعين إلى الخاشعين يعني أنهم صاروا كلهم ـ أي المؤمنين جميعا ـ ممن انتقلت إليهم الولايتان : التشريعية والتكوينية ، وهو خلاف الفرض والوجدان ، كما أن الفصل بين الذين آمنوا الخاشعين ـ كما فعل العامة ـ وبين ولاية الله المطلقة وولاية رسوله كذلك يعتبر فصلا من دليل وهو غير جائز عدا كونه مفقودا.

٤ ـ إنّ التدبر واستيفاء النظر في الآية وما يحفّها من الآيات يعطي خلاف ما ذكروه ـ من أن المراد بالولاية النصرة وأن الراكعين هم المصلون الخاشعون ـ وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات ، وأن غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة ، وتمييز الحق من غيره ، فإن السورة وإن كان المسلّم نزولها في آخر عهد رسول الله في حجة الوداع ، لكنّ من المسلّم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ، ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك ، ومضامينها تشهد بذلك ، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده ، فليس مجرد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق ، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.

فالآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية ـ لصلتها بحادثة خاصة ـ عن مسير الآية التالية لها لاختلاف


الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدّق الإمام عليّ عليه‌السلام أثناء الركوع ، والآيات السابقة واللاحقة لها نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات ، ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما الآية المذكورة تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف ، وبديهي أن الوليّ والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشئون الولاية المطلقة. فظهر بما تقدم «أن آية الولاية والآية التي بعدها مباشرة لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة ، ولا يغرّنك قوله تعالى في آخر الآية (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة ، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة ، والغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله ورسوله بأي وسيلة تمت وحصلت» (١).

الشبهة الثانية :

إنّ المراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) في الآية عامة المؤمنين ، واستشهد أصحاب هذه الشبهة بما روي أنّ عبادة بن الصامت لمّا تبرأ من اليهود وقال : أنا بريء إلى الله تعالى من حلف قريظة والنضير ، وأتولّى الله ورسوله ، نزلت هذه الآية على وفق قوله ، وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله ، إن قومنا قد هجرونا ، وأقسموا أن لا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء ، فعلى هذا تكون الآية عامة في حق كل المؤمنين ، فكل من كان مؤمنا فهو ولي كل المؤمنين (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٨.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ٦٤.


والجواب :

١ ـ لقد أشارت النصوص من الفريقين أنّ الآية نزلت في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام على الصفة المذكورة ، فبطل ما يروى في خلاف ذلك ، فما ذكر من احتمال إرادة عموم المؤمنين ضعيف لا يعوّل عليه ، ولا يرجع إلى مستند ولا يعارض الأخبار الكثيرة الدالة على نزولها في حق الإمام علي عليه‌السلام.

٢ ـ إن الاستشهاد بخبر عبادة بن الصامت وعبد الله بن سلام على كون المراد من «الذين آمنوا» عامة المؤمنين لا وجه له ، لكون الآية دلت ـ بحسب مورد نزولها كما يدّعون بهذين الرجلين ـ على أن الله تعالى قد عوّضهم من محالفة اليهود ، ولاية الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا ، وبعبارة أخرى : إن الله جعل لهم بدل هجر قومهم إياهم ولاية من ذكرت الآية المباركة ، سواء أريد بالذين آمنوا العموم أو الخصوص ، فإذا كان هناك ما يدل على الخصوص لم يكن فيه منافاة لهذا الخبر.

والذي يكشف عمّا قلنا : أنه روي أنها لما نزلت خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت ، فقال لبعض أصحابه هل أعطى أحد سائلا شيئا؟ فقالوا : نعم يا رسول الله قد أعطى عليّ بن أبي طالب السائل خاتمه وهو راكع ، فقال النبيّ : الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآنا ، ثم تلا الآية إلى آخرها ، وفي ذلك بطلان ما قالوه (١).

وروى عطاء ، عن ابن عبّاس قال : نزلت ـ الآية ـ في علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢)

وروي عن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع ، فنحن نتولاه (٣).

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن للطوسي ج ٣ / ٥٦٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦ ، ورواها الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدة طرق ج ١ / ١٦١ ـ ١٨٦.

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦.


وروي عن أبي ذر رضي الله عنه قال :

صليت مع رسول الله يوما صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا ، وعليّ عليه‌السلام كان راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبيّ ، فقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) إلى قوله (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فأنزلت قرآنا ناطقا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) اللهم وأنا محمّد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أشدد به ظهري ، قال أبو ذر : فو الله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبرائيل فقال : يا محمّد اقرأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) (١).

لقد أجمع الرواة والمؤرخون والأخباريون ـ على حد تعبير الآلوسي ـ على أنها نزلت في علي كرّم الله وجهه (٢) ، فلا يناهض خبر أو خبران ذاك الكم الوفير من الروايات الدالة على أن الآية نزلت في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إذ كيف يعارض خبر واحد أخبارا متواترة ، ولو قدّم أحد الخبر الواحد على المتواتر ، فليعلم أنه لا يشم رائحة الفقاهة والاستنباط.

لا يمكن أن يراد ب «الذين آمنوا» في منطوقها جميع المؤمنين ، لأن المخاطبين بقوله تعالى (وليّكم) هم المؤمنون ، فلو أرادهم جميعا لزم أن يكون جميع المؤمنين أولياء أنفسهم ، وبطلانه أوضح من أن يختلف فيه اثنان من أهل اللسان ، وذلك لأنه لو أراد تعالى جميع المؤمنين لكان المعنى واللفظ هكذا (إنما وليّ المؤمنين الله ورسوله والمؤمنون) فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه ، وهو مستحيل عند ذوي العقول ، فلا يجوز حمل كتاب الله تعالى عليه إطلاقا.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦.

(٢) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٢٤٤ ، وقد أنهى الشيخ الأميني في (الغدير ج ٣ / ١٥٦ ـ ١٦٢) أسماء بعض من أخرج الحديث وأخبت له وبلغ عددهم ٦٦ مفسرا ومؤرخا.


هذا مضافا إلى أنه يلزم أن يكون من شرط إيمان المؤمنين أجمعين أن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وهم راكعون كما يدل عليه وصفهم في الآية ، وهو معلوم بضرورة الدين بطلانه.

٤ ـ إن جعل المؤمنين في الآية على قسمين : ناصرين ومنصورين ، يلغي حكم الحصر في أداة «إنّما» حيث إن مقتضى الآية بحكم أداة الحصر هو اختصاص الولاية لهؤلاء الثلاثة ، وهو إنّما يتم لو جعل مراد الآية هو «الأولى بالتصرف» ، بخلاف ما لو أريد بها النصرة ، ضرورة عدم اختصاص النصرة بهم بل يعمهم وغيرهم ، من المؤمنين غير الموصوفين بالصفة المذكورة لحصولها منهم ومن غيرهم ، وحينئذ فلا يكون للحصر فائدة ، مع أن أداة الحصر تنفي غير من وصفتهم الآية بإيتاء الزكاة حال كونهم راكعين ، وهذا معنى قولنا : إن الولاية بمعنى النصرة عامة من حيث عدم اختصاصها بالمؤمنين المتصفين بإيتاء الزكاة في حال الركوع ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

الشبهة الثالثة :

ذكر الرازي أن اللائق بالإمام عليّ عليه‌السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة ، والظاهر أنّ من كان كذلك فإنه لا يتفرّغ لاستماع كلام الغير وفهمه (١) ، وأكّد هذا الإيراد أيضا شمس الدين الهروي الحنفي حيث قال : پإنكم (والخطاب للشيعة) تقولون أن علياعليه‌السلام في حال صلاته في غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق جميع حواسه وقواه وتوجهها شطر الحق ، حتى أنكم تبالغون وتقولون كان إذا أريد إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت الحرب ، تركوه إلى وقت صلاته فيخرجونها منه وهو لا يحس بذلك لاستغراق نفسه وتوجهها نحو الحق ، فكيف مع ذلك أحسّ بالسائل حتى أعطاه خاتمه في حال صلاته (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣٠.

(٢) الأحقاق : ج ٢ / ٤٤١.


والجواب :

١ ـ قال الشاعر :

يعطي ويمنع لا تلهيه سكرته

عند النديم ولا يلهو عن الكاس

أطاعه سكره حتى تمكّن من

فعل الصحاة فهذا أفضل الناس (١)

وحاصل الجواب :

إن استغراق القلب بالذكر في الصلاة ، إنما ينافي التوجّه إلى الأمور الدنيوية الشاغلة عن الذكر ، وإعطاء الخاتم للفقير المستحق ابتغاء لمرضاته سبحانه والتوجه إلى سؤاله ، لا ينافي الاستغراق بل هو عين الذكر ، وتوجه الأمير عليه‌السلام إلى الفقر لا يلزم منه التفاتة إلى غير الحق ، لأنه فعل فعلا تعود نهايته إلى الحق ، فكان توجهه في الصلاة يعدّ عبادة ضمن عبادة ، وكان استغراقه بالله تعالى والتفاته إلى الفقير كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلا موافقا لفعل الصحاة ، ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه ، ولا خرج ذلك عن سكرته.

٢ ـ لو كان مطلق التوجه إلى الغير منافيا للاستغراق لم يتصوّر ذلك في حق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه قد حصل ذلك في حقه.

فقد روى البخاري الجم الغفير من ذلك منها ما عن ابن عبّاس قال :

قام النبيّ يصلي ، فقمت إلى جنبه ، فوضع رسول الله ـ وهو في الصلاة ـ يده اليمنى في رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده (٢).

ومنها ما ورد عن علقمة عن عبد الله قال : كنّا نسلّم على النبيّ وهو في الصلاة فيردّ علينا(٣).

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٢ / ٤١٤.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٣٦٣ ح ١١٩٨ باب استعانة اليد في الصلاة.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٣٦٤ ح ١١٩٩ وحديث رقم ١٢١٦.


وروي عن عائشة قالت : كنت أمدّ رجلي في قبلة النبيّ وهو يصلّي ، فإذا سجد غمزني ، فرفعتها ، فإذا قام مددتها (١).

وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ... فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها (٢).

وعن ابن عبّاس قال : بتّ عند خالتي ، فقام النبيّ يصلّي من الليل فقمت أصلي معه ، فقمت عن يساره ، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه (٣).

وعن أبي قتادة عن النبيّ قال : إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه (٤).

وعن أبي هريرة أن رسول الله قال : هل ترون قبلتي هاهنا؟ والله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا خشوعكم وإني لأراكم وراء ظهري (٥).

هذا وقد استدل أبو حنيفة على عدم جواز رد جواب السلام في الصلاة بأن رسول الله دخل مسجد بني عمرو بن عوف يصلي ودخل معه صهيب ، فدخل معه رجال من الأنصار يسلمون عليه ، فسألت صهيبا كيف كان يصنع إذا سلم عليه؟ قال : يشير بيده.

ولو كان استماع كلام الغير مطلقا منافيا للاستغراق كيف يستمع السلام ويشير بيده ويحمل طفل إمامة بنت زينب ، ويغمز رجل عائشة إلخ .. هذا مضافا إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة : الحيّة والعقرب وكذا في حال الإحرام وغيره (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ص ٣٦٧ ح ١٢٠٩ باب ما يجوز من العمل في الصلاة وحديث رقم ٥١٣.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ١٦٣ ح ٥١٦ باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢١٣ ح ٦٩٩ و ٦٩٨ وح ٧٢٦ وح ٧٢٨.

(٤) نفس المصدر ح ٧٠٧ وح ٧٠٨ وح ٧٠٩ وح ٧١٠.

(٥) نفس المصدر ح ٧٤١ وح ٧٤٢.

(٦) صحيح مسلم ج ١٤ / ١٩٢ كتاب قتل الحيات وغيرها.


٣ ـ أنه عليه‌السلام لما كان بكلّيته متوجها إلى الله تعالى ، مقبلا إليه معرضا عما سواه خالصا في العبادة ، نبهه الله سبحانه بالإلهام والإلقاء في الروع في هذه العطية الكريمة ، وذلك لعموم إفضاله جلّ شأنه على عباده فكيف بالمؤمن السائل في بيته أعني المسجد النبوي.

فلا غرو أن يلقي في قلب وليه إعانة المسكين المفتاق ، فالتصدّق طاعة في طاعة ، ومن الضروري التأكيد على أن الذوبان في التوجه إلى الله تعالى ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه ، ولا أن يكون بدون إرادة ، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله تعالى.

الشبهة الرابعة :

أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير ، واللائق بحال عليّ عليه‌السلام أن لا يفعل ذلك(١).

جوابها :

١ ـ إننا لا نسلّم كون خلع الخاتم عملا كثيرا لأن الخاتم كان مرجا (٢) في خنصرهعليه‌السلام ، فلم يتكلّف خلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.

٢ ـ لا يفسد ـ عند فقهاء الإمامية ـ الصلاة إلّا العمل الكثير الماحي لصورة الصلاة ، ومن هنا خلع الخاتم غير ماح لصورتها بل هو أهون من قتل الحية والعقرب وهو في الصلاة ، وقد اتفق على ذلك كل فرق المسلمين.

الشبهة الخامسة :

وهذه الشبهة أيضا للرازي قال : إن المشهور أنه عليه‌السلام كان فقيرا ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ..» (٣).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣١.

(٢) المرج : سهل الخلع.

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣١.


فكأنّ الرازي حمل الزكاة على الصدقة الواجبة المعروفة عند المتشرعة ، وإطلاقها بنظره ـ على الصدقة المندوبة خلاف الظاهر.

والجواب :

١ ـ يشهد التاريخ على أنه عليه‌السلام كان يمتلك المال الوفير الذي حصل عليه من كدّ يمينه وعرق جبينه فتصدّق به في سبيل الله تعالى ، وقد نقل لنا رواة التاريخ بأسانيد صحيحة أنه عليه‌السلام أعتق وحرّر الف رقبة من الرقيق ، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته ، مضافا إلى أنه عليه‌السلام كان يحصل على حصته من غنائم الحرب ، هذا بالغض عن أن تحصيل المال سهل عليه عبر الكرامة إذ من البعيد جدا أن يبخل المولى عزوجل على عبده الإمام عليّ بن أبي طالب الذي انقطع إلى الذات الأحدية انقطاعا تاما.

وعلى كل حال فإنّ ما امتلكه عليه‌السلام من المال البسيط الذي ادخره لحاجات نفسه لا زكاة فيه ، وعليه فلا يمنع العقل والشرع بأن يمتلك الإمام علي عليه‌السلام خاتما لا سيّما وأن تزيين الكف بالخاتم من سنن الأنبياء والمرسلين وهل يترك أمير المؤمنين هذا الشيء المرغوب فيه عند سيّد المرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ كلا وألف كلا ، فلا مانع إذن أن يتصدّق الأمير عليه‌السلام بخاتمه أسوة بغيره من الأنبياء والأولياء والمؤمنين حتى الفقراء منهم حيث لا يبخلون على أنفسهم بخاتم يلبسونه التماس الثواب والبركة.

٢ ـ إن الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة إنما هي اصطلاح مستحدث ، والقرآن الكريم قد استعملها بمعناها اللغوي العام جريا على ما يقتضيه عرف المحاورة عند أهل اللغة وغيرهم.

فالزكاة ـ كما صرّح اللغويون ـ بمعنى الصدقة ، لأن الزكاة وإن اشتهرت في الشرع بأنها الصدقة الواجبة ، لكنها تطلق على المستحبة أيضا بكثرة ، وقد ورد في القرآن العظيم ما يوضّح هذا المعنى قبل أن تشرّع الزكاة المصطلحة عندنا ، فقال


تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (١).

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) (٢).

ولا شك في أن المراد بالزكاة هنا الإنفاق لوجه الله تعالى ، وهو الزكاة المستحبة ، وأكثر ما وردت بهذا المعنى في السور المكية ، لأن وجوب الزكاة كان قد شرّع بعد هجرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة كما أشارت إليه الآيات التالية :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣).

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٤).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٥).

وإطلاق الزكاة على الصدقة الواجبة في الآيات المدنية لا يلغي استعمالها في الصدقات المندوبة لكون آية الولاية مدنية ، وذلك لصحة إطلاقها على الزكاة المندوبة تماما كصحة إطلاقها على الواجبة ، وكونه فقيرا لا مال له حتى يجب فيه الزكاة ، لا ينافي إعطاء الزكاة تطوعا ، قال شاعر العقيدة الفرزدق رضي الله عنه وأرضاه :

لا يقبض العسر بسطا من أكفهم

سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما

يستو كفان ولا يعروهما العدم ..

__________________

(١) سورة مريم : ٣١ وهي مكيّة.

(٢) سورة الأنبياء : ٧٣ وهي مكية.

(٣) سورة النور : ٥٦ وهي مدنية.

(٤) سورة البقرة : ١٧٧ وهي مدنية.

(٥) سورة النساء : ٧٧ مدنية.


تنبيه :

لا يخفى أنّ فقره عليه‌السلام لم يكن من عجزه وعدم تمكّنه من جمع المال بل إنما هو من كثرة جوده وسخائه ، وكفى بذلك أنه كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام ونحوه ومع هذا لم يخلّف ميراثا ولا درهما ولا دينارا ، وشاهد صدق على هذا قصة تصدّقه بالخاتم عليه‌السلام.

الشبهة السادسة :

إن تعجّل الإمام عليه‌السلام في إخراج الزكاة الواجبة في الصلاة يتنافى تحديده مع الصلاة ، وهذا لا يصح في حقه ، فيستتبع ذلك الطعن في أصل قضية التصدق في الصلاة.

والجواب :

إن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة ، ولا يتنافى هذا التحديد مع الصلاة ، أي لا فرق في الإخراج سواء أكان وقت الأداء خارج وقت الصلاة أم أثنائها.

وبعبارة أخرى : إن الشرع لم يقيّد لدفع الزكاة زمنا محددا بعينه ، بل أطلقه سواء كان أداء الدفع أثناء الصلاة أم خارجها ، فالإطلاق في أداء الدفع يعني أن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة.

كل هذا مبني على أن الزكاة في الآية بمعنى الصدقة الواجبة ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها ، وذلك لأن عدم وجوب الزكاة عليه لم يكن من أجل عدم تملّكه للنصاب ، بل لأن المانع من تعلق الوجوب هو أنه عليه‌السلام لم يكن حريصا على جمع المال حتى يحول عليه الحول ، فكان الجود والسخاء أو الزهد يمنع من الادخار ، ولأن اللازم على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره.


أما على مبنى أن الزكاة بمعنى الصدقة المستحبة ـ وهو الصواب ـ فلا مجال لهذا الإشكال قطعا فتأمل.

الشبهة السابعة :

إن تفسير المسلمين الشيعة للآية موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية ، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة أو المحبة والنصرة ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (١) لا يراد منه ولاية التصرف في الأرواح والأموال لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة ، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحبابا وأنصارا فلا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) والظاهر ـ كما يدّعي الرازي ـ أن الولاية المأمور بها هاهنا هي المنهى عنها فيما قبل ، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة ، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام ، لأن ذلك يكون إلقاء الكلام الأجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد ، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ، ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه (٢).

والجواب :

١ ـ ما استدل به الرازي على كون الآية بمعنى النصرة لوحدة سياق الآية السابقة واللاحقة على آية الولاية ، وأنه لو لا ذلك للزم إلقاء الكلام الأجنبي بين كلامين مسوقين لغرض واحد ، هذا الكلام دونه خرط القتاد ، وذلك بمنع الملازمة المذكورة ، إذ إنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية ، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها ، أي أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥١.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.


الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية لصلتها بحادثة خاصة عن مسير الآية التالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أثناء الركوع ، أما الآيات السابقة واللاحقة لها فقد نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما آية الولاية تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف ، وبديهي أن الولي والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشئون الولاية المطلقة.

وبعبارة أخرى :

إن الولاية بمعنى النصرة شأن من شئون الولاية المطلقة ، فحيث نهى سبحانه عن اتخاذ الكفار أولياء أي أنصارا أثبت الولاية المطلقة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين الموصوفين ، ومن المعلوم أن الولاية المطلقة أي التصرف في أمور المؤمنين على وجه الإطلاق شاملة للتصرف بالنصرة ، فعلى ذلك يكون في الآية دلالة على كون الله ورسوله والمؤمنين الموصوفين ناصرين لسائر المؤمنين على وجه الكمال ، ولا تكون النصرة إلا بقيام الناصر بأمور المنصور ، وهذا هو معنى ولاية التصرف ، وبذا يلتئم أجزاء الكلام على أحسن اتساق وانتظام.

٢ ـ منع الملازمة الأجنبية الموجبة للركاكة ، إذ المجانبة بينها ليست بأزيد من المجانبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا


ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١).

فعلى تقدير تسليم الركاكة فيكون ذلك اعتراضا على خليفتهم عثمان الذي جمع القرآن بهذه الصورة ، فحرّف الكلم عن مواضعه ولم يرتّب الآيات كما هو حقها.

٣ ـ إن توافق الآيات وجريانها على نسق واحد ، وكان مقتضيا لحمل الولي هاهنا على الناصر وموجبا لظهوره فيه ، إلا أنه إذا امتنع حمله عليه بمقتضى كلمة الحصر والجملة الوصفية الظاهرتين في المعنى الآخر ، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور ، وبعبارة أخرى ظهور التناسق ـ لو سلّمنا جدلا بحجيته ـ يوجب حمله على الناصر إلّا أنه معارض بظهور الحصر والوصف في المعنى الآخر إن لم يكونا نصّين فيه ، والثاني أقوى من الأول فيجب المصير إليه.

الشبهة الثامنة :

قال الرازي : أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع ، وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنه مجاز لا حقيقة ، والأصل حمل الكلام على الحقيقة (٢).

والجواب :

١ ـ إن الأصل في الاستعمال وإن كان هو الحقيقة ، إذ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر ولا يجوز بدون قرينة ، إلّا أنه هنا قد قامت القرائن القطعية من أخبار الفريقين على إرادة المعنى المجازي ، فلا بدّ من حمل اللفظ عليه أسوة بغيره من المجازات القرآنية والأحاديث النبوية فأي ضير لو استعمل اللفظ في المعنى المجازي؟!

٢ ـ إن الفخر الرازي نفسه فسّر قوله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.


وَالسَّعَةِ) بأبي بكر فقال : إن المراد من أولي الفضل أبو بكر وكنّى عنه بلفظ الجمع ، والواحد إذا كني عنه بلفظ الجمع دلّ على علو شأنه كقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) و (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فانظر إلى الشخص الذي كنّاه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه (١).

فحمل الجمع على التعظيم بأبي بكر ليس بأولى وأوجب من حمله على مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بل لا يقاس الأوّل بالثاني أبدا.

٣ ـ التعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص وعظمة دوره الفعّال فكأنه أمة في رجل ، وإمّا ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أن سجيّة المؤمنين لا بدّ أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخروه إلى الفراغ منها.

٤ ـ لا يخفى ما في حسن التعبير بلفظ الجمع من اشتماله على التعظيم كما ورد في كثير من آي القرآن ما يدل على تعظيم الذات الإلهية بضمير الجمع.

هذا مع التأكيد على أن كتب الأدب العربي ذخرت بجمل تم التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع لما يحويه اللفظ من معاني متعددة تضفي عليه سحر البيان وقوة الحجة ، والقرآن الكريم استعمل نفس الأسلوب كما في آية المباهلة ، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أن الروايات التي ذكرت سبب نزولها أكدت أن المراد من هذه الكلمة هي الصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الزهراء فاطمة عليها‌السلام وحدها ، وكذلك في كلمة «أنفسنا» في نفس الآية وهي صيغة جمع ، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع الرسول غير الإمام عليّ عليه‌السلام وكذلك ما ورد في سورة آل عمران / ١٧٢ قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ..).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢٣ / ١٨٧ سورة النور : ٢٢.


وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت بنعيم بن مسعود في واقعة أحد ، فعبرت عن الواحد بالجمع.

وكذا قوله تعالى في نفس السورة آية ٥٢ (... يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) فنزلت في عبد الله بن أبي ، فهو القائل (يقولون ..) وكذا غيرها (١) من الآيات التي جاءت بصيغة الجمع بينما موارد نزولها هو شخص واحد.

الشبهة التاسعة :

قال الناصبيّ (٢) : إنّا قد بيّنا بالبرهان البيّن أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (٣) من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر ، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة عليّ لزم التناقض بين الآيتين ، وذلك باطل ، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليّا هو الإمام بعد الرسول (٤).

يرد عليه :

١ ـ ما ذكره الناصبيّ تضحك منه الثكلى لأن ما ادعاه خلاف ما اتفقت عليه الأمة ، أما الخاصة فلأنهم اتفقوا على أن الآية ٥٤ من سورة المائدة إنما هي إشارة إلى ظهور دولة الإمام المهدي عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف المتمثلة بشخصه المبارك المقدّس ، وعليه قد دلت الأخبار المتضافرة من طرقنا وطرق العامة كما رواها في غاية المرام ، كما أن المراد بالمرتدين هم الناكثون والقاسطون والمارقون ، وبقوم يحبهم ويحبونه هم أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه كما في أخبار أخر.

وأما العامة فلاتفاقهم على أن خلافة أبي بكر كانت مستندة إلى البيعة لا إلى

__________________

(١) سورة الممتحنة : ١ والمنافقون : ٨ والبقرة : ٢١٥ و ٢٧٤.

(٢) أي فخر الدين الرازي في تفسيره.

(٣) سورة المائدة : ٥٤.

(٤) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.


النص ، هذا مضافا إلى أنه لو كانت الآية المذكورة دالة على صحة خلافة أبي بكر فلم لم يستدل بها يوم السقيفة؟!

٢ ـ إن ما ادّعاه الناصبيّ خلاف ما رواه العامة من أن المراد بالآية هم قوم أبي موسى الأشعري اليمني لكونه من اليمن ، أما دعوى أن المراد منها أبو بكر فلم يرو بهذا الصدد سوى خبر واحد لا يقاوم الأخبار المتظافرة عندهم والتي دلت على أن المراد بالقوم هم أهل اليمن ، وقيل إن المراد بالآية الذين جاهدوا يوم القادسية ، وقيل هم الفرس.

قال الناصبي الآلوسي :

«والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده ، والطبراني والحاكم وصحّحه من حديث عياض بن عمر الأشعري أنّ النبيّ صلى الله عليه [وآله] لمّا نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري ـ وهو من صميم اليمن ـ وقال : هم قوم هذا ، وعن الحسن وقتادة والضحّاك أنهم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة ، وعن السدي أنهم الأنصار ، وقيل : هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النقع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس ، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر ، وقال الإمامية : هم عليّ كرّم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين ، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه ، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة ، وقيل : هم الفرس لأنه صلى الله عليه [وآله] سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ، وقال : هذا وذووه ، وتعقبه العراقي قائلا : لم أقف على خبر فيه ، وهو هنا وهم ، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة فمن ذكره هنا فقد وهم» (١).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٢٣٩.


يرد عليه :

إن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ..) هي في قوة قوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ..) فتكون الثانية مفسرة للأولى ، وعليه فلا معنى لحصرها بأبي بكر وأصحابه كما يريد الرازي وأمثاله أن يحصروها فيه في حين أن النصوص العامية (١) الكثيرة قد دلت على أن المراد من الآيتين المذكورتين هو أهل اليمن وأهل فارس. هذا مضافا إلى أن النبي قال يوم خيبر في حق الإمام علي عليه‌السلام : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. وصفة المحبة الموجودة في الآية لا تنطبق إلا على أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بحسب تصريح النبي بذلك ، ولو كان أبو بكر محبا لله ولرسوله لكان على النبي أن ينص على ذلك ، فعدم تنصيصه يدل على خلو أبي بكر من صفة المحبة لله ولرسوله ، فكيف تشمله الآية حينئذ كما يدّعي العامة؟!

الشبهة العاشرة :

قال الناصبيّ : إن عليّ بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض ، فلو كانت هذه الآية دالة (٢) على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل ، وليس للقوم أن يقولوا أنه تركه للتقية ، فإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير ، وخبر المباهلة ، وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته ، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله (٣).

والجواب :

دعوى الرازي «بأن أمير المؤمنين لم يتمسك بالآية يوم الشورى» ممنوعة ،

__________________

(١) لاحظ تفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٢ / ٥١٨.

(٢) آية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٩.


بل قد تمسك بها كما تمسك بغيرها كخبر الغدير والمباهلة وغيرهما.

وقوله : «إن الأمير عليه‌السلام لم يتمسك بالآية يوم الشورى» لا يخلو من أمرين :

ـ إما أنّه أراد به عدم ورود تمسكه بها في أخبارهم.

وإما أنه أراد به عدم ورود خبر على ذلك من طرق الخاصة.

فإن كان الأول فمسلّم إلّا أنه لا يوجب القطع بعدم التمسك ، إذ جلّ المسائل الاعتقادية الحقة لم يرد به رواية منهم ، وهو لا يدل على انتفاء تلك المسائل واقعا.

وإن كان الثاني ففيه منع ، وذلك لورود أخبار كثيرة عند الخاصة (١) تشير إلى أنه عليه‌السلام تمسك بالآية كما تمسك بغيرها من الآيات والأخبار ، ولم يتمسك الأمير عليه‌السلام بالآية في الشورى فحسب بل احتج بها على أبي بكر لمّا ولي الخلافة ، فقد ورد عن ابن بابويه بإسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الإمام علي بن أبي طالب عليه وآله السلام أنه قال :

فأنشدك الله ـ يا أبا بكر ـ أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي يوم الغدير أم أنت؟ قال : بل أنت.

قال : فأنشدك بالله ألي الولاية من الله مع رسوله في آية الزكاة بالخاتم أم لك؟ قال : بل لك (٢).

فظهر مما ذكرنا غفلة الناصب اللعين عن أخبار الشيعة أيدهم الله تعالى ، ولا غرو في ذلك فإنه جاهل بما هو أعظم من ذلك ، وليس ذلك من الظالمين ببعيد.

__________________

(١) لاحظ الاحتجاج للطبرسي ج ١ / ١٩٢ وبحار الأنوار ج ٣١ / ٣٢٠ نقلا عن أمالي الشيخ والخصال والإرشاد.

(٢) الاحتجاج ج ١ / ١٦١ وغاية المرام نقلا عن مجالس الشيخ.


الشبهة الحادية عشرة :

قال الناصبيّ : هب أن الآية دالة على إمامة عليّ لكنّا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال ، لأن عليا ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول ، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن عليا سيصير إماما بعد ذلك ، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان ، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت (١).

والجواب :

١ ـ إن ولاية الله تعالى تعني الأولى بالتصرف فعلا لا قوة ، وهذه الولاية الفعلية أعطاها سبحانه وتعالى لرسوله ولوليّه عليّ بن أبي طالب فولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت نافذة وفعلية في عهد رسول الله ويشهد له قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ..» (٢). لقد أشاد الرسول بولاية الإمام عليّ الفعلية في حياته وبعد مماته ، فهذا المعنى كان حاصلا له حال النزول ، لكنه لم يستعملها بشكل مطلق تماما كرسول الله لم يستعمل ولايته التامة على الأمة ، فعدم استعماله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولايته التامة ليس معناه عدم امتلاكه لها ، وكذا الإمام عليّ عليه‌السلام فما هو لرسول الله هو له عليه‌السلام ، فعدم الاستعمال ليس ملازما لعدم الولاية الفعلية.

٢ ـ لو سلّمنا أن الآية مفيدة لكونه وليا في المستقبل نظرا إلى كون الوليّ بمعنى المتصرف ، إلّا أنّا نمنع كون إمامته عليه‌السلام بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ الآية كما هي مثبتة لإمامتهعليه‌السلام كذلك نافية للإمامة عن غيره ، وعليه فلا يبقى للثلاثة خلافة حتى يتأخر أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عنهم أو يتقدم عليهم وهو ظاهر.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٩.

(٢) ويشهد له قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) في آية المباهلة حيث جعل الله سبحانه الإمام عليا نفس رسول الله ، فما ثبت للرسول الأعظم هو بعينه ثابت لأمير المؤمنين علي (ع).


هذه أهم الشبهات التي أوردها المخالفون على آية الولاية مع الإجابة عليها ونقضها بحمد الله تعالى.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (١).

تقريب الاستدلال بالآية أنه سبحانه أوجب طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الرسول ، وهو يقتضي عموم طاعتهم ولم يقيّدها سبحانه بشيء من الأشياء ، ولو أراد التقييد لكان عليه أن يبيّن هذا ، فلمّا لم يكن هناك قيد دل على إرادة الكل ، بحيث تجب طاعتهم في كل ما يأمرون وينهون وتنفذ أقوالهم في كل ما يريدون ، فإذا ثبت ذلك لا بد وأن يكون وليّ الأمر معصوما عن الخطأ ، إذ مع عدم عصمته عن الخطأ لم يؤمن من وقوع الخطأ منه ، وعلى تقدير وقوع الخطأ منه يلزم أن يكون قد أمرنا عزوجل بمتابعته فيلزم منه أمره سبحانه بالقبيح وهو محال ، فثبت أن أمره بمتابعة أولي الأمر وطاعتهم يستلزم العصمة لهم ، وإذا ثبت دلالة الآية على العصمة وعموم الطاعة ثبت أن المراد بأولي الأمر فيها الأئمة من آل البيت عليهم‌السلام ، إذ لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه مع النبيّ إلا هم سلام الله عليهم.

وبعبارة أخرى : إن الله تعالى أوجب على العباد طاعته مطلقا ، وكذا أوجب طاعة رسوله الكريم وطاعة أوليائه الميامين على نحو الإطلاق وهو لا يتم إلّا بعصمة أولي الأمر ، لأن الإطاعة المطلقة المعطوفة على طاعة الله وطاعة رسوله تستوجب وتستلزم عصمة أولي الأمر ، فإن غير المعصوم قد يأمر بمعصية فتحرم طاعته فيها ، فلو وجبت أيضا لاجتمع الضدان : وجوب طاعته وحرمتها.

قد يقال : إنّا نحمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات دون غيرها.

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.


نقول : لا يصح هذا الحمل المزعوم لكونه منافيا لإطلاق الآية ، ولأنّ هذا الحمل لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم لله تعالى في وجوب الطاعة مطلقا ، فحصر وجوب الطاعة في الطاعات خلاف الإطلاق في الآية ، على أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأولي الأمر بل تجب طاعة كل آمر بالمعروف ، فلا بد أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر وأنهم لا يأمرون ولا ينهون إلا بحق.

ولا إشكال إنّ تكرار الأمر بالطاعة ليس للتأكيد «فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار أدل عليه وأقرب منه كما لو قيل : أطيعوا الله والرسول فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الإطاعتين واحدة ، وما كل تكرار يفيد التأكيد» (١).

والآية المباركة توحي بوجوب ثلاث طاعات :

الأولى : إطاعته سبحانه فيما أوحاه إلى رسوله في الكتاب الكريم ، وفي كل ما أمر به.

الثانية : إطاعة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أوحى إليه بالسنّة المطهرة ، وفيما صدر منه من رأي ، سواء المتعلق بالحكومة والقضاء أم في مجال إبداء الرأي في الأمور الشخصية والموضوعات الجزئية حتى تلك التي لا يترتب عليها حكم شرعي ، لشمول أدلة العصمة له فيها.

الثالثة : إطاعة أولي الأمر عليهم‌السلام فيما يبيّنون من الأحكام وفي مجالات الحكومة والقضاء وإبداء الرأي في الأمور كلها كما كان ذلك ثابتا لرسول الله.

وبالجملة : «فالرسول له حيثيتان :

الأولى : حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب ، وهو ما يبيّنه للناس

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٢ / ٣٨٨ للعلامة الطباطبائي.


من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١).

الثانية : ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء ، قال تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٢) وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس ، وهو الذي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم به في عزائم الأمور ، وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة ، فقال (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (٣) فأشركهم به في المشاورة وو حدّه في العزم.

وبهذا نعرف أن لإطاعة الرسول معنى ، ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر ، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبيّنه بالوحي ، وفيما يراه من الرأي. وأما أولو الأمر فهم وإن لم يكن لهم نصيب من الوحي التشريعي عدا الوحي التسديدي فإنهم يشاركون الرسول فيه بلا إشكال ، مع اشتراكهم معه في مجال الرأي والموضوعات الجزئية ، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم ، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خصّ الله والرسول ، فقال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) «وذلك أن المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والتنازع إنّما هو تنازعهم بلا ريب ، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم ، وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية

__________________

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ١٠٥.

(٣) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٤) سورة النساء : ٦٤.


المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسنّة ، والكتاب والسنّة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما ، وقول أولي : في أن الكتاب والسنّة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإنّ الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط والجميع راجع آخر الأمر إلى الكتاب والسنّة.

من هنا ليس لأولي الأمر عليهم‌السلام إلا ما لله تعالى وما لرسوله من الحكم أعني الكتاب والسنّة ، لذا لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فلله تعالى إطاعة واحدة ، وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة ، ولذلك قال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وهذه الإطاعة المأمور بها في الآية المباركة إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد ، وهو دليل واضح على أن الرسول لا يأمر بشيء ، ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة وإلّا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ، ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا بعينه جار في أولي الأمر عليهم‌السلام» (١).

مضافا إلى ما تقدم فإنّ عصمة الرسول وأولي الأمر في الأحكام لا يعني عدم عصمتهم في مجال إبداء الرأي وتشخيص الموضوعات ، إذ إنّ عصمتهم في هذه الناحية مستفادة من الإطلاق الموجود في صيغة افعل : «أطيعوا» فليست الإطاعة مشروطة في حكم الكتاب والسنّة فحسب بل تتعداها إلى غيرها من المجالات الأخرى.

وبهذا التقرير ظهر ضعف ما ذهب إليه العامة من حمل أولي الأمر على المتخلّفين الثلاثة أو على أمراء السرايا أو على الحكام والعلماء ، ضرورة انتفاء العصمة عنهم جميعا ، مضافا إلى عدم وجوب طاعة الأمراء كالعلماء على نحو

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٤ / ٣٨٨ بتصرف ببعض الألفاظ.


العموم باتفاق الخاصة والعامة ، وإنما طاعة الأمراء واجبة فيما لو كانوا مؤمنين وكانوا مع الحق ، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية ، على أنّ الأمراء كالعلماء ربّما يختلفون في الآراء ، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض ، وإذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر لا محالة.

وقد ذكر فخر المشكّكين الرازي خمسة وجوه في معنى «أولي الأمر» :

١ ـ أنهم الخلفاء الراشدون.

٢ ـ الأمراء والحكام.

٣ ـ العلماء بالأحكام والشرائع.

٤ ـ الإجماع.

٥ ـ ما نقل عن الروافض ـ حسب تعبير فخر النّواصب الرازي ـ أنهم الأئمة المعصومون(١).

وكل هذه الوجوه باطلة سوى الخامس لكون أئمة آل البيت عليهم‌السلام هم القدر المتيقن من أولي الأمر لثبوت أدلة العصمة لهم بالآية ونظائرها ، وللأحاديث المتواترة على ذلك ، وهذه الوجوه هي في الواقع شبهات قامت الأدلة على بطلانها.

الوجه الأول :

تقريره : أن أولي الأمر في الآية هم الخلفاء الراشدون (٢) وهم الذين شغلوا منصب الخلافة بعد رسول الله لكونهم حكاما على الأمة يرعون مصالحها ، فلا بدّ أن تكون أوامرهم نافذة على الخلق.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.


والجواب :

١ ـ إن مدلول الآية دال على عصمة أولي الأمر ، ولا عصمة في هؤلاء المزعومين سوى الإمام عليّ عليه‌السلام حيث ثبتت عصمته بآية التطهير وبوجوب الإطاعة المطلقة في هذه الآية طبقا للأحاديث النبوية الشريفة الدالة على ذلك كحديث الثّقلين وحديث عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار إلى غير ذلك من النصوص القطعية المثبتة ذلك.

٢ ـ إن تخصيص أولي الأمر بالخلفاء يعتبر تقييدا من دون دليل يدل عليه ، هذا مضافا إلى أن مؤداه يقتضي نسبة العصمة للمتقدمين على مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حين قامت الأدلة القطعية والإجماع على بطلان ذلك.

الوجه الثاني :

إن المراد ب «أولي الأمر» هو الأمراء والحكام في كل زمان ، وإن نزلت الآية بخالد بن الوليد حيث نصبه النبيّ أميرا على بعض السرايا ، وكان معه عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم النذير فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ، ثم أقبل يمشي حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه ، فقال : يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله ، وإن قومي لمّا سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ قال عمار : بل هو ينفعك فأقم فأقام ، فلمّا أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله ، فبلغ عمارا الخبر ، فأتى الخبر ، فقال : خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبيّ فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، فاستبا عند رسول الله فقال خالد : أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ، فقال رسول الله : يا خالد لا تسبّ عمارا فإنّ من سبّ عمارا يسبه الله ومن يبغض عمارا يبغضه الله ، ومن يلعن عمارا يلعنه الله ، فغضب عمار فقام


فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عزوجل قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١).

وبالجملة : فإن الآية ـ بنظر أصحاب هذا الرأي ـ نزلت بالأمراء والحكام ، وعلى المسلمين أن يطيعوهم في كل حال ، ورووا في ذلك أخبارا منها :

عن أنس أن رسول الله قال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة(٢).

وعنه أيضا قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع الأطراف(٣).

وعنه أيضا : من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية (٤).

يورد عليه :

١ ـ إنّ كل ما أوردناه على الوجه الأول ، يجري على هذا الوجه أيضا.

٢ ـ إن هذا التفسير لا يتناسب مع مفهوم الآية وروح الإسلام ، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة الأمراء والحكام والحكومات ـ مهما كانت طبائعهم ـ من دون قيد أو شرط بإطاعة الله والرسول ، لأنّ الله تعالى لا يأمر بإطاعة السهو والغلط ، والأمراء والحكام ليسوا مأمونين من ذلك ، فقبيح أن يأمر سبحانه بإطاعتهم.

قد يقال :

إن طاعة هؤلاء مشروطة بعدم عصيانهم ومخالفتهم لقوانين الشريعة ، فلا بأس حينئذ أن تأمر الآية بإطاعتهم ما داموا في طاعة الله تعالى.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٤٥ وأسباب النزول للواحدي ص ١٣٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٤٥.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر.


وبتعبير آخر : «إن الله فرض طاعتهم على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنّة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول الله «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يقيّد إطلاق الآية ، وأما الخطأ والغلط فإن علم به ردّ إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنّة ، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطأه ، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة وبقاء السؤدد والأبهة تتدارك بها هذه المخالفة ، ويعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها ، وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق» (١).

والجواب :

١ ـ من الممكن تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وكما في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٢) وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصّبهم رسول الله ، وكذا الحكام الذين يولّيهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة ، وكحجية قول الفقيه على مقلده ، ولكنه لا يوجب تقييد الآية ، فكون مسألة من المسائل صحيحة ـ في نفسه ـ أمرا على حدا ، وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمرا آخر.

٢ ـ الآية المباركة دالة على وجوب إطاعة أولي الأمر ، بحيث لم تقيد مفهوم الإطاعة ، ولم تشترط فيه شرطا ، فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور بموجب مقدمات الحكمة أو الوضع ، هذا مضافا إلى أنه ليس في الآيات القرآنية الأخرى ما

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٤ / ٣٩٠.

(٢) سورة الأعراف : ٢٨.


يقيّد الآية المباركة في مدلولها ، حتى يعود معنى قوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إلى مثل قولنا : وأطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم ، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالرد إلى الكتاب والسنّة ، مع أنه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله تعالى في الوالدين : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (١) فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين ، وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية؟ على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأولي الأمر ، وذكر لهما معا طاعة واحدة فقال : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم ، فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلّا أن يذكر القيد الوارد عليهم ، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد ، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله من غير فرق.

الوجه الثالث :

إن المراد من «أولي الأمر منكم» هم العلماء العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسنة معرفة كاملة ، واستدل أصحاب هذا الرأي بعموم اللفظ الوارد في «أولي».

قال ابن كثير : والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء(٢).

والجواب :

١ ـ ما أشكلناه على الوجه الثاني ، يجري بعينه هنا.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٨.

(٢) تفسير القرآن العظيم ج ١ / ٤٤٥.


٢ ـ إن قوله تعالى (وَأُولِي الْأَمْرِ) معناه : أطيعوا من له الأمر ، وهذا ليس مختصا بالعلماء وحدهم بل يشمل كل من له الأمر ، فتخصيص الإطاعة حينئذ بالعلماء دون غيرهم يعتبر ترجيحا من دون مرجح أو دليل.

٣ ـ كما لا يجوز تخصيص طاعة الله وطاعة الرسول في شيء دون شيء ، كذا لا يجوز تخصيص طاعة أولي الأمر في حال الصواب دون غيره ما لم ينصب قرينة على ذلك وهي مفقودة في الآية بحكم الالتحام بين طاعة الرسول وأولي الأمر ، وهذا الالتحام دليل على عصمة أولي الأمر الذين يختلفون عن العلماء بعصمتهم وطهارتهم.

هذا مضافا إلى عدم وجوب طاعة العلماء والأمراء على نحو العموم باتفاق الجميع ، فطاعة الأمراء واجبة فيما لو أمروا بالحق ، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية ، على أن العلماء كالأمراء ربما يختلفون في الآراء ، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض ، وإذا أطاع المؤمن بعض العلماء عصى الآخر لا محالة لاختلافهم في الآراء ، فمن البعيد جدا أن تقصد الآية إطاعة العلماء من حيث عدم اتصافهم بملكة العصمة ، لما في الأمر بإطاعتهم مفسدة عظيمة من حيث كثرة اختلافهم في الآراء والأحكام.

٤ ـ لو فرضنا وجوب إطاعة العلماء في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنّة ، لكن لا تكون إطاعتهم شيئا غير إطاعة الله وإطاعة النبيّ ، فلا حاجة إلى ذكرها بصورة مستقلة ، مما يعني أن أولي الأمر غير العلماء المعرّضين للخطأ في الأحكام والآراء ، فأولوا الأمر معصومون تجب طاعتهم في كل الأحوال والأزمان بخلاف العلماء فإن إطاعتهم واجبة في حال دون حال ، فحصر الآية في العلماء خلاف إطلاق الإطاعة في كل الأحوال.

ويجدر بنا هنا التأكيد على أن أولي الأمر هم علماء واقعيون ، فلو دار الأمر بين الأخذ منهم وممن يأخذون الأحكام بالظنون والأصول العملية الظاهرية فلا شك أن العقل والشرع يأمران بالأخذ من الواقعيين لا الظاهريين ، والواقعيون هم


المعصومون ولا أحد معصوم سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، فتأمل.

الوجه الرابع :

إن المراد من «أولي الأمر» هو الإجماع ويعبّر عن المجمعين بأهل الحل والعقد. وممن قال بهذا فخر المشكّكين الرازي في تفسيره حيث أثبت دلالة الآية على وجوب عصمة أولي الأمر ثم ادّعى العصمة للإجماع ، فقال :

«والدليل على ذلك ـ أي أن إجماع الأمة حجة ـ أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوما ، ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة ، لأنّا بيّنا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة إنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم ، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله «وأولي الأمر» أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة» (١).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.


وعليه فإن مجموع الأمة أو مجموع ممثليها ـ بنظر الرازي وأمثاله ـ لا يمكن أن يتطرق إليه خطأ مما يستتبع القول أن هذه الأمة معصومة ، فتكون النتيجة أن إطاعتها واجبة تماما كإطاعة الله تعالى ورسوله.

يورد عليه :

أولا : إن إجماع جميع الأمة لا يمكن انعقاده إلى يوم القيامة سواء كان الإجماع كل أفراد الأمة أم كان بعض أفرادها كأهل الحل والعقد ، فكيف يحمل الآية على غير الممكن ، وذلك لأن أمة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل من تابعه إلى يوم القيامة ، وكل موجود في عصره فإنه بعض الأمة ، هذا مضافا إلى أنه لم يقم دليل على عصمة أهل الحل العقد وكذا عصمة جميع الأمة ، فلا يمكن حمل العصمة على الأمة.

إشكال وحل :

كيف ينفي المسلمون الإمامية عصمة الإجماع وقد قال النبيّ : «لا تجتمع أمتي على الخطأ» «ولا تجتمع أمتي على الضلالة»؟

والجواب :

١ ـ إن الخبر المزبور غير تام سندا ودلالة ، أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف ، وأما من حيث الدلالة فلأن الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والبقية في النار ، فكيف يدخلون النار وهم مجتمعون مع الحق ضد الباطل ، وهل تمس النار من كان محقا؟!!

هذا مضافا إلى مصادمة الحديث المذكور مع واقع المسلمين وتناحرهم ومع النصوص المتواترة الدالة على أن أمته سيصيبها مثل ما أصاب الأمم المتقدمة حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة (١). وما ورد بالمتواتر بين الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) لاحظ جامع الأصول لابن الأثير وصحيح الترمذي.


قال : ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا دفعوا اختلجوا دوني ، فأقولنّ : أي ربّ أصحابي فليقالنّ : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

٢ ـ لو سلّمنا صحة الخبر وجب حمل الأمة فيه على خصوص الإمامية من حيث ثبوت الملازمة بين إجماع علمائها وقول المعصوم عليه‌السلام لكونها الفرقة الناجية.

ثانيا : إما يراد من «الذين آمنوا» في الآية المجتهدون خاصة ، أو المقلدون خاصة ، أو الأعم الشامل للجميع ، ولا يمكن إرادة واحد من الأولين لما فيه من التخصيص الذي هو خلاف الأصل ، مضافا إلى استلزامه اختصاص وجوب طاعة الله ورسوله بإحدى الطائفتين ، وإلى استلزامه حجيّة إجماع العوام على تقدير إرادة الثاني. لأن المخاطبين بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) هم المخاطبون الأولون ، ومفهومه عدم وجوب الردّ إلى الله والرسول حين الاتفاق فيلزم حجية إجماع العوام حينئذ ولا يقول به الخصم ، وإذا لم يمكن إرادة أحد الأولين تعيّن إرادة الثالث أي جميع المؤمنين الشاملين للمجتهدين والمقلدين ، وعليه فلا بدّ وأن يكون أولو الأمر غير المجتهدين ، لئلا يلزم اتحاد المطيع والمطاع ، مع أن ظاهر اللفظ أيضا المغايرة ، فتعين أن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون وبطل ما توهمه الناصب الجحود من حمله على أهل الحل والعقد.

ثالثا : ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأمة من دون وجود إمام معصوم بينهم ، ودعوى عصمة المجموع منافية للناموس العام ، لأن إدراك الكل هو إدراك الأبعاض ، وإذا جاز الخطأ على كلّ واحد فردا فردا جاز الخطأ على الكل كمجموع ، إضافة إلى ذلك فكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليهم رأيهم فلم يزدهم إلّا ضلالا ، ولم يزد إسعادهم المسلمين إلّا شقاء ، ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي دون أن عاد إلى امبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الناقد في الفتن منذ قبض رسول الله وما استتبعه من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة ، وأحكام عطلت ، وحدود أبطلت! ثم ليبحث في منشأها


ومحتواها وأصولها وأعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلّا ما رآه أهل الحل والعقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟ فلا مناص من القول بأن أهل الحل والعقد على حدّ سائر الناس يصيبون ويخطئون ، فإذا كانوا كذلك فكيف يمكن القول أنهم معصومون؟!!

رابعا : مع أن المنصرف من «أولي الأمر» من له الزعامة ، أن ظاهر الآية إفادة عصمة كل واحد منهم لا مجموعهم ، لأن ظاهرها إيجاب طاعة كل واحد منهم ، مع أن العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم كمجمعين بل من باب أنهم يكشفون عن رأي المعصوم ، فالطاعة حينئذ له وليس لهم ، وبما أن الرازي وجماعته لا يؤمنون بوجود معصوم بعد وفاة النبي سوى ما ادعاه من عصمة الإجماع ، فكيف يكون المجمعون حينئذ معصومين لأنه إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل.

وعلى هذا الأساس تواجه هذه التفاسير إشكالات ومآخذ تقدمت معنا ، ويبقى التفسير الخامس سليما من جميع الاعتراضات السابقة لموافقة هذا التفسير (أي أن أولي الأمر هم المعصومون) لوجوب الإطاعة لله ولرسوله ، لأن مقام العصمة يحفظ الإمام من كل معصية ويصونه عن كل خطأ ، وبهذا يكون أمره مثل أمر الرسول واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط ، فإطاعة الإمام هي نفس إطاعة الرسول من دون تكرار لفظ «أطيعوا» ، لأن العطف بالواو يقتضي الجمع والمشاركة في الحكم ، ومعنى هذا أن أمرهم هو أمره ، ولا شك أن هذه المرتبة السامية لا تكون إلّا لمن اتصف بما يؤهله لها ، ولا شيء يؤهله لذلك إلّا العصمة عن الخطأ والسهو والمعصية ، فهي وحدها التي تجعل طاعته وطاعة الرسول سواء.

والعصمة منحة إلهية يختص الله بها من ارتضى من عباده ، ولا يرتضي إلا من كان أهلا لذلك ، ونقصد بالعصمة الطهارة الذاتية لا الاكتسابية بحيث تكون مع المعصوم منذ ولادته إلى وفاته لا تفارقه أبدا ، وعليه ينحصر الطريق إلى معرفة العصمة بالوحي فقط ، وقد ثبت النص كتابا وسنة على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ،


من ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١).

ومن ذلك قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني».

رواه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح ، وصححه أيضا الذهبي في تلخيص المستدرك.

كما أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عليّ مني وأنا من عليّ. والحق مع عليّ وعليّ مع الحق يدور معه حيثما دار.

إلى ما هنالك من عشرات الأحاديث الصحيحة والموثقة والمعتبرة رواها العامة في كتبهم وصحاحهم ، ومروية بأسانيدهم ، وقد جمعها علماء الشيعة في مؤلفات خاصة قديما وحديثا فلتراجع.

هذا وقد أشكل فخر المشكّكين الرازي على إرادة أئمتنا الأطهار من أولي الأمر بوجوه منها :

الوجه الأول : إن طاعتهم ـ أي الأئمة المعصومين ـ مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو وجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر (٢).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٦.


وبعبارة موجزة :

إن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق ، وإذا كان مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة ، كما أننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم وعاجزون عن الوصول إليه ، لذا فإن المعصوم الذي أمر الله بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة وإنما أهل الحل والعقد (١).

وفيه :

١ ـ أنّ الإشكال منقلب على المستشكل ، فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا ، وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله ورسوله ، والإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرّف يعرّفه ، ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية.

وبتعبير آخر :

كما أن طاعة الإمام المعصوم موقوفة على معرفته وعلى قدرة الوصول إليه ، واستفادة الأحكام منه ، فكذلك طاعة أهل الحل والعقد موقوفة على معرفتهم وعلى قدرة الوصول إليهم واستفادة الأحكام منهم ، وكما أننا عاجزون في زماننا هذا عن الوصول إلى جناب الإمامعليه‌السلام وعن استفادة الدين والعلم منه ، فكذلك عاجزون عن الوصول إلى أهل الحل والعقد وعن استفادة الاطلاع على آرائهم ، وإن كان عجزنا في الأول مستندا إلى غيبته عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف ، وفي الثاني إلى كثرتهم وانتشارهم في شرق الأرض وغربها.

هذا مضافا إلى أن توقف طاعة أولي الأمر على معرفتهم واستفادة الأحكام منهم لا يوجب كون وجوبها مشروطا بذلك ، وإنما هي من مقدمات الوجود ، وبالجملة فإن إطاعة أولي الأمر واجب مطلقا ، والواجب المطلق تحصيل مقدماته على عهدة المكلّف ، فيجب تحصيل العلم برأيهم حتى يطيعهم المكلّف ، وعجزنا

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٠ / ١٤٤.


في هذا الزمان عن الوصول إلى حضرة ولي الأمر عليه‌السلام ، وعن العلم برأيه إنما هو مستند إلى أنفسنا ، لأننا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الأحكام يكون من قبلنا وجهتنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به ، وأدّى إلينا الحق الذي عنده وتمكّنّا من طاعته وامتثال أوامره ، وما ذكره الناصب لا ينطبق على زمان حضور أئمة أهل البيت عليهم‌السلام حيث لم يكن مانع يومئذ عن حمل أولي الأمر عليهم ، وإنما المانع الذي توهمه الناصب هو العجز عن الوصول إلى ولي الأمر وهو مختص بزمان الغيبة الكبرى ، فدليله أخص من مدعاه.

الوجه الثاني : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر (١).

وفيه :

أولا : أن دعوى الرازي بأنه لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ممنوعة ، وذلك بتعدده في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام لوجود أولادهم المعصومين معهم.

ثانيا : أنّ الجمع باعتبار تعددهم وإن تعددت الأزمنة ، ولا دلالة في الآية على أن طاعتهم جميعا لا بدّ وأن تكون في زمان واحد ، لإمكان حصولها تدريجا كلّما وجد واحد منهم.

ثالثا : أن حمل الجمع على الفرد وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنه مع قيام المقتضي عليه ، لا ضير فيه ، بل اللازم حينئذ المصير إليه ، والمقتضي في المقام موجود ، وهو أن وليّ الأمر لا بد وأن يكون معصوما ، وقد انحصرت العصمة في آل البيت عليهم‌السلام لقيام الأدلة على ذلك ومنها الآية المباركة ، وبطل ما توهمه الناصب.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٦.


الوجه الثالث : أنه قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام ، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه (٢) ، انتهى كلامه هبط مقامه.

وفيه :

١ ـ إن الإمام المعصوم وإن كان في كل عصر شخصا واحدا إلا أن الأئمة المتعددين في العصور المختلفة يشكلون جماعة ، والآية المباركة لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد ، بل تعيّن لهم أن كل عصر فيه إمام معصوم يجب الرجوع إليه.

٢ ـ إن تفسير أولي الأمر بالعترة الطاهرة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول لا يتنافى مع عموم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة ، وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر ، وذلك كمفهوم الرسول فإنه معنى عام كلي ، وهو المراد من اللفظ في الآية لكنّ المصداق المقصود هو الرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إشكالان آخران وجوابهما :

الإشكال الأول :

لو كان المراد من «أولي الأمر» العترة الطاهرة لاحتاج ذلك إلى تعريف صريح من الله ورسوله ، ولو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله.

وجوابه :

إن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنّة كآية الولاية وآية التطهير وغير ذلك ، وكحديث السفينة : مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٦.


عنها غرق. وحديث الثقلين : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا. وكأحاديث أولي الأمر المروية من طرق الخاصة والعامة.

الإشكال الثاني :

إذا كان المقصود من أولي الأمر هم الأئمة المعصومون ، فلما ذا أشار الله سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (١).

فذيل الآية هنا لم يشر إلى «أولي الأمر» بل أشار إلى الله تعالى وإلى الرسول أي إلى الكتاب والسنّة كمرجعين يرجع إليهما المسلمون عند التنازع والاختلاف.

وفيه :

أولا : إن هذا الإشكال لا يرد على الشيعة الإمامية فحسب بل يشمل بقية التفاسير أيضا ومنها التفسير العامي لأولي الأمر.

ثانيا : لا شك أن المراد من الاختلاف والتنازع في ذيل الآية المذكورة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة والقيادة لأنه في مسائل الحكومة والقيادة تجب إطاعة أولي الأمر كما هو صريح صدر الآية المباركة.

وجملة القول : فالمراد من الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الكلية التي يعود أمر تشريعها إلى الله سبحانه ونبيّه الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأننا نعلم أن الإمام مجرد منفّذ للأحكام الإلهية وليس مشرّعا ، ولا ناسخا لها ، وإنما يطبق الأحكام والأوامر الإلهية في الأمة ، لذا ورد عنهمعليهم‌السلام أنهم قالوا : «إذا بلغكم عنا

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.


ما يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه» أي يستحيل أن يقولوا ما يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه.

وعليه فإن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين أولي الأمر ، ولا تنازع مفروض بين أولي الأمر أنفسهم فإن الأول أي التنازع بينهم وبين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم ، وكذا الثاني أي التنازع بين أولي الأمر أنفسهم فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه ..

ولفظ الشيء وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله وأولي الأمر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك : فردوه إلى الله والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع في شيء ليس لأولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك ، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.

وبهذا يتضح أن المراد من «أولي الأمر» هم العترة الطاهرة الذين نص عليهم الرسول الأعظم محمّد بأسمائهم عدد نقباء بني إسرائيل كما في الأخبار المتواترة ، منها ما ورد في كفاية الأثر بسند معنعن إلى عمران بن حصين قال : خطبنا رسول الله فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي خيرا ، فقام إليه سلمان ، فقال : يا رسول الله أليس الأئمة بعدك من عترتك؟ فقال : نعم الأئمة بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين عليه‌السلام ، ومنا مهديّ هذه الأمة ، فمن تمسّك بهم فقد تمسّك بحبل الله لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم فاتبعوهم فإنهم مع الحق والحق معهم حتى يردوا عليّ الحوض (١).

__________________

(١) كفاية الأثر ، ص ١٣١.


وفي خبر آخر عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه قال : خطبنا رسول الله فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب أوصيكم في عترتي خيرا وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار ، معاشر الناس من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسّك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قال سلمان : فلمّا نزل عن المنبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعته حتى دخل بيت عائشة ، فدخلت إليه وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله سمعتك تقول : إذا افتقدتم الشمس فتمسّكوا بالقمر ، وإذا افتقدتم القمر فتمسّكوا بالفرقدين ، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة ، فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة؟ فقال : أنا الشمس وعليّ القمر والحسن والحسين الفرقدان ، فإذا افتقدتموني فتمسّكوا بعليّ بعدي ، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين ، وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين تاسعهم مهديهم.

ثم قال عليه‌السلام : إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي ، أئمة أبرار ، عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى ، قلت : فسمهم لي يا رسول الله ، قال : أولهم عليّ بن أبي طالب ، وبعده سبطاي وبعدهما عليّ زين العابدين ، وبعده محمّد بن عليّ الباقر علم النبيين ، والصادق جعفر بن محمّد وابنه الكاظم سمي موسى بن عمران ، والذي يقتل بأرض الغربة ابنه عليّ ، ثم ابنه محمّد ، والصادقان عليّ والحسن ، والحجة القائم المنتظر في غيبته ، فإنهم عترتي من دمي ولحمي ، علمهم علمي وحكمهم حكمي ، من أذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي (١).

وروى القندوزي الحنفي عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي (سلام الله عليهم) قال :

__________________

(١) كفاية الأثر ، ص ٤١.


دخلت على جدي رسول الله فأجلسني على فخذه وقال لي : إن الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة ، تاسعهم قائمهم وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء (١).

الآية الثالثة :

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

من الآيات الدالة على خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام هذه الآية المباركة المسماة بآية التطهير.

ووجه الاستدلال بها :

أن الآية المباركة نزلت في الإمام علي والصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهم جميعا التحية والسلام باتفاق المفسرين من العامة والخاصة ، والآية واضحة الدلالة على طهارة هؤلاء وعصمتهم من الذنوب ، وقد عرفنا بمقتضى الأدلة القطعية أن العصمة شرط في الإمامة ، وحيث إن من تقدم على مولانا أمير المؤمنين ليسوا معصومين بالإجماع والضرورة ، ثبت بآية التطهير وغيرها أن أمير المؤمنين معصوم ، وقد ادعى الإمامة لنفسه وأنها حقه وإن لم يتمكن من حرب من تقدّم عليه ، فيكون صادقا بدعواه ، لأن الكذب ولا سيّما في مثل دعوى الإمامة من أعظم الرجس ، فحيث ادّعاها لنفسه فيكون صادقا ، فثبت بهذا أنه إمام وخليفة.

والبحث يتركّز على نقطتين :

الأولى : مورد نزول الآية الشريفة.

الثانية : معرفة مداليلها ومفرداتها.

__________________

(١) المهدي الموعود عند علماء السنة والإمامية ج ١ / ٤٤ ح ١٦ نقلا عن الينابيع ص ٤٩٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣.


أما النقطة الأول: مما لا ريب فيه عند الفريقين أن موردها أهل الكساء هم : الرسول الأعظم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليّ وسيّدة النساء الصدّيقة فاطمة والإمامان الحسن والحسين عليهم أجمعين آلاف التحية والسلام. ولا خلاف بين المسلمين في أن مورد الآية هم هؤلاء الأطهار ، لكنّ بعض الشواذ من العامة ادّعوا شمول الآية لأزواج النبيّ ، وهؤلاء الشواذ شرذمة قليلة من العامة لا يعبأ بهم ، خالفوا الإجماع ، من هنا صرّح ابن حجر في الصواعق «أن أكثر المفسرين قالوا إنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام لتذكير ضمير عنكم وما بعده» (١).

وقد جاءت الأخبار الصحيحة والموثقة والحسنة والعالية الأسانيد بذلك وناهزت المئات ، ورواها المحدّثون والمفسرون والمتكلمون في مقام بيانهم لطهارة آل البيت عليهم‌السلام وأن الآية الشريفة نزلت في هؤلاء الخمسة مورد النص القطعي آنذاك دون نساء النبيّ كما يدّعي من لا خبرة له بفقه القرآن وأحاديث السنّة المطهّرة.

وقد أتعب العلّامتان الجليلان الشيخ التستري والسيد النجفي المرعشي «عليهما رضوان الله تعالى» نفسيهما بجمع المصادر العامية التي جاء فيها أن الآية نزلت في العترة الطاهرة دون غيرهم فلتراجع (٢).

وقد روى الحافظ الكبير عبيد الله بن عبد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحذّاء الحنفي «من أعلام القرن الخامس الهجري» فوق المائة وستين حديثا بطرق متعددة وصحيحة أن الآية نزلت بهؤلاء الخمسة عليهم‌السلام مما يدل بالدلالة القطعية صحة هذه الأخبار بحيث لا ينكرها إلا مكابر للوجدان والفطرة السليمة.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٤٣ الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم عليهم‌السلام.

(٢) إحقاق الحق : ج ٢ / ٥٠١ وج ١٨ / ٣٥٩ ـ ٣٨٣ وج ٣ / ٥١٣ وج ٩ / ١ ـ ٦٩ وج ١٤ / ٤٠ ـ ١٠٥.


ولا بأس هنا بالتطرق إلى ذكر بعض الأخبار من مصادر القوم للإشارة إلى ما قلناه ، فمنها :

١ ـ ما رواه الواحدي في أسباب النزول بأسانيد متعددة عن عمّار بن محمد الثوري قال : أخبرنا سفيان عن أبي الحجاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ..) قال : نزلت في خمسة : في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (١)

٢ ـ وعن عطاء بن أبي رباح قال : حدثني من سمع أم سليم تذكر : أن النبيّ كان في بيتها ، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة (٢) فيها خزيرة (٣) ، فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعي لي زوجك وابنيك ، قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين ، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له (٤) وكان تحته كساء خيبري قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ ...) قالت : فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ، ثم أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، قالت : فأدخلت رأسي البيت وقلت : أنا معكم يا رسول الله ، قال : إنك إلى خير ، إنك إلى خير» وكررها مرتين (٥).

٣ ـ ما أورده الحاكم الحسكاني بطرق كثيرة جدا عن :

أ ـ العوام بن حوشب قال : حدثني ابن عم لي من بني الحارث بن تيم الله يقال له مجمع قال : دخلت مع أمي على عائشة فسألتها أمي ، قالت : أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت : إنه كان قدرا من الله ، فسألتها عن عليّ فقالت :

__________________

(١) أسباب النزول ص ٢٩٥.

(٢) البرمة : قدر يطبخ فيه.

(٣) الخزيرة : لحم يقطّع صغارا ويصبّ عليه ماء كثير ، فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق.

(٤) المنامة : فراش ينام عليه.

(٥) أسباب النزول ص ٢٩٥.


تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، وجمع رسول الله بثوب عليهم ثم قال : اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، فقلت : يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال : تنحي فإنك إلى خير (١).

ب ـ وعن أبي سعيد الخدر في قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ ...) قال : جمع رسول الله عليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أدار عليهم الكساء فقال : هؤلاء أهل بيتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (٢).

ج ـ وعن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري عن نبي الله قال : نزلت هذه الآية (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) (٣) قال : كان يجيء إلى باب علي تسعة أشهر كل صلاة غداة ويقول : الصلاة رحمكم الله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» (٤).

د ـ عن واثلة بن الأسقع قال :

والله لا أزال أحبّ عليّا وحسنا وحسينا وفاطمة بعد إذ سمعت رسول الله يقول فيهم ما قال ، لقد رأيتني يوما وقد جئت رسول الله في منزل أم سلمة ، فجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى ثم جاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبّلهما ، ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه ، ودعا بعليّ فأغدف عليهم كساء خيبريا ، كأني أنظر إليه ثم قال : «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» قال شداد لواثلة : وما الرجس؟ قال : الشك في دين الله (٥).

٤ ـ وأورد ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن أحمد بن حنبل بسند معنعن عن

__________________

(١) شواهد التنزيل ص ٣٩ ح ٢ رقم ٦٨٤.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٢٣ ح ٦٥٧.

(٣) سورة طه : ١٣٢.

(٤) نفس المصدر رقم الحديث ٦٦٨.

(٥) نفس المصدر رقم الحديث ٦٩٠.


أم سلمة قالت : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي يوما إذ قالت أن فاطمة وعليا رضي الله عنهما بالسدة ، قال رسول الله : قومي فتنحي عن أهل بيتي ، قالت : فقمت فتنحيت في البيت قريبا ، فدخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم وهما صبيان صغيران ، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبّلهما واعتنق عليا رضي الله عنه بإحدى يديه وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى ، وقبّل فاطمة وقبّل عليا وأغدق عليهم خميصة سوداء وقال :

«اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي» قالت : فقلت وأنا يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنت (١).

