
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة مريم
هذه السورة مكية
بإجماع إلا السجدة منها فقالت فرقة هي مكية وقالت فرقة هي مدنية.
قوله عزوجل :
(كهيعص (١)
ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ
رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)
(٦)
اختلف الناس في
الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة : هو سر الله في القرآن لا ينبغي
أن يعرض له ، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب
معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة وليس في كتاب الله ما لا
يفهم ، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة ، ونذكر
الآن ما يختص بهذه السورة. قال ابن عباس وابن جبير والضحاك هذه حروف دالة على
أسماء من أسماء الله تعالى الكاف من «كبير» ، وقال ابن جبير أيضا الكاف من «كاف» ،
وقال أيضا هي من «كريم» فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه
تعالى. قالوا والهاء من «هاد» ، والياء من «علي» وقيل من «حكيم» ، وقال الربيع بن
أنس هي من «يأمن» لا يجير ولا يجار عليه. قال ابن عباس والعين من «عزيز» وقيل من
«عليم» وقيل من «عدل» ، والصاد من «صادق» وقال قتادة بل (كهيعص) بجملته اسم للسورة ، وقالت فرقة بل هي اسم من أسماء الله
تعالى. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول يا (كهيعص) اغفر لي ، فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى
ويحتمل أن يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء
التي تضمنها (كهيعص) ، كأنه أراد أن يقول «يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا
صادق» اغفر ، فجمع هذا كله باختصار في قوله يا (كهيعص). وقال ابن المستنير وغيره (كهيعص) عبارة عن حروف المعجم ، ونسبه الزجاج إلى أكثر أهل اللغة ،
أي هذه الحروف منها (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع (ذِكْرُ) بأنه خبر عن (كهيعص) ، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون. وقرأ الجميع كاف
بإثبات الألف والفاء. وقرأ نافع الهاء والياء وبين الكسر والفتح ولا يدغم الدال
في الذال ، وقرأ
ابن كثير ونافع أيضا بفتح الهاء والياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح
الياء ، وروي عنه ضم الياء ، وروي عنه أنه قرأ كاف بضم الفاء.
قال أبو عمرو
الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب
القلب ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وقرأ عاصم بكسرها ، وقرأت فرقة
بإظهار النون من عين وهي قراءة حفص عن عاصم وهو القياس إذ هي حروف منفصلة ، وقرأ
الجميع غيره بإخفاء النون جعلوها في حكم الاتصال ، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من
صاد ، وقرأ أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله (ذِكْرُ) ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص
بعضها من بعض. وارتفع قوله (ذِكْرُ) فيما قالت فرقة بقوله (كهيعص) وقد تقدم وجه ذلك ، وقالت فرقة : ارتفع على خبر ابتداء
تقديره «هذا ذكر» ، وقالت فرقة : ارتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره فيما أوحي
إليك ذكر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن يعمر «ذكر رحمة ربك» بفتح الذال والكاف
والراء على معنى هذا المتلو ذكر «رحمة» بالنصب ، هذه حكاية أبي الفتح. وحكى أبو
عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ «ذكّر رحمة» بفتح الذال وكسر الكاف المشددة ونصب
الرحمة و «عبده» نصب ب «الرحمة» التقدير ذكر أن رحم ربك عبده» ، ومن قال في الكلام
تقديم وتأخير فقد تعسف. وقرأ الجمهور «زكرياء» بالمد ، وقرأ الأعمش ويحيى وطلحة «زكريا»
بالقصر وهما لغتان وفيه لغات غيرهما. وقوله (نادى) معناه بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى «إخفائه» هذا النداء
، فقال ابن جريج ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء ، ومنه قول النبي عليهالسلام «خير الذكر الخفي»
وقال غيره يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الأعمال التي يزكو بها البشر. وفي «الدعاء»
الذي هو في معنى العفو والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير فإخفاؤه أبعد من
الرياء وأما دعاء (زَكَرِيَّا) وطلبه فكان في أمر دنياوي وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا
يلومه الناس في ذلك ، وليكون على أول أمره إن أجيب نال بغيته وإن لم يجب لم يعرف
أحد بذلك ، ويقال وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل. و (وَهَنَ) معناه ضعف ، والوهن في الشخص أو الأمر الضعف وقرأ الأعمش «وهن»
بكسر الهاء (وَاشْتَعَلَ) مستعارة للشيب من اشتعال النار على التشبيه به.
و (شَيْباً) نصب على المصدر في قول من رأى (اشْتَعَلَ) بمعنى شاب ، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك بل رآه
فعلا آخر ، فالأمر عنده كقولهم : تفقأت شحما وامتلأت غيظا. وقوله (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ
شَقِيًّا) شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده معناه أي قد أحسنت إلي
فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله. وقوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) الآية ، اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف (الْمَوالِيَ) ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا
ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك ، وروى قتادة والحسن عن النبيصلىاللهعليهوسلم أنه قال «يرحم الله أخي زكرياء ما كان عليه ممن يرث ماله».
وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين ، فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب (وَلِيًّا) يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز
أن يسأل «زكريا» من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.
قال القاضي أبو
محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وهذا يؤيد قول النبي عليهالسلام «إنا
معشر الأنبياء لا
نورث ما تركنا فهو صدقة» ، ويوهنه ذكر «العاقر». والأكثر من المفسرين على أنه أراد
وراثة المال ، ويحتمل قول النبي صلىاللهعليهوسلم «إنا معشر
الأنبياء لا نورث» أن لا يريد به العموم بل على أنه غالب أمرهم فتأمله ، والأظهر
الأليق «بزكريا» عليهالسلام أن يريد وراثة العلم والدين فتكون الوراثة مستعارة ، ألا
ترى أنه إنما طلب (وَلِيًّا) ، ولم يخصص ولدا فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه. وقال
أبو صالح وغيره : قوله (يَرِثُنِي) يريد المال ، وقوله (وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ) يريد العلم والنبوة. وقال السدي: رغب «زكريا» في الولد. و (خِفْتُ) من الخوف هي قراءة الجمهور وعليها هو هذا التفسير ، وقرأ
عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر
وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم «خفّت» بفتح الخاء والفاء وشدها وكسر التاء على
إسناد الفعل إلى (الْمَوالِيَ) والمعنى على هذا انقطع أوليائي وماتوا ، وعلى هذه القراءة
فإنما طلب (وَلِيًّا) يقول بالدين ، و (الْمَوالِيَ) بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. وقوله (مِنْ وَرائِي) أي من بعدي في الزمن فهم الولاء على ما بيناه في سورة
الكهف ، وقال أبو عبيدة في هذه الآية أي من بين يدي ومن أمامي وهذا قلة تحرير.
وقرأ ابن كثير «من ورائي» بالمد والهمز وفتح الياء ، وقرأ أيضا ابن كثير «من وراي»
بالياء المفتوحة مثل عصاي ، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء. و «العاقر» من
النساء التي لا تلد من غير كبرة وكذلك العاقر من الرجال.
ومنه قول عامر بن
الطفيل :
لبئس الفتى إن
كنت أعور عاقرا
|
|
جبانا فما عذري
لدى كل محضر
|
و «زكريا» عليهالسلام لما رأى من حاله إنما طلب (وَلِيًّا) ولم يصرح بولد لبعد ذلك عنده بسبب المرأة ، ثم وصف الولي
بالصفة التي هي قصده وهو أن يكون وارثا. وقالت فرقة : بل طلب الولد ثم شرط أن تكون
الإجابة في أن يعيش حتى يرثه تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد لكن يخترم فلا
يتحصل منه الغرض المقصود. وقرأ الجمهور «ويرثني» برفع الفعلين على معنى الصفة
للولي وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرثني ويرث» بجزم الفعلين ، وهذا على مذهب سيبويه
ليس هو جواب «هب» إنما تقديره «إن تهبه يرثني» ، والأول أصوب في المعنى لأنه طلب
وارثا موصوفا ، ويضعف الجزم أنه ليس كل موهوب يرث. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس
وغيرهما «يرثني وارث من آل يعقوب» ، قال أبو الفتح هذا هو التجريد ، التقدير :
يرثني منه أو به وارث ، وقرأ مجاهد «يرثني ويرث» بنصب الفعلين ، وقرأت فرقة يرثني
أو يرث من آل يعقوب» على التصغير. وقوله من (آلِ يَعْقُوبَ) يريد يرث منهم الحكمة والحبورة والعلم والنبوءة والميراث
في هذه كلها استعارة و (رَضِيًّا) معناه مرضي فهو فعيل بمعنى مفعول.
قوله عزوجل :
(يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ
أَلاَّ
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا
(١٠)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا
بُكْرَةً وَعَشِيًّا)
(١١)
المعنى قيل له
بإثر دعائه (يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) يولد لك (اسْمُهُ يَحْيى) وقرأ الجمهور «بشّرك» بفتح الباء وكسر الشين مشددة ، وقرأ
أصحاب ابن مسعود «نبشرك» بسكون الباء وضم الشين ، قال قتادة : سمي (يَحْيى) لأن الله أحياه بالنبوءة والإيمان ، وقال بعضهم سمي بذلك
لأن الله أحيا له الناس بالهدى. وقوله (سَمِيًّا) معناه في اللغة لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم ، أي لم
يتسم قبل ب (يَحْيى) وهذا قول قتادة وابن عباس وابن أسلم والسدي ، وقال مجاهد
وغيره (سَمِيًّا) معناه مثلا ونظيرا وهذا كأنه من المساماة والسمو ، وفي هذا
بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى اللهم إلا أن يفضل في خاص بالسؤود والحصر.
وقال ابن عباس معناه لم تلد العواقر مثله. وقول زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) اختلف الناس فيه فقالت فرقة : إنما كان طلب الولي دون
تخصيص ولد فلما بشر بالولد استفهم عن طريقه مع هذه الموانع منه ، وقالت فرقة :
إنما كان طلب الولد وهو بحال يرجو الولد فيها بزواج غير العاقر أو تسرّ ، ولم تقع
إجابته إلا بعد مدة طويلة صار فيها إلى حال من لا يولد له فحينئذ استفهم وأخبر عن
نفسه ب (الْكِبَرِ) والعتو فيه. وقالت فرقة : بل طلب الولد فلما بشر به لحين
الدعوة تفهم على جهة السؤال لا على جهة الشك كيف طريق الوصول إلى هذا وكيف نفذ
القدر به؟ لا أنه بعد عنده هذا في قدرة الله. و «العتي» و «العسي» المبالغة في
الكبر أو يبس العود أو شيب الرأس أو عقيدة ما ونحو هذا ، وقرأ حمزة والكسائي «عتيا»
بكسر العين والباقون بضمها ، وقرأ ابن مسعود «عتيا» بفتح العين ، وحكى أبو حاتم أن
ابن مسعود قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين وحكاها الداني عن ابن عباس أيضا ، وحكى
الطبري عن ابن عباس أنه قال : ما أدري أكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في الظهر والعصر ولا أدري أكان يقرأ (عِتِيًّا) أو «عسيا» بالسين. وحكى الطبري عن السدي أنه قال: نادى
جبريل زكرياء إن الله يبشرك (بِغُلامٍ اسْمُهُ
يَحْيى) فلقيه الشيطان فقال له إن ذلك الصوت لم يكن لملك وإنما كان
لشيطان فحينئذ قال زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ) ، ليثبت أن ذلك من عند الله ، و «زكريا» هو من ذرية هارون عليهالسلام ، وقال قتادة : جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة
وقيل ابن سبعين وقال الزجاج : ابن خمس وستين فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له. وقوله
(قالَ كَذلِكَ) قيل إن المعنى قال له الملك (كَذلِكَ) فليكن الوجود كما قيل لك (قالَ رَبُّكَ) خلق الغلام (عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، أي غير بدع فكما (خَلَقْتُكَ مِنْ
قَبْلُ) وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن ، وقال الطبري :
معنى قوله (كَذلِكَ) أي الأمران اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبرة هو (كَذلِكَ) ولكن (قالَ رَبُّكَ) قال القاضي والمعنى عندي قال الملك (كَذلِكَ) أي على هذه الحال (قالَ رَبُّكَ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ). وقرأ الجمهور «وقد خلقتك» ، وقرأ حمزة والكسائي «وقد
خلقناك». وقوله (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي موجودا ، قال زكرياء (رَبِّ اجْعَلْ لِي
آيَةً) علامة أعرف بها صحة هذا وكونه من عندك. وروي أن زكرياء عليهالسلام لما عرف ثم طلب الآية بعد ذلك عاقبة الله تعالى بأن أصابه
بذلك السكوت عن كلام الناس ، وذلك وإن لم يكن عن مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال
عقاب. ما روي عن ابن زيد أن
زكرياء لما حملت
زوجة منه يحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله
، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه ، ويحتمل على هذا أن يكون قوله (اجْعَلْ لِي آيَةً) معناه علامة أعرف بها أن الحمل قد وقع ، وبذلك فسر الزجاج.
ومعنى قوله (سَوِيًّا) فيما قال الجمهور صحيحا من غير علة ولا خرس ، وقال ابن
عباس أيضا ذلك عائد على «الليالي» أراد كاملات مستويات ، وقوله (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) المعنى أن الله تعالى أظهر الآية بأن خرج زكرياء من محرابه
وهو موضع مصلاة ، و (الْمِحْرابِ) أرفع المواضع والمباني إذ هي تحارب من ناوأها ثم خص بهذا
الاسم مبنى الصلاة ، وكانوا يتخذونها فيما ارتفع من الأرض ، واختلف الناس في
اشتقاقه ، فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات ،
وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب بفتح الراء كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا
، وفي اللفظ بعد هذا نظر. وقوله (فَأَوْحى) قال قتادة وابن منبه : كان ذلك بإشارة ، وقال مجاهد : بل
بأن كتبه في التراب.
قال القاضي أبو
محمد : وكلا الوجهين وحي. وقوله (أَنْ سَبِّحُوا) ، (أَنْ) مفسرة بمعنى «أي» ، و (سَبِّحُوا) قال قتادة : معناه صلوا ، والسبحة الصلاة ، وقالت فرقة :
بل أمرهم بذكر الله وقول سبحان الله. وقرأ طلحة «أن سبحوه» بضمير ، وباقي الآية
بين ويقال «وحي وأوحى» بمعنى واحد.
قوله عزوجل :
(يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣)
وَبَرًّا
بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
(١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
(١٥)
المعنى فولد له
وقال الله تعالى للمولود (يا يَحْيى) ، وهذا اختصار ما يدل الكلام عليه. و (الْكِتابَ) التوراة بلا اختلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل
موجودا عند الناس. وقوله (بِقُوَّةٍ) أي العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام للوازمه ثم
أخبر الله تعالى فقال (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، واختلف في (الْحُكْمَ) ، فقالت فرقة الأحكام والمعرفة بها ، و (صَبِيًّا) يريد شابا لم يبلغ حد الكهول. وقال الحسن (الْحُكْمَ) النبوءة ، وفي لفظة صبي على هذا تجوز واستصحاب حال ، وقالت
فرقة (الْحُكْمَ) الحكمة ، وروى معمر في ذلك أن الصبيان دعوه وهو طفل إلى
اللعب فقال إني لم أخلق للعب فتلك الحكمة التي آتاه الله عزوجل وهو صبي أهم لذاته اللعب. وقال ابن عباس : من قرأ القرآن
من قبل أن يحتلم فهو ممن «أوتي الحكم صبيا» ، وقوله (وَحَناناً) عطف على قوله (الْحُكْمَ وَزَكاةً) عطف عليه ، أعمل في جميع ذلك (آتَيْناهُ) ، ويجوز أن يكون قوله (وَحَناناً) عطفا على قوله (صَبِيًّا) ، أي وبحال حنان منا وتزكية له والحنان الرحمة والشفقة والمحبة
قاله جمهور المفسرين ، وهو تفسير اللغة. وهو فعل من أفعال النفس ويقال حنانك
وحنانيك ، فقيل هما لغتان بمعنى واحد ، وقيل حنانيك تثنية الحنان. وقال عطاء بن
أبي رباح (حَناناً مِنْ
لَدُنَّا) بمعنى تعظيما من لدنا. والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم
من الأمور في ذات الله تعالى ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال بن رباح «والله
لئن قتلتم هذا
العبد لأتخذن قبره
حنانا». وقد روي عن ابن عباس أنه قال «والله ما أدري ما الحنان». و «الزكاة»
التطهير والتنمية في وجوه الخير والبر. و «التقي» فعيل من تقوى الله عزوجل ، وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمرو عن
النبي عليهالسلام أنه قال «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان
من يحيى بن زكرياء». وقال قتادة : إن يحيى عليهالسلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا بكبيرة ولا همّ بامرأة ، وقال
مجاهد : كان طعام يحيى العشب وكان للدمع في خده مجار ثابتة ومن الشواهد في الحنان
قول امرئ القيس : [الوافر]
وتمنحها بنو
شمجى بن جرم
|
|
معيزهم حنانك ذا
الحنان
|
وقال النابغة : [الطويل]
أبا منذر أفنيت
فاستبق بعضنا
|
|
حنانيك بعض الشر
أهون من بعض
|
وقال الآخر : [منذر
بن إبراهيم الكلبي] [الطويل]
فقالت حنان ما
أتى بك هاهنا
|
|
أذو نسب أم أنت
بالحي عارف
|
وقوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الآية ، «البر» الكثير البر. و «الجبار» المتكبر كأنه يجبر
الناس على أخلاقه والنخلة الجبارة العظيمة العالية. و «العصي» أصله عصوي فعول
بمعنى فاعل. وروي أن يحيى بن زكرياء عليهالسلام لم يواقع معصية صغيرة ولا كبيرة كما تقدم. وقوله (وَسَلامٌ) قال الطبري وغيره : معناه وأمان ، والأظهر عندي أنها
التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان وهي
أقل درجاته وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها
في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله وعظيم الهول ، وذكر الطبري عن
الحسن أن عيسى ويحيى التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع لي فأنت خير
مني. فقال عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي.
قال القاضي أبو
محمد : قال أبي ، رضي الله عنه : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل
عيسى بأن قال إذلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله التي اقتضت ذلك حين قرر
وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه عليهالسلام لكل وجه.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)
فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً
سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
قالَ
إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)
(٢٠)
هذه ابتداء قصة
ليست من الأولى ، والخطاب لمحمد عليهالسلام. و (الْكِتابِ) القرآن ،
و (مَرْيَمَ) هي بنت عمران أم عيسى أخت أم يحيى واختلف الناس لم (انْتَبَذَتْ) والانتباذ التنحي. فقال السدي (انْتَبَذَتْ) لتطهر من حيض ، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن ، وذلك أن
مريم كانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله
(شَرْقِيًّا) يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها ، وسبب كونه في الشرق
أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار ، وكانت الجهات الشرقية من كل
شيء أفضل من سواها ، حكاه الطبري. وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم
اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عزوجل (إِذِ انْتَبَذَتْ
مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة ، وقال بعض الناس «الحجاب» هي
اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات ، وقيل من ثياب ،
وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب ، و «الروح» جبريل ، وقيل عيسى ،
حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها ، ومن قال إنه
عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها ، قال النقاش ومن قرأ «روحنّا» مشددة النون جعله
اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل
كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك ، وقيل لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر
ورؤيتها لملك ، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر.
وقوله تعالى (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ) الآية ، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا لما
رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته ، فأساءت به الظن (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ) ذا تقى ، قال أبو وائل علمت أن «التقي» ذو نهية ، وقال وهب
بن منبه «تقي» رجل فاجر كان في ذلك الزمن في قومها فلما رأته متسورا عليها ظنته
إياه فاستعاذت بالرحمن منه ، حكى هذا مكي وغيره ، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص ، فقال
لها جبريل عليهالسلام (إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) ، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ
الجمهور «لأهب» كما تقدم ، وقرأ عمرو ونافع «ليهب» بالياء أي ليهب الله لك ،
واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود «ليهب الله لك» ، فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت
ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و «البغي» ،
المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت
فعيلا لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.
قوله عزوجل :
(قالَ كَذلِكِ قالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا
وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)
فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ
نَسْياً مَنْسِيًّا)
(٢٣)
المعنى قال لها
الملك (كَذلِكِ) هو كما وصفت ولكن (قالَ رَبُّكِ) ويحتمل أن يريد على هذه الحال (قالَ رَبُّكِ) والمعنى متقارب والآية العبرة المعرضة للنظر ، والضمير في
قوله (لِنَجْعَلَهُ) للغلام ، (وَرَحْمَةً مِنَّا) معناه طريق هدى لعالم كثير ، فينالون الرحمة بذلك ، ثم
أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز ،
و «الأمر» هنا
واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر وروي أن جبريل عليهالسلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها» فسرت النفخة
بإذن الله حتى حملت منها قاله وهب بن منبه وغيره ، وقال ابن جريج : نفخ في جيب
درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها» فذلك قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ) أي حملت الغلام ، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة ،
فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر «انتبذت به» أي تنحت (مَكاناً) بعيدا حياء وفرارا على وجهها ، وروي في هذا أنها فرت إلى
بلاد مصر أو نحوها قاله وهب بن منبه ، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف (ببيت
لحم) بينه وبين إيلياء أربعة أميال و «أجاءها» معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء
بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة ورويت عن عاصم «فاجأها» من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب
«فلما أجاءها المخاض».
وقال زهير : [الوافر]
وجار سار معتمدا
إليكم
|
|
أجاءته المخافة
والرجاء
|
وقرأ الجمهور «المخاض»
بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها»
، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه «جذع نخلة» بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية
ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليهالسلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار
قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، (يا لَيْتَنِي مِتُ) ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم
وأبو عمرو وجماعة «مت» بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مت» بكسرها
واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها
وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليهالسلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليهالسلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل
فيقول يا ليتني مكانه».
قال القاضي أبو
محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، (وَكُنْتُ نَسْياً) أي شيئا متروكا محتقرا ، و «النسي» في كلام العرب الشيء
الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نسي»
بكسر النون و «نسي» بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ،
واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب
القرظي بالهمز «نسئا» بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نسأ» بفتح النون ، وحكاها
أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نسّا» بشد السين وفتح النون
دون همز ، وقال الشنفري : [الطويل]
كأنّ لها في
الأرض نسّا تقصه
|
|
إذا ما غذت وإن
تحدثك تبلت
|
وحكى الطبري في
قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا
مريم أشعرت أني حملت» ، قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت» ، قالت لها «وإني أجد
ما في بطني يسجد لما في بطنك» وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية
بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى (مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩]
وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك
ذكر الطبري من
قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها
المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا
على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول جمهور المتأولين ، وروي
عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها
ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليهالسلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.
قوله عزوجل :
(فَناداها مِنْ
تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)
(٢٦)
قرأ ابن كثير وأبو
عمرو وعاصم وابن عامر وابن عباس والحسن وزيد بن حبيش ومجاهد والجحدري وجماعة «فناداها
من تحتها» على أن «من» فاعل ينادي والمراد ب «من» عيسى ، قال أي ناداها المولود
قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب ، وقال ابن عباس المراد ب «من» جبريل ولم
يتكلم حتى أتت به قومها وقاله علقمة والضحاك وقتادة ، ففي هذا آية لها وأمارة أن
هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم لا سيما والمنادي عيسى فإنه
يبين به عذر مريم ولا تبقى بها استرابة ، فلذلك كان النداء أن لا يقع حزن ، وقرأ
نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والبراء بن عازب والضحاك وعمرو بن ميمون وأهل
الكوفة وأهل المدينة وابن عباس أيضا والحسن «من تحتها» بكسر الميم على أنها
لابتداء الغاية واختلفوا ، فقال بعضهم : المراد عيسى ، وقالت فرقة : المراد جبريل
المحاور لها قبل ، قالوا : وكان في سعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي
عليها وأبين وأظهر ، وعليه كان الحسن بن أبي الحسن يقسم وقرأ علقمة وزر بن حبيش «فخاطبها
من تحتها» ، وقرأ ابن عباس «فناداها ملك من تحتها». وقوله (أَلَّا تَحْزَنِي) تفسير النداء ف «أن» مفسرة بمعنى أي ، و «السري» من الرجال
العظيم الخصال السيد ، و «السري» أيضا الجدول من الماء ، وبحسب هذا اختلف الناس في
هذه الآية فقال قتادة وابن زيد : أراد جعل تحتك عظيما من الرجال له شأن ، وقال
الجمهور أشار لها إلى الجدول الذي كان قرب جذع النخلة ، وروي أن الحسن فسر الآية
فقال أجل لقد جعله الله (سَرِيًّا) كريما ، فقال عبيد بن عبد الرحمن الحميري يا أبا سعيد إنما
يعني ب «السري» الجدول ، وقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ولكن غلبنا عليك
الأمراء ومن الشاهد في «السري» قول لبيد. [الكامل]
فتوسطا عرض
السري فصدعا
|
|
مسجورة متجاورا
قلّامها
|
ثم أمر بهز الجذع
اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع ، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة (رُطَباً) ، وقال السدي كان الجذع مقطوعا وأجرى النهر تحتها لحينه ،
والظاهر من الآية أن عيسى
هو المكلم لها وأن
الجذع كان يابسا وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله (بِجِذْعِ) زائدة مؤكدة قال أبو علي : كما يقال ألقى بيده أي ألقى
يده.