ومن طريق آخر قال ابن جرير حدثنا أبو كريب عن الحسن بن عطية عن فضل بن مرزوق عن عطية عن ابي سعيد عن أم سلمة قالت : إن هذه الآية نزلت في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ ...) قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبيّ ، قالت : وفي البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم (٢).

وعن عطية عن أبي سعيد الخدري قال :

قال رسول الله : نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ وفي عليّ والحسن والحسين وفاطمة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ..) (٣).

كما أخرج ابن كثير عن مسلم في صحيحه قال : حدثني زهير بن حرب بسند إلى يزيد بن حبّان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلمة إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه ، قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله وسمعت منه حديثا ، وغزوت معه وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله.

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ج ٣ / ٤١٤.

(٢) نفس المصدر والصفحة.

(٣) نفس المصدر.


قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفوا فيه ، ثم قال : قام فينا رسول الله يوما خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ ثم قال :

أما بعد ألا أيّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله عزوجل ورغّب فيه ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا.

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال : لا وايم الله أن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (١).

٥ ـ وعن شداد بن أبي عمّار قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه ، فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إني عند رسول الله إذ جاء عليّ وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فألقى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم كساء له ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأهل بيتي أحق (٢).

وعن أحمد بن حنبل عن عفّان بسند إلى أنس بن مالك قال :

إن رسول الله كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : «الصلاة يا أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ج ٣ / ٤١٥.

(٢) نفس المصدر.


قال الترمذي : هذا حسن غريب (١). وقال الحاكم النيسابوري : هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.

وهناك طائفة كثيرة جدا من الروايات تشير إلى أن الرسول الأكرم كان يطرق باب الصدّيقة الطاهرة عند الصلاة ويقول : الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

فعن أبي الحمراء قال :

شهدت النبي ثمانية أو عشرة أشهر إذا خرج إلى الصلاة أو إلى الغداة مرّ بباب فاطمة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله ، الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ورحمكم الله (٢).

٦ ـ وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ، وفي البيت سبعة : جبرائيل وميكائيل وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟

قال : إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبيّ (٣).

فكل المصادر العامية تشير إلى أن الآية نزلت في عترة النبيّ إلّا ما شذّ منهم كعكرمة وابن عبّاس ، وعروة بن الزبير ومقاتل بن سليمان حيث قالوا : إن الآية نازلة في نساء النبيّ ، وروى السيوطي في الدر المنثور والواحدي في أسباب النزول حديثا عن عكرمة حيث قال خلال تفسيره لآية التطهير :

«ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ج ٣ / ٤١٣ ومسند أحمد ج ٣ / ٢٥٩ وسنن الترمذي ج ٥ / ٣١ والمستدرك على الصحيحين ج ٣ / ١٥٨.

(٢) شواهد التنزيل ص ٥١ ج ٢ حديث رقم ٦٩٨.

(٣) تفسير الدر المنثور ج ٥ / ٣٧٧.

(٤) الدر المنثور ج ٥ / ٣٧٦ وأسباب النزول ص ٢٩٦.


وكان عكرمة ينادي هذا في السوق ، ويقول : من شاء باهلته أنها نزلت في نساء النبيّ (١).

ووافق عكرمة وأمثاله ثلة من علماء العامة منهم :

الآلوسي في تفسيره قال :

«والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه في بيت واحد ، ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعليّ (كرّم الله وجهه) مع ما له من القرابة من رسول الله قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام ، فلم يفارقه وعامله كولده صغيرا ، وصاهره وآخاه كبيرا»(٢).

وهكذا جرى على منواله الزمخشري (٣) والرازي لكنّ الثاني قال :

«والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبيّ عليه‌السلام وملازمته للنبيّ» (٤).

وقد ابتنى استدلالهم لهذا الرأي على عدة وجوه :

الوجه الأول :

أن بعض الروايات التي رواها عكرمة وابن عباس وعروة بن الزبير أشارت إلى نزول الآية في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وجوابنا عليه :

أولا : إن الروايات المروية بطريق عكرمة وعروة وابن عباس أخبار آحاد لا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤١٣ وأسباب النزول ص ٢٩٦ والدر المنثور ج ٥ / ٣٧٦.

(٢) تفسير روح المعاني ج ١٢ / ٢٧.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ / ٥٢٢.

(٤) تفسير الرازي ج ٢٥ / ٢٠٨.


تنهض دليلا على المدّعى ولا تقاوم الروايات المتواترة المروية بطرق صحيحة وعالية ، فلو دار الأمر بين طائفة الآحاد من الأخبار وبين طائفة المتواتر منها لرجّحنا المتواترة على الآحادية ، وهذا متفق عليه عند عامة علماء الرجال ، ومن فعل العكس فهو أرعن لا يفقه شيئا من علم الرجال ومعايير التعادل والتراجيح.

ثانيا : إن الأخذ بهذا الوجه يستدعينا إلى تقييم موضوعي لآراء عكرمة وأقواله ، ودوافعه النفسية فيها ، فالرجل معروف بانتمائه إلى الخوارج ، وللخوارج موقف معروف مع أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم الإمام عليّ ، لكان عليه القول بعصمته ، ولأهار على نفسه أسس عقيدته التي سوّغت لهم الخروج عليه ومقاتلته ، وبررت لهم قتله.

فعكرمة خارجي المعتقد ، معروف بعدائه للإمام عليّ وبتكفيرهم له عليه‌السلام. وقد اشتهر بكذبه على مولاه ابن عبّاس ، وكان الموالي يحذّرون عبيدهم من الكذب عليهم ، ويتمثلون بكذب عكرمة على مولاه حتى كان يضرب المثل فيه ، وهذا سعيد بن المسيب يقول لغلامه ـ واسمه برد ـ «يا برد لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس ، وعن ابن عمر قال ذلك أيضا لمولاه نافع» (١).

ويشهد لما قلنا من أنه كان أباضيا وكذّابا جسورا كلمات علماء الجرح والتعديل فيه ، فها هو الذهبي يفيض كتابه بذكر مثالب عكرمة حيث قال : «عكرمة ، مولى ابن عباس ، وثّقه جماعة واعتمده البخاري ، وأما مسلم فتجنّبه ، وروى له قليلا ، وأعرض عنه مالك وتحايده إلّا في حديث أو حديثين.

قال عنه يحيى بن سعيد الأنصاري : إنه كذّاب.

وعن عبد الله بن الحارث قال : دخلت على عليّ ابن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش ، فقلت له : ألا تتقي الله! فقال : إن هذا الخبيث يكذب على أبي.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ٣ / ٩٦.


ويروى عن ابن المسيب أنه كذّب عكرمة والخصيب بن ناصح ، حدثنا خالد بن خداش ، شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه ، فقال :

أحدّثكم بحديث لم أحدّث به قط ، لأني أكره أن ألقى الله ، ولم أحدث به ، سمعت أيوب يحدّث عن عكرمة قال : إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به. قلت : ما أسوأها عبارة ، بل أخبثها ، بل أنزله ليهدي به وليضلّ به الفاسقين.

وعن فطر بن خليفة قال : قلت لعطاء : إن عكرمة يقول : قال ابن عباس : سبق الكتاب الخفين ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : لا بأس بمسح الخفين وإن دخلت الغائط ..

وعن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال : لو أن عبد ابن عباس ـ أي عكرمة ـ اتقى الله وكفّ من حديثه لشدت إليه المطايا.

وعن مسلم بن ابراهيم ، حدثنا الصلت أبو شعيب قال : سألت محمد بن سيرين عن عكرمة فقال : ما يسوؤني أن يكون من أهل الجنة ، ولكنه كذّاب.

وعن ابراهيم بن المنذر قال : حدثنا هشام بن عبد الله المخزومي قال : سمعت ابن أبي ذئب يقول : رأيت عكرمة وكان غير ثقة.

وعن محمد بن سعد : كان عكرمة كثير العلم والحديث وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه.

وقال مطرف بن عبد الله : سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ، ولا رأى أن يروي عنه.

قال أحمد بن حنبل : ما علمت أن مالكا حدّث بشيء لعكرمة إلّا في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة.

وعن يحيى بن سعيد يقول : حدثوني والله عن أيوب أنه ذكر له عكرمة أنه لا يحسن الصلاة ، فقال أيوب : وكان يصلي؟!


وعن الفضل السيناني عن رجل قال : رأيت عكرمة قد أقيم قائما في لعب النرد.

وعز يزيد بن هارون : قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ويونس وسليمان التيمي ، فسمع صوت غناء ، فقال : اسكتوا ، ثم قال : قاتله الله لقد أجاد.

وعن ابن المديني عن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلا كافر ، قال : وكان يرى رأي الأباضية.

وعن يحيى بن بكير قال : قدم عكرمة مصر ، وهو يريد المغرب ، قال : فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري.

وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج ، قال : وادّعى على ابن عباس أنه كان يرى رأي الخوارج.

وعن خالد بن نزار ، قال : حدثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : أن عكرمة كان أباضيا.

وعن أبي طالب قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ولكنه كان يرى رأي الصّفرية ولم يدع موضعا إلا خرج إليه .. وكان يأتي الأمراء فيطلب جوائزهم.

وروى سليمان بن معبد السنجي قال : مات عكرمة وكثير عزة في يوم ، فشهد الناس جنازة كثير ، وتركوا جنازة عكرمة» انتهى كلام الذهبي (١).

وقال عنه عطاء : إنه كذّاب (٢).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ٣ / ٩٦.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال ج ٥ / ٢٦٦ لأبي أحمد بن عدي الجرجاني ، تحقيق سهيل زكار ، دار الفكر ، بيروت ، ط ٣ ، ١٤٠٩ ه‍ / ١٩٨٨ م.


وقد حاول علي بن عبد الله بن عباس صده وردعه عن ذلك ، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه ، يقول عبد الله بن أبي الحرث :

دخلت على ابن عبد الله بن عباس ، وعكرمة موثق على باب كنيف فقلت : تفعلون هذا بمولاكم؟

فقال : إن هذا يكذب على أبي (١).

ولم يكن حقده منصبا على أهل البيت فقط بل تعداه إلى عامة المسلمين حيث كان يرى أنهم كفار عدا الفرقة التي ينتسب إليها وهي الخوارج ، فعن خالد بن عمران قال : كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يمينا وشمالا (٢). وما تقدم بخبر يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلّا كافر.

ومن كان هذا شأنه في الكذب والعداء لأمير المؤمنين عليه‌السلام كيف يمكن لروايته أن تصدّق أو أن تعارض النصوص المتواترة؟ وقد تلونا عليك أخي القارئ بعضا منها ؛ وفي هذه الأحاديث المتواترة ما اتفق الرجاليون والفقهاء والمفسرون على صحته ووثاقة رواته. وأما رواية ابن عباس ذلك ، فهي مروية بواسطة عكرمة ، وقد عرفت حاله في الكذب على مولاه. وأما ما روي عن ابن عبّاس من طريق سعيد بن جبير ، فلا يبعد وقوع تدليس في السند ، فبدلا من عكرمة وضعوا سعيد بن جبير ، ولو فرضنا عدم وجود تدليس ، فخبر الواحد لا يقاوم الأخبار الصحاح ، هذا مضافا إلى أن رواية سعيد بن جبير معارضة لرواية ابن مردويه عن ابن عباس المروية في الدر المنثور ، قال ابن عبّاس : شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عند وقت كل صلاة فيقول : السلام

__________________

(١) الأصول العامة للفقه المقارن ص ١٥٣ ، نقلا عن وفيات الأعيان ج ١ / ٣٢٠.

(٢) ميزان الاعتدال ج ٣ / ٩٥.


عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الصلاة رحمكم الله ، كل يوم خمس مرات (١).

كما أن الحاكم الحسكاني روى في كتابه «شواهد التنزيل» بعض الأخبار عن ابن عباس يقول فيها إن آية التطهير نزلت بأهل الكساء الخمسة ، فعن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال :

دعا رسول الله الحسن والحسين وعليا وفاطمة ومدّ عليهم ثوبا ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (٢).

وعن أبي صالح عن ابن عباس قال :

نزلت آية التطهير في رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (٣).

وأما عروة بن الزبير فلا حجية لقوله أصلا لاشتهاره بالعداء لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وكان مقرّبا لدى الأمويين خصوصا عبد الملك بن مروان ، فقد روى ابن أبي الحديد عن جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال :

شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا عليه‌السلام فنالا منه.

وروى عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيى بن عروة قال :

كان أبي إذا ذكر عليا نال منه.

وقال لي مرة : يا بني والله ما أحجم الناس عنه إلّا طلبا للدنيا ، لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث لي بعطائي فو الله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك ، فكتب إليه : إن هذا المال لمن جاهد عليه ، ولكن لي مالا بالمدينة .. فأصب منه ما شئت.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ / ٣٧٨.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٣١ رقم الحديث ٦٧٠.

(٣) شواهد التنزيل ج ٢ / ٣١ رقم الحديث ٦٧١.


قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه (١).

وأما مقاتل بن سلمان ، فيكفي في عدم حجية قوله أيضا ما نقله أرباب التراجم في حقه : قال ابن عيينة قلت لمقاتل : زعموا أنك لم تسمع من الضحاك؟ قال : يغلق عليّ وعليه باب ، فقلت في نفسي : أجل باب المدينة.

وقيل أنه قال : سلوني عما دون العرش ، فقالوا : أين أمعاء النملة؟ فسكت وسألوه لما حجّ آدم من حلق رأسه؟ فقال : لا أدري ، قال وكيع : كان كذّابا.

وعن أبي حنيفة قال : أتانا من المشرق رأيان خبيثان : جهم معطّل ومقاتل مشبّه ، مات مقاتل نيف وخمسين ومائة وقال البخاري : مقاتل لا شيء البتة ، وأجمعوا على ترك مروياته (٢).

وفي موضع آخر أيضا قال الذهبي :

«مقاتل بن سلمان البلخي المفسّر ، قال عنه ابن المبارك : ما أحسن تفسيره لو كان ثقة.

وقال أبو حنيفة : أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال : إنه تعالى ليس شيء ، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه.

وقال وكيع : كان كذّابا ، وقال البخاري : قال سفيان بن عيينة : سمعت مقاتلا يقول : إن لم يخرج الدجال في سنة خمسين ومائة فاعلموا أني كذّاب.

وقال العبّاس بن مصعب في تاريخ مرو : كان مقاتل لا يضبط الإسناد ، وكان يقصّ في الجامع بمرو ، فقدم جهم فجلس إلى مقاتل ، فوقعت العصبية بينهما ،

__________________

(١) شرح النهج : ج ٤ / ١٠٢ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ٤ / ٤٢١.

(٢) سير أعلام النبلاء ج ٧ / ٢٠٢.


فوضع كلّ واحد منهما على الآخر كتابا ينقض عليه.

وقال النسائي : كان مقاتل يكذب ، وقال ابن عيينة : قلت لمقاتل : إن ناسا يزعمون أنك لم تلق الضحاك ، فقال : سبحان الله! لقد كنت آتيه مع أبي ، ولقد كان يغلق عليّ وعليه باب واحد.

وقال البخاري : سكتوا عنه ، وروى عبّاس عن يحيى قال : ليس حديثه بشيء.

وقال الجوزجاني : كان دجّالا جسورا ، سمعت أبا اليمان يقول : قدم هاهنا فأسند ظهره إلى القبلة ، وقال : سلوني عمّا دون العرش ، وحدّثت أنه قال مثلها بمكة ، فقام إليه رجل ، قال : أخبرني عن النملة أين أمعاؤها؟ فسكت.

وعن مقاتل بن سليمان عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد : أين حبيب الله؟ فيتخطّى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش ، حتى يجلسه معه إلى العرش ، حتى يمسّ ركبته.

قال ابن عدي : ولمقاتل غير ما ذكرت حديث صالح ، وعامة حديثه لا يتابع عليه. وله كتاب الخمسمائة وفيه حديث كثير وهو مع ضعفه يكتب حديثه.

وقال ابن حبان : كان ـ أي مقاتل ـ يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان يشبّه الرب بالمخلوقات ، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو معاذ الفضل بن خالد المروزي : سمعت خارجة بن مصعب يقول : لم استحل دم يهودي ، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوة لشققت بطنه (١)» انتهى.

وعليه فإن مقاتل «قاتله الله» عرف بالكذب وبتشبيه الخالق ، وقد اتفقت الخاصة وبعض العامة على أن فكرة التشبيه إنما تسربت إلى الأوساط الإسلامية من قبل مقاتل وأمثاله.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ٤ / ١٧٣ ـ ١٧٥.


فمن كان كاذبا فكيف يؤمن على إخباراته والله تعالى نهانا عن الأخذ بأخبار الفسّاق الكاذبين؟! وهل يصح الاعتماد على هؤلاء في تفسير كتاب الله ورواية الحديث عن رسوله الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ثالثا : التأمل في النصوص الواردة بشأن أهل البيت ، سواء المرتبط منها بآية التطهير أم غيرها كحديث الثقلين وحديث المباهلة وما إلى ذلك ، يفيدنا أنّ مفهوم «الأهل» لا يشمل الأزواج في استعمالات العرب إلّا على نحو المجاز الذي يحتاج فيه إلى عناية خاصة ، وقرينة توضيحية متصلة أو منفصلة ، ويشهد لهذا ما ورد بالمستفيض بل بالمتواتر قول النبيّ لأم سلمة حينما قالت :

«يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال : إنك على خير ، إنك من أزواج النبيّ»(١).

وما ورد أيضا عن زيد بن أرقم حيث قيل له : «من أهل بيته ، نساؤه؟ قال : لا وأيم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها (٢).

فتعليل زيد بن أرقم يدل على المفروغية عن ذلك ، ولا يبعد دعوى التبادر من كلمة (أهل) إلى خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال ، والزوجة وإن كانت قريبة من الزوج ، إلا أن وشائجها القريبة قابلة للزوال بالطلاق وشبهه كما ذكر زيد.

رابعا : إن مقالة عكرمة : «ليس بالذي تذهبون إليه ..» دلالة قطعية على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وما إصرار عكرمة على اختصاص الآية بنساء النبيّ سوى صرف الآية عن المعنى المركوز والمتبادر إليه في فهم الآية يوم ذاك من حيث اختصاصها بأهل الكساء الخمسة دون نساء النبيّ ، فخروجه إلى السوق وإعلانه رأيه

__________________

(١) شواهد التنزيل ج ٢ / ٥٨ حديث رقم ٧١٣ و ٧٣٧ و ٧٥٧ ، والدر المنثور ج ٥ / ٣٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤١٥.


مع دفعه لما هو المرتكز في عقول المسلمين لإشارة إلى بغضه وحقده على آل البيت عليهم‌السلام.

الوجه الثاني :

وجود بعض النصوص الدالة بظاهرها على شمولية مفهوم أهل البيت لغير الإمام عليّ والصدّيقة الطاهرة وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهم‌السلام ، أمثال ما روي عن واثلة بن الأسقع قال : أتيت منزل عليّ بن أبي طالب أريده ، فقالت فاطمة : ذهب يأتي رسول الله ، فأقبل النبيّ فدخلا البيت ودخلت معهم ، فجلس النبيّ على الفراش ، وجلس عليّ عن يمينه وفاطمة عن يساره والحسن والحسين بين يديه ، ثم أخذ ثوبا فبسط عليهم ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) ثم قال : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم هؤلاء أهلي ، قال واثلة : قلت يا رسول الله أنا من أهلك؟

قال : وأنت من أهلي ، قال : فإنه لمن أرجا ما ارتجي (١).

وفي خبر كلثوم بن زياد عن أبي عمّار عن واثلة بن الأسقع نفس ألفاظ الخبر المتقدم لكن بزيادة : «فو الله إنها لأوثق علمي عندي» (٢).

هذه النصوص وأمثالها (٣) كافية للتدليل على شمول آية التطهير لغير أهل البيت ، فانحصار مفهوم أهل البيت بأهل الكساء الخمسة مخالف لهذه الاطلاقات الروائية.

ويرد على هذا الوجه :

أولا : أن الأخبار المذكورة في ذلك لا يصل مجموعها إلى عشر روايات ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ج ٢ / ٤٥ ح ٦٩١ وح ٦٨٦.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٤٦ ح ٦٩٣.

(٣) كرواية عبد الله بن وهب ورواية عطاء بن يسار أن النبي قال لأم سلمة حين سألته هل هي من أهل البيت؟ فأجابها : بلى إن شاء الله. لاحظ شواهد التنزيل ج ٢ / ٦١ ـ ٦٢ ح ٧١٨ و ٧١٩.


ولا يمكنها مقاومة ما تجاوز المائة وأربعين خبرا فيه الصحيح والموثّق والحسن ، فعلى الرغم من قلة تلك الأخبار فإنها أخبار آحاد ضعيفة الأسانيد لا يصح الاحتجاج بها ، ولا تنهض بمعارضة المتواترات من الأخبار.

ثانيا : إن مفهوم أهل البيت عام له مصاديق متعددة كالزوجة والولد والقرابة إلّا أن القرائن دلت على أنهم صنف خاص وهم من أشار إليهم الرسول محمّد وكان معهم تحت الكساء ، هذا مضافا إلى أن أم سلمة ـ في نصوص متواترة ـ حاولت أن تدخل تحت الكساء ليشملها مصطلح أهل البيت ، لكنّ النبيّ منعها وردها بإرفاق «إنك لست من أهل البيت الذين طهرهم الله تطهيرا» بل أنت من نساء النبي المؤمنات الصالحات اللاتي لم يبلغن درجة العصمة المطلقة.

وبعبارة أخرى : إن الأخبار المتواترة ـ والتي دلت على أن أهل بيته هم من كانوا تحت الكساء ـ مخصصة لعموم أهل البيت ، وعليه فلا يدخل في مفهوم أهل البيت أحد من أزواجه.

فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد المعنى الاصطلاحي لا المعنى اللغوي العام ، لذا قال الآلوسي وهو أحد كبار علماء العامة :

«وأخبار إدخاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى ، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت ، فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ثالثا : لا يبعد دعوى التبادر من كلمة «أهل» إلى خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال ، والزوجة وإن كانت قريبة من الزوج ، إلا أن وشائجها القريبة قابلة للزوال بالطلاق وشبهه ، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١٢ / ٢١. سورة الأحزاب.


مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيّها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : «وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين : من أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده وهم آل علي (١).

وفي حديث آخر عن زيد بن أرقم أيضا قال السائل وهو ابن مسروق : من أهل بيته؟ نساؤه؟

قال : لا ، وايم الله! إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (٢).

وعليه فإن لفظة «الأهل» عند الإطلاق ، يتبادر منها أهل القربى النسبيين ، ولا تطلق في ألسنة العرب على الأزواج إلّا بضرب من التجوّز.

رابعا : إن دعوى نزولها في نساء النبيّ شرف لم تدعه لنفسها واحدة من النساء ، لا سيّما عائشة صاحبة الجمل حيث كان من المناسب أن تدّعيه لنفسها في أيام عصيبة عليها عند ما جاشت الحرب بينها وبين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بل صرحت غير واحدة منهنّ بنزولها في النبي والأولياء الأربعة : عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

وفي نصوص قالت أم سلمة : ألست يا رسول الله من أهل البيت؟ قال : أنت

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٦ ح ٢٤٠٨.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٧ ح ٣٧ وتفسير روح المعاني ج ١٢ / ٢٠ سورة الأحزاب.


إلى خير (١) ، وفي بعضها أن النبيّ قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس ، فقالت أم سلمة : وأنا معهم؟ فقال : أنت زوج النبيّ وأنت على خير (٢).

وبالجملة : لا ريب بأن الآية الكريمة مختصة بالخمسة الأطهار ولا تشمل الأزواج ، كما لا تشمل بقية أقارب النبيّ لاختصاص أخبار النزول بالخمسة الأطهار ، ولكون غيرهم غير مطهرين من الرجس.

ولا يعارض تلك الأخبار ما رواه ابن حجر (٣) «من أن المراد من أهل البيت في الآية جميع بني هاشم ويؤيده الحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال : يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقال آمين وهي ثلاثا».

وذلك لأن هذا الحديث لا يدل على نزول الآية بالعباس وبنيه وإنما تدل على صدق أهل البيت عليهم فقط ، على أنه ضعيف السند واضح الكذب ، ظاهر التصنع رعاية لملوك العباسيين وإلا فما هذا الاهتمام بالعباس وبنيه حتى تؤمّن أسكفة الباب وحيطان البيت ثلاثا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يندفع أيضا ما رواه ابن حجر (٤) من أن النبيّ ضم إلى هؤلاء الأربعة بقية بناته وأقاربه وأزواجه ، وأثر الوضع على هذه الرواية ظاهر ، فإنّا لم نعهد وجود كساء يسع مقدار بني هاشم وأزواج النبي الذين يبلغ عددهم في ذلك الوقت تقريبا مائة نفس صغيرا وكبيرا ، ولو وجد فما حاجة النبي إلى اقتناء مثله ، ولو كان مع الخمسة الأطهار غيرهم لاشتهر وذاع وافتخر به مفتخرهم لأنه مما يتنافس به المتنافسون ، أترى أن حفصة تترك ذكره ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ج ٢ / ٦٤ ح ٧٢٤.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٧١ ح ٧٣٧.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٤٤ الفصل الأول : الآيات النازلة في أهل البيت.

(٤) الصواعق المحرقة ص ١٤٤.


وعائشة ترويه للخمسة وتدع نفسها ، وهل يغفل حسّاد أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ، هذا كله مع الإعراض عمّا في سند الحديث ومعارضته بتلك الأخبار المتواترة (١).

خامسا : إن رواية واثلة بن الأسقع المتقدمة ـ التي نسبته إلى أهل البيت ـ فهي بالإضافة إلى ضعف سندها معارضة برواية أخرى (٢) عن واثلة نفسه الدالة على خروجه من مفهوم أهل البيت النبوي وهي أشهر وأصح مع اعتضادها بالأخبار المتواترة.

الوجه الثالث :

وحدة سياق الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير ، وهي أهم ما ذكر للاستدلال على شمول آية التطهير لنساء النبيّ ، فالآيات بدأت بخطاب الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره بتخيير أزواجه بين الدنيا والآخرة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٣).

ثم يتحوّل الخطاب إلى أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وعظهنّ وإرشادهن وبيان اختلافهن عن جميع نساء الأمة وأن الحسنة مضاعفة لهنّ كالسيئة ، وفي ضمن ذلك تأتي آية التطهير كواحدة من الآيات الشارحة لمكانة أمهات المؤمنين.

ودلالة وحدة السياق ـ بنظر العامة ـ كافية لتعيين المراد من أهل البيت في الآية ، وشمولها لنساء النبي على أقل تقدير.

يورد عليه :

١ ـ أن دعوى وحدة السياق لو تمت لما كانت أكثر من كونها اجتهادا في مقابل النص ، فالنصوص التي فسرت أهل البيت بالعترة الطاهرة تفوق حد التواتر بمرات ، كافية لرفع اليد عن كل اجتهاد جاء على خلافها ، على أن وحدة السياق في

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٧٣.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٤٢ ح ٦٨٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٢٨.


نفسها غير تامة ، لأن من شرائط التمسك بوحدة السياق أن يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر ، ومع احتمال التعدد في الكلام لا مجال للتمسك بها بحال.

وآيات الكتاب العزيز أيضا كذلك ، لا يصح التمسك بها بوحدة السياق ليكون بعضها قرينة على المراد من البعض الآخر ، إلّا بعد إثبات نزولها دفعة واحدة ، وفي مناسبة واحدة.

ومن الواضح أن نظم الآيات في القرآن الكريم لم يكن على أساس من التسلسل الزمني ، فربّ آية مدنية وضعت بين آيات مكية ، وبالعكس ، فضلا عن إثبات أن الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة.

وعلى هذا الأساس فوقوع آية التطهير ضمن ما نزل في نساء النبي ، لا يدل على نزولها مع تلك الآيات ، ليتمسّك بوحدة السياق في تعيين المراد منها ، ومن العسير جدا إثبات وحدة النزول لهذه الآيات الكريمة ، ومن ضمنها آية التطهير ، بل النصوص المتقدمة المتواترة مضمونا ، لتعدد رواتها في جميع الطبقات ، كافية لنفي هذا الاحتمال ، وهي صريحة بنزولها ـ أي آية التطهير ـ مستقلة عن ما سبقها ولحقها من الآيات.

٢ ـ إن تذكير الضمائر الواردة في الآيات المرتبطة بالنساء مؤنثة ، سواء منها ما جاء قبل آية التطهير كقوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ... وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ ... إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... وَقُلْنَ ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ ... وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ) ثم تأتي آية التطهير بالضمائر المذكرة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وتأتي بعدها الآية المباركة (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً).

هذا مضافا إلى اختلاف لحن الخطاب فيها عن المقطع المرتبط ب (أهل البيت) فإن المقاطع الأولى تصرح بأن بلوغ نساء النبيّ لمرتبة الأجر المضاعف أو


نيل العقوبة كذلك منوط بهنّ وبإرادتهنّ الخاصة ، كقوله تعالى (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ .. مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ..) وهكذا البواقي ، وهذا بخلاف المقطع المرتبط بأهل البيت فإنه يحكي تعلق الإرادة الإلهية ، لا إرادتهم بإذهاب الرجس وتطهيرهم تطهيرا عظيما.

وكيف يمكن لإرادة الله تعالى المحتومة أن تتعلق بنزاهة أزواج النبيّ وطهارتهنّ من الخبائث والأرجاس ، والآيات السابقة يلوح منها احتمال انصرافهنّ إلى الدنيا ، وسقوطهنّ في حبائلها وزينتها؟! ومن الواضح عدم انسجامه مع الإرادة الحتمية بالطهارة.

كل هذا يقرّب ما قلنا من أن آية التطهير منفردة في النزول والموضوع ، بل لو ثبت نزولها مع الآيات الأخرى فإنها تختلف عنها في شأن النزول ، إذ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في نوع الضمائر ، ومقتضى التسلسل الطبيعي أن تكون الآية هكذا : إنما يريد الله ليذهب عنكنّ الرجس أهل البيت ويطهركن تطهيرا ، لا «عنكم» ولا «تطهيركم».

٣ ـ إن أكثر الروايات دلت على أن آية التطهير نزلت في بيت أم سلمة ، حيث نزلت منفردة كما توحي به مختلف الأجواء التي رسمتها رواياتها لما أحاط بها جمع أهل البيت وإدخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول ، إلى ما هنالك.

وعليه لا نسلّم بنزول الآية بنساء النبي ولا أنها مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات ، بل هي آية مستقلة لا ربط لها بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما وقعت في ثنايا الآيات المربوطة بآيات الأزواج لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها ، هذا بناء على الرأي القائل أن ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بوحي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا (١).

__________________

(١) لاحظ الاتقان للسيوطي ج ١ / ١٧٦.


وأما بناء على الرأي الآخر القائل بأن الآيات بهذا الترتيب الموجود بين أيدينا لم يكن بأمر النبي وإنما حصل عند التأليف بعد وفاة الرسول الأكرم فالأمر واضح حينئذ لا يحتاج إلى تعمق في الاستدلال حيث إنّ يد الدّس هي الأساس في وضع آية التطهير ضمن آيات الأزواج لصرف دلالة الآية عن مغزاها الحقيقي.

وآية التطهير الموضوعة ضمن آيات الأزواج هي تماما كآية الإكمال الموضوعة ضمن آيتي (١) تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحلية هذه الأمور عند الاضطرار.

ولو سلّمنا بالرأي الأول فلا بدّ من توجيه الأمر إلى ما يناسب وضع الآية ضمن آيات الأزواج ، لذا ذكرت وجوه لذلك منها :

١ ـ أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي وأهل بيته ، بمعنى أن تأديب الأزواج وترغيبهنّ إلى الصلاح والسداد يكون أبلغ وآكد من حيث انتسابهنّ إلى أهل بيت الطهارة والعصمة ، وأن هذا النوع من الانتساب لا يضفي على الإنسان أي تمييز أو كرامة ما لم يقترن بالتقوى والإحسان كما قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) وهذه التكاليف الموجّهة إليهن وإن كانت مشتركة بين جميع المكلفين إلّا أنها مؤكّدة بالنسبة إليهنّ ، فيجب عليهن أن يبالغن في امتثال أحكام الله تعالى ، ويحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء ، لأنهنّ في بيت أذهب الله الرجس عن أهله وطهرهم تطهيرا ، لأن من اللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفا صالحا كما قال تعالى (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) (٢).

وعليه فإن الله أمرهنّ ونهاهنّ وأدبهنّ إكراما لأهل البيت ، وتنزيها لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة ، وصونا لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب ، ورفعا لهم عن

__________________

(١) لاحظ الآيات في سورة المائدة.

(٢) سورة النور : ٢٦.


أن يتصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهلّ سبحانه الآيات بقوله (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ضرورة أن هذا التمييز إنما هو للاتصال بالنبيّ وآله لا لذواتهنّ ، فهنّ في محل وأهل البيت في محل آخر ، فليست الآية الكريمة إلا كقول القائل : يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعففي وتستري وأطيعي الله تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد الله حفظهم من الأدناس وصونهم من النقائص (١).

٢ ـ إن الانتقال من خطاب النساء إلى أهل البيت مما اقتضته فصاحة القرآن الذي جرى على عرف عادة الفصحاء حيث يذهبون من خطاب إلى غيره ثم يعودون إليه ، وهكذا جرى القرآن على عادتهم فكان خطابه للنساء ثم لآل البيت ثم رجع بالخطاب إلى نساء النبيّ (٢).

فكأنّ موقع آية التطهير للتدليل على أن أسرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقسمة إلى قسمين :

قسم يراد منه الامتثال المؤكّد لأحكام الله تعالى ، والتأدب بالأخلاق والفضائل والمزايا الحميدة وما إلى ذلك ، لا لأجل ذواتهم ، بل لاتصالهم وانتسابهم بمن هو مثل رسول الله المنزّه عن كل وصمة أو عيب ، وهؤلاء هم الذين سمّاهم القرآن الكريم بنساء النبي ولم يضف حتّى بيوتهنّ إلى الرسول الأكرم بل أضافه إليهنّ بقوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) ولم يكن في جميع هذه الآيات المباركة أيّ تدليل على الاصطفاء أو التمييز أو الكرامة الخاصة على الله تعالى.

وقسم آخر من أسرة الرسول الكريم اصطفاهم الله تعالى وأراد لهم ـ بإرادته المحتومة ـ الطهارة من كل رجس ، والعصمة بأسمى معانيها ، وهؤلاء هم الذين ورد التعبير عنهم ب (أهل البيت) من دون وصف للبيت ولا إضافة ، كأنما هذا البيت

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٧٢ وإحقاق الحق ج ٢ / ٥٧٠.

(٢) مجمع البيان ج ٨ / ١٢٠.


هو البيت الواحد في هذا العالم المستحق لهذه الصفة ، فإذا قيل (البيت) فقد عرّف وحدّد كما قيل عن الكعبة (بيت الله) فسميت بالبيت والبيت الحرام.

وأهل هذا البيت الجليل هم الخمسة الذين ضمهم الكساء وعلى رأسهم صاحب البيت محمّد رسول الله.

ومن هنا فقد جاءت آية التطهير بمثابة الجملة الاعتراضية ، لتبيّن الفوارق بين القسمين من أسرة النبيّ لئلا يتوهم أحد أن جميع أفراد الأسرة على نسيج واحد وشاكلة واحدة ، فلم يتوجه خطاب الوعد والوعيد والتحذير من السقوط في مهاوي الدنيا وما إلى ذلك إليهم جميعا ، بل لقسم واحد منهم وهو (نساء النبيّ) ، وأما القسم الآخر فقد اصطفاهم الله تعالى وأكرمهم بإذهابه الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيرا.

والحق أن يقال : إن هذه التأويلات وإن كانت حقا لا نزيغ عنه إلا أنها ليست إلا مجرد دفاع عن وحدة السياق الذي نقطع بعدم حجيته ـ كما قطع بذلك من تأوّل هذه التأويلات ـ ما دامت الآية الشريفة تتناول عصمة جماعة معينين سواء اخترنا الوجه الأول والثاني أم لا ، وهؤلاء الذين تقصدهم الآية هم أهل الكساء الذي حرص النبيّ الأعظم على عدم مشاركة الغير لهم فيها واتخاذه الاحتياطات بإدخالهم تحت الكساء ليقطع بها الطريق على كل مدّع ومتقول ، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كل يوم خمس مرات يقف فيها على باب أمير المؤمنين عليّ والصدّيقة الشهيدة فاطمة البتول عليهما‌السلام ، كل ذلك مما يوجب القطع بأن للآية شأنا يتجاوز المناحي العاطفية ، وهو مما يتنزه عنه مقام النبوة لأمر يتصل بصميم التشريع من إثبات العصمة لهم ، وما يلازم ذلك من لزوم الرجوع إليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الأحكام. هذا مضافا إلى أنه لا يحسن العدول بعد التصريح بالاسم في قوله تعالى (قُلْ لِأَزْواجِكَ) و (يا نِساءَ النَّبِيِّ) إلى الإبهام الموجب لعظيم أهل البيت ، على أن تذكير الضمير يمنع من دخولهنّ فيه.


وأما النقطة الثانية :

والبحث فيها ضمن المفردات التالية :

١ ـ الإرادة.

٢ ـ الرجس.

٣ ـ أهل البيت.

٤ ـ التطهير.

أما المفردة الأولى:

وقبل توضيح تقسيمات الإرادة نقول في بيان تعريفها :

إن الإرادة اصطلاحا صفة نفسانية في نفس الداعي ، وهي من مقولة الكيف النفساني القائمة بالأنفس.

وبعبارة : هي الشوق النفساني. وهذا المعنى للإرادة يستحيل في حقه تعالى لأنه يتنزه عن الكيفيات النفسانية وعن العوارض الجسمانية لأنه كما قلنا هي من الكيفيات القائمة بالنفس والعارضة عليها مما يستلزم قيام عرض في عرض ، وعليه فالإرادة حالة في نفس تعرض عليها ، وهذا المعنى للإرادة مستحيل في حقه تعالى ، لاستلزامه الحدوث للذات الإلهية المقدّسة مما يعني الفقر والحاجة إلى غيره وهو خلف كونه غنيا مطلقا وبسيطا لا يطرأ عليه الحدوث والتركيب ، هذا مضافا إلى أنه تعالى مريد أي عالم بما في الفعل من المصلحة الداعية إلى الإيجاد.

فإرادة الله تعالى في إيجاد الممكنات هي الداعي ، ومرادنا بالداعي هو العلم بالأصلح ، خلافا للأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنها مغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات. والإرادة ليست أمرا آخر سوى الداعي ، ولو كانت كذلك للزم التسلسل أو تعدد القدماء.

فإن هذا الأمر إن كان قديما لزم تعدد القدماء ، وإن كان حادثا احتاج إلى تخصيص وجوده إلى أمر آخر فيلزم منه التسلسل الباطل بالضرورة ، وعليه فإن


الإرادة في الآية الشريفة هي الداعي الذي هو العلم بالأصلح ، وهو عين ذاته المقدّسة وهو المرجح ، بمعنى أن المرجح هو العلم بالأصلح الذي هو عين ذاته ، والمراد بالأصلح ما هو الأصلح بالمخلوقات ، فلا يلزم استكماله تعالى بأمر زائد على ذاته. وأما تعريفها لغة : فهي المشية والرغبة يقال : أراد الشيء : أحبّه وعني به ورغب فيه. فعصمتهم عليهم‌السلام التي هي متعلق إرادته تعالى ، لكونها مما هو الأصلح لهم ولغيرهم ، ليحصل الوثوق بأقوالهم وأفعالهم ، بهذا تكون العصمة لطفا يقرّب العباد من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ، فالعلم بالأصلح كاشف عن خلوه من وجود المفسدة ، وعليه تكون إرادته تعالى علة تامة لحصول مراده عزوجل.

أما تقسيمات الإرادة فهي على قسمين :

تكوينيّة وأخرى تشريعيّة.

فالأولى : عبارة عن العلم المتعلق بالفعل الإلهي من جميع جهات وجوده. أو بعبارة : هي أن تتعلق إرادته «عزّ اسمه» على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، وهي لا تتخلف عن مراده ، وربما يعبّر عنها بالأمر التكويني ، فمتعلق الإرادة ـ وهو إذهاب الرجس ـ هو فعله تعالى ، وبهذا فإن إرادته لإيجاد الشيء وتحققه وتجسده لا تنفك عن مراده ، ولا أمره التكويني عن متعلقه ، لأنه القادر والخالق لكل شيء قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) فمراده لا يتخلف عن أمره ، بل يستحيل أن ينفك عنه.

والثانية : عبارة عن إرادة الشارع المقدّس المتعلقة بالفعل التشريعي بلحاظ وجوده من حيث التشريع.

أو بعبارة هي إرادته سبحانه تشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختارا بواجبه.

فمتعلق الإرادة هنا هو التشريع والتقنين ، وأما قيام المكلّف فهو من غايات

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.


التكليف ، ولأجل ذلك ربما تترتب عليه الغاية ، وربما تنفك عنه ولا يوجب الانفكاك خللا في إرادته سبحانه لأنه ما أراد إلّا التشريع وقد تحقق ، كما أنه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلا مختارا ، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره.

ولا تقتصر الإرادتان على المبدأ الأول ـ أعني الخالق العظيم ـ بل تشملان المخلوق مع ضميمة الاختيار إلى التشريعية ، «فإرادة الإنسان التي تتعلق بفعل نفسه نسبة حقيقة تكوينية ، تؤثر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل ، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلا لمانع.

وأما الإرادة التي تتعلق منّا بفعل الغير كما إذا أمرنا بشيء أو نهينا عن شيء ، فإنها إرادة بحسب الوضع والاعتبار ، لا تتعلق بفعل الغير تكوينا ، فإن إرادة كل شخص إنما تتعلق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات.

من هنا كانت إرادة الفعل أو الترك من الغير لا تؤثر في الفعل بالإيجاد والإعدام ، بل تتوقف على الإرادة التكوينية من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله لا عن اختيار آمره وناهيه» (١). وهذا التقسيم الثنائي للإرادة حاصر لهما عن غيرهما بحيث لا يوجد قسم ثالث لهما ، فالقسمة حاصرة فيهما.

وهنا يحق للقارىء أن يتساءل ما هو نوع الإرادة في الآية الشريفة هل هي تكوينية كما نقول نحن المسلمون الشيعة أو أنها تشريعية كما يقول العامة؟ وما الدليل على كل واحدة من الإرادتين عند الفريقين؟.

أقول : إن الإرادة هي تكوينية ، والقرائن على ذلك ما يلي :

١ ـ لو كانت الإرادة تشريعية لما اختصت بطائفة من الناس دون أخرى ، لأن الإرادة الإلهية تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وهم طائفة خاصة من الناس. فلو كانت تشريعية لما اختصوا بها دون سائر البشر ، لأن الهدف من إرسال الرسل

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ١٥١ تعليقة رقم ١.


وإنزال الكتب هو إبلاغ تشريعات المولى ودساتيره للناس كافة ليسيروا بها نحو الكمال المطلق ، وليس الهدف من ذلك وصول جماعة دون أخرى ، لذا نرى الخطابات العمومية في القرآن الكريم كغسل الأعضاء للصلاة والصوم إلى غير ذلك هي لكل المكلّفين تعلّل تشريع المولى العام دون اختصاصها بجماعة معينين ، وهذا بخلاف آية التطهير فإنها خصصت إرادة التطهير بجمع خاص تجمعهم كلمة «أهل البيت» وخصهم بالخطاب بقوله (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي لا غيركم.

٢ ـ أن أداة الحصر في الآية (إنّما) تفيد حصر التطهير بجماعة خاصة ، ولو كانت الإرادة في الآية تشريعية لما كان للحصر أي معنى ، لأن الإرادة التشريعية غير محصورة بأناس مخصوصين ، فحصرها في الآية بجماعة خاصة خلاف الحكمة من التشريع ، وخلاف الحصر أيضا ، إذ من الواضح أن الغاية من تشريع الأحكام إذهاب الرجس عن جميع المكلفين لا عن خصوص أهل البيت ، كما لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم ، وليست لهم أحكام مستقلة عن أحكام بقية المكلفين ، والغاية من تشريع الأحكام إذهاب الرجس عن الجميع ، لا عن خصوص أهل البيت.

هذا مضافا إلى وجود تضارب في الآية لو قلنا بأن الإرادة فيها تشريعية وذلك كأنه يقول هكذا :

إني أردت تشريعا إذهاب الرجس عن كل الناس ، وأريد هنا في آية التطهير إذهابه عن بعض الناس.

ففي الوقت الذي يريد من كل الناس إذهاب الرجس عنهم ، هو في نفس الوقت يريد إذهابه عن بعضهم ، وهذا عين التضارب والتهافت يتنزّه عنه الحكيم المتعال جلّ وعلا.

٣ ـ إن حمل الإرادة على التشريعية يتنافى مع اهتمام النبيّ الأكرم بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص كما مر بالروايات سابقا.


٤ ـ إن الآية في مقام المدح والثناء والتعظيم لجماعة معينين يشتركون مع غيرهم في الأحكام ، وهذا المديح والتعظيم لا يتناسب مع كون الإرادة تشريعية ، مضافا إلى أن الآية في صدد إبراز فضلهم على عامة المكلفين وأنهم مميزون بإذهاب الرجس وتوكيد التطهير ، وهذا الإبراز لا يشمل جميع المكلفين ، وإنما يختص بجماعة معينين أرادهم الله سبحانه أن يكونوا تكوينا مطهّرين.

وبعبارة أخرى : أن الآية ليست بصدد الإنشاء والطلب كما يحاول مدعو الإرادة التشريعية إثباته ، بل هي إخبار عن أمر خارجي وهذا لا ينسجم إلّا مع الإرادة التكوينية ؛ ولو كانت بصدد الإنشاء والطلب لجماعة معينين مع كونهم مشتركين مع غيرهم بإذهاب الرجس لاستلزم ذلك التضارب والتهافت في كلام الحكيم كما قلنا آنفا.

فحمل الآية على الإرادة التشريعية يبعدها عن كونها منقبة للمخاطبين بها من أهل البيت ، لأنها تكون إنشاء وطلبا للتطهير وإذهاب الرجس من المخاطبين بها ، وهذا خلاف ما أجمع عليه المفسرون في فهم الآية المباركة من أنها بصدد الإخبار عن منقبة وفضيلة لأهل البيت.

إشكالان وجوابان :

الإشكال الأول :

قد يقال إن الله عزوجل مدح أهل البيت عليهم‌السلام في آية الوفاء بالنذر من سورة الدهر لأنهم أخلصوا النية والعمل ، فيكون كذلك هنا في آية التطهير حيث إنهم وصلوا إلى مرتبة جليلة بالنية والعمل فمدحهم وأثنى عليهم ، فتكون الإرادة حينئذ تشريعية ويثبت المطلوب.

والجواب :

أن الله سبحانه مدحهم هناك لمقام العمل ، ولأنهم وفوا بالنذر ، أما هنا فليس


المقام مقام عمل وإنما هو مقام مدح وثناء وإبراز فضيلة نتيجة علمه عزوجل بأنهم لن يعصوه أبدا.

الإشكال الثاني :

إن القول بالإرادة التكوينية يجرّنا إلى الالتزام بالجبر وسلب الإرادة عن أهل البيت فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الإرادة التكوينية هي المتحكّمة في جميع تصرفاتهم ، ونتيجة ذلك حتما حرمانهم من الثواب ، لأنه وليد إرادة العبد ، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين ، وهذا ما لا يمكن أن يلتزم به مدعو الإمامة لأهل البيت عليهم‌السلام.

والجواب :

١ ـ إن ما يذهب إليه الشيعة الإمامية هو مسلك الأمر بين الأمرين أي لا جبر ولا تفويض ، بمعنى أن جميع أفعال العبيد وإن كانت مخلوقة لله عزوجل ومرادة له بالإرادة التكوينية لامتناع جعل الشريك له في الخلق ، إلا أن خلقه لأفعالهم إنما هو بتوسط إرادتهم الخاصة غالبا وفي طولها ، لأن الله تعالى هو من أعطى القدرة للعبد الذي من خلال ما أعطاه الله من القدرة يطيع ويعصي ، وبذلك صححوا نسبة الأفعال للعبيد ونسبتها لله فهي مخلوقة لله عزوجل حقيقة لكونه واهب القدرة ، وهي صادرة عن إرادة العبيد حقيقة أيضا لكونها صادرة عنهم باختيارهم ، وبذلك صححوا الثواب والعقاب ، وذهبوا إلى الحل الوسط الذي أخذوه من أقوال أئمتهم عليهم‌السلام : لا جبر ولا تفويض وإنّما هو أمر بين أمرين.

وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الإرادة وسلبها عنهم كما هو مفاد مذهب القائلين بالجبر ، كما سلموا من شبهة المفوّضة في عزل الله عن خلقه ، وتفويض الخلق لعبيده استقلالا عن الله عزّ اسمه ، كما هو مذهب المفوّضة.

وبناء على هذا النظرية يكون مفاد الآية أن الله عزوجل لمّا علم أن إرادتهم تجري دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام ، بحكم ما زوّدوا به من إمكانات


ذاتية ، ومواهب مكتسبة من الله تعالى نتيجة حبهم له وفنائهم في الله تعالى ، بحيث صار الإسلام بل التوحيد المطلق متجسّدا في سلوكهم ، ثم بحكم ما كانت لديهم من القدرات على أعمال إرادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علما وخبرة ، فقد صح له الإخبار عن ذاته المقدّسة بأنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلّا إذهاب الرجس عنهم ، لأنه لا يفيض الوجود إلّا على هذا النوع من أفعالهم ما داموا هم لا يريدون لأنفسهم إلّا إذهاب الرجس والتطهير عنهم.

وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في أن يحملوا ثقل النهوض برسالته المقدّسة كما هو الشأن في الأولياء والأنبياء وأوصيائهم ، على أن الإشكال لو تمّ فهو جار في الأنبياء جميعا ، وثبوت العصمة لهم ـ ولو نسبيا ـ موضع اتفاق الجميع ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق.

وبالجملة فإن تخصيص تعلق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأمة جميعا ، فعند ما شرّع الله سبحانه دساتيره إلى الناس لم يستثن أحدا منهم لأن الحكمة من التشريع إنما هي التطهير وإتمام النعمة كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ) (سورة المائدة : ٦) ثم علّله بقوله (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

فالتشريع يعمّ أهل البيت عليهم‌السلام كغيرهم من المكلّفين لكن إرادته هنا تكوينية مختصة بهم.

٢ ـ إنّ تعلق إرادته عزوجل تكوينا بهم بإذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم‌السلام لا يعني أنهم صاروا مجبرين على فعل الطاعة والابتعاد عن المعصية مما يعني انتفاء صفة المدح والثناء عليهم ، بل إن تعلق إرادته بإذهاب الرجس عنهم

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.


مرتبط باختيارهم فعل الطاعة وترك المعصية ، فهم قادرون على فعل المعصية ولكنهم لا يفعلونها لعلمهم بعواقب المعاصي وآثارها السلبية ولأن ترك المعصية محبوب لدى المولى سبحانه.

قد يقال : كيف حصلوا على هذا العلم؟

والجواب : إن حصولهم عليه موهوبي من عند علّام الغيوب لعلمه سبحانه أنهم لن يعصوه في الدنيا ، فالمسألة مرتبطة بعلم الله الأزلي الذي لا يمكن أن يحده شيء على الإطلاق.

فسبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد لا يستلزم سلب الاختيار عنهم ، لأن إرادته سبحانه إنما تتعلق بتوسط إرادة العبيد واختيارهم ، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئا فالله سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكوينا.

ومعنى إرادته التكوينية بإذهاب الرجس هو أن الله تعالى عصمهم عن الذنوب والخطايا والغفلة والسهو والنسيان وكل ما ينفر عن قبول الدعوة ، والعصمة كما هو معلوم عبارة عن علم يقيني حباه الله تعالى لمن علم منه الطاعة والامتثال ، وهي بهذا المعنى لا تسلب صاحبها عن الاختيار ، بل يبقى قادرا على الفعل أو الترك ، ويختار الطاعة على المعصية بإرادته واختياره ، ومثال على ذلك :

قدرة الله تعالى على كل مقدور ومنه قدرته على فعل القبائح كقدرته على فعل الحسن ، غير أنه لا يصدر منه القبيح قط في زمن من الأزمان لأن «الصارف عن فعل القبيح موجود والداعي مفقود ، وكلّما وجد الصارف وانتفى الداعي امتنع الفعل» (١).

ولأجل أنه عزوجل لا يفعل القبيح نرى عمومية قدرته لكل شيء ، ومع هذا فإنه عزوجل لا يصدر منه القبيح ، إذ لو لم يقدر على القبيح لما صح قولنا : إنه على كل شيء قدير.

__________________

(١) انظر كتابنا : الفوائد البهية ج ١ / ٣١٠.


وكذا الإنسان العاقل الذي لا يمس بيده الأسلاك الكهربائية ، ولا يلقي بنفسه من شاهق لعلمه بأن في ذلك هلاكه وموته ، فهو قادر على فعل ذلك إلا أنه لا يفعل لعلمه بالهلاك ، فعلمه لم يسلبه الاختبار بل صانه من الوقوع في الهلاك ، ونظيره المعصوم المصون من القبائح فهو يعصم نفسه طيلة حياته من أي قبيح وإن كان قادرا على الإتيان بها.

ويتحصل مما ذكرنا :

أن الإرادة التشريعية هي التي يتوسط فيها بين المريد وتحقق الإرادة في الخارج إرادة موجود وشخص آخر.

فعند ما تطلب من ابنك أن يأتيك بماء ، فلكي يتحقق وجود الماء أمامك لا بدّ أن توجد إرادة متوسطة بين إرادتك وبين تناولك للماء ، وهذه هي الإرادة التشريعية.

أما الإرادة التكوينية فهي التي لا يتخلل بين إرادة المريد وبين تحقق المراد في الخارج إرادة موجود آخر ، فلو أردت شيئا تطلبه من يدك ، فإن اليد تتحرك مباشرة للإتيان به ، من دون أن يحتاج تحقق المراد خارجا إلى توسط إرادة أخرى.

ومن أهم خصائص الإرادة التشريعية أنها قابلة للتخلّف بعكس الإرادة التكوينية فإن المراد لا يمكن أن يتخلّف عن الإرادة ، فهل يتخلف البصر إن أردت من الباصرة أن تبصر؟ كلا ، لا يتخلّف لأن الإرادة هنا إرادة تكوينية.

ـ والآية الشريفة لو كانت تثبت الإرادة التشريعية لأفادت الإنشاء والطلب من كل الناس أن يتطهروا وأن يتنزّهوا عن كل رجس ، وما دامت الآية تتحدث عن أهل البيت فسيكون المراد منها وفق الإرادة التشريعية أنّ الله يطلب من أهل البيت أن يكونوا معصومين لا أنه عزوجل يخبر عن عصمتهم ، أما لو حملنا الإرادة في الآية على التكوينية فهي إخبار عن أن أهل البيت معصومون.

وهكذا نكون أمام خيارين في الآية ، فهي إن حملت على التشريع فلا شك


أنّها إنشاء وطلب للعصمة من أهل البيت ، وإذا حملت على التكوين فهي إخبار عن كونهم معصومين. ولا يمكن الحمل على الإرادة التشريعية ، لأنها تنص على قوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) و «إنّما» تفيد الحصر والقصر ، والمعنى أن الله طلب من أهل البيت فقط أن يكونوا كذلك ، وإذا كانت الإرادة التشريعية فلا معنى لأن يكون طلب الطهارة والتنزّه عن الرجس مختصا بأهل البيت محصورا بهم دون غيرهم.

وصرف مصداق أهل البيت في الآية إلى غير عترة النبيّ كنسائه أو قرابته العامة أو الخاصة فإن ذلك لا يحل المشكلة ، إذ ستبقى الإرادة التشريعية غير منسجمة مع هذا الحصر الموجود في الآية ، فالله سبحانه أنزل الشريعة لا لكي يتطهر أهل البيت وحدهم ويتنزّهوا عن الرجس دون سواهم ، وإنما لكي يتطهر المسلمون جميعا ، ويتنزّه كل من بلغه هذا الدين.

ولو حملنا الإرادة على التشريع فسيكون هذا الحصر في غير محله ، ولا يلائم الآية المباركة أساسا ، وبذلك لا يمكن أن تكون الإرادة في الآية تشريعية ، ومن ثمّ فهي ليست إنشائية ، وإنّما هي إرادة تكوينية ، وعلى هذا الأساس فهي إخبار عن أن أهل البيت متصفون بالعصمة.

رأي الأشاعرة في الإرادة :

ولو تفحصنا كتب الأشاعرة واستنطقناها عن الدليل على الإرادة التشريعية في الآية المباركة لحصلنا على جواب واحد لا غير وهو وحدة السياق ، حيث إنّ الله سبحانه جعل تلك الأوامر قبل آية التطهير من قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... وَلا تَبَرَّجْنَ .. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ) وسائل لإذهاب الرجس ، يأخذ بها الناس ويحققونها في حياتهم العملية ، فيكون خطابه تعالى لنساء النبيّ بهذه الأوامر لكي يذهب عنهنّ الرجس ، ويطهرهنّ تطهيرا ، فاتصال الآية بما قبلها وما بعدها دليل على وحدة السياق ، وبالتالي نزول الآية في نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


والجواب :

١ ـ لا يخفى أن ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاما خاصة بنساء النبيّ ، فالقرن في البيوت ، وحرمة التبرّج لغير الزوج وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة للرسول كلها أحكام عامة لنساء المسلمين ، فالله سبحانه عند ما خاطب نساء النبيّ قصدهنّ مع المسلمات ، فهو سبحانه يريد من خلال هذه التكاليف أن يطهّر الكل ، وإذهاب الرجس عن عموم النساء لا عن زوجات النبيّ خاصة ، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب دون غيرهن.

٢ ـ يمكن الأخذ بالسياق إذا لم يكن هناك دليل خارجي ينفيه ، ولكن مع وجود الدليل الذي يثبت خلاف السياق فلا يمكن حينئذ جعله حجة في مقابل الأدلة والقرائن الخارجية المثبتة عكسه.

٣ ـ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في تأنيث الضمائر ، وهذا لم يحصل في الآيات ، بل إن تعدد الخطاب بتأنيث الضمائر ثم تذكيرها ثم تأنيثها ينفي ما ادعاه المخالفون من نزولها في نساء النبيّ ، ولو كنّ المراد بالخطاب في الآية لكان الواجب تأنيث الضمائر في الآية الشريفة.

٤ ـ إن قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) يثبت العصمة للمصداق ، وهذه خير قرينة على أن المراد بأهل البيت ليس نساء النبيّ ، لأن أحدا لم يدّع العصمة لنساء النبيّ ، كما أن القرائن التاريخية أشارت صراحة إلى أن المعني بأهل البيت حصرا هم عترة النبيّ خاصة دون أزواجه.

٥ ـ أنه لا صلة لآية التطهير بما قبلها وما بعدها من الآيات ، بدليل أن الآية نزلت وحدها ولم يرد نزولها في ضمن آيات النساء ولو في رواية واحدة ، وقد ذكرنا سابقا أن المؤرخين من الفريقين متفقون على نزولها لوحدها في بيت أم سلمة.

* * * * *


المفردة الثانية : الرجس.

عرّف اللغويون «الرّجس» بالقذارة المادية والمعنوية.

قال صاحب المنجد :

الرّجس : الحركة الخفيفة ـ القذر ـ وسوسة الشيطان ـ العمل القبيح ـ العقاب على العمل القبيح (١).

وقال صاحب القاموس :

«الرّجس بالكسر : القذر ، ويحرّك ، وتفتح الراء وتكسر الجيم ، والمأثم ، وكل ما استقذر من العمل ، والعمل المؤدي إلى العذاب ، والشكل والعقاب والغضب ..» (٢).

وقال ابن فارس :

«الرّجس : القذر ، وقيل : الشيء القذر ، ورجس الشيء يرجس رجاسة ، وكلّ قذر رجس ، ورجل مرجوس ورجس : نجس ، ورجس أي نجس. ويعبر عن الرجس بالحرام والفعل القبيح والعذاب واللعنة والكفر ، والرجس في القرآن : العذاب ومنه قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ، ومن الرجس المأثم ، والرجس : الشك.

وقال الزجاج : الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل فبالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء وسماها رجسا : أي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

ورجس الرجل رجسا ، ورجس يرجس : إذا عمل عملا قبيحا. ورجس الشيطان وسوسته»(٣).

__________________

(١) المنجد الأبجدي ص ٤٧٦.

(٢) القاموس المحيط ج ٢ / ٣١٨.

(٣) لسان العرب ج ٦ / ٩٤.


وقال الراغب الأصفهاني :

«الرّجس : الشيء القذر ، يقال رجل رجس ورجال أرجاس ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) والرّجس يكون على أربعة أوجه : إما من حيث الطبع ، وإما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع ، وإما من كل ذلك كالميتة ، فإنّ الميتة تعاف طبعا وعقلا وشرعا ، والرّجس من جهة الشرع الخمر والميسر ، وقيل إن ذلك رجس من جهة العقل ..» (١).

وقال الآلوسي في روح المعاني :

«والرّجس في الأصل الشيء القذر ... وقيل الذنب. وقال السدي : الإثم ، وقال الزجاج : الفسق ، وقال ابن زيد : الشيطان ، وقال الحسن : الشرك ، وقيل : الشك ، وقيل : البخل والطمع ، وقيل : الأهواء والبدع ، وقيل : إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص ، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك ..» (٢).

وقال الطباطبائي في ميزانه :

«والرّجس ـ بالكسر فالسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في الشيء توجب التجنب والتنفر منها ، وتكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وبحسب باطنه ـ وهو الرجاسة والقذارة المعنوية ـ كالشرك والكفر وأثر العمل السيئ ، قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) ..» (٣).

وقال في موضع آخر :

__________________

(١) مفردات القرآن ص ١٨٨.

(٢) تفسير روح المعاني ج ١٢ / ١٨.

(٣) تفسير الميزان ج ١٦ / ٣١٢.


«الرّجس الشيء القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته ، فالرجاسة بالفتح كالنجاسة ، والقذارة هو الوصف الذي يبتعد ويتنزّه عن الشيء بسببه لتنفر الطبع عنه» (١).

وعليه فيكون الرّجس على قسمين : مادي ومعنوي كما نصصنا عليك أقوال بعض اللغويين ، وقد استعمل القرآن العظيم «الرجس» بكلا معنييه حيث قسّمه إلى :

رجس معنوي : كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ، فالنجاسة الموجودة في الكافر نجاسة باطنية ، وبمجرد أن يعلن إسلامه يطهر باطنه ، وكذلك الأثر السيئ في نفس الإنسان فإنه رجس باطني لأنه من عمل الشيطان ويعبّر عنه بالرجس الباطني ، قال تعالى :

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٣).

(قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (٤).

ورجس مادي : كما هو الحال في الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، قال تعالى :

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٥).

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ج ٦ / ١٢٠.

(٢) سورة التوبة : ١٢٥.

(٣) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٤) سورة الأعراف : ٧١.

(٥) سورة المائدة : ٩٠.

(٦) سورة الأنعام : ١٤٥.


من هنا فإنّ الرجس لا يختص بالأمور المادية الظاهرية بل يشمل حتى الأمور المعنوية الباطنية من الأعمال ، والأخلاق والسلوك والملكات والعقائد الباطلة ، بل حتى تعلق القلب وتوجه النفس.

فالقرآن الكريم يستخدم الرّجس في الدلالة على القذارة المادية كما يستعملها في الأمور المعنوية أيضا.

وقد وصف القرآن لحم الخنزير بأنه رجس أي قذر يجب التنزه عنه لقوله تعالى «فاجتنبوه» ولكونه من الآثام الظاهرة التي ردع عنها بقوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (١). ولحم الخنزير من مصاديق ظاهر الإثم والرجاسة المادية ، وكذا وصفه للكفر ومرض القلب حيث عدّهما من مصاديق القذارة الباطنية والرجس.

وعلى هذا الأساس يتضح أن القرآن يستعمل الرّجس في الأمور المادية والمعنوية على حدّ سواء.

كما أن الرّجس في أصل اللغة موضوع للقذارة التي تستنفر منها الطباع والنفوس سواء كانت مادية أم معنوية.

وزبدة المخض :

أن الله سبحانه نفى عنهم عليهم‌السلام مطلق الرّجس بشتى أقسامه ؛ أما الرجس المعنوي من الشك والجهل بالموضوعات والأحكام وكذا النسيان والسهو ، والأثر السيئ ، كل ذلك منفي عنهم لأنه مما تستقبحه النفوس وتتنفر منه ، وهذا يضاد فائدة البعثة والدعوة إلى الله تعالى.

وأما الرّجس المادي كالبول والغائط والمني والدم هو أيضا منفي عنهم بالإرادة التكوينية ، بمعنى أن أثر النجاسة مرتفع عن كل هذه الأمور هذا على فرض

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٠.


أنّهم يشاركون الناس فيها. مضافا إلى اللوازم التي لا تنفك عادة عن البشر كرائحة الإبطين والرجلين والفم ، فإنّ كلّ ذلك منفي عنهم أيضا.

فالعرف والشرع والعقل لا يفرق بين مصاديق الرّجس المادية والمعنوية فالرّجس قذر سواء أكان ماديا أم معنويا ، فلا فرق في الرّجس بين أن يكون دما أو منيا أو خمرا أو ميتة أو لحم خنزير وبين أن يكون جهلا أو نسيانا أو سهوا. فكل ذلك رجس منفي عن آل البيت عليهم‌السلام ، ويستدل على ذلك بالعموم أو الاطلاق في قوله «الرّجس» المحلّى بلام الجنس المفيدة لنفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولا يخرج عن هذا العموم أو الاطلاق إلا بدليل معتبر يخصص أو يقيد به الشيء المذكور(١).

فالرّجس في الآية المباركة عام يشمل القسمين : المادي والمعنوي ولا تخصيص ولا تقييد في كون الرجس هو خصوص الرّجس المعنوي دون المادي. وإذا دار الأمر بين العام والخاص أو بين المطلق والمقيد ـ كما هو محرر في علم الأصول ـ قدّم واعتبر العام أو المطلق دون الخاص أو المقيّد حتى يدل دليل على التخصيص وهو غير موجود في المقام.

وأما دعوى من استدل بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) (٢) على نجاسة ما في باطن المعصوم عليهم‌السلام فغير تامة وذلك :

١ ـ لأن الآية في مورد رفع ما توهمه المشركون من كون النبيّ ملكا لا يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق ، فكانوا يتصورون أن الأنبياء آلهة.

٢ ـ صحيح أن البشر طبيعتهم الداخلية منطوية على وجود قذارة ، لكن هذا لا يمنع المعصوم أن يكون مميّزا عنهم بطبيعة معيّنة طاهرة ، وهذه الطبيعة الطاهرة لا تخرجه عن أصل البشرية ، وإلّا لأخرجت أهل الجنّة عن طبيعتهم البشرية حيث لا يغوّطون ولا يبولون من طريق الآلة المتعارفة ، بل ليس هناك بول أو غائط أو

__________________

(١) لاحظ تعليقتنا على مراجعات شرف الدين ص ١١٦ ط / الأعلمي.

(٢) سورة الكهف : ١١٠.


مني في الجنّة ، ولو سلّمنا وجوده ـ كما في رواية ـ فإنه يختلف بطبيعته عن البول والغائط في الدنيا ، فقد ورد أنه مسك يخرج من مسامّ الجلد.

فإذا كان أهل الجنة بهذا المستوى من الطهارة ، فكيف بمن خلقت لهم الجنة كما هو صريح الأخبار المتواترة ، منها حديث الكساء؟

٣ ـ من لوازم البشرية أن تصدر من أفواههم الروائح الكريهة ، وينتشر من آباطهم وأرجلهم النّتن إلّا أن ذلك غير موجود في المعصوم كما ورد في مصادر الفريقين ، ومع هذا لم يقل أحد منهم بخروج المعصوم عن بشريته ، فالمعصوم من حيث الصورة بشر لكنه من حيث الجوهر يتميّز بمؤهلات وصفات تجعله في مصافّ الملائكة من حيث الجوهر والماهية بل أرقى من الملائكة ، من هنا أشار الإمام الهادي عليه‌السلام إلى هذه الميزة في الزيارة الجامعة بقوله : «وأجسادكم في الأجساد وأرواحكم في الأرواح ، وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار وقبوركم في القبور ..».

فلأجسادكم خصائص تكون بها ممتازة عن غيرها ، من جوهرها وقوتها فهي بحدّ ذاتها معجزة ، ففي حديث مناقب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وكان يشهد كل عضو منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معجزة نوره ، كان إذا مشى في ليلة ظلماء بدا له نور كأنه قمر» ، قالت عائشة : فقدت إبرة ليلة ، فما كان في منزلي سراج ، فوجدت الإبرة بنور وجهه ، وعن حمزة بن عمر الأسلمي قال : نفرنا مع النبيّ في ليلة مظلمة فأضاءت أصابعه.

إلى أن قال :

ظله : لم يقع ظله على الأرض ، لأن الظل من الظلمة ، وكان إذا وقف في الشمس والقمر والمصباح ، نوره يغلب أنوارها.

قامته : كلما مشى مع أحد كان أطول منه برأس وإن كان طويلا .. إلى أن قال : عيناه ، كان يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه ، ويرى من خلفه كما يرى من قدامه. وولد مسرورا أي مقطوع السرّة مختونا.


وأما جلوسه : فقالت عائشة : قلت يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجت دخلت على أثرك ، فما أرى شيئا إلّا أني أجد رائحة المسك ، فقال : «إنّا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح الجنّة ، فما يخرج منه شيء إلا ابتلعته الأرض».

وأما فخذه : كان كل دابة ركبها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيت على سنّها لا تهرم قط.

وأما مشيه : كان إذا مشى على الأرض السهلة لا يبين لقدميه أثر ، وإذا مشى على الصلبة بان أثرها (١).

هذا مضافا إلى المميزات الأخرى التي يتصف بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأن تنام عينه ولا ينام قلبه ، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه ، مع أن هذه الأمور خلاف الطبيعة البشرية ، فاتصاف النبيّ والعترة بها لا يخرجهم عن الطبيعة البشرية لكونها مميزات إعجازية أصبغها المولى عزوجل على من فنى في العبودية واستغرق في الصفات الربوبية.

وبالجملة :

فالرّجس كما يطلق على القذارة المعنوية فإنه يصدق أيضا ويصح إطلاقه على القذارة المادية ، من هنا عرّفه اللغويون بهذين الأمرين ، كما أن الرّجس هو نفسه النجس كما تقدم.

قال الراغب الأصفهاني :

«النجاسة : القذارة وذلك ضربان :

ضرب يدرك بالحاسّة ، وضرب يدرك بالبصيرة» (٢).

وقال ابن منظور :

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ١ / ١٢٣ باختصار وتصرف.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ص ٤٨٣.


«النّجس والنّجس : القذر من الناس ومن كل شيء قذرته ، وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي أنجاس أخباث وفي الحديث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من النّجس الرّجس الخبيث المخبث» (١).

فالرجس نقصان ، تارة يكون النقصان ماديا وأخرى معنويا ، فالنقصان المادي كقبح المنظر وعاهات الجوارح كحول العينين وقطع اليد والعرج والبرص والجذام وغيرها ، ونقصان الطبائع أو نجاسة ما يتأسس منه البدن.

والنقصان المعنوي كخفة في العقل وعدم العلم بالشيء كالجهل بشتى صوره سواء أكان جهلا بالموضوعات الصرفة أم بالتي لها علاقة بالأحكام الشرعية ، وكذا السهو والنسيان والغفلة والتفكر بالذنب وغيرها ، كل ذلك يعدّ رجسا نزههم عنه المولى عزوجل بإرادته التكوينية لكونهم أهلا لذلك لشدة قربهم منه عزوجل وسعة قابلياتهم.

ولا يخفى أن نجاسة الدم والبول والغائط والمنيّ كلها داخلة ومندرجة في «الرّجس المادي» المنفي عنهم صلوات الله عليهم لعموم إذهاب الرجس عنهم حيث لا تقييد له ولا تخصيص.

وتقييد الرجس بالمعنوي دون المادي يعتبر خروجا عن التقسيم القرآني للرّجس الشامل للمادي أيضا بل يعتبر تقييدا أو تخصيصا من دون دليل معتبر ، وعليه يكون بمثابة الاجتهاد في مقابل النص وهو محرّم قطعا.

فالرّجس ذو مراتب متعددة متفاوتة ، مادية ظاهرية ومعنوية باطنية ، يتصف به العمل كما يتصف به المتلبس بذلك العمل ، ويتعلق بالاعتقادات الباطلة كما يتعلق بالأخلاق والسلوك والملكات ، بل حتى بتعلق القلب وتوجه النفس.

وحيث إن ذيل الآية المباركة يشير إلى طهارة أصحابها بقوله تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهذه الطهارة تشمل كل المراتب الثابتة للرجس المنفي عنهم ،

__________________

(١) لسان العرب ج ٦ / ٢٢٦.


يتوضح لدينا بحكم هذه الضدّية الواقعة بين الرّجس والطهارة نجد عين تلكم المراتب ثابتة للطهارة أيضا ، فهي تتعلق بالأمور المادية الظاهرية ، كما تتصف بها الأمور المعنوية الباطنية.

مثال الطهارة المادية قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١). ومن الواضح أن هذه الطهارة المكتسبة من الماء هي تلكم المادية الظاهرية ، وقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (٢) وهذه هي المرتبة الظاهرية من الطهارة ، ومثلها قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ) (٣).

ومثال الطهارة المعنوية قوله تعالى : (وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) (٤) ، وقوله تعالى (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٥) وهذه الآية وسابقتها تحملان أيضا على الطهارة المادية كما ورد ذلك في التفسير (٦).

ومن الطهارة المعنوية قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)(٧).

وقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٨).

وقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) (٩).

__________________

(١) سورة الأنفال : ١١.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٤) سورة آل عمران : ٤٢.

(٥) سورة البقرة : ٢٥.

(٦) يلاحظ تفسير مجمع البيان.

(٧) سورة عبس : ١٣ ـ ١٥.

(٨) سورة المائدة : ٦.

(٩) سورة التوبة : ١٠٣.


ومثال الطهارة المادية والمعنوية في آن واحد قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)(١) (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (٢).

وهكذا فإن هذه الآيات نظير آية التطهير القابلة للطهارتين المادية والمعنوية معا ، وذلك لأن الطهارة المادية في تلكم الآيات قد دلت القرائن عليها ، وكذا الطهارة المعنوية ، أما الطهارة المادية والمعنوية في آن واحد فحيث لا يوجد دليل أو قرينة صارفة للمعنى المادي أو المعنوي من معاني الطهارة بل نجد الطهارة قابلة للتفسيرين المادي والمعنوي ، لأنه ـ وبحسب القاعدة الأصولية ـ لو دار الأمر بين العام والمطلق من جهة وبين الخاص والمقيد من جهة أخرى ، قدّم العام والمطلق ، لأنه الأصل حتى يدل الدليل على التخصيص والتقييد.

ومعنى الطهارة في آية التطهير عام مطلق غير مقيّد ومخصص بالطهارة المادية دون المعنوية أو بالطهارة المعنوية دون المادية. بل كلا التفسيرين وارد وغير مستحيل ، ولا قرينة على التخصيص والتقييد ، فقوله سبحانه (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أي أنه عزوجل طهركم بالطهارتين المادية والمعنوية.

ولا يخفى على متفقّه عدا عن فقيه أن نجاسة الدم والبول والغائط والمني مخالف للطهارة المادية وكذا المعنوية المرادة بالإرادة التكوينية من قبل الله عزوجل.

وزبدة المخض : أن آية التطهير تدل على الطهارة المطلقة بقسميها المادي والمعنوي من موقعين هما قوله تعالى : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) وقوله تعالى (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وعليه فإن آية التطهير كافية لوحدها بإثبات الطهارة المطلقة للنبيّ والعترة من دون استعانة بالأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام وإن كانت بالإضافة للآية نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، ومن هذه الأخبار :

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٨.

(٢) سورة التوبة : ١٠٨.


ما ورد بالمتواتر اللفظي والمعنوي من طرق العامة والخاصة عن النبيّ في حديث سدّ الأبواب إلا باب الإمام عليّ صلوات الله عليه ، فقد روى الحديث نحو ثلاثين رجلا من الصحابة منهم :

زيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأبو رافع وأبو الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري وأبو حازم عن ابن عبّاس والعلاء عن ابن عمر وشعبة بن زيد بن علي عن أخيه الإمام الباقر عن جابر والإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام (١).

كل هؤلاء رووا عن الرسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر بسدّ الأبواب إلّا باب الإمام عليّ وقال : «لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلّا أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنهم مني» (٢).

وفي صحيح الترمذي بسنده عن أبي سعيد قال :

قال رسول الله ؛ يا عليّ لا يحل أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك (٣).

وفي سنن البيهقي بسنده عن أم سلمة قالت :

خرج علينا رسول الله فوجه هذا المسجد فقال : ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلوا (٤).

وفي فتح الباري في شرح البخاري بسنده من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلّا لعليّ بن أبي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب (ع) ج ٢ / ٢١٦.

(٢) أمالي الشيخ الصدوق ص ٢٠١ عيون أخبار الرضا (ع) ص ٢٢١ وبحار الأنوار ج ٣٩ / ٢٠.

(٣) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ١٥٦ ، نقلا عن صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠٠.

(٤) الفضائل الخمسة ج ٢ / ١٥٦ ، نقلا عن سنن البيهقي ج ٧ / ٦٥.


طالب لأن بيته كان في المسجد (١).

وفي مصادرنا أخبار كثيرة بهذا المعنى منها ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بطرق متعددة أن النبيّ قال :

لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلّا أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنهم مني (٢).

وبسنده عن أبي رافع قال : إن رسول الله خطب الناس فقال :

أيّها الناس إن الله عزوجل أمر موسى وهارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته ، وإن عليّا مني بمنزلة هارون من موسى فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب إلّا علي وذريته (٣) فمن ساءه ذلك فههنا ، وضرب بيده نحو الشام.

ومحل الشاهد في هذه الأخبار المرتبطة بتلك الحادثة التاريخية المشهورة هو حرمة الجنابة في مسجد النبيّ ومسجد الحرام في مكة ، بل حرمة المرور بهما إلا لمن استثناهم الرسول وهم عترته الطاهرة حيث أجاز لهم الرسول بأمر من ربّ العزة المرور والجنابة في هذين المسجدين.

ولا يوجد تفسير موضوعي واقعي لهذه الحادثة ولهذه الأخبار ولهذا الترخيص من الله سبحانه إلّا أن نعتقد بطهارتهم العامة حتى المادية منها ، وما الحكم بطهارة جنابتهم إلّا لأن الشيطان بعيد عن ساحتهم ، ولا فائدة أخرى من هذه الحادثة سوى إظهار عظمة أهل البيت عليهم‌السلام وأنهم أناس مطهّرون من النجاسة والخباثة الماديّتين.

__________________

(١) نفس المصدر ، نقلا عن فتح الباري ج ٨ / ١٦.

(٢) الأمالي ص ٢٠١ وعيون الأخبار ص ٢٢١.

(٣) علل الشرائع ج ١ / ٢٣٧ حديث ٢ باب ١٥٤ وروى مثله في نفس الباب بطرق متعددة.


ـ ومن الأدلة على طهارتهم المطلقة ما ورد بالأخبار من طهارة دم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حجمه بعض الصحابة وشرب دمه ، ومع ذلك لم ينكر رسول الله ذلك العمل ، بل على العكس ذكر قرينة تصرف الذهن لطهارة دمه صلوات الله عليه.

من هذه الأخبار :

١ ـ ما رواه أبو عتاب عبد الله بن بسطام بن سابور الزيّات وأخوه الحسين بن بسطام صاحبا كتاب طب الأئمة عليهم‌السلام عن محمد بن الحسين عن فضالة عن إسماعيل عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام عن أبيه الإمام أبي جعفر الباقر صلوات الله عليهما قال :

ما اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعا قط إلّا كان مفزعه إلى الحجامة.

وقال أبو ظبية : حجمت رسول الله وأعطاني دينارا وشربت دمه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أشربت؟ قلت : نعم ، قال : وما حملك على ذلك؟ قلت : أتبرك به.

قال : أخذت أمانا من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة ، والله ما تمسّك النار أبدا (١).

٢ ـ ما رواه الشيخ الصدوق بإسناده عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

احتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حجمه مولى لبني بياضة وأعطاه الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه ، فلما فرغ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين الدم؟ قال : شربته يا رسول الله ، فقال : ما كان ينبغي لك أن تفعل وقد جعله الله عزوجل حجابا لك من النار فلا تعد (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ / ٣٣ ، نقلا عن طب الأئمة ص ٦٩. ملاحظة : ورد في المتن أبو ظبية وهو خطأ ، والأصح «أبو طيبة» بالطاء بحسب ما ورد في التراجم ، لاحظ الكنى والألقاب ج ١ / ١١٤ وأسد الغابة ج ٦ / ١٨٠ وبحار الأنوار ج ٢٢ / ٢٥١.

(٢) بحار الأنوار ج ١٦ / ٤٠٩ والفقيه ج ٣ / ١١٨ والتهذيب ج ٦ / ٣٠٨ ح ١٠١٠ والكافي ج ٥ / ١١٨ والاستبصار ج ٣ / ٨٨ وملاذ الأخيار ج ١٠ / ٣٢٨ ح ١٣١.


٣ ـ ما رواه ابن شهرآشوب المازندراني قال :

واحتجم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة فدفع الدم الخارج منه إلى ابي سعيد الخدريّ وقال : غيّبه ، فذهب فشاربه ، فقال : ما ذا صنعت به؟ قال : شربته ، قال : أولم أقل لك غيّبه؟ فقال : قد غيبته في وعاء حريز ، فقال : إياك وأن تعود لمثل هذا ، ثم اعلم أن الله قد حرّم على النار لحمك ودمك لمّا اختلط بدمي ولحمي ، واستهزأ به أربعون نفرا من المنافقين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إن الله يعذّبهم بالدم ، فلحقهم الرعاف الدائم ، وسيلان الدماء من أضراسهم ، فكان طعامهم يختلط بدمائهم ، فبقوا كذلك أربعين صباحا ، ثم هلكوا (١).

ومثله ما روي في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام (٢)

وخلاصة الأمر :

أن دلالة هذه الأخبار على طهارة دم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة الدلالة حيث حكمت بطهارة دمه تخصيصا له عن نجاسة دم الإنسان وحرمة شربه بضرورة الكتاب والسنّة الشريفة والإجماع ، قال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ) (٣).

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (٤).

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٥).

وحرمة شرب الدم من الواضحات في الفقه التشريعي الإسلامي بحيث لا يخفى على أمثال أبي سعيد الخدري وأبي طيبة (٦) الحجّام ، هذا مضافا إلى وجود

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٦ / ٤٠٩ ، نقلا عن مناقب آل أبي طالب.

(٢) بحار الأنوار ج ١٧ / ٢٧٠ ، نقلا عن التفسير المذكور.

(٣) سورة البقرة : ١٧٣.

(٤) سورة المائدة : ٣.

(٥) سورة الأنعام : ١٤٥.

(٦) المشهور عن أبي طيبة أن مهنته كانت الحجامة ، فمن البعيد جدا دعوى جهله بحرمة شرب الدم.


قرائن في هذه الأخبار تفيد طهارة دمه وحلية شربه لكنّ النهي فيها يحمل على التنزيه دفعا لمحذور الغلو وما شابه ذلك ، وإلا لو كان الشرب حراما لما كان أمانا من الأوجاع والأسقام والنار كما هو مفاد هذه الأخبار ، فكونه أمانا يدل بالدلالة الالتزامية على أنه طاهر وجائز الشرب للتشافي أو التبرك ، لا سيّما وأن الأخبار وردت في أنه عزوجل لم يجعل دواء في محرّم الشرب ، فإذا كان دم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دواء وشفاء من كل سقم فهو حينئذ غير محرّم الشرب ، كما أنه غير نجس قطعا لحرمة تناول النجس حتى لو كان ماء فتأمل.

من هذه الأخبار الدالة على عدم وجود دواء في حرام ما رواه ثقة الإسلام الشيخ الكليني (رضي الله عنه) عن الثقة الجليل الشيخ علي بن إبراهيم القمي (رضي الله عنه) عن أبيه الثقة إبراهيم بن هاشم القمي عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة قال :

كتبت إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أسأله عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ صلب ، ليس يريد به اللذة وإنما يريد به الدواء؟

فقال صلوات الله عليه :

لا ولا جرعة ، ثم قال : إن الله عزوجل لم يجعل في شيء مما حرّم شفاء ولا دواء (١).

ومنها ما ورد عن معاوية بن عمّار قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر نكتحل منها؟

فقال الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام : ما جعل الله عزوجل فيما حرّم شفاء (٢).

وعليه : فلا دواء فيما حرّم الله عزوجل تناوله كالدم مثلا ، هذا مضافا إلى أن

__________________

(١) فروع الكافي ج ٦ / ٤١٣ ح ٢ وبحار الأنوار ج ٥٩ / ٨٦ ح ١٠ وفيه «ينعت له الدواء».

(٢) فروع الكافي ج ٦ / ٤١٤ ح ٦ وبحار الأنوار ج ٥٩ / ٩٠.


الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقر كون دمه شفاء من الأوجاع والأسقام ، فلا يحرم شربه حينئذ لكونه دواء بشهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إشكال :

مفاده : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أبا سعيد الخدري ومولى بني بياضة عن معاودة شرب الدم ، ونهيه وتوبيخه حينئذ يحملان على عدم رضاه بهذا العمل فيكون الشرب حراما.

والجواب :

إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما كان ينبغي أن تفعله» «وإياك أن تعود لمثل هذا» لا دلالة فيهما على الحرمة لوجود قرائن في ذيل هذه الأخبار مثل قوله «إنه أمان من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة» «وأن شاربه لا تمسّه النار» فإن تعابير كهذه تصرف النهي عن الحرمة المولوية إلى النهي الإرشادي لمصلحة لا نحيط بكنهها علما ، وقد تكون لدفع فتنة المنافقين المنكرين لطهارة رسول الله واستهزائهم به.

إذن دم المعصوم وكل ما يتعلق به طاهر مطهّر ، ويستدل على ذلك تأكيدا لما سبق :

أن أم أيمن إحدى موالي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شربت بوله ولم ينهها عن ذلك بل أقرّ لها عملها وقال لها : «إذن لا تلج النار بطنك» (١).

وقد استدل إمام الشافعية برواية أم أيمن على طهارة بول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغريب العجيب أن الشيخ المحقّق محمّد حسن النجفي صاحب الجواهر (قدس‌سره) يرى نجاسة بول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين لم يذكر الدليل على مدّعاه ، وبغض النظر عن رواية أم أيمن فإن آية التطهير كافية في إثبات مطلوبنا.

ومن الأدلة على طهارة المعصوم عليه‌السلام

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٥ / ٢٧٣ ، نقلا عن شرح الشفا للخفاجي ج ١ / ٣٦٢.


ما ورد من أن جسد الرسول طاهر حين الموت : فقد روى شيخ الطائفة الطوسي (قدس‌سره) بسنده عن الشيخ محمد بن الحسن الصفّار رضي الله عنه عن محمد بن عيسى عن القاسم بن الصيقل قال : كتبت إليه : جعلت فداك هل اغتسل أمير المؤمنين عليه‌السلام حين غسّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته؟

فأجابه :

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاهر مطهّر ولكنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فعل وجرت به السنّة (١).

وفي الحديث عدة دلالات :

الأولى : كونه يشير إلى طهارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطهارة العامة المطلقة (طاهر مطهر) من كل رجس مادي ومعنوي ، فلا تخصيص في الحديث الشريف ولا تقييد.

الثانية : لم يكن غسل المس واجبا على أمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك لطهارة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالثة : إن مسألة طهارة كل ما يتعلق بالمعصوم عليه‌السلام ليست جديدة على الساحة الدينية بل كانت مثارة في عصر أئمتنا عليهم‌السلام وكان جوابهم إيجابيا وهو الطهارة المطلقة.

وعليه فقد أفتى عامة فقهاء الإمامية بطهارة جثة المعصوم عليه‌السلام وإني لأعجب ممن أفتى بنجاسة بول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم في نفس الوقت أفتى بطهارة جثته عند الموت ، فها هو صاحب الجواهر (قدس‌سره) يفتي بطهارة جثة النبيّ اعتمادا على الحديث المتقدم من أنه صلوات الله عليه وآله (طاهر مطهر) قال عليه الرحمة :

«وكيف كان فينبغي استثناء المعصوم عليه‌السلام والشهيد ـ أي استثناؤهما من وجوب غسلهما ومن مسهما ـ للأصل المقرر بوجوه ، ولما ورد في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ج ١ / ١٤٩ ح ٢٨١ ووسائل الشيعة ج ٢ / ٩٢٨ ح ٧.


طاهر مطهر ، كالزهراء البتول عليها‌السلام ، ويتم في غيرهما من المعصومين بعدم القول بالفصل ، وبالقطع بالاشتراك في علة ذلك ، ولظهور ما دل على سقوط الغسل للشهيد بعدم نجاسته بهذا الموت إكراما وتعظيما له من الله تعالى شأنه ، بل لم يجعله عزوجل موتا ، فقال عزّ من قائل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١).

ثم قال : والمكاتبة الأولى ـ أي رواية الحسن بن عبيد المتقدمة ـ مشعرة بانتفاء غسل المس لانتفاء النجاسة في خصوص موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوه ..» (٢).

ليت شعري كيف يمكن الحكم بطهارة جثة المعصوم والشهيد ولا يمكن الحكم بطهارة دم وبول الرسول على فرض (٣) وجود بول وغائط للمعصوم؟! وإذا كان الحكم بطهارة جثة من ذكر تعبدا لورود الأدلة فليكن الحكم بطهارة دمه وبوله وما شابههما كذلك لورود المطلقات كآية التطهير وبعض الأخبار منها الخبر المتقدم وغيره.

إذن فالمعصوم عليه‌السلام لا ينجس بالموت كباقي الناس فلا يجب الغسل على من مسه بعد موته ، بل يمكن القول بعدم وجوب غسل الميت عليه صلوات الله عليه وآله.

نعم كل من غسله أو اغتسل من مسه إنما كان من أجل تركيز الأحكام الشرعية في أذهان العامة.

ومن الأخبار الدالة على الطهارة :

ما ورد من أن الصدّيقة الطاهرة لا تحيض ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّما سمّيت

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٦٩.

(٢) جواهر الكلام ج ٥ / ٣٠٧ وص ٣١٠.

(٣) لا تستغرب ـ أخي القارئ ـ هذه الفرضية ، فإنّ أهل الجنّة لا بول لهم ولا غائط حسبما جاء في الأخبار المتضافرة.


فاطمة «البتول» لأنها تبتلت من الحيض والنفاس (١).

وبتعبير آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن ابنتي فاطمة حوراء لم تحض ولم تطمث (٢).

ولا يخفى أن الحيض أحد أنواع النجاسة المادية التي نزّه الباري سبحانه وتعالى عنها الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام فهي طاهرة مطهّرة بالطهارة المطلقة لفقدان المخصّص والمقيد ، وكذا النبيّ الأكرم من باب أولى وبقية المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

إشكال :

قد يقال : إن نفي الحيض عن الصدّيقة الطاهرة ليس ملازما لطهارتها العامة المطلقة ، فكيف ادعيتم طهارتها من كل شيء؟

والجواب :

إن قيد «لا تحيض» في الحديث الشريف قيد مثال لا حصر ، فعدم حيضها هو أحد أبرز مصاديق طهارتها عليها‌السلام من كل رجس ، المنفي عنها ـ أي الرّجس ـ بآية التطهير.

ومن الأخبار الدالة على الطهارة أيضا قوله عليه‌السلام في زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام :

(أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها) (٣).

وقد رويت هذه الزيارة المقدّسة بأسانيد معتبرة وصحيحة وفوق حدّ

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٢٦٠ وإحقاق الحق ج ١٠ / ٢٥.

(٢) ذخائر العقبى ص ٢٦ وتاريخ بغداد ج ١٢ / ٣٣١ وكنز العمال ج ١٢ / ١٠٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٩٨ / ٣٣٢ ، نقلا عن التهذيب ومصباح الزائر والإقبال ومزار الشهيد والمفيد وكامل الزيارات ص ٤٠٣.


الاستفاضة ، فرواها الشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي المتوفى سنة ٣٦٨ ه‍ بلفظ آخر ، قال :

حدثني أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسين العسكري ومحمد بن الحسن جميعا عن الحسن بن علي بن مهزيار ، عن أبيه علي بن مهزيار ، عن محمد بن أبي عمير ، عن محمّد بن مروان ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال الإمام الصادق عليه‌السلام :

إذا أردت المسير إلى قبر الحسين عليه‌السلام فصم يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر ، واغتسل قبل خروجك ...

إلى أن قال :

ثم ادخل الحائر وقل حين تدخل : السلام على ملائكة الله المقربين .. السلام مني إليك والتحية مع عظم الرّزيّة ، كنت نورا في الأصلاب الشامخة ، ونورا في ظلمات الأرض ونورا في الهواء ونورا في السماوات العلى ، كنت فيها نورا ساطعا لا يطفى وأنت الناطق بالهدى ..

أشهد أنك طهر طاهر مطهّر ، من طهر طاهر مطهّر ، طهرت وطهرت أرض أنت بها ، وطهر حرمك (١).

وفي زيارة أخرى :

أشهد أنك طهر طاهر من طهر طاهر ، قد طهرت بك البلاد وطهرت أرض أنت فيها(٢).

وفي زيارة ثالثة :

__________________

(١) كامل الزيارات ص ٤١٠.

(٢) نفس المصدر ص ٣٨٨.


أشهد أنكم كلمة التقوى وباب الهدى ، والعروة الوثقى ، والحجة على من يبقى ومن تحت الثرى ، أشهد أن ذلك لكم سابق فيما مضى ، وذلك لكم فاتح فيما بقى ، أشهد أن أرواحكم وطينتكم طينة طيّبة طابت وطهرت هي بعضها من بعض ، منّا من الله ومن رحمته (١).

وما ينبغي الإشارة إليه :

إن مقاطيع هذه الزيارات حجة قاطعة على طهارة الطينة التي خلق منها الجسد الحسيني عليه أفضل التحية والسلام ، فطينته كانت نورا يتقلب في الأصلاب الشامخة ـ أي الموحّدة والخاشعة ـ والأرحام المطهّرة ـ المقدّسة التي لم تعرف السفاح والدنس ـ فكل ما فيه فهو طاهر مطهر ، بل ما حلّ جسده الشريف في بلاد إلا وطهّرها وقدّسها ، فهو «طاهر» بالطهارة المطلقة ، و «مطهر» لا ينجسه شيء على الإطلاق ، فهو طاهر من النجاسات المادية والمعنوية «لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها».

فالجاهلية سواء كانت مادية مصدرها فعل الجاهلية العمياء قبل عصر الإسلام من زنا وغيره ، أو مصدرها الجهل الأعمى من شرك وغيره ، فإن كل ذلك منفي عن مولى الأحرار الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام. وعليه فإن كل شيء في الإمام الحسين عليه‌السلام هو طاهر مطهّر ، فما ثبت له روحي فداه ثبت لأمه الصدّيقة الطاهرة وجده وأبيه والتسعة المعصومين من ذريته وبنيهعليهم‌السلام لوحدة الملاك.

وزبدة المخض :

أن الإطلاقات والعمومات دلت على طهارة كل ما يتعلق بالرسول محمّد وعترته الطاهرة وليس في المقام أي مخصص أو مقيد لتلك الاطلاقات والعمومات.

__________________

(١) نفس المصدر ص ٣٦٩.


هذا مضافا إلى أنه لم يثبت من الناحية الفقهية نجاسة كل دم ، من هنا أفتى عامة فقهاء الشيعة الإمامية بطهارة دم السمك وبعض الحشرات ، وكذا الدم المتبقي في الذبيحة ، حيث إن الكل دماء ولكنها دماء طاهرة.

وكذا أفتى الفقهاء طبقا لما جاء في الأحاديث الصحيحة أن أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه من ذي النفس السائلة نجس وحرام شربه إلا الحيوانات مأكولة اللحم فقد ورد بالصحيح والموثق طهارة أبوالها وأرواثها وجواز شرب أبوالها لا سيّما الإبل منها.

وعليه : لم يفت الفقهاء بنجاسة كل الدماء ، بل استثنوا بعض الدماء ، ولم يفتوا بنجاسة كل الأبوال بل استثنوا بعض الأبوال. كما لم يقل أحد منهم بنجاسة كل الفضلات بل استثنوا بعض الفضلات.

وإذا كان كذلك فكيف نجعل المعصومين عليهم‌السلام داخلين في المستثنى منه ولا نخرجهم من المستثنى ، بل يجب إخراجهم واستثنائهم لآية التطهير على الأقل ، وما أعظمها من دليل ، فضلا على ما مر سابقا من الأدلة النقلية الواردة في المقام.

وزبدة المقال :

إن طهارتهم عليهم‌السلام بكلا قسميها مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فقيه جاس خلال الديار بردّ الفروع إلى الأصول والقواعد الواردة عن مشكاة النبوة والولاية ، والشاك بما قلنا لا أظنه يحصل على يقين بأمثالها لوضوحها عند من تجرد عن العلائق النفسانية والعصبيّة بالتحزّب للكبراء من أعاظم العلماء ، لأنّ من كان همه الحق المتعال لا يشغله عنه القيل والقال (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١).

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٩.


المفردة الثالثة : أهل البيت عليهم‌السلام.

في هذه المفردة نبحث في عدة نقاط :

النقطة الأولى :

مفهوم أهل البيت لغة : فقد اتفقت كلمات اللغويين على أن مفهوم أهل البيت هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت ، وأهل الرجل : من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.

قال الراغب الأصفهاني :

«أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد ، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ، ثم تجوّز به ، فقيل : أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب ، وتعورف في أسرة النبيّ عليه الصلاة والسلام مطلقا إذا قيل أهل البيت لقوله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) وعبّر بأهل الرجل عن امرأته» (٢).

وقال الطريحي (قدس‌سره) :

«أهل البيت : سكانه ، وكذا أهل الماء ، وأهل الرجل : آله ، وهم أشياعه وأتباعه وأهل ملّته ، ثم كثر استعمال الأهل والآل حتى سمّي بهما أهل بيت الرجل لأنهم أكثر من يتبعه ..»(٣).

وآل أصله أهل ، قلبت الهاء همزة بدليل أهيل فإن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها (٤).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٢) مفردات القرآن الكريم ص ٢٩.

(٣) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٤.

(٤) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٣.


والآل أعم من الأهل ، فإن آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل من يئول إليه ، وهم قسمان :

الأول : من يئول إليه مآلا صوريا جسمانيا كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين الذين يحرم عليهم الصدقة في الشريعة المحمّدية.

والثاني : من يئول إليه مآلا معنويا روحانيا وهم أولاده الروحانيون من العلماء الراسخين والأولياء الكاملين والحكماء المتألهين المقتبسين من مشكاة أنواره ، ولا شك أن النسبة الثانية آكد من الأولى. وإذا اجتمعت النسبتان كان نورا على نور كما في الأئمة من العترة الطاهرة. وكما حرم على الأولاد الصوريين الصدقة الصورية كذلك حرم على الأولاد المعنويين الصدقة المعنوية أي تقليد الغير في العلوم والمعارف.

سئل مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام : من الآل؟

قال عليه‌السلام : ذريّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقيل له من الأهل؟

قال عليه‌السلام : الأئمة عليهم‌السلام (١)

وفي معاني الأخبار : سئل عن آل محمّد؟ قال عليه‌السلام : ذريته ، فقيل : ومن أهل بيته؟

قال : الأئمة عليهم‌السلام. قيل : ومن عترته؟

قال عليه‌السلام : أصحاب العباء (٢).

وقال ابن منظور :

«أهل الرجل : عشيرته وذوو قرباه ، والجمع : أهلون وآهال وآهال وأهلات .. وأهل البيت سكّانه ، وأهل الرجل : أخص الناس به ، وأهل بيت النبي :

__________________

(١) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٣.

(٢) نفس المصدر ج ٥ / ٣١٣.


أزواجه وبناته وصهره أعني عليّا عليه‌السلام ، وقيل : نساء النبيّ والرجال الذين هم آله ..» (١).

وقال في موضع آخر :

«آل الرجل : أهله ، وآل الله وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها : أهل ثم أبدلت الهاء همزة فصار في التقدير أأل ، فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفا كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل : آمن وآزر» (٢).

إذن مفهوم «أهل البيت» عام له مصاديق متعددة ، وتخصيصه بالزوجة إجحاف في حق هذا المفهوم ، كما أن تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن الكريم كما في قصة موسى وزوجته بقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) (٣).

فقد أشار سبحانه هنا إلى أن الأهل هي زوجة النبيّ موسى عليه‌السلام.

وكذا ورد في قصة زوجة إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٤).

وعند إطلاق كلمة «أهل» تحمل على جميع مصاديق مفهوم «لأهل» إلا إذا قامت القرائن على أن المراد صنف خاص من الأهل.

وهنا السؤال :

__________________

(١) لسان العرب ج ١١ / ٢٩.

(٢) لسان العرب ج ١١ / ٣٠.

(٣) سورة القصص : ٢٩.

(٤) سورة هود : ٧١ ـ ٧٣.


هل قامت القرائن المعيّنة على إرادة صنف خاص من هذا المفهوم؟

والجواب : نعم ، فإن لكلمة «أهل البيت» اصطلاح خاص عند المشرّع والمتشرعة ، وإليك البيان في النقطة الثانية.

النقطة الثانية : في المعنى الاصطلاحي لمفهوم أهل البيت.

لمفهوم أهل البيت اصطلاحان :

١ ـ أن المراد به بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعني الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام وزوجها أمير المؤمنين وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهم‌السلام ، وهو ما يصطلح عليه ب «أصحاب أهل الكساء أو العباء» أو «الأشباح الخمسة» أو «الأنوار الخمسة» وأولادهم المعصومين المطهرينعليهم‌السلام ويصطلح على الجميع ب «الأنوار الأربعة عشر».

٢ ـ المراد به نساء النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهنا نسأل : أي واحد من هذين الاصطلاحين أراد الله تعالى ورسوله؟

والجواب :

لقد قامت الأدلة والقرائن والشواهد اللغوية والأدبية والقرآنية والنبوية على أن المراد ب «أهل البيت» هم العترة الطاهرة ، وإليك تلك القرائن :

القرينة الأولى :

إنّ اللام في أهل البيت للعهد أي معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب بمعنى أنه سبحانه وتعالى تكلّم بالآية عن جماعة ، خصهم بالخطاب المعيّن بإذهاب الرّجس ، وهؤلاء الجماعة هم أهل بيت خاص معهود بين المتكلم والمخاطب ، قد طهّرهم الله تعالى واصطفاهم على العالمين ، فالآية في مقام الإخبار عن جماعة أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وليست في مقام الإنشاء والطلب.


وعليه فإن الآية لا يمكن أن تشمل نساء النبيّ وأقرباءه ولا أعمامه ولا أي مصداق آخر غير العترة خاصة ، لأن جميع فرق المسلمين تتفق على عدم عصمة اولئك ، فيختص التطهير بجماعة معينين جمعهم الرسول الأكرم تحت الكساء هم الأربعة المطهرين : عليّ أمير المؤمنين والصدّيقة سيّدة نساء العالمين فاطمة والإمامان الحسن والحسين عليهم‌السلام ، والنبيّ الكريم خامسهم صلوات الله عليهم أجمعين.

ولو كانت الآية تنطوي على الاطلاق بحيث تشمل نساء النبيّ وأقرباءه لكان منهم من ادّعى هذا الفخر ، وهو وسام عظيم لا يمكن لإنسان أن يزهد فيه ، وعند العودة إلى التاريخ لا تجد أحدا ادّعى هذا الفخر لنفسه سوى من ذكرنا من أهل الكساء.

ومن ناحية أخرى تشير الوقائع التاريخية إلى أن أعمام النبيّ وأقرباءه ونساءه إلا النادر منهم ، كانوا على الشرك والوثنية ثم صاروا مسلمين ، وحتّى بعد أن أسلموا صدرت منهم أخطاء وهفوات وانحرافات ، وهذا يخالف مبدأ العصمة التي من المفروض أن الآية نصت بها عليهم.

هذا مضافا إلى أن آية التطهير لا يمكن أن تكون شاملة ومطلقة في نفسها لكي تحتاج إلى مخصص من الخارج ، وإنما هي خاصة بطائفة معيّنة أو بأشخاص معينين ، وهؤلاء المعيّنون هم الذين أشار إليهم حديث الثّقلين ، فعدم شمولية الآية المباركة لغير هؤلاء المطهّرين لا يستتبع إنكار شمولية مفهوم أهل البيت الوارد في القرآن كما مر آنفا.

وبعبارة أخرى :

صحيح أن مفهوم «أهل البيت» عام له مصاديق متعددة إلا أنّ آية التطهير صرفت المعنى العام إلى المعنى الخاص لجماعة مخصوصين.


القرينة الثانية :

تذكير الضمائر في آية التطهير في حين أن الله عزوجل أنّثها في الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير ، فلو كان المراد من «أهل البيت» نساءه لكان الأجدر تأنيث الضمائر في مفردات الآيات الحافة بآية التطهير ، وهذا ما لم يحصل.

القرينة الثالثة :

إنّ الآيات المرتبطة بأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبتدئ من الآية ٢٨ وتنتهي بالآية ٣٤ وهي تخاطبهنّ تارة بلفظ «الأزواج» ومرتين بلفظ «نساء النبي» الصريحين في زوجاته ، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ «أهل البيت» أو ليس العدول قرينة على أن المخاطبين الحقيقيين ـ أعني أهل الكساء ـ غير اللاتي توجه الخطاب لهنّ في الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير.

ويشهد لما قلنا إن اختلاف لحن الخطاب في آيات النساء كقوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ... وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... لَسْتُنَّ .. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ .. وَقُلْنَ .. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ .. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ .. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ..) يختلف عن المقطع المرتبط ب (أهل البيت) فإن المقاطع الأولى تصرّح بأن بلوغ نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمرتبة الأجر المضاعف أو نيل العقوبة المضاعفة ، منوط بهنّ وبإرادتهن الخاصة ، كقوله تعالى (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ... وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ..) وهكذا البواقي ، وهذا بخلاف المقطع المرتبط بأهل البيت ، فإنه يحكي تعلق الإرادة الإلهية ، لا إرادتهم ، بإذهاب الرجس وتطهيرهم تطهيرا.

وكيف يمكن لإرادة الله تعالى المحتومة أن تتعلق بنزاهة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطهارتهنّ من كل الخبائث والأرجاس ، والآيات السابقة يلوح منها احتمال


انصرافهنّ إلى الدنيا ، وسقوطهنّ في حبائلها وزينتها؟! ومن الواضح عدم انسجامه مع الإرادة الحتمية بالطهارة. وهذا ما يقرّب ما نرمي إليه من أن آية التطهير منفردة في النزول والموضوع ، بل لو ثبت نزولها مع الآيات الأخرى فإنها تختلف عنها في شأن النزول ، إذ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في نوع الضمائر من جهة ، والاتحاد في لحن الخطاب من جهة أخرى ، وهذا ما لا نجده في هذه الآيات الكريمة.

القرينة الرابعة :

النصوص النبوية المتواترة عند الفريقين الدالة على أن أهل البيت هم من كانوا تحت الكساء ، الثابتة عصمتهم بالآية المباركة ، بل ثبت بالنصوص الصحيحة الأسانيد والمعتبرة والموثقة أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث مدة يأتي باب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عند وقت الصلاة ، ويخاطب من فيه ـ وفيه الإمام عليّ والصدّيقة الطاهرة فاطمة والإمامان الحسنان عليهم‌السلام جميعا ـ : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

والروايات وإن اختلفت في المدة التي مكث فيها النبيّ يفعل ذلك ، إلّا أن القاسم المشترك بينها ، أنها كانت كافية لتعزيز هذه الثقافة وإشاعتها بين المسلمين.

هذا وللشعراء والبلغاء والأدباء طوال قرون عناية بارزة ببيان فضائل أهل البيت والتعريف بهم ، والتنويه والتصريح بأسمائهم المباركة حيث بات متسالما عليه في كل عصر ومصر أن المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة ، بل كلما اطلقت لفظة «أهل البيت» يتبادر منها العترة الطاهرة ، والانصراف والتبادر علامة الحقيقة.

وأما الرأي الآخر القائل إن «أهل البيت» هم نساؤه فيرده الاعتبار ودلالة الآية على العصمة ، وقد تقدم توضيح ذلك فيما سبق فتأمل.


المفردة الرابعة : التطهير.

ذكر اللغويون عدة اشتقاقات لكلمة «طهر» يجمعها معنيان هما القاسم المشترك :

١ ـ الطهارة المادية.

٢ ـ الطهارة الروحية.

فبعد إذهاب الرّجس بكل أقسامه عن أهل البيت عليهم‌السلام أكده بالفعل «يطهّركم» والمصدر «تطهيرا». والعلة في تأكيده التطهير تكمن في رفع ما عسى أن يتوهم أحد من أن «طهّر ـ يطهّر» الذي هو فعل قد يكون رافعا للنجاسة الخبثية الظاهرية دون الحدثية ، أو قد يزيل صورة الخبثية دون حقيقتها أو حكمها دون لونها أو جرمها ، ولونها دون رائحتها ، وكذلك الحدثيّة ، أو قد تكون الطهارة مبيحة غير رافعة للحدث ، أو قد تكون رافعة للحدث غير كاملة كما لو توضأ ولم يقرأ الأدعية المخصوصة ، فقد ورد أنه لا يطهر منه إلا الأعضاء المغسولة ، وقد تكون كاملة وغير مزيلة لبعض الأوساخ غير المانعة ، فإذا قال : «طهّر تطهيرا» أو أكده بالمصدر أفاد حصول التطهير على أكمل وجه وأصحه في كل ما ينبغي ، فلما قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) بتقديم الإرادة الدالة على كمال الاعتناء ، ولم يكتف بمعناها الذي يدل عليه «يذهب ويطهّر» دل ذلك على التطهير من كل ما يحتمل ويفرض من حدث أو خبث أو دنس أو وسخ أو نقص أو ما لا ينبغي أو غير كمال أو غير كامل ظاهرا وباطنا مما يكون عن قصد أو نسيان أو غفلة أو سهو أو تقصير أو قصور أو عدم رضا أو جهل أو تردد أو شك أو كفر أو التفات لغيره عزوجل. وفي هذه الآية نهاية الغاية في الطهارة والتطهير وكمال النهاية.

وبفقرة «يطهّركم تطهيرا» نستدل أيضا على الطهارة المادية للمعصومين عليهم‌السلام ، لأن الإرادة الإلهية بإذهاب الرجس عن العترة وزيادة التطهير لهم تعني أن كل شيء فيهم ومنهم ولهم طاهر مطهّر لا دنس فيه أبدا تماما كأهل


الجنّة طاهرين مطهّرين بل هم سادة أهل الجنّة ، والجنّة خلقت من فاضل طينتهم وسوابغ رحمتهم التي هي رحمة الله التي وسعت كل شيء.

فدماؤهم الزكية طاهرة مطهرة لا دنس فيها ، فإذا كان المسك بعض دم الغزال كما قال الشاعر :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

فلا ريب وبطريق أولى أن تكون دماؤهم الزكية طاهرة حيث بارك فيها الربّ وقدّسها لكونها عنصر الحياة عند أصحابها الذين ما عرفوا إلا الله تعالى وما عبدوا سواه البتة.

وهكذا كل ما يتعلق بالرسول وآله الميامين فإن له ميزة عند الله تعالى وخصيصة تشريفا لهم وتعظيما عمّن سواهم من الخلق ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

إلى هنا تم ما ذكرناه وبشكل مجمل في مفردات الآية المباركة وبقي تساؤلات تجول في خاطر البعض هي :

التساؤل الأول :

إن أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره تعالى عن أنه يريد إذهاب الرجس عنهم عليهم‌السلام وتطهيرهم ، وليس في الآية ما يدل على تحقق هذه الإرادة بالفعل وأنها صدرت منه سبحانه وتعالى مع أن الشيعة الإمامية يقولون بدلالة الآية على اتصافهم بالعصمة.

والجواب :

إنّ إرادة تطهيره لهم عليهم‌السلام فعلية وقد تحققت قبل نزول آية التطهير وذلك :

١ ـ إن الآية في مقام المدح والثناء وهما فرع تحقق الإرادة الفعلية بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، فهناك ملازمة بين مقام المدح والثناء ومقام الإرادة


الفعلية ، فلا اثنينية بين المقامين وإلا لاستلزم الفراغ في الذات الإلهية بمعنى أن ما قاله المولى لا يريده ، وهذا قبيح يتنزّه عنه الحكيم فضلا عن الله سيّد الحكماء عزوجل.

ويشهد لما قلنا تصرفاتنا العرفية ، فإنك إذا مدحت إنسانا يعني ذلك أن إرادتك الفعلية قد تحققت فيه.

٢ ـ إن إرادة الله تعالى تحققت في آية التطهير كما تحققت فعلا في آيات مماثلة لها كقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) و (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٢).

ومفاد الآيتين أن الله سبحانه وتعالى يبيّن لكم ـ أيّها الناس ـ الحقائق بواسطة هذه القوانين كما بيّنها لمن كان قبلكم وسار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة.

إن قيل :

لما ذا أتى بصيغة المضارع «يريد» الدالة على الحاضر والمستقبل ولم يأت بصيغة الماضي؟

يجاب عنه :

إن الإتيان بصيغة الحاضر أو المستقبل والعدول عن الماضي لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام ، فهو يريد إفادة دوام هذه الإرادة واستمرارها دائما.

التساؤل الثاني :

إنّ إذهاب الرّجس يتعلق بشيء موجود ، وعليه يستلزم ذلك أن يكون هناك رجس موجود أذهبه الله عزوجل عنهم وطهّرهم منه ، وهذا يضاد مقالة المسلمين الشيعة القائلين بعصمة العترةعليهم‌السلام.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٦.

(٢) سورة النساء : ٢٨.


والجواب :

١ ـ إن نزول الآية الشريفة بتطهيرهم في ذاك الوقت ليس دليلا على أنهم لم يكونوا مطهّرين قبل نزولها وذلك لأن الآية في مقام المدح والثناء ، فإرادته تعالى التكوينية متحققة فيهم قبل نزول الآية لعلمه عزوجل بأنهم سيطيعونه حق طاعته ، فإرادته كما تعلقت فيهم لقربهم منه ، كذا تعلقت بتبيين الشرائع والأحكام والهداية بقوله تعالى :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (١) (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٢).

فالله سبحانه طهّرهم قبل نزول الآية ولكنّه أراد إبراز وإظهار إرادته فيهم وأنها متحققة في كل آن وزمان من آنات أزمنتهم.

٢ ـ الإذهاب تارة يطلق ويراد منه إزالة الشيء عن المحل بعد ثبوته كما يقال : الماء يذهب القذارة والنجاسة.

وتارة يطلق ويراد منه دفع الشيء عن المحل قبل عروضه وإن كان ممكنا في حدّ ذاته لعروضه كقوله : أذهب الله عنك السوء والبلاء.

والإذهاب في الآية (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) بالمعنى الثاني أي دفع الرّجس عنهم قبل عروضه.

وبعبارة أخرى : إن هذه التراكيب كقوله تعالى (يُرِيدُ .. لِيُذْهِبَ .. يُطَهِّرَكُمْ) كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود كذلك تستعمل فيما لو لم يكن موجودا ، كما لو كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكن

__________________

(١) الآيات في سورة النساء : ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) سورة الحجرات : ١٧.


موجودا بالفعل كدعاء الإنسان لغيره بإذهاب المرض عنه وليس عنده أي مرض ، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.

قال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في ذلك :

«وإنّما يفيد إيقاع الفعل الذي يذهب الرّجس ، وهو العصمة في الدين والتوفيق للطاعة التي يقرّب بها العبد رب العالمين ، وليس يقتضي إذهاب الرجس وجوده من قبل ، والإذهاب عبارة عن الصرف ، وقد يصرف عن الإنسان ما لم يعتره كما يصرف عنه ما اعتراه ألا ترى أنه يقال في الدعاء «صرف الله عنك السوء» فيقصد إلى المسألة الله عصمته من السوء ، دون أن يراد بذلك الخبر من سوء به ، والمسألة في صرفه عنه ، وإذا كان الإذهاب والصرف بمعنى واحد ، بطل ما توهّمه السائل منه ، وثبت أنه قد يذهب بالرّجس عمّن لم يعتره قطّ الرجس على معنى العصمة له منه ، والتوفيق لما يبعده من حصوله به فكان تقدير الآية حينئذ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ..) الذي قد اعترى سواكم بعصمتكم ، ويطهّركم أهل البيت من تعلقه بكم على ما بيّناه(١).

التساؤل الثالث :

ما فائدة البحث في طهارة متعلقات المعصوم المادية ، أليس فيه إثارة التشويش على الساحتين العامة والخاصة ، وما الثمرة العملية لو قلنا بالطهارة المادية؟

وجوابه :

إذا كان البحث في هذه المسألة يوجب اضطرابا وتشويشا وبالتالي يجب رفضه ، فإنّ كثيرا من المسائل الفقهية والعقيدية وغيرهما يحرم البحث فيها حينئذ لكونها توجب تشويشا بين العامة والخاصة بل بين العامة أنفسهم وكذا الخاصة ، مع أن الفقهاء عامة بحثوا في أمور أخطر من مسألة طهارة المتعلقات المادية للمعصوم

__________________

(١) المسائل العكبرية للشيخ المفيد ، المسألة الأولى ، نقلا عن كتاب آية التطهير.


ولم يوجب بحثهم أي تشويش واضطراب بين المسلمين.

هذا مضافا إلى عدم حرمة كل ما سبّب التشويش ، وإلّا فإنّ مسائل كثيرة أوجبت تشويشا على الساحة الشيعية كمسألة ولاية الفقيه مثلا ومع هذا لم يفت أحد من فقهاء الشيعة بعدم جواز إثارتها كمسألة فقهية قابلة للنقاش صغرى وكبرى ، وكذا مسألة الخلافة والإمامة وغيرها من المسائل أريق سابقا من أجلها الدماء ومع هذا لم يحرّم البحث فيها أحد من فقهاء الشيعة ، ولو كان البحث في المسائل العقيدية التي توجب تشويشا محرّما لما ذكر القرآن الكريم مسائل عقيدية تتعلق بالديانتين اليهودية والنصرانية وحكمه عليهما بالكفر لكونهما حرفتا بعد غياب موسى وعيسىعليهما‌السلام.

وأما الثمرة العملية المترتبة على البحث في هذه المسألة فهي كما لو وقع دم من بدن المعصوم عليه‌السلام على لباس المصلي أو بدنه فهل يجب الغسل منه لصحة الصلاة أم لا؟

كما أن الثمرة والفائدة من البحث فيها إنّما هو إظهار عظمة المعصومين عليهم‌السلام الذين لا يقاس بهم أحد من الناس كما نصت عليه الأخبار.

ونحن نسأل من توهم عدم الثمرة :

ما فائدة البحث في الدم الذي تحت الأحجار عند شهادة مولى الأحرار الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام حيث أفتى الفقهاء عامة بطهارته! وما فائدة البحث في دم البراغيث والبق والعلق؟ بل ما فائدة البحث في أرواث وأبوال الحيوانات المأكولة وغير المأكولة؟

وهكذا فإن البحث في هذه المسألة كغيرها من المسائل الأدنى منها درجة والأقل منها أهمية لها ثمرة فقهية ، وكل ما كان له ثمرة فقهية يجب البحث فيه لمعرفة حكمه ، وعليه فإن هذه المسألة يجب البحث فيها لوجود ثمرة فقهية مترتبة عليها.


وفي ختام البحث أقول :

إن آية التطهير من أوضح الدلالات على إمامة العترة الطاهرة ، ومع هذا فإن العامة يفصلون بين علو المرتبة وبين القيادة والخلافة.

ونحن نسأل أهل الفكر منهم :

إذا لم تكن الإمامة أو الخلافة مقرونة بقوة العلم وعلو المنزلة والسبق بالفضيلة فبأي شيء تقرن؟

وهل يحق للفاسق أو الجاهل أن يستلم الخلافة مع وجود الشريف العالم بالأمور كلها؟!

العامة قالوا بصحة الأول دون الثاني الذي قامت الأدلة القرآنية والعقلية على إثباته. قال تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (١).

وبآية التطهير يتم الاستدلال بالآيات على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، وهناك آيات واضحة الدلالة تدل على مطلوبنا منها :

الآية الرابعة :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢).

نقل الجمهور (٣) في مصادرهم أنها نزلت في فضل الإمام عليّ يوم الغدير : منها ما رواه الواحدي أبو الحسن عليّ بن أحمد النيسابوري (المتوفى ٤٦٨ ه‍) :

إن الآية المباركة نزلت يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٨٩.

(٢) سورة المائدة : ٦٧.

(٣) راجع إحقاق الحق ج ٢ / ٤١٥ ، نقلا عن المصادر المعتبرة عند العامة.


ومنها ما رواه السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (المتوفى سنة ٩١١ ه‍) عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال :

نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ..) على رسول الله يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب (١).

وعن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) أن عليّا مولى المؤمنين (وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس) (٢).

ومنها ما رواه الألوسي (المتوفى سنة ١١٢٧ ه‍) : عن ابن عبّاس قال : نزلت الآية في عليّ كرّم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم ، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام : «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» (٣).

كما رواه ـ أي حديث الغدير ـ عامة مفسري الشيعة الإمامية ، ومورد نزولها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يوم غدير خم وهو مكان بين مكة والمدينة ، ويوم النزول كان في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة ، وهي آخر حجة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال لها حجة الوداع لأن النبيّ كان يعلم أنها آخر حجة له وسوف تدركه المنية بعدها ، لذا قيل عنها أنها حجة الوداع ، وحجة الكمال والتمام ، لتمام الدين فيها بالولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

ولمّا قضى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناسكه ، وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من الجموع الكثيرة ، ووصل إلى غدر خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ / ٥٢٨.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٥٢٨.

(٣) روح المعاني ج ٤ / ٢٨٢ وذكر فيه ألفاظا غليظة على علماء الشيعة الإمامية.


الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله تعالى بقوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ..).

وأمره أن يقيم الإمام عليّا علما للناس ، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية ، وفرض طاعته عليه‌السلام على كل أحد ، وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة ، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، ونهى عن سمرات خمس متقاربات دومات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد ، حتى إذا أخذ القوم منازلهم ، فقم ما تحتهن حتى إذا نودي بالصلاة للظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن ، وكان يوما هاجرا يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء ، وظلل لرسول الله بثوب على شجرة من الشمس ، فلما انصرف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته ، قام خطيبا وسط القوم على أقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعا عقيرته فقال :

«الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلّ ، ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمّدا عبده ورسوله ، أما بعد :

أيّها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبيّ إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، وأني أوشك أن ادعى فأجيب ، وإني مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا :

نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجاهدت ، فجزاك الله خيرا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟

قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال :

اللهم اشهد ، ثم قال : أيّها الناس ألا تسمعون؟ قالوا : نعم ، قال : فإني فرط على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه


أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثّقلين ، فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

قال : الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وأن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم أخذ بيد الإمام عليّ عليه‌السلام فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، يقولها ثلاث مرات ، وفي لفظ أحمد بن حنبل إمام الحنابلة : أربع مرات ، ثم قال :

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ، ثم لم يتفرقوا حتى نزل الأمين جبرائيل بقوله تعالى :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضي الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي.

ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام على هذه الدرجة الرفيعة التي حباها المولى عزوجل له عليه‌السلام.

وممن هنأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر بن الخطاب ، كلّ قال له : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.


قال ابن عبّاس : وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في الإمام عليّ أبياتا تسمعهن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل على بركة الله ، فقام حسان بن ثابت فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم فاسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا

ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماما هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعى اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فلما سمع النبيّ أبياته قال : لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

هذا هو حديث الغدير الذي أصفقت عليه الأمة الإسلامية بأسرها إلا من انحرفت سليقته واعوجت فطرته.

وهذا الحديث المبارك بلغ في التواتر درجة لم يبلغها حديث غيره ، مما زاد من اهتمام المسلمين به نظما ونثرا (١).

وهناك بعض الأشاعرة ممن شكّكوا في نزول الآية بأمير المؤمنين عليه‌السلام كالرازي في تفسيره ، حيث ذكر وجوها عشرة في نزول الآية ، ومن جملة الوجوه : أنها في حق الإمام علي عليه‌السلام ، ثم اختار وجها مغايرا فقال :

«العاشر : نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن

__________________

(١) راجع الغدير في الكتاب والسنة للعلّامة الأميني ج ١ / ٩ وج ٢ / ٣٩.


ومؤمنة ، وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن علي.

واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها» (١).

يرد عليه :

أولا : ما ذكره الرازي من امتناع إلقاء هذه الآية على وجه تكون أجنبية عمّا قبلها وبعدها ، مجرد دعوى لا تستند إلى أية رواية.

فترجيحه لهذا الوجه على غيره من الوجوه العشرة مجرد استحسان منه بملائمة سياق الآيات من غير استناد إلى أية رواية ، «ونحن إذا علمنا أن ترتيب الآيات في الذكر الحكيم غير ترتيبها في النزول نوعا فلا يهمّنا مراعاة السياق تجاه النقل الصحيح ، وتزيد إخباتا إلى ذلك بملاحظة ترتيب نزول السور المخالف لترتيبها في القرآن ، والآيات المكيّة في السور المدنية وبالعكس» (٢).

وحتى لو قلنا بأن ترتيب الآيات كان بإيحاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو توقيفي باتفاق العامة ، مع أننا نعتقد أن الترتيب النوعي لم يكن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما بفعل من جاء بعده من خلفاء الجور.

وعلى كل حال سواء كان الترتيب توقيفيا أم هو باجتهاد الصحابة فالمعنون واحد وهو عدم حجية السياق.

قال السيوطي :

(الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٥٠.

(٢) الغدير ج ١ / ٢٢٦.


ذلك ، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته ..»(١).

ثانيا : إنّ وعد الله تعالى لرسوله بالأمن من مكر اليهود والنصارى جدير أن يكون في أول البعثة لا في أواخر أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كان يهدّد فيها دول العالم وتهابه الأمم ، وقد فتح خيبر واستأصل شأفة بني قريظة والنضير ، وعنت له الوجوه وخضعت له الرقاب طوعا وكرها ، وفيها كانت حجة الوداع التي نزلت فيها آية البلاغ.

هذا بالإضافة إلى أن آية البلاغ ليس فيها ما هو خطر على اليهود والنصارى صراحة ، مع أن هناك آيات نزلت قبلها ، فيها تصريح بنفي الوثنية والشرك وذم المشركين من العرب واليهود والنصارى ولم يهدده الله تعالى في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم.

ثالثا : إنّ المتصفح لسورة المائدة يرى أن معظمها يتعرض لحال اليهود والنصارى ، وقد بلّغها النبيّ الأكرم من دون أن يهدده الله تعالى ، مع التأكيد على أن اليهود عند نزول سورة المائدة قد كسرت شوكتهم وخمدت نيرانهم ، وشملتهم السخطة واللعنة فلا معنى لخوف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم في دين الله تعالى ، وقد دخلوا يومئذ في السلم والإسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية ، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله تعالى إليهم وهو أمر قد بلّغ إليهم ما هو أعظم منه ، وقد وقف النبيّ قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش.

بهذه الوجوه يتعيّن حمل الخوف الحاصل عند النبيّ من منافقي قومه لا خوفه من اليهود والنصارى كما ادّعى الرازي ، لأنه من الواضح أن النبيّ لا يخشى منافقي قومه في تبليغ شيء جاء به إلّا نصب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام إماما ، وقد ورد عندنا أنّ جبرائيل عليه‌السلام نزل على النبيّ في حجة الوداع وأمره عن الله تعالى

__________________

(١) الاتقان في علوم القرآن ج ١ / ١٣٢.


بتنصيب الإمام عليّ خليفة ، فخاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضاق ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وكان خوفه ـ بأبي وأمي ـ في محله فقال لجبرائيل عليه‌السلام : إن قومي لم يقروا لي بالنبوة إلّا بعد أن جاهدت فكيف يقرون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة.

ثم لمّا تم تنصيبه خليفة وسار دحرجوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدباب لينفروا ناقته ويقتلوه ، فعصمه الله سبحانه منهم.

رابعا : ما حشده الرازي من الوجوه العشرة ، وجعل نصّ الغدير عاشرها ، وقصة الأعرابي ثامنها ، وهيبة قريش مع زيادة اليهود والنصارى تاسعها ، لا يعدو كونه مراسيل مقطوعة عن الإسناد غير معلومة القائل ، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري إلى القيل ، وجعل ما روي في نص الولاية أول الوجوه ، وأسنده إلى ابن عباس والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري والإمام محمّد بن عليّ عليه‌السلام.

والطبري الذي هو أقدم وأعرف بهذه الشئون أهملها رأسا ، وهو وإن لم يذكر حديث الولاية أيضا لكنّه أفرد له كتابا أخرجه فيه بنيف وسبعين طريقا.

فالوجوه التي ذكرها الرازي غير صالحة للاعتماد عليها ، ولا ناهضة لمجابهة الأحاديث المعتبرة التي رواها أعاظم العلماء كالطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، والرسعني وأبي نعيم وأبي إسحاق الثعلبي والواحدي والسجستاني والحسكاني وغيرهم بأسانيد جمّة.

فما ظنك ـ أخي القارئ ـ بحديث يعتبره هؤلاء الأئمة؟

على أن الظاهر على غير واحد من الوجوه لوائح الافتعال السائد عليها عدم التلاؤم بين سياق الآية وسبب النزول ، فلا يعدو جميعها أن يكون تفسيرا بالرأي ، أو استحسانا من غير حجّة ، أو تكثيرا للأباطيل والأراجيف أمام حديث الولاية ، فتّا في عضده وتخذيلا عن تصديقه ، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

خامسا : إن قصة الأعرابي المدّعاة تناقض ما ورد متواترا من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم


كان يحتف به الحرس إلى نزول الآية فمن المستبعد جدا وصول الأعرابي إليه وهو نائم ، والسيف معلّق عنده ، والحرس حول قبّة النبيّ ، على أن لازم هذا : التفريق في نزول الآية ، فإنه ينص على أن النازل بعد قصة الأعرابي هو قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولا مسانخة بين هذه القصة وصدر الآية ، ومن المستصعب البخوع لما تفرّد به بعض كتّاب العامة في مثل هذا.

وليس من المستحيل أن تكون قصة الأعرابي من ولائد الاتفاق حول نصّ الغدير ونزول الآية ، فحسب السذّج أنها نزلت لأجلها ، وفي الحقيقة لنزولها سبب عظيم هو أمر الولاية الكبرى ، ولم تك هاتيك الحادثة بمهمّة تنزل لأجلها الآيات ، وكم سبقت لها ضرائب وأمثال لم يحتفل بها ، غير أن المقارنة بينها وبين نص الولاية على تقدير صحة الرواية أوقعت البسطاء في الوهم.

كما أن الآية ليست متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد ، ولا تتصل بها في سردها ، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها ، ولو كانت متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصّلها أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب ، وتعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (١).

وسياق الآية يأباه فإن قوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه ، ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوّغ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلّغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وعنده حدة

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٨.


اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها.

وخلاصة الأمر : أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف من منافقي قومه أن يكذّبوه في ابن عمه أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأن يقلبوا الأمر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين وتتلاشى أجزاؤه ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتفرس ذلك ويخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته ، ولا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل ، وبيّن له أهمية الحكم ، ووعده أن يعصمه من الناس ، ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلّبوا له أمر الدعوة.

وإنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلامية لا من جانب المشركين ووثنية العرب وغيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة ، وتكون مخافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه واتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه في آيات مكيّة من قولهم (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (الدخان : ١٤) وقولهم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (الطور : ٣٠) وقولهم (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات : ٥٢) وقولهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (الإسراء : ٤٧) وقولهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدثر : ٢٤) وقولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان : ٥) وقولهم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (النحل : ١٠٣) وقولهم (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (ص : ٦) إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين ، وإنما تدل ـ إذا دلت ـ على اضطراب القوم في أمرهم ، وعدم استقامتهم فيه ، على أن هذه الافتراءات والمرامي لا تختص بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يضطرب عند تفرّسها ويخاف وقوعها فسائر الأنبياء والرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا والمحن ، ومواجهة هذه المكاره من جملة أممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح ومن بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.


بل إن كان شيء ـ ولا بدّ ـ فإنما يتصور بعد الهجرة واستقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي ، والمسلمين كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين وقوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم ، وآخرين في قلوبهم مرض وهم سمّاعون ـ كما نص عليه الكتاب العزيز ـ وهؤلاء كانوا يعاملون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا ـ معاملة الملوك ومع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب العزيز كآيات قصة أحد من سورة آل عمران ، والآيات ١٠٥ ـ ١٢٦ من سورة النساء.

فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتشريعه وإجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة وقانون ملكي في هيئة الدين.

وهذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد والضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة ، ولا يصلحه أي تدبير مصلح ، فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاص له بمزية من المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين ، نظير ما في قصة زيد وتعدد الأزواج والاختصاص بخمس الغنائم ونظائر ذلك.

فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه ، فكان النبيّ يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدّد فيه ، ووعده بالعصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.

وهذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية الإمام عليّعليه‌السلام ، وأن الله أمر بتبليغها ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف أن يتهموه في ابن عمه ، ويؤخر تبليغها وقتا إلى وقت حتى نزلت الآية فبلّغها بغدير خم وقال فيه : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.


إشكالات وردود

فقد أشكل بعض العامة بإشكالات تحريفا منهم للمعنى الحقيقي للآية المباركة انتصارا لأنفسهم لا للحق ، ودحضا لخلافة آل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها :

الإشكال الأول :

لا شك أن الله تعالى أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإظهار التبليغ ، وآمنه تعالى من مكر الماكرين لعلمه عزوجل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خائفا على نفسه من أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة وينقطع دابرها ، فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة.

والجواب :

١ ـ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك من أمره شيئا حتى يمكن له أن يخاف على نفسه لكونه عبدا مأمورا من قبل الله عزوجل ، لذا قال له (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (١).

مضافا إلى أن الله سبحانه لا يعجزه إذا ما قتلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء ، وبأي سبب أراد.

٢ ـ إن الآية الكريمة وإن كان ظاهرها التهديد ، لكنه لبيان أهمية الحكم المنزل ، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس ولم يراع حقه ، كان كمن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين ، فقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا وعدما لترتب الجزاء الأهم عليه وجودا وعدما ، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا ، فإنّا نستعمل «إن» الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط ، وحاشا ساحة النبي من أن يقدّر القرآن في حقه احتمال أن يصل الحكم النازل عليه من ربه وأن لا يبلّغه للآخرين ، وقد قال الله تعالى بحقه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فالجملة الشرطية في الآية المباركة (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) إنما تفيد التهديد بظاهرها ، وتفيد إعلامه عليه

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٢٨.


وآله السلام وإعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية وأن الرسول معذور في تبليغه (١).

وبعبارة أخرى : إن خوفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان من أجل علمه بأنهم سيطعنون في مقالته بأنه حابى ابن عمه ، والطعن سبب لإنكار الولاية ، والإنكار سبب للخروج عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمروق من الدين ، وقد طمأنه الله سبحانه من كل ذلك ، فصدع بما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما أفاده العلّامة الطباطبائي «من أنّ خوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا كان اجتهادا جائزا مأذونا فيه» (٢) ليس صحيحا لما فيه من نسبة الجهل بمقام تشخيص الموضوع المترتب عليه حكم كلي ، أو من جهة الجهل في مجال إبداء الرأي ، وقد قامت الأدلة القطعية على بطلانه ولا سيّما آية التطهير.

الإشكال الثاني :

إن آية البلاغ نزلت في أول البعثة حسبما نقل العلّامة الطباطبائي (٣) نقلا عن بعض المفسرين ، وعليه فلا دلالة في الآية على ما ادعاه المسلمون الشيعة من أنها نزلت في شأن إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

والجواب :

١ ـ إن القول بكونها ـ أي آية البلاغ ـ نزلت أول البعثة قول شاذ لا يعوّل عليه في مقابل الرأي المجمع عليه بين الفريقين لا سيّما عند المحققين منهم من كونها نزلت بعد الهجرة ، وبالضبط في السنة العاشرة منها في حجة الوداع.

٢ ـ على القول بنزولها أو البعثة لا معنى حينئذ لقوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٩ بتصرف بسيط.

(٢) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٤.

(٣) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٤.


مِنَ النَّاسِ) إلّا أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه ويذهب التبليغ باطلا لا أثر له ، فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله لأن الآية بسياقها لا تصلح أن يكون نزولها في بدء البعثة للزوم اللغوية من حيث عدم تبليغه لكل الأحكام في أول البعثة لفقدان المبررات الموضوعية لذلك ، ولأن كلمة «أنزل» فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو ـ الله ـ والتقدير : بلّغ جميع ما أنزله الله إليك.

كما أن إعراب قوله «.. بلّغت» هو : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير المخاطب ، والتاء : ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.

فالكلمتان «أنزل ـ وبلّغت» تفيدان الماضوية بمعنى أن هناك أحكاما قد نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحكم اللاحق أهم من الأحكام السابقة ، فإذا لم يبلّغ الحكم اللاحق كأنه ما بلّغ الأحكام السابقة ، وأين هذا من الدعوى القائلة بأنّ آية التطهير نزلت في بدء البعثة؟

مضافا إلى أن آيات أول البعثة خالية من التهديد كما في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (سورة العلق : ١) إلى آخر السورة ، وقوله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ) (سورة المدثر : ١ ـ ٢).

الإشكال الثالث :

أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو أصل الدين أو مجموعه ، والمعنى : يا أيّها الرسول بلّغ الدين وإن لم تبلّغ الدين فما بلّغت الدين ، وقد خرج هذا على قانون قوله :

أنا أبو النجم وشعري شعري (١)

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٤٩.


والجواب

١ ـ إنّ قياس الآية المباركة على قول أبي النجم فاسد ، لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائر ذلك ، وليس المقام هنا من موارد العام والخاص وشبههما حتى يدّعى أنهما ـ الآية والشعر ـ من باب ومورد واحد.

٢ ـ إنّ قوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لا يجري فيه مثل هذه العناية «فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف ولا متغير حتى يصح أن يقال : إن لم تبلّغ هذه الرسالة فما بلّغت تلك الرسالة ، أو لم تبلّغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية» (١).

٣ ـ القول بأنّ آية التبليغ آمرة بتبليغ كلّ الدين مخالف للضرورة والوجدان ، وذلك لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ الدين تدريجا ، حتى لم يترك شيئا إلّا بلّغه ، فتبليغ كل الدين ، إنما كان بالقرآن كله لا بآية التبليغ.