قال القاضي أبو
محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وأنشد الطبري : [الطويل]
بواد يمان ينبت
السدر صدره
|
|
وأسفله بالمزج
والشبهان
|
وقرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم والجمهور من الناس «تسّاقط»
بفتح التاء وشد السين يريد (النَّخْلَةِ) ، وقرأ البراء بن عازب والأعمش «يساقط» بالياء يريد «الجذع»
، وقرأ حمزة وحده «تساقط» بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة مسروق وابن وثاب
وطلحة وأبي عمرو بخلاف ، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء على ما تقدم من إرادة (النَّخْلَةِ) أو «الجذع». وقرأ عاصم في رواية حفص «تساقط» بضم التاء
وتخفيف السين ، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء ، وقرأ أبو حيوة «يسقط» بالياء ، وروي
عنه «يسقط» بضم الياء وقرأ أيضا «تسقط» ، وحكى أبو علي في الحجة أنه قرىء «يتساقط»
بياء وتاء ، وروي عن مسروق «تسقط» بضم التاء وكسر القاف ، وكذلك عن أبي حيوة ،
وقرأ أبو حيوة أيضا «يسقط» بفتح الياء وضم القاف ، «رطب جني» بالرفع ، ونصب (رُطَباً) يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة ، فمرة يسند الفعل إلى
الجذع ومرة إلى الهز ، ومرة إلى (النَّخْلَةِ) و (جَنِيًّا) معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهو من جنيت الثمرة. وقرأ
طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم ، وقد استدل بعض الناس من شيء للنفساء خيراً من
التمر والرطب ، وقال محمد بن كعب : كان طب عجوة ، وقد استدل بعض الناس من هذه
الآية على أن الرزق وإن كان محتوما فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه
لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية ، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي. وحكى الطبري
عن ابن زيد أنه قال «قال لها عيسى : لا تحزني ، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا
ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس (يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ،
فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام». وقوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي) الآية ، قرأ الجمهور «وقري» بفتح القاف ، وحكى الطبري
قراءة «وقري» بكسر القاف ، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح
بارد المس ودمع الحزن سخن المس ، وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله سخن وإنما معنى
قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به
العين. وقال الشيباني (قَرِّي عَيْناً) معناه نامي ، حضها على الأكل والشرب والنوم. وقوله (عَيْناً) نصب على التمييز ، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل
ذلك إلى ذي العين وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير ، ومثله طبت نفسا
وتفقأت شحما وتصببت عرقا ، وهذا كثير. وقرأ الجمهور «ترين» وأصله ترءيين حذفت
النون للجزم ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء ، ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها
وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف والياء ، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا!
النحو هو قول الأفوه : [السريع]
أما ترى رأسي أزرى
به
ثم دخلت النون
الثقيلة ، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون ، وإنما دخلت النون هنا
بتوطئة «ما» كما
توطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين» بالهمزة ، وقرأ
طلحة وأبو جعفر وشبية «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة ، قال أبو الفتح : وهي
شاذة ، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف
المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ،
وتبين الآية فيقوم عذرها ، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في
الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى (فَقُولِي) بالإشارة لا بالكلام وإلا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ
ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت». وقال قوم معناه (صَوْماً) عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر : [البسيط]
«خيل صيام» وأخرى
غير صائمة
وقال ابن زيد
والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام ، وقرأت فرقة «إني نذرت
للرحمن صمتا» ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتا ، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك
بالنطق والكلام. قال المفسرون : أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
قوله عزوجل :
(فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)
(٢٨)
روي أن مريم عليهاالسلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله سيبين عذرها
أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه ، روي أن قومها خرجوا في
طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و «الفري» العظيم الشنيع ، قاله مجاهد والسدي ، وأكثر
استعماله في السوء وهو من الفرية ، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت
الأديم للإصلاح وليس بالبين ، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري فمعناه بعمل
عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل ، و
«الفري» من الأسقية الجديد ، وقرأ أبو حيوة «شيئا فريا» بسكون الراء ، واختلف
المفسرون في معنى قوله عزوجل ، (يا أُخْتَ هارُونَ) ، فقالت فرقة كان لها أخ اسمه (هارُونَ) لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل ، تبركا باسم هارون
أخي موسى ، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن
صاحبك يزعم أن مريم «أخت هارون» وبينهما في المدة ستمائة سنة ، قال المغيرة فلم
أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكرت ذلك له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء
الأنبياء والصالحين ، فالمعنى أنه اسم وأفق اسما ، وقال السدي وغيره : بل نسبوها
إلى «هارون» أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخا فلانة
ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «إن أخا صداء أذن
ومن أذن فهو يقيم» ، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب «أخت
لهارون» أخي موسى ، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاله فهو أصدق وخير ، وإلّا فإني أجد
بينهما من المدة
ستمائة سنة ، قال فسكتت. وقال قتادة : كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد
منقطع إلى الله يسمى «هارون» فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ
كانت موقوفة على خدمة البيع ، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لما أتيت به.
وقالت فرقة : بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه «هارون» فنسبوها إليه على جهة
التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله ، والمعنى (ما كانَ أَبُوكِ) ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ و «البغي»
التي تبغي الزنا أي تطلبه ، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك.
قوله عزوجل :
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ
قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا
(٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)
(٣٣)
التزمت مريم عليهاالسلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت
ب (إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] وإنما
ورد أنها «أشارت إليه» فيقوى بهذا قول من قال إن أمرها ب «قولي» إنما أريد به
الإشارة ، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها
، ثم قالوا لها على جهة التقرير (كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها
التامة وقد قال أبو عبيدة (كانَ) هنا لغو ، وقال الزجاج والفراء (مَنْ) شرطية في قوله (مَنْ كانَ) (ع) ونظير كان هذه
قول رؤبة : [الرجز]
أبعد ان لاح بك
القتير
|
|
والرأس قد كان
له شكير
|
و (صَبِيًّا) إما خبر (كانَ) على تجوز وتخيل في كونها ناقصة ، وإما حال يعمل فيه
الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن (الْمَهْدِ) يراد به حجر أمه قال لهم عيسى من مرقده (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) الآية وروي أنه قام متكئا على يساره وأشار إليهم بسبابته
اليمنى ، و (الْكِتابَ) هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل ، ويكون
الإيتاء فيهما مختلفا ، و (آتانِيَ) معناه قضى بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ،
وغير هذا. وأمال الكسائي «آتاني وأوصاني» ، والباقون لا يميلون ، قال أبو علي
الإمالة في (آتانِيَ) أحسن لأن في (أَوْصانِي) مستعليا. و (مُبارَكاً) قال مجاهد معناه نفاعا ، وقال سفيان معلم خير وقيل آمرا
بمعروف ناهيا عن منكر ، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه. وأسند النقاش عن
الضحاك أنه قال (مُبارَكاً) معناه قضاء للحوائج (ع) وقوله (مُبارَكاً) يعم هذه الوجوه وغيرها. و (بِالصَّلاةِ
وَالزَّكاةِ) قيل هما المشروعتان في البدن والمال ، وقيل زكاة الرؤوس في
الفطر ، وقيل «الصلاة» الدعاء (وَالزَّكاةِ) التطهير
من كل عيب ونقص
ومعصية. وقرأ «دمت» بضم الدال عاصم وجماعة ، وقرأ «دمت» بكسرها أهل المدينة وابن
كثير وأبو عمرو وجماعة ، وقرأ الجمهور «وبرا» بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه
على قوله (مُبارَكاً) ، وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة «برا» بكسر الباء فقال
بعضها نصبه على العطف على قوله (مُبارَكاً) فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه ، وقال بعضها
نصبه بقوله (وَأَوْصانِي) أي «وأوصاني برا بوالدتي» حذف الجار كأنه يريد «وأوصاني
ببر والدتي». وحكى الزهراوي هذه القراءة «وبرّ» بالخفض عطفا على (الزَّكاةِ) ، وقوله (بِوالِدَتِي) بيان لأنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها. و «الجبار»
المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد
إلا مكروها ، وكان عيسى عليهالسلام في غاية التواضع ، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على
التراب ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له. قال قتادة وكان يقول : سلوني فإن لين
القلب صغير في نفسي. وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإذلاله في ذلك ، وذكر المواطن
التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه
في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن
إلى أن يموت. وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا
وقالوا إن هذا الأمر عظيم. وروي أن عيسى عليهالسلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد إلى حالة الأطفال
حتى مشى على عادة البشر. وقالت فرقة : إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن
وكان يصوم ويصلي وهذا في غاية الضعف مصرح بجهالة قائله.
قوله عزوجل :
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ
أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)
(٣٦)
المعنى قل يا محمد
لمعاصريك من اليهود والنصارى (ذلِكَ) الذي منه قصة (عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ) وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد
، «وأن الله ربي وربكم» هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلا من البشر سوى
محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقد يحتمل أن يكون قوله (ذلِكَ عِيسَى) إلى قوله (فَيَكُونُ) إخبارا لمحمد اعتراضا أثناء كلام عيسى ، ويكون قوله «وأن»
بفتح الألف عطفا على قوله (الْكِتابَ) [مريم : ٣٠]. وقد
قال وهب بن منبه : عهد عيسى إليهم «أن الله ربي وربكم» ، ومن كسر الألف عطف على
قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس «قول الحق» برفع القول على
معنى هذا قول الحق. وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق «قول الحق» بنصب القول على
المصدر. قال أبو عبد الرحمن المقري: كان يجالسني ضرير ثقة فقال : رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم يقرأ «قول الحق» نصبا ، قال أبو عبد الرحمن :
وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعا. وقرأ عبد الله بن مسعود «قال الله»
بمعنى كلمة الله ، وقرأ عيسى «قال الحق» ، وقرأ نافع والجمهور «يمترون» بالياء على
الكناية عنهم ، وقرأ نافع أيضا وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند «تمترون» بالتاء
على الخطاب لهم ، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول
بعضهم هو لزنية
ونحو هذا وهم اليهود ، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم ، وسيأتي شرح
ذلك من بعد هذا. وقوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ) معناه النفي وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت ثم يضاف
إلى ذلك بحسب حال المذكور فيها إما نهي وزجر كقوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا) [التوبة : ١٢٠] ،
وإما تعجيز كقوله تعالى (ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] ،
وإما تنزيه كهذه الآية. و (مِنْ وَلَدٍ) ، دخلت (مِنْ) مؤكدة للجحد لنفي الواحد فما فوقه مما يحتله نظير هذه
العبارة إذا لم تدخل «من» ، وقوله ، (قَضى أَمْراً) ، أي واحدا من الأمور وليس بمصدر أمر يأمر ، فمعنى (قَضى) أوجد أو أخرج من العدم ، وهذه التصاريف في هذه الأفعال من
مضي واستقبال هي بحسب تجوز العرب واتساعها ، وقد تقدم القول في (كُنْ فَيَكُونُ). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع «وأن الله» بفتح الألف
وذلك عطف على قوله هذا (قَوْلَ الْحَقِ) ، «وأن الله ربي» ، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة
والكسائي «وإن» بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب «إن الله» بكسر
الألف دون واو. وقوله (فَاعْبُدُوهُ) وقف ثم ابتدأ (هذا صِراطٌ) أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد
عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته.
قوله عزوجل :
(فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ
يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)
(٤٠)
هذا ابتداء خبر من
الله تعالى لمحمد عليهالسلام بأن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا أي فرقا ، وقوله (مِنْ بَيْنِهِمْ) معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين. وروي
في هذا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة
والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى
الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد ، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ، ثم
قيل للثلاثة فقال أحدهم : عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ،
ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ،
فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية ، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته
ألقاها إلى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريق من بني إسرائيل ثم اقتتلوا فغلب
المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أن في ذلك نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١]. و
«الويل» الحزن والثبور ، وقيل ويل واد في جهنم ، و (مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب (مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب ، وقد أشار إلى هذا
المعنى قتادة ، وقوله (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ) ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع
بهم من العذاب ، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا
ينفعهم الإقبال
عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم ، ثم قال : لكنهم اليوم
في الدنيا (فِي ضَلالٍ) وهو جهل المسلك ، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم ،
وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ، وهي بمعنى الأمر لمحمد عليهالسلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم
من العذاب إذا أتوا محشورين مغلوبين ، وقوله (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، الآية ، الخطاب أيضا في هذه الآية لمحمد عليهالسلام والضمير في (أَنْذِرْهُمْ) لجميع الناس ، واختلف في (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) فقال الجمهور هو يوم ذبح الموت ، وفي هذا حديث صحيح ، وقع
في البخاري وغيره ، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح ، وفي بعض الطرق كأنه كبش
أملح ، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى :
يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت ، ويروى أن أهل النار يشرئبون
خوفا على ما هم فيه. و «الأمر المقضي» ، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند
حذاق العلماء ، كما يقال : تدفن الغوائل وتجعل الترات تحت القدم ، ونحو ذلك ، وعند
ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها ، وقال ابن زيد وغيره (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) هو يوم القيامة ، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم
في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة ، و «الأمر المقضي» على هذا هو الحتم عليهم
بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم ، وقال ابن مسعود (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا
مؤمنين ، ويحتمل أن يكون (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم
الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. وقوله (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، يريد في الدنيا الآن (وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) كذلك. وقوله (نَرِثُ) ، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها
وراثة ، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش «يرجعون» بالياء ، وقرأ الأعرج «ترجعون»
بالتاء من فوق ، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى «يرجعون» بالياء من تحت
مفتوحة وكسر الجيم ، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «ترجعون» بالتاء.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١)
إِذْ
قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي
قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً
سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤)
يا
أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ
لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ
أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)
(٤٦)
قوله : (وَاذْكُرْ) بمعنى واتل وشهر ، لأن الله تعالى هو الذاكر ، و (الْكِتابِ) هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم
، و «الصديق» ، فعيل بناء مبالغة من الصدق ، وقرأ أبو البرهسم «إنه كان صادقا» ،
والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق ، ألا ترى أنه يستعار لما لا
يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا ، ويقال عود صدق للصلب الجيد ، فكان
إبراهيم عليهالسلام يوصف
بالصدق على العموم
في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب ، وأبو بكر رضي الله عنه
وصف ب «صدّيق» لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته إلى الإيمان وما
يقرب من الله تعالى ، و «الصديق» مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩].
وقوله (يا أَبَتِ) ، اختلف النحاة في التاء من (أَبَتِ) ، فمذهب سيبويه أنها عوض من ياء الإضافة والوقوف عنده
عليها بالهاء ، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء ، لأن الياء التي للإضافة عنده
منوية وجمهور القراء على كسر التاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وا أبت» بواو للنداء ،
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. «يا أبت» بفتح التاء ، ووجهها أنه أراد «يا أبتا»
فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها ، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في
قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة ، والذي (لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) ، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن
عبد لم يحسن عبادتها ، لكن بين إبراهيم عليهالسلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده. وقوله (قَدْ جاءَنِي) يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبىء ، و «الصراط السوي»
، معناه الطريق المستقيم ، وهو طريق الإيمان. وقوله (يا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره. وقوله (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة
الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و «العصي» ، فعيل من عصى
يعصي إذا خالف الأمر ، وقوله (أَخافُ أَنْ
يَمَسَّكَ) قال الطبري وغيره (أَخافُ) بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو
محمد : والظاهر عندي أنه خوف على بابه ، وذلك أن إبراهيم عليهالسلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائسا من إيمان أبيه ، فكان
يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره إلى الموت فيمسه العذاب. و «الولي»
الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة ، قال آزر وهو تارخ (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) ، والرغبة ميل النفس ، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون
عنه ، وقوله (أَراغِبٌ) رفع بالابتداء و (أَنْتَ) فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب» على
ألف الاستفهام ، ويجوز أن يكون «راغب» خبرا مقدما و (أَنْتَ) ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه. وقوله (عَنْ آلِهَتِي) ، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها
ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده
، وقوله (لَأَرْجُمَنَّكَ) اختلف فيه المتأولون ، فقال السدي وابن جريج والضحاك :
معناه بالقول ، أي لأشتمنك (وَاهْجُرْنِي) أنت إذا شئت مدة من الدهر ، أو سالما حسب الخلاف الذي
سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة ، وقالت فرقة : معناه لأقتلنك ، وهذان القولان
بمعنى واحد ، وقوله (وَاهْجُرْنِي) على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال :
إن لم تنته لأقتلنك بالرجم ، ثم قال له (وَاهْجُرْنِي) أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم
لا تترتب الهجرة و (مَلِيًّا) معناه دهرا طويلا مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار
وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف ، وقال ابن عباس وغيره (مَلِيًّا) معناه سليما منا سويا فهو حال من (إِبْراهِيمُ) عليهالسلام ، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبدا بحالك غنيا عني
مليا بالاكتفاء.
قوله عزوجل :
(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ
رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩)
وَوَهَبْنا
لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)
(٥٠)
قرأ أبو البرهسم «سلاما
عليك» بالنصب ، واختلف أهل العلم في معنى تسليمه عليه ، فقال بعضهم هي تحية مفارق
وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها. وقال الجمهور : ذلك التسليم بمعنى المسالمة لا
بمعنى التحية ، قال الطبري معناه أمنة مني لك ، وهذا قول الجمهور وهم لا يرون
ابتداء الكافر بالسلام ، وقال النقاش : حليم خاطب سفيها كما قال ، وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاما ، ورفع السلام بالابتداء وجاز ذلك مع نكرته لأنها نكرة مخصصة
فقربت من المعرفة ولأنه في موضع المنصوب الذي هو سلمت سلاما وهذا كما يجوز ذلك في
ما هو في معنى الفاعل كقولهم شرّ أهرّ ذا ناب ، هذا مقال سيبويه. وقوله تعالى (سَأَسْتَغْفِرُ) معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا
أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل صلىاللهعليهوسلم أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر ، وقد يجوز أن يكون
إبراهيم عليهالسلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر ، لأن هذه العقيدة
إنما طريقها السمع ، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك ، وإبراهيم
عليهالسلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو الله بأحد وجهين إما بموته
على الكفر كما روي وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه ، وقال مكي عن السدي : أخره
بالاستغفار إلى السحر ، وهذا تعسف ، وإنما ذكر ذلك في أمر يعقوب وبنيه وأما هذا
فوعد باستغفار كثير مؤتنف فالسين متمكنة. و «الحفي» ، المبتهل المتلطف وهذا شكر من
إبراهيم لنعم الله تعالى عليه ، ثم أخبره أنه يعتزلهم أي يصير عنهم بمعزل ، ويروى
أنهم كانوا بأرض كوثا فرحل إبراهيم عليهالسلام حتى نزل الشام وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر
بسارة الحديث بطوله ، و (تَدْعُونَ) بمعنى تعبدون ، وقوله (عَسى) ، ترج ، في ضمنه خوف شديد ، وقوله (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) إلى آخر الآية ، إخبار من الله تعالى لمحمد عليهالسلام أنه لما رحل عن بلد أبيه وقومه عوضه الله من ذلك ابنه (إِسْحاقَ) وابنه (يَعْقُوبَ) وجعل له الولد تسلية وشدا لعضده ، و (إِسْحاقَ) أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة
فحملت ب (إِسْحاقَ) هذا فيما روي ، وقوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ
مِنْ رَحْمَتِنا) يريد العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة ،
كل ذلك من رحمة الله ، و «لسان الصدق» هو الثناء الباقي عليهم آخر الأبد ، قاله
ابن عباس. واللسان في كلام العرب المقالة الذائعة كانت في خير أو شر ومنه قول
الشاعر : [البسيط]
إني أتتني لسان
لا أسر بها
|
|
من علو لا كذب
فيها ولا سخر
|
وقال آخر : [الوافر]
«ندمت على لسان
فات مني»
وإبراهيم الخليل
وبنوه معظمون في جميع الأمم والملل صلى الله عليهم أجمعين.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا
(٥١) وَنادَيْناهُ
مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ
مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)
(٥٥)
هذا أمر من الله عزوجل بذكر (مُوسى) بن عمران عليهالسلام على جهة التشريف ، له وأعلمه ب (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «مخلصا» بكسر
اللام وهي قراءة الجمهور أي أخلص نفسه لله ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «مخلصا»
بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة أي أخلصه الله للنبوءة والعبادة كما
قال تعالى (إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص : ٤٦]. و «الرسول» من الأنبياء الذي يكلف تبليغ أمة ،
وقد يكون نبيا غير رسول ، وقوله (وَنادَيْناهُ) هو تكليم الله تعالى ، و (الطُّورِ) الجبل المشهور بالشام ، وقوله (الْأَيْمَنِ) صفة للجانب ، وكانت على يمين موسى بحسب وقوفه فيه ، وإلا
فالجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولا يوصف بشيء من ذلك إلا بالإضافة إلى ذي يمين
ويسار ، ويحتمل أن يكون قوله (الْأَيْمَنِ) مأخوذا من اليمن كأنه قال الأبرك والأسعد ، فيصح على هذا
أن يكون صفة للجانب وللجبل بجملته. وقوله ، (وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) ، قال الجمهور هو تقريب التشريف بالكلام والنبوءة ، وقال
ابن عباس : بل أدني موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام وقاله
ميسرة ، وقال سعيد : أردفه جبريل ، و «النجي» ، فعيل من المناجاة وهي المسارّة
بالقول ، وقال قتادة (نَجِيًّا) معناه نجا بصدقة وهذا مختل ، وإنما «النجي» المنفرد
بالمناجاة ، وكان (هارُونَ) عليهالسلام أسن من موسى وطلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته
فأجابه الله تعالى إلى ذلك وعدها في نعمه عليه ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) ، هو أيضا من لسان الصدق والشرف المضمون بقاؤه على آل إبراهيم
عليهالسلام ، و (إِسْماعِيلَ) هو أبو العرب اليوم وذلك أن اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد
(إِسْماعِيلَ) وهو الذي أسكنه أبوه بواد غير ذي زرع وهو الذبيح في قوله
الجمهور وقالت فرقة الذبيح إسحاق.
قال القاضي أبو
محمد : والأول يترجح بجهات منها قول الله تبارك وتعالى ، ومن وراء إسحاق يعقوب
فولد قد بشر أبواه أنه سيكون منه ولد هو حفيد لهم كيف يؤمر بعد ذلك بذبحه وهذه
العدة قد تقدمت وجهة أخرى وهي أن أمر الذبح لا خلاف بين العلماء أنه كان بمنى عند
مكة وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد ، وإسماعيل بها نشأ وكان أبوه يزور مرارا
كثيرة يأتي من الشام ويرجع من يومه على البراق وهو مركب الأنبياء ، وجهة أخرى وهي
قول النبي عليهالسلام «أنا ابن الذبيحين»
وهو أبوه عبد الله لأنه فدي بالإبل من الذبح ، والذبيح الثاني هو أبوه إسماعيل ،
وجهة أخرى وهي الآيات في سورة الصافات وذلك أنه لما فرغ من ذكر الذبح وحاله ، قال (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) [الصافات : ١١٢] ،
فترتيب تلك الآيات يكاد ينص على أن
الذبيح غير إسحاق
، ووصفه الله تعالى ب «صدق الوعد» لأنه كان مبالغا في ذلك ، روي أنه وعد رجلا أن
يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته فلما كان في اليوم الآخر جاء
الرجل فقال له ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة
وهذا بعيد غير صحيح والأول أصح ، وقد فعل مثله نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم قبل أن يبعث ، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره ، وذلك في
مبايعة وتجارة وقيل وصفه ب «صدق الوعد» لوفائه بنفسه في أمر الذبح إذ قال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) [الكهف : ٦٩] وقال
سفيان بن عيينة : أسوأ الكذب إخلاف الميعاد ورمي الأبرياء بالتهم ، وقد قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «العدة دين فناهيك
بفضيلة الصدق» في هذا و (أَهْلَهُ) ، يريد بهم قومه وأمته ، قاله الحسن ، وفي مصحف عبد الله
بن مسعود «وكان يأمر قومه». وقوله (مَرْضِيًّا) أصله مرضويا لقيت الواو وهي ساكنة الياء فأبدلت ياء وأدغمت
ثم كسرت الضاد للتناسب في الحركات ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكان عند ربه مرضوا».
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦)
وَرَفَعْناهُ
مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا)
(٥٨)
(إِدْرِيسَ) عليهالسلام هو من أجداد نوح عليهالسلام ، وهو أول نبي بعث إلى أهل الأرض ، فيما روي ، من بعد آدم
، وهو أول من خط بالقلم وكان خياطا ، ووصفه الله ب «الصدق» والوجه أن يحمل ذلك على
العموم في الأحاديث والأعمال. قال ابن مسعود هو الياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا
إله إلا الله.
ويعملوا ما شاؤوا
فأبوا فأهلكوا ، والأشهر أنه لم يبعث بإهلاك أمة وإنما نبىء فقط واختلف الناس في
قوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا).
فقال جماعة من
العلماء هو رفع النبوءة والتشريف والمنزلة وهو في السماء كما سائر الأنبياء ،
وقالت فرقة : بل رفع إلى السماء ، قال ابن عباس : كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى
وهنالك مات ، وقاله مجاهد إلا أنه قال : ولم يمت ، وكذلك قال وهب وقال كعب الأحبار
لابن عباس كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء
الرابعة فلقي هنالك ملك الموت فقال له إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض
فيها روح (إِدْرِيسَ) وإني لأعجب كيف يكون هذا ، فقال له الملك الصاعد هذا (إِدْرِيسَ) معي فقبض روحه وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله
ابن عباس ، وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات وحديث أنس بن مالك
وأبي هريرة في الإسراء يقتضي أنه في السماء الرابعة. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) الإشارة ب (أُولئِكَ) إلى من تقدم ذكره ، وقوله (مِنْ ذُرِّيَّةِ
آدَمَ) يريد (إِدْرِيسَ) ونوحا وممن حمل مع نوح إبراهيم عليهالسلام ، (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْراهِيمَ) وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ومن ذرية (إِسْرائِيلَ) موسى وهارون وزكرياء ويحيى ومريم. وقوله.
(وَمِمَّنْ هَدَيْنا) ، معناه وأولئك ممن هدينا ، لأن هدى الله قد ناله غير
هؤلاء. (وَاجْتَبَيْنا) معناه اصطفينا واخترنا وكأنه من جبيت المال إذا جمعته ومنه
جباية المال وكأن جابيه يصطفيه ، وقرأ الجمهور «إذا تتلى» بالتاء من فوق وقرأ نافع
وشيبة ، وأبو جعفر «إذا يتلى» بالياء ، و «الآيات» هنا الكتب المنزلة ، و (سُجَّداً) نصب على الحال لأن مبدأ السجود سجود ، وقرأ عمر بن الخطاب
والجمهور «بكيا» ، قالت فرقة : هو جمع باك كما يجمع عاث وجاث على عثّي وجثي ،
وقالت فرقة : هو مصدر بمعنى البكاء التقدير وبكو (بُكِيًّا) واحتج الطبري ومكي لهذا القول بأن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه روي أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال «هذا السجود فأين البكّي» يعني البكاء ،
واحتجاجهم بهذا فاسد لأنه يحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه «فأين الباكون» ، فلا
حجة فيه لهذا وهذا الذي ذكروه عن عمر ذكره أبو حاتم عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش «وبكيا» بكسر الباء وهو
مصدر على هذه القراءة لا يحتمل غير ذلك.