وهم ودفع :

قد يتوهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر في الآية المذكورة بتبليغ الدين كله تدريجا ، فيندفع ما ذهب إليه الشيعة الإمامية من أن خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام هي مورد نزول الآية الكريمة.

وهو مندفع :

بأنّ ذلك يستدعي أن تكون آية البلاغ أول آية نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل به أحد ، فيكون هذا التوهم ضروري البطلان. هذا مضافا إلى أن الأمر بالتبليغ بعد أن بلّغ الدين يعتبر تحصيلا حاصلا يقبح صدوره من الله تعالى للزوم اللغوية لقوله

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٥.


تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) من حيث كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ الرسالة قبل نزول الآية الكريمة ، وللتبادر من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّر في تبليغ كل الأحكام وهو منفّر من قبول الدعوة ، ولاستلزامه التقصير في أداء أحكامها ، وقد نزّهه الله عزوجل عن كل ذلك.

الإشكال الرابع :

إنّ توسط آية البلاغ بين الآيات المتعلقة باليهود والنصارى دليل على أن موردها غير ما اعتقده الشيعة الإمامية.

والجواب :

١ ـ أن الإشكال المذكور مبني على وحدة السياق وقد ذكرنا بطلانه.

٢ ـ أن توسطها بين الآيات الحاكية عن مكر اليهود والنصارى لإشارة إلى أن المنافقين بمنزلة اليهود والنصارى ومن سنخهم في الضلال والكفر بل أشدّ كفرا منهم ، لذا حكم بارتدادهم في أخبار الحوض.

وزبدة المخض :

أن الآية الشريفة ، وإن وقعت في سياق آيات تتحدث عن أهل الكتاب إلّا أنّ مورد نزولها هو تنصيب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خليفة على المسلمين ، ويشهد لهذا ما قلنا سابقا ، ولأن قوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) يدلّ على أهمية الحكم المنزل الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه ، ويدل على أنّ في التبليغ مخافة الخطر على نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على دين الله سبحانه ، ومن البديهي أن الخطر المذكور لم يتوجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب حتى يستدعي وعد الله بالعصمة منهم ، بل المعلوم من سيرة النبيّ أنه قد بلّغ ما أمر به لأهل الكتاب ، حتى في أوائل هجرته إلى المدينة حيث كان اليهود في أحسن حالاتهم من البطش والقوة ، هذا مضافا إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ ما هو أشدّ من ذلك ، وهو تبليغ التوحيد ونفي الوثنية إلى كفّار قريش ومشركي العرب ، وهم أغلظ جانبا ، وأشد بطشا ، وأسفك للدماء من


اليهود وسائر أهل الكتاب ، هذا مع أن اليهود حين نزول سورة المائدة قد كسرت شوكتهم وخمدت نيرانهم ، فلا معنى لخوف رسول الله منهم في دين الله ، كما لا معنى حينئذ لتقريره تعالى لنبيه خوفه منهم ، ولا لاضطراب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغ أمر الله إليهم ، وعليه فلا ينبغي الشك في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها ، بل هي آية مفردة نزلت في تبليغ أمر الخلافة ، وهي ظاهرة في أن هناك أمرا هاما قد أمر الله نبيه بتبليغه إلى الناس ، وكان النبيّ يخافهم لأنه ثقيل على أنفسهم ، فكان يؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته ، ولا يخيب مسعاه ، فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل ، وبيّن له أهمية الحكم ، ووعده أن يعصمه من الناس ، ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة ، بل هدّده سبحانه على الترك بقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

فلا يكون المراد من الأمر المهم الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه إلا ولاية مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخشى إذا نصّ على خلافة ابن عمه أن يتّهم بالمحاباة والتحيّز له ، كما وقع هذا الاتهام من الحارث بن النعمان الفهري ، ويخاف النبيّ أن يتخذ المنافقون من هذا النص مادة للدعاية ضده والتشكيك في نبوته وعصمته.

ومن البديهي أنّ مثل هذه الدعاية يتقبلها البسطاء والسذج من المؤمنين فضلا عن غيرهم كالمنافقين الذين هم أشدّ خلق الله فتكا بالإسلام والمسلمين ، والتاريخ الإسلامي حافل بمكرهم ، والآيات القرآنية ناطقة بحيلهم ومؤامراتهم ، وكان تفرس النبيّ بمكرهم في محله ، حيث سجّل لنا التاريخ ما جرى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العداء المستحكم من قبل الفهري المعادي للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث مزّقه الحقد حينما بلغه حديث الغدير وتعيين النبيّ بأمر من الله تعالى للإمام عليّ عليه‌السلام خليفة بعده ، فأتى رسول الله لكي ينتقد على هذه الخطوة المباركة ، وقال عند وصوله إلى النبيّ : يا محمّد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فقبلنا ،


وأمرتنا أن نشهد أنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا بالصلاة والزكاة والصوم والحج فقبلنا ، ثم لم ترض حتى أخذت بعضد ابن عمك وفضّلته علينا ، فقلت : من كنت مولاه ، فعليّ مولاه فهذا شيء منك أم من الله؟

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي لا إله إلا هو ، إنّ هذا لمن الله عزوجل» فولّى الفهري إلى راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقوله محمّد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله عزوجل بحجر سقط على رأسه فخرج من دبره فقتله فأنزل الله عزوجل هذه الآية : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) وقد روى علماء العامة القصة بتفاصيلها (١).

شبهة وحل :

مفاد الشبهة : أن الآية أجنبية عن خلافة عليّ بن أبي طالب ، وأن الشيعة تجعل القرآن كتابا حزبيا لهم ، فيجعلون آية التبليغ خاصة بالولاية ، مع أنها عامة آمرة بتبليغ كل الدين (٢).

والجواب :

١ ـ ذكرنا سابقا أن جمهور العامة وافق الإمامية على نزول الآية في غدير خم بحق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، فدعوى أنها أجنبية عن خلافته عليه‌السلام مصادرة على المطلوب وهي باطلة لوجود القرائن المقالية والمقامية الدالة على خلاف ما ذكر صاحب الشبهة.

٢ ـ لو كانت آية التبليغ أجنبية عن مسألة الخلافة ، لكانت آية الشورى أجنبية عنها بطريق أولى ، لأنها ليست في مقام تشريع الخلافة بإجماع المسلمين ، بل آية

__________________

(١) تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي ص ٣٧ والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ / ٣٠٢ وفرائد السمطين للشافعي ج ١ / ٨٢ وتفسير القرطبي في تفسير الآية وتفسير غريب القرآن للحافظ الهروي في تفسير الآية في سورة المعارج.

(٢) «مسألة الإمامة» ص ٢٦٤ محسن عبد الناظر.


الشورى ناظرة إلى مدح التشاور في الأمور العامة ، كما يؤكد على ذلك ما قيل في سبب نزول الآية ، من أن الأنصار كانوا قبل قدوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه ، ثم عملوا عليه فمدحهم الله تعالى به.

وعليه فإن كلام العامة يرتدّ عليهم ، حيث جعلوا آية الشورى خاصة بالخلافة ، فجعلوا القرآن كتابا حزبيا لهم ، مع أن آية الشورى لا ترتبط بمسألة الخلافة.

وعليه فإن الآية المباركة ليست أجنبية عن الخلافة بل هي أجنبية عمّا قبلها وبعدها من الآيات المتعلقة بمكر اليهود والنصارى ، ومن المعلوم أنه لم تكن لليهود والنصارى شوكة يخشى منها النبي أن يبلّغ ما أنزل إليه ، فالمناسب أن النبي خاف منافقي قومه ، ومن الواضح أنه لا يخشاهم من تبليغ شيء جاء به إلّا نصب الإمام عليّ عليه‌السلام إماما عداوة وحسدا له ، وقد ورد عندنا أن جبرائيل عليه‌السلام نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بأن ينصب الإمام عليا خليفة له فضاق رسول الله به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وقال لجبرائيل إن قومي لم يقروا لي بالنبوة إلا بعد أن جاهدتهم فكيف يقرون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة وعزم على نصبه بالمدينة ، فلما وصل إلى غدير خم نزل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولما سار بعد نصبه ووصل العقبة دحرجوا له الدباب لينفروا ناقته ويقتلوه فينقضوا فعله ، فعصمه الله سبحانه منهم ، ثم أراد أن يؤكد عليه النص في كتاب لا يضلون بعده فنسبوه إلى الهجر وأراد تسييرهم بجيش أسامة فعصوه ، أفبعد هذا يقال : إن الآية أجنبية عن مقام خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام؟!

ويجدر بنا هنا أن نبحث في حديث الغدير في نقاط ثلاث :

النقطة الأولى : سند الحديث وتواتره.

حديث الغدر من الأحاديث المتواترة المشهورة منذ عصر النبيّ إلى زماننا


هذا ، وقد رواه الخاصة والعامة ، وشهد كثيرون منهم بصحته ، «حتى أن الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني المتوفى ٤٧٧ ه‍ وضع كتابا أسماه (الدراية في حديث الولاية) جمع فيه طرق حديث الغدير ، ورواه عن مائة وعشرين صحابيا» (١).

ومن ذا الذي يسعه إنكار صحته ، وقد تصافقت الأمة على قبوله والبخوع له ، وأي متعنّد يمكنه رد تواتره اللفظي في الجملة والمعنوي في تفاصيله ، وقد شهد به القريب والبعيد ، ورواه القاصي والداني ، وأثبته أكثر المؤلفين في الحديث والتاريخ والتفسير والكلام ، وأفرده بالتأليف آخرون ، فلن تجد له إلّا رنّة تصكّ المسامع منذ هتف به داعي الرشاد حتى عصرنا ، وسيبقى ذكره مخلّدا ما تعاقب الليل والنهار ، فليس من يجابهه بالإنكار إلّا كمن يتعامى عن الشمس الضاحية ، وإنما راقنا البحث عمّا قيل في ذلك إصحارا بحقيقة راهنة ، ألا وهي إصفاق علماء الفريقين على صحة الحديث وتواتره ، ليعلم القارئ أنّ من يحيد عن تلكم الخطة شاذ عن الطريقة المثلى ، خارج تجاه ما اجتمعت عليه الأمة ، وهو يقول : إن الأمة لا تجتمع على خطأ وسنذكر هنا ثلة من محققي العامة ممن بخعوا لفضله وصحة سنده ومضمونه ، معتمدين على ما رواه المؤرخ الجليل العلّامة الحجة الأميني (قدس‌سره) (٢) ، فمن هؤلاء :

(١) الحافظ أبو عيسى الترمذي المتوفى ٢٧٩ ه‍ ، قال في صحيحه ج ٢ / ٢٩٨ بعد ذكر الحديث : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) الحافظ أبو جعفر الطحاوي المتوفى ٢٧٩ ه‍ قال في «مشكل الآثار» ج ٢ / ٣٠٨ قال أبو جعفر : «... فهذا الحديث صحيح الإسناد ، ولا طعن لأحد في رواته ، وفيه : أن ذلك القول كان من رسول الله لعليّ بغدير خم في رجوعه من حجّه إلى المدينة لا في خروجه لحجه من المدينة.

__________________

(١) الغدير ج ١ / ١٥٥.

(٢) الغدير ج ١ / ٢٩٤ ـ ٣١٣.


(٣) الفقيه أبو عبد الله المحامليّ البغداديّ المتوفى ٣٣٠ ه‍ صحّحه في أماليه.

(٤) أبو عبد الله الحاكم المتوفى ٤٠٥ ه‍ رواه بعدة طرق وصحّحها في المستدرك.

(٥) أبو محمّد أحمد بن محمّد العاصميّ ، قال في «زين الفتى» قال النبيّ : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وهذا حديث تلقّته الأمة بالقبول ، وهو موافق بالأصول ، ثم رواه بطرق شتى.

(٦) الحافظ ابن عبد البر القرطبي المتوفى ٤٦٣ ه‍ قال في الاستيعاب ج ٢ / ٣٧٣ بعد ذكر حديث المواخاة وحديثي الراية والغدير : هذه كلها آثار ثابتة.

(٧) الفقيه أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ه‍ قال في كتابه «المناقب» بعد روايته الحديث عن شيخه أبي القاسم الفضل بن محمد الأصبهاني ، قال أبو القاسم : هذا حديث صحيح عن رسول الله وقد رواه نحو مائة نفس منهم العشرة المبشّرة ، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة ، تفرّد عليّ بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد.

(٨) أبو حامد الغزالي المتوفى ٥٠٥ ه‍ قال في «سر العالمين» ص ٩ : أسفرت الحجّة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فقال عمر : بخ بخ ...

(٩) الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتوفى ٥٩٧ ه‍ قال في «المناقب» : اتفق علماء السير على أن قصة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة وكان معه من الصحابة ومن الأعراب وممّن يسكن حوالي مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا وهم الذين شهدوا معه حجة الوداع وسمعوا منه هذه المقالة ، وقد أكثر الشعراء في ذلك في تلك الحكاية.

(١٠) أبو المظفر سبط ابن الجوزي المتوفى ٦٥٤ ه‍ قال في تذكرته ص ٨ بعد ذكره الحديث مع صدره وذيله وتهنئة عمر بعدة طرق ؛ وكلّ هذه الروايات خرّجها


أحمد بن حنبل في الفضائل بزيادات ، فإن قيل : فهذه الرواية التي فيها قول عمر : أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ضعيفة ، فالجواب : إنّ هذه الرواية صحيحة ، وإنما الضعيف حديث رواه أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب عن عبد الله بن علي بن بشر عن علي بن عمر الدارقطني عن أبي نصر حبشون بن موسى بن أيوب الخلال يرفعه إلى أبي هريرة وقال في آخره : لمّا قال النبيّ : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، نزل قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ..) الآية ، قالوا : وقد انفرد بهذا الحديث حبشون ونحن نقول : نحن ما استدللنا بحديث حبشون بل بالحديث الذي رواه أحمد في الفضائل عن البراء بن عازب وإسناده صحيح ، إلى أن قال : اتفق علماء السير على أن قصة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة ، جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين ألفا وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الحديث ، نصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة.

(١١) ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى ٦٥٥ ه‍ عدّه في شرح نهج البلاغة ج ٢ / ٤٤٩ من الأخبار العامة الشائعة من فضائل أمير المؤمنين.

(١٢) الحافظ أبو عبد الله الكنجي الشافعي المتوفى ٦٥٨ ه‍ قال في «كفاية الطالب» ص ١٥ بعد ذكر الحديث من طرق أحمد ، أقول : هكذا أخرجه في مسنده وناهيك به راويا بسند واحد وكيف وقد جمع طرقه هذا الإمام ، وقال بعد روايته من طرق الحافظ أبي عيسى الترمذي في جامعه ، وجمع الدارقطني الحافظ طرقه في جزء ، وجمع الحافظ ابن عقدة الكوفي كتابا مفردا فيه ، وروى أهل السير والتواريخ قصة غدير خم ، وذكره محدّث الشام في كتابه بطرق شتى عن غير واحد من الصحابة والتابعين ، أخبرني بذلك عاليا المشايخ ، وروى بإسناده ص ١٧ عن المحاملي ، ثم قال : قلت : هذا حديث مشهور حسن روته الثقات ، وانضمام هذه الأسانيد بعضها إلى بعض حجة في صحة النقل.

(١٣) الشيخ أبو المكارم علاء الدين السمناني المتوفى ٧٣٦ ه‍ قال في


«العروة الوثقى» قال رسول الله لعليّ عليه‌السلام وسلام الملائكة الكرام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدي ، وقال في غدير خم بعد حجة الوداع على ملأ من المهاجرين والأنصار آخذا بكتفه : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وهذا حديث متفق على صحته ، فصار سيد الأولياء وكان قلبه على قلب محمّد عليه التحية والسلام ، وإلى هذا السر أشار صاحب غار النبيّ أبو بكر حين بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى عليّ لاستحضاره قال : يا أبا عبيدة أنت أمين هذه الأمة أبعثك إلى من هو في مرتبة من فقدناه بالأمس ينبغي أن تتكلم عنده بحسن الأدب.

(١٤) شمس الدين الذهبي الشافعي المتوفى ٧٤٨ ه‍ ، وقد أفرد كتابا في حديث الغدير ، وذكره بطرق شتى في تلخيص المستدرك وصحّح غير واحد منها.

(١٥) الحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي الدمشقي المتوفى ٧٧٤ ه‍ روى في تاريخه ج ٥ / ٢٠٩ عن سنن الحافظ النسائي عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حمّاد عن أبي عوانة عن الأعمش «سليمان» عن حبيب بن ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم بلفظه المذكور بطريق النسائي ص ٣٠ ثم قال : تفرّد به النسائي من هذا الوجه ، قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي : وهذا حديث صحيح ، وروى حديث المناشدة في الرحبة وقال : هذا إسناد جيد ، ورواه بطرق أحمد عن زيد وقال : هذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السنن ، وقد صحّح الترمذي بهذا السند حديثا في الريث ، ورواه بطريق ابن جرير الطبري عن سعد بن أبي وقاص وقال : قال شيخنا الذهبي : وهذا حديث حسن غريب (١) ، ورواه بطريق آخر عن جابر بن عبد الله وقال : قال شيخنا الذهبي : هذا حديث حسن.

ورواه بطرق أخرى ثم قال : قال الذهبي : وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول الله قاله ، وأما : اللهم وال من والاه ، فزيادة قوية الإسناد.

__________________

(١) قال العلّامة الأميني في حاشية الغدير : لا أعرف للحديث غرابة إلا كونه في فضل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.


(١٦) الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى ٨٠٧ ه‍ روى في مجمع الزوائد ٩ / ١٠٤ حديث الركبان المذكور من طريق أحمد والطبراني فقال رجال أحمد ثقات. وروى حديث المناشدة من طريق أحمد عن أبي الطفيل وقال : رجاله رجال الصحيح إلّا فطر وهو ثقة. ورواه من طريق أحمد الآخر عن سعيد بن وهب وقال : رجاله رجال الصحيح ، ورواه من طريق البزّار عن سعيد وزيد ثم قال : رجاله رجال الصحيح إلا فطر وهو ثقة ، ورواه من طريق أبي يعلى عن عبد الرحمن بن أبي يعلى ووثّق رجاله ، ورواه من طريق أحمد عن زياد بن أبي زياد ووثق رجاله ، ورواه عن حبشي بن جنادة من طريق الطبراني ووثق رجاله ، ورواه بطرق وأسانيد أخرى وصحّحها ووثق رجالها.

(١٧) شمس الدين الجزريّ الشافعيّ المتوفى ٨٣٣ ه‍ روى حديث الغدير بثمانين طريقا ، وأفرد في إثبات تواتره رسالته «أسنى المطالب» المطبوعة ، وقال بعد ذكر مناشدة أمير المؤمنين يوم الرحبة : هذا حديث حسن من هذا الوجه صحيح من وجوه كثيرة تواتر عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، وهو متواتر أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الجمّ الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، فقد ورد مرفوعا عن أبي بكر ... وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، والعباس بن عبد المطلب ، وزيد بن أرقم ، والبراء بن عازب ، وبريدة بن الحصيب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس وحبشي بن جنادة ، وعبد الله بن مسعود ، وعمران بن حصين ، وعبد الله بن عمر ، وعمّار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وأسعد بن زرارة ، وخزيمة بن ثابت ، وأبي أيوب الأنصاري وسهل بن حنيف ، وحذيفة بن اليمان ، وسمرة بن جندب ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ، وصحّ عن جماعة منهم ممن يحصل القطع بخبرهم ، وثبت أيضا أن هذا القول كان منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم كما


أخبرنا شيخنا أبو عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي قراءة عليه : أخبرنا الإمام فخر الدين علي بن أحمد المقدسي ، ثم ذكر حديث المناشدة بعدّة طرق.

(١٨) الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى ٨٥٢ ه‍ رواه في «تهذيب التهذيب» في مواضع بعدّة طرق منها ج ٧ / ٣٣٧ وقال ص ٣٣٩ : قلت : لم يجاوز المؤلف (أبو الحجاج المزّي المتوفى ٧٤٢) ما ذكر ابن عبد البر وفيه مقنع ولكنه ذكر حديث الموالاة عن نفر سمّاهم فقط ، وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلّف فيه أضعاف من ذكر ، وصحّحه واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة ، فأخرجه من حديث سبعين صحابيا أو أكثر ، وقال في فتح الباري ٧ / ٦١ : وأوعب من جمع مناقبه (يعني الإمام عليا) من الأحاديث الجياد النسائي في كتاب «الخصائص» وأما حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جدا ، وقد استودعها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، وقد روينا عن الإمام أحمد قال : ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن عليّ بن أبي طالب.

(١٩) أبو الخير الشيرازي الشافعي قال في (إبطال الباطل) الذي ردّ به على نهج الحق : وأما ما روي من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكره يوم غدير خم حين أخذ بيد عليّ وقال : ألست أولى؟ فقد ثبت هذا في الصحاح وقد ذكرنا سرّه في ترجمة كتاب (كشف الغمة في معرفة الأئمة).

(٢٠) الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي المتوفى ٩١١ ه‍ قال : إنه حديث متواتر ، وحكاه عنه غير واحد ممن تأخر عنه كما يأتي.

(٢١) الحافظ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى ٩٢٣ ه‍ قال في «المواهب اللدنية» ج ٧ ص ١٣ : وأما حديث الترمذي والنسائي : من كنت مولاه فعليّ مولاه. فقال الشافعي : يريد بذلك ولاء الإسلام كقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ، وقول عمر : أصبحت مولى كل مؤمن أي : وليّ كل مؤمن ، وطرق هذا الحديث كثيرة جدا.


(٢٢) الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي المكي المتوفى ٩٧٤ ه‍ قال في «الصواعق المحرقة» ص ٢٥ عند ردّ استدلال الشيعة بحديث الغدير : وجواب هذه الشبهة التي هي أقوى شبههم يحتاج إلى مقدمة وهي بيان الحديث ومخرجه ، وبيانه : أنه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، فطرقه كثيرة جدا ، ومن ثم رواه ستة عشر صحابيا ، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ لمّا نوزع أيام خلافته كما مرّ وسيأتي ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحته ولا بمن ردّه بأن عليا كان باليمن لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبيّ ، وقول بعضهم : إن زيادة اللهم وال من والاه ، إلى آخر موضوعة مردود فقد ورد ذلك من طرق صحّح الذهبي كثيرا منها ، ثم تكلم في مقام الردّ عليه في تواتره تارة ، وفي مفاده أخرى فقال : ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب بغدير خم تحت شجرات فقال : أيها الناس؟ أنه قد نبأني اللطيف الخبير ..

وقال في ص ٧٣ في عدّ مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام : الحديث الرابع : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. الحديث وقد مرّ في حادي عشر الشبه وأنه رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثون (١) صحابيا وأن كثيرا من طرقه صحيح أو حسن ، ومرّ الكلام ثم على معناه مستوفى ، وقال في شرح همزية البوصيري ص ٢٢١ في شرح قوله :

وعليّ صنو النبيّ ومن

دين فؤادي وداده والولاء

أي مناصرته والذبّ عنه والردّ على من نازع في خلافته ، ولم يبال بوقوع الإجماع عليها وعلى من خرجوا عليه ونازعوه الأمر ورموه بما هو بريء منه ، وذلك عملا بما صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، إن عليا مني وأنا منه ، وهو وليّ كل مؤمن بعدي ، ولتأكيد الذب عنه لكثرة أعدائه من بني

__________________

(١) هؤلاء هم الشهود للإمام علي عليه‌السلام يوم الرحبة لا كل رواة الحديث.


أمية والخوارج الذين بالغوا في سبّه وتنقيصه مدة ألف شهر حتى المنابر خصّه الناظم بذلك ، ولهذا اشتغل جهابذة الحفّاظ ببث فضائله رضي الله عنه نصحا للأمة ونصرة للحق ، ومن ثمّ قال أحمد : ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ. وقال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري : لم يرد في حق أحد من الصحابة بأسانيد الصحاح الحسان أكثر ما ورد في حق عليّ ، فمن ذلك ما صحّ : أن الله تعالى يحبه وأن رسول الله يحبه ، بل روى الترمذي : أنه كان أحبّ الناس إلى رسول الله إلى أن قال : وأن آية المباهلة (آل عمران : ٦٠) لمّا نزلت دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وفاطمة وابنيها وقال : اللهم هؤلاء أهلي وأنه قال : أنا سيد ولد آدم وعليّ سيد العرب. لكن اعترض تصحيح الحاكم لهذا ، وأنه قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، رواه ثلاثون صحابيا ، وأن الله تعالى أمره أن يحبّ أربعة وأخبره بأنه يحبّهم منهم عليّ ، وأنه لا يحبّه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ، وأنّ من سبّه فقد سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تنزيله ، وأنه يهلك فيه اثنان : محبّ مفرط ومبغض مبهت ، وأنّ قاتله اللعين ابن ملجم أشقى الآخرين كما أن عاقر الناقة أشقى الأولين.

(٢٣) جمال الدين الحسيني الشيرازيّ المتوفى ١٠٠٠ ه‍ قال في (أربعينه) بعد ذكر حديث الغدير ونزول آية سأل سائل في القضية : أصل هذا الحديث سوى قصة الحارث تواتر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو متواتر عن النبي أيضا ، رواه جمع كثير وجم غفير من الصحابة فرواه ابن عبّاس ، ثم روى لفظ ابن عبّاس وحذيفة ابن أسيد الغفاري وحديث الركبان.

(٢٤) جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن صلاح الدين الحنفي قال في (المعتصر من المختصر) ص ٤١٣ : روى أبو الطفيل واثلة بن الأسقع قال : جمع الناس عليّ بن أبي طالب في الرحبة فقال :

أنشد بالله عزوجل كل امرئ سمع رسول الله يوم غدير خم يقول ما سمع؟ فقام أناس من الناس فشهدوا : أن رسول الله قال يوم غدير خم : ألستم تعلمون أني


أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ وهو قائم ثم أخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، قال أبو الطفيل : فخرجت وفي نفسي منه شيء فلقيت زيد بن أرقم فأخبرته فقال : ما تتهم أنا سمعته من رسول الله لا يلتفت إلى من أنكر خروج عليّ إلى الحج مع النبيّ ومروره في طريقه بغدير خم ، وقال : قدم عليّ من اليمن بالبدن لأنه وإن لم يكن معه في خروجه إلى الحج فكان معه في رجوعه على طريقه الذي كان مروره به بغدير خم ، فيحتمل أنه كان هذا الكلام في الرجعة يؤيده الحديث الصحيح : أنه كان القول من رسول الله بغدير خم في رجوعه إلى المدينة من حجّه عن زيد بن أرقم قال : لمّا رجع رسول الله من حجة الوداع ونزل بغدير خم أمر بدوحاته فقممن ، وذكر الحديث بلفظ زيد المذكور من طريق النسائي ص ٣٠.

(٢٥) الشيخ نور الدين الهرويّ القاري الحنفي المتوفى ١٠١٤ ه‍ قال في «المرقاة في شرح المشكاة» ج ٥ / ٥٦٨ بعد رواية الحديث بطرق شتى : والحاصل أن هذا حديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفّاظ عدّه متواترا إذ في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعليّ لمّا نوزع أيام خلافته (١). وقال ص ٥٨٤ : رواها أحمد في مسنده وأقلّ مرتبته أن يكون حسنا ، فلا التفات لمن قدح في ثبوت الحديث. وأبعد من ردّه بأن عليّا كان باليمن لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبي ، ولعل سبب قول هذا القائل أنه وهم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذا القول عند وصوله من المدينة إلى غدير خم ، ثم قول بعضهم : إن زيادة اللهم وال من والاه موضوعة مردودة ، فقد ورد من طرق صحّح الذهبيّ كثيرا منها.

(٢٦) زين الدين المناوي الشافعي المتوفى ١٠٣١ ه‍ ، قال في «فيض القدير»

__________________

(١) قال العلامة الأميني في هامش الغدير : إذا كان بلوغ رواة الحديث ثلاثين موجبا لتواتره فكيف به إذا انهيناهم في هذا الكتاب إلى ما ينيف على المائة صحابيا ، ثم كيف به إذا أنهاهم الحافظ أبو العلاء العطار إلى مائتين وخمسين طريقا.


ج ٦ / ٢١٨ : قال ابن حجر : حديث كثير الطرق جدّا قد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد منها صحاح ومنها حسان. وفي بعضها : قال ذلك يوم غدير خمّ ، وزاد البزّار في روايته : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، لمّا سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا فيما أخرجه الدارقطني عن سعد بن أبي وقاص : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. وأخرج أيضا : قيل لعمر : إنك تصنع بعليّ شيئا لا تصنعه بأحد من الصحابة ، قال : إنه مولاي ؛ ثم قال بعد رواية حديث نزول آية : سأل سائل بعذاب واقع : يوم الغدير. قال الهيثمي : رجال أحمد ثقات ، وقال في موضع آخر : رجاله رجال الصحيح. وقال المصنّف (السيوطي) : حديث متواتر.

(٢٧) نور الدين الحلبي الشافعي المتوفى ١٠٤٤ ، ذكر في «السيرة الحلبية» ج ٣ / ٣٠٢ ما مرّ عن ابن حجر من صحّة الحديث ووروده بأسانيد صحاح وحسان وعدم الالتفات إلى القادح في صحته ، وعدم كون ذيله موضوعا ، ووروده من طرق صحّح الذهبي كثيرا منها.

(٢٨) الشيخ أحمد بن باكثير المكي الشافعي المتوفى ١٠٤٧ ، قال في «وسيلة المآل في مناقب الآل» بعد رواية الحديث بلفظ حذيفة بن أسيد ، وعامر بن ليلى ، وابن عبّاس ، والبراء بن عازب : أخرج هذه الرواية البزّاز برجال الصحيح عن فطر بن خليفة وهو ثقة ، وعن أم سلمة رضي الله عنها ، فذكر لفظها ثم لفظ سعد بن أبي وقاص ، فقال : أخرج الدار قطني في «الفضائل» عن معقل بن يسار قال : سمعت أبا بكر يقول : علي بن أبي طالب عترة رسول الله أي الذي حثّ النبي على التمسك بهم والأخذ بهديهم فإنهم نجوم الهدى من اقتدى بهم اهتدى. وخصّه أبو بكر بذلك رضي الله عنه لأنه الإمام في هذا الشأن وباب مدينة العلم والعرفان فهو إمام الأئمة وعالم الأمة ، وكأنه أخذ ذلك من تخصيصه صلى الله عليه [وآله] له من بينهم يوم غدير خم بما سبق ، وهذا حديث صحيح لا مرية فيه ولا شك ينافيه ، وروي عن الجمّ الغفير من الصحابة وشاع واشتهر ، وناهيك بمجمع حجّة الوداع ،


قال شيخ الإسلام العسقلاني : حديث من كنت مولاه ، أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جدا ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان. ويدل على ذلك ما روى أبو الطفيل : أن عليا رضي الله عنه وكرّم وجهه جمع الناس وهو خليفة في الرحبة ـ موضع في العراق ـ ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ، إلى آخر اللفظ المذكور ص ١٧٦.

(٢٩) الشيخ عبد الحق الدهلويّ البخاريّ المتوفى ١٠٥٢ ه‍ قال في شرح المشكاة ما تعريبه : وهذا الحديث صحيح بلا شك ، رواه جمع مثل الترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة ، رواه ستة عشر صحابيا ، وفي رواية : سمعه عن النبي ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعليّ لمّا نوزع أيام خلافته ، وكثير من أسانيده صحاح وحسان ولا يلتفت إلى قول من تكلّم في صحته ولا إلى قول بعضهم : إن زيادة اللهم وال من والاه .. موضوع لأنها رويت بطرق شتى صحّح أكثرها الذهبيّ ، وقال في (لمعاته) : هذا حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي إلى آخر كلامه المذكور ، ثم قال : كذا قال الشيخ ابن حجر في «الصواعق المحرقة».

(٣٠) الشيخ محمود بن محمد الشيخانيّ القادريّ المدني قال في (الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ) : ومن تلك الأحاديث الواردة الصحيحة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ رضي الله عنه : من كنت مولاه فعليّ مولاه. أخرجه الترمذي والنسائي والإمام أحمد وغيرهم وكم حديث صحيح ما أخرجه الشيخان. ثم روى حديث الرحبة بلفظ سعيد بن وهب فقال : قال الذهبي : هذا حديث صحيح. ثم ذكر رواية أحمد حديث الرحبة عن أبي الطفيل وزيد بن أرقم فقال : قال الحافظ الذهبي: هذا الحديث صحيح غريب (١) ثم رواه من طريق أبي عوانة عن أبي الطفيل عن زيد فقال : قال الحافظ الذهبي : هذا حديث صحيح. ثم رواه من طريق الحافظين أبي

__________________

(١) ليس لغرابته وجه بالمعنى الاصطلاحي ولا بغيره إلا كونه في فضل أمير المؤمنين (ع).


يعلى والحسن بن سفيان فقال : قال الحافظ الذهبي : هذا حديث حسن اتفق على ما ذكرنا جمهور أهل السنة.

وأما ما انفرد به أهل البدع من الإسماعيلية (١) ببلاد اليمن وخالف به أهل الجمعة والجماعة والسنن فإنهم قالوا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم إي مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع أصحابه وكرّر عليهم قوله : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ ثلاثا وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ، ثم رفع يد عليّ رضي الله عنه وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره ، وأدر الحق معه حيث دار.

ومعنى المولى في هذا الحديث : الأولى لا الناصر وغيرهما من المعاني المشتركة ، قال المدّعي من الإسماعيلية : وإنما أراد النبي أن لعلي رضي الله عنه ما لرسول الله من الولاء عليهم وجعل قوله أولا : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ سندا ، وقال المدّعي أيضا : لو كان المولى بمعنى الناصر والسيّد وغيرهما لما احتاج إلى جمع الصحابة وإشهادهم ، ولا أن يأخذ بيد عليّ ويرفعها ، لأن ذلك يعرفه كلّ أحد ، ولا يحتاج إلى الدعاء له بقوله : اللهم وال من والاه إلى آخره ، وقال المدّعي أيضا : ولا يكون هذا الدعاء إلّا لإمام معصوم مفترض الطاعة بعده ، وبدليل جعله الحق تابعا لعليّ لا متبوعا له ، ولا يكون ذلك إلا لمن وجبت طاعته وعصمته ، وقال المدّعي : فصحّ بهذا أن عليّا رضي الله عنه هو الوصيّ وأنه نصّ من رسول الله وأن خلافة من تقدمه معصية. انتهى افتراء المدّعي.

أقول : قد مرّ الأحاديث الصحاح والحسان وليس فيها جميع ما ذكره المدّعي بل الصحيح مما ذكرنا : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، والصحيح مما ذكرناه أيضا : اللهم وال من والاه. والصحيح ما ذكرناه أيضا : أن الله وليّ المؤمنين ومن كنت

__________________

(١) قال العلّامة الأميني (قدس‌سره) : سيوافيك في بيان مفاد الحديث أن هذه البرهنة لم تختص بالإسماعيلية ، وإنما هي مقتضى الحق الصراح ، وقد قال به كل من يرى ولاء لأمير المؤمنين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كولائه خلافة عنه.


وليه فهذا وليّه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، والصحيح مما ذكرناه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس : أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. والصحيح مما ذكرنا أيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كأني دعيت فأجبت وأني قد تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ثم قال : إن الله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، والصحيح مما ذكرنا أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست أولى بكم بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا مولى من أنا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، فلقيه عمر فقال : هنيئا لك أصبحت وأمسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة.

انتهى ما هو الصحيح والحسان وليس في ذلك من مخترعات المدّعي ومفترياته (١) ، وقد استوعب طرق الأحاديث المذكورة وغيرها ابن عقدة في كتاب مفرد.

(٣١) السيد محمد البرزنجيّ الشافعي المتوفى ١١٠٣ ه‍ قال في تأليفه (النواقض) اعلم أن الشيعة يدّعون أن هذا الحديث نصّ جلي في إمامة علي رضي الله عنه وهو أقوى شبههم ، والقدر الذي ذكرناه وهو : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، من دون تلك الزيادة من الحديث صحيح وروي من طرق كثيرة.

(٣٢) ضياء الدين المقبليّ المتوفى ١١٠٨ ه‍ عدّ حديث الغدير في كتابه (الأبحاث المسدّدة في الفنون المتعددة) من الأحاديث المتواترة المفيدة للعلم.

وفي تعليق [هداية العقول إلى غاية السئول] ج ٢ / ٣٠ : نقل العلّامة السيد عبد الله ابن علي الوزير في «طبق الحلوى» تاريخه المعروف عن السيد محمد

__________________

(١) لم يأت المدّعي إلا بشيء مما صححه هذا الرجل ولم يزد عليه إلا بيانا في سرد الاحتجاج به (ولا مناص له من ذلك) فإن كان له نظر في الحجة فلما ذا لم يبده وستقف على لباب القول في هذه كلها إن شاء الله تعالى.


إبراهيم : أن حديث من كنت مولاه ، له مائة وخمسون طريقا ، لكن لم يعرف كل ذلك من حفّاظ الحديث إلا الأفراد ، وقال السيّد العلّامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه‌الله : أن له مائة وخمسين طريقا. قال العلامة المقبلي بعد سرده لبعض طرق هذا الحديث : فإن لم يكن هذا معلوما فما في الدين معلوم. وجعل هذا في الفصول من المتواتر لفظا وكذلك حديث المنزلة ، وأقرّ الجلال كلام الفصول في تواتر حديث الغدير ولم يسلّمه في حديث المنزلة قال : وإنما هو (يعني حديث المنزلة) صحيح مشهور لا متواتر (١).

وقال السيّد الأمير محمد الصنعاني المذكور في ـ الروضة النديّة شرح التحفة العلوية ـ وحديث الغدير متواتر عند أكثر أئمة الحديث ، قال الحافظ الذهبيّ في تذكرة الحفاظ في ترجمة الطبري : ألّف محمد بن جرير فيه كتابا ، وقال الذهبي : وقفت عليه فاندهشت لكثرة طرقه. وقال الذهبي في ترجمة الحاكم : فله طرق جيدة أفردتها بمصنّف. قلت : عدّه الشيخ المجتهد نزيل حرم الله ضياء الدين صالح بن مهدي المقبلي في الأحاديث المتواترة التي جمعها في أبحاثه ، وهو من أئمة العلم والتقوى والإنصاف ، ومع إنصاف الأئمة بتواتره فلا يملّ بإيراد طرقه بل يتبرّك ببعض منها.

(٣٣) الشيخ محمد صدر العالم قال في (معارج العلى في مناقب المرتضى) : ثم اعلم أنّ حديث الموالاة متواتر عند السيوطي رحمه‌الله كما ذكره في (قطف الأزهار) فأردت أن أسوق طرقه ليتضح التواتر فأقول : أخرج أحمد والحاكم عن ابن عباس وابن أبي شيبة وأحمد عنه عن بريدة. وأحمد وابن ماجه عن البراء. والطبراني عن جرير. وأبو نعيم عن جندع الأنصاري. وابن قانع عن حبشي بن جنادة ، والترمذي وقال : حسن غريب. والنسائي والطبراني والضياء المقدسي عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم أو حذيفة بن أسيد. وابن أبي شيبة والطبراني عن أبي أيوب. وابن أبي شيبة وابن أبي عاصم والضياء عن سعد بن أبي وقاص ،

__________________

(١) خفي عليه تواتر حديث المنزلة وأنه من المتفق عليه.


والشيرازي في الألقاب عن عمر ، والطبراني عن مالك بن الحويرث ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم وابن عقدة في كتاب الموالاة عن حبيب بن بديل بن ورقاء وقيس بن ثابت وزيد بن شراحيل الأنصاري ، وأحمد عن علي وثلاثة عشر رجلا ، وابن أبي شيبة عن جابر ، وأخرج أحمد وابن أبي عاصم في السنّة عن زاذان بن عمر قال : سمعت عليا في الرحبة (فذكر إلى آخر الحديث) ثم قال : وأخرج أحمد عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم (فذكر لفظهما ثم قال) : وأخرج الطبراني عن ابن عمر ، وابن أبي شيبة عن أبي هريرة واثني عشر من الصحابة ، وأحمد والطبراني والضياء عن علي وزيد بن أرقم وثلاثين رجلا من الصحابة ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن سعد ، والخطيب عن أنس ، وأخرج عبد الله بن أحمد وأبو يعلى وابن جرير والخطيب والضياء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : شهدت عليّا في الرحبة (فذكر الحديث بتمامه) ثم قال : وأخرج الطبراني عن عمرو بن مرّة وزيد بن أرقم معا ، وأخرج الطبراني والحاكم عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم (فذكر الحديث باللفظ الذي أسلفناه) فقال : وأخرج الطبراني عن حبشي بن جنادة ، وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب.

(٣٤) السيّد ابن حمزة الحرّاني الدمشقي الحنفي المتوفى ١١٢٠ ه‍ روى حديث الغدير في كتابه «البيان والتعريف» ج ٢ / ١٣٦ و ٢٣٠ من طرق الترمذي والنسائي والطبراني والحاكم والضياء المقدسي ، ثم قال : قال السيوطي حديث متواتر.

(٣٥) أبو عبد الله الزرقاني المالكي المتوفى ١١٢٢ قال في «شرح المواهب» ٧ ص ١٣ بعد ذكر كلام المصنف المذكور ص ٣٠٠ : وخصّه لمزيد علمه ، ودقائق استنباطه وفهمه ، وحسن سيرته ، وصفاء سريرته ، وكرم شيمه ، ورسوخ قدمه «إلى أن قال» : وللطبراني وغيره بإسناد صحيح : أنه (ص) خطب بغدير خم وهو موضع بالجحفة برجعه من حجة الوداع (فذكر الحديث) وفيه : يا أيها الناس! إن الله


مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحب من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار. وزعم بعض أن زيادة : اللهم وال إلخ. موضوعة مردودة بأن ذلك جاء من طرق صحح الذهبي كثيرا منها ، وروى الدارقطني عن سعد قال : لما سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا : أمسيت يا بن أبي طالب؟ مولى كل مؤمن ومؤمنة (ثم ذكر حديث نزول آية سأل سائل حول القضية وترجم ابن عقدة وأثنى عليه فقال) : وهو متواتر ، رواه ستة عشر صحابيا وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبيّ (ص) ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعليّ لما نوزع أيام خلافته ، فلا التفات إلى من قدح في صحته ولا لمن ردّه بأن عليّا كان باليمن لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج معه (ص).

(٣٦) شهاب الدين الحفظيّ الشافعي ، أحد شعراء الغدير في القرن الثاني عشر قال في (ذخيرة الأعمال في شرح جواهر اللآل) : هذا حديث صحيح لا مرية فيه أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وطرقه كثيرة. قال الإمام أحمد رحمه‌الله : وشهد به لعليّ ثلاثون صحابيا لمّا نوزع في أيام خلافته.

(٣٧) ميرزا محمد البدخشي قال في (نزل الأبرار) ص ٢١ : هذا حديث صحيح مشهور ، ولم يتكلم في صحته إلا متعصّب جاحد لا اعتبار بقوله ، فإن الحديث كثير الطرق جدا ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وقد نصّ الذهبي على كثير من طرقه بالصحة ، ورواه من الصحابة عدد كثير.

وقال في (مفتاح النجا في مناقب آل العباء) أخرج الحكيم في «نوادر الأصول» والطبراني بسند صحيح في الكبير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد : إن رسول الله خطب بغدير خم تحت شجرة فقال : يا أيها الناس؟ قد نبأني اللطيف الخبير إلى آخر ما مر .. فقال : وأخرج أحمد عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم باللفظ الذي أسلفناه .. ثم قال : وأخرج أحمد عن علي وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن مرّة ، وأبو يعلى عن أبي هريرة ، وابن أبي شيبة عنه وعن اثني عشر من الصحابة ، والبزّار


عن ابن عباس وعمارة وبريدة والطبراني عن ابن عمر ومالك بن الحويرث وأبي أيوب وجرير وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وأنس ، والحاكم عن علي وطلحة وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن سعد ، والخطيب عن أنس ثم ذكر الحديث فقال : وفي رواية أخرى للطبراني عن عمرو بن مرة وزيد بن أرقم وحبشي بن جنادة مرفوعا بلفظ : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، وأعن من أعانه. وعند ابن مردويه عن ابن عبّاس مرفوعا : اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره ، وأحب من أحبّه ، وابغض من أبغضه. وفي أخرى لأبي نعيم في «فضائل الصحابة» عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب معا مرفوعا : ألا؟ إن الله وليي وأنا وليّ كل مؤمن ، من كنت مولاه فعليّ مولاه. ولأحمد في رواية أخرى ، ولابن حبّان والحاكم والحافظ أبي بشر اسماعيل بن عبد الله العبدي الأصفهاني المشهور بسمّويه عن ابن عبّاس عن بريدة (وذكر لفظه) وللطبراني رواية أخرى عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم (وذكر لفظه) وعند الترمذي والحاكم عن زيد بن أرقم (وذكر لفظه) أقول : هذا حديث صحيح مشهور نصّ الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي التركمانيّ الفارقي ثم الدمشقيّ على كثير من طرقه بالصحة ، وهو كثير الطرق جدا ، وقد استوعبها الحافظ أبو العبّاس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي المعروف بابن عقدة في كتاب مفرد. وأخرج أحمد عن أبي الطفيل قال : جمع عليّ كرّم الله وجهه الناس في الرحبة (ثم ذكر حديث الرحبة).

(٣٨) مفتي الشام العماديّ الحنفي الدمشقي المتوفى ١١٧١ ه‍ عدّه في (الصلاة الفاخرة) ص ٤٩ من الأحاديث المتواترة ، يرويه كما قال في أول كتابه من عشرة مشايخ فأكثر نقلا عن الترمذي والبزّار وأحمد والطبري وأبي نعيم وابن عساكر وابن عقدة وأبي يعلى.

(٣٩) أبو العرفان الصبّان الشافعي المتوفى ١٢٠٦ ه‍ قال في (إسعاف


الراغبين) في هامش نور الأبصار ص ١٥٣ بعد رواية الحديث : رواه عن النبيّ ثلاثون صحابيا ، وكثير من طرقه صحيح أو حسن.

(٤٠) السيد محمود الآلوسي البغداد المتوفى ١٢٧٠ ه‍ قال في (روح المعاني) ج ٢ / ٢٤٩ : نعم ثبت عندنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حق الأمير هناك (يعني غدير خم) : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وزاد على ذلك كما في بعض الروايات ، لكن : لا دلالة في الجميع على ما يدّعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى. وقال في ج ٢ / ٣٥٠ : قال الذهبي : إنه صحيح. ونقل عن الذهبي أيضا أنه قال : إن «من كنت مولاه» متواتر يتيقّن أن رسول الله قاله ، وأما «اللهم وال من والاه» فزيادة قوية الإسناد.

(٤١) الشيخ محمد الحوت البيروتي الشافعي المتوفى ١٢٧٦ ه‍ ، قال في «أسنى المطالب» ص ٢٢٧ : حديث «من كنت مولاه فعليّ مولاه» رواه أصحاب السنن غير أبي داود ورواه أحمد وصحّحوه. وروي بلفظ : من كنت وليّه فعلي وليّه. ورواه أحمد والنسائي والحاكم وصحّحه.

(٤٢) المولوي ولي الله اللكهنوي ، قال في «مرآة المؤمنين في مناقب أهل بيت سيّد المرسلين» ـ بعد ذكر الحديث بغير واحد من طرقه ما تعريبه : وليعلم أنّ هذا الحديث صحيح وله طرق عديدة ، وقد أخطأ من تكلّم في صحّته إذ أخرجه جمع من علماء الحديث مثل الترمذي والنسائي ، ورواه جمع من الصحابة وشهدوا به لعليّ في أيام خلافته ، ثم ذكر حديث المناشدة وإصابة الدعوة.

(٤٣) الحافظ المعاصر شهاب الدين أبو الفيض أحمد بن الصديق الحضرمي ، قال في كتابه «تشنيف الآذان» ص ٧٧ : وأما حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فمتواتر عن النبيّ من رواية نحو ستين شخصا لو أوردنا أسانيد الجميع لطال بنا ذلك جدا ، ولكن نشير إلى مخرجيها تتميما للفائدة ، ومن أراد الوقوف على طرقها وأسانيدها فليرجع إلى كتابنا في المتواتر فنقول :


رواه أحمد في مسنده وابن أبي عاصم في السنّة عن عليّ وثلاثة عشر رجلا من الصحابة ، ورواه النسائي في الخصائص عن عليّ وبضعة عشر رجلا ، ورواه عنه وعن جماعة معه أيضا الطحاوي في مشكل الآثار والبزّار في المسند وابن عساكر وآخرون ، ورواه ابن راهويه في المسند وابن جرير في تهذيب الآثار وابن أبي عاصم في السنة والطحاوي في مشكل الآثار والمحاملي في الأمالي وابن عقدة والخطيب من حديث ابن عباس ، ورواه أحمد والنسائي في الكبرى والخصائص ، وابن ماجه والحسن بن سفيان والدولابي في الكنى ، وابن عساكر في التاريخ من حديث البراء بن عازب ورواه أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان في الصحيح والبزّار والدولابي في الكنى والطبراني والحاكم وآخرون عن زيد بن أرقم ، ورواه أحمد والنسائي في الكبرى والخصائص ، وسمّويه في فوائده ، وعثمان بن أبي شيبة وابن جرير في التهذيب وابن حبّان والحاكم والطبراني في الصغير وأبو نعيم في الحلية وتاريخ أصبهان والفضائل وابن عقدة وابن عساكر من طرق تبلغ حدّ التواتر عن بريدة.

ورواه أحمد والنسائي في الكبرى والطبراني من حديث أبي أيوب ، ورواه الترمذي وابن عقدة والطبراني والدارقطني ومن طريقه ابن عساكر من حديث حذيفة بن أسيد إلّا أنه عند الترمذي على الشكّ ، ورواه النسائي وابن ماجه وسعيد بن منصور وابن جرير في التهذيب والبزّار وابن عقدة وابن عساكر من حديث سعد بن أبي وقاص ، ورواه ابن أبي شيبة والبزّار في مسنديهما وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وابن عقدة ، ورواه الطبراني في الصغير وابن عقدة وأبو نعيم في الحلية والتاريخ والخطيب وابن عساكر من حديث أنس بن مالك ، ورواه الحاكم والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في التاريخ وابن عساكر من حديث أبي سعيد ، ورواه عثمان بن أبي شيبة والنسائي في سننهما وابن عقدة وأبو يعلى والطبراني والبانياسي في جزئه وأبو نعيم في تاريخ أصبهان وابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث جابر بن عبد الله ، ورواه الطبراني من حديث عمرو بن ذي مرّ ،


ورواه عثمان بن أبي شيبة في سننه وابن عقدة والطبراني وابن عدي ومن طريقه ابن عساكر من حديث ابن عمر ، ورواه ابن عقدة والطبراني وابن عساكر من حديث مالك بن الحويرث ، ورواه أبو نعيم في الحلية والطبراني وأبو طاهر المخلص وابن قانع وابن عساكر عن حبشي بن جنادة ، ورواه الطبراني وابن عقدة من حديث جرير بن عبد الله البجلي ، ورواه البزّار من حديث عمارة ، والطبراني وابن عقدة وابن عساكر من حديث عمار بن ياسر ، وابن عساكر من حديث رباح بن الحارث ، ومن حديث عمر بن الخطاب ، ومن حديث نبيط بن شريط ، ورواه ابن عقدة وابن عساكر من حديث سمرة بن جندب ، ورواه الطوسي في أماليه من حديث أبي ليلى ، ورواه أبو نعيم في الصحابة من حديث جندب الأنصاري ، ورواه ابن عقدة في كتاب الموالاة من حديث جماعة بأسانيد متعددة منهم : حبيب بن بديل ، وقيس بن ثابت ، وزيد بن شرحبيل ، والعباس بن عبد المطلب ، والحسن بن علي وأخوه ، وعبد الله بن جعفر ، وسلمة بن الأكوع ، وزيد بن أبي ثابت ، وأبو ذر ، وسلمان الفارسي ، وخزيمة بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو رافع ، وزيد بن حارثة ، وجابر بن سمرة ، وضمرة الأسلمي ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعبد الله بن بسر المازني ، وعبد الرحمن بن يعمر الديلمي ، وأبو الطفيل ، وسعد بن جنادة ، وعامر بن عميرة ، وحبّة بن جوين ، وأبو أمامة ، وعامر بن ليلى ، ووحشي بن حرب ، وعائشة ، وأم سلمة ، ورواه الحاكم من حديث طلحة بن عبيد الله (١).

تنبيه :

لقد عرفت ـ أخي القارئ ـ مدى اهتمام علماء المسلمين بسند حديث الغدير ، حيث رووه واخبتوا وسكنوا إليه ، ومنهم من زووا عنه كل ريبة وشك ، وحكموا بصحة أسانيد جمّة من طرقه ، وحسن طرق أخرى ، وقوة طائفة منها ، وهناك أمة من فطاحل العلماء حكموا بتواتر الحديث ، وشنّعوا على من أنكر ذلك ،

__________________

(١) انتهى ما ذكره العلّامة الأميني عليه الرحمة ، وهناك الكثير من الكلمات حول سند حديث الغدير أعرضنا عن ذكرها خوف الملل والإطالة فليراجع إحقاق الحق ج ٣ / ٣٢٨ والغدير في الكتاب والسّنّة.


ولقد ظهر لك ـ أخي القارئ ـ من خلال الكلمات المتقدمة من علماء الرجال أن من رواه من الصحابة ما يناهز المائة وعشرة صحابي ، بل إن الحافظ السجستاني رواه عن مائة وعشرين صحابيا ، بل زاد عليه الحافظ أبي العلاء الهمداني حيث رواه بمائتي وخمسين طريقا. هذا عدا عن رواية التابعين ومن بعدهم في الأجيال المتأخرة ، فلن تجد فيما يؤثر عن رسول الله حديثا يبلغ هذا المبلغ من الثبوت واليقين والتواتر.

وقد أفرد شمس الدين الجزري رسالة في إثبات تواتره ونسب منكره إلى الجهل ، فهو كما مرّ عن الفقيه ضياء الدين المقبلي : إن لم يكن معلوما فما في الدين معلوم.

وعن الغزالي : أنه أجمع الجمهور على متنه ، وعن البدخشي أنه : حديث صحيح مشهور ولم يتكلم في صحته إلّا متعصب جاحد لا اعتبار بقوله. وكما قال شمس الدين الجزري الشافعي : إنه صحيح من وجوه كثيرة تواتر عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، وهو متواتر أيضا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الجمّ الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم.

«لكن بين ثنايا العصبيّة ومن وراء ربوات الأحقاد حثالة حدى بهم الانحياز عن مولانا أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه إلى تعكير هذا الصفو وإقلاق تلك الطمأنينة بكل جلبة ولغط ، فمن منكر صحة صدور الحديث معللا بأن عليا أمير المؤمنين كان باليمن وما كان مع رسول الله في حجته تلك ، إلى آخر ينكر صحّة صدر الحديث ، إلى ثالث يضعّف ذيله ، ورابع يطعن في أصله.

وقد عرفت تواتر الجميع والاتفاق على صحته ونصوص العلماء على اعتبار هذه كلها ، غير آبهين بكل ما هناك من الصخب واللغب ، فالإجماع قد سبق المهملجين ولحقهم حتى لم يبق لهم في مستوى الاعتبار مقيلا» (١).

__________________

(١) الغدير ج ١ / ٣١٥.


والعجب ممن زعم (١) أن حديث الغدير ما أخرجه إلّا أحمد بن حنبل في مسنده وهو مشتمل على الصحيح والضعيف.

وكأن هذا القائل لم يقف على تأليف غير مسند أحمد ، أو أنه لم يوقفه السير على الأسانيد الجمّة الصحيحة والقويّة في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها ، وكأنه لم يطّلع على ما أفرده الأعلام بالتأليف حول أحمد وسنده أو لم يطرق سمعه ما يقوله السبكي في طبقاته ج ١ / ٢٠١ من أن أحمد ألّف مسنده وهو أصل من أصول هذه الأمة ، قال الحافظ أبو موسى المديني : «مسند الإمام أحمد أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث ، انتقى من أحاديث كثيرة ومسموعات وافرة ، فجعل إماما ومعتمدا وعند التنازع ملجأ ومستندا على ما أخبرنا والدي وغيره بأن المبارك بن عبد الجبار كتب إليهما من بغداد قال : أخبرنا ثم ذكر السند من طريق الحافظ ابن بطة إلى أحمد أنه قال : إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفا ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلّا ليس بحجة ، وقال عبد الله : قلت لأبي : لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند؟ فقال : عملت هذا الكتاب إماما إذا اختلف الناس في سنّة عن رسول الله رجع إليه. وقال : قال أبو موسى المديني : ولم يخرج إلّا عمّن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طعن في أمانته ، وأحمد لم يورد في مسنده إلّا ما صحّ عنده.

وهذا الحافظ السيوطي يقول في ديباجة «جمع الجوامع» كما في كنز العمال ج ١ / ٣ : وكلّ ما في مسند أحمد فهو مقبول ، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن. فهب أنّا سالمنا من يلوك بين أشداقه إنه ما أخرجه إلّا أحمد في مسنده ولكن ما ذنب أحمد؟ وما التبعة على المسند إن كان هذا الحديث ـ أي الغدير ـ من قسم الصحاح من رواياته؟ على أنه ليس من الممكن مسالمته على تخصيص الرواية

__________________

(١) المدّعي هو محمد محسن الكشميري في «نجاة المؤمنين» على ما حكاه العلّامة الأميني في غديره ج ١ / ٣١٦.


بأحمد وأولئك رواته أمم من أئمة الحديث أدرجوه في الصحاح والمسانيد وأخرجوه ثقة عن ثقة ، ورجال كثير من أسانيده رجال الصحيحين.

هذا مضافا على أن المدّعي تخصيص الحديث بمسند أحمد وتضعيفه له من أجل ذلك لم ينصب لنا قرينة على مدعاه ووجه تضعيفه له.

وبهذا يندفع ما أورده صاحب الشبهة المذكورة ، كما يندفع قول من قال : إن حديث الغدير نقل في غير الكتب الصحاح ، ذاهلا عن أن الحديث أخرجه الترمذي في صحيحه ، وابن ماجة في سننه ، والدارقطني بعدّة طرق ، وضياء الدين المقدسي في المختار ووو .. وقد مرّ معنا ما ذكره الشيخ محمّد الحوت البيروتي الشافعي في أسنى المطالب : من أن حديث الغدير رواه أصحاب السنن غير أبي داود ورواه أحمد وصحّحوه والنسائي والحاكم وأمثاله.

من خلال هذا كله : تعرف قيمة قول من قدح في صحّته بعدم رواية الشيخين في صحيحيهما. فإن ما نقله جمهور العامة من الاتفاق على حسنه وتصحيحه لم يدع مجالا لمغمز ، فالمضعّف للحديث شاذ نادر ، والشاذ يترك ولا يجوز العمل به. هذا مضافا إلى أنه كم من حديث صحيح ما أخرجه الشيخان على حدّ تعبير الشيخ محمود بن محمّد الشيخاني القادري المدني في الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ وقد تقدم ذكره. ويكفي للتدليل على ذلك أن الحاكم النيسابوري استدرك عليهما كتابا ضخما لا يقلّ عن الصحيحين ، وصافقه على كثير مما أخرجه الذهبيّ في الملخّص ، وتجد في تراجم العلماء مستدركات أخرى على الصحيحين.

وهذا الحاكم النيسابوري يقول في المستدرك ج ١ ص ٣ : لم يحكما [يعني البخاري ومسلم] ولا واحد منهما بأنّه لم يصحّ من الحديث غير ما أخرجاه. وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشتمون برواة الآثار بأن جميع ما يصحّ عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث ، وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أقلّ أو أكثر منه كلّها سقيمة غير صحيحة. وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أن أجمع كتابا يشتمل على الأحاديث المرويّة


بأسانيد يحتجّ محمّد بن إسماعيل [البخاري] ومسلم بن الحجّاج بمثلها ، إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علّة له فإنهما رحمهما‌الله لم يدّعيا ذلك لأنفسهما.

وقد خرّج جماعة من علماء عصرهما ومن بعدهما عليهما أحاديث قد أخرجاها وهي معلولة وقد جهدت في الذبّ عنها في المدخل إلى الصحيح بما رضيه أهل الصنعة ، وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما ، وهذا شرط الصحيح عند كافّة فقهاء أهل الإسلام ، أنّ الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة. اه.

وقال الحافظ الكبير العراقي في «فتح المغيث» ص ١٧ في شرح قوله في ألفيّة الحديث :

ولم يعمّاه ولكن قلّ ما

عند ابن الأخرم منه قد فاتها

أي لم يعمّ البخاري ومسلم كلّ الصحيح ، يريد لم يستوعباه في كتابيهما ولم يلتزما ذلك ، وإلزام الدارقطني وغيره إيّاهما بأحاديث ليست بلازم ، قال الحاكم في خطبة المستدرك : ولم يحكما ولا واحد منهما أنّه لم يصح من الحديث غير ما أخرجاه. ه.

قال البخاري : ما أدخلت في كتاب الجامع إلّا ما صحّ وتركت من الصحاح لحال الطول.

وقال مسلم : ليس كلّ صحيح وضعته هنا إنّما وضعت هنا ما أجمعوا عليه. يريد ما وجد عنده فيها شرائط المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. وقال العراقي أيضا ص ١٩ في شرح قوله :

وخذ زيادة الصحيح إذ تنصّ

صحّته أو من مصنّف ينصّ

بجمعه نحو إن حبّان الزكي

وابن خزيمة وكالمستدرك

لمّا تقدم أن البخاري ومسلما لم يستوعبا إخراج الصحيح فكأنه قيل : فمن أين يعرف الصحيح الزائد على ما فيهما؟ فقال : خذه إذ تنصّ صحته. أي حيث


ينصّ على صحته إمام معتمد كأبي داود والترمذي والنسائي والدارقطني والخطابي والبيهقي في مصنّفاتهم المعتمدة كذا قيّده ابن الصلاح بمصنفاتهم ولم أقيّده بها بل إذا صحّ الطريق إليهم أنهم صحّحوه ولو في غير مصنفاتهم ، أو صحّحه من لم يشتهر له تصنيف من الأئمة كيحيى بن سعيد القطّان وابن معين ونحوهما فالحكم كذلك على الصواب ، وإنما قيّده ابن الصلاح بالمصنّفات لأنه ذهب إلى أنه ليس لأحد في هذه الأعصار أن يصحّح الأحاديث فلهذا لم يعتمد على صحة السند إلى من صحّحه في غير تصنيف مشهور ، ويؤخذ الصحيح أيضا من المصنّفات المختصة بجمع الصحيح فقط كصحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وصحيح أبي حاتم محمّد بن حبّان ، وكتاب المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم ، وكذلك ما يوجد في المستخرجات على الصحيحين من زيادة أو تتمة لمحذوف فهو محكوم بصحته. انتهى.

فعدم إخراج البخاري ومسلم هذا الحديث المتفق على صحته وتواتره والحال هذه لا يكون قدحا في الحديث إن لم يكن نقصا في الكتابين ومؤلّفيهما ، وكأنّ الشيخ محمود القادري فطن بهذا وحاول بقوله الآنف الذكر : «لا وكم حديث صحيح ما أخرجه الشيخان» تقديس ساحة الكتابين ومؤلفيهما عن هذا النقص ، لا أنه أراد إثبات صحة الحديث بذلك ، كيف؟ وهو يقول : اتفق على ما ذكرنا جمهور أهل السنّة (١).

ولا يخفى على الباحث أن القرون الأولى لم يكن يوجد فيها شيء من كلّ هذا اللغط أمام ما أصحر به نبيّ الإسلام يوم الغدير ، نعم كان هناك شرذمة من أهل الحنق والأحقاد على آل الله وكانوا ينحتون له قضية شخصية واقعة بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة ، كل ذلك تصغيرا لموقعه العظيم في النفوس ، إلى أن جاء المأمون العباسي وأحضر أربعين من فقهاء عصره وناظرهم في ذلك ، وأثبت

__________________

(١) الغدير : ج ١ / ٣٢٠.


عليهم حقّ القول في الحديث (١) ، ثم في القرن الرابع تلقته الأمة بالقبول ، وأخبت به الحفّاظ الإثبات من دون غمر فيه رادّين عنه قول من يقدح فيه ممن لا يعرف باسمه ورسمه.

هذا مضافا إلى أن مشايخ الشيخين (البخاري ومسلم) قد رووه بأسانيد صحاح وحسان ، مخبتين إليه وفيهم جمع من الذين يروي عنهم الشيخان بأسانيدهم في الصحيحين من مشيخة القرن الثالث وهم (٢).

يحيى بن آدم المتوفى ٢٠٣ ه‍.

عبد الرزّاق بن همام المتوفى ٢١١ ه‍.

حجّاج بن منهال المتوفى ٢١٧ ه‍.

علي بن عيّاش المتوفى ٢١٩ ه‍.

قيس بن حفص المتوفى ٢٢٧ ه‍.

عبيد الله بن عمر المتوفى ٢٣٥ ه‍.

عثمان بن أبي شيبة المتوفى ٢٣٩ ه‍.

أبو الجوزاء أحمد المتوفى ٢٤٦ ه‍.

نصر بن عليّ المتوفى ٢٥١ ه‍.

يوسف بن موسى المتوفى ٢٥٣ ه‍.

أسود بن عامر المتوفى ٢٠٨ ه‍.

عبيد الله بن موسى المتوفى ٢١٣ ه‍.

عفان بن مسلم المتوفى ٢١٩ ه‍.

موسى بن إسماعيل المتوفى ٢٢٣ ه‍.

عبد الله بن أبي شيبة المتوفى ٢٣٥ ه‍.

ابن راهويه إسحاق المتوفى ٢٣٧ ه‍.

حسين بن حريث المتوفى ٢٤٤ ه‍.

يوسف بن عيسى المتوفى ٢٤٩ ه‍.

محمّد بن المثنّى المتوفى ٢٥٢ ه‍.

شبابة بن سوار المتوفى ٢٠٦ ه‍.

عبد الله بن يزيد المتوفى ٢١٢ ه‍.

فضل بن دكين المتوفى ٢١٨ ه‍.

محمّد بن كثير المتوفى ٢٢٣ ه‍.

هدبة بن خالد المتوفى ٢٣٥ ه‍.

ابراهيم بن المنذر المتوفى ٢٣٦ ه‍.

قتيبة بن سعيد المتوفى ٢٤٠ ه‍.

__________________

(١) الغدير : ج ١ / ٢١٠.

(٢) للوقوف على تراجم هؤلاء يراجع الغدير ج ١ / ٨٢ ـ ٩٣.


أبو كريب محمد المتوفى ٢٤٨ ه‍.

محمّد صاعقة المتوفى ٢٥٥ ه‍.

محمّد بن بشار المتوفى ٢٥٢ ه‍.

أبعد هذا يقال أن الشيخين لم يخرجاه ، وكأنّ إخراجهما للحديث المذكور يزده قوة ، إذ إنّ عدم ذكرهما له قد يكون إخفاء لشرفه وطمسا لمعالمه ، كما فعل ابن حجر الهيتمي حيث عدّ حديث الغدير من الآحاد فكيف يسوغ للشيعة الاحتجاج به على الإمامة (١).

يورد عليه :

إن ابن حجر نفسه يرى الحديث متواترا لرواية ثمانية من الصحابة (٢) ، وأنّ في القوم من يرى الحديث متواترا لرواية أربعة من الصحابة له ويقول : لا تحلّ مخالفته (٣) ، ويجزم بتواتر حديث : الأئمة من قريش ويقول : رواه أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومعاوية ، وروى معناه جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وعبادة بن الصامت.

وآخر يقول ذلك في حديث آخر رواه الإمام عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرويه عن الإمام عليّ اثنا عشر رجل فيقول : هذه اثنتا عشرة طريقا إليه ومثل هذا يبلغ حدّ التواتر ، وآخر يرى حديث: «تقتلك الفئة الباغية» متواترا ويقول : تواترت الروايات به روي ذلك عن عمّار وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عبّاس في آخرين ، وجوّد السيوطي قول من حدّد التواتر بعشرة وقال في ألفيّته ص ١٦ :

وما رواه عدد جم يجب

إحالة اجتماعهم على الكذب

فمتواتر وقوم حدّدوا

بعشرة وهو لديّ أجود

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٤٢ ، الفصل الخامس في بيان شبه الرافضة.

(٢) راجع الغدير : ج ١ / ٣٢١ ، نقلا عن الصواعق المحرقة ص ١٣.

(٣) قال ابن حزم في المحلّى في مسألة عدم جواز بيع الماء : فهؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم فهو نقل متواتر لا تحل مخالفته.


هذه نظريتهم المشهورة في تحديد التواتر ، لكنّهم إذا وقفوا على حديث الغدير اتخذوا له حدّا أعلى لم تبلغه رواية مائة وعشر صحابي أو أكثر ، بالغا ما بلغ (١).

وزبدة المقال :

إن حديث الغدير من أصح الأحاديث الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، ولم يختلف على صحته اثنان من الإمامية ، حيث أشبعوا البحث عنه من حيث السند والتوثيق والمتن والدلالة في مؤلفات كثيرة تبلغ المئات ، قديما وحديثا ، ناهيك عمّا كتبه علماء العامة دفاعا عن هذا الحديث سندا ودلالة لكنّ بعضهم شكّك بدلالة لفظ «المولى» من حيث ادعائهم انصرافها إلى معان مشتركة.

ويا للأسف يأتي من (٢) ينسب نفسه إلى الإمامية فيشكّك بالسند بعد تسليم جمهور العامة به ، فلا يروق له أن يبحث العامة في الدلالة ، مع أن الطريق للبحث في السند له مجال ـ حسب زعمه ـ ضاربا تواتر الحديث وقوة سنده عرض الجدار ، غير مبال لأصول التشيع كدين شيّد بنيانه النبيّ الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنه لم يأتنا ببرهان على مدعاه سوى ما أدى إليه ظنه الشخصي الذي هو أقرب إلى الاستحسانات الأشعرية منه إلى الأدلة والبراهين الشرعية والمنطقية.