قوله عزوجل :
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ
الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)
(٦٣)
«الخلف» بفتح
اللام القرن يأتي بعد آخر يمضي ، والابن بعد الأب ، وقد يستعمل في سائر الأمور. «والخلف»
بسكون اللام مستعمل إذا كان الآتي مذموما هذا مشهور كلام العرب وقد ذكر عن بعضهم
أن الخلف والخلف بمعنى واحد وحجة ذلك قول الشاعر :
لنا القدم
الأولى إليك وخلفنا
|
|
لأولنا في طاعة
الله تابع
|
وقرأ الجمهور «الصلاة»
بالإفراد ، وقرأ الحسن «أضاعوا الصلوات» بالجمع ، وكذلك في مصحف ابن مسعود ،
والمراد ب «الخلف» من كفر أو عصى بعد من بني إسرائيل ، وقال مجاهد : المراد
النصارى خلفوا بعد اليهود وقال محمد بن كعب ومجاهد وعطاء : هم قوم من أمة محمد آخر
الزمان ، أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية ، وروى أبو
سعيد الخدري عن النبيصلىاللهعليهوسلم أنه قال «كان الخلف بعد ستين سنة» ، وهذا عرف إلى يوم
القيامة وتتجدد أيضا المبادئ ، واختلف الناس في «إضاعة الصلاة» منهم ، فقال محمد
بن كعب القرظي وغيره : «كانت إضاعة كفر وجحد بها». وقال القاسم بن مخيمرة وعبد
الله بن مسعود : «كانت إضاعة أوقاتها والمحافظة على أوانها» وذكره الطبري عن عمر
بن عبد العزيز رضي الله عنه في حديث طويل. و (الشَّهَواتِ) عموم وكل ما ذكر من ذلك فمثال ، و «الغي» الخسران والحصول
في الورطات ومنه قول الشاعر : [الطويل]
فمن يلق خيرا
يحمد الناس أمره
|
|
ومن يغو لا يعدم
على الغي لائما
|
وبه فسر ابن زيد
هذه الآية ، وقد يكون «الغي» أيضا بمعنى الضلال فيكون على هذا هنا حذف مضاف تقديره
«يلقون جزاء الغي» ، وبهذا فسر الزجاج. وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود «غي» واد
في جهنم وبه وقع التوعد في هذه الآية ، وقيل «غي وآثام ، نيران في جهنم» رواه أبو
أمامة الباهلي عن النبي عليهالسلام. وقوله (إِلَّا مَنْ تابَ) استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع ، وقوله (وَآمَنَ) يقتضي أن الإضافة أولا هي إضاعة كفر هذا مع اتصال
الاستثناء ، وعليه فسر الطبري. وقرأ الجمهور «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ
الحسن كل ما في القرآن «يدخلون» بفتح الياء وضم الخاء. وقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، وقرأ جمهور الناس «جنات عدن» بنصب الجنات على البدل من
قوله (يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ) ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو حيوة «جنات» برفعها على
تقدير تلك جنات ، وقرأ علي بن صالح «جنة» على الإفراد والنصب وكذلك في مصحف ابن
مسعود وقرأها الأعمش ، و «العدن» الإقامة المستمرة. قوله (بِالْغَيْبِ) أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم ، وفي هذا مدح لهم على سرعة
إيمانهم وبدارهم إذ لم يعاينوا.
و «المأتي» مفعول
على بابه ، والآتي هو الإنجاز والفعل الذي تضمنه الوعد ، وكان إتيانه إنما يقصد به
«الوعد» الذي تقدمه. وقالت جماعة من المفسرين : هو مفعول في اللفظ بمعنى فاعل
بمعنى آت وهذا بعيد ، والنظر الأول أصوب ، و «اللغو» ، الساقط من القول ، وهو
أنواع مختلفة كلها ليست في الجنة ، وقوله (إِلَّا سَلاماً) ، استثناء منقطع ، المعنى لكن يسمعون كلاماً هو تحية
الملائكة لهم في كل الأوقات. وقوله (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، يريد في التقدير أي يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم
والليلة من الزمن ، ويروى أن أهل الجنة تنسد لهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فهم
يعرفون البكرة عند انفتاحها والعشي عند انسدادها ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشيا
لكن يؤتى به على قدر ما كانوا يشتهون في الدنيا ، وقد ذكر نحوه قتادة ، أن تكون
مخاطبة بما تعرفه العرب وتستغربه في رفاهة العيش ، وجعل ذلك عبارة عن أن رزقهم
يأتي على أكمل وجوهه. وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش
وذلك أن كثيرا من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم وهي غايته ، وكان عيش
أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان ونحوه ألا ترى قول الشاعر : [المنسرح]
عصرته نطفة
تضمنها
|
|
لصب توقى مواقع
السبل
|
أو وجبة من جناة
أشكلة
|
|
إن لم يزغها
بالقوس لم تنل
|
الوجبة الأكلة في
اليوم. وقرأ الجمهور «نورث» بسكون الواو ، وقرأ الأعمش «نورثها» ، وقرأ الحسن
والأعرج وقتادة «نورّث» بفتح الواو وشد الراء.
قوله عزوجل :
(وَما نَتَنَزَّلُ
إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ
ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)
(٦٥)
قرأ الجمهور «وما
نتنزل» بالنون كأن جبريل عنى نفسه والملائكة ، وقرأ الأعرج وما «يتنزل» بالياء على
أنه خبر من الله
أن جبريل لا يتنزل ، قال هذا التأويل بعض المفسرين ، ويرده قوله (ما بَيْنَ أَيْدِينا) لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبرا من جبريل أن
القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها. ورويت قراءة الأعرج بضم
الياء ، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك» ، وقال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية ،
أن النبي عليهالسلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت إليك
أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا» ، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد والضحاك : سببها أن
جبريل تأخر عن النبيصلىاللهعليهوسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف «غدا أخبركم»
حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى ، فهي كالتي في
الضحى ، وهذه الواو التي في قوله (وَما نَتَنَزَّلُ) هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم
يكن معناهما واحدا. وحكى النقاش عن قوم أن قوله (وَما نَتَنَزَّلُ) متصل بقوله (إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] ،
وهذا قول ضعيف ، وقوله (ما بَيْنَ أَيْدِينا
وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب ، واختلف المفسرون فيها ، فقال
أبو العالية «ما بين الأيدي» في الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى ، «وما خلف»
الآخرة من وقت البعث (وَما بَيْنَ ذلِكَ) ما بين النفختين. وقال ابن جريج «ما بين الأيدي» هو ما مر
من الزمن قبل إيجاد من في الضمير ، «وما خلف» هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة (وَما بَيْنَ ذلِكَ) هو مدة الحياة.
قال القاضي أبو
محمد : والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكة وأن قليل تصرفهم
وكثيرة إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان ، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له
وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف» الأمكنة التي
فيها تصرفهم ، والمراد ب (ما بَيْنَ ذلِكَ) هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون
بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك. وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه
صحيحا عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا» ، وهذا مختل المعنى إلا
على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة
التوراة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة
هي للملائكة فتأمله. وقوله (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما
ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه
قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح
المشركين بذلك على التأويل الثاني و (نَسِيًّا) فعيل من النسيان والذهول عن الأمور ، وقالت فرقة (نَسِيًّا) هنا معناه تاركا ، ع : وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان
مطلقا فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقا ألا ترى قوله
تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧]
وقوله (وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : ٩٩] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله
على الترك ، ولا حاجة بنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر.
وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك» ، وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ،
وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا» ثم تلا هذه الآية وقوله (رَبُ) بدل من قوله (وَما كانَ رَبُّكَ) ، وقوله (فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد
والحج والصدقات
فهي شريعة تحتاج إلى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه. وقرأ الجمهور «هل تعلم»
بإظهار اللام ، وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى
والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي : سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء
والدال والثاء والضاد والزاي والسين ، وقرأ أبو عمرو «وهل ثوب» بإدغامها في الثاء
وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من
قول مزاحم العقيلي : [الطويل]
فذر ذا ولكن هل
تعين متيما
|
|
على ضوء برق آخر
الليل ناصب
|
وقوله (سَمِيًّا) ، قال قوم : وهو ظاهر اللفظ معناه موافقا في الاسم وهذا
يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة؟ وذلك أن الأمم
والفرق لا يسمون بهذا الاسم وثنا ولا شيئا سوى الله تعالى ، وأما الألوهية والقدرة
وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد. وقال ابن عباس وغيره :
قوله (سَمِيًّا) معناه مثيلا أو شبيها أو نحو ذلك ، وهذا قول حسن ، وكأن
السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا
يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليهالسلام.
قوله عزوجل :
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ
شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا)
(٦٩)
(الْإِنْسانُ) اسم للجنس يراد به الكافر ، وروي أن سبب هذه الآية هو أن
رجالا من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه ، وذكر أن القائل هو أبي بن خلف جاء إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم مرفت فنفخ فيه وقال أيبعث هذا وكذب وسخر ، وقيل إن
القائل هو العاصي بن وائل ، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «أإذا مامت» بالاستفهام الظاهر
، وقرأت فرقة «إذا» دون ألف استفهام وقد تقدم هذا مستوعبا ، وقرأت فرقة بكسر الميم
، وقرأت فرقة «مت» بضمها. واللام في قوله (لَسَوْفَ) مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلا قال
للكافر إذا مت يا فلان لسوف تخرج حيا فقرر الكافر على الكلام على جهة الاستبعاد
وكرر اللام حكاية للقول الأول. وقرأ جمهور الناس «أخرج» بضم الهمزة وفتح الراء ،
وقرأ الحسن بخلاف وأبو حيوة «أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. وقوله (أَوَلا يَذْكُرُ) احتجاج خاطب الله تعالى به نبيه عليهالسلام ردا على مقالة الكافر. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «ويذكر»
، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «يذكّر» بشد الذال والكاف ، وقرأ أبي بن
كعب «يتذكر» ، والنشأة الأولى والإخراج من العدم إلى الوجود أوضح دليل على جواز
البعث من القبور ثم قرر ذلك وأوجبه السمع ، وقوله (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على أن المعدوم لا يسمى (شَيْئاً) وقال أبو علي الفارسي أراد (شَيْئاً) موجودا.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه نزعة اعتزالية فتأملها وقوله (فَوَ رَبِّكَ) الآية وعيد يكون ما نفوه على
أصعب وجوهه ،
والضمير في قوله (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) عائد للكفار القائلين ما تقدم ، ثم أخبر أنه يقرن بهم (الشَّياطِينَ) المغوين لهم. وقوله (جِثِيًّا) جمع جاث كقاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثووا وليس في كلام
العرب واو متطرفة قبلها ضمة فوجب لذلك أن تعل ، ولم يعتد هاهنا بالساكن الذي
بينهما لخفته وقلة حوله فقلبت ياء فجاء جثويا فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما
بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت ثم كسرت التاء للتناسب بين الكسرة والياء. وقرأ
الجمهور «جثيا» و «صليا» [مريم : ٧٠] بضم الجيم والصاد ، وقرأ ابن وثاب وطلحة
والأعمش «جثيا» و «صليا» [ذاته] بكسر الجيم والصاد وأخبر الله تعالى أنه يحضر
هؤلاء المنكرين للبعث مع الشياطين فيجثون حول جهنم وهي قعدة الخائف الذليل على
ركبتيه كالأسير. ونحوه قال قتادة (جِثِيًّا) معناه على ركبهم وقال ابن زيد : الجثي شر الجلوس ، و «الشيعة»
الفرقة المرتبطة بمذهب واحد المتعاونة فيه كأن بعضهم يشيع بعضا أي ينبه ، ومنه
تشييع النار بالحطب وهو وقدها به شيئا بعد شيء ، ومنه قيل للشجاع مشيع القلب فأخبر
الله أنه ينزع (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أعتاها وأولاها بالعذاب فتكون تلك مقدمتها إلى النار. قال
أبو الأحوص : المعنى نبدأ بالأكابر فالأكابر جرما ، ثم أخبر تعالى في الآية بعد ،
أنه أعلم بمستحقي ذلك وأبصر لأنه لم تخف عليه حالهم من أولها إلى آخرها. وقرأ بعض
الكوفيين ومعاذ بن مسلم وهارون القاري «أيّهم» بالنصب ، وقرأ الجمهور «أيّهم»
بالرفع ، إلا أن طلحة والأعمش سكنا ميم «أيهم» واختلف الناس في وجه رفع «أي» ،
فقال الخليل رفعه على الحكاية بتقدير الذي يقال فيه من أجل عتوه «أيّهم» أشد وقرنه
بقول الشاعر : [الكامل]
ولقد أبيت من
الفتاة بمنزل
|
|
فأبيت لا حرج
ولا محروم
|
أي فأبيت يقال فيّ
لا حرج ولا محروم. ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في قوله
في هذه المسألة ، قال سيبويه : ويلزم على هذا أن يجوز أضرب السارق الخبيث أي الذي
يقال له ع : وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على
المفرد أعظم منه على الجملة ، ومذهب سيبويه أن «أيّهم» مبني على الضم إذ هي أخت «الذي
ولما» وخالفتهما في جواز الإضافة فيها فأعربت لذلك ، فلما حذف من صلتها ما يعود
عليها ضعفت فرجعت إلى البناء ، وكأن التقدير «أيّهم» هو أشد. قال أبو علي : حذف ما
الكلام مفتقر إليه فوجب البناء ، وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ،
قال أبو علي : معنى ذلك أنه معمل في موضع من كل شيعة إلا أنه ملغى لأنه لا تعلق
جملة إلا أفعال الشك كظننت ونحوها مما لم يتحقق وقوعه ، وقال الكسائي (لَنَنْزِعَنَ) أريد به لننادين فعومل معاملة الفعل المراد فلم يعمل في «أي»
، وقال المبرد «أيّهم» متعلق ب (شِيعَةٍ) فلذلك ارتفع ، والمعنى من الذين تشايعوا «أيّهم» أشد كأنهم
يتبارون إلى هذا ويلزمه أن يقدر مفعولا ل «ننزع» محذوفا. وقرأ طلحة بن مصرف «أيهم
أكبر». و (عِتِيًّا) مصدر أصله عتووا وعلل بما علل (جِثِيًّا) وروى أبو سعيد الخدري «أنه يندلق عنق من النار فيقول إني
أمرت بكل جبار عنيد» فتلتقطهم الحديث.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ لَنَحْنُ
أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)
ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)
(٧٢)
أي نحن في ذلك
النزع لا نضع شيئا غير موضعه لأنا قد أحطنا علما بكل أحد فالأولى بصلي النار نعرفه
، و «الصلي» مصدر صلي يصلى إذا باشره قال ابن جريج : المعنى (أَوْلى) بالخلود ، وقوله (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قسم ، والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبي عليهالسلام «من مات له ثلاث
من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم». وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة «وإن منهم»
بالهاء على إرادة الكفار فلا شغب في هذه القراءة ، وقالت فرقة من الجمهور القارئين
(مِنْكُمْ) المعنى قل لهم يا محمد فإنما المخاطب منكم الكفرة وتأويل
هؤلاء أيضا سهل التناول ، وقال الأكثر المخاطب العالم كله ولا بد من «ورود» الجميع
، واختلفوا في كيفية «ورود» المؤمنين فقال ابن مسعود وابن عباس وخالد بن معدان
وابن جريج وغيرهم : «ورود» دخول لكنها لا تعدو على المؤمنين ثم يخرجهم الله منها
بعد معرفتهم بحقيقة ما نجوا منه ، وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع
بن الأزرق الخارجي : أما أنا وأنت فلا بد أن نردها ، فأما أنا فينجيني الله منها ،
وأما أنت فما أظنه ينجيك. وقالوا : في القرآن أربعة أوراد معناها الدخول هذه أحدها
، وقوله تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] ،
وقوله (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] ،
وقوله (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] ،
وقالوا كان من دعاء بعض السلف «اللهم أدخلني النار سالما وأخرجني منها غانما».
وروى جابر بن عبد الله عن النبي عليهالسلام أنه قال «الورود في هذه الآية هو الدخول». وأشفق كثير من
العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر ، وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب
كما تقول وردت الماء إذا جئته ، وليس يلزم أن تدخل فيه ، قال وحسب المؤمنين بهذا
هؤلاء ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣] ،
وروت فرقة أن الله تعالى يجعل يوم القيامة النار جامدة الأعلى كأنها اهالة. فيأتي
الخلق كلهم ، برهم وفاجرهم ، فيقفون عليها ثم تسوخ بأهلها ويخرج المؤمنون الفائزون
لم ينلهم ضر ، قالوا فهذا هو «الورود» ، وروت حفصة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية» ، فقالت يا
رسول الله وأين قول الله (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فمه ثم ننجي
الذين اتقوا» ، ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١]
ع : وهذا ضعيف وليس هذا موضع نسخ وقال عبد الله بن مسعود : ورودهم هو جوازهم على
الصراط وذلك أن الحديث الصحيح تضمن «أن الصراط مضروب على جسر جهنم فيمر الناس
كالبرق وكالريح وكالجواد من الخيل على مراتب ثم يسقط الكفار في جهنم وتأخذهم
كلاليب» ، قالوا فالجواز على الصراط هو «الورود» الذي تضمنته هذه الآية ، وقال
مجاهد : ورود المؤمنين هو الحمى التي تصيب في دار الدنيا ، وفي الحديث «الحمى من
فيح جهنم فأبردوها بالماء» ، وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار» ، وروى أبو
هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لرجل مريض عاده من الحمى : إن الله تعالى يقول هي ناري
أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة فهذا هو الورود. و «الحتم» الأمر
المنفذ المجزوم ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «ثم ننجي» بفتح الثاء من
«ثم» على الظرف ،
وقرأ ابن أبي ليلى «ثمة» بفتح الثاء وهاء السكت ، وقرأ نافع وابن كثير وجمهور من
الناس «ننجّي» بفتح النون الثانية وشد الجيم ، وقرأ يحيى والأعمش «ننجي» بسكون
النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأت فرقة «نجّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ،
وقرأ علي بن أبي طالب «ثم» بفتح الثاء «ننجي» بالحاء غير منقوطة. و (الَّذِينَ اتَّقَوْا) معناه اتقوا الكفر ، وقال بعض العلماء لا يضيع أحد بين
الإيمان والشفاعة. (وَنَذَرُ) دالة على أنهم كانوا فيها ، والظلم هنا هو ظلم الكفر ، وقد
تقدم القول في قوله (جِثِيًّا) ، وقرأ ابن عباس «الذين اتقوا منها ونترك الظالمين».
قوله عزوجل :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
وَكَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
قُلْ
مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا
رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً)
(٧٥)
قرأ الأعرج وابن
محيصن وأبو حيوة «يتلى» بالياء من تحت ، وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان
الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ المؤمن عليه القرآن ويبهره بآيات
النبي عليهالسلام ، كان الكافر منهم يقول إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه
وإنما ينعم على أهل الحق ونحن قد أنعم الله علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء
ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) ، وقرأ نافع وابن عامر «مقاما» بفتح الميم و (لا مُقامَ لَكُمْ) [الأحزاب : ١٣]
بالفتح أيضا ، وهو المصدر من قام أو الظرف منه أي موضع القيام ، وهذا يقتضي لفظ
المقام إلا أن المعنى في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط ، وقرأ أبيّ (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [الدخان : ٥١] بضم
الميم ، وقرأ ابن كثير «مقاما» بضم الميم وهو ظرف من أقام وكذلك أيضا يجيء المصدر
منه مثل (مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] وقرأ (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [الدخان : ٥١] «ولا
مقام لكم» [الأحزاب : ١٣] بالفتح ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم
جميعهن بالفتح ، وروى حفص عن عاصم «لا مقام لكم» بالضم. و «الندي» والنادي المجلس
فيه الجماعة ومنه قول حاتم الطائي :
فدعيت في أولى
الندي
|
|
ولم ينظر إليّ
بأعين خزر
|
وقوله (وَكَمْ) مخاطبة من الله تعالى لمحمد خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار
أمرهم لأن التقدير: هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله وليس بمنج لهم فكم
أهلك الله من الأمم لما كفروا وهم أشد من هؤلاء وأكثر أموالا وأجمل منظرا. و «القرن»
الأمة يجمعها العصر الواحد ، واختلف الناس في قدر المدة التي إذا اجتمعت لأمة سميت
تلك الأمة قرنا ، فقيل مائة سنة ، وقيل ثمانون ، وقيل سبعون ، وقد تقدم القول في
هذا غير مرة ، و «الأثاث» المال العين والعرض والحيوان وهو اسم عام واختلف هل هو
جمع أو إفراد. فقال الفراء : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع ، وقال خلف
الأحمر : هو جمع واحده أثاثة كحمامة وحمام ومنه قول الشاعر : [الوافر]
أشاقتك الظعائن
يوم بانوا
|
|
بذي الزي الجميل
من الأثاث
|
وأنشد أبو العباس
: [الوافر]
لقد علمت عرينة
حيث كانت
|
|
بأنا نحن أكثرهم
أثاثا
|
وقرأ نافع بخلاف
وأهل المدينة «وريّا» بياء مشددة ، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه وطلحة «وريا» بياء
مخففة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «ورءيا» بهمزة بعدها ياء
على وزن رعيا ، ورويت عن نافع وابن عامر رواها أشهب عن نافع وقرأ أبو بكر عن عاصم «وريئا»
بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب وزنه فلعا وكأنه من راع وقال الشاعر : [الطويل]
وكل خليل راءني فهو
قائل
|
|
من أجلك هذا
هامة اليوم أو غد
|
فأما القراءتان
المهموزتان فهما من رؤية العين الرئي اسم المرئي والظاهر للعين كالطحن والسقي ،
قال ابن عباس الرئي المنظر قال الحسن «وريا» معناه صورا وأما المشددة الياء فقيل
هي بمعنى المهموزة إلا أن الهمزة خففت لتستوي رؤوس الآي ، وذكر منذر بن سعيد عن
بعض أهل العلم أنه من «الري» في السقي كأنه أراد أنهم خير منهم بلادا وأطيب أرضا
وأكثر نعما إذ جملة النعم إنما هي من الري والمطر ، وأما القراءة المخففة الياء
فضعيفة الوجه ، وقد قيل هي لحن ، وقرأ سعيد بن جبير ويزيد البربري وابن عباس أيضا «وزيا»
بالزاي وهو بمعنى الملبس وهيئته تقول زييت بمعنى زينت ، وأما قوله (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) الآية فقول يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء
والابتهال كأنه يقول الأضل منا أو منكم «مد» الله له أي أملى له حتى يؤول ذلك إلى
عذابه ، والمعنى الآخر أن يكون بمعنى الخبر كأنه يقول من كان ضالا من الأمم فعادة
الله فيه أنه «يمد» له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة ، فاللام في
قوله (فَلْيَمْدُدْ) على المعنى الأول لام رغبة في صيغة الأمر ، وعلى المعنى
الثاني لام أمر دخلت في معنى الخبر ليكون أوكد وأقوى وهذا موجود في كلام العرب
وفصاحتها.