فلم يعجبه سند حديث الغدير الذي تصافقت الأمة على صحته وروي بطرق كثيرة جدا من الطرفين ، مدعيا أن السند فيه نقاش تأكيدا لمناقشة الدلالة ، فقال : «إنّ مشكلتنا هي أن حديث الغدير هو من الأحاديث المروية بشكل مكثّف من السنّة والشيعة ، ولذلك فإن الكثير من إخواننا المسلمين السنّة يناقشون الدلالة ولا يناقشون السند ، في الوقت الذي لا بدّ أن تدرس القضية من خلال ذلك أيضا ..» (٣).

__________________

(١) الغدير : ج ١ / ٣٢٢.

(٢) هو السيّد محمد حسين فضل الله.

(٣) الندوة : ج ١ / ٤٢٢.


فهو بهذا الكلام يتمنى على العامة ـ الذين بخعوا وخضعوا للحديث الشريف ـ أن يناقشوا السند المتواتر لأن المتن أو الدلالة المتواترة أيضا ـ بنظره ـ غير كاف لتضعيف الحديث الذي طالما احتج به الشيعة الإمامية منذ الصدر الأول للإسلام إلى وقتنا هذا ، وعليه يكون هذا المشكّك أول من فقأ سند الحديث من حيث خروجه عن الإجماع الإمامي ، حيث لم يسبقه إلى ذلك سابق إلا التفتازاني (١) الذي أنكر صحّة صدر الحديث ، أو البعض (٢) المنكر لصحة صدور الحديث ، وكلاهما من أكابر المعاندين عند الأشاعرة ، وخروج المذكور عن الإجماع القطعي لا يخرج بمسألة الغدير من دائرة القطعيات إلى دائرة المشكوك ، لأن الخارج شاذ لا يعبؤ به كما هو المعروف في مصطلح علم الحديث والدراية.

ولنا على المذكور ملاحظات هي :

(١) من المعروف في مصطلح الحديث أن النص المتواتر يغني تواتره عن البحث في سنده ، فإذا كان الحديث مرويا بشكل مكثّف ـ أي كونه متواترا ـ فلا حاجة حينئذ للدعوة إلى دراسة السند لأن الأخبار المتضافرة أو المتواترة يعني أن أسانيدها ومداليلها صحيحة وموثوقة ، لأن التواتر يضفي على القضية قوة فوق قوتها ، وجلاء ووضوحا في تحققها وحصولها ؛ فالبحث عن السند المتواتر حينئذ يعتبر خطأ فادحا عند الفقهاء وأرباب الحديث ، والتواتر كما في مصطلح علم الرجال يخرج بالقضية من دائرة الظنون والتشكيكات ليدخلها في دائرة الضروريات الدينية والتاريخية المسلّمة ، بحيث لا تدخل المسألة أو القضية المتواترة في بحث الأسانيد. هذا مضافا إلى أن سند حديث الغدير في أعلى درجات الصحة والتوثيق بشهادة كبار علماء العامة ، ولم يأتنا المشكّك ولو بمصداق واحد لإثبات ضعف الحديث والدعوة إلى البحث في سنده ، وما تشكيكه بالحديث وغيره من المعتقدات سوى تبنّي للفكر الأشعري ودعوة للانعتاق من الفكر الإمامي الذي

__________________

(١) المقاصد ص ٢٩٠ على ما ذكره صاحب الغدير : ج ١ / ٣١٥.

(٢) حكاه الطحاوي عن بعض على ما ذكره صاحب الغدير ج ١ / ٣١٥.


طالما حاربه خصومه لا سيّما الوهابية في زماننا وعجزوا عن الصمود بوجهه ، فاخترعوا أصناما لهم من داخل الفكر الإمامي ليسهل النيل من معتقداتنا وجرّ القواعد الموالية إلى مذهب لا يمت إلى الدين بصلة ، فها هو داعية التشكيك يصرّح بمكنون صدره فيقول : «... إن من الصعب إيجاد وحدة إسلامية على الصعيد السياسي في مثل هذا الجو المليء بالحساسيات المذهبية الثقافية ، لأن التعقيدات الداخلية الحادة في بعض المراحل الأشد قوّة وصعوبة وحيوية لتسقط الهيكل على رءوس الجميع ، ولهذا فلا بدّ من الانصراف إلى دراسة الوحدة في المسألة الثقافية لا سيّما العقائدية المتصلة بالتفاصيل في هذا المحور أو ذاك بغية تأسيس القاعدة الصلبة التي يلتقي عليها الجميع في كل تنوعاتها الفكرية المتحركة في خطوط القاعدة في حركة الكل داخل الجزء ..» (١).

فمن أجل الوحدة الإسلامية نال هذا الرجل من معتقداتنا تحت ذريعة البحث العلمي والتحقيق فيما كتبه الأقدمون.

(٢) العمل بالخبر المتواتر ليس أقل قيمة من الخبر الضعيف الذي يأخذ به المشكّك المذكور إذا لم يكن هناك داع للكذب فيه (٢) ، فإذا جاز الأخذ بالخبر الضعيف ـ بحسب مدعاه ـ فلم لا يجوز الأخذ بالخبر المتواتر؟! بل أي داع للكذب في حديث الغدير المروي بشكل مكثف كما قال. وإذا لم يكن حديث الغدير مكذوبا على الرسول محمّد ـ طبقا لمسلكه في الأخذ بالخبر الضعيف ـ فلم التشكيك بسند الحديث؟!! من هنا فإنه يعمل بروايات العامة (٣) في حال عدم وجود داع للكذب ، وهو لا يرى مشكلة في الأخذ بروايات العامة لكونه داعية إلى منهجهم ، ولكنّه في نفس الوقت يعتبر أنّ أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مشكلة معقدة لوجود الركام الهائل من الكذب في حديثهم عليهم‌السلام ، ويرى أنّ كثرة الكذب

__________________

(١) مجلة المنطلق ، عدد ١١٣ الصادرة عام ١٩٩٥ الصفحة ١٨.

(٢) كتاب النكاح : ج ١ / ٥٨.

(٣) نفس المصدر.


على أهل البيت عليهم‌السلام تجعلنا نواجه مشكلة السند (١).

ونسأل المشكّك المذكور :

إن كان كثرة الكذب تجعلنا نواجه مشكلة السند ، فبطريق أولى نواجه مشكلة السّند والدلالة في روايات العامة ، لأن الملاك واحد وهو الكذب على آل البيت عليهم‌السلام ، هذا مضافا إلى أنّ خلفاء الجور لا سيّما الذين اغتصبوا الحق من أمير المؤمنين أمثال أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، فقد ركّبوا الأسانيد على المتون الروائية ، افتراء على الله ورسوله ، من هنا أمر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بعرض الروايات على كتاب الله فما وافقه يؤخذ به وإلّا فيعرض على أخبار العامة فما وافقها فيضرب به عرض الجدار لوفرة الروايات المكذوبة على آل البيت عليهم‌السلام ، فإذا كان الكذب هو الملاك في حرمة العمل بالروايات بين الفريقين ، فلم نواجه مشكلة السّند في رواياتنا ولا نواجهها في روايات العامة؟!!

إنّ التشكيك بسند حديث الغدير يعني النيل من خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، هذه الخلافة ـ على ما يبدو له ـ تشكّل حاجزا عظيما في تحقيق ما يصبو إليه من الوحدة الثقافية المتعلقة بتفاصيل العقائد ، فها هو يتنازل عن كثير من التفاصيل بغية تأسيس القاعدة الصلبة التي يلتقي عليها الجميع كما أشار إلى ذلك في إحدى مقالاته في مجلة المنطلق العدد (١٣) المتقدّم.

وإذا لم يكف الخبر المتواتر فضل الله سيد المشككين فما ذا يكفيه يا ترى؟ وعلى أي شيء يعتمد في منهجه الاستدلالي ، أعلى المراسيل والمجاهيل أم على الأقيسة والاستحسانات الشخصية؟! ولعلّ الأقيسة هي التي تروي غليله ، فيكون بذلك رادّا على عترة نبيه صلى الله عليهم أجمعين ، والراد عليهم خارج من ولايتهم لما روي في موثقة أبي عبيدة الحذّاء قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا

__________________

(١) مجلة المنطلق عدد ١٣ ص ٢٤ والندوة ج ١ / ٥٠٣.


وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا»(١).

(النقطة الثانية) : في دلالة الحديث.

لا يرتاب الشيعة الإمامية في أن مدلول حديث الغدير حجة قاطعة على أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إمام له ما للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية على الأنفس والأموال وما شابه ذلك ؛ فالحديث يثبت خلافته عليه‌السلام على الأمة الإسلامية بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم ، عند مرجعه من حجة الوداع : ألست أولى بكم من أنفسكم؟

فلما أذعنوا له بالإقرار قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. وكلمة «مولى» لغة بمعنى «الأولى بالتصرف» الدال على الإمامة ، حيث يراد بها الأولى بالتصرف والطاعة ، لكنّ المخالفين شكّكوا بالوضع اللغوي لكلمة «مولى» مدعين أن «المولى» في الحديث كلمة مشتركة بين معان أخر ، والقدر الجامع بينها هو أن «المولى» بمعنى الناصر والمحب.

وهذا التأويل الذي انتهجه العامة مردود بشواهد من اللغة ، ولما في الحديث من قرائن داخلية وخارجية تعيّن المعنى الذي نعتقد به نحن الشيعة الإمامية لأنه الأصل في اللغة ، الذي ترجع إليه المعاني في باقي الأقسام ، فلا يقال في اللغة العربية «هو مولى دين الله» مكان «ناصر دين الله» ولا يصح تبديل قوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٢) إلى «من مواليّ إلى الله» أو تبديل قول الحواريين (نحن أنصار الله) إلى «نحن مواليّ الله».

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢٣.

(٢) سورة الصف : ١٤.


كما لا يصح تبديل «مأواكم النار» في قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١) إلى قوله «ناصركم أو محبكم النار» بل الأولى أن يقال هي «أولى بكم» وقد نص على ذلك ثلة من مفسري العامة (٢) ، وذكره المحققون من أهل اللغة (٣) ، قال أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٤)

يريد أولى المخافة.

وذكر أهل اللغة لكلمة «مولى» أكثر من ثلاثين معنى ، ذكر جلّها ابن منظور (٥) ، لكنّ عشرة منها هي القدر المتيقن لورودها في الأحاديث الشريفة ، ولتمسّك أهل العلم والكلام بها في توجيه حديث الغدير وهذه المعاني هي : «المالك ، والعبد ، والمعتق ، والمعتق ، والصاحب ، والقريب كابن العم ونحوه ، الجار ، الحليف ، الابن ، العمّ ، النّزيل ، الشريك ، ابن الأخت ، الوليّ ، الربّ ، الناصر ، المنعم ، والمنعم عليه ، المحب ، التابع ، الصّهر».

والحق أنه ليس للمولى إلّا معنى واحد هو «الأولى بالتصرف» ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل مورد من موارده ، والاشتراك معنوي واستعماله أولى من الاشتراك اللفظي المستتبع لألفاظ كثيرة غير معلومة بنص ثابت ، والمنفية بالأصل المحكّم ، وهذا المعنى الواحد ، وهو الأولى بالشيء جامع

__________________

(١) سورة الحديد : ١٥.

(٢) يراجع : تفسير البيضاوي ج ٢ / ٤٦٩ وتفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٢٧ حكاه أيضا عن ابن عباس والكلبي وصحيح البخاري ج ٧ / ٢٤٠.

(٣) مثل الفراء يحيى بن زياد الكوفي وأبي عبيدة معمر بن المثنى البصري والزجاج كما حكاه الفخر الرازي في التفسير ج ٢٩ / ٢٢٧.

(٤) لسان العرب ج ١٥ / ٤١٠.

(٥) لسان العرب ج ١٥ / ٤٠٦ ـ ٤١٥.


لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة لهذا المعنى :

(١) «فالمالك» أولى بكلاءة مماليكه وأمرهم ، والتصرف فيهم.

(٢) «والعبد» أولى بالانقياد لمولاه من غيره.

(٣) «والمعتق» بالكسر أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.

(٤) «والمعتق» بالفتح أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.

(٥) «والصاحب» أولى بأن يؤدي حقوق الصحبة من غيره.

(٦) «القريب» أولى بأمر القريبين منه ، والدفاع عنهم ، والسعي وراء صالحهم.

(٧) «الجار» أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلها من البعداء.

(٨) «الحليف» أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ، ودفع عادية الجور عنه.

(٩) «الابن» أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.

(١٠) «العم» أولى بكلاءة ابن أخيه ، والحنان عليه ، وهو القائم مقام والده.

(١١) «النّزيل» أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم ، وأمن في جوارهم.

(١٢) «الشريك» أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الإضرار.

(١٣) «ابن الأخت» أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.

(١٤) «الولي» أولى بأن يراعي مصالح المولّى عليه.

(١٥) «الناصر» أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.

(١٦) «الربّ» أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

(١٧) «المنعم» بالكسر أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.

(١٨) «والمنعم عليه» أولى بشكر منعمه من غيره.

(١٩) «المحب» أولى بالدفاع عمّن أحبّه.

(٢٠) «التابع» أولى بمناصرة متبوعة ممن لا يتبعه.

(٢١) «الصهر» أولى بأن يرعى حقوق من صاهره ، فشدّ بهم أزره ، وقوي أمره.


إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الاستعمال ، والأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.

فالمولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى أو بمعنى الولي ، وأن ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة ، فليس من قبيل المعاني المختلفة حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة ، بل من قبيل المصاديق.

فجميع المعاني المتقدمة ترجع إلى معنى الأولى ، لكنّ عناد النواصب دعاهم إلى أن جحد بعضهم أن يكون «الأولى» أحد أقسام المولى ، أو يحصل ذلك في معناه ، واعترف بعضهم أنفة من العناد ، وادعوا أنه مجاز من الأقسام ، وفيما قدمناه من الدليل على أنه الأصل والعماد بيان فضيحة هؤلاء الأوغاد.

على أنه لا فصل بينهم وبين من جحد بقية الأقسام ما عدا «الأولى» أو «الولي» مقتصرا على الأول ، مدعيا فيها الاستعارة والمجاز ، فإنه بهذه الدعوى أقرب إلى الصواب لما شرحناه.

وهناك قرائن حالية (١) ومقالية دالة على أن المراد من «المولى» هو «الأولى بالتصرف أو الوليّ». أما القرائن الحالية : فبيانها أنه لو كان لفظ «مولى» مشتركا بين المعاني التي تلوناها عليك ، إلّا أنه لا يمكن إرادة غيره في المقام ، إما لاستلزامه الكفر ، كما إذا أريد منه الرب ؛ أو الكذب : كما إذا أريد منه العم ، والابن ، وابن الأخت ، ومالك الرق حيث لم يكن أمير المؤمنين مالكا لرق كل من ملك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقه ، فيكون بذلك مولى من كان مولاه ، وكذا لم يكن الإمام عليّ عليه‌السلام معتقا لكل من أعتقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرق ، فيكون لذلك مولاه ، ولا كان عليه‌السلام معتقا من رق ، ولا الرسول كذلك حاشاهما من ذلك. ولم يجز أن يعني من كنت ابن عمّه فعليّ ابن عمّه ، لأن هذا لغو من الكلام مع معرفة جميع

__________________

(١) الفرق بين القرينة الحالية والمقالية ، أن الأولى هي ما احتف بها الكلام الصادر من الرسول من ظروف زمانية ومكانية ، أما الثانية فهي : ما اتصل بالكلام نفسه من الجمل والعبارات.


المسلمين بأن الإمام عليّا عليه‌السلام ابن عمّ الرسول ، وعلمهم يقينا بالاضطرار بأن ابن عمّ الرجل هو ابن عمّ جميع بني عمه على كل حال.

كما لا يجوز أن يكون قصد معنى «الحليف» لأنه لم يكن الإمام عليه‌السلام حليفا لجميع حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا معنى لإرادته بلفظ مولى «الجار» لأنه قد كان معروفا عند جميع من عرف منزلة الإمام عليّ عليه‌السلام أنه جار من جاوره النبيّ عليه وآله السلام في الدار ، بحلوله معه في المكان ، ولا إذا افترقا بالأسفار ، ولم يجب أن يكون الإمام عليّ عليه‌السلام جارا لجيران النبيّ عليه وآله السلام ، وكان الخبر عن ذلك كذبا من الأخبار.

وهكذا بقية الأقسام كالمنعم عليه والشريك والصاحب والنزيل والصهر والقريب الخ ، لا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني ، لسخافته ، لا سيّما في هذا المحتشد الرهيب ، وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بحبس المتقدم في السير ، ومنع التالي منه ، في محل ليس صالحا للنزول ، غير أن الوحي الإلهي حبسه هناك ، فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقد هذا المحتفل ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر ، وحرّ الهجير ، وحراجة الموقف ، حتّى إنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه ، وطرفا فوق رأسه ، فيرقى هناك منبر الأهداج ، ويعلمهم عن الله تعالى بأنه من كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله مصاحبا أو جارا أو نزيلا عنده ، أو صهرا أو قريبا له ، فعليّ كذلك!!

وأما المنعم ، فلا ملازمة بين أن يكون كل من أنعم عليه رسول الله فالإمام علي منعم عليه.

وأما الناصر والمحب ، فسواء كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله إخبارا أو إنشاء ، فاحتمالان ساقطان ، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم ، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ، ويحبس له الجماهير ، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف


حرج ، لا قرار فيه. كل هذه المعاني لا توجب فائدة جمع الناس لها ، وتقريرهم على الطاعة وتعظيم الشأن.

فلم يبق من المعاني إلّا الوليّ ، والأولى به ، والمراد منه المتصرّف في الأمر ومتوليه ، فيكون مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الإمامة التي يعبّر عنها بلفظ أولى ، أو ولي ، ويعبّر عنها بصريح فرض الطاعة فإنه أحرى وهذا واضح البرهان ، لأن المتصرّف الذي قيّضه الله سبحانه لأن يتّبع ويكون إماما ، فيهدي البشر إلى سنن النجاة ، فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في المجتمع الإنساني ، فليس هو إلّا نبيّا أو إماما مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى بأمر إلهي لا يبارحه في أقواله وأفعاله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

وأما القرائن المقالية : فكثيرة تثبت كون المولى بمعنى الأولى بالشيء ، وإثباتنا لهذه القرائن فيما لو سلّمنا أن «المولى» مشترك لفظي ، أما على القول بأنه ليس للمولى إلّا معنى واحد كما قلنا ، فلا حاجة لذكر القرائن إلّا تأكيدا.

القرينة الأولى :

سبق أمر الله تعالى نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) فإنه لا يصح حمله على الأمر بتبليغ أن الإمام عليّا عليه‌السلام محب أو ناصر لمن أحبّه النبيّ أو نصره ، فإن الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلّغ به أمرا دينيا يلزم الأمة الأخذ به كالإمامة لا مثل الحب والنصرة من الإمام عليّ عليه‌السلام لهم التي لا دخل لها بتكليفهم ، فهل ترى أنّ الله سبحانه ورسوله يريدان تسجيل الأمر على أمير المؤمنين عليّ والأشهاد عليه لئلا يفعل ما ينافي الحب والنصرة أو يريدان توضيح الواضحات والأخبار بالبديهيات ، على أن نصرة الإمام عليّ عليه‌السلام لكلّ مؤمن ومؤمنة موقوفة على إمامته وزعامته العامة ، إذ لا تتم منه وهو رعية ومحكوم لغيره

__________________

(١) سورة النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) سورة المائدة : ٦٧.


في جلّ أيامه ، ولذا لم يقدر على نصر أخص الناس به وهو سيّدة النساء فاطمة روحي فداها عند ما غصب أبو بكر حقها وضربها عمر وكسّر أضلاعها وأسقط جنينها ، مع علم الإمام عليه‌السلام بأنها محقة في دعواها فلا بدّ إما أن يكون كلام رسول الله وقوله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» كذبا وحاشاه ، أو بيانا لإمامة عليّ أمير المؤمنين وهو المطلوب.

القرينة الثانية :

إن تفريع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... فعلي مولاه» بحرف (الفاء) العاطفة التي لا يبتدأ بها الكلام ، يقتضي تفريع هذا على ما جاء في صدر الحديث الذي قرّر فيه الرسول ولاية نفسه بقوله: «من كنت مولاه» الذي يراد به أولويته على الناس وفرض طاعته وإمامته عليهم بلا ريب ، فدل على أنه الأولى دون ما سواه لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان ، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه لكان مستأنفا لمقال لا تعلق له بالمتقدم ، جاعلا لحرف العطف حرف استيناف ، وهذا لا يقع إلّا من أحد نفسين :

إما جاهل باللغة والكلام.

وإما قاصد إلى التعمية والألغاز.

ورسول الله يجلّ عن الوصفين ، وينزّه عن النقص في الصفات ، وذلك لأن الكلام إنما يلقى بغرض التفهيم والتفاهم بين الناس ، والعارف باللغة إنما يريد ما هو الظاهر منه ، وإلّا لنصب قرينة على إرادته غير الظاهر ، ومع عدم نصبها فالكلام يحمل على ظاهره ، وما هو الأصل فيه ، ودعوى عدم إرادة الظاهر ولو مع عدم نصب القرينة على غير الظاهر ، لا تصدر إلا ممن يجهل بأصل اللغة ، وبأساليب التعبير المتعارفة عند البشر ، أو يكون ذلك أمرا متعمدا يريد المتكلم به الألغاز في كلامه وعدم إيضاحه والتعمية لمعناه ومراده.

والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح من نطق بالعربية فيجلّ عن الأول ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلّ عن


الثاني ، لأنه ليس من شأنه ، إذ هو المبعوث للإرشاد ، وخاصة في مثل هذا الحديث «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الذي ألقاه على جموع تبلغ مائة وعشرين ألفا وفيهم مائة وعشرة صحابي حيث جمعهم في قلب الصحراء القاحلة في غدير خم.

فإذا كان الأصل الحقيقي لكلمة المولى هو «الأولى بالتصرف» ولم ينصب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرينة على إرادة غيره ، بل القرينة الداخلية ـ من داخل الحديث ـ تقتضي إرادة ذلك المعنى الأصلي ، فهو المراد له ، لا غيره ، خاصة أن أيّ واحد من المعاني الأخر المستعمل فيها المولى لا تناسب بوجه مقام كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبتعبير آخر :

إن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الحديث «ألست أولى بكم من أنفسكم» تمّ تفريعه على الصدر بقوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» إشارة إلى أن المراد من «المولى» هو الأولى بالتصرف ، ولا وجه للتفكيك بين الصدر والذيل المتفرع عنه.

القرينة الثالثة :

إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن يبلّغ الشاهد الغائب ، وهذا تأكيد لا يصح أن يصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرد بيان النصرة أو المحبة ، أو تحسب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمرا علمه كلّ فرد منهم بالكتاب والسنّة من الموالاة والمحبة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعا بذلك الاهتمام والحرص على بيانه؟ لا أحسب أن ضئولة الرأي يسفّ بالقارئ إلى هذا المستوى من الفهم. فلا بدّ أن يكون هذا التأكيد على شيء عظيم لم تتح الفرصة لتبليغه على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين وما هو إلا إمامة عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

القرينة الرابعة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب نزول آية الإكمال : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعليّ بن أبي طالب» وفي لفظ شيخ الإسلام الحمويني : «الله أكبر على تمام نبوّتي وتمام دين الله بولاية عليّ بعدي». فأي معنى


تراه يكمل به الدين ويتم به النعمة ، ويرضي الرب في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعائمها؟ ولا ينهض بهذا العبء المقدّس سوى من كان أولى الناس منهم بأنفسهم.

القرينة الخامسة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إبلاغ الولاية : «اللهم أنت شهيد عليهم إني قد بلّغت ونصحت» فالإشهاد على الأمة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلّغه النبيّ ذلك اليوم أمرا جديدا لم يكن قد بلّغه من قبل ، مضافا إلى أن بقية معاني «المولى» العامة بين أفراد المسلمين من الحب والنصرة لا تتصور فيها أي حاجة إلى الإشهاد على الأمة في الإمام عليّ خاصة.

القرينة السادسة :

إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» أو ما يؤدي معناه دال على ولاية التصرف ، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف ، فما معنى هذا التطويل ، فإنه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلّا بتنصيب الإمام عليّ مقاما شامخا ، يؤهله لهذا الدعاء.

القرينة السابعة :

نعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاته إلى الناس ، حيث قال : «كأنّي دعيت فأجبت» وفي تعبير آخر: «إنه يوشك أن ادعى» وهذا يعطي أن النبيّ قد بقيت مهمة من تبليغه ، يحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، وهي تعرب عن كون ما أشاد به في هذا المحتشد ، تبليغ أمر مهم ، يخاف فوته ، وليس هو إلّا الإمامة.

هذا مضافا إلى أنه يعرب بذلك عن أنه سوف يرحل من بين أظهرهم ، فيحصل بعده فراغ هائل ، وأنه يسدّ بتنصيب أمير المؤمنين عليه‌السلام على المسلمين إماما.


القرينة الثامنة :

الأمر بإبلاغ الغائبين ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب ، فما معنى هذا التأكيد ، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين ، وما هي إلّا الإمامة.

القرينة التاسعة :

دلالة أقوال الشعراء والبلغاء من أهل اللغة والأدب على أن المراد من المولى هو الأولى بالتصرف أي الإمامة والخلافة ، فها ذاك حسّان بن ثابت (١) استأذن الرسول عليه وآله السلام في يوم الغدير أن يقول شعرا في ذلك المقام ، فأذن له ، فأنشأ يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم واسمع بالرسول مناديا

فقال : ومن مولاكم ووليكم

فقالوا ، ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت نبينا

فلن تجدن (٢) منا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنني

رضيتك من بعدي إماما هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (٣).

فلو لا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد بالمولى الإمامة لما أثنى على حسان بإخباره ذلك

__________________

(١) أبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري من الشعراء المخضرمين ، عاش في الجاهلية ستين سنة ، وفي الإسلام ستين سنة ، ومات في زمن معاوية بن أبي سفيان وعمي في آخر عمره ولم يثبت على ولاية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

(٢) في نسخة «ولم تلق».

(٣) مناقب أمير المؤمنين للخوارزمي ص ٨١ ومقتل الإمام الحسين للخوارزمي ص ٤٧ وفرائد السمطين ج ١ / ٦١ وتذكرة الخواص ص ٣٣ وكفاية الطالب ص ١٧ والغدير ج ٢ / ٣٥.


ولأنكره عليه ، وردّه عنه لو أراد النبيّ غيره من أقسام المولى ، فحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستنكر على حسان فيما اعتقده بإمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام دل ذلك على موافقته له ، لأنه محال مع نصب الله تعالى نبيه للبيان أن يشهد بصحة الباطل ، وهو على الضلال أن يمدح على الغلط من الاعتقاد.

وفي شهادته عليه وآله السلام بصدق حسان فيما حكاه ، ونظمه الكلام بمدحه عليه ، ودعائه له بالتأييد من أجله على ما بيّناه ، دليل على صحة ما ذكرناه ، وشاهد على أن المولى عبارة في اللغة عن «الإمام» لفهم حسان وبقية المسلمين ذلك.

ومن ذلك ما تطابقت به الأخبار ، ونقله رواة السير والآثار ، ودوّنه حملة العربية والأشعار ، من قول قيس بن سعد بن عبادة سيّد نقباء رسول الله من الأنصار ، ومعه راية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو بين يديه بصفين في قصيدته اللامية التي أولها :

قلت لما بغى العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصرة

بالأمس والحديث طويل

حتى انتهى إلى قوله :

وعليّ إمامنا وإمام لسوانا

أتى به التنزيل

يوم قال النبيّ : من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

إن ما قاله النبيّ على الأمة

حتم ما فيه قال وقيل (١)

قال الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) :

في هذا الشعر دليلان على الإمامة :

أحدهما : أن المولى يتضمن الإمامة عند أهل اللسان ، للاتفاق على فصاحة قيس ، وأنه لا يجوز عليه أن يعبّر عن معنى ما لا يقع عليه من اللفظ عند أهل

__________________

(١) رسالة في أقسام المولى المطبوعة في أواخر كتاب الإفصاح للشيخ المفيد.


الفصاحة لا سيّما في النظم الذي يعتمد صاحبه فيه الفصاحة والبيان.

والثاني : إقرار أمير المؤمنين عليه‌السلام قيسا وترك نكيره ، وهو ينشد بحضرته ، ويشهد بالإمامة له ، ويحتج به على الأعداء ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ممن لا يقر على باطل ولا يمسك عن الإنكار ، لا سيّما مع ارتفاع التقية عنه ، وتمكّنه من الإنكار.

ومن ذلك احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام لنفسه بذلك في جوابه لمعاوية عن كتابه إليه من الشام ، وقد رام الافتخار بأن أباه كان سيّدا في الجاهلية وأنه صار ملكا في الإسلام وأنه كاتب الوحي وخال المؤمنين فقال عليه‌السلام : «أعليّ يفتخر ابن آكلة الأكباد» ثم قال لعبيد الله بن أبي رافع اكتب :

محمّد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يمسي ويضحي

يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمّد سكني وعرسي

فخالط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرا

صغيرا ما بلغت أوان حلمي

وصليت الصلاة وكنت طفلا

مقرا بالنبي في بطن أمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي

أنا الرجل الذي لا تنكروه

ليوم كريهة أو يوم سلم

فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال : «أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب عليه‌السلام (١).

فأوجب الحجة على خصمه بالإمامة على الجماعة ، فقال النبيّ فيه يوم الغدير ما قال ، وهذا الشعر منقول عنه ومشهور بين الناس. ومما يدل على ما

__________________

(١) المصدر السابق ص ٣٧.


ذكرناه قول الأخطل «أبو مالك غياث بن غوث من بني تغلب» وهو رجل نصراني لا يتميز إلى فرقة من فرق الإسلام ولا يتّهم بالعصبية للشيعة ، ولا يطعن عليه في العلم باللسان ، في قصيدته يمدح فيها عبد الملك بن مروان عدو أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فيقول له :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

اعف وأوفى من أبيك وأمجدا

فأورى بزنديه ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس يورى لا صلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلّهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

فمدحه بالإمامة ورئاسة الجماعة ، واقتصر في العبارة على ذلك ، وأنه أولى به من الناس كافة على لفظة «مولى» لإفادتها في اللغة ومعرفة أهلها بأنها عبارة منه ، ودالة على معناه ، وهذا بيّن لا خفاء فيه على منصف ، ولا ارتياب فيه.

وهكذا الكميت بن زيد الأسدي رحمه‌الله تعالى (٦٠ ـ ١٢٦ ه‍) وهو من أعرف الناس بلغات العرب وأشعارها ، يقول في قصيدته العينية :

نفى عن عينك الأرق الهجوعا

وهمّ يمتري منها الدموعا

دخيل في الفؤاد يهيج سقما

وحزنا كان من جذل منوعا

وتوكاف الدموع على اكتئاب

أحلّ الدهر موجعه الضلوعا

ترقرق أسحما دررا وسكبا

يشبّه سحّها غربا هموعا

لفقدان الخضارم من قريش

وخير الشافعين معا شفيعا

لدى الرحمن يصدع بالمثاني

وكان له أبو حسن قريعا

حطوطا في مسرّته ومولى

إلى مرضاة خالقه سريعا

وأصفاه النبيّ على اختيار

بما أعيى الرّفوض له المذيعا

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكنّ الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا مبيعا

فلم أبلغ بها لعنا ولكن

أساء بذاك أوّلهم صنيعا

فصار بذاك أقربهم لعدل

إلى جور وأحفظهم مضيعا


أضاعوا أمير قائدهم فضلّوا

وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه

بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لبني أميّة حيث حلّوا

وإن خفت المهنّد والقطيعا

: ألا أفّ لدهر كنت فيه

هدانا طائعا لكم مطيعا

أجاع الله من أشبعتموه

وأشبع من بجوركم أجيعا

ويلعن فذّ أمّته جهارا

إذا ساس البريّة والخليعا

بمرضيّ السياسة هاشميّ

يكون حيّا لأمّته ربيعا

وليثا في المشاهد غير نكس

لتقويم البريّة مستطيعا

يقيم أمورها ويذبّ عنها

ويترك جدبها أبدا مريعا (١)

فلو لا أن لفظة «مولى» تفيد الإمامة ، لما جاز من الكميت ـ وهو من أهل المعرفة باللغة وأعرف الناس بلغات العرب وأشعارها ـ أن يحكم لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالإمامة بها ، ولا أن يحتجّ بذلك في شعره الذي هو الطريق إلى العلم بمقداره في المعرفة باللسان ، ويجعله في نظمه بحيث يحتج به على المخالف والمؤالف ، فكيف يجوز أن تلحقه التهمة في الجهل بالعربية عند الخاصة والعامة من الناس ، وكيف يجوز أن يعرف بالعصبية في هذا الباب ، فإنه حمل لفظا عربيا غير محتمل عند أهله على الوجوه كلها والأسباب ، ولم يوجد أحد من نظرائه فعل مثل ذلك لعصبية ولا عناد ، ولئن جاز هذا عليه مع ما هو عليه من المعرفة والفصاحة ليجوزن على جرير والفرزدق والأخطل بل على لبيد وزهير وامرئ القيس حتى لا يصحّ الاستشهاد بشيء من أشعارهم على غريب القرآن ، ولا على لغة ، ولا على إعراب ، وهذا قول من صار إليه ظهر جهله عند العقلاء.

وها هو الشاعر الكبير السيّد الحميري عليه الرحمة (المتوفى عام ١٧٣ ه‍) يقول في قصيدته المذهّبة ذات ١١٢ بيتا :

__________________

(١) الغدير في الكتاب والسنة ج ٢ / ١٨٠.


ونجم إذ قال الإله بعزمه

قم يا محمّد في البريّة فاخطب

وانصب أبا حسن لقومك إنه

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

فدعاه ثمّ دعاهم فأقامه

لهم فبين مصدّق ومكذّب

جعل الولاية بعده لمهذّب

ما كان يجعلها لغير مهذّب

وله مناقب لا ترام متى يرد

ساع تناول بعضها بتذبذب

إنّا ندين بحبّ آل محمّد

دينا ومن يحبّهم يستوجب

منّا المودّة والولاء ومن يرد

بدلا بآل محمّد لا يحبب

ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد

حوض الرسول وإن يرده يضرب

ضرب المحاذر أن تعر ركابه

بالسوط سالفة البعير الأجرب

وكأنّ قلبي حين يذكر أحمدا

ووصيّ أحمد نيط من ذي مخلب

بذرى القوادم من جناح مصعّد

في الجو أو بذرى جناح مصوب

حتى يكاد من النزاع إليهما

يفري الحجاب عن الضلوع القلّب

هبة وما يهب الإله لعبده

يزدد ومهما لا يهب لا يوهب

يمحو ويثبت ما يشاء وعنده

علم الكتاب وعلم ما لم يكتب (١)

قال السيّد المرتضى علم الهدى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍) في شرحه لمذهّبة السيّد الحميري ، إن قوله :

وانصب أبا حسن لقومك إنه

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

هذا اللفظ يعني (النصب) لا يليق إلّا بالإمامة والخلافة دون المحبة والنصرة ، وقوله :

جعل الولاية بعده لمهذّب. صريح في الإمامة لأن الإمامة هي التي جعلت له بعده ، والمحبة والنصرة حاصلتان في الحال وغير مختصّتين بعد الوفاة (٢).

__________________

(١) الغدير ج ٢ / ٢١٣.

(٢) الغدير ج ٢ / ٢١٤.


تنبيه :

حتى لو قلنا أن «المولى» بمعنى المحبة والنصرة كما يقول العامة ، فإنّ تقديم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عمه وصهره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على بقية الصحابة في المحبة والنصرة ، فيه دلالة قطعية على رفعته وعظمته وأهليته للخلافة والإمامة ، وإلّا فما الداعي لتخصيصه بالمحبة والنصرة دون غيره من الصحابة؟! اللهم إلّا أن يكون المقصود هو الإمامة التي من لوازمها المحبة والنصرة ، وأي معنى للأمر بمحبته ونصرته إن لم تكن هذه النصرة أو المحبة ملازمة لادعائه الإمامة وهو عليه‌السلام محقّ بدعواه ، كيف لا! والحق يدور معه حيثما دار. وبالجملة :

إن حديث الغدير دلالة قطعية على إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لتلك القرائن المتقدمة وغيرها ، فلفظة «المولى» سواء كانت نصا في المعنى المستفاد بالوضع اللغوي أو مجملة في مفادها لاشتراكها بين معان جمة ، وسواء كانت عريّة عن القرائن لإثبات ما ندّعيه من معنى الإمامة أو محتفّة بها ، فإنها في المقام لا تدل إلّا على ذلك لفهم من وعاه من الحضور في ذلك المحتشد العظيم ، ومن بلغه النبأ بعد حين ممّن يحتجّ بقوله في اللغة من غير نكير بينهم ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الأدب حتى عصرنا الحاضر ، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد.

وهناك زرافات من الناس فهموا من اللفظ هذا المعنى وإن لم يعربوا عنه بقريض لكنّهم أبدوه في صريح كلماتهم ، أو أنه ظهر من لوائح خطابهم ، ومن أولئك الشيخان أبو بكر وعمر ، وقد أتيا أمير المؤمنين عليه‌السلام مهنئين ومبايعين وهما يقولان : «أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة» (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري محمد بن جرير في كتاب الولاية ، وأحمد بن محمد الطبري الشهير بالخليلي في كتاب مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب. المصنّف ، مسند أحمد ج ٤ / ٢٨١ ، تفسير الطبري ـ


فليت شعري أي معنى من معاني المولى الممكنة تطبيقه على مولانا لم يكن قبل ذلك اليوم حتى تجدّد به فأتيا يهنئانه لأجله ويصارحانه بأنه أصبح ملتفعا به يوم ذاك؟ أهو معنى النصرة أو المحبة اللتين لم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام متصفا بهما منذ رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أم غيرها مما لا يمكن أن يراد في خصوص المقام؟ لاها الله لا ذلك ولا هذا ، وإنما أرادا معنى فهمه كل الحضور من أنه أولى بهما وبالمسلمين أجمع من أنفسهم وعلى ذلك بايعاه وهنئاه.

ومن أولئك : الحارث بن النعمان الفهري ـ أو جابر ـ المنتقم منه بعاجل العقوبة يوم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : يا محمّد؟ أمرتنا بالشهادتين والصلاة والزكاة والحج ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال رسول الله : والذي لا إله إلّا هو أن هذا من الله ، فولّى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمّد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله (١) ، وأنزل الله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (٢).

فهل المعنى الملازم للتفضيل هو الذي استعظمه هذا الكافر الحاسد ، وطفق يشكّك أنّه من الله أم أنه محاباة من الرسول ، يمكن أن يراد به أحد ذينك المعنيين

__________________

ـ ج ٣ / ١٢٨ ، التمهيد في أصول الدين للباقلاني ص ١١٧ ، الفصول المهمة لابن الصبّاغ ص ٢٥ ، فضائل الصحابة لأبي سعيد السمعاني ص ٢٧٢ وسر العالمين للغزالي ص ٩. الملل والنحل للشهرستاني المطبوع بهامش الفصل لابن حزم ج ١ / ٢٢٠ ، وقد أخرجه الحجة الأميني في الغدير ج ١ / ٢٧٦ عن ستين مصدرا عاميّا فليراجع.

(١) تفسير القرآن لأبي عبيد الهروي / سورة المعارج ، تفسير شفاء الصدور / أبو بكر النقّاش ، والكشف والبيان / أبو إسحاق النيسابوري ، وتفسير القرطبي / سورة المعارج ، ودعاة الهداة إلى حق الموالاة / أبو القاسم الحسكاني.

(٢) سورة المعارج : ١ ـ ٣.


أو غيرهما؟ أحسب أن ضميرك الحرّ لا يستبيح لك ذلك ، ويقول لك بكل صراحة : إنه هو تلك الولاية المطلقة التي لم يؤمن بها طواغيت قريش في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بعد قهر من آيات باهرة ، وبراهين دامغة ، وحروب طاحنة ، حتى جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فكانت هي في أمير المؤمنين أثقل عليهم وأعظم ، وقد جاهر الحارث ـ أو جابر ـ بما أضمره غيره فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

فالمولويّة المستعظمة عند العرب الذين لم يكونوا يتنازلون بالخضوع لكل أحد ليست هي المحبة والنصرة ولا شيء من معاني الكلمة ، وإنما هي الرئاسة الكبرى التي كانوا يستصعبون حمل نيرها إلّا بموجب يخضعهم لها وهي التي استوضحها أمير المؤمنين عليه‌السلام للملإ باستفهام في رحبة الكوفة لنفر قالوا له : السلام عليك يا مولانا ، فقال لهم : كيف أكون مولاكم وأنتم رهط من العرب؟ فأجابوه إنّا سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، ففهم القوم ما فهموه من نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا المعنى غير خاف حتى على المخدّرات في الحجال فقد ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار الباب الحادي والأربعين :

إن معاوية حجّ مرة فطلب امرأة يقال لها : دارميّة الحجونيّة من شيعة أمير المؤمنين عليّ وكانت سوداء ضخمة ، فقال : كيف حالك يا بنت حام؟ فقالت : بخير ولست بحام إنما أنا امرأة من بني كنانة ، فقال : صدقت ، هل تعلمين لم دعوتك؟

قالت : يا سبحان الله وإني لم أعلم الغيب ، قال : لأسألك لم أحببت عليّا وأبغضتيني ، وواليتيه وعاديتيني؟ قالت : أو تعفني؟ قال : لا ، قالت : أما إذا أبيت فإني أحببت عليّا على عدله في الرعيّة ، وقسمه بالسويّة ، وأبغضتك على قتال من هو أولى بالأمر منك ، وطلبك ما ليس لك ، وواليت عليّا على ما عقد له رسول الله من الولاية يوم خم بمشهد منك ، وحبّه للمساكين ، وإعظامه لأهل الدين ،


وعاديتك على سفكك الدماء ، وشقّك العصا ، وجورك في القضاء وحكمك بالهوى.

والواقف على موارد الحجاج بين أفراد الأمة وفي مجتمعاتها وفي تضاعيف الكتب منذ ذلك العهد المتقادم إلى عصورنا هذه جدّ عليم بأن القوم لم يفهموا من الحديث إلّا المعنى الذي يحتج به للإمامة المطلقة وهو الأولويّة من كل أحد بنفسه وماله في دينه ودنياه الثابت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولخلفائه الذين نصّ عليهم بأمر من الله تعالى.

القرينة العاشرة :

إن ذيل الحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وفي جملة من طرقه بزيادة قوله : «وانصر من نصره ، واخذل من خذله» قرينة على المدّعى بوجوه لا تلتأم إلّا مع معنى الأولويّة الملازمة للإمامة.

الوجه الأول :

إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا صدع بما خوّل الله سبحانه وصيّه من المقام الشامخ بالرئاسة العامّة على الأمة جمعاء ، والإمامة المطلقة من بعده ، كان يعلم بطبع الحال أنّ تمام هذا الأمر بتوفر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال مع علمه بأن في الملأ من يحسده كما ورد في الكتاب العزيز (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وفيهم من يحقد عليه ، وفي زمر المنافقين من يضمر له العداء لأوتار جاهلية ، وستكون من بعده هناة تجلبها النهمة والشره من أرباب المطامع لطلب الولايات والتفضيل في العطاء ، ولا يدع الحقّ الإمام عليّا عليه‌السلام أن يسعفهم بمبتغاهم لعدم الحنكة والجدارة فيهم فيقلّبون عليه ظهر المجن ، وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجمل الحال بقوله : إن تولوا عليّا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق

__________________

(١) أخرج ابن المغازلي في المناقب ، وابن أبي الحديد في شرحه ج ٢ / ٢٣٦ والحضرمي الشافعي في الرشفة ص ٢٧ : أنها نزلت في الإمام عليّ وما خصّ به من العلم.


المستقيم (١) ، وفي لفظ آخر : وأن تؤمروا عليّا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم (٢).

فطفق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو لمن والاه ونصره ، وعلى من عاداه وخذله ليتمّ له أمر الخلافة ، وليعلم الناس أنّ موالاته مجلبة لموالاة الله سبحانه ، وأن عداؤه وخذلانه مدعاة لغضب الله وسخطه ، فيزدلف إلى الحق وأهله ، ومثل هذا الدعاء بلفظ العام لا يكون إلّا فيمن هذا شأنه ، ولذلك إنّ أفراد المؤمنين الذين أوجب الله محبة بعضهم لبعض لم يؤثر فيهم هذا القول ، فإن منافرة بعضهم لبعض لا يبلغ بالنبيّ هذا المبلغ من الدعاء ، وإنما يحصل مثله فيما إذا كان المدعوّ له دعامة الدين ، وعلم الإسلام ، وإمام الأمة ، وبالتثبيط عنه يكون فتّ في عضد الحقّ وانحلال لعرى الإسلام.

الوجه الثاني :

إن هذا الدعاء بعمومه الأفرادي بالموصول ، والأزماني والأحوالي بحذف المتعلّق تدلّ على عصمة الإمام عليه‌السلام لإفادته وجوب موالاته ونصرته ، ووجوب الانحياز عن العداء له وخذلانه على كل أحد في كل حين وعلى كل حال ، وذلك يوجب أن يكون عليه‌السلام في كل تلك الأحوال على صفة لا تصدر منه معصية ، ولا يقول إلّا الحق ، ولا يعمل إلّا به ، ولا يكون إلّا معه ، لأنه لو صدر منه شيء من المعصية لوجب الإنكار عليه ونصب العداء له لعمله المنكر والتخذيل عنه ، فحيث لم يستثن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لفظه العام شيئا من أطواره وأزمانه علمنا أنه لم يكن عليه‌السلام في كل تلك المدد والأطوار إلّا على الصفة التي ذكرناها ، وصاحب هذه الصفة يجب أن يكون إماما لقبح أن يأمّه من هو دونه على ما هو المقرّر في محله ، وإذا كان إماما فهو أولى الناس منهم بأنفسهم.

__________________

(١) حلية الأولياء لأبي نعيم ج ١ / ٦٤.

(٢) كنز العمّال ج ٦ / ١٦٠.


الوجه الثالث :

إنّ الأنسب بهذا الدعاء الذي ذيّل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به كلامه ، ولا بدّ أنه مرتبط بما قبله أن يكون غرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان التكليف على الحاضرين من فرض الطاعة ووجوب الموالاة ، فيكون في الدعاء ترغيب لهم على الطاعة والخضوع له ، وتحذير عن التمرد والجموح تجاه أمره ، وذلك لا يكون إلّا إذا نزّلنا المولى بمعنى الأولى ، بخلاف ما إذا كان المراد به المحب أو الناصر فإنه حينئذ لم يعلم إلّا أنّ الإمام عليّا عليه‌السلام محب من يحبّه رسول الله أو ينصر من ينصره ، فيناسب إذن أن يكون الدعاء له إن قام بالمحبة أو النصرة لا للناس عامّة إن نهضوا بموالاته ، وعليهم إن تظاهروا بنصب العداء له ، إلّا أن يكون الغرض بذلك توكيد الصلات الوديّة بينه وبين الأمة إذا علموا أنه يحب وينصر كلّ فرد منهم في كل حال وفي كل زمان ، كما أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك فهو يخلّفه عليهما ، وبذلك يكون لهم منجاة من كل هلكة ، ومأوى من كل خوف ، وملجأ من كل ضعة ، شأن الملوك ورعاياهم ، والأمراء والسوقة ، فإنهما في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الصفة ، فلا بد أن يكونا فيمن يحذو حذوه أيضا كذلك وإلّا لاختلّ سياق الكلام ، فالمعنى على ما وصفناه بعد المماشات مع القوم متحد مع معنى الإمامة ، ومؤد مفاد الأولى.

القرينة الحادية عشر :

إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء بلفظ جرير وزيد بن أرقم وعامر بن ليلى ، وفي لفظ حذيفة بن أسيد بسند صحيح : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله؟ (إلى أن قال) : قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : اللهم اشهد ثم قال : يا أيّها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، فإن وقوع الولاية في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة وسردها عقيب المولويّة المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا يمكن إلّا أن يراد بها معنى الإمامة الملازمة للأولوية على الناس منهم بأنفسهم.


القرينة الثانية عشر :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بيان الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «هنئوني هنئوني إن الله تعالى خصّني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة» صريح بالإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين سيّدهم والمقدّم فيهم هو أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثم إنّ نفس التهنئة والبيعة والمصافقة والاحتفال بها واتصالها ثلاثة أيام ، هذه كلها لا تلائم غير معنى الخلافة والأولويّة ، لذلك ترى الشيخين أبي بكر وعمر لقيا أمير المؤمنين فهنئاه بالولاية ، وفيها بيان لمعنى المولى الذي لهج به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يكون المتحلّى به إلا أولى الناس منهم بأنفسهم.

هذه جملة من القرائن الحالية والمقالية الدالة على أنّ معنى «مولى» في الحديث الشريف هو الأولى بالتصرف المستلزم للإمامة والخلافة. لقد تمخضت الحقيقة من معنى المولى ، وظهرت بأجلى مظاهرها ، بحيث لم يبق للخصم منتدح عن الخضوع لها ، إلّا من يبغي لدادا أو يرتاد انحرافا عن الطريقة المثلى.

كلمات حول مفاد الحديث

للاعلام الأئمة في تآليفهم

نذكر هنا كلمات درّية لجمع من العلماء الأعلام عند العامة حداهم التنقيب إلى المجاهرة بالحق ، فلهجوا به غير آبهين بما هنالك من جلبة ولغط ، فإليك عيون ألفاظهم :

(١) قال ابن زولاق الحسن بن إبراهيم أبو محمّد المصريّ المتوفى ٣٨٧ ه‍ في «تاريخ مصر» : وفي ثمانية عشر من ذي الحجة سنة ٣٦٢ ه‍ وهو يوم الغدير تجمّع خلق من أهل مصر والمغاربة ومن تبعهم للدعاء ، لأنّه يوم عيد ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه واستخلفه (١).

__________________

(١) حكاه عنه المقريزي في الخطط ج ٢ / ٢٢٢.


يعرب هذا الكلام عن أنّ ابن زولاق وهو ذلك العربي المتضلّع لم يفهم من الحديث إلّا المعنى الذي نرتئيه ، ولم ير ذلك اليوم إلّا يوم عهد إلى أمير المؤمنين واستخلاف (١).

(٢) قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى ٤٦٨ ه‍ بعد ذكر حديث الغدير : هذه الولاية التي أثبتها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي مسئول عنها يوم القيامة في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي عن ولاية عليّ رضي الله عنه ، والمعنى : إنهم يسألون هل والوه حقّ الموالاة كما أوصاهم النبيّ أم أضاعوها وأهملوها؟ فتكون عليهم المطالبة والتبعة (٢).

وذكره وأخرج حديثه شيخ الإسلام الحمويني في «فرائد السمطين» في الباب الرابع عشر ، وجمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين وابن حجر في الصواعق ص ٨٩ والحضرمي في «الرشفة» ص ٢٤ (٣).

(٣) قال أبو حامد الغزالي المتوفى ٥٠٥ ه‍ في كتابه «سر العالمين» (٤) ص ٩ :

اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن آل أمرها إليه ، فمنهم من زعم أنها بالنص ، ودليلهم في المسألة قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٥) وقد دعاهم أبو بكر بعد رسول الله إلى الطاعة فأجابوا ،

__________________

(١) الغدير للأميني ج ١ / ٣٩١.

(٢) حكاه عن الأميني في الغدير ج ١ / ٣٨٧ و ٣٩١ وقد لعبت أيادي الدس والتحريف فحذفت سورة الصافات من أصل كتاب «أسباب النزول» إخفاء للحق وكتمانا للحقيقة.

(٣) الغدير للأميني ج ١ / ٣٨٧.

(٤) لا شك أن كتاب «سر العالمين» هو للغزالي كما نصّ على ذلك الذهبي في ميزان الاعتدال ج ١ / ٥٠٠ في ترجمة الحسن بن صباح الإسماعيلي فراجع.

(٥) سورة الفتح : ١٦.


وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (١) ، قال في الحديث : إن أباك هو الخليفة من بعدي يا حميراء ، وقالت امرأة : إذا فقدناك فإلى من نرجع؟ فأشار إلى أبي بكر ، ولأنه أمّ بالمسلمين على بقاء رسول الله والإمامة عماد الدين.

هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص ثم تأوّلوا وقالوا : لو كان عليّ أوّل الخلفاء لانسحب عليهم ذيل الفناء ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب ، ولا يقدح في كونه رابعا كما لا يقدح في نبوة رسول الله إذا كان آخرا ، والذين عدلوا عن هذا الطريق زعموا أن هذا وما يتعلق به فاسد ، وتأويل بارد جاء على زعمكم وأهويتكم ، وقد وقع الميراث في الخلافة والأحكام مثل داود وزكريا وسليمان ويحيى ، قالوا : كان لأزواجه ثمن الخلافة ، فبهذا تعلقوا وهذا باطل إذ لو كان ميراثا لكان العبّاس أولى.

لكن أسفرت الحجّة وجهها ، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر : بخ بخ يا أبا الحسن؟ لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فهذا تسليم ورضى وتحكيم ، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرئاسة ، وحمل عمود الخلافة ، وعقود البنود ، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار سقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.

(٤) قال شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفي ٦٥٤ ه‍ في «تذكرة خواص الأمة» ص ١٨ :

اتفق علماء السير أن قصّة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ صلى الله عليه [وآله] من حجّة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجّة جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين

__________________

(١) سورة التحريم : ٣.


ألفا وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الحديث. نصّ صلى الله عليه [وآله] على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة. وذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] لمّا قال ذلك طار في الأقطار ، وشاع في البلاد والأمصار (ثمّ ذكر ما مرّ في آية سأل) فقال : فأما قوله : من كنت مولاه ، فقال علماء العربية : لفظ المولى ترد على وجوه (ثم ذكر من معاني المولى تسعة فقال :) والعاشر بمعنى الأولى ، قال الله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) ثمّ طفق يبطل إرادة كلّ من المعاني المذكورة واحدا واحدا فقال : والمراد من الحديث الطاعة المحضة المخصوصة فتعيّن الوجه العاشر وهو : الأولى ومعناه : من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به ، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمّى ب «مرج البحرين» فإنّه قد روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه : فأخذ رسول الله صلى الله عليه [وآله] بيد عليّعليه‌السلام فقال : من كنت وليّه وأولى به من نفسه فعليّ وليّه. فعلم أنّ جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر ، ودلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهذا نصّ صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته وكذا قوله صلى الله عليه [وآله] : وأدر الحقّ معه حيثما دار وكيفما دار. اه.

(٥) قال كمال الدين ابن طلحة الشافعي المتوفّى ٦٥٤ ه‍ في «مطالب السئول» ص ١٦ بعد ذكر حديث الغدير ونزول آية التبليغ فيه : فقوله صلى الله عليه [وآله] : من كنت مولاه فعليّ مولاه. قد اشتمل على لفظة (من) وهي موضوعة للعموم ، فاقتضى أنّ كلّ إنسان كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] مولاه كان عليّ مولاه ، واشتمل على لفظة المولى وهي لفظة مستعملة بإزاء معان متعدّدة قد ورد القرآن الكريم بها ، فتارة تكون بمعنى (أولى) ، قال الله تعالى في حقّ المنافقين : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) معناه : أولى بكم ، ثمّ ذكر من معانيها : الناصر والوارث والعصبة والصديق والحميم والمعتق ؛ فقال : وإذا كانت واردة لهذه


المعاني فعلى أيّها حملت إمّا على كونه أولى كما ذهب إليه طائفة ، أو على كونه صديقا حميما فيكون معنى الحديث : من كنت أولى به أو ناصره أو وارثه أو عصبته أو حميمه أو صديقه فإنّ عليّا منه كذلك. وهذا صريح في تخصيصه لعليّ عليه‌السلام بهذه المنقبة العليّة وجعله لغيره كنفسه بالنسبة إلى من دخلت عليهم كلمة (من) التي هي للعموم بما لا يجعله لغيره.

وليعلم أن هذا الحديث هو من أسرار قوله تعالى في آية المباهلة : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) والمراد نفس عليّ على ما تقدّم فإن الله تعالى لمّا قرن بين نفس رسول الله وبين نفس عليّ وجمعهما بضمير مضاف إلى رسول الله أثبت رسول الله لنفس عليّ بهذا الحديث ما هو ثابت لنفسه على المؤمنين عموما فإنّه أيّ النبيّ عليه‌السلام أولى بالمؤمنين ، وناصر المؤمنين ، وسيّد المؤمنين ، وكل معنى أمكن إثباته مما دل عليه لفظ المولى لرسول الله فقد جعله لعليّ عليه‌السلام وهي مرتبة سامية ومنزلة سامقة ودرجة عليّة ومكانة رفيعة خصّصه بها دون غيره ، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيد وموسم سرور لأوليائه.

(إلى أن قال) : ثم لم يزل يخصّصه بعد ذلك بخصائص من صفاته نظرا إلى ما ذكرناه حتى روى الحافظ أيضا في حليته ج ١ / ٦٧ بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله لأبي برزة وأنا أسمع : يا أبا برزة؟ إنّ الله عهد إليّ في عليّ بن أبي طالب : إنه راية الهدى ، ومنار الإيمان وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني ، يا أبا برزة؟ عليّ إمام المتقين ، من أحبّه أحبّني ، ومن أبغضه أبغضني فبشّره بذلك.

فإذا وضح لك هذا المستند ظهرت حكمة تخصّصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا بكثير من الصفات دون غيره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

(٦) قال صدر الحفّاظ أبو عبد الله الكنجي الشافعيّ المتوفى ٦٥٨ ه‍ في «كفاية الطالب» ص ٦٩ بعد ذكر قول رسول الله لعليّ : لو كنت مستخلفا أحدا لم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦١.


يكن أحد أحقّ منك لقدمتك في الإسلام ، وقرابتك من رسول الله ، وصهرك عندك فاطمة سيّدة نساء العالمين.

ثم قال : وهذا الحديث وإن دلّ على عدم الاستخلاف لكن حديث غدير خمّ دليل على التولية وهي الاستخلاف ، وهذا الحديث أعني حديث غدير خم ناسخ لأنه كان في آخر عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٧) قال سعد الدين الفرغاني المتوفى ٦٩٩ ه‍ كما ذكره الذهبي في العبر ـ في شرح تائيّة ابن الفارض الحموي المتوفى ٥٧٦ ه‍ التي أوّلها :

سقتني حميّا الحبّ زاحة مقتلي

وكأسي محيّا من عن الحسن جلّت

في شرح قوله :

وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا

عليّ بعلم ناله بالوصيّة

قال : وكذا هذا البيت مبتدأ محذوف الخبر تقديره : وبيان عليّ كرّم الله وجهه وإيضاحه بتأويل ما كان مشكلا من الكتاب والسنّة بوساطة علم ناله بأن جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّه وقائما مقام نفسه بقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وذلك كان يوم غدير خمّ على ما قاله كرّم الله وجهه في جملة أبيات منها قوله :

وأوصاني النبيّ على اختياري

لأمّته رضى منه بحكمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

وغدير خم ماء على منزل من المدينة على طريق يقال له الآن : طريق المشاة إلى مكة ، كان هذا البيان بالتأويل بالعلم الحاصل بالوصيّة من جملة الفضائل التي لا تحصى خصّه بها رسول الله فورثها عليه الصلاة والسلام. ثم قال :

وأما حصّة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه من العلم والكشف ، وكشف معضلات الكلام العظيم ، والكتاب الكريم الذي هو من أخصّ معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوضح بيان بما ناله بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها. وبقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، مع فضائل أخر لا تعدّ ولا تحصى.


(٨) قال علاء الدين أبو المكارم السمنانيّ البياضيّ المكيّ المتوفى ٧٣٦ ه‍ في «العروة الوثقى» :

وقال ـ أي النبيّ ـ لعليّ عليه‌السلام وسلام الملائكة الكرام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدي.

وقال في غدير خمّ بعد حجّة الوداع على ملأ من المهاجرين والأنصار آخذا بكتفه : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وهذا حديث متفق على صحته فصار سيد الأولياء ، وكان قلبه على قلب محمّد عليه التحية والسلام ، وإلى هذا السر أشار سيّد الصدّيقين صاحب غار النبي أبو بكر حين بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى عليّ لاستحضاره بقوله : يا أبا عبيدة؟ أنت أمين هذه الأمة أبعثك إلى من هو من في مرتبة من فقدناه بالأمس ، ينبغي أن تتكلم عنده بحسن الأدب. انتهى كلامه.

أقول : ليت شعري إذا ما كان أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام نفس رسول الله ، ومرتبتهعليه‌السلام نفس مرتبة رسول الله فلم اقتحموا داره واعتدوا على زوجه فاطمة الصدّيقة الكبرى وأسقطوا جنينها وكسّروا أضلاعها ، ونفوا عنه الأخوة بينه وبين رسول الله ، ولم لم يسلموه ما منه سلبوه؟!

(٩) قال الطيبي حسن بن محمّد المتوفى ٧٤٣ ه‍ في «الكاشف» في شرح حديث الغدير ، قوله : إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يعني به قوله تعالى. النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، أطلق فلم يعرف بأي شيء هو أولى بهم من أنفسهم ، ثم قيّد بقوله : وأزواجه أمهاتهم. ليؤذن بأنه بمنزلة الأب ، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم. وقال مجاهد : كلّ نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون إخوة. فإذن وقع التشبيه في قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه. في كونه كالأب ، فيجب على الأمّة احترامه وتوقيره وبرّه ، وعليه رضي الله عنه أن يشفق عليهم ويرأف بهم رأفة الوالد على الأولاد ، ولذا هنّأ


عمر بقوله : يا ابن أبي طالب؟ أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة».

(١٠) قال شهاب الدين ابن شمس الدين دولت آبادي المتوفي ١٠٤٩ ه‍ في «هداية السعداء» وفي «التشريح» قال أبو القاسم (رح) من قال : فإنّ عليّا أفضل من عثمان فلا شيء عليه لأنّه قال أبو حنيفة وقال ابن مبارك : من قال : إن عليّا أفضل العالمين أو : أفضل الناس ، وأكبر الكبراء فلا شيء عليه لأن المراد منه أفضل الناس في عصره وزمان خلافته كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه. أي في زمان خلافته ومثل هذا الكلام قد ورد في القرآن والأحاديث وفي أقوال العلماء بقدر لا يحصى ولا يعدّ.

وقال أيضا في «هداية السعداء» : وفي حاصل التمهيد في خلافة أبي بكر ودستور الحقائق : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رجع من مكّة نزل في غدير خم فأمر أن يجمع رحال الإبل فجعلها كالمنبر فصعد عليها فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. وقال الله عزوجل : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

قال أهل السنّة : المراد من الحديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، أي في وقت خلافته وإمامته.

يرد عليه :

أولا : إذا كانت ولاية أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خاصة في وقت خلافته ، فإن ولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ خاصة في وقت بعثته ونبوته للملازمة بين ولاية النبيّ وولاية أمير المؤمنين لحديث الغدير المتقدم ولغيره من الأحاديث الدالة على ثبوت الفضيلة والولاية له ، وبما أنّ النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وولايته ليست مخصوصة بزمن بعثته ، كذا فإنّ الإمام عليّا له ما لرسول الله من الولاية على المؤمنين ، وهل يمكن لمن حصر الولاية بزمن خلافته أن يحصر قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ


اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) بزمن نزول الآية؟ فإن أجاب بنعم ، فعليه أن يحمل ولاية رسول الله حينئذ على نزول الآية ، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين.

ثانيا : إن حذف المتعلق بقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) دليل العموم ، وحيث لم يذكر القيد دل ذلك على شمولية ولايته لما قبل استلامه الخلافة الظاهرية ، ولو أراد التقييد لكان عليه أن يقيّد ـ حسب مقدمات الحكمة ـ وحيث لم يفعل يبقى الإطلاق على حاله ، ويثبت المطلوب.

(١١) قال أبو شكور محمّد بن عبد السعيد بن محمّد الكشي السالمي الحنفي في ـ التمهيد في بيان التوحيد ـ قالت الروافض : الإمامة منصوصة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بدليل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله وصيا لنفسه وجعله خليفة من بعده حيث قال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. ثمّ هارون عليه‌السلام كان خليفة موسى عليه‌السلام فكذلك عليّ رضي الله عنه.

والثاني : وهو : أن النبي عليه‌السلام جعله وليّا للناس لمّا رجع من مكّة ونزل في غدير خم فأمر النبي أن يجمع رحال الإبل فجعلها كالمنبر وصعد عليها فقال : ألست بأولى المؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا : نعم ، فقال عليه‌السلام : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، والله جلّ جلاله يقول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الآية. نزلت في شأن عليّ رضي الله عنه دل على أنه كان أولى الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم قال في الجواب عمّا ذكر : وأمّا قوله : بأنّ النبيّ عليه‌السلام جعله وليّا ، قلنا : أراد به في وقته يعني بعد عثمان رضي الله عنه ، وفي زمن معاوية رضي الله عنه ونحن كذا نقول. وكذا الجواب عن قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. فنقول : إن عليّا رضي الله عنه كان وليّا وأميرا بهذا الدليل في أيامه ووقته وهو بعد عثمان رضي الله وأما قبل ذلك فلا.


(١٢) قال ابن كثير المكي الشافعي المتوفى ١٠٤٧ ه‍ في ـ وسيلة المال في عدّ مناقب الآل ـ بعد ذكر حديث الغدير بعدّة طرق : وأخرج الدارقطني في الفضائل عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : سمعت أبا بكر يقول : عليّ بن أبي طالب عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : الذين حثّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التمسّك بهم ، والأخذ بهديهم فإنهم نجوم الهدى من اقتدى بهم اهتدى ، وخصّه أبو بكر بذلك (رض) لأنّه الإمام في هذا الشأن ، وباب مدينة العلم والعرفان ، فهو إمام الأئمة ، وعالم الأمة ، وكأنه أخذ ذلك من تخصيصه عليه‌السلام من بينهم يوم غدير خم بما سبق ، وهذا حديث صحيح لا مرية فيه ولا شك ينافيه ، وروي عن الجمّ الغفير من الصحابة ، وشاع واشتهر وناهيك بمجمع حجة الوداع.

(١٣) قال السيّد محمّد اليمني المتوفى ١١٨٢ ه‍ في ـ الروضة النديّة شرح التحفة العلويّة ـ بعد ذكر حديث الغدير بعدّة طرق ، وتكلّم الفقيه حميد على معانيه وأطال وننقل بعض ذلك (إلى أن قال) : ومنها قوله : أخذ بيده ورفعها وقال : من كنت مولاه فهذا مولاه. والمولى إذا أطلق من غير قرينة فهم منه أنّه المالك المتصرّف ، وإذا كان في الأصل يستعمل لمعان عدّة منها : المالك للتصرف ولهذا إذا قيل : هذا مولى القوم سبق إلى الأفهام أنه المالك للتصرّف في أمورهم. ثم عدّ منها : الناصر وابن العمّ والمعتق والمعتق. فقال : ومنها : بمعنى الأولى قال تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ). أي أولى بكم وبعذابكم. وبعد فلو لم يكن السابق إلى الأفهام من لفظة مولى السابق المالك للتصرّف لكانت منسوبة إلى المعاني كلها على سواء وحملناها عليها جميعا إلّا ما يتعذّر في حقّه عليه‌السلام من المعتق والمعتق فيدخل في ذلك المالك للتصرّف ، والأولى المفيد ملك التصرّف على الأمّة ، وإذا كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان إماما ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كنت وليّه فهذا وليّه. والولي المالك للتصرّف بالسبق إلى الفهم ، وإن استعمل في غيره ، وعلى هذا قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : والسلطان ولي من لا وليّ له. يريد ملك التصرّف في عقد النكاح يعني أن الإمام له الولاية فيه حيث لا عصبة بطريق الحقيقة ، فإنه يجب


حملها عليها أجمع إذا لم يدلّ دليل على التخصيص.

(١٤) قال الشيخ العجيلي الشافعي في ـ ذخيرة المآل شرح عقد جواهر اللآل في فضائل الآل ـ بعد ذكر حديث الغدير وقصّة الحارث بن نعمان الفهري : وهو من أقوى الأدلّة على أن عليّا رضي الله عنه أولى بالإمامة والخلافة والصداقة والنصرة والاتّباع باعتبار الأحوال والأوقات والخصوص والعموم ، وليس في هذا مناقضة لما سبق وما سيأتي إنشاء الله تعالى من أن عليّا رضي الله عنه تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن فلمّا قضى حجّه خطب بهذا تنبيها على قدره وردّا على من تكلّم فيه كبريدة فإنّه كان يبغضه ولما خرج إلى اليمن رأى جفوة فقصّه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يتغيّر وجهه ويقول : يا بريدة؟ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ من كنت مولاه فعليّ مولاه. لا تقع يا بريدة في عليّ فإن عليّا مني وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي.

ـ هذه ثلة من كلمات أكابر علماء العامة حول مفاد الحديث ، وهناك الكثير من نظائرها ، أعرضنا عن إثباتها حرصا على عدم الإسهاب.

إلى هنا نكون قد انتهينا من عرض جملة من القرائن المتصلة والمنفصلة الدالة على صحة حديث الغدير وهي ولله الحمد كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

النقطة الثالثة :

الإيرادات الواردة على حديث الغدير الشريف

نثير في هذه النقطة بعض الإيرادات الواهية التي نفثها بعض المخالفين والمعاندين على حديث الغدير المقطوع الصدور سندا ودلالة من رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتفاق المسلمين خاصة وعامة.

الإيراد الأول :

بأن خبر الغدير من أخبار الآحاد في مقابلة الإجماع ، ولو صحّ لما خفي على


الصحابة والتابعين والمحدثين المهرة ، ولو سلّم فغايته إثبات خلافته عليه‌السلام لا نفي خلافة الآخرين ، وهذا الإيراد للقوشجي المتوفى ٨٧٩ ه‍.

فإليك أخي القارئ عين ألفاظه ، قال عند شرح قول المحقّق الطوسي «ولحديث الغدير المتواتر ...» :

«وأجيب بأنه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع كيف؟ وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ، ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم والواقدي .. ولو سلّم أي دلالته على الإمامة ـ فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة الثلاثة (١)؟».

وفي موضع آخر قال في مقام رده على بعض الأخبار : «بأنه خبر واحد في مقابلة الإجماع ولو صحّ لما خفى على الصحابة والتابعين والمهرة المتقنين من المحدثين سيّما عليّ وأولاده الطاهرين ولو سلم فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين (٢).

يرد عليه :

(١) إن إنكاره تواتر الحديث لم يصدر إلّا عن التعنت والتعصب ، ومخالف لما أجمع عليه الفريقان من تواتره ، وقد ذكرنا طرقه من مصادر القوم في النقطة الأولى ، هذا مضافا إلى أن أكابر علماء العامة أمثال الحاكم حيث صحّح كثيرا من طرقه ، وكذا الذهبي على نصبه وعداوته ، وابن حجر على تعصّبه اعترفا بصحة كثير من طرقه أيضا ، فلا مجال حينئذ لمنع تواتره لاستفاضة طرقه بينهم فضلا عنا ، استفاضة توجب أعلى مراتب التواتر عند من أنصف ، وقد اعترف السيوطي بتواتره وكذا ابن الجزري حتى نسب منكر تواتره إلى الجهل والتعصب.

(٢) وأما عدم ذكر البخاري ومسلم له فغير عجيب ، إذ كم أهملا أخبارا

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي ، ط / قم ، حجري ، ص ٣٦٩.

(٢) شرح التجريد ص ٣٧٠.


صحيحة عندهم واستدركها أصحابهما ، فإنّ إهمالهما لهذا الحديث الصحيح المتواتر لا لمجرد عدم موافقته لمذهبهما بل لرعاية ملوك زمانهما وهوى قومهما ، والناس على دين ملوكهم ، وبهذا تعلم عذر من أنكر حديث الغدير كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما من أئمة الحديث ، ونحن مع كثرة تأكيدنا وثلة من محققي العامة على حديث الغدير ، لا نستغرب أن ينكر هؤلاء الحديث الشريف لشدّة بغضهم لعترة رسول الله ، من هنا نتأسى بقول شيعي موال أجاب عامّيا معترضا على الشيعة بقوله : ما لكم تنوحون على الإمام الحسين في كل وقت وقد مضت على قتله السنون؟ فقال : نخاف أن تنكروا قتله ومظلوميته كما أنكرتم بيعة الغدير.

وبالجملة : فقد اعترف أكابر العامة بتواتر الحديث ووضوح دلالته ، فارتكاب القدح فيه يكون ناشئا عن اعوجاج الفطرة وسوء الاستعداد ، والتورط في العصبيّة والعناد ، ذلك جزاؤهم جهنم بما اتخذوا آيات الله وأوليائه هزوا.

(٣) دعواه أن الحديث خبر واحد في مقابلة الإجماع مصادرة على المطلوب وافتراء وكذبا صريحا بعد ما ذكرنا سابقا تواتر الحديث وكونه مجمعا على روايته بين فرق الإسلام ، وقد رواه السيد العلّامة المحدّث البحراني في كتاب غاية المرام بمائة طريق من طرق العامة ، وبسبعين طريقا من طرق الخاصة ، وقد أفرد له محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ كتابا سمّاه «كتاب الولاية».

هذا مضافا إلى أن الإجماع لوحده غير كاف لإثبات الحجية وإلا لكان إجماع النصارى واليهود حجة ، فاتفاق المجمعين على شيء لا يخرجه من البطلان إلى الصحة ، ولا يغيّر من عنوانه الأولي. ولو سلّمنا بوجود إجماع على النفي إلا أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام وأصحابه الميامين خالفوا الإجماع المدعى كذبا وافتراء ، ألم يصرّح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الحق مع عليّ وعليّ مع الحق(١)؟! فلو كان

__________________

(١) راجع إحقاق الحق ج ٥ / ٦٢٣ فقد خرّج مصادره وطرقه من كتب العامة.


الإجماع في واد ، وعليّ أمير المؤمنين في واد آخر لكان الحق مع الإمام عليّ طبقا للحديث المزبور والأحاديث الأخرى من النبيّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام. وما ذكره من أنه لو صحّ لما خفي على الصحابة ، ففيه أنه لم يخف على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وزوجه البتول فاطمة سيّدة نساء العالمين وأولادهما الطاهرين الذين هم رؤساء الصحابة ، وقد تمسّكوا به وبنظيره في غير واحد من احتجاجاتهم ، وصرّحوا به في أخبارهم ورواياتهم ، أما غيرهم ممن عقدوا قلوبهم على إطفاء نور الله ، وأجمعوا أمرهم على غصب خلافة الله فلم يخف عليهم أيضا ، وإنما أخفوه عمدا حيث كان إظهاره نقضا لغرضهم.

(٤) ما ذكره من أنه على تقدير تسليمه إنما يثبت خلافته ولا ينفي خلافة الآخرين ، ففيه بعد تسليم عدم نفيه لخلافة الآخرين أنّ كفايته لإثبات خلافته عليه‌السلام فقط كافية لنا ، وما المقصود إلّا ذلك ، وأما خلافة الآخرين فقد قامت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على عدمها حسبما فصّلناه سابقا. هذا مضافا إلى أن هذا مكابرة ظاهرة ، إذ كيف يترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حال نصب إمام للمسلمين لحضور أجله ـ ذكر ثلاثة من الخلفاء ، وينص على من بعدهم حيث سيكون إماما بعد خمس وعشرين سنة من وفاته ، ولو جاز ذلك لكان جميع ولاة العهد محل كلام إذ لا يقول السلطان : هذا ولي عهدي بلا فصل ، «بل على احتمالات القوم لو قال رسول الله : من كنت مولاه فعليّ مولاه بعدي ، لقالوا لا منافاة بين البعدية والفصل بغيره ، كما صنع القوشجي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت وصيي وخليفتي من بعدي ، بل لو قال : فعليّ مولاه بعدي بلا فصل ، لقالوا يحتمل أن يكون المعنى بلا فصل من غير الثلاثة ، ولا عجب ممن نشأ على التعصب وحب العاجلة وقال : إنّا وجدنا آباءنا على ملة» (١).

(٥) إن الحديث لم يخف على أحد من الصحابة ، بل كانوا يعرفونه ، لكنهم

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٦٣.


لم يعملوا بمضمونه ، من هنا ذكّرهم الإمام عليّ عليه‌السلام يوم الرحبة بالحديث فصدقوه عليه (١).

الإيراد الثاني :

إنّ أحدا من أئمة العربية لم يذكر مجيء «مفعل» بمعنى «افعل» الموضوع لإفادة التفضيل ، لكون الاستعمال على خلاف الاقتران ، لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولى من كذا ، ولو سلم مجيء «مفعل» بمعنى «افعل» فأين الدليل على أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف والتدبير ، بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وأراد الأولوية في الاتباع والاختصاص به والقرب منه لا في التصرف به ، فالتلامذة يقولون نحن أولى بأستاذنا والاتباع يقولون نحن أولى بسلطاننا ولا يريدون الأولوية في التدبير والتصرف ، ولصحة الاستفسار إذ يجوز أن يقال : في أي شيء هو أولى؟ أفي نصرته أو محبته أو التصرف فيه ، ولصحة التقسيم بأن يقال كونه أولى به : إما في نصرته وإما في ضبط أمواله ، وإما في تدبيره والتصرف فيه ، وحينئذ لا يدل الحديث على إمامته (٢).

وفيه أيضا :

(أولا): إن لفظ مولى يراد به لغة الأولى ، أو أنه أحد معانيه ، فها هم أعلام التفسير واللغة عرفوا أن هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية ، وإلا لما صح لهم تفسيره بذلك ، فقد أشار هؤلاء الأعلام في تفسير قوله تعالى في سورة الحديد (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الآية : ١٥.

__________________

(١) روى حديث المناشدة في الرحبة بأسانيد متعددة ابن الأثير في النهاية ج ٤ / ١٦٠.

(٢) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٦٩. شرح المواقف ج ٨ / ٣٦١ وقد نقله الجرجاني عن الإيجي ورد عليه.


فمنهم من حصر التفسير بأنها أولى بكم ، ومنهم من جعله أحد المعاني في الآية ، فمن الفريق الأوّل :

١ ـ ابن عبّاس في تفسيره من تفسير الفيروزآبادي ص ٣٤٢.

٢ ـ الكلبي حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره ج ٨ / ٩٣ قال : هي مولاكم : أي أولى بكم وهو قول الزّجاج والفراء وأبي عبيدة.

٣ ـ الفراء يحيى بن زياد الكوفي النحوي المتوفى ٢٠٧ ه‍ ، حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره ج ٨ / ٩٣.

٤ ـ أبو عبيدة معمّر بن مثنّى البصريّ المتوفى ٢١٠ ، ذكره عنه الرازي في تفسيره : ج ٨ / ٩٣ ، وذكر استشهاده ببيت لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة (١) خلفها وأمامها

وذكره عنه شيخنا المفيد في رسالته في معنى المولى والشريف المرتضى في الشافي من كتابه «غريب القرآن» وذكر استشهاده ببيت لبيد ، واحتجّ الشريف الجرجاني في شرح المواقف ج ٨ / ٣٦١ بنقل ذلك عنه ردّا على الماتن صاحب المواقف.

٥ ـ الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة النحوي المتوفى ٢١٥ ه‍ نقله عنه الفخر الرازي في «نهاية العقول» وذكر استشهاده ببيت لبيد.

٦ ـ أبو زيد سعد بن أوس اللغويّ البصريّ المتوفى ٢١٥ ه‍ حكاه عنه صاحب الجواهر العبقرية.

٧ ـ البخاري أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل المتوفى ٢١٥ ه‍ ، قاله في صحيحه ج ٧ / ٢٤٠.

٨ ـ ابن قتيبة المتوفى ٢٧٦ ه‍ قاله في تفسير القرطبي ج ٢ / ١٦٤ واستشهد ببيت لبيد.

__________________

(١) أي أولى وأحرى بأن يكون فيه الخوف.


٩ ـ أبو العبّاس ثعلب أحمد بن يحيى النحويّ الشيباني المتوفى ٢٩١ ه‍ ، قال القاضي الزوزني حسين بن أحمد المتوفى ٤٨٦ ه‍ في شرح السبع المعلقة في بيت لبيد المذكور قال ثعلب : إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله : مأواكم النار هي موليكم. أي هي أولى بكم.

١٠ ـ أبو جعفر الطبري المتوفى ٣١٠ ه‍ ، ذكره في تفسيره ج ٩ / ١١٧.

١١ ـ أبو بكر الأنباري محمّد بن القاسم اللغوي النحوي المتوفى ٣٢٨ ه‍ ، قاله في تفسيره مشكل القرآن ، نقله عنه الشريف المرتضى في الشافي ، وذكر استشهاده ببيت لبيد ، وابن بطريق في «العمدة» ص ٥٥.

١٢ ـ أبو الحسن الرماني علي بن عيسى المشهور بالورّاق النحوي المتوفى ٣٨٤ ه‍ أو ٨٢ ، ذكره عنه الفخر الرازي في «نهاية العقول».

١٣ ـ أبو الحسن الواحدي المتوفى ٤٦٨ ه‍ ، ففي الوسيط : مأواكم النار هي مولاكم. هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب ، والمعنى : أنها هي التي تلي عليكم لأنها قد ملكت أمركم فهي أولى بكم من كل شيء.

١٤ ـ أبو الفرج ابن الجوزي المتوفى ٥٩٧ ه‍ نقله في تفسيره «زاد المسير» عن أبي عبيدة مرتضيا له.

١٥ ـ أبو سالم محمد بن طلحة الشافعي المتوفى ٦٥٢ ه‍ قاله في «مطالب السئول» ص ١٦.

١٦ ـ شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى ٦٥٤ ه‍ قاله في التذكرة ص ١٩.

١٧ ـ محمّد بن أبي بكر الرازي ، صاحب «مختار الصحاح» قال في «غريب القرآن» المولى : الذي هو أولى بالشيء ومنه قوله : مأواكم النار هي مولاكم ، أي هي أولى بكم ، والمولى في اللغة على ثمانية أوجه (وعدّ منها) الأولى بالشيء.


١٨ ـ التفتازاني المتوفّى ٧٩١ ه‍ ، ذكره في «شرح المقاصد» ص ٢٨٨ نقلا عن أبي عبيدة.

١٩ ـ ابن الصبّاغ المالكي المتوفّى ٨٥٥ ه‍ عدّ في «الفصول المهمّة» ص ٢٨ ، الأولى بالشيء من معاني المولى المستعملة في الكتاب العزيز.

٢٠ ـ جلال الدين محمّد بن أحمد المحلّي الشافعي المتوفّى ٨٥٤ ه‍ في تفسير الجلالين.

٢١ ـ جلال الدين أحمد الخجندي ، ففي «توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل» عنه أنّه قال : المولى يطلق على معان ، ومنها : الأولى في قوله تعالى : وهي مولاكم. أي أولى بكم.

٢٢ ـ علاء الدين القوشجي المتوفّى ٨٧٩ ه‍ ، ذكره في شرح التجريد.

٢٣ ـ شهاب الدين أحمد بن محمّد الخفاجيّ الحنفيّ المتوفّى ١٠٦٩ ه‍ ، قاله في حاشية تفسير البيضاوي مستشهدا ببيت لبيد.

٢٤ ـ السيّد الأمير محمّد الصنعاني ، قاله في «الروضة النديّة» نقلا عن الفقيه حميد المحلّي.

٢٥ ـ السيّد عثمان الحنفيّ المكّي المتوفّى ١٢٦٨ ه‍ ، قاله في «تاج التفاسير» ج ٢ ، ص ١٩٦.

٢٦ ـ الشيخ حسن العدوي الحمزاوي المالكي المتوفّى ١٣٠٣ ه‍ ، قال في «النور الساري» ـ هامش صحيح البخاري ـ ج ٧ ، ص ٢٤٠ : هي مولاكم : أولى بكم من كلّ منزل على كفركم وارتيابكم.

٢٧ ـ السيّد محمّد مؤمن الشبلنجي ، ذكره في «نور الأبرار» ص ٧٨.

ومن الفريق الثاني :

٢٨ ـ أبو إسحاق الثعلبي المتوفى ٤٢٧ ه‍ ، قال في «الكشف والبيان» :


مأواكم النار هي مولاكم. أي صاحبتكم وأولى وأحقّ بأن تكون مسكنا لكم ، ثم استشهد ببيت لبيد المذكور.

٢٩ ـ أبو الحجّاج يوسف بن سليمان الشنتمري المتوفى ٤٧٦ ه‍ قاله في تحصيل عين الذهب في قول لبيد واستشهد بالآية الكريمة.

٣٠ ـ الفرّاء حسين بن مسعود البغوي المتوفى ٥١٠ ه‍ ، قاله في «معالم التنزيل».

٣١ ـ الزمخشري المتوفى ٥٣٨ ه‍ ، ذكره في «الكشّاف» ج ٢ / ٤٣٥ واستشهد ببيت لبيد ، ثم قال : لا يجوز أن يراد هي ناصركم.

٣٢ ـ أبو البقاء محبّ الدين العكبري البغدادي المتوفى ٦١٦ ه‍ ، قاله في تفسيره ص ١٣٥.

٣٣ ـ القاضي ناصر الدين البيضاوي المتوفى ٦٩٢ ه‍ ، ذكره في تفسيره ج ٢ ، ص ٤٩٧ واستشهد ببيت لبيد.

٣٤ ـ حافظ الدين النسفي المتوفى ٧٠١ / ٧١٠ ه‍ ، ذكره في تفسيره «هامش تفسير الخازن» ج ٤ / ٢٢٩.

٣٥ ـ علاء الدين علي بن محمّد الخازن البغدادي المتوفى ٧٤١ ه‍ ، قاله في تفسيره ج ٤ / ٢٢٩.

٣٦ ـ ابن سمين أحمد بن يوسف الحلبي المتوفى ٨٥٦ ه‍ ، قال في تفسيره «المصون في علم الكتاب المكنون» هي مولاكم : يجوز أن يكون مصدرا أي ولايتكم أي ذات ولايتكم ، وأن يكون مكانا أي مكان ولايتكم ، وأن يكون أولى بكم كقولك : هو مولاه.

٣٧ ـ نظام الدين النيسابوري ، قاله في تفسيره «هامش تفسير الرازي».

٣٨ ـ الشربيني الشافعي المتوفى ٩٧٧ ه‍ ، قاله في تفسيره ج ٤ / ٢٠٠ واستشهد ببيت لبيد.


٣٩ ـ أبو السعود محمد بن محمّد الحنفي القسطنطيني المتوفى ٩٧٢ ه‍ وذكره في تفسيره «هامش تفسير الرازي» ثم ذكر بقية المعاني.

٤٠ ـ الشيخ سليمان جمل ، ذكر في تعليقه على تفسير الجلالين الذي أسماه بالفتوحات الإلهية وفرغ منه سنة ١١٩٨ ه‍.

٤١ ـ المولى جار الله آبادي ، قال في حاشيته تفسير البيضاوي : المولى مشتق من الأولى بحذف الزائد.

٤٢ ـ محب الدين أفندي ، قاله في شرح بيت لبيد في كتابه «تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات» ط سنة ١٢٨١ ه‍ (١).

وبالجملة : فإن هؤلاء الأعلام فسروا «المولى» بالأولى بالتصرف فهما بمعنى واحد في اللغة ، ويصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر ومنه الحديث المشهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها .. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها.

ثانيا :

إن من يفسر المولى في الحديث بالأولى بالتصرف لم يرد أنه اسم تفضيل مثله حتى يرد عليه أنه يقال هو أولى من كذا ، ولا يقال مولى من كذا ، بل أراد التفسير بحاصل المعنى بقرينة مقدمة الحديث وهي قوله : ألست أولى بالمؤمنين أنفسهم ، فإن هذه المقدمة تدل على أن المراد بمولاهم الأولى بهم من أنفسهم ، وهو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرف ، وإن شئت أن تفسر المولى بمالك الأمر كما هو معناه الحقيقي كان أحسن فيكون معنى الحديث من كنت مالك أمره لكوني أولى به من نفسه ، فعليّ مثلي مالك أمره كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها) أي مالك أمرها ، وكيف كان فالنتيجة واحدة وهي أن أمير المؤمنين

__________________

(١) الغدير ج ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٨.


عليّ بن أبي طالب مالك أمر الأمة وإمامها وأولى بها من نفسها في التصرف كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما ما زعموا من جواز أن يراد الأولى في أمر من الأمور غير التصرف ، وما ادعوه من صحة الاستفسار والتقسيم فخطأ ظاهر لابتناء ذلك على إجمال الحديث ، وقد عرفت أن مقدمته وغيرها من القرائن تدل على أن المراد بالمولى الأولى بهم من أنفسهم في التصرف ومالك أمرهم وإمامهم ، كيف ولو كان الحديث مجملا مع تلك القرائن حتى يدخله الاحتمال المذكور ويجوز فيه الاستفسار والتقسيم لكانت كلمة الشهادة أولى بالإجمال لإمكان الاستفسار فيها بأن المراد هل هو لا إله إلا الله في السماء أو في الأرض ، أو لا إله إلّا الله في آسيا أو أوروبا أو غيرهما إلى غير ذلك ، ولإمكان التقسيم أيضا بنحو ذلك ، وهذا لا يقوله ذو معرفة.

ثالثا :

لقد عزب عن القوشجي والإيجي وكذا الرازي (١) اختلاف الأحوال في المشتقات لزوما وتعدية بحسب صيغها المختلفة. إنّ اتحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ إنما يقع في جوهريّات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب وتصاريف الألفاظ وصيغها ، فالاختلاف الحاصل بين المولى والأولى بلزوم مصاحبة الثاني للباء وتجرّد الأول منه إنما حصل من ناحية صيغة افعل من هذه المادّة كما أن مصاحبة (من) هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا ، إذن فمفاد فلان أولى بفلان ، وفلان مولى فلان ، واحد حيث يراد به الأولى به من غيره. كما أن (أفعل) بنفسه يستعمل مضافا إلى المثنى والجمع أو ضميرهما بغير أدات فيقال : زيد. أفضل الرجلين أو أفضلهما ، وأفضل القوم أو أفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنما هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتحاد المعنى في الجميع ، وهكذا الحال في بقية صيغ افعل كأعلم وأشجع وأحسن وأسمح وأجمل إلى نظائرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٢٧ سورة الحديد آية ١٥.


قال خالد بن عبد الله الأزهري في باب التفضيل من كتابه التصريح : «إنّ صحّة وقوع المرادف موقع مرادفه إنما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وهاهنا منع مانع وهو الاستعمال ، فإنّ اسم التفضيل لا يصاحب من حروف الجرّ إلّا (من) خاصّة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : والآخرة خير وأبقى.

على أن ما تشبّث به الرازي يطّرد في غير واحد من معاني المولى التي ذكرها هو وغيره ، منها ما اختاره معنى للحديث وهو : الناصر فلم يستعمل هو مولى دين الله مكان ناصره ، ولا قال عيسى على نبينا وآله وعليه أفضل التحية والإكرام : من مواليّ إلى الله. مكان قوله : من أنصاري إلى الله ، ولا قال الحواريون : نحن مواليّ الله. بدل قولهم : نحن أنصار الله.

ومنها الوليّ فيقال للمؤمن : هو وليّ الله ولم يرد من اللغة مولاه ، ويقال : الله وليّ المؤمنين ومولاهم كما نصّ به الراغب في مفرداته ص ٥٥٥.

وهلمّ معي إلى أحد معاني المولى المتفق على إثباته وهو المنعم عليه فإنك تجده مخالفا مع أصله في مصاحبة (على) فيجب على الرازي أن يمنعه إلّا أن يقول : إنّ مجموع اللفظ وأداته هو معنى المولى لكن ينكمش منه في الأولى به لأمر ما دبّره بليل.

وهذه الحالة مطردة في تفسير الألفاظ والمشتقات وكثير من المترادفات على فرض ثبوت الترادف فيقال : أجحف به وجحفه أكبّ لوجهه وكبّه الله. احرس به وحرسه. زريت عليه زريا وأزريت به نسأ الله في أجله وانسأ أجله ، رفقت به وأرفقته ، خرجت به وأخرجته ، غفلت عنه وأغفلته ..» (١). انتهى.

وهذا الاختلاف يطرد في جلّ الألفاظ المترادفة التي جمعها الرماني المتوفى ٣٨٤ ه‍ في تأليف مفرد في ٤٥ صفحة ولم ينكر أحد من اللغويين شيئا من ذلك لمحض اختلاف الكيفيّة في أداة الصحبة كما لم ينكروا بسائر الاختلافات الواردة

__________________

(١) الغدير ج ١ / ٣٥٢.


من التركيب فإنّه يقال : عندي درهم غير جيّد. ولم يجز : عندي درهم إلّا جيّد. ويقال : إنك عالم. ولا يقال : إن أنت عالم. ويدخل «إلى» إلى المضمر دون حتّى مع وحدة المعنى. وكذا أم وأو فإنهما للترديد ويفرقان في التركيب بأربعة أوجه ، وكذلك هل والهمزة فإنهما للاستفهام ويفرقان بعشرة فوارق ، وأيّان وحتى مع اتحادهما في المعنى يفرقان بثلاث ، وكم وكأيّن بمعنى واحد ويفرقان بخمسة ، وأيّ ومن يفرقان بستة مع اتحادهما.

رابعا :

إن التقييد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أنفسكم» دليل على أن المراد بالأولى هو الأولى بالتصرّف دون الأولى في أمر من الأمور ، إذ لا معنى للأولوية من الناس بنفس الناس إلا الأولوية في التصرّف ، نعم لو لم يوجد القيد لتمت المعارضة بقوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) حسبما ادّعى القوشجي أو قد يدّعي البعض معارضة هذه الآية لقول النبيّ «من أنفسكم» فإنه لو كان نظم الآية مثلا : إن أولى الناس بإبراهيم من نفسه ، لكان المراد الأولى بالتصرّف.

وزبدة المخض :

إن دعوى عدم صحة اقتران كلّ منهما (مفعل وافعل) بما يقارنه الآخر ممنوعة ، وذلك لأن كون أحد اللفظين بمعنى الآخر لا يقتضي صحة اقترانه بكل ما يقترن به الآخر ، ولا جريان حكم أحدهما على الآخر مطلقا ألا ترى أن الصلاة بمعنى الدعاء مع أن تعدية الأول «بعلى» وتعدية الثاني «باللام» ، فيقال : صلّى عليه ودعا له ، ولو قيل دعا عليه لم يكن بمعناه ، وأن أداة إلّا بمعنى غير لا يجوز حذف موصوفها ، ولا يقال جاءني إلّا زيد ، بخلاف غير فإنه يقال : جاءني غير زيد ، والسرّ في ذلك أن استعمالات كلام العرب منوطة على التوقيف والتوظيف ، فكل مقام استعملت فيه كلمة مخصوصة على كيفية خاصة فلا بدّ من متابعتها ، ولا يجوز التعدي عنها لبطلان القياس في اللغات.


وعليه : فإن إنكار الرازي وأمثاله عدم استعمال أولى مضافا ممنوع على إطلاقه ، لما عرفت من إضافته إلى المثنّى والمجموع ، وجاءت به السنّة إضافته إلى النكرة ، ففي صحيح البخاري في الجزء العاشر ص ٧ و ٩ و ١٠ و ١٣ بأسانيد جمّة قد اتفق فيها اللفظ عن ابن عبّاس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحقوا الفرائض بأهلها ، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر (١).

وأخرج أحمد في المسند ج ١ / ٣١٣ : فلأولى ذكر ، وفي صفحة ٣٣٥ : فلأولى رجل ذكر ، وفي نهاية ابن الأثير ج ٢ / ٤٩ : لأولى رجل ذكر. ويعرب عمّا نرتئيه في حديث الغدير ما يماثله في سياقه جدا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

ما من مؤمن إلّا أنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فأيّما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني وأنا مولاه(٢).

وورد بلفظ آخر : إن على الأرض من مؤمن إلّا أنا أولى الناس به ، فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه (٣).

وبهذا يندفع ما توهّمه القوشجي من احتمال التخصيص والقرب منه ، بعد ملاحظة كثرة مجاهداته عليه‌السلام في الدين ، ونهاية نصرته في غزواته للمؤمنين ، ومن كان بهذه المنزلة متى يحتاج إلى التنصيص بالاختصاص ، فإن ذلك من باب تحصيل الحاصل وهو قبيح لكون أمير المؤمنين معروفا باختصاصه من رسول الله والقرب منه.

الإيراد الثالث :

إن المراد من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، هو

__________________

(١) ورواه صحيح مسلم أيضا ج ٢ / ٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٧ / ١٩٠.

(٣) صحيح مسلم ج ٢ / ٤.


الوصية والخلافة على قضاء دينه وإنجاز موعده ، فلا دلالة حينئذ بالحديث على الحاكمية على الأمة حسبما يدّعيها المسلمون الشيعة.

يرد عليه :

(١) على فرض ما ذكره الإيراد المتقدم ، فإنّ ظاهر اللفظ الإطلاق ولا يعدل عنه إلا بدليل وهو مفقود في البين ، بل يمكن القول : إنّ حذف المتعلق دليل العموم ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فعليّ مولاه» لا يخلو من إشعار بعدم كون مراده الخلافة على قضاء الدين وإنجاز أماناته ، وإن سلّم فهو من متعلقات الحكومة لا كونه مرادا باللفظ بالخصوص.

هذا مضافا إلى استهجان ما ذكر وقباحته من حيث كونه غير لائق صدوره من النبيّ والمبالغة فيه تحت حرّ الشمس في تلك الجموع ، ثم صعوده على منبر من الأقتاب ، وتهديد الله عزوجل له فقط ليقول لهم : إن قاضي ديني ومنجز أماناتي عليّ بن أبي طالب هذا لا يمكن صدوره من حكيم ، كيف بسيد العقلاء والحكماء رسول الله محمّد بن عبد الله عليه وآله السلام؟!

(٢) لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دين يبقى على ذمته إلى وفاته حتّى يوصي به إليه ، لما روي أنّه في أيام مرضه طلب براءة الذمة عن الناس ولم يدّع عليه أحد شيئا سوى من ادّعى عليه ضرب سوط عن عمد.

إشكال :

كيف ادعيتم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له دين للناس في ذمته ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لمولانا أمير المؤمنين عليّ : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.

والحل :

الظاهر أن الدين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وقاضي ديني» بكسر الدال لا بفتحها ، فالقاضي في الدين هو الحاكم في أمر الدين ، والحاكمية بمقتضى كون الإمام


عليّ عليه‌السلام نفس رسول الله كما في آية المباهلة ، يستلزم أن يكون الحاكم النائب ، خليفة معصوما ، ويشهد لما قلنا القرائن الكثيرة الدالة على ذلك منها ما رواه أنس قال :

قال رسول الله لعليّ عليهما‌السلام : أنت تقضي ديني وتنجز موعدي (أو وعدي) وتبين لهم ما اختلفوا من بعدي ، وتعلّمهم القرآن وتجاهدهم على التأويل كما جاهدتهم على التنزيل (١).

وفي نصوص أخر يوجد لفظ «قاضي ديني» (٢).

الإيراد الرابع :

لو كان حديث الغدير متواترا ودالا على تنصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام للخلافة بأمر من الله تعالى ، لكان على الصحابة أن يجعلوه مقياسا بعد النبيّ ، وليس عليهم أن يردّوا على ما بلّغه الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المحتشد العظيم.

والجواب :

إن هذا الإيراد مستمسك قوي لمن يريد التخلّص من الاعتناق بالنص المتواتر الجلي في المقام ، ولكنه لو رجع إلى تاريخ الصحابة ، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة (٣)

__________________

(١) أرجح المطالب ص ١٧ ، ط / لاهور ، والهيثمي في المجمع ج ٩ / ١١٣ ، ط / القاهرة ، والسيوطي في الجامع الصغير ج ٢ / ١٤١ حديث ٥٦٠١ ، ط / مصر ، والصواعق المحرقة ص ٧٥ وكنوز الحقائق للمناوي ص ٩٨ ، ط / بولاق ، مصر ، وأسنى المطالب ص ١٣٧ وينابيع المودة ص ١٨٥ ، ط / اسلامبول ، وإحقاق الحق ج ٦ / ٥٨١.

(٢) إحقاق الحق ج ٤ / ٧٤ نقلا عن المصادر العامية ، وكذا رواه بهذا اللفظ المحقق الطوسي في التجريد.

(٣) منها رزية يوم الخميس ، والتخلف عن جيش أسامة ، واعتراضهم على صلح الحديبية وقد بلغت مخالفات القوم لنصوص النبيّ وتعليماته ما يربو على نيف وسبعين موردا استقصاها العلّامة الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين (قدس‌سره) في كتابه الجليل الاجتهاد والنص.


في حياتهم السياسية والدينية والاجتماعية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل.

الإيراد الخامس :

إن المراد بالمولى في حديث الغدير هو المحبوب والمنصور لأنّ النبيّ أراد أن يوصي العرب بحفظ محبة أهل بيته وقبيلته ، ولا شك أن عليّا أمير المؤمنين بعد رسول الله سيّد بني هاشم وأكبر أهل البيت ، فذكر فضائله وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرة والمحبة معه ليتخذه العرب سيّدا ويعرفوا فضله وكماله (١) ، وعليه فإن مقتضى هذا أن يكون معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أي من كنت محبوبه أو منصورا له فعليّ كذلك.

يرد عليه :

(١) مع أنّ المولى لم يستعمل بمعنى المحبوب والمنصور ، ولو سلّم ذلك فإنّ القرائن الحالية والمقالية ـ كما عرفت سابقا ـ تقتضي إرادة مالك الأمر ، بمعنى أن القرينة صرفت اللفظ عن أحد موارد استعماله على فرض وجود مثل هذا الاستعمال.

(٢) إن مساواة الإمام عليّ بنفس النبيّ ـ حسبما ظهر الحق على لسان قلمه ـ في وجوب محبته ونصرته على الإطلاق لا تتم إلّا بثبوت منزلته له من الرئاسة العامة والعصمة ولذا كانت النتيجة كما ذكرها الفضل بن روزبهان أن يتخذه العرب سيّدا.

(٣) من أين فهم الفضل إرادة النبيّ الوصية بحفظ محبة قبيلته بشكل عام لو لا عدم الإنصاف وكراهة تخصيص أمير المؤمنين عليه‌السلام بالفضل والنصّ.

__________________

(١) ذكره الفضل بن روزبهان الأشعري ، دلائل الصدق ج ٢ / ٥١ وإحقاق الحق ج ٢ / ٤٨٢.


الإيراد السادس :

ما تمحّله بعض (١) العامة ؛ وسبب ذلك :

إن أسامة بن زيد قال للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لست مولاي ، إنما مولاي ـ أي معتقي ـ رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

فالحديث ـ بزعم هذا المستشكل ـ ورد في عتق الإمام عليّ عليه‌السلام لأسامة لا أنه مولى المؤمنين.

والجواب :

(١) إن هذه الرواية المجهولة لا تعارض الروايات المتواترة التي دلت على المقصود وهي الخلافة وأشاد بها القرآن الكريم ، وكأنّ من روى هذه المجهولة أراد حطا من عظمة الحديث ، وتحطيما لمنعته فصوّره بصورة مصغّرة لا تعدو عن أن تكون قضية شخصية ، وحوارا بين اثنين من أفراد الأمة ، أصلحه رسول الله بكلمته هذه ، والراوي يجهل أو يتجاهل عن أنه تخصمه على تلك المزعمة الأحاديث المتضافرة في سبب الإشادة بذلك الذكر الحكيم من نزول آية التبليغ إلى مقدّمات ومقارنات أخرى لا يلتئم شيء منها مع هذه الأكذوبة ، ومثلها الآية الكريمة الناصّة بكمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضى الربّ بذلك الهتاف المبين ، والإصلاح بين متخاصمين تلاحيا علة لإكمال الدين وإتمام النعمة ، لكن ذهب على الرجل أنه لم يزد في الحديث إلّا تأكيدا في المعنى الذي يقوله الإمامية ، وحجة على الخصم على تقدير الصحة.

فهب أنّ السبب لذلك البيان الواضح هو ما ذكر لكنّا نقول : إنّ ما أنكره أسامة على أمير المؤمنين عليه‌السلام من معنى المولى وأثبته لرسول الله خاصة دون أيّ أحد ، لا بدّ أن يكون شيئا فيه تفضيل لا معنى ينوء به كلّ أحد حتى أسامة نفسه ،

__________________

(١) أمثال : ابن الأثير في النهاية ج ٥ / ٢٢٧ والحلبي في السيرة ج ٣ / ٣٠٤ وابن منظور في لسان العرب ج ١٥ / ٤١٠.


ولا تفاضل بين المسلمين من ناحيته في الجملة ، وذلك المعنى المستنكر المثبت لا يكون إلّا الأولوية أو ما يجري مجراها من معاني المولى.

(٢) إذا كان أسامة بن زيد قد أعتقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى لإعتاق الإمام عليّ عليه‌السلام له ، ولو فرض فلا يناسبه هذا الاهتمام العظيم ، على أن أسامة لم يعتقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما أعتق أباه زيد بن حارثة ، فإطلاق أنه مولى رسول الله عليه إنما هو باعتبار انجرار الولاء إليه من أبيه ، ولهذا قال بعضهم : إن القائل للإمام عليّ : «لست مولاي وإنما مولاي رسول الله» هو زيد بن حارثة ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ردا لقول زيد.

ولعلّ هذا القول قاله إسحاق بن حمّاد بن زيد للمأمون ، لمّا جمع العلماء ليحتجّ عليهم في فضل الإمام عليّ عليه‌السلام فيما ذكره صاحب العقد الفريد ، فقال إسحاق للمأمون : ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين الإمام عليّ ، وأنكر ولاء الإمام عليعليه‌السلام ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

فردّ عليه المأمون بأن ذلك كان في حجة الوداع ، وزيد بن حارثة قتل قبل ذلك ، وكأنّ من ذكر هذا العذر التفت إلى مثل ما ردّ به المأمون ، فغيّر العذر ، وقال : إنه قال ذلك في شأن أسامة بن زيد.

وسواء قيل : إن ذلك في شأن زيد أو ابنه أسامة ، فزيد إنما هو مولى عتاقة وابنه أسامة كذلك بجرّ الولاء ، والإمام عليّ عليه‌السلام لم يعتقه ، وإنما أعتقه النبيّ فكيف يكون زيد أو ابنه مولاه وهو لم يعتقه؟! وعلى فرض صحة الحادثة ، فيكون ما قصده رسول الله وأمير المؤمنين من لفظ «المولى» غير ما قصده زيد أو أسامة ، حيث كان قصد أسامة الإعتاق ، وقصد النبيّ الأولوية في التصرف.


الإيراد السابع :

ما تمحّله ابن كثير (١) وصاحب السيرة الحلبية (٢) ، من صرف ما وقع يوم الغدير إلى ما وقع عند رجوع الإمام عليّ عليه‌السلام من اليمن ، وإليك عين ألفاظ ابن كثير ، قال :

«إن النبيّ خطب بمكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريبا من الجحفة ، يقال له : غدير خمّ ، فبيّن فيها فضل عليّ بن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعض جورا وتضييقا وبخلا ، والصواب كان معه في ذلك ، ولهذا لمّا فرغ عليه‌السلام من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بيّن ذلك في أثناء الطريق ، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك ، فبيّن فيها أشياء ، وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، ونحو نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك ونبيّن ما فيها من صحيح وضعيف بحول الله وقوته وعونه ، وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه ، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم .. وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة ، ونحن نورد عيون ما روي في ذلك مع اعلامنا أنه لاحظ للشيعة فيه ولا متمسك لهم ولا دليل لما سنبيّنه وننبه عليه ..».

ويشبه هذا ما أخرجه ابن كثير نفسه وكذا أحمد بن حنبل (٣) وآخرون عن بريدة قال :

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ / ١٥٨ ، ط / دار الكتب العلمية ، حوادث السنة ١٠ ه‍.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٧٥.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ج ٥ / ٣٤٧.


«غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت عليّا فتنقّصته فرأيت وجه رسول الله يتغيّر ، فقال : يا بريدة؟

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله؟

قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه».

والجواب :

١ ـ إنّ كل ما أوردناه في الجواب الأول عن الإيراد السادس يرد هنا حذو القذّة بالقذّة ، ولا يهمنا ما أراده المستشكل من تصغير صورة الأمر فصبّها في قالب قضية شخصية ، بعد ما أثبت الإمامية حديث الغدير بطرقه المربية على التواتر ، فإنّ غاية ما هنالك تكريرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللفظ بصورة نوعية تارة وفي صورة شخصية أخرى ، لتفهيم بريدة أن ما حسبه جفوة من أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يسوغ له الوقيعة فيه على ما هو شأن الحكّام المفوّض إليهم أمر الرعية ، فإذا جاء الحاكم بحكم فيه الصالح العام ولم يرق ذلك لفرد من السوقة ليس له أن يتنقّصه ، فإنّ الصالح العام لا يدحضه النظر الفرديّ ، ومرتبة الولاية حاكمة على المبتغيات الشخصية ، فأرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلزم بريدة حدّه فلا يتعدّى طوره بما أثبتته لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من الولاية العامة نظير ما ثبت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.

وبتعبير آخر :

بالغض عن السبب الموجب لأن يذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الإمام عليّ عليه‌السلام بمقالته المشهورة: «من كنت مولاه ..» فإن ذلك كاف في بيان عظمة مولانا أمير المؤمنين عليّ وأن له ما للنبيّ طبق القذة بالقذة ، فبما أن للنبيّ ولاية عامة على الأنفس والأموال كذا هي بعينها لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ لم يأتنا ابن كثير بدليل يثبت مدّعاه ، بل كل ما هنالك أنه قدّم أولا روايات هذه الواقعة ، فنقل عن محمد بن إسحاق ، بسنده عن يزيد بن طلحة ، قال : لمّا أقبل عليّ من اليمن ليلقى رسول الله بمكة ، تعجّل رسول الله واستخلف على


جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسى كل رجل من القوم حلّة من البز الذي كان مع عليّ ـ وهو الذي أخذه من أهل نجران ـ فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : «ويلك ما هذا؟» قال : «كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس».

قال : ويلك انزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانتزع الحلل من الناس (فردّها) في البز ، وأظهر الجيش شكواهم لما صنع بهم. ثم حكى عن ابن اسحاق أنه روى بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس عليّا ، فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول : «أيّها النّاس ، لا تشكوا عليّا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله من أن يشكى». ثم حكى عن أحمد أنه روى بسنده عن بريدة ، قال : غزوت مع عليّ اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله ذكرت عليا فتنقصته ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتغيّر ، فقال : يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قلت : بلى يا رسول الله.

قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه».

قال ابن كثير : وكذا رواه النسائي بإسناده نحوه ، وهذا إسناد جيد قويّ رجاله كلهم ثقات ، إلى آخره.

ثم أتبع ابن كثير ذلك بروايات الغدير ، ليجعلهما بزعمه واقعة واحدة ، وأنّ ما وقع يوم الغدير هو تدارك لما وقع في سفر اليمن ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن يوم الغدير فضل الإمام عليّ عليه‌السلام وبراءة ساحته مما تكلّم فيه أهل ذلك الجيش ، مع أنهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الأخرى ، فلما شكا الجيش من الإمام عليه‌السلام ، وكانت شكايتهم منه بمكة في أيام الحجّ ، غضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك وبيّن لهم أن شكايتهم منه في غير محلّها وقام فيهم خطيبا وقال : «أيّها الناس لا تشكوا عليّا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله من أن يشكى».


وقال لهم يوم ذاك : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

واكتفى بذلك ، وهو كاف في ردعهم وبيان فضل وعظمة مولى الثقلين أمير المؤمنين عليّ روحي فداه ، وأن ما فعله هو الصواب ، وحديث الغدير كان في الثامن عشر من ذي الحجة بعد انقضاء الحج وخلال رجوعه إلى المدينة ، ولو كان ما وقع يوم الغدير هو لمجرد ردعهم وبيان خطأهم في شكايتهم من الإمام عليه‌السلام لمقاله بمكة واكتفى به ولم يؤخّره إلى رجوعه.

وزعم صاحب السيرة الحلبية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك بمكة لبريدة وحده ، ثم لمّا وصل إلى غدير خم أحبّ أن يقوله للصحابة عموما (١) ، وهذا أيضا يكذّبه ما قد روي عن أبي سعيد الخدري من أنه عليه وآله السلام قام خطيبا ـ في الصحابة ـ وأعلن ذلك في خطبته على المنبر ورءوس الأشهاد.

وفيه : إن الأمر لو كان كما ذكر صاحب السيرة لكان الأولى أن يقول النبيّ تلك المقالة في مكة ، فيكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعم وأشمل لوجود الحجيج كلهم في مكة ، ومنهم أهل مكة أيضا وما حولها الذين لم يكونوا معه في غدير خم ، فلو كان الغرض تبليغ عموم الصحابة ما وقع في مسألة اليمن لما أخّره النبيّ إلى غدير خمّ ، ولكنه لمّا نزل عليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وهو في الطريق بلّغهم إياه في غدير خم حين نزلت عليه الآية ، فهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الأخرى ، وخلط إحداهما بالأخرى نوع من الخلط والخبط والغمط.

مع أنك عرفت أن في روايات الغدير أنه وقف حتى لحقه من بعده ، وأمر بردّ من كان تقدّم ، وهذا يدل على أنه لأمر حدث في ذلك المكان ، وهو نزول الوحي

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٧٥.


عليه ، ولو كان لتبليغ عموم الصحابة لم يؤخّره إلى غدير خم ، بل كان يقوله في بعض المنازل قبله أو في مكة ، فأمره بالنزول وهو في أثناء السير وانتظار من تخلّف وأمره بردّ من تقدّم ، يدل على أنه لأمر حدث في ذلك الوقت ، مع أنه قال هذا الكلام عقيب الأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، وبيان أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض الذي هو تمهيد لما بعده ، فدلّ على أنه لأمر أهم من مسألة اليمن.

على أننا إنما نستدل بقوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» عقيب قوله «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» سواء أقال ذلك بمكة أم في غدير خم ، وسواء أقاله عقيب شكايتهم من الإمام عليّ أم لا ، فإنه دلّ على أن الإمام عليّا عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والإمامة والخلافة لا تزيد على ذلك كما مرّ.

هذه أهم الإشكالات التي أثارها خصماء ولاية الإمام عليّ والردود عليها ؛ وأما القرائن الكثيرة على إثبات صحة حديث الغدير الدال على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فإنها وافية ـ وبحمد الله ـ على إثبات الإمامة ، هذا مع وجود قرائن أخرى يمكن أن يتفطن إليها الباحث المنصف ، وقد اعترف ثلة من علماء العامة على عظمة العترة الطاهرة ، منهم ابن كثير في تاريخه ، قال :

«خطب النبيّ خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك ، فبيّن فيها أشياء ، وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه .. (ثم استشهد بما قاله رسول الله منوّها بعترته الطاهرة): كأني دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، والله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثم أخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ..» (١).

وذكر ابن كثير أيضا عن البراء بن عازب قال : أقبلنا مع رسول الله في حجة

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ج ٥ / ١٥٨ ـ ١٥٩.


الوداع التي حجّ فنزل في الطريق ، فأمر الصلاة جامعة فأخذ بيد عليّ فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى! قال : ألست بأولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى! قال : فهذا وليّ من أنا مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (١).

ويا للعجب كيف أن علماء العامة يعترفون بفضل الإمام عليّ وأسبقيته وفي نفس الوقت لا يعتبرون كل هذا دليلا على إمامته عليه‌السلام ، وهل غير بيان الفضل والمنزلة يعتبر دليلا على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى؟!! فإذا ما كان الفضل وعظم المنزلة دليلا على ذلك ، فأي شيء يدل عليه؟!!

وإذا ما كان التطهير والعصمة شاهدا ودليلا على قيادة الأمة نحو الكمال فأي شيء يا ترى يكون دالا على ذلك؟! فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أم هل تستوي الظلمات والنور ، فما لكم كيف تحكمون!

انتهينا من حديث الغدير الشريف تعقيبا على آية البلاغ ، وهناك آيات أخرى تدل على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب تطلب من مظانها (٢). وبهذا يتم القسم الأول من المقصد الثاني في إثبات الأدلة على أحقية الإمام عليّ بالخلافة دون من تقدّم عليه. وأما القسم الثاني من المقصد الثاني ، فإنما يتعلق بالأحاديث النبويّة الدالة على الخلافة.

القسم الثاني :

أخبار السّنة النبويّة الدالة على إمامته عليه‌السلام هي أكثر من أن تحصى ، وقد صنف أكابر علماء الشيعة الإمامية في ذلك وأكثروا ، ونحن هنا نقتصر على القليل لأن الكثير يخرج الكتاب عن طوره.

منها :

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ / ١٥٩.

(٢) فليراجع : إحقاق الحق / للتستري ، ونهج الحق وكشف الصدق للعلّامة الحلي.


(١) الحديث الأول :

حديث اتحاد النورين

فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده ، قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي الله ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا ، وجزء عليّ (١).

وفي حديث آخر ، رواه ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ه‍ في المناقب قال : أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي .. (إلى جابر بن عبد الله) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

إن الله عزوجل أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتى قسّمها جزءين ، فجعل جزءا في صلب عبد الله وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيا(٢).

يشهد لإرادة الإمامة من الحديث وصفه لأمير المؤمنين عليّ المرتضى بكونه نورا مع رسول الله بين يدي الله تعالى بل كانا نورا واحدا ، وهذا مؤيّد بقوله تعالى في آية المباهلة (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٣).

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل باب المناقب ، وميزان الاعتدال ج ١ / ٢٣٥ نقلا عن ابن عساكر في تاريخه مسندا عن سلمان ، والرياض النضرة ص ١٦٤ ، والمناقب لابن المغازلي ص ٨٧ ولسان الميزان ج ٢ / ٢٢٩ ومناقب الخوارزمي ص ٤٦ ، ينابيع المودة ص ١٠ وتذكرة الخواص ص ٥٢ وكفاية الطالب ص ٣١٤ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٢٤٣.

(٢) المناقب لابن المغازلي الشافعي ، وإحقاق الحق ج ٤ / ٩٢ وج ٧ / ٣٩٠ ، ينابيع المودة ص ٢٥٦ ومنتخب كنز العمال في هامش مسند أحمد ج ٥ / ٣٢.

(٣) سورة آل عمران : ٦١.


فقد ورد بالأخبار (١) المتواترة أن الآية نزلت بأهل الكساء الخمسة ، فحديث اتحاد النورين من أوضح ما يدل على الإمامة ، هذا مضافا إلى تصريحه بأن محمّدا وعليّا متقدمان خلقا على آدمعليه‌السلام مما يدل على أفضليتهما على آدم وكل الأنبياء والمرسلين ، كما يشير إلى هذا حديث «لولاهما ـ أي محمّد وعليّ ـ ما خلقتك» فإنه علة لخلق آدم ، والعليّة دليل الفضل على آدم فضلا عن الأمة ، فلا بدّ أن يكون مولى الثقلين عليّ المرتضى سيدها وإمامها بل علة خلقها بالأولوية ، كما قال عليه‌السلام في نهج البلاغة بكتابه إلى معاوية «إنّا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا» (٢).

(٢) الحديث الثاني :

حديث الدار.

من مسند أحمد : لما نزل «(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٣) جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا ، وشربوا ثلاثا ، ثم قال لهم : من يضمن عني ديني ، ومواعيدي ، ويكون خليفتي ويكون معي في الجنّة؟ فقال عليّ : أنا ، فقال : أنت.

ورواه الثعلبي في تفسيره : بعد ثلاث مرات ، في كل مرة سكت القوم غير عليّ عليه‌السلام (٤).

ورواه الطبري بلفظ آخر مثله قال :

حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٣ / ٤٦.

(٢) نهج البلاغة : خطبة ٢٨ ص ٣٨٦ صبحي الصالح.

(٣) سورة الشعراء : ٢١٤.

(٤) مسند أحمد ج ١ / ١١١ و ١٩٥ وشواهد التنزيل ج ١ / ٤٢٠ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ / ٢٦٧ وينابيع المودة ص ٨٩ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢ ، مجمع الزوائد ج ٨ / ٣٠٢ ، كنز العمال ج ٦ / ٢٩٢ عن عدة من حفاظ الحديث ، وإحقاق الحق ج ٤ / ٦٠ عن المصادر العاميّة.


الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن عليّ بن أبي طالب قال :

لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فقال لي : يا عليّ إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين .. إلى أن قال :

اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعماله أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله حذية من اللحم .. (ثم فعل ذلك في اليوم الثاني) فلما أكلوا ثانية تكلم رسول الله فقال :

يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

أعلن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحديث الشريف وصيّه وخليفته ووزيره يوم أعلن رسالته ، وكأنهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان ، وما القيادة بعد النبيّ إلّا استمرارا لوظائف النبوة ، وإن كانت النبوة مختومة ولكنّ الوظائف والمسئوليات كانتا مستمرتين.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٦٣ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢ وإحقاق الحق ج ٤ / ٦٠ نقله عن أكابر علماء العامة بطرق متعددة صحيحة. وفي تفسير الثعلبي : قال النبيّ «.. ومن يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي ..» وكذا في فرائد السمطين للحمويني وكنز العمال المطبوع بهامش المسند ج ٥ / ٤١ ، ط / مصر.


«إن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب آخر ـ عن مدى الشجاعة الروحية التي كان يتحلّى بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث قام ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدهاة والسادة المجربون عن قبول دعوة النبيّ خوفا وتهيبا أو عدم اعتقاد بما جاء به النبيّ ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلام في ربيعة الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كم فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!

صحيح أن عليّا عليه‌السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنا إلّا أن معاشرته الطويلة للنبي قد هيأت قلبه لتقبّل الحقائق التي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها» (١).

يرد على ذيل الكلام الأخير :

إنّ قوله «لو لا معاشرة الإمام عليّ الطويلة للنبيّ لم يكن قلبه مهيئا لتقبل الحقائق» غير صحيح وذلك لقيام الأدلة القطعية على عكس مدّعاه ، لأن معارف الإمام الحجّة من الله تعالى على عبيده ليست كسبية أو تمرينية يتلقاها عبر الأساتذة والمعلّمين ، بل إن قلبه مرآة الحق تنعكس عليها أشعة الفيض الإلهي منذ كان الإمام عليه‌السلام فطيما بل مذ كان أول خلق الله تعالى.

فعجبا من كلام المحقّق المذكور كيف ينسب الضعف لقلب أمير المؤمنين حتى صارت معاشرته لرسول الله سببا لتلقيه المعارف والحقائق وها هو الخضر عليه‌السلام لم يكن معاشرا لرسول الله وقد أفاض الله تعالى عليه من لدنه علما وحباه المولى عزوجل قوة قلب كانت وما زالت مضرب مثل في القرآن الكريم لكل سالك وعارف ، ولو لا ما كان يملك الخضر من شدة قابلية وسعة قلب لما أعطاه الله ما لم يعط موسى بن عمران كليم الله تعالى؟!

__________________

(١) سيّد المرسلين للسبحاني ج ١ / ٣٩٧.


وكذا ما قصّه القرآن علينا من عيسى روح الله حيث حباه المولى بمعارف الكتاب وهو في المهد صبيا : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١).

(٣) الحديث الثالث :

حديث الوصية :

من المسند (٢) عن سلمان ، قال : يا رسول الله ، من وصيّك؟

قال : يا سلمان ، من كان وصيّ أخي موسى؟

قال : يوشع بن نون.

قال : فإن وصيي ووارثي ، يقضي ديني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٤) الحديث الرابع :

حديث : من أحب أصحابك إليك؟

من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن مردويه ، وهو حجة عند المذاهب الأربعة ، رواه بإسناده إلى أبي ذر ، قال : دخلنا على رسول الله فقلنا : من أحبّ أصحابك إليك؟

وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا من دونه؟

قال : هذا عليّ أقدمكم سلما وإسلاما (٣).

__________________

(١) سورة مريم : ٣٠.

(٢) إحقاق الحق ج ٤ / ٧٥ والهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ / ١١٣ وكنز العمال ج ٦ / ١٥٦ ، منتخب كنز العمال في هامش المسند ج ٥ / ٣٢ ، تهذيب التهذيب ج ٣ / ١٠٦ ، كفاية الطالب ص ٢٩٣ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٧٧ ، الرياض النضرة ص ١٧٨ ، ذخائر العقبى ص ٧١.

(٣) مناقب المرتضوي للترمذي ص ٩٥ ، كنز العمال ج ٦ / ٣٩٥ وإحقاق الحق ج ٤ / ٣٢٤ ـ ٣٣٥ و ٣٣٧ وفي ج ٥ / ٣١٨ ـ ٣٨٦ فراجع.


(٥) الحديث الخامس :

حديث : لكل نبي وصي ووارث.

من كتاب ابن المغازلي الشافعي ، بإسناده عن رسول الله قال : لكل نبي وصيّ ووارث ، وإنّ وصيي ووارثي عليّ بن أبي طالب.

(٦) الحديث السادس :

حديث : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

في مسند أحمد ، وفي الجمع بين الصحاح الستة ما معناه : أن رسول الله بعث براءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلمّا بلغ ذا الحليفة ، بعث إليه عليّا ، فردّه ، فرجع أبو بكر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟

قال : لا ، ولكن جبرائيل جاءني وقال :

لا يؤدي عنك إلّا أنت ، أو رجل منك (١).

(٧) الحديث السابع :

حديث المناجاة.

في الجمع بين الصحاح الستة ، وتفسير الثعلبي ، ورواية ابن المغازلي الشافعي آية المناجاة ، واختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بها لمّا تصدّق بدينار حال المناجاة ، ولم يتصدّق أحد قبله ، ولا بعده ، ثم قال الإمام عليّ عليه‌السلام : إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ٣ و ١٥١ و ٢٣٠ وج ٣ / ٢٨٣ ، وتفسير الطبري ج ١٠ / ٤٦ وخصائص النسائي ص ٢٠ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ / ٥١. كنز العمال ج ١ / ٢٤٦ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١١٩ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ١٨٣ ، الدر المنثور ج ٣ / ٢٠٩ رواه عن كثير من حفاظ الحديث ، شواهد التنزيل ج ١ / ٢٣٣ ، إحقاق الحق ج ٣ / ٤٢٩ وج ٧ / ٤١٩.


غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) وبي خفّف الله تعالى عن هذه الأمة ، فلم تنزل في أحد من بعدي (٢).

(٨) الحديث الثامن :

حديث المباهلة (آية المباهلة).

في الجمع بين الصحيحين : أنه لمّا أراد المباهلة لنصارى نجران ، احتضن النبيّ الإمام الحسين ، وأخذ بيد الإمام الحسن ، والصديقة فاطمة تمشي خلفه ، والإمام عليّ المرتضى يمشي خلفها ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمّنوا ، فأي فضل أعظم من هذا ، والنبي يستسعد بدعائه ، ويجعله واسطة بينه وبين ربه (٣).

وقد أشكل الفضل بن روزبهان حيث قال :

«قصة المباهلة مشهورة ، وهي فضيلة عظيمة كما ذكرنا (٤) ، وليس فيه دلالة على النص ، وأما ما ذكره من أن النبيّ كان يستسعد بدعائه ، فهذا لا يدل على احتياج النبيّ إلى دعاء أهل بيته وتأمينهم ، ولكن عادة المباهلة كما ذكر الله تعالى في القرآن أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ليكون أهيب في أعين المباهلين ويشتمل البهلة إياه وقومه وأتباعه ، وهذا سر طلب التأمين عنهم ، لا أنه استعان بهم وجعلهم واسطة بينه وبين ربه ، ليلزم أنهم كانوا أقرب إلى الله تعالى منه ، هذا يفهم

__________________

(١) سورة المجادلة : ١٢.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ج ٣ / ٤٢٨ ، مستدرك الحاكم ج ٢ / ٤٨١ ، أسباب النزول ص ٢٣٤ ، تفسير الطبري ج ٢٨ / ١٤ ، تفسير الخازن ج ٤ / ٢٥٩ ، تفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٧١ ، جامع الأصول ج ٢ / ٤٥٢ ، روح المعاني ج ٢٨ / ٢٨ ، إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٦ وج ٣ / ١٢٩.

(٣) نهج الحق للعلّامة الحلي ص ٢١٥ وصحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ كتاب الفضائل ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٢٦٦ و ٣٠٠ ومسند أحمد ج ١ / ١٨٥ ، تفسير الطبري ج ٣ / ٢١٢ ، شواهد التنزيل ج ١ / ١٢١ ، التاج الجامع للأصول ج ٤ / ٨٤ ، مستدرك الحاكم ج ٤ / ١٥٠ ، إحقاق الحق ج ٣ / ٤٦ ـ ٧٦ وج ٧ / ٤٢٧.

(٤) ذكر ذلك في معرض ردّه على العلامة الحلي ، لاحظ إحقاق الحق ج ٣ / ٦٣.


من كلامه ، ومن معتقده الميشوم الباطل ، نعوذ بالله من أن يعتقد أن في أمة رسول الله من كان أقرب إلى الله منه» (١) انتهى.

والجواب :

١ ـ لا ريب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل صالح مقرّب لا يرى لنفسه استحقاقا في استجابة دعائه (٢) ولا يجعل الاعتماد على نفسه ، بل يتوسل إلى الإجابة بأنواع الوسائل التي يقتضيها المقام ، كتعظيم الله سبحانه وتمجيده بأسمائه الحسنى ، والتملق له بحمده وشكر نعمائه وإظهار المذلة والخضوع لجنابه الأرفع قولا وفعلا بأن يجلس على الأرض ويعفّر وجهه بالتراب مثلا ، وخير شاهد لما نقول أن آدم عليه‌السلام لم يتب الله تعالى عليه حتى دعاه بالأسماء المقدّسة : محمّد ـ عليّ ـ فاطمة ـ حسن ـ حسين. وكذا غيره من الأنبياء العظام أمثال نوح وإبراهيم كما في بعض الأخبار أنهما ناجيا الله سبحانه بالرسول محمّد وعترته الطاهرة مع قربهم من الله تعالى ، لكنهم فعلوا ذلك لمحبوبية تلك الذوات المطهّرة المدلول عليها بالأسماء ، وربما تقتضي أهمية المطلوب أن يجمع معه المقربين لاحتمال أن للاجتماع مدخلية في حصول الإجابة أو مبادرتها ، أو كونها تخص أحدهم لخصوصية هناك ، فحينئذ لا مانع من استسعاد النبيّ بدعاء أهل بيته عليهم‌السلام واستعانته بهم في التأمين على دعائه ، وجعلهم واسطة بينه وبين ربه ، وإن كانوا معه بدرجة واحدة من القرب إلى الله تعالى ، وليس المراد من الواسطة جعلهم واسطة في الهداية بأن يكونوا رسولا بينه وبين الله تعالى ، بل المراد جعلهم وسائط ووسائل بينه وبين الله تعالى في طلب الرحمة عليه وعليهم ونزول العذاب على مخالفيهم ،

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٧.

(٢) يشهد لهذا ما طلبه النبي موسى عليه‌السلام من ربه حيث لم يستأثر حالة الدعاء لنفسه ولا استكبر عن الطلب منه تعالى لأخيه هارون كي يشركه في التسبيح والدعاء وما شابه ذلك ، قال الله حكاية عنه (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (سورة طه : ٢٥ ـ ٣٤).


وإظهار فضلهم على سائر الأمة من الأقارب والأباعد والأكابر والأصاغر ، فلا معنى لما زعمه الفضل بن روزبهان من لزوم أنهم أقرب إلى الأمة منه ، وليس هو معتقدا للعلّامة الحلي (قدس‌سره) ولا يجوزه أحد من الإمامية ، ولكن يجوّزه الباقلاني الأشعري القائل بجواز أن يكون في أمة محمّد من هو أفضل من محمّد مذ بعث إلى أن مات (١). وهو لازم مذهب الأشاعرة من نفيهم للحسن والقبح العقليين.

٢ ـ إنّا لا نسلّم أن عادة المباهلة ما ذكره ابن روزبهان من جمع الأهل والأولاد ، بل قد تكون جمعا ، وقد تكون إفرادا ، ولو كان كذلك ، لكان ضمّ العباس بن عبد المطلب (الذي استسقى به أبو بكر وعمر (٢)) وغيره من بين هاشم أدخل في الهيبة من ضم طفلين وأمهماعليهم‌السلام ، ولكان اشتمل من الاكتفاء بآل العباء ، مع أن شمول البهلة للمباهل مما لا يظهر مدخلية في ذلك ، بل الظاهر كفاية اختصاصه بنفس المباهل ، وما ذكره الله تعالى في القرآن لا يدل على تقرير عادة المباهلة على ذلك ، بل الظاهر أنه تعالى أمر النبيّ وآل العباء معه لقربهم من جنابه الأقدس ، فظهر أن إظهاره للسر المذكور إنما هو نتيجة أكل الحشيش (٣).

ولو سلّم شوم ذلك الاعتقاد ، فمعارض بما سيرويه الناصب في فصل تبرأ الصحابة عن عثمان ، حيث روي عن عثمان أنه قال مخاطبا للمسلمين المحاصرين له في داره : أنشدكم الله تعالى والإسلام ، هل تعلمون أن رسول الله كان بثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض ، فركضه برجله فقال : اسكن ثبير ، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان. فإن هذا صريح في استسعاد النبيّ بأبي بكر وعمر وعثمان في دفع الخوف والبلية ، وبما ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة في الفصل الرابع في فضائل عمر بن الخطاب حيث قال : أخرج أبو داود عن عمر أن رسول الله قال له : لا تنسنا يا عمر من دعائك.

__________________

(١) دلائل الصدق ج ١ / ٣٧٤ ، نقلا عن ابن حزم في أول الجزء الرابع من الملل والنحل.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٣٠٥ ح ١٠١٠.

(٣) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٨.


وأخرج أحمد وابن ماجه عن عمر أيضا : أن النبيّ قال له : يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا.

وبالجملة : المباهلة إنما تقع بين الخصمين ، ومن المعلوم أن خصم أهل نجران هو النبيّ خاصة ، لكن لمّا كان إدخال الإمام عليّ والصدّيقة فاطمة وولديهما الإمامين الحسن والحسين معه في المباهلة يشتمل على فرائد أدخلهم معه :

الأولى : إظهار اعتماده على أنه المحق ، فإنّ إدخال أعزّ الناس في محل الخطر دليل على صوابية طرحه وعلى اعتقاده بالنجاح والسلامة.

الثانية : الاستسعاد بهم والاستعانة بدعائهم ، ولذا أمرهم بالتأمين على دعائه ، ولو كان ما ذكره الفضل صحيحا ـ من أن سر طلب التأمين شمول البهلة لهم لا الاستعانة بدعائهم ـ لكان خروجهم معه كاف في شمول البهلة لهم بلا حاجة إلى تأمينهم ، ولو كان التأمين هو السرّ في شمول البهلة لهم ، فمن أين علم شمولها لقوم النبيّ وأتباعه ولم يأخذهم معه وما أراد تأمينهم.

الثالثة : بيان فضلهم على الأمة بإشراكهم معه كما أمر الله تعالى دون أقاربه وخاصته في إثبات دعوى النبوة بالمقام الشهير المشهود ، فإنه منزلة عظمى لا سيّما للإمام عليّ عليه‌السلام الذي عبّر الله سبحانه عنه بنفس النبيّ.

ودعوى أن عادة المباهلة أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده كاذبة وإلّا لما خالفها النبيّ ، ولاعترض عليه النصارى في المخالفة ، كدعوى شمول البهلة للأتباع وإلّا لأدخل النبيّ معه ولو واحدا منهم ، وكون وجوده هو الأصل والمدار فيستغني عن وجودهم وارد في المرأة والطفلين بالأولوية ، فلم لا أستغني عنهم (١).

وقوله «ليكون أهيب في عيون المباهلين» يضحك الثكلى ، وذلك لأنه لو كان الداعي لوجودهم هو الهيبة فلم خصّ شابا وامرأة وطفلين وترك المشايخ الكبار والحفدة والأنصار؟!

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٢٥١.


(٩) الحديث التاسع :

حديث المنزلة.

في مسند أحمد ، من عدة طرق ، وفي صحيح البخاري ومسلم من عدة طرق : أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج إلى تبوك ، استخلف عليّا أمير المؤمنين في المدينة ، وعلى أهله ، فقال الإمام عليّ : ما كنت أوثر أن تخرج في وجه إلّا وأنا معك ، فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي (١)؟ وتوضيح الاستدلال هو أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت للإمام عليّ جميع مراتب هارون من موسى واستثنى النبوة ويبقى الباقي على عمومه ، ومن جملة المنازل أنه كان خليفة لموسى عليه‌السلام بدليل قوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٢) فكان خليفة في حياته فيكون خليفة بعد وفاته لو عاش ، لكنه لم يعش ، والإمام عليّ عاش ، فتكون خلافته ثابتة.

قال الناصب (٣) خفضه الله :

هذا ـ حديث المنزلة ـ من روايات الصحاح ، وهذا لا يدل على النصّ كما ذكره العلماء ، ووجه الاستدلال به أنه نفى النبوة من عليّ وأثبت له كل شيء ، ومن جملته الخلافة. ثم أجاب الفضل عن هذا : بأنّ هارون لم يكن خليفة بعد موسى ، لأنه مات قبل موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام ، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور لقوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ، وأيضا يثبت به لأمير المؤمنين فضيلة الأخوة والموازرة لرسول الله في تبليغ الرسالة وغيرهما من الفضائل وهي مثبتة يقينا لا شك فيه.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ بطريقين ، وصحيح البخاري ج ٤ / ٥٧٧ كتاب الفضائل ، ومسند أحمد ج ١ / ١٧٠ و ١٧٣ و ١٧٥ و ١٨٥ ومسند أبي داود ج ١ / ٢٩ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠ ، أسد الغابة ج ٤ / ٢٦ وج ٥ / ٨ ، خصائص النسائي ص ١٥ ، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٢ ، ذخائر العقبى ص ١٢٠ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٠٩ ، إحقاق الحق ج ٥ / ١٣٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٣) هو الفضل بن روزبهان الأشعري.


يورد عليه :

لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم ، فيثبت لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوة ، ومن منازل هارون الإمامة لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) هو الأعم من النبوة التي هي التبليغ عن الله تعالى ومن الإمامة التي هي الرئاسة العامة فإنهما أمران مختلفان ، ولذا جعل الله سبحانه إبراهيم نبيا وإماما بجعلين مستقلين وكان كثير من الأنبياء غير أئمة كمن كانوا في زمن ابراهيم وموسى فإنهم أتباع لهما وخاضعون لسلطانهما ، ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية الأخبار السابقة المتعلقة بآخر الآيات التي ذكرناها في الخاتمة المصرّحة تلك الأخبار بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فقال : «اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وتحل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري» فإن المراد هنا بالإشراك في أمره هو الإشراك بالإمامة لا الإشراك بالنبوة كما هو ظاهر ولا المعاونة على تنفيذ ما بعث فيه لأنه قد دعا له أولا بأن يكون وزيرا له.