قوله عزوجل :
حَتَّىٰ
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا(٧٥)
وَيَزِيدُ
اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا
(٧٦) أَفَرَأَيْتَ
الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧)
أَطَّلَعَ
الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨)
كَلاَّ
سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩)
وَنَرِثُهُ
ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)
(٨٠)
(حَتَّى) في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة وفيها معنى الغاية
، و (إِذا) شرط ، وجوابها في قوله (فَسَيَعْلَمُونَ) والرؤية رؤية العين ، و (الْعَذابَ) و (السَّاعَةَ) بدل من (ما) التي وقعت عليها
(رَأَوْا) و (إِمَّا) هي المدخلة للشك في أول الكلام والثانية عطف عليها ، و (الْعَذابَ) يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم ، و «الجند»
النصرة والقائمون بأمر الحرب ، و (شَرٌّ مَكاناً) بإزاء قولهم (خَيْرٌ مَقاماً) [مريم : ٧٣] (وَأَضْعَفُ جُنْداً) بإزاء قولهم (أَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٢] قوله عزوجل : ولما ذكر ضلالة الكفرة وارتباكهم في الافتخار بنعم
الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين في أنهم يزيدهم
(هُدىً) في الارتباط إلى الأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل
الواضحة وزيادة العلم دأبا. قال الطبري عن بعضهم المعنى بناسخ القرآن ومنسوخه ع :
وهذا مثال وقوله (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) إشارة إلى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله تعالى أي وهذه النعم
على هؤلاء (خَيْرٌ) عند الله (ثَواباً) وخير مرجعا. والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه ، وأما (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) فقال بعض العلماء هو كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله
، وقال الحسن هي «الفرائض» ، وقال ابن عباس هي «الصلوات الخمس» وروي عن النبي عليهالسلام «أنها الكلمات
المشهورات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر». وقد قال
رسول الله عليهالسلام لأبي الدرداء «خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك
وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة». وروي عنه عليهالسلام أنه قال يوما «خذوا جنتكم» قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر
قال «من النار» قالوا ما هي يا رسول الله ، قال «سبحان الله ، ولا إله إلا الله ،
والله أكبر» ، وهن الباقيات الصالحات». وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث
: لأهللن ، ولأكبرن الله ، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا ، وقوله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ) الآية ، الفاء في قوله (أَفَرَأَيْتَ) عاطفة بعد ألف الاستفهام وهي عاطفة جملة على جملة ، و (الَّذِي كَفَرَ) يعني به العاصي بن وائل السمهي ، قاله جمهور المفسرين ،
وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قينا في الجاهلية فعمل له عملا واجتمع له عنده دين
فجاءه يتقاضاه فقال له العاصي لا أنصفك حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب : لا أكفر
بمحمد حتى يمييتك الله ثم يبعثك ، قال العاصي : أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال خباب
نعم ، قال : فإنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك ، فنزلت
الآية في ذلك ، وقال الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي وقد كانت
للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «وولدا» على معنى اسم
الجنس بفتح الواو واللام وكذلك في سائر ما في القرآن إلا في سورة نوح (مالُهُ وَوَلَدُهُ) [نوح : ٢١] فإنما
قرأ بضم الواو وسكون اللام ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو في كل القرآن ،
وقرأ حمزة والكسائي «وولدا» بضم الواو وسكون اللام وكذلك في جميع القرآن ، وقرأ
ابن مسعود «ولدا» بكسر الواو وسكون اللام ، واختلف مع ضم الواو فقال بعضهم : هو
جمع «ولد كأسد وأسد» واحتجوا بقول الشاعر : [مجزوء الكامل]
فلقد رأيت
معاشرا
|
|
قد ثمروا مالا
وولدا
|
وقال بعضهم هو
بمعنى الولد واحتجوا بقول الشاعر : [الطويل]
فليت فلانا كان
في بطن أمه
|
|
وليت فلانا كان
ولد حمار
|
قال أبو علي في
قراءة حمزة والكسائي ما كان منه مفردا قصد به المفرد ، وما كان منه جمعا قصد
الجمع ، وقال
الأخفش : الولد الابن والابنة ، والولد الأهل والوالد وقال غيره : والولد بطن الذي
هو منه ، حكاه أبو علي في الحجة ، وقوله (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) توقيف والألف للاستفهام وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها ،
واتخاذ العهد معناه بالإيمان والأعمال الصالحة ، و (كَلَّا) زجر ورد ، ثم أخبر تعالى أن قول هذا الكافر سيكتب على معنى
حفظه عليه ومعاقبته به. وقرأ «سنكتب» بالنون أبو عمرو والحسن وعيسى ، وقرأ عاصم
والأعمش «سيكتب» بياء مضمومة ، ومد العذاب هو إطالته وتعظيمه وقوله (ما يَقُولُ) أي هذه الأشياء التي سمى أنه يؤتاها في الآخرة يرث الله ما
له منها في الدنيا فإهلاكه وتركه لها ، فالوراثة مستعارة ويحتمل أن يكون خيبته في
الآخرة كوراثة ما أمل. وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده» ، وقال النحاس (نَرِثُهُ ما يَقُولُ) معناه نحفظه عليه لنعاقبه ، ومنه قول النبي عليهالسلام «العلماء ورثة
الأنبياء» أي حفظة ما قالوا فكأن هذا المجرم يورث هذا المقالة. وقوله (فَرْداً) يتضمن ذلته وقلة انتصاره.
قوله عزوجل :
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا
(٨١)
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا
أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)
(٨٧)
اتخذ افتعل من أخذ
لكنه يتضمن إعدادا من المتخذ وليس ذلك في أخذ ، والضمير في (اتَّخَذُوا) لعبادة الأوثان والآلهة الأصنام وكل ما عبد من دون الله ،
ومعنى قوله (عِزًّا) العموم في النصرة والمنفعة وغير ذلك من وجوه الخير ، وقوله
(كَلَّا) زجر وردع ، وهذا المعنى لازم ل (كَلَّا) فإن كان القول المردود منصوصا عليه بان المعنى ، وإن لم
يكن منصوصا عليه فلا بد من أمر مردود يتضمنه القول كقوله عزوجل (كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى) [العلق : ٦] فإن
قوله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥] يتضمن
مع ما قبله أن الإنسان يزعم من نفسه ويرى أن له حولا ما ولا يتفكر جدا في أن الله
علمه ما لم يعلم وأنعم عليه بذلك وإلا كان معمور جهل ، وقرأ الجمهور «كلا» على ما
فسرناه ، وقرأ أبو نهيك «كلا» بفتح الكاف والتنوين حكاه عنه أبو الفتح وهو نعت ل (آلِهَةً) وحكى عنه أبو عمرو الداني «كلا» بضم الكاف والتنوين وهو
منصوب بفعل مضمر يدل عليه سيكفرون تقديره يرفضون أو ينكرون أو يجحدون أو نحوه ،
واختلف المفسرون في الضمير الذي في (سَيَكْفُرُونَ) وفي (بِعِبادَتِهِمْ) فقالت فرقة : الأول للكفار والثاني للمعبودين والمعنى أنه
سيجيء يوم القيامة من الهول على الكفار والشدة ما يدفعهم إلى جحد الكفر وعبادة
الأوثان ، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
وقالت فرقة : الأول للمعبودين والثاني للكفار والمعنى أن الله تعالى يجعل للأصنام
حياة تنكر بها ومعها عبادة الكفار وأن يكون لها من ذلك ذنب ، وأما المعبود من
الملائكة وغيرهم فهذا منهم بين. وقوله (ضِدًّا) معناه يجيئهم منهم خلاف ما كانوا أملوه فيؤول ذلك بهم إلى
ذلة ضد ما أملوه من العز وهذه صفة عامة ، وقال قتادة (ضِدًّا) معناه قرناء ، وقال ابن عباس :
معناه أعوانا ،
وقال لضحاك : أعداء ، وقال ابن زيد : بلاء ، وقيل غير هذا مما لفظ القرآن أعم منه
وأجمع للمعنى المقصود ، والضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد ، وحكى
الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ «كل» بالرفع ورفعها بالابتداء ، وقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا
الشَّياطِينَ) الآية ، الرؤية في الآية رؤية القلب ، و (أَرْسَلْنَا) معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم فكله تسليط وهو مثل
قوله نقيض له شيطانا وتعديته ب (عَلَى) دال على أنه تسليط ، و (تَؤُزُّهُمْ) معناه تغليهم
وتحركهم إلى الكفر والضلال قال قتادة تزعجهم إزعاجا ، قال ابن زيد : تشليهم أشلاء
ومنه أزير القدر وهو غليانه وحركته ومنه الحديث أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فوجدته يصلي وهو
يبكي ولصدره أزيز كأزيز المرجل» وقوله (فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ) أي لا تستبطىء عذابهم وتحب تعجيله ، وقوله (نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي مدة نعمتهم وقبيح أعمالهم لنصيرهم إلى العذاب إما في
الدنيا وإلا ففي الآخرة ، قال ابن عباس : نعد أنفاسهم.
قال القاضي أبو
محمد : وما تضمنته هذه الألفاظ من الوعيد بعذاب الآخرة هو العامل في قوله (يَوْمَ) ويحتمل أن يعمل فيه لفظ مقدر تقديره واذكر أو احذر ونحو
هذا ، و «الحشر» الجمع ، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور ، وقرأ الحسن
يوم «يحشر المتقون ويساق المجرمون» ، وروي عنه «ويسوق المجرمين» بالياء. و «المتقون»
هم المؤمنون الذين قد غفر لهم ، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب ، وإنما
هي النهوض إلى الجنة ، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار. و (وَفْداً) قال المفسرون معناه ركبانا وهي عادة الوفود لأنهم سراة
الناس وأحسنهم شكلا فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن
الانصراف ، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة ، وروي عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه أنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت
وزبرجد ونحو هذا ، وروي عن عمر بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم
الصالحة هي في غاية الحسن ، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب
الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم» ، وقد ورد في الضحايا أنها
مطاياكم إلى الجنة ، وفي أكثر هذا بعد ، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال و «السوق»
يتضمن هوانا لأنهم يحفزون من ورائهم ، و «الورد» العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة
والحسن ، وهم القوم الذين يحتفزون من عطشهم لورود لماء ، ويحتمل أن يكون المصدر
المعنى نوردهم (وِرْداً) وهكذا يجعله من رأى في القرآن أربعة أوراد في النار وقد
تقدم ذكر ذلك في هذه السورة ، واختلف المتأولون في الضمير في قوله (يَمْلِكُونَ) فقالت فرقة : هو عائد على المجرمين ، أي (لا يَمْلِكُونَ) أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها ، وعلى هذا التأويل فهم
المشركون خاصة ، ويكون قوله (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) استثناء منقطعا ، أي لكن من اتخذ عهدا يشفع له ، والعهد
على هذا الإيمان قال ابن عباس : العهد لا إله إلا الله. وفي الحديث «يقول الله
تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم» وفي الحديث «خمس صلوات كتبهن الله
على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة». والعهد أيضا
الإيمان وبه فسر قوله (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤]
ويحتمل أن يكون «المجرمون» يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الاستثناء
متصلا ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا أزال أشفع حتى
أقول يا رب شفعني
فيمن قال لا إله
إلا الله» فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي. وقالت فرقة : الضمير في قوله (لا يَمْلِكُونَ) للمتقين ، قوله (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع
وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون ، روي عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال ؛ «إن في أمتي رجلا يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر
من بني تميم» ، قال قتادة : وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين ، وقال بعض هذه
الفرقة معنى الكلام (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهده الصنيفة فيجيء (مَنِ) في التأويل الواحد للشافعين ، وفي الثاني للمشفوع فيهم ،
وتحتمل الآية أن يراد ب (مَنِ) محمد عليهالسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس ، ويكون الضمير في (يَمْلِكُونَ) لجميع أهل الموقف ، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون
الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلا ، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة ،
وقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩].
قوله عزوجل :
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً
(٩٣)
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)
(٩٦)
الضمير في (قالُوا) للكفار من العرب في قولهم للملائكة بنات الله وللنصارى
ولكل من كفر بهذا النوع من الكفر ، وقوله (جِئْتُمْ شَيْئاً) بعد الكناية عنهم بمعنى قل لهم يا محمد ، و «الإد» الأمر
الشنيع الصعب وهي الدواهي والشنع العظيمة ، ويروى عن النبي عليهالسلام أن هذه المقالة أول ما قيلت في العالم شاك الشجر وحدثت ،
وفي نسخة ، وحدثت مرائره واستعرت جهنم وغضبت الملائكة وقرأ الجمهور ، «إدا» بكسر
الهمزة ، وقرأ أبو عبد الرحمن «أدا» بفتح الهمزة ، ويقال إد وأد وآد بمعنى ، وقرأ
ابن كثير هنا وفي حم عسق «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بياء وتاء وفتح الطاء وشدها ، ورواها
حفص عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بياء
ونون وكسر الطاء ، وقرأ نافع والكسائي «يكاد» بالياء على زوال علامة التأنيث «يتفطّرن»
بالياء والتاء وشد الطاء وفتحها في الموضعين ، وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل
أبي عمرو وفي عسق مثل ابن كثير وقال أبو الحسن الأخفش «تكاد» بمعنى تريد ، وكذلك
قوله تعالى (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] وأنشد
على أن كاد بمعنى أراد قول الشاعر : [الكامل]
كادت وكدت وتلك
خير إرادة
|
|
لو عاد من زمن
الصبابة ما مضى
|
ولا حجة في هذا
البيت وهذا قول قلق ، وقال الجمهور : إنما هي استعارة لشنعة الأمر أي هذا حقه لو
فهمت الجمادات
قدره وهذا المعنى مهيع للعرب فمنه قول جرير : [الكامل]
لما أتى خبر
الزبير تواضعت
|
|
سور المدينة
والجبال الخشع
|
ومنه قول الآخر : [الطويل]
ألم تر صدعا في
السماء مبينا
|
|
على ابن لبينى
الحارث بن هشام
|
وقال الآخر : [الوافر]
وأصبح بطن مكة
مقشعرا
|
|
كأن الأرض ليس
بها هشام
|
والانفطار
الانشقاق على غير رتبة مقصودة والهد الانهدام والتفرق في سرعة ، وقال محمد بن كعب:
كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، وقوله (وَما يَنْبَغِي) نفي على جهة التنزيه له عن ذلك ، وقد تقدم ذكر هذا المعنى
، وأقسام هذا اللفظ في هذه السورة ، وقوله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ) الآية (إِنْ) نافية بمعنى ما ، وقرأ الجمهور «آتي الرحمن» بالإضافة ،
وقرأ طلحة بن مصرف «آت الرحمن» بتنوين «آت» والنصب في النون ، وقرأ ابن مسعود «لما
آتى الرحمن» ، واستدل بعض الناس بهذه الآية على أن الولد لا يكون عبدا وهذا انتزاع
بعيد ، و (عَبْداً) حال ، ثم أخبر تعالى عن إحاطته ومعرفته بعبيده فذكر
الإحصاء ، ثم كرر المعنى بغير اللفظ ، وقرأ ابن مسعود «لقد كتبهم وعدهم» ، وفي
مصحف أبيّ «لقد أحصاهم فأجملهم عددا» وقوله (عَدًّا) تأكيد للفعل وتحقيق له ، وقوله (فَرْداً) يتضمن معنى قلة النصر والحول والقوة لا مجير له مما يريد
الله به وقوله (سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ وُدًّا) ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا هو القبول الذي يضعه الله
لمن يحب من عباده حسبما في الحديث المأثور ، وقال عثمان بن عفان إنها بمنزلة قول
النبي عليهالسلام «من أسر سريرة
ألبسه الله رداءها» ، وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من عبد إلا وله في السماء صيت فإن كان حسنا وضع في
الأرض حسنا وإن سيئا وضع كذلك». وقال عبد الرحمن بن عوف : إن الآية نزلت فيه وذلك
أنه لما هاجر بمكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فنزلت الآية في ذلك ، أي ستستقر نفوس المؤمنين ويودون
حالهم ومنزلتهم ، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، قال ابن الحنفية :
لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا وأهل بيته ، وقرأ الجمهور «ودا» بضم الواو ، وقرأ
أبو الحارث الحنفي بفتح الواو ، ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى ،
أي إن الله تعالى لما أخبر عن إتيان (كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في حالة العبودية والانفراد أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم
في ذلك اليوم (وُدًّا) وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله لعبد إنما هي
ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه له.
قوله عزوجل :
(فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)
(٩٨)
الضمير في «يسرنا»
للقرآن ، وهذا كقوله (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] لأن
المعنى يقتضي المراد وإن لم يتقدم ذكره ، ووقع التيسير في كونه بلسان محمد عليه
السرم وبلغته المفهومة المبينة ، وبشارة (الْمُتَّقِينَ) هي الجنة والنعيم الدائم والعز في الدنيا ، و «القوم اللد»
هم قريش ومعناه مجادلين مخاصمين بباطل ، والألد الخاصم المبالغ في ذلك ، وقال
مجاهد (لُدًّا) فجارا ع : وهذا عندي فجور الخصومة ولا يلد إلا المبطل.
والألد والألوى ، بمعنى واحد ، وفي الحديث «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد
الخصم» ثم لما وصفهم الله تعالى بأنهم لد وهي صفة سوء بحكم الشرع والحق وجب أن
يفسد عليهم بالوعيد والتمثيل بإهلاك من كان أشد منهم وألد وأعظم قدرا ما كان يسرهم
في أنفسهم من الوصف بلد فإن العرب لجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللد وتراه
إدراكا وشهامة فمن ذلك قوله الشاعر : [الخفيف]
إن تحت الأحجار
حزما وعزما
|
|
وخصيما ألد ذا
مغلاق
|
فمثل لهم بإهلاك
من قبلهم ليحتقروا أنفسهم ، ويبين صغر شأنهم وعبر المفسرون عن «اللد» بالفجرة
وبالظلمة وتلخيص معناها ما ذكرناه و «القرن» الأمة ، و «الركز» الصوت الخفي دون
نطق بحروف ولا فم وإنما هو صوت الحركات وخشفتها ومنه قول لبيد :
فتوجست ركز
الأنيس فراعها
|
|
عن ظهر غيب
والأنيس سقامها
|
فكأنه يقول أو
تسمع من أخبارهم قليلا أو كثيرا أو طرفا خفيا ضعيفا وهذا يراد به من تقدم أمره من
الأمم ودرس خبره ، وقد يحتمل أن يريد هل بقي لأحد منهم كلام أو تصويب بوجه من
الوجوه فيدخل في هذا من عرف هلاكه من الأمم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة طه
(هذه السورة مكية)
قوله عزوجل :
(طه (١)
ما
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً
لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)
وَإِنْ
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)
(٨)
اختلف الناس في
قوله (طه) بحسب اختلافهم في كل الحروف المتقدمة في أوائل السور إلا
قول من قال هناك إن الحروف إشارة إلى حروف المعجم كما تقول أ. ب. ج. د. فإنه لا
يترتب هنا لأن ما بعد (طه) من الكلام لا يصح أن يكون خبرا عن (طه) واختصت أيضا (طه) بأقوال لا تترتب في أوائل السور المذكورة ، فمنها قول من
قال (طه) اسم من أسماء محمد عليهالسلام ، وقوله من قال (طه) معناه «يا رجل بالسريانية» وقيل بغيرها من لغات العجم ،
وحكي أنها لغة يمنية في عك وأنشد الطبري : [الطويل]
دعوت بطه في
القتال فلم يجب
|
|
فخفت عليه أن
يكون موائلا
|
ويروي مزايلا وقال
الآخر : [البسيط]
إن السفاهة طه
من خلائقكم
|
|
لا بارك الله في
القوم الملاعين
|
وقالت فرقة : سبب
نزول الآية إنما هو ما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتحمله من مشقة الصلاة حتى كانت قدماه تتورم ويحتاج إلى
الترويح بين قدميه فقيل له طا الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح ، فالضمير
في (طه) للأرض وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة ، وقرأت «طه» وأصله
طأ فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «طه» بفتح الطاء
والهاء وروي ذلك عن قالون عن نافع ، وو روي عن يعقوب عنه كسرهما ، وروي عنه بين
الكسر والفتح ، وأمالت فرقة ، والتفخيم لغة الحجاز والنبي عليهالسلام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء ، وقرأ أبو
عمرو «طه» بفتح الطاء وكسر الهاء ، وقرأت فرقة «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء ، وقد
تقدمت ، وروي عن الضحاك وعمرو بن فائد أنهما
قرأ «طاوي». وقوله
(لِتَشْقى) قالت فرقة : معناه لتبلغ من نفسك في العبادة والقيام في
الصلاة ، وقالت فرقة : إنما سبب الآية أن قريش لما نظرت إلى عيش رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشظفه وكثرة عبادته قالت : إن محمدا مع ربه في شقاء فنزلت
الآية رادة عليهم ، أي إن الله لم ينزل القرآن ليجعل محمدا شقيا بل ليجعله أسعد
بني آدم بالنعيم المقيم في أعلى المراتب ، فالشقاء الذي رأيتم هو نعيم النفس ولا
شقاء مع ذلك ع : فهذا التأويل أعم من الأول في لفظة الشقاء ، وقوله (إِلَّا تَذْكِرَةً) يصح أن ينصب على البدل من موضع (لِتَشْقى) ويصح أن ينصب بفعل مضمر تقديره لكن أنزلناه تذكرة ، و (يَخْشى) يتضمن الإيمان والعمل الصالح إذ الخشية باعثة على ذلك ،
وقوله (تَنْزِيلاً) نصب على المصدر ، وقوله (مِمَّنْ خَلَقَ
الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) صفة أقامها مقام الموصوف ، وأفاد ذلك العبرة والتذكرة
وتحقير الأوثان وبعث النفوس على النظر ، و (الْعُلى) جمع عليا فعلى. وقوله (الرَّحْمنُ) رفع بالابتداء ويصح أن يكون بدلا من الضمير المستقر في (خَلَقَ). وقوله (اسْتَوى) قالت فرقة : هو بمعنى استولى ، وقال أبو المعالي وغيره من
المتكلمين : هو بمعنى استواء القهر والغلبة ، وقال سفيان الثوري: فعل فعلا في
العرش سماه استواء وقال الشعبي وجماعة غيره : هذا من متشابه القرآن يؤمن به ولا
يعرض لمعناه ، وقال مالك بن أنس لرجل سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك :
الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني ،
فأدبر السائل وهو يقول يا أبا عبد الله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما
وفق أحد توفيقك.
قال القاضي أبو
محمد : وضعف أبو المعالي قول من قال لا يتكلم في تفسيرها بأن قال إن كل مؤمن يجمع
على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في معهود الكلام العربي ، فإذا فعل هذا فقد
فسر ضرورة ولا فائدة في تأخره عن طلب الوجه والمخرج البين ، بل في ذلك البأس على
الناس وإيهام للعوام ، وقد تقدم القول في مسألة الاستواء. وقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) الآية تماد في الصفة المذكورة المنبهة على الخالق المنعم ،
وفي قوله (ما تَحْتَ الثَّرى) قصص في أمر الحوت ونحوه اختصرته لعدم صحته ، والآية مضمنة
أن كل موجود محدث فهو لله بالملك والاختراع ولا قديم سواه تعالى. و (الثَّرى) التراب الندي ، وقوله (وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ) معناه وإن كنتم أيها الناس إذا أردتم إعلام أحد بأمر أو
مخاطبة أوثانكم وغيرها فأنتم تجهرون بالقول فإن الله الذي هذه صفاته (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) فالمخاطبة ب (تَجْهَرْ) لمحمد عليهالسلام وهي مراد بها جميع الناس إذ هي آية اعتبار ، واختلف الناس
في ترتيب (السِّرَّ) وما هو (أَخْفى) منه ، فقالت فرقة (السِّرَّ) هو الكلام الخفي الخافت كقراءة السر في الصلاة ، و «الأخفى»
هو ما في النفس ، وقالت فرقة هو ما في النفس متحصلا ، و «الأخفى» هو ما سيكون فيها
في المستأنف ، وقالت فرقة (السِّرَّ) هو ما في نفوس البشر وكل ما يمكن أن يكون فيها في المستأنف
بحسب الممكنات من معلومات البشر ، و «الأخفى» هو ما من معلومات الله لا يمكن أن
يعلمه البشر البتة ع : فهذا كله معلوم لله عزوجل.
وقد تؤول على بعض
السلف أنه جعل (وَأَخْفى) فعلا ماضيا وهذا ضعيف ، و (الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) يريد بها التسميات التي تضمنتها المعاني التي هي في غاية
الحسن ووحد الصفة مع جمع الموصوف لما كانت التسميات لا تعقل ، وهذا جار مجرى (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] و (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠]
وغيره ، وذكر أهل
العلم أن هذه الأسماء هي التي قال فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن لله تسعة
وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وذكرها الترمذي وغيره مسندة.
قوله عزوجل :
(وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً
فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها
بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً
(١٠)
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى
(١١) إِنِّي
أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً
(١٢)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي
أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)
(١٤)
هذا الاستفهام هو
توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها ، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت
إخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا ، ثم تبدأ تخبره. والعامل في (إِذْ) ما تضمنه قوله (حَدِيثُ) من معنى الفعل ، وتقديره (وَهَلْ أَتاكَ) ما فعل موسى (إِذْ رَأى ناراً) أو نحو هذا ، وكان من قصة موسى عليهالسلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت
مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره ، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا فكان يسير الليل
بأهله ولا يسير النهار مخافة كشفة الناس فضل عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى
أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئا (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا) أي أقيموا ، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة
خضراء يانعة قيل كانت من عناب ، وقيل من عوسج ، وقيل من عليقة ، فلما دنا منها
تباعدت منه ومشت ، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور
الله تعالى الخارقة للعادة ، وانقضى أمره كله في تلك الليلة ، هذا قول الجمهور وهو
الحق. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : أقام في ذلك الأمر حولا ومكثه أهله ع :
وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه. و (آنَسْتُ) معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة : [الخفيف]
آنست نبأة
وروعها القن
|
|
ناص ليلا وقد
دنا الإمساء
|
والنار على البعد
لا تحس إلا بالأبصار ، فلذلك فسر بعضهم اللفظ برأيت ، و «آنس» أعم من (رَأى) ، لأنك تقول آنست من فلان خيرا أو شرا. و «القبس» الجذوة
من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه ، و «الهدى» أراد الطريق ، أي لعلي
أجد ذا هدى أي مرشدا لي أو دليلا ، وإن لم يكن مخبرا. و «الهدى» يعم هذا كله وإنما
رجا موسى عليهالسلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق ، وفي ذكر قصة موسى
بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما
هي له على جهة التمثيل في أمره. وروي عن نافع وحمزة «لأهله امكثوا» بضمة الهاء
وكذلك في القصص ، وكسر الباقون الهاء فيهما. وقوله تعالى (فَلَمَّا أَتاها) الضمير عائد على النار ، وقوله (نُودِيَ) كناية عن تكليم الله له ، وفي (نُودِيَ) ضمير يقوم مقام الفاعل ، وإن شئت جعلته موسى إذ قد جرى
ذكره ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «إني» بكسر الألف على الابتداء ،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أني» بفتح الألف
على معنى «لأجل
أني» (أَنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ، و (نُودِيَ) قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي : [الكامل]
ناديت باسم
ربيعة بن مكدم
|
|
ان المنوه باسمه
الموثوق
|
واختلف المتأولون
في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين ، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر
بطرح النجاسة ، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال
بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي ، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها
عندي ، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها ، والعرف عند
الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه ، فكأن موسى عليهالسلام أمر بذلك على هذا الوجه ، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو
غيرها ، و (الْمُقَدَّسِ) معناه المطهر ، و (طُوىً) معناه مرتين مرتين ، فقالت فرقة معناه قدس مرتين ، وقالت
فرقة معناه طويته أنت ، أي سرت به ، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك ، وقرأ عاصم
وابن عامر وحمزة والكسائي «طوى» بالتنوين على أنه اسم المكان ، وقرأ نافع وابن
كثير وأبو عمرو «طوى» على أنه اسم البقعة دون تنوين ، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء ،
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء ، وقرأت فرقة «طاوي» وقالت فرقة هو اسم
الوادي ، و «طوى» على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنيا ، وقرأ السبعة
غير حمزة «وأنا اخترتك» ويؤيد هذه القراءة تناسبها مع قوله (أَنَا رَبُّكَ) وفي مصحف أبي بن كعب «وأني اخترتك» ، وقرأ حمزة «وأنّا
اخترناك» بالجمع وفتح الهمزة وشد النون ، والآية على هذا بمنزلة قوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] ثم
قال (وَآتَيْنا) [الإسراء : ٢]
فخرج من إفراد إلى جمع ، وقرأت فرقة وإنا اخترناك» يكسر الألف.