وبالجملة : معنى الآية الكريمة أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوة والإمامة ، ولذا نقول إن خلافة هارون لموسى لما ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ممن لا حكم ولا رئاسة له ذاتا بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ولذا لا يتصرف بحصوره ، فكذا أمير المؤمنين عليّ بحكم الحديث لدلالته على أن له جميع منازل هارون التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوة ، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ، فلا بدّ أن تستمر إمامته إلى ما بعد وفاته ولا سيّما أن النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ولذا قال : إلا أنه لا نبيّ بعدي ، ولو تنزلنا عن ذلك فلا إشكال بأن من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده لأن الشريك أولى الناس بخلافة شريكه فكذا يكون الإمام عليّ عليه‌السلام ، مع أن الآية الكريمة قاضية بفضل هارون على سائر قوم موسى فكذا عليّ بالنسبة إلى


المسلمين فيكون إمامهم.

وقد علم على جميع الوجوه أنه لا ينافي الاستدلال بالحديث على المدّعى موت هارون قبل موسى كما علم بطلان أن يكون المراد مجرد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصة فإن خصوص المورد لا يخصص العموم الوارد ، ولا سيّما أن الاستخلاف بالمدينة ليس مختصا بأمير المؤمنين عليه‌السلام لاستخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيره بها في باقي الغزوات ، ومقتضى الحديث أن الاستخلاف منزلة خاصة به كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلا النبوة ، فلا بدّ أن يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة العامة له إلى ما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

واستدل الفضل على إرادة الاستخلاف بالمدينة خاصة حين ذهاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك بقوله تعالى (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وهو خطأ ظاهر لأن مجرد وقوع الاستخلاف الخاص من موسى لا يدل على اختصاص خلافة هارون في ذلك المورد دون غيره ، فكذا استخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام بل العبرة بعموم الحديث مع اقتضاء شركة هارون لموسى في أمره ثبوت الخلافة العامة له فكذا الإمام عليّ عليه‌السلام. ويدل على عدم إرادة ذلك الاستخلاف الخاص بخصوصه ورود الحديث في موارد لا دخل لها به (فمنها) ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علل تحليل المسجد لعلي جنبا بأنه منه بمنزلة هارون من موسى.

(ومنها) ما رواه في كنز العمال عن أم سليم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها يا أم سليم إن عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى (ومنها) ما رواه في الكنز أيضا عن ابن عبّاس أن عمر قال : «كفروا عن ذكر عليّ بن أبي طالب فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في عليّ ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس: كنت وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ متكئ على عليّ حتى ضرب على منكبه ثم قال : أنت يا عليّ أول المؤمنين إيمانا وأولهم إسلاما ثم قال أنت مني بمنزلة


هارون من موسى وكذب من زعم أنه يحبني ويبغضك». (ومنها) ما في الكنز أيضا عن زيد بن أبي أوفى في قصة المؤاخاة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلّا لنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي الحديث (ومنها) ما رواه النسائي في الخصائص بالنسبة إلى ما يتعلق ببنت حمزة حيث اختصم بتربيتها عليّ وجعفر وزيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ أنت مني بمنزلة هارون من موسى الحديث ، إلى غيرها من الموارد الكثيرة. ويشهد أيضا لعموم المنزلة ما ورد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمى الحسنين بالحسنين اقتفاء لهارون في تسمية ولديه بشبر وشبير كما في مسند أحمد بموارد عديدة فلذلك ونحوه شاهد بأن الإمام عليّا عليه‌السلام شبيه بهارون بجميع المزايا وأنّ له خصائصه كلها وأظهرها الإمامة بل يستفاد من حديث التسمية إمامة الحسنين أيضا كولدي هارون عليه‌السلام.

وبالجملة :

لقد تضمن حديث المنزلة النصّ على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بالخلافة ، مع دلالته القطعية على أفضليته ـ وبإقرار الخصم بذلك ـ ولم يشركه فيه أحد سواه ، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى إلا ما خصّه العرف من الأخوّة النسبية ، واستثناه هو من النبوة ، فقد جعل النبيّ له عليه‌السلام كافة منازل هارون من موسى إلّا المستثنى منها لفظا وعقلا.

«وقد علم كل من تأمّل معاني القرآن ، وتصفح الروايات والأخبار أنّ هارون كان أخا موسى عليه‌السلام لأبيه وأمه ، وشريكه في أمره ، ووزيره على نبوته وتبليغه رسالات ربه ، وأن الله سبحانه شدّ به أزره ، وأنه كان خليفته على قومه ، وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته ، وأنه كان أحبّ قوله إليه وأفضلهم لديه.

قال الله عزوجل حاكيا عن موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ


بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (١). فأجاب الله سبحانه مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وبلّغه أمنيته حيث يقول : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).

وقال تعالى حاكيا عن موسى (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٣) فلما جعل رسول الله عليّا منه بمنزلة هارون من موسى ، أوجب له لذلك جميع ما عددناه ، إلّا ما خصّه العرف من الأخوة ، واستثناه هو من النبوة لفظا ، وهذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها على حال.

ولو علم الله عزوجل أن لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه حسب ما قدّمناه ، بل علم أن المصلحة في استخلافه ، وأن إقامته في دار هجرته مقامه أفضل الأعمال ، فدبّر الخلق والدين بما قضاه في ذلك وأمضاه على ما بيّناه وشرحناه» (٤).

(١٠) الحديث العاشر :

حديث خيبر وإعطائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية للإمام عليّ عليه‌السلام.

في مسند أحمد ، من عدة طرق ، وصحيحي البخاري ومسلم ، من طرق متعددة ، وفي الجمع بين الصحاح الستة أيضا :

عن عبد الله بن بريدة ، قال : سمعت أبي يقول : حاصرنا خيبر ، وأخذ اللواء أبو بكر ، فانصرف ، ولم يفتح له ، ثم أخذه عمر من الغد ، فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد ، فقال رسول الله : إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتى يفتح الله له.

__________________

(١) سورة طه : ٢٥ ـ ٣٣.

(٢) سورة طه : ٣٦.

(٣) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٤) إرشاد المفيد ص ١٤١ من الفصل ٤٣ من الباب ٢.


فبات الناس يتداولون ليلتهم ، أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس ، غدوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال النبيّ : أين عليّ بن أبي طالب؟

فقالوا : إنه أرمد العين ، فأرسل إليه ، فأتى ، فبصق رسول الله في عينيه ودعا له ، فبرئ فأعطاه الراية ، ومضى عليّ ، فلم يرجع حتى فتح الله على يديه (١).

وفي الخصال بإسناده عن عامر بن واثلة قال : سمعت عليّا عليه‌السلام يقول يوم الشورى : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله حين رجع عمر يجبّن أصحابه ويجبّنونه قد ردّ راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهزما ، فقال رسول الله «لأعطين الراية غدا رجلا ليس بفرّار ، يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله عليه» فلمّا أصبح قال : «ادعوا لي عليّا» فقالوا : يا رسول الله هو رمد ما يطرف ، فقال جيئوني به ، فلمّا قمت بين يديه تفل في عيني وقال : اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد ، فأذهب الله عني الحرّ والبرد إلى ساعتي هذه ، فأخذت الراية ، وهزم الله المشركين ، وأظفرني بهم ، غيري؟ قالوا : اللهم لا .. (٢).

وفي رواية : أن أبا بكر أخذ راية المهاجرين ليقاتل بها ثم رجع منهزما ، ثم أخذها عمر من الغد فرجع منهزما يجبّن الناس ويجبّنونه حتى ساء رسول الله ذلك ، فقال : لأعطين الراية غدا رجلا كرار غير فرار ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أما عليّ فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه ، وقال عليّ عليه‌السلام لمّا سمع مقالة رسول الله : اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس ، قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ، ثم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٧٥ ، صحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ ، مسند أحمد ج ١ / ٩٩ وج ٥ / ٣٣٣ ، مجمع الزوائد ج ٦ / ١٥ وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، خصائص النسائي ص ٥ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣٨ و ٤٣٧ ، والنهاية لابن الأثير ج ٢ / ١٢٧ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٣٦٩ وج ٧ / ٤٣٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢٠ ح ١٥ ، نقلا عن خصال الشيخ الصدوق.


قمت على رجلي قائما ، رجاء أن يدعوني ، فقال : «ادعوا لي عليّا» فصاح الناس من كل جانب إنه أرمد رمدا لا يبصر موضع قدمه ، فقال : «أرسلوا إليه وادعوه» فأتي به يقاد ، فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه ، فقام وكأنّ عينيه جزعتان ، ثم أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة ، فو الله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن ... فركّز الراية ، فخرج إليه مرحب ، فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط ، وحمل الإمام عليّ عليه‌السلام والمسلمون عليهم فانهزموا.

قال أبان : وحدّثني زرارة قال : قال الإمام الباقر عليه‌السلام : انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه ، فاجتذبه اجتذابا وتترّس به ، ثم حمله على ظهره ، واقتحم الحصن اقتحاما ..» (١).

وعن الصدوق في أماليه بإسناده عن عبيد الله بن موسى الحبّال ، عن محمّد بن الحسين الخشّاب ، عن محمّد بن محصن ، عن ابن ظبيان ، عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في رسالته إلى سهل بن حنيف رحمه‌الله والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية ، ولا حركة غذائية ، لكني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضيئة (مضية خ ل) وأنا من أحمد كالضوء من الضوء ، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لمّا وليت ، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لمّا بقيت ، ومن لم يبال متى حتفه عليه ساقط فجنانه في الملمات رابط (٢).

قال الناصب خفضه الله :

أقول : حديث خيبر صحيح ، وهذا من الفضائل العليّة لأمير المؤمنين عليه‌السلام لا يكاد يشاركه فيها أحد ، كم من فضائل مثل هذا؟ والعجب أن كل هذه الفضائل يرويه من كتب أصحابنا ويعلم أنها في غاية الاهتمام بنشر مناقب أمير المؤمنين عليه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢١ ح ١٧ ، نقلا عن أعلام الورى ومثله ما رواه أحمد زيني دحلان في هامش السيرة الحلبية ج ٢ / ١٩٨ ، والمناقب لابن المغازلي ص ١٧٩ رقم ٢١٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢٦ ح ٢٥ ، نقلا عن أمالي الصدوق.


آلاف التحية والثناء ، وفضائله ، وما هم كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة ، فلو كان هناك نص كانوا مهتمين لنقله ونشره كاهتمامهم في نشر فضائله ومناقبه لخلوهم عن الأغراض والإعراض عن الحق.

ورده العلّامة التستري بقوله :

«إن قوله : لا يكاد يشاركه فيها أحد ، يكاد أن يكون كيدا وتمويها ناشيا من غاية نصبه وعداوته لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإلّا فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله إلى آخره ، يدل دلالة قطعية على أن هذه الأوصاف ما كانت في أبي بكر وعمر ، ألا ترى أن السلطان إذا أرسل رسولا في بعض مهماته ولم يكف الرسول ذلك المهم على وفق رأي السلطان فيقول السلطان : لأرسلنّ في ذلك المهم رسولا كافيا عالما بالأمور ، دل دلالة قطعية على أن هذه الصفات ما كانت ثابتة في الرسول الأول ، وأن الرسول الثاني أفضل من الأول ، وكذا هاهنا ، وبالجملة قد بان بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، ثبوت محبة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام عليّ عليه‌السلام ، ولو لا اختصاص عليّ عليه‌السلام بغاية المرتبة لاقتضى الكلام خروج الجماعة بأسرها عن هذه المحبة على كل حال ، وذلك محال ، أو كان التخصيص بلا معنى ، فيلحق بالعبث ومنصب النبوة متعال عن ذلك ، فثبتت هذه المرتبة لعليّ عليه‌السلام بدلالة قوله : كرار غير فرار ، وهي منتفية عن أبي بكر وعمر لفرّهما وعدم كرّهما ، وفي تلافي أمير المؤمنين عليه‌السلام بخيبر ما فرط من غيره ، دليل على توحّده بزيادة الفضل ومزيته على من عداه ، ولا ريب أن غاية المدح والتعظيم والتبجيل المحبة من الله ورسوله لأنها النهاية ولا ملتمس بعدها ولا مزيد عليها وهي الغاية القصوى والدرجة العظمى والله ذو الفضل العظيم.

وأما ما ذكره من أن المصنّف يروي هذه الفضائل من كتب أهل السنّة ، فمسلّم ، ووجهه ظاهر مما قررناه سابقا ، لكنهم حين نقلوا هذه الأحاديث لم يكن يفهموا لحماقتهم أنها مما يصير حجة للشيعة ، فلا يدل ذلك على إخلاصهم وخلاصهم عن الأغراض ، ولهذا ترى المتأخرين من أهل السنّة إنهم إذا نبّههم


الشيعة بما يلزمهم من أحاديث المتقدمين يبادرون إلى قدحها ، تارة في سندها ، وتارة في دلالتها ، وتارة في تأويلها ، وتارة بتخصيصها ، وتارة بالزيادة والنقصان كما أريناكه مرارا» (١).

وأما قوله : وما هم كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة ، فلعمري لقد أراد أن يفضح فافتضح لأنه يطلب منا أن نكذب ونحدّث بما لا أصل له مما أحدثه حب الدنيا وحدا إليه الرجاء والخوف في أيام معاوية وأشباهه ، ويطلب منا أن نروي ما يخالف العقل والدين : كالأخبار القائلة أن أبا بكر وعمر لا يحبان الباطل الدالة على أن النبيّ يحبه حيث غنّى له المغنون والمغنّيات كما يروون ، وكالأخبار القائلة لو لم أبعث لبعث عمر ، ولو كان نبي بعدي لكان عمر المستلزمة لجواز بعثة من سبق منه الكفر ، وكروايات تبشير العشرة بالجنّة ، وكرواية أن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنّة مع أنه لا كهول فيها ، وكرواية دعاء النبي لمعاوية أن يجعله الله هاديا مهديا مع ظهور الضلال على صفحات أفعاله وأقواله : من قتله النفوس البريئة ، وحربه لمن حربه حرب الله ورسوله ، وسبّه لمن سبّه سبّهما ، وإلحاقه العهار بالنسب مراغمة للشريعة الأحمدية ، إلى نحو ذلك من أخبار فضائلهم.

(١١) الحديث الحادي عشر :

حديث برز الإيمان.

روى الجمهور : أن الإمام عليّا عليه‌السلام لمّا برز إلى عمرو بن عبد ود العامري في غزاة الخندق ، وقد عجز عنه المسلمون ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه (٢).

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٣٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ج ١٩ / ٦١ وإحقاق الحق ج ٦ / ٩ وج ٧ / ٤٣٥ نقلا عن الفضل بن روزبهان الأشعري.


وقد وافق على الحديث كبار علماء العامة ، منهم ابن أبي الحديد والفضل بن روزبهان الأشعري حيث قال الأخير :

«صح هذا أيضا في الخبر ، وهذا أيضا من مناقبه وفضائله التي لا ينكره إلّا سقيم الرأي ، ضعيف الإيمان ، ولكنّ الكلام في إثبات النصّ وهذا لا يثبته» (١).

يرد عليه :

أنه لمّا جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام كل الإيمان بإثبات كلّه إليه ، دل على أنه سيّد جميع المؤمنين من الأولين والآخرين عدا رسول الله لأنه نفسه بنص آية المباهلة ، بل هو قوام الإيمان ، لأن ثبات إيمان الكل ببركته ، فيكون أفضل من الكل ، والأفضل أحق بالإمامة ، لقبح تفضيل المفضول ، وأصرح من هذا الحديث في الأفضلية ما اشتهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لضربة عليّ عليه‌السلام يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» (٢). وفي لفظ آخر : «لمبارزة عليّ عليه‌السلام لعمرو أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة» (٣).

هذا مضافا إلى أن الحديث المزبور يقضي به العقل إذ بقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام لعمرو خمدت جمرة الكفر وانكسرت عزيمة الشرك ، فكان هو السبب في بقاء الإيمان واستمراره ، وهو السبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدين ، من هنا كان دعاء رسول الله له ، فقد روى ابن أبي الحديد مرفوعا أنّ رسول الله لمّا بارز عليّ عليه‌السلام عمروا ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه ، قائلا :

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٣٥.

(٢) المواقف للإيجي ص ٦١٧ ، ط / اسلامبول ، نهاية العقول في دراية الأصول لفخر الدين الرازي ص ١١٤ ، والتفتازاني في شرح المقاصد ج ٢ / ٢٣٠ ، وينابيع المودة ص ٩٥ و ١٣٧ ، السيرة الحلبية ج ٢ / ٣٢٠.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣٢ ، تاريخ بغداد ج ١٣ / ١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ص ٤٥ ، شواهد التنزيل ج ٢ / ٥ ، وفرائد السمطين ج ١ / ٢٥٥.


«اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، فاحفظ عليّ اليوم عليا ، ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين» (١).

(١٢) الحديث الثاني عشر :

حديث سد الأبواب إلا باب الإمام عليّ عليه‌السلام.

في مسند أحمد ، من عدة طرق : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ ، فتكلم الناس ، فخطب رسول الله فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئا ولا فتحته ، وإنما أمرت بشيء فاتّبعته (٢).

قال الناصب خفضه الله :

«كان المسجد في عهد رسول الله متصلا ببيت رسول الله وكان عليّ ساكن بيت رسول الله لمكان ابنته ، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يترددون ويزاحمون المصلين ، فأمر رسول الله بسد الأبواب إلا باب عليّ ، وقد صح في الصحيحين أن رسول الله أمر بأن يسدّ كل خوخة في المسجد إلّا خوخة أبي بكر ، والخوخة الباب الصغير ، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعليّ».

يرد عليه :

إن أراد بقوله : إن عليّا أمير المؤمنين كان ساكن بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه كان ساكن الحجرة المخصوصة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأزواجه ، فهذا كذب ظاهر ، وإن أراد : أنه كان ساكنا في بعض الحجرات العشر التي كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا مسلّم ، ولكنه لا يقتضي عدم سدّ بابه لو كانت المصلحة في سدّ الأبواب الباقية رفع مزاحمة

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ج ١٩ / ٦١ وبحار الأنوار ج ٢٠ / ٢١٥.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ١٧٥ وج ٤ / ٣٦٩ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٢٥ وخصائص النسائي ص ١٣ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ ، الدر المنثور ج ٦ / ١٢٢ ، الصواعق المحرقة ص ٧٦ ، وكنز العمال ج ٦ / ١٥٥ ، أسد الغابة ج ٣ / ٣١٤ ، إحقاق الحق ج ٥ / ٥٤١.


المصلين ، لأنّ تردد الإمام عليّ وأولاده عليهم‌السلام وعبيده ومواليه أيضا كان مزاحما ، فدلّ ذلك على أن تخصيص باب مدينة العلم لم يكن لأجل ذلك ، وإنما كان لزيادة درجاته وطهارته وشرفه وجواز استطراقه في المسجد ولو جنبا ، كما ورد في الحديث الآخر المشهور المذكور في صحيح الترمذي وغيره بسنده عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك.

وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله : ألا إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء وكل جنب من الرجال إلّا على محمّد وأهل بيته عليّ وفاطمة والحسن والحسين (١) ، وفي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المذكور ، ولكني أمرت بشيء فاتّبعته إشارة أيضا إلى ما ذكر فافهم.

وأما ما ذكره الناصب من حديث خوخة أبي بكر فلا يصلح لأن يكون موازيا في الدلالة إلى الفضل لفتح الباب وهذا ظاهر من تفسير الجوهري الخوخة بالكوة في الجدار يؤدي الضوء ، وتفسيرها بالباب الصغير من جملة تمويهات النّاصب ، فلا يلتفت إليه ، مع أنّ أصل هذا الحديث ليس بمتفق عليه ، فلا يصلح للاحتجاج به على الخصم ، بل الخصم يقول : إن أصحاب النّاصب وضعوا هذا في مقابل ذاك حفظا لشأن أبي بكر وترويجا له ، وبالجملة نحن إنما نحتج برواية من لم يعتقد كون علي عليه‌السلام أفضل الصحابة على الإطلاق ، فإن أتيتم في فضائل الصحابة الثلاثة برواية من لم يعتقد أفضليتهم فقد تمّت المعارضة ، وإلّا فلا ، على أنّ ذلك معارض بما رواه ابن الأثير في النهاية ، حيث قال : وفي حديث آخر إلّا خوخة عليّ عليه‌السلام وإذا تعارضا تساقطا ، وبقي حديث الباب سالما مسلما لباب مدينة العلم ، وتوضيح المقام على وجه يتضح به جليّة الحال وسريرة المقال ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنى أفعاله في الأمور الدنيوية من الحركة والسكون على ظاهر الحال من

__________________

(١) صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠٠ وكنز العمّال ج ٦ / ١٥٩ وسنن البيهقي ج ٧ / ٦٥ ومجمع الزوائد للهيثمي ج ٩ / ١١٥ والصواعق المحرقة ص ٧٣.


كونها صالحة مباحة على أصلها ، كفتح أبواب الصحابة وإعطائه الراية ، ودفع الآيات من البراءة لأبي بكر ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم الباطن استقلالا ولا يعلمها إلا الله سبحانه ، وسدّ الأبواب وأخذ الآيات من أبي بكر بوحي من الله تعالى كما نقله الفريقان ، وكان فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ظاهر الحال ، وفعل الباري سبحانه تعالى في المنع على باطن الحال لا على ظاهره ، فعلم من صلاح باطن الإمام عليّ عليه‌السلام ما لم يكن حاصلا للممنوع ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان اختصاصه عليه‌السلام بذلك دون غيره عبثا ، ويتعالى فعل القديم سبحانه عنه عقلا ونقلا ، بقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، فقد ثبت صلاح الباطن والظاهر لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بمقتضى الوحي من الله سبحانه وفعل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختصاص الرسول والإمام عليّ صلوات الله عليهما بفتح بابيهما دليل ظاهر على زيادة درجات المرتضى عليّ عليه‌السلام في الشرف والفضل والكرامة ، حتى لم يبق بعدها زيادة المستزيد إلى أن ألحقه الله بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجواز الاستطراق وهو جنب ، دليل لائح على طهارته وشرفه ، وكذا في حق ذريته الطاهرة عليهم الصلاة والسلام ، فإذن فقد تفرّد الإمام عليّ عليه‌السلام بذلك وهو ممّن لا يضاهيه أحد من الأمة ، ومن ثبت له ذلك كان الاتباع له أولى وأوجب والاقتداء به أوكد ، «ولنعم ما قال السيّد الحميري رحمه‌الله تعالى :

وخصّ رجالا من قريش بأن بنى

لهم حجرا فيه وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسددا

فقيل له سدّ كل باب فتحته

سوى باب ذي التقوى عليّ فسدّدا

لهم كل باب أشرعوا غير بابه

وقد كان منفوسا محسّدا

وقال رحمه‌الله تعالى :

وأسكنه في المسجد الطهر وحده

وزوجته والله من شاء يرفع

فجاوره فيه الوصيّ وغيره

وأبوابهم في المسجد الطهر شرّع

فقال لهم سدّوا عن الله صادقا

فظنوا بها عن سدّها وتمنّعوا

فقال رجال يذكرون قرابة

وما تمّ فيما ينبغي «يبتغي ظ» القوم مطمع


فعاتبه في ذاك منهم معاتب

وكان له عمّا وللعمّ موضع

فقال له أخرجت عمّك كارها

وأسكنت هذا إن عمّك يجزع

فقال له يا عمّ ما أنا الذي

فعلت بكم هذا بل الله فاقنع (١)»

(١٣) الحديث الثالث عشر :

حديث المؤاخاة والمنزلة.

في مسند أحمد بن حنبل من عدة طرق : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بين الناس ، وترك عليّا حتى بقي آخرهم ، لا يرى له أخا ، فقال : يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك وتركتني؟

فقال : إنما تركتك لنفسي ، أنت أخي ، وأنا أخوك ، فإن ذكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب ، والذي بعثني بالحق نبيّا ما أخرتك إلّا لنفسي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي.

وفي الجمع بين الصحاح الستة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مكتوب على باب الجنة لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، عليّ أخو رسول الله قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بألفي عام (٢).

(١٤) الحديث الرابع عشر :

حديث إن عليّا مني وأنا من عليّ.

من مسند أحمد بن حنبل ، وفي الصحاح الستة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدة

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٣٦ ـ ٤٣٨.

(٢) مجمع الزوائد ج ٩ / ١١١ ، ذخائر العقبى ص ٦٦ ، كنز العمال ج ٦ / ٥٩ ، حلية الأولياء ج ٤ / ٣٥٥ ، فيض القدير ج ٤ / ٣٥٥ ، ينابيع المودة ص ٥٩ ، الرياض النضرة ج ٢ / ١٦٨ أسد الغابة ج ٣ / ٣١٧ وج ٢ / ٢٢١ ، خصائص النسائي ص ١٨ ، إحقاق الحق ج ٤ / ١٧٣ ـ ١٧٦ وج ٦ / ٤٦٨ وج ٥ / ١٣٣ ـ ٢٣٤.


طرق : إن عليّا مني وأنا من عليّ ، وهو وليّ كل مؤمن بعدي ، لا يؤدي عني إلا أنا أو عليّ.

وفيه أيضا : لمّا قتل عليّ أصحاب الألوية يوم أحد ، قال جبرائيل لرسول الله : إن هذه المواساة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن عليّا مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وأنا منكما يا رسول الله.

(١٥) الحديث الخامس عشر :

حديث : إن فيك مثلا من عيسى ، أبغضه اليهود حتى اتّهموا أمه ، وأحبّه النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له بأهل (١).

وقد صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ودائما هو صادق ـ لأن الخوارج أبغضوا الإمام عليّا عليه‌السلام والنصيرية اعتقدوا فيه الربوبية.

(١٦) الحديث السادس عشر :

حديث لا يحبّك إلّا مؤمن.

في مسند أحمد بن حنبل ، وهو مذكور في الجمع بين الصحيحين ، وفي الجمع بين الصحاح الستة ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق (٢).

(١٧) الحديث السابع عشر :

حديث خاصف النعل.

في مسند أحمد بن حنبل : أن رسول الله قال : إنّ منكم من يقاتل على تأويل

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ١٦٠ ، خصائص النسائي ص ٢٧ ، الصواعق المحرقة ص ٧٤ ، نور الأبصار ص ٨٠ ، كنز العمال ج ١ / ٢٢٦ ، إحقاق الحق ج ٧ / ٢٨٤ ـ ٢٩٦.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٨٤ و ٩٥ و ١٢٨ ، صحيح مسلم ج ١ / ٣٩ ، التاج الجامع للأصول ج ٣ / ٣٣٥ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ ، سن النسائي ج ٢ / ٢٧١ ، خصائص النسائي ص ٢٧ ، ذخائر العقبى ص ٤٣ ، تاريخ الخلفاء ص ١٧٠ ، الصواعق المحرقة ص ٧٤.


القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟

قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟

قال : لا ، ولكنه خاصف النعل ، وكان الإمام عليّ يخصف نعل رسول الله في الحجرة عند الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام (١).

وفي الجمع بين الصحاح الستة ، قال رسول الله : لتنتهنّ معشر قريش ، أو ليبعثنّ الله عليكم رجلا مني امتحن الله قلبه للإيمان يضرب أعناقكم على الدين ، قيل : يا رسول الله ، أبو بكر؟ قال : لا ، قيل : عمر؟ قال : لا ، ولكن خاصف النعل في الحجرة (٢).

(١٨) الحديث الثامن عشر :

حديث الطائر :

في مسند أحمد بن حنبل ، والجمع بين الصحاح الستة ، عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيّ طائر قد طبخ له ، فقال :

اللهم ائتني بأحبّ الناس إليك يأكل معني ، فجاء الإمام عليّ فأكل معه (٣). ومنه : أنه لمّا حضرت ابن عباس الوفاة قال : اللهم إني أتقرب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب.

وفي منتخب كنز العمال عن أنس بن مالك قال : كنت أحجب النبيّ فسمعته

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ / ٣٣ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٢٢ ، خصائص النسائي ص ٤٠ ، أسد الغابة ج ٣ / ٢٨٢ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٥ ، التاج الجامع للأصول ج ٣ / ٣٣٤ ، حلية الأولياء ج ١ / ٦٧ ، الإصابة ج ٤ / ١٥٢.

(٢) كنز العمال ج ٦ / ٣٩٦ وقال : أخرجه أحمد وابن جرير وصححه ، ومستدرك الحاكم ج ٢ / ١٣٧ ، وصحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠ ، وخصائص النسائي ص ١١.

(٣) خصائص النسائي ص ٥ ، أسد الغابة ج ٤ / ٣٠ ، جامع الأصول ج ٩ / ٤٧١ ، مصابيح السنة ج ٢ / ٢٠ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٣١ ، حلية الأولياء ج ٦ / ٣٢٩ ، التاج الجامع للأصول ج ٣ / ٣٣٦ ، ذخائر العقبى ص ٦١ ، البداية والنهاية ج ٧ / ٣٥١ ، منتخب كنز العمال ج ٥ / ٥٣.


يقول : اللهم أطعمنا من طعام الجنّة فأتي بلحم مشوي فوضع بين يديه ، فقال : اللهم ائتنا بمن تحبّه ويحبك ، ويحب نبيك ويحبه نبيك ، قال أنس : فخرجت فإذا عليّ بالباب فاستأذن فلم آذن له ، ثم عدت فسمعت من النبيّ مثل ذلك فخرجت فإذا عليّ بالباب فاستأذن لم آذن له ، أحسب أنه قال ثلاثا ، فدخل بغير إذني ، فقال النبيّ : ما الذي أبطأ بك يا عليّ؟ قال : يا رسول الله جئت لأدخل فحجبني أنس ، قال : يا أنس لم حجبته؟ قال : يا رسول الله لمّا سمعت الدعوة أحببت أن يجيء رجل من قومي فتكون له ، فقال النبيّ : لا يضرّ الرجل محبة قومه ما لم يبغض سواهم (١).

(١٩) الحديث التاسع عشر :

حديث : أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

في مسند أحمد بن حنبل ، وصحيح مسلم ، قال :

لم يكن أحد من أصحاب رسول الله يقول : سلوني إلّا عليّ بن أبي طالب (٢).

وقال رسول الله : أنا مدينة العلم وعليّ بابها (٣).

(٢٠) الحديث العشرون :

حديث : من آذى عليّا فقد آذاني :

في مسند أحمد ، من عدة طرق : أن النبيّ قال : من آذى عليّا فقد

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٥ / ٣٤٧ نقلا عن منتخب كنز العمال المطبوع بهامش المسند ج ٥ / ٥٣ ، ط / مصر.

(٢) رواه عن المسند القندوزي في ينابيع المودة ص ٢٨٦ ، الرياض النضرة ج ٢ / ١٩٨ ، ذخائر العقبى ص ٨٣ ، أسد الغابة ج ٤ / ٢٢ ، تاريخ الخلفاء ص ١٧١ ، الصواعق المحرقة ص ٧٦ ، الإصابة ج ٢ / ٥٠٩.

(٣) المستدرك ج ٣ / ١٢٤ ، كنوز الحقائق ص ٤٣ ، أسد الغابة ج ٤ / ٢٢ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٢ ، الصواعق المحرقة ص ٧٣ ، ذخائر العقبى ص ٧٧ ، تهذيب التهذيب ج ٦ / ٢٢٠ ، لسان الميزان ج ١ / ٤٣٢.


آذاني (١) ، أيّها الناس : من آذى عليّا بعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا (٢).

(٢١) الحديث الواحد والعشرون :

حديث : تزويج الصدّيقة فاطمة منه عليهما‌السلام.

في الرياض النضرة لمحب الدين الطبري عن أنس بن مالك قال : جاء أبو بكر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعد بين يديه فقال : يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلامي وأني وأني ، قال : وما ذاك؟ قال : تزوّجني فاطمة ، قال : فسكت عنه ، قال فرجع أبو بكر إلى عمر فقال : هلكت وأهلكت ، قال : وما ذاك؟ قال ؛ خطبت فاطمة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعرض عني ، قال : مكانك حتى آتي النبيّ فأطلب مثل الذي طلبت ، فأتى عمر النبيّ فقعد بين يديه فقال : يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وأني وأني ، قال : وما ذاك؟

قال : تزوّجني فاطمة ، فسكت عنه ، فرجع إلى أبي بكر ، فقال إنه ينتظر أمر الله بها ، قم بنا إلى عليّ حتى نأمره يطلب مثل الذي طلبنا ، قال عليّ : فأتياني فقالا : إنّا جئناك من عند ابن عمك بخطبة ، قال علي : قمت أجرّ ردائي حتى أتيت النبيّ فقعدت بين يديه فقلت ؛ يا رسول الله قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وأني وأني ، قال : وما ذاك؟ قلت : تزوّجني فاطمة ، قال : وما عندك؟ قلت فرسي وبزتي ، قال : أما فرسك فلا بدّ لك منها ، وأما بزتك فبعها ، قال : فبعتها بأربعمائة وثمانين ، قال : فجئت بها حتى وضعتها في حجر رسول الله فقبض منها قبضة ، فقال : أي بلال ابتع بها طيبا وامرهم أن يجهزوها ، فحمل لها سريرا مشرطا بالشرط ووسادة من آدم حشوه ليف ..» (٣).

وبسند آخر عن أنس بن مالك قال : كنت عند النبيّ فغشيه الوحي فلما أفاق

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ / ٤٨٣ ، ذخائر العقبى ص ٦٥ ، الصواعق المحرقة ص ٧٣.

(٢) المناقب لابن المغازلي ص ٥٠ رواه بسندين ، وميزان الاعتدال ج ٣ / ١٥١ ، لسان الميزان ج ٣ / ٩٠ ، أرجح المطالب ص ١١٩ ، ينابيع المودة ص ٢٥١ ، إحقاق الحق ج ٦ / ٩٠.

(٣) الرياض النضرة ج ٢ / ١٨٠ ، وإحقاق الحق ج ٦ / ٥٩٢ وكنز العمال ج ٧ / ١١٣.


قال لي : يا أنس أتدري ما جاءني به جبرائيل من عند صاحب العرش؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ (١).

فإن إعراض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبي بكر وعمر دليل على عدم أهليتهما لها ، وأنه من سخط عليهما ، لطلبهما ما لا يليق بهما ولذا قال أبو بكر «هلكت» وكذا قول عمر مثله ، فيه دلالة على عدم أهليتهما كما قلنا للتزويج بسيّدة النساء ، فإن منعهما دون الإمام عليّ عليه‌السلام بأمر الله كاشف عن أن النظر في أمرها راجع إلى الله سبحانه مع وجود أبيها سيّد المرسلين الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما عرفه عمر حيث قال «إنه ينتظر أمر الله فيها» وليس ذلك إلّا لعظم شأنها عند الله تعالى وكرامتها عليه فلا يزوّجها إلّا بمن هو أهل لها ويليق بقدرها الرفيع ، فزوّجها في السماء بسيّد أوليائه وهو أدل دليل على فضله على الشيخين بل على سائر العالمين عند الله تعالى وعند رسوله ، والأفضل أحق بالإمامة.

(٢٢) الثاني والعشرون :

حديث : كسر الأصنام وردّ الشمس لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

روى الجمهور ، من عدة طرق : أن رسول الله حمل الإمام عليّا عليه‌السلام حتّى كسّر الأصنام من فوق الكعبة (٢) ، وأنه لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية عليّ بن أبي طالب(٣).

وأنه عليه‌السلام ردت له الشمس بعد غيابها ، حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر مولانا عليّ فلم يصلّ العصر حتّى غربت الشمس ، فدعا له

__________________

(١) المناقب للخطيب الخوارزمي ص ٢٣٤ وإحقاق الحق ج ٦ / ٥٩٦.

(٢) خصائص النسائي ص ٣١ ، مسند أحمد ج ١ / ٨٤ و ١٥١ ، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٧ عن عدة من الحفّاظ ، ومستدرك الحاكم ج ٢ / ٣٦٦ وج ٣ / ٥.

(٣) المناقب لابن المغازلي ص ٢٤٢ ، الفرائد للحمويني ، ميزان الاعتدال ج ١ / ٢٨ ، ينابيع المودة ص ١١١ ، لسان الميزان ج ١ / ٤٤ و ٥١ و ٧٥ ، كنز الحقائق ص ٥١ ، تاريخ بغداد ج ١٠ / ٣٥٦.


بردّها ليصلّي العصر ، فردت له (١).

فقد تواترت الأخبار بأنّ الشمس ردّت لأجله عليه‌السلام مرارا (٢) ، لكنّ المعروف والمشهور مرتان :

الأولى : في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الحديث الذي نقله ثلة من المحدثين الثقات عن الصحابية الجليلة أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت : إن النبيّ صلّى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليّا عليه‌السلام في حاجة فرجع وقد صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العصر ، فوضع النبيّ رأسه في حجر عليّ فلم يحرّكه حتى غابت الشمس ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم إن عبدك عليّا احتبس بنفسه على نبيّك فردّ عليه شرقها ، قالت أسماء : فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ثم قام عليّ فتوضأ وصلّى العصر ثم غابت (٣) وذلك في الصهباء.

الثانية : كانت في زمن خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وذلك بعد رجوعه من قتال الخوارج وكان ذلك في أرض بابل ، وقد دعا الإمام عليه‌السلام تعالى فردّها عليه. قال الشاعر الحميري :

ردت عليه الشمس لما فاته

وقت الصلاة وقد دنت للمغرب

حتى تبلج نورها في وقتها

للعصر ثم هوت هوي الكوكب

وعليه قد ردت ببابل مرة

أخرى وما ردت لخلق مغرب

فقد روي عن الإمام الباقر عن جده الإمام الحسين أنه قال : لمّا رجع أبي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن قتال أهل النهروان وأنّه وصل إلى ناحية العراق ولم يكن يومئذ يبيت ببغداد فلمّا وصل ناحية برشيا وما صلّى بالناس الظهر

__________________

(١) مشكل الآثار للطحاوي ج ٢ / ٨ وج ٤ / ٣٨٨ ، ينابيع المودة ص ٢٨٧ ، تفسير الرازي ج ٣٢ / ١٢٦ ، كنز العمال ج ٦ / ٢٧٧ ، مجمع الزوائد ج ٨ / ٢٩٧ ، الصواعق المحرقة ص ٧٦ ، السيرة الحلبية ج ١ / ٣٨٦ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٢ ـ ٥٣٩ نقلا عن المصادر العامة بطرق متعددة.

(٢) راجع بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٣ ح ١٠.

(٣) إحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٣ نقلا عن مشكل الآثار للطحاوي ج ٢ / ٩ ، والصهباء موضع في خيبر.


ورحل ودخل أوائل أرض بابل وقد وجبت صلاة الظهر والعصر فصاح المسلمون يا أمير المؤمنين وجبت صلاة العصر وقد دخل وقتها فعند ذلك قال : أيّها الناس هذه أرض قد خسف الله بها ثلاث مرات وعليه تمام الرابعة فلا يحلّ لنبي ولا لوصي نبيّ أن يصلي فيها لأنها أرض مسخوطة عليها فمن أراد منكم الصلاة فليصلّ قال حوفرة (١) بن مسهر العبدي فتبعته في مائة فارس وقلت لأقلدنّ عليّا صلاتي اليوم قال : وسار أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أن قطع أرض بابل ونزلت الشمس للغروب ثم غابت واحمرّ الأفق قال : فأقبل إليّ وقال : يا حوفرة هات الماء قال فتقدمت إليه فتوضأ ثم قال : أذّن للعصر فقلت : يا مولاي أذن للعصر وقد وجبت العشاء وغربت الشمس ولكن عليّ الطاعة فأذّنت فقال لي : أقم الصلاة ففعلت فجعل عليه‌السلام يحرك شفتيه بكلام كأنه منطق الخطاف ولم يفهم فإذا بالشمس رجعت بصرير عظيم حتى وقفت في مركزها من العصر فقامعليه‌السلام وكبّر وصلّى العصر وصلّيت ورائه فلمّا أديناها وسلّم وقعت إلى الأرض كأنها وقعت في طست وغابت واشتبكت النجوم فالتفت إلي وقال : أذّنوا الآن للمغرب يا ضعفاء القلوب قال :

فأذّنت وصلّينا المغرب فهو عليه‌السلام آية الله في أرضه وسمائه (٢).

هاتان الروايتان استفاضت كتب الحديث والتاريخ بذكرهما ، ولكن أورد على هذه الكرامة بإيرادات هي :

الإيراد الأول :

لو كان لواقعة ردّ الشمس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أصل لكانت من أعظم عجائب العالم التي تتوفر الدواعي إلى نقلها ولم يختص نقلها بالقليل (٣).

__________________

(١) الأصح (جويرية).

(٢) إحقاق الحق ج ٥ / ٥٣٨ نقلا عن بحر المناقب ص ١١٧ وينابيع المودة ص ١٢٨ ، وبحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٨ ح ١٣ و ١٤ نقلا عن بصائر الدرجات.

(٣) هذا الإيراد لابن تيمية وابن الجوزي.


يرد عليه :

(١) إنّ ردّ الشمس لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام من المتواترات رواها الجم الغفير من الصحابة أمثال أم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله وعمّار وابن عبّاس وأبي ذر وأبي سعيد الخدري وغيرهم من جماعة الصحابة ، ولا يشترط في صحة أي واقعة تاريخية أن يتناقلها الرواة الكثيرون ، بل يكفي لصحتها أن يرويها جماعة بحيث تبلغ القضية إلى مستوى التواتر بل أدون من ذلك ، ما دامت القضية لا تخرج عن نطاق أحكام العقل ، ولا تخالف القرآن والسنّة المطهّرة.

(٢) إن الدواعي إلى عدم نقلها أكثر ، لأنّ الناس في أيام الأمويين ومن سبقهم أعداء لأمير المؤمنين عليّ ، ومجتهدون في نقصه وإخفاء فضائله ، فكيف يستفيض بينهم نقل هذه الفضيلة العظيمة؟!

(٣) إنه منقوض بانشقاق القمر الذي هو معجزة لنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يشاركه فيها أحد ، حتى تتوفر الدواعي إلى إخفائها ومع ذلك لم يكن الراوون لها أكثر من رواة ردّ الشمس.

إن قيل :

إن انشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس لذا لم يروه أكثر الناس بخلاف ردّ الشمس فحيث إنها أشرقت بعد الظلام ، يجب أن يراها حينئذ كل الناس (١).

قلنا : إن هذه الدعوى أيضا باطلة لما في صحيح البخاري في تفسير «اقتربت الساعة» عن أنس قال : سأل أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر.

وفي سنين الترمذي في تفسير هذه السورة عن جبير بن مطعم قال : انشق القمر على عهد رسول الله حتّى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمّد ، فقال بعضهم : لأن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلّهم.

__________________

(١) هذه الدعوى أيضا لابن تيمية.


(٤) إن السبب في عدم تناقل القضية بكثرة في الكتب هو غلظة عمر بن الخطاب ومنعه من كتابة وتدوين الأحاديث وتهديده بالحبس أو القتل لكل من فعل ذلك ، بغضا ونصبا عداوة للعترة الطاهرة ، وكذا استنّ بسنته كل من جاء بعده لا سيّما معاوية ومن حذا حذوه ، منعوا نشر الفضائل حتّى لا يتمسّك أحد من الناس بأهل البيت عليهم‌السلام ، وما زال الحال إلى يومنا هذا. هذا مضافا إلى عنصر الأمية الذي كان يتصف به عامة الناس آنذاك مما يصبغ على القضية التاريخية صفة الحفظ في الصدور بحيث أدى إلى تناسي الناس فضائل أمير المؤمنين عليّ خوفا أو عنادا لا سيّما ما هو صريح في إمامته عليه أفضل التحية والسلام.

وقد دلت الأخبار من مصادرنا أن ردّ الشمس للإمام عليّ كان شائعا في عهد الرسول وقد نظر إليها أهل (١) المدينة.

الإيراد الثاني :

إن خصوصيات روايات ردّ الشمس متنافية من وجوه وهو يكشف عن كذب الواقعة ، فقد ورد في بعضها (٢) إن الشمس طلعت حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ، وبعضها (٣) حتى توسطت السماء ، وبعضها (٤) حتّى بلغت نصف المسجد ، وهذا دال على أن ذلك بالمدينة (٥) ، وكثير من الأخبار يدل على أنه بالصهباء (٦) في غزوة خيبر ، كما أن بعضا منها يدل على أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوحى إليه (٧) ، وبعضها

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٦٧ ح ٢.

(٣) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧١ ح ٨.

(٤) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٧ ح ١١ وص ١٧٤ ح ١٠ وص ١٧٩ ح ١٥ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٦.

(٥) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٣ ح ٩.

(٦) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٦٧ ح ٢ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٣ و ٥٣٣.

(٧) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٦٧ ح ٢ وص ١٧١ ح ٨ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٢ ـ ٥٢٧.


أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نائما ثم استيقظ (١) ، وفي بعضها أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان مشغولا بمرض (٢) النبيّ فأمره جبرائيل أن يأخذ رأس ابن عمه رسول الله ، وفي بعضها أنه عليه‌السلام كان مشغولا بتقسيم (٣) الغنائم فشغل عن الصلاة حتى كادت الشمس تغرب ، إلى غير ذلك من الخصوصيات المتنافية.

والجواب :

(١) يمكننا إدراج بعض الخصوصيات مع البعض الآخر من دون أن يترتب أي تناف ، فأي إشكال لو قلنا أن الشمس طلعت على الجبال والأرض حتى توسطت السماء وأشرق بها نصف المسجد؟!

وأما الخصوصيات الأخرى فلا تناف بينها أيضا إذ قد يكون تعدد المواضع كالمدينة والصهباء نتيجة تعدد الإشراق.

وأما ما ورد في خبرين من أنه كان نائما ثم استيقظ فلا يقاومان الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة على أن رسول الله كان يوحى إليه ، هذا مضافا إلى أنه يمكن الجمع بينها بتعدد الإشراق ، فمرة لمّا كان نائما ، وأخرى لمّا كان يوحى إليه ، أو قد يكون التبس الأمر على الراوي فظن الملازمة بين وضع الرأس على الفخذ وبين النوم ، فأضاف النوم في هذه الواقعة إلى رسول الله الذي تنام عيناه ولا ينام قلبه.

وأما ما ورد من أنه كان يقسّم الغنائم مع النبيّ ففاتته الصلاة فمحمول على فوات فضيلة العصر كما ورد في التعبير أنها «كادت أن تغرب» (٤) وهذا يقتضي أنها

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٥ / ٥٣٢ نقلا عن مشارق الأنوار للكازروني ، بحار الأنوار ج ٤١ / ١٨١ ح ١٨ وص ١٨٣ ح ١٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٢ ح ٩.

(٣) إحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٥ نقلا عن كفاية الطالب للكنجي الشافعي وص ٥٣٢.

(٤) كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢٤٠ ، وبحار الأنوار ج ٤١ / ١٨٤ ح ٢٢ نقلا عن الطرائف مرويا عن ابن المغازلي في كتاب المناقب.


لم تغرب وإنما دنت وقاربت الغروب ، فردها له ليدرك فضيلة الصلاة في أول وقتها (١).

لكنه مردود : وذلك لأن ردّ الشمس إلى وقت الفضيلة ليس فيه دلالة عرفية على الرجوع ، ولا أحد يلتفت إلى رجوعها إلى وقت فضيلة العصر ، اللهم إلّا إذا قاربت على المغيب فحينئذ تدل على ما ادّعاه السيّد المرتضى عليه الرحمة ، لكنّ هذا التأويل الذي تبنّاه السيّد طبقا لما ورد في خبر واحد يناهض الأخبار التي دلت على أن الشمس غربت بالكامل.

(٢) إن تنافي الخصوصيات ـ على القول بوجودها ـ لا يوجب كذب أصل الواقعة ، وإنما يقتضي الخطأ في الخصوصيات ، إذ لا ترى واقعة تكترث طرقها إلّا واختلف النقل في خصوصياتها ، حتى في قصة انشقاق القمر كرامة لرسول الله وإعجازا له ، حيث تصف الرواية بأن القمر صار فرقتين على جبلين ، وفي رواية أخرى بأنه انشق فلقتين ، فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه ، وفي صحيح البخاري : فلقة فوق الجبل ، وفلقة دونه ، على أنه لا تنافى بين تلك الخصوصيات لأن المراد بجميع الخصوصيات كما في رجوع الشمس إلى وقت صلاة العصر لكن وقعت المبالغة في بعضها بأنها توسطت السماء ، والمبالغة غير عزيزة في الكلام ، كما أن وقوع ردّ الشمس في غزوة خيبر لا ينافي بلوغها نصف المسجد ، كما لا تنافي بينها لصحة حمل نوم النبيّ على غشية الوحي والاستيقاظ على تسربه ، ولذا عبّر عنه في بعض الأخبار بالاستيقاظ بعد ذكر نزول جبرائيل وتغشي الوحي للنبيّ.

كما أن تقسيم الغنائم هو الحاجة التي وقعت قبل شغل الإمام عليّ عليه‌السلام بالنبيّ لا في عرضه (٢) ، وهكذا في سائر الخصوصيات التي يتوهم تنافيها.

الإيراد الثالث :

تصف الأخبار بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسدّ رأسه على فخذ أمير المؤمنين أو في حجره ، سواء أكان للنوم كما في الخبر الضعيف أم لتلقي الوحي المباشري ، فإن

__________________

(١) هذا الوجه للسيّد المرتضى في تنزيه الأنبياء ، نقله عنه في البحار ج ٤١ / ١٨٩.

(٢) دلائل الصدق ج ٢ / ٢٩٩.


أمير المؤمنين عليّا كره أن ينهض لأداء الصلاة فيزعج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا يقتضي هذا أن يكون عليه‌السلام عاصيا بترك الصلاة؟! وبما أنه منزه عن ذلك فلا بدّ من إنكار أصل الواقعة هروبا من المحذور المتقدّم.

والجواب :

(١) إنّما يكون عاصيا عليه‌السلام ـ وحاشاه عن ذلك ـ إذا ترك الصلاة بغير عذر ، وإزعاج النبيّ لا ينكر أن يكون عذرا في ترك الصلاة ، بمعنى أن إزعاج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر سببا وعذرا لترك الصلاة ، فكما أن وجوب الصلاة كان بأمر الله تعالى وتشريعه كذا تركها إنّما هو بأمر الله تعالى وتشريعه ، نظير ذلك حرمة الصلاة على الحائض ، فالأمر بالترك أهم من الأمر بإتيان الصلاة. من هنا نعلم أن ملاكات الأحكام بعضها أهم من بعض ، فملاك الحرمة أهم من ملاك الوجوب ـ في أكثر الأحيان ـ حال التزاحم ، لذا أفتى مشهور فقهاء الشيعة بوجوب تقديم إنقاذ الغريق على الصلاة حال التزاحم ، ومسألتنا من هذا القبيل فإن التزاحم حصل بين وجوب الصلاة وبين وجوب إطاعة الله بواسطة أمر جبرائيل لأمير المؤمنين بأخذ رأس ابن عمه رسول الله ، فلا شك في وجوب تقديم أمر الله تعالى في هذا المورد لعلمه بأنّ الله عزوجل لا يريد الواجب الآخر ـ أعني الصلاة في وقتها المتأخر ـ تعبدا وامتثالا أو لحكمة أخرى.

فإن قيل :

الأعذار في ترك جميع أفعال الصلاة لا تكون إلّا بفقد العقل والتمييز كالنوم والإغماء وما شاكلهما ، ولم يكن عليه‌السلام في تلك الحال بهذه الصفة ، فأما الأعذار التي يكون معها العقل والتمييز ثابتين كالزمانة والرباط والقيد والمرض الشديد واشتباك القتال ، فإنما يكون عذرا في استيفاء أفعال الصلاة وليس بعذر في تركها أصلا ، فإن كل معذور ممن ذكرنا يصلّيها على حسب طاقته ولو بالإيماء.

قلنا :


غير منكر أن يكون أمير المؤمنين عليّ عليه وآله السلام أن يكون صلّى موميا وهو جالس لمّا تعذر عليه القيام إشفاقا من إزعاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا تكون فائدة ردّ الشمس ليصلّي مستوفيا لأفعال الصلاة ، وتكون أيضا فضيلة له ودلالة على عظم شأنه.

(٢) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان مأمورا بترك الصلاة من قيام ـ على أقل تقدير ـ لأن الذي وضع الصلاة على المكلفين ، يرفعها عنهم حيثما شاء في أوقات مخصوصة كما عند الحائض والنفساء واشتداد القتال ، فيدور الأمر حينئذ بين إزعاج النبيّ وبين ترك الصلاة من قيام ، فيترجح الثاني عقلا ونقلا حفاظا على الأول لقوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٢).

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عليّ : من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله لعنه ملأ السماوات وملأ الأرض (٣).

هذا مضافا إلى أن النبي تنام عينه ولا ينام قلبه ، فكان الأولى ـ بحسب الإيراد ـ أن يرفع النبيّ رأسه عن فخذ الإمام عليه‌السلام حتى لا يفوّت على ابن عمه الصلاة ، ولكن لمّا علم النبيّ أن هذا مرضي لله تعالى لذا لم يرفع رأسه حتى تكون فضيلة للمرتضى عليّ عليه‌السلام ، وكل ذلك راجع إلى الله تعالى حيث (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٤).

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٣) إحقاق الحق ج ٦ / ٣٩١ نقلا عن المناقب للخوارزمي وغيره من أكابر العامة.

(٤) سورة الأنبياء : ٢٣.


إشكال :

قلتم إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يصلّ العصر حتى فاتته حسبما جاء في الأخبار المتضافرة ، في حين أن هناك أخبارا أخرى دلت على أنه عليه‌السلام صلّى موميا ، فيقع التعارض حينئذ فإما أن يتساقطا معا أو نرجّح إحداهما على الأخرى أو نأخذ بهما معا ، فكيف الحل؟

الجواب :

أما التساقط فغير وارد أصلا للعلم بتحقق أصل الواقعة ، وأما ترجيح إحداهما على الأخرى فممكن لا سيّما المتظافرة منها والتي دلت على أن الصلاة فاتته ، لأن الخبر الواحد لا يعارض المستفيض والمتواتر ، فيقدم الثاني على الأول في حال عدم القدرة على الجمع ، وبما أننا قادرون على ذلك فنحمل الطائفة التي نفت عنه الصلاة على الصلاة من قيام ، فأراد النبيّ ـ بأمر من الله تعالى ـ أن يستوفي الإمام عليه‌السلام أفعال الصلاة برد الشمس له لتكون فضيلة ودلالة على عظم شأنه ومحل كرامته من الله ورسوله.

وقد دل على ذلك «ما ورد من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للإمام عليّ عليه‌السلام لمّا انتهى من الوحي : فاتتك العصر؟».

قال : صلّيتها قاعدا إيماء ، فقال : ادع الله يردّ عليك الشمس حتى تصليها قائما في وقتها ، فإنه يجيبك لطاعتك الله ورسوله فسأل الله في ردها فردت عليه حتى صارت في موضعها من السماء وقت العصر فصلّاها ثم غربت» (١).

الإيراد الرابع :

ما أورده ابن تيمية (٢) من أن نوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد صلاة العصر وهو مكروه لا يفعله النبيّ ، وهو أيضا تنام عيناه ولا ينام قلبه ، فكيف يفوّت على عليّ صلاته ، ثم

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٥ / ٥٣٦ نقلا عن أرجح المطالب ص ٦٨٦ ط / لاهور.

(٢) منهاج السنة.


أن تفويت الصلاة إن كان جائزا لم يكن على «الإمام» عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، وليس عليّ أفضل من النبيّ الذي فاتته العصر يوم الخندق ولم ترد عليه الشمس وقد نام ومعه عليّ وسائر الصحابة عن الفجر حتّى طلعت الشمس ولم ترجع إلى الشرق ، وإن كان التفويت محرّما فهو من الكبائر ، ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس.

الجواب :

لم ينم النبيّ كما عرفت وإنما تغشّاه الوحي ، وما ذكره ابن تيمية من أن النبيّ تنام عيناه ولا ينام قلبه يجب أن يجعله دليلا على كذب رواية نومه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة الصبح وكذب رواية نسيانه الصلاة يوم الخندق ، فحينئذ يبطل نقضه بعدم رد الشمس للنبيّ لما فاتته في الوقتين وهو مساو بالفضل للإمام عليّ ، والفضليّة لا تستلزم أولوية ردها له لجواز أن يكون ردها للإمام عليّ دفعا لطعن أهل النفاق فيه بتركه الصلاة فردت له ليعلم أنه في طاعة الله تعالى بشاهد جلي أو لغير ذلك من الحكم المقتضية لتخصيصه دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يترك أصل الصلاة فإنه صلّاها إيماء كما هو صريح بعض الأخبار ، وإنما ردها الله سبحانه له لينال فضل الصلاة قائما في وقتها ، ويظهر فضله وكمال طاعته وليقطع ألسنة المنافقين ، وبهذا يعلم ما في قوله إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، فإن الداعي لردها ليس رفع الإثم بل تلك الحكم المذكورة ، بل لا يمكن رد الشمس لآثم ، لأن رد الشمس كرامة وفضل ، ولا كرامة لعاص ، فقد ظهر أن المناقشة في الحديث إنما هي من السفاسف.

الإيراد الخامس :

اشتمال أحاديث ردّ الشمس على منكرات (منها) :

إنها لما غابت سمع لها صرير كصرير المنشار (١).

__________________

(١) كفاية الطالب للكنجي ص ٢٤٠ وأرجح المطالب ص ٦٨٦ للشيخ عبد الله الحنفي.


(ومنها) : إنها أقبلت ولها خوار (١) أو وجيب شديد (٢) هال الناس ذلك.

(ومنها) : ما رواه أبو سعيد قال : فو الله لقد سمعت للشمس صريرا كصريرة البكرة حتى رجعت بيضاء (٣) نقية.

والجواب : كما أن الخسوف والكسوف دلالة على الغضب الإلهي ، والبرق والرعد علامة على مجيء المطر ، كذا صرير الشمس علامة على رجوعها.

قد يقال : إن إشراقها علامة ودلالة على رجوعها فما الداعي لصدور الصرير منها؟

قلنا : إن الصرير أو الخوار وما شابه ذلك ، لزيادة الإيقان وتأكيد الحجة على الناس.

(٢) إن الله سبحانه لا يعجز عن إحداث الصوت ليكون السمع حظ من هذه الفضيلة كما للبصر فيزيد التيقن والالتفات بها ، ولو تسرينا إلى هذه المناقشات منعنا انشقاق القمر وسقوط شقيه على الجبلين أو الجبل وما دونه فإنه أكبر من ذلك ، فإذا أجيب هاهنا بأن الله شقه وصغر جرمه وأنزله إلى الأرض إيضاحا للحجة فليجيب بمثله في المقام.

الإيراد السادس :

إذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الداعي بردّها له فالعادة ـ على مشرب (٤) المعتزلة ـ إنما أخرقت للنبيّ لا للإمام عليّ عليه‌السلام.

والجواب :

إذا كان النبيّ إنما دعا بردّها لأجل أمير المؤمنين ـ كما هو مفاد الأخبار ـ

__________________

(١) الرياض النضرة ج ٢ / ١٧٩.

(٢) إعلام الورى للطبرسي ص ١٨١ وبحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٤ ح ١٠.

(٣) دلائل الصدق ج ٢ / ٢٩٩.

(٤) يدّعي المعتزلة أن العادات لا تنخرق إلا للأنبياء دون غيرهم.


ليدرك ما فاته من فضل الصلاة فشرف انخراق العادة والفضيلة تنقسم بينهما.

فقد دلت الأخبار على أن الله ردّها لأنه عليه‌السلام حبس نفسه على طاعة الله ورسوله ، وكل النصوص تشير إلى هذا المعنى لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«إن عليّا كان على طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس ..» (١) وفي أكثرها لفظ: «اللهم اردد الشمس على عليّ بن أبي طالب».

من هنا يعلم أيضا أن فائدة ردّ الشمس لمولانا المرتضى عليّ عليه‌السلام للتدليل على علو فضله على عامة الخلق ، ودلالته على إمامة أمير المؤمنين أجلى من الشمس لأنه من أعظم الأدلة على الاهتمام بشأنه وفضله على جميع الأصحاب بما لا يحلم أن يناله أحد منهم.

وأما خبر كسر الأصنام فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصحّحه عن الإمام عليّ حيث قال : «لمّا كانت الليلة التي أمرني رسول الله أن أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجرا انطلق بي رسول الله إلى الأصنام ، فقال : اجلس فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله على منكبي ثم قال : انهض فنهضت به فلمّا رأى ضعفي تحته قال : «اجلس فجلست فأنزلته عني وجلس لي رسول الله ، ثم قال لي يا عليّ اصعد ، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي رسول الله وخيل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت إلى الكعبة» الحديث ، ونحوه في مسند أحمد ج ١ / ٨٧ لكن من دون تعيين الليلة ، وكذا في كنز العمال ج ٦ / ٤٠٧ نقلا عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى في مسنده وابن جرير والخطيب.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال : دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمنزل خديجة ذات ليلة ، فلما صرت إليه قال : اتّبعني يا عليّ ، فما زال يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكة حتى أتينا الكعبة وقد أنام الله كلّ عين ، فقال لي رسول

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٦٦ ـ ١٨٥ باب ١٠٩ ومناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ، الرياض النضرة للطبري ج ٢ / ١٧٩ ، ومشارق الأنوار في سير النبيّ للكازروني ص ١١٠ ، وأرجح المطالب ص ٦٨٧ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٢ ـ ٥٣٩ ، وإعلام الورى ص ١٨٠.


الله : يا عليّ ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : اصعد على كتفي ، يا عليّ ، قال : ثم انحنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصعدت على كتفه فألقيت الأصنام على رءوسهم وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة ، فقال لي : إن أول من كسر الأصنام جدّك إبراهيم ثم أنت يا عليّ آخر من كسر الأصنام ، فلمّا أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكوسة مكبوبة على رءوسها فقالوا : ما فعل هذا بآلهتنا إلّا محمّد وابن عمه ، ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم (١).

ووجه الدلالة فيه على المطلوب أن اختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بمشاركة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة الجليلة الخطيرة بطلب من النبيّ دليل على فضله على غيره لا سيما وقد رقى على منكب دونه العيوق وهام الملائكة والملوك ، وقد أشار الشافعي إلى هذه الواقعة مادحا لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام كما حكاه في ينابيع المودة الباب ٤٨ فقال :

قيل لي قل في عليّ مدحا

ذكره يخمد نارا موصده

قلت لا أقدم في مدح امرئ

ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبيّ المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهري يده

فأحس القلب أن قد برده

وعلي واضع أقدامه

في محل وضع الله يده

بل قد يقال بدلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من وجه آخر وهو أن ضعفه عن حمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان مخالفا لما هو عليه من القوة العظيمة دل على أن المنشأ في ضعفه هو رعاية جهة النبوة ، ولذا تصوّر (وتصوّره حق وصواب) أن لو شاء أن ينال السماء نالها فلا يرفع على منكبيه ـ بما هو نبيّ ملحوظ به جهة النبوة ـ إلّا من هو شريك له في أمره ، ومن هو كنفسه وخليفته في أمته. وأما حديث أنه لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية الإمام عليّ عليه‌السلام فواضح الدلالة على المطلوب ، إذ من دون الاعتقاد بإمامته عليه‌السلام التي هي أول ما

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٨ / ٨٤ حديث ٤.


يسأل عنه بعد الوحدانية والرسالة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحق ما يحتاج إلى معرفته في الجواز على الصراط ، لأن من لا يعرف إمامة إمامه مات ميتة جاهلية ، بخلاف سائر الواجبات فإن من لا يلتزم بها لا يخرج عن الدين ما دام غير منكر لها إذ ليست من أصوله.

إن قيل : لعلّ المراد بالولاية في الأخبار الحب ، لا الإمامة كما يدّعي الشيعة.

قلنا : دعوى كون الولاية هي الحب بعيدة ، وإن كان حبّه واجبا وأجرا للرسالة ، اللهم إلّا بلحاظ الملازمة بين الحب الخالص والإقرار بإمامته إذ لا ينكرها بعد وضوح أمرها إلّا من يميل عنه ، مع أن السؤال عن حبّه وتوقف الجواز على الصراط على ودّه دليل على أن له دون سائر الصحابة منزلة عظمى ومرتبة توجب ذلك لفضله عليهم والأفضل أحق بالإمامة.

وقد نقل في الينابيع القول بإرادة الحب من الولاية عن الحاكم والأعمش ومحمّد بن إسحاق صاحب كتاب المغازي ، ويشهد لهم الأخبار الكثيرة الدالة على السؤال عن حب أهل البيتعليهم‌السلام ، منها ما في الينابيع عن الثعلبي وابن المغازلي بسنديهما عن ابن عبّاس وعن الترمذي وموفق بن أحمد بسنديهما عن أبي برزة الأسلمي ، وعن موفق أيضا بسنده عن أبي هريرة ، وعن الحاكم بسنده عن أبي سعيد ، وعن الحمويني بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن المناقب بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قالوا :

(قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تزول قدم عبد عن قدم حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ـ وفي رواية : وعن شبابه ـ وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت).

ولا ريب أن المراد من حبّهم عليهم‌السلام الملازم للاعتقاد بإمامتهم والأخذ منهم ، لا الحب المجرد من كل ذلك إذ لا يسمّى حبا في الحقيقة ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ


كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (١).

(٢٣) الثالث والعشرون :

حديث : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق.

في الجمع بين الصحاح الستة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رحم الله عليّا اللهم أدر الحق معه حيث دار (٢).

وروى الجمهور أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار بن ياسر : ستكون في أمتي بعدي هناة ، حتى يختلف السيف فيما بينهم ، حتى يقتل بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض.

يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت مع الحق والحق معك ، إن عليّا لن يدنيك من ردى ولن يخرجك من هدى.

يا عمّار ، من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوه قلّده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلّد سيفا أعان به عدوه قلّده الله وشاحين من نار ، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني ـ يعني عليّا عليه‌السلام ـ وإن سلك الناس كلهم واديا ، وسلك عليّ واديا فاسلك وادي عليّ ، وخلّ عن النّاس.

يا عمّار ، إنّ عليّا لا يردك عن الهدى ولا يدلك على ردى.

يا عمّار : طاعة عليّ طاعتي وطاعتي طاعة الله تعالى (٣).

وروى أحمد بن موسى بن مردويه ، من الجمهور ، من عدة طرق ، عن عائشة

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١.

(٢) صحيح الترمذي ج ٢ / ٢٩٨ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٢٤ ، الملل والنحل ج ١ / ١٠٣.

(٣) الفرائد للحمويني مخطوط ، ينابيع المودة ص ١٥١ الباب ٤٣ ، أسد الغابة ج ٥ / ٢٨٧ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٥ ، تاريخ بغداد ج ١٣ / ١٨٦ ، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٦ ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٣٩٧ ، إحقاق الحق ج ٥ / ٧١ ـ ٧٢ ، ومعرفة الإمام للطهراني ج ١ / ٢٤٣ نقلا عن الموفق بن أحمد الخوارزمي.


قالت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (١).

وروى المؤرخ الشهير ابن قتيبة الدينوري قال : أتى محمّد بن أبي بكر فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله يقول : عليّ مع الحق ، والحق مع عليّ ، ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان (٢)؟!

قال الفضل بن روزبهان :

صحّ في الصحاح أن رسول الله قال لعمّار : ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، وباقي ما ذكر إن صحّ دلّ على أن عليّا كان مع الحق أينما دار وهذا شيء لا يرتاب فيه حتى يحتاج إلى دليل بل هذا دليل على حقية الخلفاء لأن الحق كان مع عليّ ، وعليّ كان معهم حيث تابعهم وناصحهم فثبت من هذا خلافة الخلفاء وأنها كانت حقا صريحا ، وأما من خالف عليّا من البغاة فمذهب أهل السنة والجماعة أن الحق كان مع عليّ وهم كانوا على الباطل ولا شك في هذا. انتهى.

لا يرتاب ذو عقل أن ظاهر الخبر الشريف يقتضي عصمة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ووجوب الاقتداء به ، لأن النبيّ لا يجوز أن يخبر على الإطلاق بأن الحق مع عليّ ووقوع القبيح جائز عنه ، لأنه إذا وقع كان الأخبار كذبا ، ولا يجوز عليه ذلك ، فمفاد الحديث هو العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة بالاتفاق.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخبر : لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فإن «لن» لنفي المستقبل عند أهل العربية ، فيجب أن يكون الحق والقرآن مع الإمام عليّ عليه‌السلام لا ينفكان عنه ، وإذا كان الحق والقرآن لا ينفكان عنه أبدا بمقتضى الحديث الشريف فلا شك حينئذ بثبوت الإمامة له ، وبطلان إمامة أبي بكر وعمر وعثمان.

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٤ / ١٤ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١١٩ ، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥ وج ٩ / ١٢٤ ، كنوز الحقائق ص ٦٥ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٧ وج ٣ / ١٥٨.

(٢) إحقاق الحق ج ٥ / ٦٣٦ نقلا عن الإمامة والسياسة ج ١ / ٧٨.


وأما مبايعته بعد ستة أشهر ـ كما يدّعي العامة ـ فليست صحيحة لوقوعها قهرا بعد ذلك ، كما أن مناصحته لهم بعد مشاورتهم له في بعض الأمور إنما هي لإصلاح الدين لا لترويج أمرتهم ، ولذا ما زال يتظلم منهم ووقع بينهم وبينه من النفور والعداوة ما هو جليّ لكل أحد.

وأما ما ذكره في شأن البغاة فهو إقرار بأن صاحبة الجمل وأصحابها ومعاوية وأنصاره كانوا مبطلين ومطالبين عند الله تعالى بأمر عظيم وهو إلقاح الفتنة إلى يوم الدين وإزهاق نفوس الآلاف من المسلمين الذي لا تنجي منه التوبة بالقول لو صدرت ما لم يعطوا النصف من أنفسهم ويخرجوا عن المظالم إلى أهلها ، والإقرار بذلك لا يناسب تعظيمهم لهم وجعل تفضيل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وجعل الزبير حواري رسول الله ومعاوية هاديا مهديا (١).