قال القاضي أبو
محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت أبا الفضل بن الجوهري يقول : لما قيل
لموسى (فَاسْتَمِعْ) وقف على حجر ، واستند إلى حجر ، ووضع يمينه على شماله
وألقى ذقنه على صدره ، ووقف يستمع وكان كل لباسه صوفا. وقرأت فرقة «بالواد المقدس
طاوي» وقوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها
فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب ،
وقالت فرقة معنى قوله (لِذِكْرِي) أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها ، فاللام على هذا
بمنزلتها في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وقرأت فرقة «للذكرى» ، وقرأت فرقة «لذكرى»
بغير تعريف ، وقرأت فرقة «للذكر».
قوله عزوجل :
(إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى
(١٥)
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
وَما
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧)
قالَ
هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها
مَآرِبُ أُخْرى)
(١٨)
في قوله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) تحذير ووعيد ، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد ، و (السَّاعَةَ) في
هذه الآية القيامة
بلا خلاف ، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم «أكاد أخفيها» بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي
أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم ، والعرب
تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]
خفاهن من
أنفاقهن كأنما
|
|
خفاهن ودق من
سحاب مجلّب
|
ومنه قوله أيضا : [المتقارب]
فإن تدفنوا
الداء لا نخفه
|
|
وإن توقدوا
الحرب لا نقعد
|
قال أبو علي :
المعنى أزيل خفاءها ، وهو ما تلف به القربة ونحوها ، وقرأ الجمهور «أخفيها» بضم
الهمزة ، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة : معناه أظهرها وأخفيت من
الأضداد ، وهذا قول مختل ، وقالت فرقة معناه ، (أَكادُ أُخْفِيها) من نفسي على معنى العبارة عن شدة غموضها على المخلوقين ،
فقالت فرقة : المعنى (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ)
وتم الكلام بمعنى (أَكادُ) أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها
، وهذا قلق ، وقالت فرقة (أَكادُ) زائدة لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن
الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس ، وقالت فرقة (أَكادُ) بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر : [الكامل]
كادت وكدت وتلك
خير إرادة
وقد تقدم هذا
المعنى ، وقالت فرقة (أَكادُ) على بابها بمعنى أنها مقاربة ما لم يقع ، لكن الكلام جار
على استعارة العرب ومجازها ، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة
ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في
إبهام وقتها فقال (أَكادُ أُخْفِيها) حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها ، هذا
تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي ، ورأى بعض
القائلين بأن المعنى (أَكادُ أُخْفِيها) من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من
تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيرا
فتأمله ، واللام في قوله (لِتُجْزى) متعلقة ب (آتِيَةٌ) وهكذا يترتب الوعيد. و (تَسْعى) معناه تكسب وتجترح ، والضمير في قوله (عَنْها) يريد عن الإيمان بالساعة فأوقع الضمير عليها ، ويحتمل أن
يعود على (الصَّلاةَ) [طه : ١٤] وقالت
فرقة المراد عن لا إله إلا الله ع : وهذا متجه ، والأولان أبين وجها. وقوله (فَتَرْدى) معناه تهلك ، والردى الهلاك ومنه قوله دريد بن الصمة: [الطويل]
تنادوا فقالوا
أردت الخيل فارسا
|
|
فقلت أعبد الله
ذلكم الردي
|
وهذا الخطاب كله
لموسى عليهالسلام وكذلك ما بعده ، وقال النقاش : الخطاب ب (فَلا يَصُدَّنَّكَ) لمحمد عليهالسلام وهذا بعيد ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «أكاد أخفيها من
نفسي» وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم ، وقوله عزوجل (وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى) تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس
لتلقي ما يورد
عليها وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل ، وقوله (بِيَمِينِكَ) من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة : [الطويل]
عدس ما لعباد
عليك إمارة
|
|
نجوت وهذا
تحملين طليق
|
قال ابن الجوهري :
وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك
الموطن فقيل له (أَلْقِها) [طه : ١٩] ليرى
منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه ، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف
عنه «عصاي» بكسر الياء مثل غلامي ، وقرأت فرقة «عصى» وهي لغة هذيل ومنه قول أبي
ذؤيب : [الكامل]
سبقوا هويّ
وأعنقوا لهواهم
وقرأ الجمهور «عصاي»
بفتح الياء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «عصاي» بياء ساكنة ، ثم ذكر موسى عليهالسلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها ، وأجمل سائر ذلك ، وقرأ
الجمهور «وأهشّ» بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها
الورق للغنم ، وقرأ إبراهيم النخعي «وأهش» بكسر والمعنى كالذي تقدم ، وقرأ عكرمة
مولى ابن عباس «وأهسّ» بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف ،
وقرأت فرقة «على غنمي» بالجر ، وقرأت «غنمي» فأوقع الفعل على الغنم ، وقرأت «غنمي»
بسكون النون ولا أعرف لها وجها ، وقوله (أُخْرى) فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل
والكناية عنه فإن ذلك يجرى مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى : (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه : ٨] وكقوله (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] وقد
تقدم القول في هذا المعنى غير مرة ، وعصا موسى عليهالسلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء الذي كان عند شعيب
حين اتفقا على الرعية ، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في
ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.
قوله عزوجل :
(قالَ أَلْقِها يا
مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى
(٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
قالَ
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧)
يَفْقَهُوا
قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ
أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)
كَيْ
نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ
كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)
(٣٥)
لما أراد الله
تعالى أن يدربه في تلقي النبوءة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا (فَأَلْقاها) موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها ، وكانت عصا ذات شعبتين
فصار الشعبتان لها فما وصارت (حَيَّةٌ تَسْعى) أي تنتقل
وتمشي وتلتقم
الحجارة ، فلما رآها موسى رأى عبرة فولى مدبرا ولم يعقب ، فقال الله تعالى له : (خُذْها وَلا تَخَفْ) وذلك أنه أوجس في نفسه خيفة أي لحقه ما يلحق البشر ، وروي
أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك ، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة
وهي (سِيرَتَهَا الْأُولى) ثم أمره الله عزوجل أن يضم يده إلى جنبه وهو الجناح استعارة ومجازا ومنه قول
الراجز : [الرجز]
«أضمه للصدر
والجناح»
وبعض الناس يقولون
الجناح اليد وهذا كله صحيح على طريق الاستعارة ، ألا ترى أن جعفر بن أبي طالب يسمى
ذا الجناحين بسبب يديه حين أقيمت له الجناحان مقام اليدين شبه بجناح الطائر وكل
مرعوب من ظلمة أو نحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله
لموسى عليهالسلام تفتير الرعب مع الآية في اليد ، وروي أن يد موسى خرجت
بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس. وقوله (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ، أي من غير برص ولا مثلة بل هو أمر ينحسر ويعود لحكم
الحاجة إليه. وقوله (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) يحتمل أن يريد وصف
الآيات بالكبر على ما تقدم من قوله (الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) [طه : ٨] ، و (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ونحوه ،
ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين فإنهما أكبر الآيات كأنه قال لنريك الكبرى
فهما معنيان ، ثم أمره تبارك وتعالى بالذهاب إلى فرعون وهو مصعب بن الريان في بعض
ما قيل ، وقيل غير هذا ، ولا صحة لشيء من ذلك. و (طَغى) معناه تجاوز الحد في فساد ، وقوله (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) الآية ، لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون علم أنها
الرسالة وفهم قدر التكليف فدعا الله في المعونة إذ لا حول له إلا به. و (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) معناه «لفهم ما يرد علي من الأمور والعقدة التي دعا في
حلها هي التي اعترته بالجمرة التي جعلها في فيه حين جربه فرعون». وروي في ذلك أن
فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده إلى لحية فرعون ، فقالت له امرأته إنه لا
يعقل ، فقال بل هو يعقل وهو عدو لي ، فقالت له نجربه ، قال أفعل ، فدعت بجمرات من
نار وبطبق فيه ياقوت فقالا إن أخذ الياقوت علمنا أنه يعقل وإن أخذ النار عذرناه
فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها فلم تعد على يده ، فجعلها في فمه فأحرقته وأورث
لسانه عقدة في كبره أي حبسة ملبسة في بعض الحروف قال ابن الجوهري «كف الله تعالى
النار عن يده لئلا تقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقول موسى مكانتي» وموسى عليهالسلام إنما طلب من حل العقدة قدر أن يفقه قوله ، فجائزا أن يكون
ذلك كله زال ، وجائزا أن يكون بقي منه القليل ، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول
فرعون ، ولا يكاد يبين ، ولو فرضناه زال جملة لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته
القديمة. و «الوزير» المعين القائم بوزر الأمور وهو ثقلها ويحتمل الكلام أن طلب
الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل (هارُونَ) من الوزير المطلوب ، ويحتمل أن يريد واجعل هارون وزيرا ،
فإنما ابتدأ الطلب فيه فيكون على هذا مفعولا أولا ب (اجْعَلْ). وكان هارون عليهالسلام أكبر من موسى بأربعة أعوام ، وقرأ ابن عامر وحده «أشدد»
بفتح الهمزة و «أشركه» بضمها على أن موسى أسند هذه الأفعال إلى نفسه ، ويكون الأمر
هنا لا يريد به النبوءة بل يريد تدبيره ومساعيه لأن النبوءة لا يكون لموسى أن يشرك
فيها بشرا ، وقرأ الباقون «أشدد» بضم الهمزة «وأشرك» على معنى الدعاء في شد الأزر
وتشريك هارون في النبوءة وهذه هي الوجه لأنها تناسب ما تقدم من الدعاء وتعضدها
آيات غير هذه بطلبه تصديق هارون إياه.
و «الأزر» بمعنى
الظهر قاله أبو عبيدة كأنه قال شد به عوني واجعله مقاومي فيما أحاوله وقال امرؤ
القيس : [الطويل]
بمحنية قد آزر
الضال نبتها
|
|
فجر جيوش غانمين
وخيب
|
أي قاومه وصار في
طوله ، وفتح أبو عمرو وابن كثير الياء من (أَخِي) وسكنها الباقون وروي عن نافع «وأشركهو» بزيادة واو في
اللفظ بعد الهاء ثم جعل موسى عليهالسلام ما طلب من نعم الله تعالى سببا يلزم كثيرة العبادة
والاجتهاد في أمر الله ، وقوله (كَثِيراً) نعت لمصدر محذوف تقديره تسبيحا كثيرا.
قوله عزوجل :
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا
إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)
(٣٩)
المعنى قال الله
تعالى : قد أعطيت يا موسى طلبتك في شرح الصدر وتيسير الأمر وحل العقدة إما بالكل
وإما على قدر الحاجة في الإفقاه ، وإتيان هذا السؤال منة من الله عزوجل فقرن إليها عزوجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى
بصيرته. وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يدي
غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ، ثم إنه رأى مع أهل
مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع
ونحو هذا ، فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة ، فولد هارون في سنة
الاستحياء فكانت أمه آمنة ، ثم ولد موسى في العالم الرابع سنة القتل فخافت أمه
عليه الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها ، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها ، قال
بعض من روى هذا ولم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من
لم يكن نبيا ، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي ، وقالت فرقة بل كان
هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم ، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى
النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش ، ثم
قذفته في يم النيل ، وكان فرعون جالسا في موضع يشرف على النيل إذ رأى تابوتا فأمر
به ، فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك
وروي أن (التَّابُوتِ) جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون
يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم
إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف يعرض
للمراضع ، فكلما عرضت عليه امرأة أباها. وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت
مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا
منه خبر ، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره فقالت لهم أنا أدلكم على أهل
بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي ، فقالت
لا ، غير أني أعلم من أهل هذا البيت
الحرص على التقرب
إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها ، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى
فلما قربته شرب ثديها ، فسرت آسية امرأة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر ،
فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي ، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك
البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع ، والسبب من الملكة ، وأقام
موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن
لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل
ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليهالسلام بلحية فرعون وجذبها ، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر
بذبحه ، فنا شدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل ، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على
تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفا في حل العقدة ، فنجاه الله من فرعون
ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع ، وكان فتى جلدا فاضلا
كاملا فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو
يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم ، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة ، وكان يعرف
ذلك أعيان بني إسرائيل. ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في
موضعها مستوعب ، فخرج موسى عليهالسلام من مصر حتى وصل إلى مدين ، فكان من أمره مع شعيب ما هو في
موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سين
، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى
النار حسبما تقدم ذكره ، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه
القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى ، وهذه الفتون
التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها. وقوله (ما يُوحى) إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته في النعم وهذا نحو قوله
تعالى (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] وهو
كثير في القرآن والكلام ، و (أَنِ) في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ) بدل من (ما) والضمير الأول في (اقْذِفِيهِ) عائد على موسى وفي الثاني على (التَّابُوتِ) ، ويجوز أن يعود على «موسى». وقوله (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ) خبر خرج في صغية الأمر إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ،
ومنه قول النبي عليهالسلام «قوموا فلأصل لكم»
فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر
حسن جوابه كذلك ، و «والعدو» الذي هو لله ولموسى كان فرعون ولكن أم موسى أخبرت به
على الإبهام ولذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين. ثم أخبر تعالى موسى أنه «ألقى
عليه محبة» منه فقال بعض الناس أراد محبة آسية لأنها كانت من الله وكانت سبب
حياته. وقالت فرقة : أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده ، وكان حظ
موسى منه في غاية الوفر. وقالت فرقة : أعطاه جمالا يحبه به كل من رآه ، وقالت فرقة
: أعطاه ملاحة العينين ، وهذان القولان فيهما ضعف وأقوى الأقوال أنه القبول. وقرأ
الجمهور و «لتصنع» بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغدى وتطعم وتربى ، وقرأ أبو
نهيك «ولتصنع» بفتح التاء ، قال ثعلب معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني ، وقرأ
أبو جعفر بن القعقاع «ولتصنع» بسكون اللام على الأمر للغالب وذلك متجه. وقوله (عَلى عَيْنِي) معناه بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى.
قوله عزوجل :
(إِذْ تَمْشِي
أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى
أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ
مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي)
(٤١)
العامل في (إِذْ) فعل مضمر تقديره ومننا إذ ، وتقدم تفسير هذه الآية في
القصص المذكور آنفا. وقرأت فرقة «تقر» بفتح القاف ، وقرأت فرقة بكسر القاف والنفس
التي قتل هي نفس القبطي الذي كان يقاتل الإسرائيلي فوكزه موسى فقضى عليه ، و (الْغَمِ) هم النفس وكان هم موسى بأمر من طلبه ليثأر به. وقوله (فَتَنَّاكَ فُتُوناً) معناه خلصناك تخليصا ، هذا قول جمهور المفسرين. وقالت فرقة
معناه اختبرناك وعلى هذا التأويل لا يراد إلا ما اختبر به موسى بعد بلوغه وتكليفه
وما كان قبل ذلك فلا يدخل في اختبار موسى وعدة سنية (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) عشرة أعوام لأنه إنما قضى أوفى الأجلين وقوله (عَلى قَدَرٍ) أي بميقات محدود للنبوة التي قد أرداها الله بك ومنه قول
الشاعر : [البسيط]
نال الخلافة إذ
كانت له قدرا
|
|
كما أتى ربه
موسى على قدر
|
(وَاصْطَنَعْتُكَ) معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان ، وقوله (لِنَفْسِي) إضافة تشريف ، وهكذا كما تقول بيت الله ونحوه والصيام لي
وعبر ب «النفس» عن شدة القرب وقوة الاختصاص.
قوله عزوجل :
(اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ
قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا
إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى)
(٤٦)
أمر الله تعالى
موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون وخاطب موسى وحده تشريفا له
ويحتمل أن هارون أوحي إليه مع ملك أن ينفذ ، و (بِآياتِي) معناه بعلاماتي التي أعطيتكموها من معجزة وآية ووحي وأمر
ونهي كالتوراة ، و (تَنِيا) معناه تضعفا وتبطيا تقول ونا فلان في أمر كذا إذا تباطأ
فيه عن ضعف ومنه قول الشاعر : [المضارع]
فما أنا بالواني
|
|
ولا الضرع الغمر
|
والونى الكلال
والفتور والفشل في البهائم والإنس ، وفي مصحف ابن مسعود «ولا تهنا في ذكري» معناه
ولا تلينا من قولك هين لين والقول اللين قالت فرقة : معناه كنياه وقالت فرقة بل
أمرهما بتحسين الكلمة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا هو الوجه ، وذلك أن كل من يريد دعاء إنسان إلى أمر يكرهه فإنما الوجه
أن يحرر في عبارته بالمعنى الذي يريد حتى لا يخل به ولا يحز منه ، ثم يجتهد بعد
ذلك في أن تكون عبارته لطيفة ومقابلته لينة وذلك أجلب للمراد فأمر الله تعالى موسى
وهارون أن يسلكا مع فرعون إكمال
الدعوة في لين من
القول. وقوله (لَعَلَّهُ) معناه على رجائكما وطمعكما فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى
جهة البشر وقرأ الجمهور «يفرط» بفتح الياء وضم الراء ومعناه يعجل ويسرع بمكروه
فينا ومنه فارط في الماء وهو الذي يتقدم القوم إليه قال الشاعر القطامي عمير بن
شييم : [البسيط]
واستعجلوا
وكانوا من صحابتنا
|
|
كما تعجّل فرّاط
لورّاد
|
وقالت فرقة «يفرط»
بضم الياء وكسر الراء ومعناه يشتط في إذايتنا ، وقرأ ابن محيصن «يفرط» بضم الياء
وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل على التسرع إلينا.
قوله عزوجل : (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى). يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون ، وهذا كما تقول
الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه و (أَسْمَعُ وَأَرى) عبارتان عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية تبارك الله رب
العالمين.
قوله عزوجل :
(فَأْتِياهُ فَقُولا
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ
إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ
رَبُّكُما يا مُوسى)
(٤٩)
المعنى (فَأْتِيا) فرعون فأعلماه أنكما رسولاي إليه وعبر بفرعون تحقيرا له إذ
كان هو يدعي الربوبية ثم أمرا يدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من غل
خدمة القبط وقد تقدم في هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان وهذه جملة ما دعي إليه فرعون
الإيمان وإرسال بني إسرائيل ، والظاهر أن رسالته إليه ليست على حد إرساله إلى بني
إسرائيل ، وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم والآية التي
أحالا عليها هي العصا واليد وقالا (جِئْناكَ) والجائي بها موسى تجوزا من حيث كانا مشركين وقوله عليهالسلام (مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يحتمل أن يكون آخر كلام وفصله فيقوى أن يكون السلام بمعنى
التحية كأنهما رغبا بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول فسلما
على متبع الهدى وفي هذا توبيخ له ع : وعلى هذه الجهة استعمل الناس هذه الآية في
مخاطبتهم ومحاوراتهم ويحتمل أن يكون في درج القول متصلا بقوله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) فيقوى على هذا أن يكون خبرا بأن السلامة للمهتدين ، وهذان
المعنيان قالت كل واحد منهما فرقة ، لكن دون هذا التلخيص ، وقالوا (السَّلامُ) بمعنى السلامة وعلى بمعنى اللام أي السلام ل (مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) ولما فرغا من المقالة التي أمر بها عن قوله (وَتَوَلَّى) خاطبهما ، وفي سرد هذه الآية حذف يدل عليه ظاهر الكلام
تقديره فأتياه فلما قالا جميع ما أمرا به قال لهما فرعون (فَمَنْ رَبُّكُما) وقوله (يا مُوسى) بعد جمعه مع هارون في الضمير ، نداء بمعنى التخصيص
والتوقيف إذ كان صاحب عظم الرسالة ولزيم الآيات.
قوله عزوجل :
(قالَ رَبُّنَا
الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)
قالَ
فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)
(٥٢)
استبد موسى صلىاللهعليهوسلم من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا
شرك لفرعون فيه ولا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته
أنثى (ثُمَّ هَدى) للإتيان ، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته
خلقته وصورته ، أي أكمل ذلك له وأتقنه (ثُمَّ هَدى) أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات ، وقرأت فرقة «خلقه» بفتح اللام
ويكون المفعول الثاني ب (أَعْطى) مقدرا تقديره كماله أو خلقته ، وقول فرعون (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) يحتمل أن يريد محاجته بحسب ما تقدم من القول ومناقضته فيه
، فليس يتجه على هذا أن يريد ما بال القرون الأولى ولم يوجد أمرك عندها ، فرد موسى
عليهالسلام علم ذلك إلى الله تعالى ، ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام
الأول والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الناس روغانا في الحجة وحيدة وقال «البال»
الحال فكأنه سألهم عن حالهم كما جاء في الحديث «يهديكم الله ويصلح بالكم». وقال
النقاش إنما قال فرعون (فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى) لما سمع مؤمن آله يا قوم (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] مثل
دأب قوم نوح وعاد» الآية ورد موسى العلم إلى الله تعالى لأنه لم تأته التوراة بعد.
وقوله (فِي كِتابٍ) يريد في اللوح المحفوظ أو فيما كتبه الملائكة من أحوال
البشر. وقرأت فرقة «لا يضل» بفتح الياء وكسر الضاد واختلف في معنى هذه القراءة
فقالت فرقة هو ابتداء الكلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم
في قوله (فِي كِتابٍ) و (يَضِلُ) معناه ينتلف ويعمه ، وقالت فرقة بل قوله (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) من صفات الكتاب أي إن الكتاب لا يغيب عن الله تعالى ، تقول
العرب ضلني الشيء إذا لم أجده وأضللته أنا ومنه قول النبي صلى الله عليه حكاية عن
الإسرائيلي الذي طلب أن يحرق بعد موته «لعلي أضل الله» الحديث ، و (يَنْسى) أظهرها ما فيه أن يعود ضميره إلى الله تعالى ويحتمل أن
يعود إلى الكتاب في بعض التأويلات يصفه بأنه (لا يَنْسى) أي لا يدع شيئا ، فالنسيان هنا استعارة كما قال في موضع
آخر (إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩]
فوصفه بالإحصاء من حيث حصرت فيه الحوادث.
قوله عزوجل :
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ
وَمِنْها
نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى)
(٥٦)
انظر إن هذا
الأشياء التي ذكرها موسى عليهالسلام هي مما تقضي بداية العقول أن فرعون وكل بشر بعيد منها لأنه
لو قال هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالط
فيقول أنا أفعل هذا كله فإنما أتاه موسى عليهالسلام بصفات لا يمكنه أن يقول إن ذلك له وقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو وابن عامر «مهادا» بكسر الميم وبألف ، والمهاد قيل هو جمع مهد ، وقيل
اسم مفرد كفرش وفراش ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «جعل لكم الأرض مهدا» بفتح الميم
وسكون الهاء ، وقوله (سَلَكَ) بمعنى نهج ولحب ، و «السبل» الطرق ، وقوله (فَأَخْرَجْنا بِهِ) يحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ثم وصل الله تعالى كلام موسى بإخباره لمحمد صلىاللهعليهوسلم والمراد الخلق أجمع ، فهذه الآيات المنبهة عليها ، و «الأزواج»
هنا بمعنى الأنواع ، وقوله (شَتَّى) نعت للأزواج أي مختلفات ، وقوله (كُلُوا وَارْعَوْا) بمعنى هي صالحة لأن يؤكل منها وترعى الغنم فيها فأخرج
العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال وأهدأها للنفوس ، و (النُّهى) جمع نهية والنهية العقل الناهي عن القبائح ، وقوله تعالى (مِنْها خَلَقْناكُمْ) يريد من الأرض ،
وهذا من حيث خلق آدم من تراب. وقوله (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) يريد بالموت والدفن أو الفناء كيف كان وقوله (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) يريد بالبعث ليوم القيامة ، وقوله تعالى (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) إخبار لمحمد صلىاللهعليهوسلم عن فرعون ، وهذا يؤيد أن الكلام من قوله (فَأَخْرَجْنا) إنما هو خطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله (كُلَّها) عائد على الآيات التي رآها لا أنه رأى كل آية لله ، وإنما
المعنى أن الله تعالى أراه آيات ما بكما لها فأضاف الآيات إلى ضمير العظمة تشريفا
لها ، وقوله تعالى : (وَأَبى) يقتضي تكسب فرعون وهذا هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب.
قوله عزوجل :
(قالَ أَجِئْتَنا
لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ
بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)
(٥٩)
هذه المقاولة من
فرعون تدل على أن أمر موسى قد كان قوي وكثر متبعوه من بني إسرائيل ووقع أمره في
نفوس الناس ، وذلك أنها مقاولة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه ، وأرضهم
هي أرض مصر ، وقرأت فرقة «لا نخلفه» بالرفع ، وقرأت فرقة «لا نخلفه» بالجزم على
جواب الأمر ، و (نَحْنُ) تأكيد للضمير من حيث احتاج الكلام إلى العطف عليه أكد ، و (مَوْعِداً) مفعول أول ل (فَاجْعَلْ) ، و (مَكاناً) مفعول ثان هذا الذي اختار أبو علي ومنع أن يكون (مَكاناً) معمولا لقوله (مَوْعِداً) لأنه قد وصف وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو
عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الاسمية بمثل هذا لم تعمل ولا
تعلق بها شيء هو منها ، وقد يتوسع في الظروف فتعلق بعد ما
ذكرنا كقوله عزوجل : (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ
اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ) [غافر : ١٠] ،
فقوله (إِذْ) [غافر : ١٠] معلق
بقوله (لَمَقْتُ اللهِ) [غافر : ١٠] وهو
قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ، وكذلك منع أبو علي أن يكون قوله (مَكاناً) قصيا على الظرف الساد مسد المفعول.
قال القاضي أبو
محمد : وفي هذا نظر ومنع قوم أن يكون (مَكاناً) نصب على المفعول الثاني بتخلفه ، وجوزه جماعة من النحاة
ووجهه أن يتسع في أن يخلف الوعد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي «سوى»
بكسر السين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «سوى» بضمها ، والجمهور نون الواو ، وقال
أبو الفتح ترك الصرف هنا مشكل والذي ينبغي أن يكون محمولا على الوقف ، وقرأت فرقة «سوى»
ذكره أبو عمرو عن ابن أبي عبلة ومعنى «سوى» أي عدلا ونصفة قال أبو علي : فكأنه قال
«مكانا» قربه منكم قربه منا (ع) إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرب وأن
تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق أي لا يعترضكم فيه الرياسة وإنما تقصد
الحجة. و (سُوىً) لغة في سوى ومن هذه اللفظة قول الشاعر [موسى ابن جابر
الحنفي] [الطويل]
وإن أبانا كان
حل ببلدة
|
|
سوى بين قيس قيس
عيلان والفزر
|
وقالت فرقة مستويا
من الأرض لا وهد فيه ولا نشز ، وقالت فرقة معناه سوى مكانا هذا فقال موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) اتسع في الظرف من قرأه برفع «يوم» فجعله خبرا ، وقرأ الحسن
والأعمش والثقفي «يوم» بالنصب على الظرف والخبر مقدر ، وروي أن (يَوْمُ الزِّينَةِ) كان عيدا لهم ويوما مشهورا وصادف يوم عاشوراء وكان يوم سبت
وقيل هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقوله (وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ) عطف على (الزِّينَةِ) فهو في موضع خفض ، ويحتمل أن يكون في موضع رفع على تقدير
وموعدكم أن يحشر الناس ، ويقلق عطفه على «اليوم» ، وفيه نظر ، وقرأ الجمهور «حشر
الناس» رفعا وقرأ ابن مسعود والخدري وجماعة «يحشر الناس» بفتح الياء وضم الشين
ونصب «الناس» وقرأت فرقة «نحشر الناس» بالنون. والحشر الجمع ومعناه نحشر الناس
لمشاهده المعارضة والتهيؤ لقبول الحق حيث كان.
قوله عزوجل :
(فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ
خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى
(٦٣) فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)
(٦٤)
المعنى (فَجَمَعَ) السحرة ووعدهم وأمرهم بالإعداد لموسى ، وروي أمرهم ، فهذا
هو (كَيْدَهُ) ، (ثُمَّ أَتى) فرعون بجمعه وأهل دولته والسحرة معه وكانت عصابة لم يخلق
الله أسحر منها وجاء أيضا موسى عليهالسلام ببني إسرائيل معه فقال موسى للسحرة (وَيْلَكُمْ) وهذه مخاطبة محذرة ندبهم في هذه الآية إلى
قول الحق إذا رأوه
وأن لا يباهتوا بكذب وقرأ ابن عباس ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «فيسحتكم»
بفتح الياء ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «فيسحتكم» بضم الياء وهما لغتان
بمعنى يقال سحت وأسحت إذا أهلك وأذهب ومنه قول الفرزدق : [الطويل]
وعض زماني يا
ابن مروان لم يدع
|
|
من المال إلا
مسحتا أو مجلف
|
فهذا من أسحت فلما
سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من مهابته أمر شديد (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ) والتنازع يقتضي اختلافا كان بينهم في السر أي قال بعضهم
لبعض هو محق ، وقال بعضهم هو مبطل ، وقال بعضهم إن كان من عند الله فسيغلبنا ونحو
هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا ،
ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى.
وقالت فرقة إنما
كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) ع والأظهر أن تلك قيلت علانية ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن
ثم تنازع ، و (النَّجْوى) السرار والمساررة أي كان كل رجل يناجي من يليه ، ثم جعلوا
ذلك سرا مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفا لأنهم لم يكونوا حينئذ مصممين على غلبة
موسى بل كان ظنا من بعضهم ، وقوله تعالى : (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) الآية ، قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «إنّ» مشددة
النون «هذان» بألف ونون مخففة للتثنية. وقرأ أبو عمرو وحده «إن هذين لساحران» وقرأ
ابن كثير «إن هذان» بتخفيف نون «إن» وتشديد نون «هذان لسحران» ، وقرأ حفص عن عاصم «إن»
بالتخفيف «هذان» خفيفة أيضا «لساحران» ، وقرأت فرقة «إن هذان إلا ساحران» ، وقرأت
فرقة «إن ذان لساحران» ، وقرأت فرقة «ما هذان إلا ساحران» ، وقرأت فرقة «إن هذانّ»
بتشديد النون من «هذان». فأما القراءة الأولى فقالت فرقة قوله «إن» بمعنى نعم كما
روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال في خطبته : «إن الحمد لله» فرفع الحمد وقال ابن
الزبير إن وراكبها حين قال له الرجل فأبعد الله ناقة حملتني إليك ويلحق هذا
التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الابتداء وهو مما يجوز في الشعر ومنه قول الشاعر
: [الرجز]
أم الحليس لعجوز
شهربه
|
|
ترضى من اللحم
بعظم الرقبه
|
وذهبت فرقة إلى أن
هذه الآية على لغة بلحارث وهو إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض فمن ذلك قول
الشاعر [هوبر الحارثي] : [الطويل]
تزود منها بين
أذناه ضربة
|
|
دعته إلى هابي
التراب عقيم
|
وقال الآخر : [الطويل]
فأطرق إطراق
الشجاع ولو رأى
|
|
مساغا لنا باه
الشجاع لصمها
|
وتعزى هذه اللغة
لكنانة وتعزى لخثعم وقال الفراء الألف في «هذان» دعامة وليست بمجلوبة للتثنية
وإنما هي ألف هذا تركبت في حال التثنية كما تقول الذي ثم تزيد في الجمع نونا وتترك
الياء في حال الرفع والنصب والخفض وقال الزجاج في الكلام ضمير تقديره إنه هذان
لساحران.
قال القاضي أبو
محمد : وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر وقال بعض النحاة ألف «هذان»
مشبهة هنا بألف
تفعلان وقال ابن كيسان لما كان هذا بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته
هنا كذلك ، وقالت جماعة ، منهم عائشة رضي الله عنها وأبو بكر ، هذا مما لحن الكاتب
فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من أن ع وهذه الأقوال معترضة إلا ما قيل من
أنها لغة ، و «إن» بمعنى أجل ونعم أو «إن» في الكلام ضميرا وأما من قرأ «إن» خفيفة
فهي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم ويقول الفراء هي بمعنى ما
واللام بمعنى إلا ووجه سائر القراءات بينّ. وعبر كثير من المفسرين عن «الطريقة»
بالسادة وأنها يراد بها أهل العقل والسن والحجى وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة
قومه أي سيدهم والأظهر في «الطريقة» هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي
عليها ، و (الْمُثْلى) تأنيث أمثل أي الفاضلة الحسنة. وقرأ جمهور القراء «فأجمعوا»
بقطع الألف وكسر الميم على معنى أنقذوا وأعزموا ، وقرأ أبو عمرو وحده «فاجمعوا» من
جمع أي ضموا سحركم بعضه إلى بعض ، وقرأ ابن كثير «ثمّ» بفتح الميم «ايتوا» بسكون
الياء ، وقرأ أيضا في رواية شبل عنه بكسر الميم «ثم ايتوا» ، قال أبو علي وهذا غلط
ولا وجه لكسر الميم من «ثم» ، وقرأ الجمهور «ثم ائتوا» بفتح الميم وبهمزة بعد
الألف ، قوله (صَفًّا) حال أي مصطفين وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم ، و (أَفْلَحَ) معناه ظفر ببغيته و (اسْتَعْلى) معناه طلب العلو في أمره وسعى سعيه.
قوله عزوجل :
(قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها
تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى
(٦٧)
قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)
(٦٩)
خير السحرة موسى عليهالسلام في أن يبتدىء بالإلقاء أو يتأخر بعدهم ، وروي أنهم كانوا
سبعين ألف ساحر ، وروي أنهم كانوا ثلاثين ألف ساحر ، وروي أنهم كانوا خمسة عشر ألف
، وروي أنهم كانوا تسعمائة ، ثلاثمائة من الفيوم وثلاثمائة من الفرما وثلاثمائة من
الإسكندرية وكان مع كل رجل منهم حبل وعصى قد استعمل فيها السحر ، وقوله (فَإِذا) هي للمفاجأة كما تقول خرجت فإذا زيد ، وهي التي تليها
الأسماء ، وقرأت فرقة «عصيهم» بكسر العين ، وقرأت فرقة «عصيهم» بضمها ، وقرأت فرقة
«يخيل» على بناء الفعل للمفعول فقوله (أَنَّها) في موضع رفع على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الحسن والثقفي «تخيل»
بضم التاء المنقوطة وكسر الياء وإسناد الفعل إلى الحبال والعصي ، فقوله (أَنَّها) مفعول من أجله ع والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين
أن الحبال والعصي كانت تنتقل بحيل السحر وبدس الأجسام الثقيلة المياعة فيها وكان
تحركها يشبه تحرك الذي له إرادة كالحيوان ، وهو السعي فإنه لا يوصف بالسعي إلا من
يمشي من الحيوان ، وذهب قوم إلى أنها لم تكن تتحرك لكنهم سحروا أعين الناس وكان
الناظر يخيل إليه أنها تتحرك وتنتقل ع وهذا يحتمل والله أعلم أي ذلك كان ، وقوله
تعالى : (فَأَوْجَسَ) عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء
يسوءه ، وظاهر الأمر كله الصلاح ، فهذا الفعل من أفعال النفس
يسمى الوجيس وعبر
المفسرون عن أوجس بأضمر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير. و (خِيفَةً) يصح أن يكون أصلها خوفة قلبت الواو ياء للتناسب ، وخوف
موسى عليهالسلام إنما كان على الناس أن يضلوا لهول ما رأى والأول أصوب أنه
أوجس على الجملة وبقي ينتظر الفرج ، وقوله (أَنْتَ الْأَعْلى) أي الغالب لمن ناوأك في هذا المقام ، وقرأ جمهور القراء «تلقّف»
بالجزم على جواب الأمر وبشد القاف ، وقرأ ابن عامر وحده «تلقف» وهو في موضع الحال
ويصح أن يكون من الملقى على اتساع ويصح أن يكون من الملقى وهي العصا وهذه حال ،
وإن كانت لم تقع بعد كقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] وهذا كثير. وقرأ حفص عن عاصم «تلقف» بسكون
اللام وتخفيف القاف وأنث الفعل وهو مسند إلى ما في اليمين من حيث كانت العصا مرادة
بذلك ، وروى البزي عن ابن كثير أنه كان يشدد التاء من «تلقف» كأنه أراد تتلقف
فأدغم ، وأنكر أبو علي هذه القراءة ع ويشبه أن قارئها إنما يلتزمها في الوصل حيث
يستغنى عن جلب ألف ، وقرأ الجمهور «كيد ساحر» برفع الكيد ، وقرأ حمزة والكسائي «كيد
سحر» ، وقرأت فرقة «كيد» بالنصب «سحر» وهذا على أن «ما» كافة و «كيد» منصوب ب (صَنَعُوا) ، ورفع «كيد» على أن «ما» بمعنى الذي. و (يُفْلِحُ) معناه يبقى ويظفر ببغيته ، وقالت فرقة معناه أن الساحر
يقتل حيث ثقف ع وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة «أين أتى» والمعنى بهما
متقارب ، وروي من قصص هذه الآية أن فرعون ، لعنه الله ، جلس في عليه له طولها
ثمانون ذراعا والناس تحته في بسيط وجاء سبعون ألف ساحر فألقوا من حبالهم وعصيهم ما
فيه وقر ثلاثمائة بعير فهال الأمر.
ثم إن موسى عليهالسلام ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعبانا وجعلت تنمو حتى روي أنها
عبرت النهر بذنبها ، وقيل البحر ، وفرعون في هذا يضحك ويرى أن الاستواء حاصل ، ثم
أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ففرت نحو فرعون ففزع عند ذلك وقال يا موسى
فمد موسى يده إليها فرجعت عصى كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا الحبال
والعصي فآمنوا رضي الله عنهم.
قوله عزوجل :
(فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى)
(٧١)
في خلال هذه
الآيات تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول فالمقدر من ذلك هنا فألقى موسى عصاه
فالتقمت كل ما جاؤوا به أو نحو هذا ، وروي أن السحرة لما رأوا العصا لا أثر فيها
للسحر ثم رأت انقلابها حية وأكلها للحبال والعصي ثم رجوعها إلى حالها وعدم الحبال
والعصي أيقنوا بنبوءة موسى وأن الأمر من عند الله تعالى وقدم (هارُونَ) قبل (مُوسى) لتستوي رؤوس آي السور فنقل معنى السحرة وهذا كقوله عزوجل : (أَزْواجاً مِنْ
نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٣] تأخر
شتى إنما هو لتستوي رؤوس الآي ، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع «آمنتم»
على الخبر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ءامنتم» بهمزة
بعدها مدة ، وقرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أأمنتم» بهمزتين ، وقوله (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) مقاربة منه وبعض إذعان. وقوله (مِنْ خِلافٍ) يريد قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، قوله (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) اتساع من حيث هو مربوط في الجذع وليست على حد قولك ركبت
على الفرس ، وقوله (أَيُّنا) يريد نفسه ورب موسى عليهالسلام ، وقال الطبري يريد نفسه وموسى عليهالسلام والأول أذهب مع مخرفة فرعون.
قوله عزوجل :
(قالُوا لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا
(٧٢) إِنَّا
آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)
(٧٣)
قال السحرة لفرعون
لما تدعوهم (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي نفضلك ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله
تعالى وآياته (الْبَيِّناتِ) وعلى (الَّذِي فَطَرَنا) هذا على قول جماعة أن الواو في قوله (وَالَّذِي فَطَرَنا) عاطفة ، وقالت فرقة هي واو القسم ، و (فَطَرَنا) معناه خلقنا واخترعنا فافعل يا فرعون ما شئت وإنما قضاؤك
في هذه الحياة الدنيا والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ولك بالعذاب وهؤلاء السحرة
اختلف الناس هل نفذ فيهم وعيد فرعون فقالت طائفة صلبهم على الجذوع كما قال فأصبح
القوم سحرة وأمسوا شهداء بلطف الله لهم وبرحمته ، وقالت فرقة إن فرعون لم يفعل ذلك
وقد كان الله تعالى وعد موسى أنه ومن معه الغالبون.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا كله محتمل وصلب السحرة وقطعهم لا يدفع في أن موسى ومن معه غلب إلا
بظاهر العموم والانفصال عن ذلك بين وقوله : (وَما أَكْرَهْتَنا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) قالت فرقة أرادوا ما ضمهم إليه من معارضة موسى وحملهم عليه
من ذلك ، وقالت فرقة بل كان فرعون قديما يأخذ ولدان الناس بتعليم السحر ويجبرهم
على ذلك فأشار السحرة إلى ذلك. وقولهم (خَيْرٌ وَأَبْقى) رد على قوله (أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً وَأَبْقى) [طه : ٧١].
قوله عزوجل :
(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ
مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)
(٧٦)
قالت فرقة هذه
الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه ،
وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيرا
قد ضمنت القصة المذكورة مثاله. و «المجرم» الذي اكتسب الخطايا والجرائم ، وقوله (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) مختص بالكافر فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت ثم لا
يجهز عليه فيستريح ، بل يعاد جلده ويجدد عذابه ، فهو لا يحيى حياة هنية ، وأما من
يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي
فهم قبل أن تخرجهم
الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت ، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا
فرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه
لأنه لا يموت في الآخرة. و (الدَّرَجاتُ الْعُلى) هي القرب من الله تعالى و (تَزَكَّى) معناه أطاع الله تعالى وأخذ بأزكى الأمور وتأتل التكسب في
لفظة (تَزَكَّى) فإنه بين.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)
فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ
فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)
(٧٩)
هذا استئناف إخبار
عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها
لموسى وفرعون حوادث ، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره
وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث
وأعلمه أنه لا يرسلهم معه ، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات
الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف
القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى ، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى
أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هاربا. و «السرى» سير الليل ، و (أَنْ) في قوله (أَنْ أَسْرِ) يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كقوله عزوجل : (وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ١٠] ويجوز أن
تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب (أَوْحَيْنا) وقوله تعالى (بِعِبادِي) إضافة تشريف لنبي إسرائيل ، وكل الخلق عباد الله ، ولكن
هذا كقوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ،
وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليهالسلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حليا وثيابا
وكل أحد ما اتفق له.
ويروى أن موسى أذن
لهم في ذلك وقال لهم : «إن الله سينفلكموها» ، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون إذنه عليهالسلام وهو الأشبه به وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك ، ويروى أن
بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر فأعجلهم موسى عليهالسلام في الخروج فطبخوه فطيرا فهي سنتهم في ذلك العام إلى هلم ،
ويروى أن موسى عليهالسلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر
يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحي إلى موسى
أن يقصد (الْبَحْرِ) فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من
أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم ،
وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة ، واختلف الناس في عدد جند
فرعون فقيل كان في خيله سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان ، وقيل أكثر من
هذا مما اختصرته لقلة صحته ، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني
إسرائيل أوحى الله تعالى إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء : ٦٣] ،
ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدما وهو ظاهر الآية ، ويروى أنه إنما أوحي إليه
ذلك في موطن وقوعه واتصل
الكلام في هذه
الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض فضرب موسى عليهالسلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، طرقا واسعة بينها حيطان
ماء واقف فدخل موسى عليهالسلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا ، فجففت تلك الطرق حتى
يبست ، ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى
الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر ، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي
، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول وجاء جبريل عليهالسلام راكبا على فرس أنثى فدخل ، فأتبعها فرس فرعون وتتابع الناس
حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم ، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم قد خرجوا
بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه ، فطلبوا مصداق
ذلك ، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة
له.
قال القاضي أبو
محمد : فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها وقد مضى أمر غرق فرعون بأوعب من
هذا في موضع اقتضاه. وقوله تعالى : (يَبَساً) مصدر وصف به ، وقرأ بعض الناس «يابسا» وأشار إلى ذكره
الزجاج ، وقرأ حمزة وحده «لا تخف دركا» وذلك إما على جواب الأمر وإما على نهي
مستأنف ، وقرأ الجمهور «لا تخاف» وذلك على أن يكون «لا تخاف» حالا من (مُوسى) عليهالسلام ، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير لا يخاف فيه أي يكون
بهذه الصفة ومعنى هذا القول «لا تخاف دركا» من فرعون وجنوده (وَلا تَخْشى) غرقا من البحر ، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «فاتّبعهم»
بتشديد التاء وتبع ، واتبع إنما يتعدى إلى مفعول واحد كقوله شويت واشتويت وحفرت
واحتفرت وفديت وافتديت فقوله (بِجُنُودِهِ) إما أن تكون الباء مع ما جرته في موضع الحال كما تقول خرج
زيد بسلاحه وإما أن تكون لتعدي الفعل إلى مفعول ثان إذ لا يتعدى دون حرف جر إلا
إلى واحد. وقرأ الجمهور «فأتبعهم» بسكون التاء وهذا يتعدى إلى مفعولين ، فالباء
على هذا إما زائدة والتقدير «فأتبعهم فرعون جنده» ، وإما أن تكون بالحال ويكون
المفعول الثاني مقدرا كأنك قلت رؤساءه أو عزمه ويجوز هذا ، والأول أظهر. وقرأت
فرقة «فغشيهم» ، وقرأت فرقة «فغشاهم الله» ، وقوله (ما غَشِيَهُمْ) إبهام أهول من النص على قدر «ما» ، وهذا كقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ) يعني من أول أمره إلى هذه النهاية ، ثم أكد تعالى بقوله (وَما هَدى) [طه : ٧٩] مقابلة
لقول فرعون (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).
قوله عزوجل :
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ
وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠)
كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)
(٨٢)
ظاهر هذه الآية أن
هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدد الله تعالى عليهم ،
وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث ولكن يخص الله تعالى بالذكر ما
يشاء من
ذلك. ويحتمل أن
تكون هذه المقالة خوطب بها معاصر ورسول الله صلىاللهعليهوسلم ، المعنى هذا فعلنا بأسلافكم ويكون قوله تعالى : (كُلُوا) بتقدير قيل لهم كلوا ، وتكون الآية على هذا اعتراضا في
أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم
الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا
وواعدنا ونزلنا ورزقناكم» إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم» بغير ألف في كل القرآن ،
وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم». وقوله (وَواعَدْناكُمْ) قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على
المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة ، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما
أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء
ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم ، فلما أخذوا في السير
تعجل موسى عليهالسلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره ، وقالت فرقة هذا (الطُّورِ) هو الذي كلم فيه موسى أولا حيث رأى النار وكان في طريقه من
الشام إلى مصر ، وقالت فرقة ليس به و (الطُّورِ) الجبل الذي لا شعرا فيه وقوله (الْأَيْمَنَ) إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي
يمين إنسان أو غيره. و (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) طعامهم ، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما ، وقوله
تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ) يريد الحلال الملذ لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما
واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن ، فقال مالك رحمهالله الحلال ، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس ، وساق إلى هذا
الخلاف تفقههم في الخشاش والمستقذر من الحيوان. و (تَطْغَوْا) معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع. وقرأ جمهور
الناس «فيحل» بكسر الحاء «ومن يحلل» بكسر اللام ، وقرأ الكسائي وحده «فيحل» بضم
الحاء «ومن يحلل» بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل ، و (هَوى) معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر :
فهوى هوي العقاب
قال القاضي أبو
محمد : وإن لم يكن سقوطا فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر : [الوافر]
هويّ الدلو أسلمه
الرشاء
ويشبه الذي وقع في
طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي» في جهنم وفي
سخط الله ، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم ، ولما حذر الله تعالى
غضبه والطغيان في نعمه فتح باب الرجاء للتائبين ، والتوبة فرض على جميع الناس
بقوله تعالى في سورة النور : (وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [النور : ٣١].
والناس فيه على مراتب إما مواقع الذنب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما
مضى والإقلاع التام عن مثله في المستقبل ، وإما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته عن
مواقعته لشيخ أو آفة فتوبته الندم واعتقاد الترك أن لو كانت قدرة ، وأما من لم
يواقع ذنبا فتوبته العزم على ترك كل ذنب والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره
وهي توبة مقيدة ، وإذا تاب المرء ثم عاود الذنب بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة
أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت مجبة ، ويحتمل أن
يعيده لأنها توبة لم يواف بها ، واضطرب الناس في قوله (ثُمَّ اهْتَدى) من حيث
وجدوا الهدى ضمن
الإيمان والعمل ، فقالت فرقة معناه لم يشك في إيمانه ، وقالت فرقة معناه ثم استقام
، وقالت فرقة معناه ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه ، وقالت فرقة ثم أخذ بسنة نبيه ،
وقالت فرقة معناه أمر بسنته ، وقالت فرقة معناه والى أهل البيت ع وهذه كلها تخصيص
واحد منها دون ما هو من نوعه بعيد ليس بالقوي ، والذي يقوى في معنى (ثُمَّ اهْتَدى) أن يكون ثم حفط معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من
الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل ، ورب مؤمن عمل صالحا
قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع والخوارج فمعنى (ثُمَّ اهْتَدى) ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه
ع وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع.
قوله عزوجل :
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ
عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤)
قالَ
فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً)
قصص هذه الآية أن
موسى عليهالسلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث
كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل رأى علي جهة الاجتهاد أن
يتقدم وحده مبادرا إلى أمر الله تعالى ، وحرصا على القرب منه وشوقا إلى مناجاته ،
واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى تسيرون إلى جانب الطور ، فلما انتهى
موسى عليهالسلام وناجى ربه زاده في الأجل عشرا ، وحينئذ وقفه على معنى
استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا وقرأت
فرقة «أولاي» بياء مفتوحة. وقوله (عَلى أَثَرِي) يحتمل أن يكون في موضع رفع خبرا بعد خبر ، ويحتمل أن يكون
في موضع نصب في موضع الحال ، وقرأت فرقة «على أثري» بفتح الهمزة والثاء ، وقرأت
فرقة «إثري» بكسر الهمزة وسكون الثاء ، وأعلمه موسى عليهالسلام أنه إنما استعجل طلب الرضى فأعلمه الله تعالى أنه قد فتن
بني إسرائيل ، أي اختبرهم بما صنعه السامري. ويحتمل أن يريد ألقيناهم في فتنة ، أي
في ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف كلمة ، و (مِنْ بَعْدِكَ) أي من بعد فراقك لهم ، وقرأت فرقة «وأضلّهم السامري» على
إسناد الفعل إلى (السَّامِرِيُ) وقرأت فرقة «وأضلّهم السامري» بضم اللام على الابتداء
والإخبار عن (السَّامِرِيُ) بأنه «أضلّ» القوم ، والقراءة الأولى أكثر وأشد في تذنيب
السامري و (السَّامِرِيُ) رجل من بني إسرائيل يقال إنه كان ابن خال موسى ، وقالت
فرقة لم يكن من بني إسرائيل بل كان أصله من العجم من أهل كرمان والأول أصح ، وكان
قصص السامري أنه كان منافقا عنده حيل وسحر وقبض القبضة من أثر جبريل عليهالسلام وعلم ما أقدره الله عليه لفتنة القوم أنه يتهيأ له بتلك
القبضة ما يريد مما يجوز على الله تعالى لأنه لو ادعى النبوءة مع ذلك العجل لما صح
ولا جاز أن يخور ولا أن تتم الحيلة فيه لكنه لما ادعى له الربوبية وعلامات كذبه
قائمة لائحة صحت الفتنة به وجاز ذلك على الله تعالى كقصة الدجال الذي تخرق له
العادات لأنه مدعي الربوبية ولو كان مدعي نبوءة لما صح شيء من ذلك. فلما رأى
السامري موسى مدعا ورأى سفه بني إسرائيل في طلبهم من موسى آلهة حين مروا
على قوم يعبدون
أصناما على صفة البقر ، وقيل كانت بقرا حقيقة علم أنه سيفتنهم من هذه الطريق ،
فيروى أنه قال لهم إن الحلي الذي عندكم من مال القبط قبيح بكم حبسه ولكن اجمعوه
عندي حتى يحكم الله لكم فيه ، وقيل إن هارون عليهالسلام أمرهم بجمعه ووضعه في حفرة حتى يجيء موسى ويستأذن فيه ربه
، وقيل بل كان المال الذي جمعوه للسامري مما لفظ البحر من أموال القبط الغارقين مع
فرعون ، فروي مع هذا الاختلاف أن الحلي اجتمع عند العجل وأنه صاغ العجل وألقى
القبضة فيه فخار ، وروي وهو الأصح الأكثر أنه ألقى الناس الحلي في حفرة أو نحوها
وألقى هو عليه القبضة فتجسد العجل وهذا وجه فتنة الله تعالى لهم ، وعلى هذا تقول
انخرقت للسامري عادة وأما على أن يصوغه فلم تتخرق له عادة وإنما فتنوا حينئذ
بخواره فقط وذلك الصوت قد تولد في الأجرام بالصنعة فلما أخبره الله تعالى رجع موسى
(إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً) عليهم من حيث له قدرة على تغيير منكرهم (أَسِفاً) أي حزينا من حيث علم أنه موضع عقوبة مأموله فدفعها ولا بد
منها ، والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب ، ومتى كان
من الأقل على الأقوى فهو حزن ، وتأمل ذلك فهو مطرد إن شاء الله عزوجل.