(٢٤) الرابع والعشرون :

حديث الثقلين

روى أحمد بن حنبل في مسنده : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال : من أحبني ، وأحبّ هذين وأباهما وأمهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة (٢).

وفيه عن جابر ، قال : قال رسول الله ذات يوم بعرفات ، وعليّ تجاهه : ادن مني يا عليّ ، خلقت أنا وأنت من شجرة ، فأنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلّق بغصن منها أدخله الله الجنة (٣).

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٣٠٤.

(٢) تهذيب التهذيب ج ١٠ / ٤٣٠ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ ، تاريخ بغداد ج ٣ / ٢٨٧ ، كنز العمال ج ٦ / ٢١٧ ، مسند أحمد ج ١ / ٧٧ ، والتاج الجامع للأصول ج ٣ / ٢٤٩.

(٣) ذخائر العقبى ص ١٦ ، ينابيع المودة ص ٢٤٥ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٢٩١ ، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٦٠ ، كنوز الحقائق للمناوي ص ١٥٥ وغيرهم.


وفيه : عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله : إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

ورواه أحمد من عدة طرق.

وفي صحيح مسلم في موضعين ، عن زيد بن أرقم ، قال : خطبنا رسول الله بماء يدعى «خمّا» بين مكة والمدينة ، ثم قال بعد الوعظ : أيّها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثّقلين ، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي (١).

وروى الزمخشري ، وكان من أشدّ الناس عنادا لأهل البيت ، وهو الثقة المأمون عند العامة ، قال بإسناده ، قال رسول الله : فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ، وحبل ممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلف عنهم هوى (٢).

وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٣) بأسانيد متعددة ، عن رسول الله قال : يا أيّها الناس قد تركت فيكم الثقلين ، خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي : أحدهما أكبر من الآخر :

__________________

(١) مسند أحمد ج ٥ / ١٨١ وج ٤ / ٣٦٦ ، صحيح مسلم في كتاب الفضائل ج ٤ / ١١٠ ، الفيض القدير ج ٣ / ١٤ وغيرهم.

(٢) المناقب للزمخشري ص ٢١٣ مخطوط ، درر بحر المناقب للموصلي ص ١١٦ مخطوط ، الفرائد للحمويني ، وإحقاق الحق ج ٩ / ١٩٨ ، ينابيع المودة ص ٨٢ ومقتل الإمام الحسين للخوارزمي ص ٥٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٠٣.


كتاب الله ، حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

وفي الجمع بين الصحيحين : إنما يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، وأهل بيتي ، أذكركم في أهل بيتي.

قال الفضل بن روزبهان :

هذه الأخبار بعضها في الصحاح ، وبعضها قريب المعنى منها ، وحاصلها التوصية بحفظ أحكام الكتاب وأخذ العلم منه ومن أهل البيت وتعظيم أهل البيت ومحبتهم وموالاتهم ، وكل هذه الأمور فريضة على المسلمين ، ولا قائل بعدم وجوبه على كل مسلم ، ولكن ليس فيما ذكر نصّ على خلافة عليّ بعد رسول الله ، لأن هذا هو الوصية بالحفظ وأخذ العلم منهم وجعلهم قرناء للقرآن يدل على وجوب التعظيم وأخذ العلم عنهم والاقتداء بهم في الأعمال والأقوال وأخذ طريق السنّة والمتابعة من أعمالهم ، ولا يلزم من هذا خلافتهم وليس هو بالنصّ في خلافتهم بعد رسول الله ، ومراد النبيّ توصية الأمة بحفظ القرآن ومتابعة أهل البيت وتعظيمهم ، وهذا مما لا منازع فيه. انتهى.

يرد عليه :

(١) تصريح الفضل بن روزبهان بأن هذه الأحاديث دالة على وجوب محبة أهل البيت وتعظيمهم وأخذ المعارف والعلوم منهم اعتراف منه بعلو وشرف أهل البيت عليهم‌السلام على من سواهم ، كما يدل على اعترافه بكونهم عليهم‌السلام قرناء الكتاب المجيد ، فهم مصونون من الخطأ تماما كالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، فإذا كان الكتاب مصونا من الخطأ فهو لا ريب أنّه قدوة حسنة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا ، وكذا العترة الطاهرة قرين الكتاب فهم قطعا قدوة حسنة بكل ما يقولون ويفعلون ، فما بال الفضل لا يأخذ منهم ولا يستنّ بسنتهم قال


تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(١)؟

(٢) إن تفكيكه بين الفضائل والخلافة ، فصل من دون دليل لا سيّما وأن العامة ـ وهو منهم ـ لا يقولون بوجود نص على الخليفة ، من هنا يبررون اجتماع أئمتهم في سقيفة بني ساعدة لينتخبوا خليفة بحجة أن الرسول مات ولم يوص ، هذا مضافا إلى أنهم يستندون إلى خلافة أبي بكر بذكر بعض الفضائل له ككونه صدّيقا وأمثال ذلك ، فلو كان الشيء من أمثال فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام موجودا في شأن أبي بكر لجعلوها من أقوى الأدلة على إمامته ، ولاحتج به يوم السقيفة ولم يحتج إلى الاحتجاج بما لا دلالة على تعيينه من حديث الأئمة من قريش ، ولا ريب أن من اتصف بالصفات المذكورة وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بعروة هدايتهم والأخذ بأذيال طهارتهم يكون أصلح بإمامة الأمة وحفظ الحوزة من غيره.

(٣) إنّ من تعسّفات الناصب أنه حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخذتم بهما لن تضلوا» على أخذ العلم منهما ، ولم يدر لبعده عن معرفة أساليب الكلام أنّ المراد لو كان ذلك لكان حق العبارة أن يقال : «والأخذ منهما دون بهما» وحاصل المؤاخذة أن معني الأخذ بهما في العرف واللغة التشبث بهما والرجوع إليهما في جميع الأمور ، لا أخذ العلم منهما فقط ، ولا ندري كيف يفعل بلفظ التمسّك الصريح فيما ذكرناه مع كونه مرادفا للأخذ ، اللهم إلّا أن يأخذ بذيل المكابرة وسوء المصادرة ، كما هو عادته الفاجرة (٢).

ـ ودلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليّ وأبنائه الميامين ظاهرة من وجوه :

(الأول): أن تصريحه بأن الكتاب والعترة لا يفترقان دال على علمهم بما في

__________________

(١) سورة الصف : ٢ ـ ٣.

(٢) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٧٤.


الكتاب وأنهم لا يخالفونه قولا وعملا ، والأول دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحق بالإمامة ، والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.

(الثاني): إنه جعلهم عديلا للقرآن فيجب التمسّك بهم مثله ، واتباعهم في كل أمر ونهي ، ولا يجب اتباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم بل يحرم اتّباع غير المعصوم في كل حركاته وأفعاله لكون بعضها قطعا مخالفا للشريعة المقدّسة ، وما ادّعاه أصحاب نظرية ولاية الفقيه ـ من وجوب اتّباع الولي الفقيه ـ غير تام وذلك لأن وجوب إطاعته في كل أفعاله يعني أنه صار قدوة في كل شيء ـ حتى في الأوامر الشخصية ـ كالإمام عليه‌السلام الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وما استدلوا به على المدّعى بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ..) لا يصحّ لأنه لو سلّمنا بكون الفقيه من أولياء الأمر فإن غاية ما تدل عليه الآية حينئذ هو وجوب اتّباعه في الأحكام الشرعية والقضائية وفي كل ما يوافق إرادة الله الواقعية ، ولا دلالة فيها على وجوب اتّباعه في أوامره الشخصية لعدم خلوها ـ أي أوامره الشخصية ـ من شوب الباطل ، والأمر بالباطل يعتبر باطلا وقبيحا حاشا لله تعالى أن يأمر به وبوجوب الاعتقاد به ، مضافا إلى أن الاعتقاد بوجوب اتّباعه بالأوامر الشخصية كإطاعة الرسول والإمام عليهما‌السلام يستلزم الاعتقاد بصوابية رأي الفقيه في كل ما يصدر منه حتى ولو كان ضلالا وفسادا مما يلغي دور الأئمة الأطهار لا سيّما مولانا الإمام الحجّة المنتظر روحي فداه.

وعليه فلا دلالة في الآية على وجوب الأخذ برأي الفقيه في مطلق الأمر الشخصي وإلّا لكان ذلك أمرا بوجوب اتّباع الخطأ وهو قبيح عقلا ومخالف للأدلة من الكتاب والسّنّة المطهّرة ، كما أنّ مفهوم أولي الأمر ـ لو سلّمنا بشموليته لغير الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ـ ليس منحصرا بالولي الفقيه حسبما يدّعون بل يشمل كلّ مستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بشرط كونه مؤمنا معتقدا بإمامة الأئمة الاثنى عشر عليهم‌السلام وتنطبق عليه بقية الشروط المقررة.


هذا كلّه إذا سلّمنا أيضا بأنّ الآية المباركة تشير إلى وجوب الأخذ من الفقهاء في الأحكام الشرعية إلّا أن ذلك غير تام أيضا لأن مفاد وجوب الأخذ بالأحكام الصادرة من أولي الأمر هو كون تلك الأحكام أو الأوامر تعبّر عن الإرادة الواقعية لله تعالى وليست أحكاما ظنيّة ظاهرية كما هو أغلب استنباطات الفقهاء وديدنهم في استخراج الأحكام من ظواهر الأدلة الظنّية.

فالقدر المتيقن من الآية الشريفة هو وجوب الأخذ من أئمة آل البيت عليهم‌السلام حيث إنّ طاعتهم مقرونة بطاعة الله ورسوله ، ومن قرنت طاعته بطاعة الله المطلقة لا شك أنه معصوم لا يقول إلّا الحقّ ولا يفعل إلّا الصواب والحكمة.

(الثالث): إنه عبّر عن الكتاب والعترة بخليفتين كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف (ره) وحديث أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله : «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

ومن الواضح أن خلافة كل شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواعظه وإنذاره وسائر تعاليمه ، وخلافة الشخص بإمامته وقيامه بما يحتاج إليه الأمة ونشر الدعوة وجهاد المعاندين.

(الرابع): قد ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مفتتح حديثه قرب موته أنه «يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أو قوله : «كأني قد دعيت فأجبت» ونحو ذلك ، ثم قوله : «إني تارك فيكم الثقلين» وكل هذا يشير إلى أن ذا السلطان والولاية الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال إني تارك فيكم فلانا وكتابا حافظا لنظامي لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده خصوصا وقد قال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أو «من كنت وليه فعليّ وليه» كما في حديثي الحاكم وغيره ، ولا ريب أن وصية النبيّ بالثقلين كانت في غدير خم أو على أقل تقدير أنه أحد مواردها لقوله في حديث مسلم : خطبنا رسول الله بماء يدعى خمّا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحاديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فإنه صادر


بالغدير فيكون قد عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خم بالخلافة إلى أهل البيت عموما وإلى أمير المؤمنين عليّ خصوصا ، فكان الخليفة ـ بأمر من الله سبحانه ـ بعد النبيّ هو الإمام عليّ ثم الحسنان عليهما‌السلام ثم بقية الأئمة عليهم أفضل التحية والإكرام.

(الخامس): قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألفاظ متعددة : «إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموها» كما في أحد حديثي الحاكم وصحّحه على شرط الشيخين ، ونحوه ما في الصواعق وصحّحه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي» كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي» كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا» كما في حديث الترمذي عن جابر وحديث أحمد عن أبي سعيد ، فإن كل واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتّب عدم ضلال أمته دائما وأبدا على التمسّك بالثّقلين وبالضرورة أن الضلال واقع ولو أخيرا لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنهم لم يتمسّكوا في أول الأمر بالعترة والكتاب ، وأن خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ولذا وقع الضلال ، ولا يرد النقض بأن الأمة تمسّكت بالعترة حتى بايعت أمير المؤمنين عليه‌السلام ومع ذلك وقع الضلال المذكور ، وذلك لأن المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّ بلا فصل ، على أن الأمة لم تتمسك بالإمام عليّ عليه‌السلام بعد مبايعته لمخالفة الكثير منهم له حتى انقضت أيامه بحرب الأمة فأين تمسّكها بالعترة وأين تمسّكها بالكتاب وهو قد قاتلهم على تأويله.

(السادس): لم يقتصر الحديث على مجرد الوصية بأخذ العلم منهم ، ولو سلم فمن الواضح دلالته على وجوب أخذ العلم منهم وعدم جواز مخالفتهم كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحة إمامة شخص وعدمها لأنه من أخذ العلم منهم ، ومن المعلوم أن الإمام عليّا عليه‌السلام خالف في إمامة أبي بكر فتبطل حينئذ ، لا سيّما وأن الحق معه يدور حيثما دار ، وحيث إنّه عليه‌السلام ادّعى


ـ ودعواه حق وصواب ـ أن الحق له من يوم وفاة الرسول إلى حين موته عليه‌السلام ، وتظلم منهم مدة حياته ، وأيضا لم تتبع الأمة عترة النبيّ في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام فيكونون ضلالا ، وما أدري متى تمسّكت الأمة بالعترة أفي زمن أمير المؤمنين أو في زمن أبنائه الطاهرين ، وقد تركوا كلا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم ، بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم ، فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب؟!

توجيه

ورد في بعض أخبار حديث الثّقلين إن القرآن الكريم أكبر من العترة ، كيف يوجّه الحديث ليستقيم مع الأدلة الدالة على أنّ العترة علة لفهم الكتاب لقوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٣).

أقول :

قبل الإجابة على التساؤل المتقدم ، لا بأس بعرض الآراء في المسألة وهي ثلاثة :

__________________

(١) سورة النساء : ٨٣.

(٢) سورة البقرة : ١٤٦.

(٣) سورة الرعد : ٤٣.


فالأول قال : إن الكتاب أفضل من العترة.

والثاني قال : إن النبيّ وعترته الطاهرة أفضل من القرآن.

والثالث قال : بتساوي العترة مع القرآن.

واستدل الأوّلون بأحاديث منها ما ورد من أن الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر.

واستدل الآخرون بأحاديث الثقلين الكتاب والعترة من دون إضافة أحدهما أكبر من الآخر.

واستدل الأوسطون وخير الأمور أوسطها بروايات متعددة :

(منها): إنهم كتاب الله الناطق ، والناطق خير من الصامت ، ولو لا الناطق لما عرف الصامت.

(ومنها): ما ورد بألسنة متعددة قولهم عليهم‌السلام وبأسانيد صحيحة (أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرب أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان) وقولهم (قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا ..).

(ومنها): ما ورد أنهم عليهم‌السلام أول خلق الله سبحانه ، وبما أن القرآن محدث وهم محدثون ، فترجيح أحدهما على الآخر لا بد أن يكون لمرجّح وقد تقدم.

(ومنها) ما ورد عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام من أنّ القرآن يهدي للإمام عليه‌السلام لقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١).

هذه حصيلة الآراء في المسألة ولا يهمّنا التعرّض لتفاصيلها هاهنا. ولكن ما يهمنا هو التعرّض لفهم دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الكتاب هو الثقل الأكبر ، والعترة هي الثقل الأصغر ، ويمكن أن يقال في توجيهه ما يلي :

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩.


(الأول): كون الكتاب أكبر من العترة باعتبار تقدّمه الزماني في عالم العناصر ، بمعنى أن الكتاب كان موجودا في اللوح المحفوظ قبل خلقة أجسادهم عليهم‌السلام.

يرد عليه :

إن كان المراد من اللوح الشيء المادي فهو مردود لمعارضته لكثير من الأخبار الدالة على أن النبيّ والعترة أول ما خلق الله تعالى ، مضافا إلى معارضته للأخبار التي صرّحت بعكس المدّعى.

وإن كان المراد من اللوح هو الأمر المعنوي ، فإما أن يكون هذا الأمر المعنوي في ذات الله ـ لأن علمه عين ذاته ـ فحينئذ يتساوى معهم عليهم‌السلام من حيث علمه عزوجل بهم.

وإما أن يكون هذا الأمر في جهة أخرى من حيث إفاضته عزوجل العلوم على جهة ثم منها إلى غيرها ، فلا بد أن يكونوا هم عليهم‌السلام هذه الجهة ، لما تقدّم من أنهم أول خلق الله تعالى ولا سابق عليهم.

(الثاني): كون الكتاب فيه ما يتعلق بتوحيده عزوجل وتنزيهه عن صفات المحدثات والممكنات ، فهو بهذا أكبر من العترة الداعية إلى توحيد وتنزيه الله تعالى عن كل نقص.

(الثالث): كون الكتاب دال على تمجيدهم عليهم‌السلام والثناء عليهم بأحسن الأوصاف فبهذا يكون أكبر منهم لأنّه هاد إليهم وأمر الناس باتّباعهم ، لذا عبّر عن الكتاب ب «الأكبر» ولم يعبّر عنه ب «الأشرف» فهو أكبر من العترة بما يحويه من معارف وأخبار وقصص وقوانين وأحكام الخ ..

(الرابع): كون الكتاب الثّقل الأكبر وهم الثقل الأصغر يعني أنّ الكتاب هو عقلهم وقرين عقلهم ، والعترة هي الجسم الحامل للعقل ، فالعقل أكبر من الجسم وأفضل ، والعاقل أكبر من العقل وأفضل ، من حيث إن القرآن عقلهم وأن جميع


علومهم مستندة إليه ، وإن هذا هو المعروف بين كافة المكلّفين والمخاطبين وإنهم لو قيل علمهم من غير القرآن مثلا لأنكرهم الرعية وكذّبوهم واتهموهم ولما ركنوا إلى قولهم ولا اطمأنوا بالائتمام بهم والأخذ عنهم ، فمن حيث ذلك كله حسن أن يقال إن الكتاب هو الثقل الأكبر مع أنه بالنسبة إلى أجسامهم عند الانقسام كذلك ، ومن حيث إنّهم الكتاب الناطق والعاقلون فهم مجموع القسمين أكبر وأفضل مع أن الحقيقة الجامعة للكل حقيقتهم ، وإن العقل والقرآن نور تلك الحقيقة وصفتها وفرعها فهم أفضل وأكبر ، ولكن لمّا كان ما أخبروا به من العلوم وما أضمروا مستندا إلى القرآن وإلى الوحي صحّ كون نسبته إليهم ثناء عليهم وفخرا لهم ولا منافاة كما أن الشخص جميع ما عنده من العلوم تنسب إلى عقله ومنه صدرت ويصحّ الثناء عليه بها بل يصحّ الفخر والثناء للمرء بعبيده وخيله وأعماله وأفعاله وهو أكبر وأفضل منها ، وتمدح الشجرة ويبدو حسنها بورقها الذي يستمد منها ويفتقر إليها ومنه الإشارة في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي يهدي للإمام كما ورد في نصوص مستفيضة.

(٢٥) الخامس والعشرون

حديث الكساء

في مسند أحمد بن حنبل ، من عدة طرق ، وفي الجمع بين الصّحاح الستة ، عن أم سلمة ، قالت : كان رسول الله في بيتي ، فأتت فاطمة عليها‌السلام فقال : ادعي زوجك وابنيك ، فجاء عليّ وفاطمة ، والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل الله سبحانه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثم أخرج يده ، فألوى بها إلى السماء ، وقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأدخلت رأسي البيت ، وقلت : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : إنك إلى خير (١).

__________________

(١) ذكرنا في البحوث السابقة مصادر هذا الحديث الشريف المتفق على صدوره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولاحظ أيضا إحقاق الحق ج ٢ / ٥٠٢ ـ ٥٤٤.


(٢٦) السادس والعشرون :

حديث الأمان

في مسند أحمد بن حنبل ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان للأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض (١).

ورواه صدر الأئمة موفق بن أحمد المكي (٢).

وفي مسند أحمد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم إني أقول كما قال أخي موسى : اجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي ، اشدد به أزري واشركه في أمري (٣).

ولا ريب أن الحديثين من أدل الأمور على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة مع كونه معصوما ، فإن العاصي لا يأمن على نفسه فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، وكونهم أمانا لأهل الأرض يعني أنهم أفضل الناس مع ملاك العصمة فيهم ، فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين فقد تعينت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض كما هو اعتقادنا ، وقد جعل الله تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٤) وأشار إلى ذلك ابن حجر في صواعقه (٥) فقال : «السابعة قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٤٠ ، ينابيع المودة ص ١٩ ، مستدرك الحاكم ج ٢ / ٤٤٨ وج ٣ / ١٤٠ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار ص ١١٤ ، ذخائر العقبى ص ٧ ، كنز العمال ج ٦ / ١١٦ ، فيض القدير ج ٦ / ٢٩٧.

(٢) نهج الحق ص ٢٢٩.

(٣) الدر المنثور ج ٤ / ٢٩٥ ، التفسير الكبير ج ١٢ / ٢٦ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٣٦٨.

(٤) سورة الأنفال : ٣٣.

(٥) الآية السابعة من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم‌السلام.


لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته وأنهم أمان لأهل الأرض كما كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمانا لهم وفي ذلك أحاديث كثيرة» ثم ذكر أخبارا تدل على ذلك ، فقال :

ومن هذه الأحاديث ما صحّحه الحاكم على شرط الشيخين : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ، وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا : إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا. وفي رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق. وفي رواية «هلك» ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ... ثم إن المراد من أهل البيت الذين هم أمان هو سائر أهل البيت فإن الله لمّا خلق الدنيا بأسرها من أجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته لأنهم يساوونه في أشياء مرّ عن الرازي بعضها ولأنه قال في حقهم : اللهم إنهم مني وأنا منهم ولأنهم بضعة منه بواسطة أن فاطمة أمهم بضعته فأقيموا مقامه في الأمان. إلى آخر كلامه الجميل إلا أنه أفسده بنصبه وعداوته للشيعة بقوله :

«ولا تتوهم الرافضة والشيعة قبّحهم الله من هذه الأحاديث إنهم يحبون أهل البيت لأنهم أفرطوا في محبتهم حتى جرى ذلك إلى تكفير الصحابة وتضليل الأمة ، إلى أن قال : وهؤلاء الضالون الحمقى أفرطوا في محبة عليّ وفي أهل بيته فكانت محبتهم عارا عليهم وبوارا قاتلهم الله أنى يؤفكون» (١).

(٢٧) السابع والعشرون :

حديث اثنا عشر خليفة

في صحيح البخاري ، في موضعين ، بطريقين ، عن جابر وابن عيينة ، قال رسول الله : لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٥٣.


وفي رواية عن النبيّ : لا يزال أمر الإسلام عزيزا ، إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش.

وفي صحيح مسلم أيضا : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

وفي الجمع بين الصحاح الستّة في موضعين قال رسول الله : هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

وكذا في صحيح أبي داود ، والجمع بين الصحاح الستة (١).

وفي الينابيع (٢) للقندوزي الحنفي عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبي عند النبيّ فسمعته يقول : بعدي اثنا عشر خليفة ، ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟ قال : قال كلهم من بني هاشم.

وذكر السدي في تفسيره ، وهو من علماء الجمهور وثقاتهم ، قال : لمّا كرهت سارة مكان هاجر أوحى الله إلى إبراهيم ، فقال : انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله بيت النبيّ التهاميّ ، يعني مكة ، فإني ناشر ذريتك ، وجاعلهم ثقلا على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيّا عظيما ، ومظهره على الأديان ، وجاعل من ذرّيته اثني عشر عظيما ، وجاعل ذريّته عدد نجوم السماء.

ـ وقد دلت هذه الأخبار على إمامة اثني عشر إماما من ذريّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا قائل بالحصر إلّا الإمامية في المعصومين ، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، وكيف تحصى وقد روى أخطب خوارزم من الجمهور بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال رسول الله :

__________________

(١) مسند أحمد ج ٥ / ٨٩ و ٩٠ و ٩٢ ، ومستدرك الحاكم ج ٤ / ٥٠١ ، مجمع الزوائد ج ٥ / ١٩٠ ، كنز العمال ج ٦ / ٢٠١ و ٢٠٦ ، صحيح البخاري ج ٩ / ١٠١ ، صحيح مسلم ج ٢ / ١٩٢ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٥ ، ينابيع المودة ص ٤٤٤.

(٢) ينابيع المودة ص ٤٤٥.


لو أن الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجن حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب (١).

قال الحافظ البيهقي : وهو ـ أي الإمام عليّ ـ أهل كل فضيلة ومنقبة ، ومستحق لكل سابقة ومرتبة ، ولم يكن أحد في وقته أحقّ بالخلافة منه (٢).

وروى أخطب خوارزم أيضا قال :

قال رسول الله : إن الله جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها ، غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، ومن كتب فضيلة من فضائله ، لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله ، غفر الله الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتاب من فضائله ، غفر الله الذنوب التي اكتسبها بالنظر.

ثم قال : النظر إلى عليّ عبادة ، وذكره عبادة ، ولا يقبل الله إيمان عبد إلّا بولايته ، والبراءة من أعدائه (٣).

وعن أخطب خوارزم أيضا عن ابن مسعود قال :

قال رسول الله : لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم ، فقال : الحمد لله ، فأوحى الله تعالى إليه حمدني عبدي ، وعزتي وجلالي لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك ، قال : إلهي فيكونان مني؟

__________________

(١) ينابيع المودة ص ١٢١ ، لسان الميزان ج ٥ / ٦٢ ، كفاية الطالب ص ٢٥٢ ، الصواعق المحرقة ص ٧٢ ، نور الأبصار ص ٨١ ، المستدرك ج ٣ / ١٠٧.

(٢) نقله عنه الكنجي الشافعي في كفاية الطالب ص ٢٥٣.

(٣) مناقب الخوارزمي بسنده عن محمد بن عمارة عن أبيه عن الإمام جعفر عن آبائه عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله كما في ينابيع المودة ص ١٠٢ الباب ١٩ رواه بطرق متعددة ، وكفاية الطالب ص ٢٥١ ، والحمويني في فرائد السمطين ، والحافظ الهمداني في المناقب ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ١١٣ ـ ١١٦ بطرق متعددة أيضا ، وإحقاق الحق ج ٧ / ٨٩ ـ ١٨٨ بأسانيد معتبرة من العامة.


قال : نعم يا آدم ، ارفع رأسك ، وانظر ، فرفع رأسه ، فإذا مكتوب على العرش : «لا إله إلّا الله ، محمّد نبيّ الرحمة ، وعليّ مقيم الحجّة ، من عرف حقّ عليّ زكا وطاب ، ومن أنكر حقه لعن وخاب ، أقسمت بعزتي وجلالي : أن أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت بعزتي : أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني (١).

فمن يقول عنه رسول الله مثل هذا ، كيف يمكن إحصاء فضائله؟!

ملاحظة : معنى الحديث المتقدّم الذي قد تستنكره بعض الطباع : أن الله عزوجل يدخل الجنّة من أطاع عليّا أمير المؤمنين اعتقادا ـ أي معتقدا بإمامته وولايته ـ وإن عصى الله تعالى في الفروع ، وأنّه عزوجل يدخل النار من عصاه بالاعتقاد به عليه‌السلام وإن أطاعه بالفروع ، ويشهد لما قلنا ما ورد بالمستفيض عنهم عليهم‌السلام قالوا : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان (٢).

ـ إلى هنا نكون انتهينا من المقصد الثاني في إثبات الأدلة النقلية على أحقيّة أمير المؤمنين عليّ بالخلافة.

ـ لنرجع إلى متن المحاورة ـ.

__________________

(١) المناقب بسنده عن الأعمش كما في ينابيع المودة ص ١١ ، والحاكم في المستدرك ج ٣ / ١٤١.

(٢) وسائل الشيعة ج ١ / ٩١ ح ٢ باب ٢٩ بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة واعتقاد إمامتهم.



المحتويات

فاتحة الكتاب.................................................................... ٥

الإهداء......................................................................... ٧

تمهيد........................................................................... ٩

تقديم المرجع الكبير الحجّة السيد المرعشي النجفي................................... ١٥

المقدمة........................................................................ ١٨

وهنا نقطتان................................................................... ٥٠

النقطة الأولى : التعريف بأركان الدولة السلجوقية................................... ٥١

النقطة الثانية : هل المحاورة حقيقة خارجية أو نظرية افتراضية؟......................... ٦٥

الإيرادات المتوجهة إلى المحاورة ونقضها.............................................. ٦٧

الإيراد الأول................................................................... ٦٧

الإيراد الثاني................................................................... ٦٨

الإيراد الثالث.................................................................. ٦٩

الإيراد الرابع................................................................... ٧٠

الإيراد الخامس................................................................. ٧٠

الإيراد السادس................................................................. ٧١

الإيراد السابع.................................................................. ٧١

الإيراد الثامن................................................................... ٧١

الإيراد التاسع.................................................................. ٧٣

الإيراد العاشر.................................................................. ٧٣


الإيراد الحادي عشر............................................................. ٧٩

الإيراد الثاني عشر.............................................................. ٨٠

الإيراد الثالث عشر............................................................. ٨٢

الإيراد الرابع عشر.............................................................. ٨٤

الإيراد الخامس عشر............................................................ ٨٦

الإيراد السادس عشر............................................................ ٨٧

بداية المحاورة.................................................................... ٨٩

وهنا نقطتان.......................................................................

النقطة الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا........................................ ٩٠

النقطة الثانية : مصدر التشيّع.................................................... ٩٦

فرية العامة على الشيعة في مصدر التشيّع.......................................... ٩٨

نظريات ترجع أصل التشيّع إليها ونقضها.......................................... ٩٩

النقض على نظرية : إن التشيّع مصدره عبد الله بن سبأ............................ ١٠٢

افتراق الأمة الإسلامية على ثلاث وسبعين فرقة................................... ١٠٦

الفرقة الناجية هي : أهل السنة والجماعة ونقضه.................................. ١٠٧

الفرقة الناجية هي : اثنان وسبعون وواحدة في النار ونقضه.......................... ١٠٨

تعريض النبيّ بأصحابه وأن أكثرهم إلى النار...................................... ١٠٨

من هم المؤلفة قلوبهم؟......................................................... ١١٤

الأدلة على إمامة الأئمة عبر طريقين............................................. ١١٦

الطريق الأول : الأدلة العقلية................................................... ١١٧

الدليل الأول : قاعدة اللطف................................................... ١١٧

فوائد بعثة الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام............................................... ١١٨

الدليل الثاني : العصمة........................................................ ١١٩

الدليل الثالث : الكمالات النفسية.............................................. ١٢٠


الطريق الثاني : الأدلة النقلية الشرعية............................................ ١٢٠

الدليل الأول : آيات الكتاب الكريم............................................. ١٢٠

الدليل الثاني : الأخبار......................................................... ١٢٢

الحديث الأول : أن الأئمة اثنا عشر خليفة....................................... ١٢٣

تشكيك العامة بدلالة الحديث والرد عليهم....................................... ١٢٣

الحديث الثاني : أهل بيتي أمان لأهل الأرض..................................... ١٢٦

الحديث الثالث : أهل بيتي كسفينة نوح.......................................... ١٢٨

الحديث الرابع : القرآن والعترة هما الثقلان........................................ ١٣٠

دلالة حديث الثقلين على إمامة الأئمة عليهم‌السلام..................................... ١٣١

الحديث الخامس : من مات ولم يعرف إمام زمانه................................... ١٣٣

دلالة الحديث على وجوب معرفة الإمام المهدي روحي فداه......................... ١٣٤

مفهوم الصحبة عند الإمامية.................................................... ١٣٦

المعنى اللغوي للصحبة.......................................................... ١٣٦

المعنى الاصطلاحي للصحبة.................................................... ١٣٩

هل أن كلّ الصحابة عدول أتقياء؟.............................................. ١٤٠

الاستدلال بآية المبايعة تحت الشجرة ونقضه...................................... ١٤٣

أحاديث البخاري عن النبيّ في ذم أكثر أصحابه.................................. ١٤٤

الاجراءات الوقائية التي اتخذها الرسول وهو على فراش الموت........................ ١٥٣

هنا إجراءان.......................................................................

الإجراء الأول : الأمر بتجهيز جيش أسامة....................................... ١٥٤

الحكمة في تأمير أسامة الفتى دون غيره؟.......................................... ١٥٥

الإجراء الثاني : الأمر بإحضار دواة وكتف........................................ ١٥٦

دفاع النووي عن عمر بن الخطاب بنعته النبيّ بالهجر ونقضه......................... ١٥٨

ردودنا على مقالة عمر : «إن الرجل ليهجر».................................... ١٥٩


هل كان القرآن مجموعا في عهد النبيّ؟........................................... ١٦٤

القرآن في عهد أبي بكر؟!...................................................... ١٦٥

القرآن في عهد عثمان!........................................................ ١٦٧

جمع أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام للقرآن.............................................. ١٧٠

مميزات مصحف الإمام عليّ المرتضى عليه‌السلام........................................ ١٧٢

فرية الأشاعرة على الشيعة الإمامية في مسألة تحريف القرآن الكريم................... ١٧٣

معنى التحريف لغة............................................................ ١٧٤

أقسام التحريف............................................................... ١٧٤

عمر بن الخطاب يعتقد بأن القرآن محرّف......................................... ١٧٥

ما هي الطرق لإثبات الخلافة؟.................................................. ١٧٧

الطريق الأول : النص.......................................................... ١٧٧

الطريق الثاني : الاختيار والنقض عليه............................................ ١٧٨

اختلاف العامة في تحديد عدد أهل الحل والعقد................................... ١٨٠

ثلاثة شروط عند بعض العامة لانتخاب الخليفة................................... ١٨١

النقض على هذه الأقوال....................................................... ١٨٢

الآثار السلبية التي خلّفها طريق الاختيار.......................................... ١٨٩

الطريق الثالث : الميراث والنقض عليه............................................ ١٩٣

استدلال العامة على خلافة أبي بكر ونقضه...................................... ١٩٤

عدم صلاحية أبي بكر وعمر لإمامة الصلاة...................................... ١٩٩

أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لم يبايع القوم لا مختارا ولا مكرها........................... ٢٠٣

شبهة وحل................................................................... ٢٠٥

بيان الأدلة على بطلان خلافة أبي بكر.......................................... ٢٠٩

إشكال وحل................................................................. ٢١١

يشترط في الخليفة العدالة الواقعية................................................ ٢١١


الظالم لا ينال الإمامة.......................................................... ٢١٢

لا يقاس بآل محمّد أحد من الناس............................................... ٢١٥

شبهة وحل................................................................... ٢٢٠

مطاعن أبي بكر.............................................................. ٢٢٤

الطعن الأول................................................................. ٢٢٤

الطعن الثاني.................................................................. ٢٢٥

الطعن الثالث................................................................ ٢٢٥

ما فعله خالد بمالك بن نويرة وزناه بزوجته......................................... ٢٢٥

اعتراض عمر على خالد بن الوليد............................................... ٢٢٦

الطعن الرابع.................................................................. ٢٢٦

الطعن الخامس................................................................ ٢٢٨

هوى أبي بكر في إحراق المسلمين بالنار.......................................... ٢٢٩

خالد بن الوليد : سيف الشيطان المسلول........................................ ٢٢٩

شبهة وحل................................................................... ٢٣٠

لما ذا لم يتأول أبو بكر للفجاءة السلمي كما تأول لخالد؟.......................... ٢٣١

دفاع الايجي والقوشجي عن أبي بكر ونقضه...................................... ٢٣١

الطعن السادس............................................................... ٢٣١

قول عمر لخالد : والله لأرجمنّك بأحجارك........................................ ٢٣٢

هل مات مالك بن نويرة كافرا؟................................................. ٢٣٣

ثلاثة أسباب دعت أبا بكر إلى قتل الصحابي مالك بن نويرة....................... ٢٣٥

الطعن السابع................................................................ ٢٣٧

الطعن الثامن................................................................. ٢٤٢

شبهة وحل................................................................... ٢٤٢

الطعن التاسع................................................................. ٢٤٣


لما ذا اغتصب أبو بكر من الصدّيقة الشهيدة أرض فدك؟.......................... ٢٤٥

هنا نقاط.........................................................................

النقطة الأولى : في ماهية فدك.................................................. ٢٤٦

تشكيك ابن كثير الدمشقي والرد عليه........................................... ٢٥١

شهادة السهيلي ووافقه المناوي بأن السّاب للسيدة الزهراء كافر...................... ٢٥٤

عود على بدء................................................................ ٢٥٨

النقطة الثانية : الأدلة على أن فدكا للشهيدة الصدّيقة فاطمة روحي فداها............ ٢٥٩

الوجه الأول.................................................................. ٢٥٩

الوجه الثاني.................................................................. ٢٦٠

الوجه الثالث................................................................. ٢٦٠

الأسباب التي دعت سيدة النساء عليها‌السلام للاحتجاج بفدك........................... ٢٧٥

احتجاج الشهيدة المظلومة عليها‌السلام على أبي بكر وعمر في مسجد النبيّ................. ٢٧٦

الإعجاز العلمي في خطبة الصدّيقة روحي فداها................................... ٢٩٠

ملاحظات على ذيل الخطبة المنسوبة إليها : «واشتملت شملة الجنين»................ ٢٩٠

تعريض أبي بكر بأمير المؤمنين والصدّيقة فاطمة عليها‌السلام.............................. ٢٩٢

اعتراض أم سلمة زوجة النبي على أبي بكر لمّا تعرّض للسيدة الزهراء.................. ٢٩٣

الأنبياء يورّثون المال أيضا....................................................... ٢٩٨

دعوى الأشاعرة أن الأنبياء لا يورّثون المال ونقضها من أساسها...................... ٢٩٨

ردّ دعوى أبي بكر : أن الأنبياء لا يورّثون المال.................................... ٢٩٩

إشكال وحل................................................................. ٣٠١

الإشكالات على حديث : «إنّا معشر الأنبياء لا نورّث».......................... ٣٠٢

شبهة : «أن الأنبياء فقراء لا يملكون شيئا فلا يورّثون المال» ونقضها................. ٣٠٣

النقطة الثالثة : الشبهات الراجعة إلى اغتصاب فدك ودحضها....................... ٣٠٩

الشبهة الأولى................................................................. ٣٠٩


الشبهة الثانية................................................................. ٣١٠

الشبهة الثالثة................................................................. ٣١١

الشبهة الرابعة................................................................ ٣١٣

الشبهة الخامسة............................................................... ٣١٣

مطاعن عمر بن الخطاب....................................................... ٣١٤

الطعن الأول : نعت النبيّ بالهجر على فراش الموت................................. ٣١٤

دفاع النووي عن مقالة عمر «حسبنا كتاب الله» ونقضه........................... ٣١٧

إشكال وحل................................................................. ٣٢٠

دعوى النووي «أن عمر منع من كتابة الكتاب شفقة على الأمة» ونقضها............ ٣٢١

دعوى أخرى للنووي ونقضها................................................... ٣٢٥

شبهات وردود................................................................ ٣٢٦

الشبهة الأولى................................................................. ٣٢٦

الشبهة الثانية................................................................. ٣٢٧

الشبهة الثالثة................................................................. ٣٢٨

إشكال وحل................................................................. ٣٣٠

الشبهة الرابعة................................................................ ٣٣٠

الشبهة الخامسة............................................................... ٣٣٢

إشكال وحل................................................................. ٣٣٣

الشبهة السادسة.............................................................. ٣٣٤

الشبهة السابعة............................................................... ٣٣٩

الطعن الثاني : التخلف عن جيش أسامة......................................... ٣٤٥

الطعن الثالث : تحريم المتعتين................................................... ٣٤٥

هنا نقاط.........................................................................

النقطة الأولى : في تعريف المتعة لغة واصطلاحا وأحكامها........................... ٣٤٦


الأركان الأربعة للمتعة.......................................................... ٣٤٧

إشكال وحل................................................................. ٣٤٨

الأمور المشتركة بين الدائم والمنقطع.............................................. ٣٥٤

التمايز بين الدائم والمنقطع..................................................... ٣٥٥

النقطة الثانية : المتعة في كتاب الله عزوجل.......................................... ٣٥٨

هنا أمور..................................................................... ٣٥٨

الأمر الأول.................................................................. ٣٥٨

الأمر الثاني................................................................... ٣٥٩

الأمر الثالث................................................................. ٣٥٩

دعوى الرازي والنقض عليها.................................................... ٣٥٩

دعوى أن آية المتعة هي الزواج الدائم ونقضها..................................... ٣٦٠

اعتراف علماء العامة بحلية المتعة في أول الإسلام.................................. ٣٦١

نكاح المتعة في السنّة المطهّرة.................................................... ٣٦٥

استعراض النصوص............................................................ ٣٦٥

دعوى تكرار نسخ المتعة ونقضها................................................ ٣٧٠

دعوى تحريم عمر للمتعة بسبب سوء الاستفادة منها ونقضها....................... ٣٧٢

إشكال وحل................................................................. ٣٧٤

دعوى عمر أن المتعة كانت في زمان ضرورة ونقضها................................ ٣٧٤

متعة الحج.................................................................... ٣٧٧

ما الهدف من تحريم عمر لمتعة الحج؟............................................. ٣٧٧

ما الهدف من تحريم عمر لمتعة الحج؟............................................. ٣٧٧

اعتراض ابن القيّم على تحريم عمر............................................... ٣٧٨

النقطة الثالثة : عدم وجود ناسخ لآية متعة النساء................................. ٣٨١

شبهة أنّ في النسخ نسبة النقص أو الجهل إلى المشرّع ونقضها....................... ٣٨١


دعوى عدم وجود نسخ في القرآن والردّ عليها..................................... ٣٨٣

الاعتراض على نسخ متعة النساء................................................ ٣٨٤

كيفية علاج الأخبار المدّعى ناسخيتها لآية المتعة.................................. ٣٨٧

دعوى الإجماع على نسخ المتعة وردّها............................................ ٣٩٠

النقطة الرابعة : في ردّ بعض الشبهات............................................ ٣٩٠

الشبهة الأولى : أن التمتع ينافي الإحصان ونقضها................................. ٣٩٠

دعوى أن المرأة المتمتع بها كرة تتلقفها الأيدي ونقضها.............................. ٣٩٢

دعوى تحريم عمر للمتعة كان اجتهادا منه كاجتهاد النبيّ ، ونقضها.................. ٣٩٢

الشبهة الثانية : النكاح يحتاج إلى شهود ، والمتعة لا شهود فيها...................... ٣٩٥

الشبهة الثالثة : أن المتعة خلاف العفة........................................... ٣٩٥

الشبهة الرابعة : الجمع بين روايات التحليل والتحريم بوجه عقيم وردّه................. ٣٩٧

الشبهة الخامسة : المتعة كالزنا من حيث بيع المرأة جسدها وردّه...................... ٣٩٨

الشبهة السادسة : إساءة مزاولة المتعة يستلزم تحريمها وردّه........................... ٣٩٩

الشبهة السابعة : وجود آثار سلبية ناتجة عن المتعة................................. ٤٠٠

دعوى إمكان الصحابي نسخ الأحكام ونقضها................................... ٤٠١

ما الداعي لكي تنسخ المتعة؟................................................... ٤٠٢

الطعن الرابع : جهل عمر بموت رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم............................ ٤٠٤

للعامة محامل ثلاثة لجهل عمر بموت النبيّ وردّها................................... ٤٠٤

المحمل الأول.................................................................. ٤٠٤

دعوى ابن أبي الحديد والردّ عليها................................................ ٤٠٧

المحمل الثاني.................................................................. ٤٠٨

المحمل الثالث................................................................. ٤١٠

شبهة وردّ.................................................................... ٤١١

الطعن الخامس : أن عمر أمر برجم امرأة حامل................................... ٤١٢


دعوى قاضي القضاة.......................................................... ٤١٢

اعتراف ابن روزبهان الأشعري بخطإ عمر في الأحكام............................... ٤١٢

دعوى قاضي القضاة وابن روزبهان ونقضها....................................... ٤١٣

الطعن السادس : أمر عمر برجم المجنونة......................................... ٤١٤

دفاع قاضي القضاة وردّه....................................................... ٤١٤

الطعن السابع : منع عمر من المغالاة في صدقات النساء............................ ٤١٥

عمر وجواب المتعصبين له ونقضه............................................... ٤١٥

الطعن الثامن : التجسس على بعض المسلمين.................................... ٤١٦

دفاع قاضي القضاة وردّه....................................................... ٤١٧

شبهة وردّ.................................................................... ٤١٧

الطعن التاسع : أعطيات عمر من بيت المال...................................... ٤١٩

هل يجوز أن يفضّل عمر بعض النساء على بعض؟................................ ٤١٩

شبهة وجواب................................................................. ٤٢٠

الطعن العاشر : عطّل الحدّ عن المغيرة بن شعبة.................................... ٤٢١

الردّ على قاضي القضاة........................................................ ٤٢١

الطعن الحادي عشر : كان يتلوّن في الأحكام..................................... ٤٢٢

الطعن الثاني عشر : بدعة الشورى في انتخاب الخليفة.............................. ٤٢٣

تهكّم عمر على أعضاء الشورى................................................. ٤٢٣

إذا كانت الشورى بدعة فلم دخلها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام؟........................ ٤٢٤

الطعن الثالث عشر : ما صدر عنه من البدع..................................... ٤٢٨

حرمة صلاة التراويح أو النوافل جماعة عند الشيعة الإمامية.......................... ٤٢٨

ما ورد في أخبار العامة من نهي النبيّ عن صلاة النوافل جماعة........................ ٤٢٩

الطعن الرابع عشر : وضع الخراج على أرض السواد................................ ٤٣٠

الطعن الخامس عشر : تغريب نصر بن الحجاج من غير ذنب عن المدينة.............. ٤٣١


الطعن السادس عشر : أن عمر أحرق باب سيدة النساء فاطمة عليها‌السلام............... ٤٣٤

الطعن السابع عشر : أوصى بأن يدفن في بيت النبيّ.............................. ٤٣٤

كيف لا يورّث النبيّ مالا وقد ورّث عائشة ونساءه الحجرات؟....................... ٤٣٦

إسقاط عمر لجزء من الأذان والإقامة وهو «حي على خير العمل»................... ٤٤٠

لما ذا حرّم عمر «حي على خير العمل»؟........................................ ٤٤٠

ما معنى «حيّ على خير العمل»؟............................................... ٤٤٠

كان عمر عطوفا على العرب دون العجم........................................ ٤٤١

لم يمت عمر بن الخطاب حتى أوصى إلى عثمان................................... ٤٤٣

هل كان الإمام عليّ عليه‌السلام ذا دعابة؟............................................ ٤٤٧

خلافة عثمان مستندة إلى عمر ، وعمر جاء إلى الحكم بوصية أبي بكر.............. ٤٥٢

فظاظة عمر ودرته التي هي أهيب من سيف الحجاج............................... ٤٥٣

منع عمر لرواية الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.................................... ٤٥٥

دعوى عمر أن الكتاب الكريم كاف في فهم الأحكام ونقضها...................... ٤٥٥

اعتراف ابن أبي الحديد أن عمر فيه غلظة........................................ ٤٥٧

بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها........................................ ٤٥٩

استدلال العلوي على بطلان خلافة أبي بكر...................................... ٤٦٠

الشواهد التاريخية على استلام أبي بكر السلطة بقوة السيف......................... ٤٦٠

تنبيه........................................................................ ٤٦٤

هنا ملاحظات................................................................ ٤٦٥

الملاحظة الأولى : أن خط المعارضة لأهل البيت لم يهتم لموت النبيّ................... ٤٦٥

نظرية السيد هاشم معروف الحسني والردّ عليها.................................... ٤٦٦

الملاحظة الثانية : دعوى الأنصار أنّهم أولياء الرسول عشيرته........................ ٤٦٧

الملاحظة الثالثة : دعوى أصحاب السقيفة أن كلّ الأنصار يريدون الخلافة لهم........ ٤٦٨

الملاحظة الرابعة : أن الحلف الثلاثي خطط للمؤامرة قبل موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم........... ٤٦٨


علام التشويش على الشيعة يا سنّة وقد كان عمر يعتقد بالرجعة؟................... ٤٦٨

السر في تأخر أبي بكر للقدوم إلى المدينة من بيته بالسنح لما مات النبيّ............... ٤٦٨

لنا ملاحظات أخرى أيضا على سقيفة بني ساعدة................................. ٤٧١

إشارة تتعلق بالسبّ........................................................... ٤٧٤

تفاصيل اقتحام دار الصدّيقة فاطمة برواية ابن قتيبة الدينوري........................ ٤٧٤

دعوى أن أمير المؤمنين عليه‌السلام بايع وردّها.......................................... ٤٧٦

ماتت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام وهي واجدة على أبي بكر......................... ٤٨٠

عود على بدء................................................................ ٤٨٢

لما ذا سكت الناس عن أصحاب السقيفة؟....................................... ٤٨٤

إيرادنا على مقالة أبي بكر : «إن بيعتي كانت فلتة ..»............................ ٤٨٥

هل أن قول أبي بكر «أقيلوني ..» كقول الإمام علي : «دعوني والتمسوا غيري»؟..... ٤٨٩

مذهب السلفية............................................................... ٤٩٢

دفاع ابن خلدون عن الخط السلفي وردّه......................................... ٤٩٥

يشترط في الأخذ من السلف ثلاثة عناصر مهمة.................................. ٤٩٦

حديث «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» رواه أحمد ومسلم................. ٤٩٧

* من هم الخلفاء الراشدون؟.................................................... ٤٩٩

معنى الخلافة.................................................................. ٥٠١

لفظة «رشد» ومشتقاتها في القرآن الكريم......................................... ٥٠٢

المعنى الاصطلاحي للخليفة والرشيد.............................................. ٥٠٣

* أهل البيت عليهم‌السلام هم الخلفاء الراشدون........................................ ٥٠٤

التشديد على منع الحديث في عهد الشيخين..................................... ٥٠٥

القرائن القطعية تثبت أن المغتصبين ليسوا راشدين.................................. ٥٠٨

هنا نقطتان........................................................................

النقطة الأولى : بيان الحكمة من وجود الخليفة..................................... ٥١١


قاعدة اللطف................................................................ ٥١٢

عناصر أخرى مهمة تدخل في تركيبة الشخصية الرسالية............................ ٥١٣

العنصر الأول : قيادة الأمة..................................................... ٥١٣

العنصر الثاني : ضرورة إتمام الحجّة............................................... ٥١٤

العنصر الثالث : الإمام باب الفيض الإلهي....................................... ٥١٤

النقطة الثانية : بيان المواصفات المعتبرة في الخليفة.................................. ٥١٤

النصوص الدالة على الولاية الإلهية.............................................. ٥١٥

دعوى أن الإمامة هي النبوة في آية الابتلاء مردودة................................ ٥١٧

لا بدّ من توفر شرطين في الإمام الخليفة.......................................... ٥١٨

من المسئول عن تعيين الإمام؟................................................... ٥٢٠

هل بمقدور الأمة أن تختار الخليفة؟.............................................. ٥٢١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك الأمة بلا خليفة........................................ ٥٢٢

قام الإجماع على أعلمية أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام دون سواه.......................... ٥٢٥

الأدلة على إثبات خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.................................. ٥٢٦

هنا مقصدان......................................................................

المقصد الأول : الأدلة العقلية الدالة على إمامته عليه‌السلام.............................. ٥٢٦

الأول : اللطف الإلهي......................................................... ٥٢٦

الثاني : العصمة.............................................................. ٥٢٩

الثالث : النص............................................................... ٥٣٠

الرابع : سيرة النبيّ قامت على الاستخلاف حال غيابه............................. ٥٣٠

الخامس : كون الإمام أفضل الرعية.............................................. ٥٣١

السادس : الوصية عند العقلاء.................................................. ٥٣٣

السابع : الخليفة يجب أن يكون عارفا بأصول الشرائع والأحكام..................... ٥٣٥

المقصد الثاني : الأدلة النقلية الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام............... ٥٣٥


القسم الأول : آيات الكتاب العزيز............................................. ٥٣٥

الآية الأولى................................................................... ٥٣٥

المراد من «الولي» في الآية هو الأولى بالتصرف.................................... ٥٣٧

لا يصح تفسير «الولي» بالناصر إلّا بلحاظ جهتين................................ ٥٣٨

شبهات وردود................................................................ ٥٤١

الشبهة الأولى : أن الموصوفين بالركوع في الآية هم الخاشعون........................ ٥٤١

لا يصار إلى المعنى المجازي إلّا بقرينة.............................................. ٥٤٢

القول بالمعنى المجازي في الآية يخلّ بوحدة السياق فيها............................... ٥٤٣

الاعتقاد بالشبهة المزبورة يستلزم انتقال الولايتين : التشريعية والتكوينية لكل المؤمنين..... ٥٤٤

الشبهة الثانية : أن المراد من قوله تعالى في الآية «والذين آمنوا» عامة المؤمنين......... ٥٤٥

الاعتقاد بالشبهة يلغي خصوصية نزولها بحق الإمام عليه‌السلام............................ ٥٤٦

التفسير المذكور يلغي دور أداة الحصر في الآية..................................... ٥٤٨

الشبهة الثالثة : تفسير الآية بالإمام عليّ يستلزم نفي استغراقه بالله في الصلاة......... ٥٤٨

استعراض الأخبار الدالة على كيفية صلاة رسول الله............................... ٥٤٩

أمر النبيّ بقتل الأسودين في الصلاة.............................................. ٥٥٠

الشبهة الرابعة : أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير.......................... ٥٥١

الشبهة الخامسة : أن الإمام عليّا عليه‌السلام كان فقيرا فكيف يتصدّق بخاتم............... ٥٥١

الفقر لا يمنع من تزيين الكف بالخاتم............................................. ٥٥٢

الزكاة أعم من المعنى المصطلح في عرف المتشرعة................................... ٥٥٢

الزكاة المستحبة في القرآن الكريم................................................. ٥٥٣

الشبهة السادسة : إخراج الزكاة الواجبة في الصلاة يتنافى تحديده مع الصلاة........... ٥٥٤

الشبهة السابعة : أن تفسير الشيعة للآية بولاية التصرف لا يتلاءم مع وحدة سياق الآيات ٥٥٥


وحدة السياق في الآيات ليس حجّة عند الشيعة الإمامية........................... ٥٥٥

الولاية بمعنى النصرة شأن من شئون الولاية المطلقة.................................. ٥٥٦

الشبهة الثامنة : جاء ذكر المؤمنين في الآية بصيغة الجمع ، وحمله على الواحد مجاز..... ٥٥٧

الشبهة التاسعة : لا دلالة في الآية على أن الإمام عليّا هو الخليفة بعد الرسول......... ٥٥٩

دعوى الآلوسي والإيراد عليه................................................... ٥٦٠

الشبهة العاشرة : لو كانت هذه الآية دالة على إمامته عليه‌السلام لكان احتج بها في محفل من المحافل       ٥٦١

الشبهة الحادية عشرة : دلت الآية على الإمامة الشأنية لا الفعلية في عهد النبيّ ومن بعده كأبي بكر وعمر وعثمان      ٥٦٣

الآية الثانية................................................................... ٥٦٤

الأمر بالإطاعة المطلقة لأولي الأمر يستلزم عصمتهم وحاكميتهم على الأمة............ ٥٦٤

إشكال وحل................................................................. ٥٦٤

للرسول حيثيتان............................................................... ٥٦٥

تشكيك الفخر الرازي في آية الإطاعة............................................ ٥٦٨

وهنا وجوه.........................................................................

الوجه الأول : أن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون ونقضه........................... ٥٦٨

الوجه الثاني : أن أولي الأمر هم الأمراء والحكّام في كل زمان ونقضه.................. ٥٦٩

الوجه الثالث : أن أولي الأمر العلماء العدول ونقضه............................... ٥٧٢

الوجه الرابع : أن أولي الأمر هم الإجماع أو أهل الحل والعقد ونقضه................. ٥٧٤

إشكال وحل................................................................. ٥٧٥

هل صحيح أن أمة النبيّ محمد لا تجتمع على خطأ؟............................... ٥٧٥

النقض الإجمالي على كلّ هذه الوجوه............................................ ٥٧٧

إشكالات الرازي على الآية ونقضها............................................. ٥٧٨


هنا وجهان........................................................................

الوجه الأول : أن طاعة المعصومين مشروطة بمعرفتهم وهو تكليف بما لا يطاق ، والإيراد عليه ٥٧٨

الوجه الثاني : أن الأمر بالإطاعة على نحو المجموع وهو غير حاصل في زمن واحد والإيراد عليه ٥٨٠

إشكالان آخران وجوابهما...........................................................

الإشكال الأول............................................................... ٥٨١

الإشكال الثاني............................................................... ٥٨٢

* الآية الثالثة................................................................. ٥٨٥

هنا نقطتان........................................................................

النقطة الأولى : مورد نزول آية التطهير............................................ ٥٨٥

مصادر العامة وآية التطهير..................................................... ٥٨٧

الوجوه التي استند إليها بعض العامة على شمولية الآية لغير العترة والإيراد عليها......... ٥٨٧

الوجه الأول : وجود أخبار تحصر الآية بنساء النبيّ ونقضه.......................... ٥٩٢

كلمات علماء الجرح والتعديل في عكرمة الكذّاب................................. ٥٩٣

الوجه الثاني : وجود أخبار تدل على شمولية الآية ، ونقضه.......................... ٦٠١

الإيراد على من ادّعى أن الآية تشمل جميع بني هاشم.............................. ٦٠٤

الوجه الثالث : وحدة سياق الآيات تدل على شمولية الآية ، ونقضه.................. ٦٠٥

عدم حجيّة وحدة السياق عند الإمامية........................................... ٦٠٦

دفع بعض التأويلات.......................................................... ٦١٠

النقطة الثانية : معرفة مداليل آية التطهير ومفرداتها................................. ٦١١

والبحث ضمن مفردات الآية........................................................

* المفردة الأولى : الإرادة....................................................... ٦١١

تعريف الإرادة بحسب الاصطلاح الكلامي....................................... ٦١١


تقسيمات الإرادة............................................................. ٦١٢

الإرادة في الآية الشريفة تكوينية................................................. ٦١٣

إشكالان وجوابان..................................................................

الإشكال الأول............................................................... ٦١٥

الإشكال الثاني............................................................... ٦١٦

الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية............................................ ٦١٩

رأي الأشاعرة في الإرادة التشريعية ونقضه......................................... ٦٢٠

* المفردة الثانية : الرجس....................................................... ٦٢٢

الرّجس لغة هو القذارة المادية والمعنوية على حدّ سواء............................... ٦٢٢

الرّجس بحسب التقسيم القرآني على قسمين : مادي ومعنوي....................... ٦٢٤

* أهل البيت عليهم‌السلام مطهرون عن جميع أقسام الرجس.............................. ٦٢٥

العرف لا يفرّق بين مصاديق الرجس المادية والمعنوية................................ ٦٢٦

الإيراد على من ادّعى نجاسة باطن المعصوم....................................... ٦٢٦

النجس هو الرجس وهما ضربان : مادي ومعنوي................................... ٦٢٨

إطلاق التطهير في الآية يشير نفي مراتب الرجس عنهم............................ ٦٢٩

وجود ضدّية بين الرّجس والطهارة................................................ ٦٣٠

* استعراض بعض الأخبار الدالة على الطهارة المادية للمعصوم...................... ٦٣٢

لا شفاء في نجس.............................................................. ٦٣٦

إشكال وجواب............................................................... ٦٣٧

ومن الأدلة على طهارة المعصوم أيضا............................................ ٦٣٧

نفي الحيض والنفاس عن سيدة النساء فاطمة عليها‌السلام إشارة للطهارة المادية.............. ٦٤٠

إشكال وجواب............................................................... ٦٤٠

ولا ننسى ما جاء في الزيارات الصحيحة بشأن طهارتهم المادية....................... ٦٤١

لم يثبت فقهيا نجاسة كلّ دم وبول وروث......................................... ٦٤٣


* المفردة الثالثة : أهل البيت عليهم‌السلام.............................................. ٦٤٤

هنا عدة نقاط.....................................................................

النقطة الأولى : مفهوم أهل البيت لغة............................................ ٦٤٤

النقطة الثانية : مفهوم أهل البيت اصطلاحا...................................... ٦٤٧

القرائن الدالة على أن المراد من أهل البيت هو العترة الطاهرة........................ ٦٤٧

القرينة الأولى................................................................. ٦٤٧

القرينة الثانية................................................................. ٦٤٩

القرينة الثالثة................................................................. ٦٤٩

القرينة الرابعة................................................................. ٦٥١

* المفردة الرابعة : التطهير...................................................... ٦٥١

أقسام الطهارة................................................................ ٦٥١

بفقرة «ويطهركم تطهيرا» نستدل أيضا على الطهارة المادية.......................... ٦٥١

* هنا تساؤلات....................................................................

التساؤل الأول : ليس في الآية ما يدل على تحقق الإرادة بالفعل..................... ٦٥٢

التساؤل الثاني : إنّ إذهاب الرّجس عنهم عليهم‌السلام يستلزم وجوده فيهم قبل نزول الآية.... ٦٥٣

التساؤل الثالث : ما فائدة البحث في طهارة متعلقات المعصوم؟..................... ٦٥٥

الثمرة الفقهية العملية المترتبة على الطهارة المادية................................... ٦٥٦

* الآية الرابعة................................................................ ٦٥٧

آية البلاغ ويوم الغدير......................................................... ٦٥٨

تواتر حديث الغدير بين المسلمين............................................... ٦٦١

تشكيك الرازي بنزول الآية بأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ونقضه......................... ٦٦١

إشكالات وردود.............................................................. ٦٦٨

الإشكال الأول : نزلت الآية لتطمئن النبيّ لأنه كان خائفا.......................... ٦٦٨


الإشكال الثاني : أن نزول آية البلاغ كان أول البعثة.............................. ٦٦٩

الإشكال الثالث : أن الله أمره بتبليغ ما أنزله عليه سابقا........................... ٦٧٠

وهم دفع.................................................................... ٦٧١

الإشكال الرابع : أن توسط الآية بين الآيات المتعلقة باليهود والنصارى يستلزم عدم اختصاصها بأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام          ٦٧٢

شبهة وحل................................................................... ٦٧٤

* وهنا نبحث في نقاط ثلاث........................................................

النقطة الأولى : سند الحديث وتواتره............................................. ٦٧٥

بخوع أكابر العامة لفضل الحديث وصحة سنده................................... ٦٧٥

تنبيه........................................................................ ٦٩٥

الإيراد على من ادّعى انفراد أحمد بن حنبل بالحديث الشريف....................... ٦٩٧

عدم إخراج البخاري ومسلم هذا الحديث المتواتر لا يكون قدحا في الحديث........... ٦٩٨

مشايخ البخاري ومسلم يروون بأسانيد صحيحة متعددة حديث الغدير............... ٧٠١

الإيراد على شبهة ابن حجر الهيثمي بعدّه الخبر من الآحاد.......................... ٧٠٢

الإيراد على تشكيك السيد محمّد حسين فضل الله بسند الغدير..................... ٧٠٣

النقطة الثانية : في دلالة الحديث على الإمامة..................................... ٧٠٧

للفظ «المولى» أكثر من ثلاثين معنى في اللغة..................................... ٧٠٨

المولى في الحديث هو «الأولى بالتصرف»......................................... ٧٠٨

القدر الجامع بين تلك المعاني هو الأولى بالشيء................................... ٧٠٨

القرائن الحالية والمقالية تثبت صحة ما نذهب إليه نحن الشيعة....................... ٧١٠

أقوال الشعراء والبلغاء على أن المراد من المولى هو الأولى............................. ٧١٦

تنبيه........................................................................ ٧٢٢

الوجوه الدالة على معنى الأولوية الملازمة للإمامة................................... ٧٢٥

الوجه الأول.................................................................. ٧٢٦


الوجه الثاني.................................................................. ٧٢٦

الوجه الثالث................................................................. ٧٢٧

كلمات حول مفاد الحديث لأعلام العامة في تآليفهم.............................. ٧٢٨

إيرادنا على أبي حنيفة وشهاب الدين ابن شمس الدين دولت آبادي.................. ٧٣٥

النقطة الثالثة : النقوض على الإيرادات الواردة على حديث الغدير الشريف........... ٧٣٨

الإيراد الأول : أن خبر الغدير من أخبار الآحاد في مقابلة الإجماع................... ٧٣٨

الإيراد الثاني : عدم مجيء «مفعل» في اللغة بمعنى «افعل».......................... ٧٤٢

وزبدة المخض................................................................. ٧٥٠

الإيراد الثالث : المراد من «المولى» هو الوصية والخلافة على قضاء دينه وإنجاز موعده ، ولا دلالة فيه على الحاكمية     ٧٥١

إشكال وحل................................................................. ٧٥٢

الإيراد الرابع : لو كان حديث الغدير متواترا ودالا على خلافة الإمام عليه‌السلام لكان على الصحابة أن يجعلوه مقياسا بعد النبي       ٧٥٣

الإيراد الخامس : المراد بالمولى هو المنصور والمحبوب.................................. ٧٥٤

الإيراد السادس : أن مورد الحديث هو عتق أسامة................................. ٧٥٥

الإيراد السابع : أن مورد الحديث هو براءة الإمام عليّ مما كان تكلم في عرضه بعض.... ٧٥٧

القسم الثاني : أخبار السنّة النبوية المطهّرة الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.... ٧٦٢

الحديث الأول : اتحاد النورين................................................... ٧٦٣

لما كانت أجسامهم نورا كانت متعلقاتها طاهرة بالملازمة............................. ٧٦٣

الحديث الثاني : الدار أو الإنذار................................................ ٧٦٤

شبهة المحقق الشيخ جعفر السبحاني ونقضها...................................... ٧٦٦

الحديث الثالث : الوصية...................................................... ٧٦٧


الحديث الرابع : من أحبّ أصحابك إليك؟...................................... ٧٦٧

الحديث الخامس : لكلّ نبيّ وصيّ ووارث......................................... ٧٦٨

الحديث السادس : لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك.......................... ٧٦٨

الحديث السابع : المناجاة...................................................... ٧٦٨

الحديث الثامن : المباهلة....................................................... ٧٦٩

إشكال ابن روزبهان وردّه....................................................... ٧٦٩

لما ذا أخذ رسول الله معه الإمام عليا والصدّيقة فاطمة الزهراء وولديهما للمباهلة مع نصارى نجران؟   ٧٧٢

الحديث التاسع : المنزلة........................................................ ٧٧٣

الإيراد على شبهة ابن روزبهان في ردّ الحديث بأنّ هارون لم يكن خليفة بعد موسى..... ٧٧٣

وضّح القرآن الكريم منازل هارون من موسى...................................... ٧٧٦

الحديث العاشر : الراية يوم خيبر................................................ ٧٧٧

اعتراف ابن روزبهان بصحة حديث الراية يوم خيبر................................. ٧٧٩

الحديث الحادي عشر : برز الإيمان.............................................. ٧٨١

اعتراف علماء العامة بصحة الحديث............................................ ٧٨٢

لا ملازمة بنظر العامة بين الفضائل وأهلية الخلافة................................. ٧٨٢

الحديث الثاني عشر : سدّ الأبواب إلّا باب سيد الأوصياء عليّ عليه‌السلام................ ٧٨٣

الإيراد على الناصبيّ ابن روزبهان................................................. ٧٨٣

الحديث الثالث عشر : المؤاخاة والمنزلة........................................... ٧٨٦

الحديث الرابع عشر : أن عليّا مني وأنا من عليّ................................... ٧٨٦

الحديث الخامس عشر : إن فيك مثلا من عيسى.................................. ٧٨٧

الحديث السادس عشر : لا يحبك إلّا مؤمن...................................... ٧٨٧

الحديث السابع عشر : خاصف النعل........................................... ٧٨٧


الحديث الثامن عشر : الطائر المشوي............................................ ٧٨٨

الحديث التاسع عشر : أنا مدينة العلم وعليّ بابها................................. ٧٨٩

الحديث العشرون : من آذى عليّا فقد آذاني...................................... ٧٨٩

الحديث الواحد والعشرون : تزويج الصدّيقة الطاهرة منه عليهما‌السلام..................... ٧٩٠

الحديث الثاني والعشرون : تكسير الأصنام وردّ الشمس............................ ٧٩١

تواتر معجزة ردّ الشمس له عليه‌السلام................................................ ٧٩٢

الإيرادات المتوجهة إلى هذه الكرامة ونقضها............................................

الإيراد الأول : لو كان لردّ الشمس أصل لكانت من أعظم عجائب العالم............ ٧٩٣

الإيراد الثاني : أن خصوصيات روايات القضية متنافية.............................. ٧٩٥

الإيراد الثالث : كيف تردّ له الشمس وقد ترك الصلاة عمدا........................ ٧٩٧

إشكال وحل................................................................. ٧٩٨

علاج إشكال مفاده : وجود تعارض في الأخبار................................... ٨٠٠

الإيراد الرابع : تذكر القضية أن النبيّ نام بعد صلاة العصر وهو مكروه لا يفعله النبيّ فكيف فوّت الصلاة على ابن عمّه؟        ٨٠٠

الإيراد الخامس : اشتمال أحاديث ردّ الشمس على منكرات........................ ٨٠١

الإيراد السادس : بما أن النبيّ هو الداعي بردها فالكرامة له لا للإمام علي عليه‌السلام....... ٨٠٢

دلالة حديث كسر الأصنام على الولاية.......................................... ٨٠٣

أبيات الشافعي في مدح الإمام عليّ بهذه الكرامة.................................. ٨٠٤

دلالة حديث : «لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية عليّ عليه‌السلام» على الإمامة...... ٨٠٤

إشكال وحل................................................................. ٨٠٥

الحديث الثالث والعشرون : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق........................... ٨٠٦

يا عمّار تقتلك الفئة الباغية.................................................... ٨٠٦

من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوه قلّده الله يوم القيامة وشاحين من در........... ٨٠٦

أبهى المداد في شرح موتمر علماء بغداد - ١

المؤلف:
الصفحات: 846