قوله عزوجل :
قالَ
يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)
(٨٦) قالُوا
ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ
الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)
وبخ موسى عليهالسلام قومه بهذه المقالة و «الوعد الحسن» هو ما وعدهم من الوصول
إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير
ذلك مما وعد الله تعالى به أهل طاعته ، وقوله (وَعْداً) إما أن يكون نصبا على المصدر والمفعول الثاني مقدرا ، وإما
أن يكون بمعنى الموعود ويكون هو المفعول الثاني بعينه ، ثم وقفهم على أعذار لم تكن
ولا تصح لهم وهي طول «العهد» حتى يتبين لهم خلف في الموعد أو إرادة غضب الله
تعالى. وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدين وسمي العذاب «غضبا» من حيث
هو عن الغضب ، والغضب إن جعل بمعنى الإرادة فهو صفة ذات وإن جعل ظهور النقمة
والعقاب فهو صفة فعل فهو من المتردد بين الحالين قوله عزوجل : وقرأ نافع وعاصم «بملكنا» بفتح الميم ، وقرأ حمزة
والكسائي «بملكنا» بضمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «بملكنا» بكسرة ، قال
أبو علي هذه لغات ع ظاهر هذا الكلام أنها بمعنى واحد ولكن إن أبا علي وغيره قد فرق
بين معانيها فأما ضم الميم فمعناه على قول أبي علي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك
بقوته وسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري وليس المعنى أن لهم
ملكا وإنما هذا كقول ذي الرمة : [البسيط]
لا يشتكي سقط
منها وقد رقصت
|
|
بها المفاوز حتى
ظهرها حدب
|
إذ لا تكون منها
سقطة فتشتكي ، قال وهذا كقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ
النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] أي ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف ع وهذا
كله في هذه الأمثلة غير متيقن من قول أبي علي وإنما
مشى في ذلك على
أثر الزجاج دون تعقب وقد شرحت هذا المعنى في سورة البقرة في تفسير (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣]
وبين أن هذه الآية ليست كهذه الأمثلة لأنهم لم يرفعوا الإخلاف فيها والأمثلة فيها
رفع الوجهين ، وأما فتح الميم فهو مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا
الصواب ولا وفقنا له بل غلبتنا أنفسنا ، وأما كسر الميم فقد كثر استعماله فيما
تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها
والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل والمفعول مقدر أي «بملكنا الصواب» ، وهذا كما
قد يضاف أحيانا إلى المفعول والفاعل مقدر كقوله تعالى : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) [ص : ٢٤] ومن دعاء
الخير ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم «حمّلنا» بضم الحاء وشد الميم
، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «حملنا» بفتح الحاء والميم. و «الأوزار» الأثقال ،
وتحتمل هذه التسمية أن تكون من حيث هي ثقيلة الأجرام ، ويحتمل أن يكون من حيث
آمنوا في قذفها وظهر لهم أن ذلك هو الحق فكانت آثاما لمن حملها. وقوله (فَكَذلِكَ أَلْقَى) أي فكما قذفنا نحن (فَكَذلِكَ) أيضا (أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما كان بيده ع وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه
السامري ، ثم أخبر الله تعالى عن فعل السامري بقوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) ، ومعنى قوله (جَسَداً) أي شخصا لا روح فيه ، وقيل معنى (جَسَداً) لا يتغذى. و «الخوار» صوت البقر ، وقالت فرقة كان هذا
العجل يخور ويمشي ع وهكذا تكون الفتنة من قبل الله تعالى قاله ابن عباس ، وقالت
فرقة إنما خار مرة واحدة. ثم لم يعد وقالت فرقة إنما كان خواره بالريح كانت تدخل
من دبره وتخرج من فيه فيصوت لذلك.
قوله عزوجل :
(أَفَلا يَرَوْنَ
أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
وَلَقَدْ
قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ
رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)
قالُوا
لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)
(٩١)
الضمير في قوله (فَقالُوا) لبني إسرائيل ، أي قالوا حين قال كبارهم لصغارهم وهذا
إشارة إلى العجل. قوله تعالى (فَنَسِيَ) يحتمل أن يكون من كلام بني إسرائيل أي فنسي موسى ربه وإلهه
فذهب يطلبه في غير موضعه ، ويحتمل أن يكون قوله (فَنَسِيَ) إخبارا من الله تعالى عن السامري ، أي نسي دينه وطريق الحق
ع فالنسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول ، وفي الثاني بمعنى الترك ، ثم قرن
تعالى مواضع خطاهم بقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ) المعنى أفلم يتبين هؤلاء الذين ضلوا أن هذا العجل إنما هو
جماد لا يتكلم ولا يرجع قولا ولا يضر ولا ينفع ، وهذه خلال لا يخفى معها الحدوث
والعجز لا أن هذه الخلال لو حصلت له أوجبت كونه إلها وقرأت فرقة «أن لا يرجع» برفع
العين ، «وأن» على هذه القراءة مخففة من الثقيلة والتقدير أنه لا يرجع ، وقرأت
فرقة «أن لا يرجع» «وأن» على هذه القراءة هي الناصبة ، وأخبر عزوجل أن (هارُونُ) قد كان قال لهم في أول حال العجل (يا قَوْمِ) إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري وإنما (رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع (فَاتَّبِعُونِي) إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه
(وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في ما ذكرته لكم وقرأت فرقة «إنما وإن ربكم الرحمن» بكسر
الهمزتين ، وقرأت فرقة «إنما» بالكسر «وأن» بالفتح ، والقراءة الوسطى ضعيفة فقال
بنوا إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق (لَنْ نَبْرَحَ) عابدين لهذا الإله ، (عاكِفِينَ) عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة
ملازمته ومنه قول الراجز : [الرجز]
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
قوله عزوجل :
(قالَ يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ
أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)
(٩٤)
في سرد القصص
اقتضاب يدل عليه ما ذكره تقديره فرجع موسى فوجد الأمر كما ذكره الله تعالى له فجعل
يؤنب هارون بهذه المقالة ، وقرأ الجمهور «تتبعن» بحذف الياء ، وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو بإثباتها في الوصل ويقف ابن كثير بالياء وأبو عمرو بغير ياء ، ويحتمل قوله (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي بني إسرائيل نحو جبل الطور فيجيء اعتذار هارون أي لو
فعلت ذلك مشت معي طائفة وأقامت طائفة على عبادة العجل فيتفرق الجمع فخفت لومك على
التفرق ، ويحتمل قوله (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي لا تسير بسيري وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد ويجيء
اعتذار هارون بمعنى أن الأمر كان متفاقما فلو تقويت عليه وقع القتال واختلاف
الكلمة فكان تفريقا بين بني إسرائيل وإنما لا ينت جهدي. وقوله تعالى : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) بمعنى ما منعك أن تتبعني ، واختلف الناس في وجه دخول «لا»
فقالت فرقة هي زائدة ، وذهب حذاق النحاة إلى أنها مؤكدة وأن في الكلام فعلا مقدرا
كأنه قال ما منعك ذلك أو حضك أو نحو هذا على «أن لا تتبعن» ، وما قبل وما بعد يدل
على هذا ويقتضيه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «يبنؤم» يحتمل أن
يريد يا بن أما فحذف الألف تخفيفا ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا وبناه كخمسة
عشر ، وقرأ ابن كثير عن عاصم وحمزة والكسائي «يا بن أم» بالكسر على حذف الياء
تخفيفا وهو شاذ لأنها ليست كالياء في قولك يا غلامي وإنما هي كالياء في قولك يا
غلام غلامي وهذه ياء لا تحذف ، ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا ثم أضاف إلى
نفسه فحذف الياء كما تحذف من الأسماء المفردة إذا أضيفت نحو يا غلام ، وقالت فرقة
لم يكن هارون أخا موسى إلا من أمه ع وهذا ضعيف ، وقالت فرقة كان شقيقه وإنما دعاه
بالأم لأن التداعي بالأم أشفق وأشد استرحاما ، وأخذ موسى عليهالسلام بلحية هارون غضبا وكان حديد الخلق عليهالسلام.
قوله عزوجل :
(قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ
أَنْ
تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ
الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي
الْيَمِّ نَسْفاً)
(٩٧)
المعنى قال موسى
مخاطبا للسامري (فَما خَطْبُكَ يا
سامِرِيُ) ، وقوله «ما خطبك» كما تقول ما شأنك وما أمرك ، لكن لفظة
الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال ما نحسك وما شؤمك وما
هذا الخطب الذي جاء من قبلك ، و «السامري» قيل هو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل
، وقيل هو منسوب إلى قرية يقال لها سامرة ع وهي معروفة اليوم ببلاد مصر ، وقيل
اسمه موسى بن ظفر. وقرأت فرقة «بصرت» بضم الصاد على معنى صارت بصيرتي بصورة ما فهو
كطرفت وشرفت ، وقرأت فرقة «بصرت» بكسر الصاد ، فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل
أن يراد من البصر وذلك أن في أمر السامري ما زاده على الناس بالبصر وهو وجه جبريل عليهالسلام وفرسه وبالبصيرة وهو ما علمه من أن القبضة إذا نبذها مع
الحلي جاءه من ذلك ما يريد ، وقرأ الجمهور «يبصروا» بالياء يريد بني إسرائيل ،
وقرأ حمزة والكسائي «تبصروا» بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل ، وقرأ
الجمهور «فقبضت قبضة» بالضاد منقوطة بمعنى أخذت بكفي مع الأصابع ، وقرأ ابن مسعود
وابن الزبير وأبي بن كعب وغيرهم «فقبصت قبصة» بالصاد غير منقوطة بمعنى أخذت
بأصابعي فقط ، وقرأ الحسن بخلاف عنه «قبضة» بضم القاف. و «الرسول» جبريل عليهالسلام ، و «الأثر» هو تراب تحت حافر فرسه ، وسبب معرفة السامري
بجبريل وميزه له فيما روي أن السامري ولدته أمه عام الذبح فطرحته في مغارة فكان
جبريل عليهالسلام يغذوه ويحميه حتى كبر وشب فميزه بذلك.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف. وقوله (فَنَبَذْتُها) أي على الحلي فكان منها ما تراه وهذا محذوف من اللفظ
تقتضيه الحال والمخاطبة ، ثم قال (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي) أي وكما حدث ووقع قويت لي نفسي وجعلته لي سولا وإربا حتى
فعلته ، وكان موسى عليهالسلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه
بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا
يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا ، وعلمه مع ذلك وجعل له أن يقول مدة حياته (لا مِساسَ) أي لا مماسة ولا إذاية. وقرأ الجمهور «لا مساس» بكسر الميم
وفتح السين على النصب بالتبرئة وهو اسم يتصرف ومنه قول النابغة : [المتقارب]
فأصبح من ذاك
كالسامري ،
|
|
إذ قال موسى له
لا مساسا
|
ومنه قول رؤبة : [الرجز]
حتى يقول الأزد لا
مساسا
واستعماله على هذا
كثير. وقرأ أبو حيوة «لا مساس» بفتح الميم وكسر السين وهو معدول عن المصدر كفجار
ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه والشبه صحيح من حيث هي معدولات
وفارقه في أن هذه
عدلت عن الأمر ، ومساس وفجار عدلت عن المصدر ومن هذا قول الشاعر :
تميم كرهط السامري
وقوله : [الطويل]
ألا لا يريد
السامري مساس
وقرأ الجمهور «تخلفه»
بفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لن تخلفه» بكسر
اللام على معنى لن تستيطع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب ، وقرأ الحسن
بن أبي الحسن بخلاف «لن نخلفه» بالنون ، قال أبو الفتح المعنى لن نصادفه مخلفا ع
وكلها بمعنى الوعيد والتهديد. ثم وبخه عليهالسلام بقوله : (وَانْظُرْ إِلى
إِلهِكَ الَّذِي) أي انظر صنيعك وتغيرنا له وردنا الأمر فيه إلى الواجب.
وقرأت فرقة «ظلت» بفتح الظاء على حذف اللام الواحدة ، وقرأت فرقة «ظلت» بكسر الظاء
على نقل حركة اللام إلى الظاء ثم حذفها بعد ذلك نحو قول الشاعر : [أبو زبيد الطائي]
[الوافر]
خيلا ان العتاق
من المطايا
|
|
أحسن به فهن
إليه شوس
|
أراد احسسن فنقلت
حركة السين إلى الحاء ثم حذفت تخفيفا ، وفي بعض الروايات حسين. وقرأت فرقة «ظللت»
، وظل معناه أقام يفعل الشيء نهارا ، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا
بمثابة طفق. و (عاكِفاً) معناه ملازما حدبا. وقرأت فرقة «لنحرقنه» بتخفيف الراء
بمعنى بالنار ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس «لنحرقّنه» بضم الراء
وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد ، وقرأ نافع وغيره «لنحرّقنه» بضم النون وكسر
الراء وشدها وهذا تضعيف مبالغة لا تعدية وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل
بالمبرد ، وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه» ،
وهذه القراءة مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما ، وعلى هذه الرواية يتركب أن
يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جمادا من ذهب فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن
تكون إذابة ويكون النسف مستعارا لتفريقه في اليم مذابا. وقرأت فرقة «لننسفنه» بكسر
السين ، وقرأت فرقة «لننسفنه» بضم السين. و «النسف» تفريق الريح الغبار وكل ما هو
مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف. و (الْيَمِ) غمر الماء من بحر وغيره وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو
يم ، و (نَسْفاً) تأكيد بالمصدر ، واللام في قوله : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لام القسم ، وفي هذه الآية من القصص أن موسى عليهالسلام برد العجل حتى رجع كالغبار ثم ذراه في البحر ثم أمر بني
إسرائيل أن يشرب جميعهم من الماء فكلما شرب من كان في قلبه حب العجل خرج على شاربه
من الذهب فضيحة له ، وقال مكي رحمهالله وأسند أن موسى عليهالسلام كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل وأن الله
تعالى أعلم موسى بذلك فكلمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمع لفظ بني إسرائيل حول العجل
فحينئذ أعلمهم موسى ع وهذه رواية ، الجمهور على خلافها وإنما تعجل موسى عليهالسلام وحده فوقع أمر العجل ثم جاءه موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم
خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضا على
أمر المناجاة فكان لموسى عليهالسلام نهضتان والله أعلم.
قوله عزوجل :
(إِنَّما إِلهُكُمُ
اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
(٩٨)
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ
عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠)
خالِدِينَ
فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً
(١٠١) يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)
(١٠٢)
هذه مخاطبة من
موسى عليهالسلام لجميع بني إسرائيل مبينا لهم ، وقوله تعالى : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) بمعنى وسع علمه كل شيء. و (عِلْماً) تمييز ، وهذا كقوله تفقأت شحما وتصببت عرقا ، والمصدر في
الأصل فاعل ولكن يسند الفعل إلى غيره وينصب هو على التمييز ، وقرأ مجاهد وقتادة «وسّع
كل شيء» بفتح السين وشدها بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات ،
وقوله تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُ) مخاطبة لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل هذا في خبر العجل (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) فكأنه قال هكذا نقص عليك فكأنها تعديد نعمته ، وقوله (ما قَدْ سَبَقَ) يريد به ما قد سبق مدة محمد صلىاللهعليهوسلم ، و «الذكر» القرآن ، وقرأت فرقة «يحمّل» بفتح الميم
وشدها. وقوله (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) يريد بالكفر به والتكذيب له ، و «الوزر» الثقل وهو هاهنا
ثقل العذاب بدليل قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيهِ) و (حِمْلاً) تمييز ، و (يَوْمَ) ظرف ، و (يَوْمَ) الثاني بدل منه وقرأ الجمهور «ينفخ» بضم الياء وبناء الفعل
للمفعول ، وقرأت فرقة «ينفخ» بفتح الياء وبناء الفعل للفاعل ، أي ينفخ الملك. وقرأ
أبو عمرو وحده «ننفخ» بالنون أي بأمرنا وهذه القراءة تناسب قوله (وَنَحْشُرُ). وقرأ الجمهور «في الصور» بسكون الواو ، ومذهب الجمهور أنه
القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وبهذا جاءت الأحاديث ، وقالت فرقة «الصور» جمع صورة
كثمرة وثمر. وقرأ ابن عياض «ينفخ في الصور» بفتح الواو وهذه صريحة في بعث الأجساد
من القبور ، وقرأت فرقة هي الجمهور «ونحشر» بالنون ، وقرأت فرقة «ويحشر» بالياء ،
وقرأت فرقة «ويحشر» بضم الياء «المجرمون» على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي
قراءة مخالفة لخط المصحف وقوله : (زُرْقاً) اختلف الناس في معناه ، فقالت فرقة يحشرهم أول قيامهم سود
الألوان زرق العيون تشويه ما ثم يعمون بعد ذلك وهي مواطن ، وقالت فرقة إنهم يحشرون
عطاشا والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض فكأنهم بيض سواد عيونهم من شدة
العطش ، وقالت فرقة أراد زرق الألوان وهي غاية في التشويه لأنهم يجيئون كلون
الرماد ، ومهيع كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق ومنه زرقة الماء قال الشاعر : [زهير
بن أبي سلمى] [الطويل]
فلما وردن الماء
زرقا جمامه
|
|
وضعن عصي الحاضر
المتخيم
|
ومنه قولهم سنان
أزرق لأنه نحو ذلك اللون.
قوله عزوجل :
(يَتَخافَتُونَ
بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ
أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلاَّ
يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً
صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً)
(١٠٧)
أي «يتخافت»
المجرمون (بَيْنَهُمْ) أي يتسارون ، المعنى أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم
قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوها ، واختلف الناس فيما ذا ، فقالت فرقة في دار
الدنيا ومدة العمر ، وقالت فرقة في الأرض مدة البرزخ ، وقالت فرقة ما بين النفختين
في الصور ، و (أَمْثَلُهُمْ
طَرِيقَةً) معناه أثبتهم يقينا وأعلمهم بالحقيقة بالإضافة إليهم فهم
في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم والضمير في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ) قيل إن رجلا من ثقيف سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ما يكون أمرها يوم القيامة ، وقيل بل سأله عن ذلك جماعة
من المؤمنين ، وقد تقدم معنى «النسف» ، وروي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا
فتدكدكها حتى تكون (كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ثم
يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف وقوله تعالى : (فَيَذَرُها) يحتمل أن يريد مواضعها ، ويحتمل أن يريد ذلك التراب الذي
نسفه ، لأنه إنما يقع على الأرض باعتدال حتى تكون الأرض كلها مستوية ، و «القاع»
المستوي من الأرض المعتدل الذي لا نشز فيه ومنه قول ضرار بن الخطاب : لتكونن
بالبطاح قريش ، بقعة القاع في أكف الماء. و «الصفصف» نحوه في المعنى ، و «العوج»
ما يعتري اعتدال الأرض من الأخذ يمنة ويسرة بحسب النشز من جبل وطرق وكدية ونحوه ، و
«الأمت» ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض ، يقال مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا
فكأن «الأمت» في الآية العوج في السماء تجاه الهواء ، و «العوج» في الآية مختص
بالعرض وفي هذا نظر.
قوله عزوجل :
(يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا
تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨)
يَوْمَئِذٍ
لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ
قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)
وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١)
المعنى يوم ننسف
الجبال يتبع الخلق داعي الله إلى المحشر وهذا نحو قوله تعالى (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] وقوله
تعالى (لا عِوَجَ لَهُ) يحتمل أن يريد الإخبار به أي لا شك فيه ولا يخالف وجوده
خبره ، ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه والمشي نحو صوته. و «الخشوع التطامن
والتواضع وهي الأصوات استعارة بمعنى الخفاء والاستسرار ومعنى (لِلرَّحْمنِ) أي لهيبته وهول مطلع قدرته ، و «الهمس» الصوت الخفي الخافت
وقد يحتمل أن يريد «بالهمس» المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر ، ويحتمل أن يريد
صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة. و (مَنْ) في قوله (إِلَّا مَنْ) يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا وتكون (مَنْ) في موضع نصب يراد بها المشفوع له فكأن المعنى (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في أن يشفع له ، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا على
تقدير «لكن من أذن له الرحمن يشفع» ، ف (مَنْ) في
موضع نصب
بالاستثناء ويصح أن يكون في موضع رفع كما يجوز الوجهان في قولك ما في الدار أحد
إلا حمارا وإلا حمار والنصب أوجه و (مَنْ) على هذه التأويلات للشافع ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه.
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) قالت فرقة يريد الملائكة ، وقالت فرقة يريد خلقه أجمع ،
وقد تقدم القول في ترتيب «ما بين اليد وما خلف» في غير موضع على أن جماعة من
المفسرين قالوا في هذه الآية (ما خَلْفَهُمْ) الدنيا و (ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ) أمر الآخرة والثواب والعقاب ، وهذا بأن نفرضها حالة وقوف
حتى نجعلها كالأجرام وأما إن قدرناها في نسق الزمان فالأمر على العكس بحكم ما
بيناه قبل. (وَعَنَتِ) معناه ذلت ، والعاني الأسير ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم في أمر النساء : «هن عوان عندكم» وهذه حالة الناس يوم
القيامة. وقال طلق بن حبيب : أراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة.
قال القاضي أبو
محمد : وإن كان روي هذا أن الناس يوم القيامة سجودا وجعل هذه الآية إخبارا فهو
مستقيم وإن كان أراد سجود الدنيا فإنه أفسد نسق الآية ، و (الْقَيُّومِ) بناء مبالغة من قيامه عزوجل على كل شيء بما يجب فيه ، و (خابَ) معناه لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه ، والظلم يعم الشرك
والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك على الإطلاق ، وخيبة
المعاصي مقيدة بوقت وحد في العقوبة.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً
(١١٢)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً
(١١٣) فَتَعالَى
اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى
إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)
(١١٤)
قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) عادل لقوله (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه : ١١١] ، وفي
قوله (مِنَ الصَّالِحاتِ) تيسير في الشرع لأنها (مَنْ) التي للتبعيض ، و «الظلم» أعم من «الهضم» وهما يتقاربان في
المعنى ويتداخلان ، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد
منهما بمعنى ، فقالوا «الظلم» أن تعظم عليه سيئاته وتكثر أكثر مما يجب ، و «الهضم»
أن ينقض حسناته ويبخسها ، وكلهم قرأ (فَلا يَخافُ ظُلْماً) على الخبر ، غير ابن كثير فإنه قرأ «فلا يخف» على النهي ،
ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ) أي كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد
كذلك حذرنا هؤلاء أمرنا و (أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) وتوعدنا فيه بأنواع من الوعيد (لَعَلَّهُمْ) بحسب توقع البشر وترجيهم (يَتَّقُونَ) الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم وما حذرهم
من أليم عقابه ، هذا تأويل فرقة في قوله (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْراً) وقالت فرقة معناه أو يكسبهم شرفا ويبقي عليهم إيمانهم ذكرا
صالحا في الغابرين ، وقرأ الحسن البصري «أو يحدث» ساكنة الثاء ، وقرأ مجاهد «أو
نحدث» بالنون وسكون الثاء ولا وجه للجزم إلا على أن يسكن حرف الإعراب استثقالا
لحركته ، وهذا نحو قول جرير ولا يعرفكم العرب. وقوله (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) ختم للقول لأنه لما قدم صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته
وذلة عبيده وحسن تلطفه
بهم ختم ذلك بهذه الكلمة
وجعل بعد ذلك الأمر بنوع آخر من القول وقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ) قالت فرقة سببه أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يخاف وقت تكلم جبريل له أن ينسى أول القرآن فكان يقرأ
قبل أن يستتم جبريل عليهالسلام الوحي فنزلت في ذلك ، وهي على هذا في معنى قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ) [القيامة : ١٦]
وقالت فرقة سبب هذه الآية أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا أوحي إليه القرآن أمر بكتبه للحين فأمره الله
تعالى في هذه الآية أن يتأنى حتى يفسر له المعاني وتقرر عنده ، وقالت فرقة سبب الآية
أن امرأة شكت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم أن زوجها لطمها فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينكما القصاص ثم نزلت (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤] ،
ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن حتى يبين والله أعلم. وقرأ الجمهور
«من قبل أن يقضي إليك وحيه» ، وقرأ عبد الله بن مسعود «من قبل أن نقضي إليك وحيه».
وباقي الآية بين رغبة في خير.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)
وَإِذْ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
فَقُلْنا
يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقى)
(١١٧)
قال الطبري المعنى
وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس فقدما فعل
ذلك أبوهم آدم ع وهذا التأويل ضعيف ، وذلك أن يكون (آدَمَ) مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء ، و (آدَمَ) إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضة عليه صلىاللهعليهوسلم وأما الظاهر في هذه الآية ، إما أن يكون ابتداء قصص لا
تعلق له بما قبله ، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلىاللهعليهوسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه (فَنَسِيَ) فعوقب لتكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلىاللهعليهوسلم. و «العهد» هنا في معنى الوصية ، و «نسي» معناه ترك ،
والنسيان الذهول لكن هنا أنه لا يتعلق بالناسي عقاب ، وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون
الياء ووجهها طلب الخفة ، و «العزم» المضي على المعتقد في أي شيء كان ، وآدم عليهالسلام كان معتقدا لأن لا يأكل من الشجرة لما وسوس إليه إبليس لم
يعزم على معتقده ، وعبر بعض المفسرين عن العزم هنا بالصبر وبالحفظ وبغير ذلك مما
هو أعم من حقيقة العزم والشيء الذي عهد إلى آدم هو أن يقرب الشجرة وأعلم مع ذلك أن
إبليس عدو له ، وقال أبو أمامة لو أن أحلام بني آدم وضعت منذ خلق الله إلى يوم
القيامة ووضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله له (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ) ابتداء قصة ، والعامل ، في (إِذْ) فعل مضمر وقد تقدم استيعاب هذه القصة لكن نذكر من ذلك ما
تقتضيه ألفاظ هذه الآية ، فالملائكة قيل كان جميعهم مأمور بذلك وقيل بل فرقة فاضلة
منهم عددهم اثنان وعشرون ، و «السجود» الذي أمروا به سجود كرامة لآدم وعبادة لله
تعالى ، وقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ) الاستثناء متصل في قول من جعل إبليس من الملائكة ، ومنقطع
في قول من قال هو من قبيلة غير الملائكة
يقال لها الجن.
وقوله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما (مِنَ الْجَنَّةِ) ثم خصص بقوله (فَتَشْقى) من حيث كان المخاطب أولا والمقصود في الكلام ، وقيل بل ذلك
لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال وروي أن آدم لما أهبط
هبط معه ثور أحمر فكأن يحرث ويمسح العرق فهذا هو الشقاء الذي خوف منه.
قوله عزوجل :
(إِنَّ لَكَ أَلاَّ
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى
(١١٨) وَأَنَّكَ
لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى
(١١٩) فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها
فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ
الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)
(١٢١)
المعنى (إِنَّ لَكَ) يا آدم نعمة تامة وعطية مستمرة أن لا يصيبك جوع ولا عري
ولا ظمأ ولا بروز للشمس يؤذيك وهو الضحاء ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «وإنك
لا تظمأ» بكسر الألف ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «وأنك» بفتح الألف ، وجعل الله
تعالى الجوع في هذه الآية مع العري والظمأ مع الضحاء وكأن عرف الكلام أن يكون
الجوع مع الظمأ المتناسب والعري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العري يمس بسببه البرد
والحر يفعل ذلك بالضاحي ، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن تفرق النسب ومنه قول
امرئ القيس : [الطويل]
كأني لم أركب
جوادا للذة
|
|
ولم أتبطّن
كاعبا ذات خلخال
|
ولم أسبأ الزقّ
الروي ولم أقل
|
|
لخيلي كري كرة
بعد إقفال
|
وقد ذهب بعض
الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس حافظة لنسب وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ
يناسب تبطن الكاعب ، ومن الضحاء قول الشاعر : [الطويل]
رأت رجلا أما
إذا الشمس عارضت
|
|
فيضحي وأما
بالعشيّ فيخصر
|
و «وسوسة الشيطان»
قيل كانت دون مشافهة ، إلقاء في النفس ، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر
القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية ، وكان آدم عليهالسلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة
قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها (شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لا يَبْلى) أي من أكلها كان ملكا مخلدا عمد آدم إلى غير تلك التي نهي
عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة ، وقيل بل تأول أن النهي
إنما كان على الندب لا على التحريم البت ، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي
فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابتها وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما
، (وَطَفِقا) معناه وجعلا يفعلان ذلك دائما ، و (يَخْصِفانِ) معناه يلفقان ويضمان شيئا إلى شيء فكانا يستتران بالورق
وروي أنه كان ورق التين ، ثم
نص تبارك وتعالى
على آدم أنه (عَصى) و «غوى» معناه ضل
من الغي الذي هو ضد الرشد ومنه قول الشاعر : [الطويل]
فمن يلق خيرا
يحمد الناس أمره
|
|
ومن يغو لا يعدم
على الغي لائما
|
وقرأت فرقة «وأنك»
بفتح الألف عطفا على قوله (أَلَّا تَجُوعَ) وقرأت فرقة و «إنك» عطفا على قوله (إِنَّ لَكَ).
قوله عزوجل :
(ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
قالَ
اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)
وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥)
قالَ
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)
(١٢٦)
(اجْتَباهُ) معناه تخيره واصطفاه ، و «تاب عليه» معناه رجع به من حال
المعصية إلى حال الندم وهداه لصلاح الأقوال والأعمال وأمضى عقوبته عزوجل في إهباطه من الجنة. وقوله (اهْبِطا) مخاطبة لآدم وحواء ، ثم أخبرهما بقوله (جَمِيعاً) أن إبليس والحية يهبطان معهما وأخبرهما بأن العداوة بينهم
وبين أنسالهم إلى يوم القيامة. و (عَدُوٌّ) يوصف به الواحد والاثنان والجميع ، وقوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) شرط وجوابه في قوله (فَمَنِ اتَّبَعَ) وما بعده إلى آخر القسم الثاني. و «الهدى» معناه دعوة شرعي
ثم أعلمهم أنه من اتبع هداه وآمن به فإنه «لا يضل» في الدنيا (وَلا يَشْقى) في الآخرة ، وأن (مَنْ أَعْرَضَ) عن ذكر الله وكفر به (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكاً) والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب
ونحو هذا ، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل ، وصف به الواحد والجمع ذلك من
وعيد لهم ثم أخبر عن حالة أخرى هي أيضا في يوم القيامة وهي حشرهم عميا ، ثم يجيء
قوله (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧] معنى
هذا الذي ذكرناه من المعيشة والعمى ونحوه هو عذابه في الآخرة وهو (أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧] من كل
ما يقع عليه الظن والتخيل ، فكأنه ذكر نوعا من عذاب الآخرة ثم أخبر أن عذاب الآخرة
أشد وأبقى. وقرأت فرقة «ونحشره» بالنون ، وقرأت فرقة «ويحشره» بالياء وقرأت فرقة «ويحشره»
بسكون الراء ، وقرأت فرقة «أعمى» بالإمالة ، وقالت فرقة العمى هنا هو عمى البصيرة
عن الحجة.
قال القاضي أبو
محمد : ولو كان هذا لم يخش الكافر لأنه كان أعمى البصيرة ويحشر كذلك ، وقالت فرقة
العمى عمى البصرع وهذا هو الأوجه مع أن عمى البصيرة حاصل في الوجهين ، وأما قوله (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
زُرْقاً) [طه : ١٠٢] فمن
رآه في العينين فلا بد أن يتأول فيها مع هذه إما أنها في طائفتين أو في موطنين ،
وقوله تعالى : (كَذلِكَ أَتَتْكَ) ذلك إشارة إلى العمى الذي حل به ، أي مثل هذا في الدنيا أن
(أَتَتْكَ آياتُنا
فَنَسِيتَها) والنسيان في هذه الآية بمعنى الترك ولا مدخل للذهول في هذا
الموضع ، و (تُنْسى) بمعنى تترك في العذاب وروي أن هذه الآية نزلت في المرشي.
قوله عزوجل :
(وَكَذلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
فَاصْبِرْ
عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى) (١٣٠)
المعنى وكما وصفنا
من أليم الأفعال (نَجْزِي) المسرفين المتعدين الكفار بالله عزوجل ، وقوله (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ) إن كانت معيشة الضنك في الدنيا أو البرزخ فجاء هذا وعيدا
في الآخرة بعد وعيد ، وإن كانت المعيشة في الآخرة فأكد الوعيد بعينه هذا القول ،
الذي جعل به عذاب الآخرة فوق كل عذاب يتخيله الإنسان أو يقع في الدنيا ، ثم ابتدأ
يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله (أَفَلَمْ يَهْدِ ،
لَهُمْ) وقرأت فرقة «يهد» بالياء بمعنى يتبين ، واختلفت هذه الفرقة
في الفاعل فقال بعضها الفاعل (كَمْ) وهذا قول كوفي ، ونحاة البصرة لا يجيزونه لأن «كم» لها صدر
الكلام ، وفي قراءة ابن مسعود «أفلم يهد لهم من أهلكنا» فكأن هذه القراءة تناسب
ذلك التأويل في (كَمْ) وقال بعضهم الفاعل الله عزوجل ، والمعنى (أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) ما جعل الله لهم من الآيات والعبر فأضاف الفعل إلى الله عزوجل بهذا الوجه قاله الزجاج ، وقال بعضهم الفاعل مقدر الهدى أو
الأمرع أو النظر أو الاعتبار هذا أحسن ما يقدر به عندي ، وقرأت فرقة «نهد» بالنون
وهذه القراءة تناسب تأويل من قال في التي قبلها الفاعل الله تعالى. و (كَمْ) على هذه الأقوال نصب ب (أَهْلَكْنا) ، ثم قيد (الْقُرُونِ) بأنهم يمشي هؤلاء الكفرة (فِي مَساكِنِهِمْ) فإنما أراد عادا أو ثمود أو الطوائف التي كانت قريش تجوز
على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره ، وقرأت فرقة «يمشون» بفتح الياء ، وقرأت
فرقة «يمشون» بضم الياء وفتح الميم وشد الشين ، و (النُّهى) جمع نهية وهو ما ينهى الإنسان عن فعل القبيح ، ثم أعلم عزوجل قبله أن العذاب كان يصير لهم (لِزاماً لَوْ لا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى (أَجَلٌ مُسَمًّى) عنده فتقدير الكلام (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ) في التأخير (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لكان العذاب (لِزاماً) كما تقول لكان حتما أو واجبا واقعا لكنه قدم وأخر لتشتبه
رؤوس الآي. واختلف الناس في الأجل فيحتمل أن يريد يوم القيامة والعذاب المتوعد به
على هذا هو عذاب جهنم ، ويحتمل أن يريد ب «الأجل» موت كل واحد منهم فالعذاب على
هذا هو ما يلقى في قبره وما بعده ، ويحتمل أن يريد بالآجال يوم بدر فالعذاب على
هذا هو قتلهم بالسيف وبكل احتمال مما ذكرناه ، قالت فرقة ، وفي صحيح البخاري ، أن
يوم بدر وهو اللزام وهو البطشة الكبرى ، ثم أمره تعالى بالصبر على أقوالهم إنه
ساحر وإنه كاهن وإنه كذاب إلى غير ذلك ، والمعنى لا تحفل بهم فإنهم مدركة الهلكة
وكون اللزام يوم بدر أبلغ في آيات نبينا عليهالسلام وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) قال أكثر المتأولين هذه إشارة إلى الصلوات
الخمس (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر و (مِنْ آناءِ اللَّيْلِ) العتمة (وَأَطْرافَ النَّهارِ) المغرب والظهر. وقالت فرقة (آناءِ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) الظهر وحدها ، ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده
من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس فقد قال صلىاللهعليهوسلم : «من سبح قبل غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» ع
وسمى الطرفين أطرافا على أحد وجهين إما على نحو فقد صغت قلوبكما : وإما على أن
يجعل النهار للجنس ، فلكل يوم طرف وهي التي جمع ، وأما من قال (أَطْرافَ النَّهارِ) لصلاة الظهر وحدها فلا بد له من أن يتمسك بأن يكون النهار
للجنس كما قلنا أو نقول إن النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال ولكل قسم طرفان فعند
الزوال طرفان الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر فقال عن الطرفين أطرافا
على نحو فقد صغت قلوبكما ، وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل والآناء جمع
أنى وهي الساعة من الليل ومنه قول الهذلي :
حلو ومر كعطف
القدح مر به
|
|
في كل أنى حداة
الليل تنتقل
|
وقالت فرقة في
الآية إشارة إلى نوافل ، فمنها (آناءِ اللَّيْلِ) ومنها (قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ) وركعتا الفجر والمغرب (أَطْرافَ النَّهارِ) ، وقرأ الجمهور «لعلك ترضى» بفتح التاء أي لعلك تثاب على
هذه الأعمال بما ترضى به ، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم «لعلك ترضى» أي لعلك
تعطى ما يرضيك.
قوله عزوجل :
(وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى(١٣٢)
وَقالُوا
لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي
الصُّحُفِ الْأُولى)
(١٣٣)
قال بعض الناس سبب
هذه الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، نزل به ضيف فلم يكن عنده شيء فبعث إلى يهودي ليسلفه
شعيرا فأبى اليهودي إلا برهن فبلغ الرسول بذلك إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال «والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» فرهنه
درعه فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا معترض أن يكون سببا لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر
النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنّه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة التي ذكرت ، وإنما
الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار
بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم والصبر على
أقوالهم والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذاك منحصر عندهم صائر بهم
إلى خزي ، وقوله (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) أبلغ من ولا تنظر ، لأن الذي يمد بصره إنما يحمله على ذلك
حرص مقترن ، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه. و «الأزواج» الأنواع فكأنه قال (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) أقواما منهم وأصنافا. وقوله تعالى : (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) شبه نعم هؤلاء الكفار
بالزهر وهو ما
اصفر من النور ، وقيل «الزهر» النور جملة لأن الزهر له منظر ثم يضمحل فكذلك حال
هؤلاء ، ونصب (زَهْرَةَ) يجوز أن ينصب على الحال وذلك أن تعرفها ليس بمحض ، وقرأت
فرقة «زهرة» بسكون الهاء ، وفرقة «زهرة» بفتح الهاء ثم أخبر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم ، أن ذلك إنما هو ليختبرهم به ويجعله فتنة لهم وأمرا
يجازون عليه بالسوء لفساد تقلبهم فيه ، (وَرِزْقُ) الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده (خَيْرٌ وَأَبْقى) أي رزق الدنيا خير ورزق الآخرة أبقى وبين أنه خير من رزق
الدنيا ، ثم أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة وتمثيلها معهم ويصطبر عليها
ويلازمها ويتكفل هو برزقه لا إله إلّا هو ، وأخبره أن العاقبة الأولى التقوى وفي
حيزها فثم نصر الله في الدنيا ورحمته في الآخرة ، وهذا الخطاب للنبيصلىاللهعليهوسلم ، ويدخل في عمومه جميع أمته. وروي أن عروة بن الزبير رضي
الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو
يقرأ (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا) الآية إلى قوله (وَأَبْقى) ، ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله ، وكان عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل بهذه الآية ، وقرأ
الجمهور «نحن نرزقك» بضم القاف ، وقرأت فرقة «نزرقك» بسكونها ، ثم أخبر تعالى عن
طوائف من الكفار قالوا عن محمد صلىاللهعليهوسلم ، (لَوْ لا يَأْتِينا
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي بعلامة مما اقترحناها عليه وبما يبهر ويضطر.
قال القاضي أبو
محمد : ورسل الله إنما اقترنت معهم آيات معرضة للنظر محفوفة بالبراهين العقلية
ليضل من سبق في علم الله تعالى ضلاله ويهتدي من سبق في علم الله تعالى هداه ،
فوبخهم الله تعالى بقوله (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعني التوراة أعظم شاهد وأكبر آية له. وقرأ نافع وأبو عمرو
وحفص عن عاصم «تأتهم» على لفظة (بَيِّنَةُ) وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «يأتهم» بالياء على المعنى
، وقرأت فرقة «بينة ما» بالإضافة إلى (ما) وقرأت فرقة «بينة» بالتنوين ، و (ما) على هذه القراءة فاعلة ب «تأتي» ، وقرأ الجمهور «في الصحف»
بضم الحاء ، وقرأت فرقة «في الصحف» بسكونها.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ
السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)
(١٣٥)
أخبر الله تعالى
نبيه عليهالسلام أنه لو أهلك هذه الأمة الكافرة قبل إرساله إليهم محمدا
لقامت لهم حجة (رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) الآية. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في
الفترة والمغلوب على عقله والصبي الصغير فيقول المغلوب على عقله رب لم تجعل لي
عقلا ويقول الصبي نحوه ويقول الهالك في الفترة رب لم ترسل إليّ رسولا ولو جاءني
لكنت أطوع خلقك لك» قال «فترفع لهم نار ويقال لهم ردوها» قال «فيردها من كان في
علم الله تعالى أنه سعيد ويكع عنها الشقي فيقول الله تعالى إياي عصيتم فكيف برسلي
لو أتتكم» أما الصبي
والمغلوب على عقله
فبين أمرهما وأما صاحب الفترة فليس ككافر قريش قبل النبي صلىاللهعليهوسلم لأن كفار قريش وغيرهم ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في
أقطار الأرض فليس بصاحب فترة والنبي صلىاللهعليهوسلم قد قال أبي وأبوك في النار ورأى عمرو بن لحي في النار إلى
غير هذا مما يطول ذكره ، وأما صاحب الفترة يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله
تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود اللهم إلا أن يشد في أطراف
الأرض والمواضع المنقطعة عن العمران. و «الذل والخزي» مقترنان بعذاب الآخرة ، ثم
أمر الله تعالى نبيه أن يتوعدهم ويحملهم ونفسه على التربص وانتظار الفرج. و «التربص»
التأني ، و (الصِّراطِ) الطريق. وقرأت فرقة «السوي» ، وقرأت فرقة «السوء» فكأن هذه
القراءة قسمت الفريقين أي ستعلمون هذا من هذا وقرأت فرقة «السّوي» بشد الواو
وفتحها ، وقرأت فرقة «السّوؤى» بضم السين وهمزة على الواو على وزن فعلى ، و (اهْتَدى) معناه رشد.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأنبياء
هذه السورة مكية
بإجماع وكان عبد الله بن مسعود يقول الكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء من العتاق
الأول وهي من تلادي يريد من قديم ما كسبت وحفظت من القرآن كالمال التلاد.
قوله عزوجل :
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
(٢)
روي أن رجلا من
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة فقال
الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر نزل اليوم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فنفض يده من البنيان وقال والله لا بنيت أبدا وقد اقترب
الحساب ، وقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) عام في جميع الناس ، المعنى وإن كان المشار إليه في ذلك
الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما بعد من الآيات ، وقوله (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) يريد الكفار.
قال القاضي أبو
محمد : ويتجه من هذه الألفاظ على العصاة من المؤمنين قسطهم ، وقوله (ما يَأْتِيهِمْ) وما بعده مختص بالكفار ، وقوله (مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) قالت فرقة المراد منا ينزل من القرآن ومعناه (مُحْدَثٍ) نزوله وإتيانه إياهم لا هو في نفسه ، وقالت فرقة المراد ب «الذكر»
أقوال النبي صلىاللهعليهوسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره فهو محدث على الحقيقة وجعله
من ربه من حيث إن النبي صلىاللهعليهوسلم لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا ما هو من عند الله ، وقالت
فرقة «الذكر» الرسول نفسه واحتجت بقوله تعالى (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق : ١١] فهو
محدث على الحقيقة ويكون ، قوله (اسْتَمَعُوهُ) بمعنى استمعوا إليه ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) جملة في موضع الحال أي أسماعهم في حال لعب فهو غير نافع
ولا واصل النفس.
قوله عزوجل :
(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي
يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
(٤)
قوله تعالى : (لاهِيَةً) حال بعد حال ، واختلف النحاة في إعراب قوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) فذهب سيبويه رحمهالله إلى أن الضمير في (أَسَرُّوا) فاعل وأن (الَّذِينَ) بدل منه وقال رحمهالله لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن ، وقال أبو عبيدة
وغيره الواو والألف علامة أن الفاعل مجموع كالتاء في قولك قامت هند و (الَّذِينَ) فاعل ب (أَسَرُّوا) وهذا على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقالت فرقة الضمير
فاعل و (الَّذِينَ) مرتفع بفعل مقدر تقديره أسرها الذين أو قال الذين ع
والوقوف على (النَّجْوَى) في هذا القول وفي الأول أحسن ولا يحسن في الثاني ، وقالت
فرقة (الَّذِينَ) مرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم الذين ظلموا ، والوقف
مع هذا حسن ، وقالت فرقة (الَّذِينَ) في موضع نصب بفعل تقديره أعني الذين ، وقالت فرقة (الَّذِينَ) في موضع خفض بدل من «الناس» [الأنبياء : ١] ع وهذه أقوال
ضعيفة ومعنى (أَسَرُّوا النَّجْوَى) تكلموا بينهم في السر والمناجاة بعضهم لبعض ، وقال أبو
عبيدة (أَسَرُّوا) أظهروا وهو من الأضداد ، ثم بين تعالى الأمر الذي يتناجون
به وهو قول بعضهم لبعض (هَلْ هذا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أي ما يقول شبهوه بالسحر ، المعنى أفتتبعون السحر (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك ، كأنهم قالوا تضلون على
بينة ومعرفة ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعا (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها. وقرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «قل ربي» ، وقرأ حمزة والكسائي «قال ربي يعلم»
على معنى الخبر عن نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، واختلف عن عاصم ، قال الطبري رحمه وهما قراءتان
مستفيضتان في قراءة الإهماز.
قوله عزوجل :
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)
وَما
جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ)
(٨)
لما اقتضت الآية
التي قبل هذه أنهم قالوا إن ما عنده سحر ، عدد الله في هذه جميع ما قالته طوائفهم
ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة لها ليتبين اضطراب أمرهم ، فهو إضراب عن جحد
متقدم لأن الثاني ليس بحقيقة في نفسه ، و «الأضغاث» الأخلاط وأصل الضغث القبضة
المختلطة من العشب والحشيش ، فشبه تخليط الحلم بذلك ، وهو ما لا يتفسر ولا يتحصل ،
ثم حكى من قال قول شاعر وهي مقالة فرقة عامية منهم لأن نبلاء العرب لم يخف عليهم
بالبديهة أن مباني القرآن ليست مباني شعر ثم حكى اقتراحهم وتمنيهم آية تضطرهم
وتكون في غاية الوضوح كناقة صالح وغيرها ، وقولهم (كَما أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ) دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة. وقوله تعالى
: (ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ) مقدرا كلام يدل عليه المعنى ، تقديره والآية التي طلبوا
عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم. وما آمنت قرية من القرى التي نزلت بها هذه
النازلة أفهذه كانت تؤمن وقوله تعالى : (أَهْلَكْناها) جملة في موضع الصفة ل (قَرْيَةٍ)
والجملة إذا اتبعت
النكرات فهي صفة لها وإذا اتبعت المعارف فهي أحوال منها ، وقوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا
رِجالاً) رد على فرقة منهم كانوا يستبعدون أن يبعث الله من البشر
رسولا يشف على نوعه من البشر بهذا القدر من الفضل ، فمثل الله تعالى في الرد عليهم
بمن سبق من الرسل من البشر ، وقرأ الجمهور «يوحى» على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ
حفص عن عاصم «نوحي» بالنون ، ثم أحالهم على سؤال (أَهْلَ الذِّكْرِ) من حيث لم يكن عند قريش كتاب ولا إثارة من علم ، واختلف
الناس في (أَهْلَ الذِّكْرِ) من هم ، فروى عبد الله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر ،
وقالت فرقة هم أهل القرآن.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا موضع ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله
تعالى عباده فأهل القرآن أهل ذكر ، وهذا ما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت
لأنهم كانوا خصومهم ، وإنما أحيلوا على سؤال أخبار أهل الكتاب من حيث كانوا
موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد عليهالسلام فتجيء شهادتهم بأن الرسل قديما من البشر لا مطعن فيها
لازمة لكفار قريش وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ
جَسَداً) قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى ، ومنه قوله
تعالى : (عِجْلاً جَسَداً) [الأعراف : ١٤٨].
فمعنى هذا ما
جعلناهم أجسادا لا تتغذى ، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي. والمعنى ما
جعلناهم أجسادا وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو كالملائكة ، ف (جَعَلْناهُمْ جَسَداً) على التأويل الأول منفي ، وعلى الثاني موجب ، والنفي واقع
على صفته. وقوله تعالى : (لا يَأْكُلُونَ
الطَّعامَ) كناية عن الحدث ، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم
وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا
مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١)
فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ)
(١٢)
هذا وعيد في ضمن
وصفه تعالى سيرته في الأنبياء من أنه يصدق مواعيدهم فكذلك يصدق لمحمد عليهالسلام ولأصحابه ما وعدهم من النصر وظهور الكلمة وقوله تعالى : (وَمَنْ نَشاءُ) معناه من المؤمنين بهم ، و «المسرفون» الكفار المفرطون في
غيهم وكفرهم وكل من ترك الإيمان مفرط مسرف ، ثم وبخهم تعالى بقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا) الآية و «الكتاب» القرآن. وقوله تعالى : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) يحتمل أن يكون في الذكر الذي أنزله الله تعالى إليكم بأمر
دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه ، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم ويحتمل أن
يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الآية. كما تذكر عظام الأمور ، وفي هذا تحريض ثم تأكد
التحريض بقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وحركهم ذلك إلى النصر ، ثم مثل لهم على جهة التوعد بمن سلف
من الأمم المعذبة ، و (كَمْ) للتكثير وهي في موضع نصب ب (قَصَمْنا) ومعناه أهلكنا ، وأصل القصم الكسر في الأجرام فإذا استعير
للقوم أو القرية ونحوه فهو
ما يشبه الكسر وهو
إهلاكهم وأوقع هذه الأمور على «القرية» والمراد أهلها وهذا مهيع كثير ، ومنه (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) [الأنبياء : ٦]
وغيره وقوله تعالى : (وَأَنْشَأْنا) أي خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير المهلكة ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا) وصف عن قرية من القرى المجملة أولا قيل كانت باليمن تسمى
حصورا بعث الله تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه ، فأرسل الله تعالى بخت نصر صاحب بني
إسرائيل فهزموا جيشه مرتين ، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم
ركضوا هاربين ، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من
القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في
الفرار. و (أَحَسُّوا) باشروه بالحواس ، و «الركض» تحريك القدم على الصفة
المعهودة ، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيها بالدابة.
قوله عزوجل :
(لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣)
قالُوا
يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
فَما
زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)
(١٦)
يحتمل قوله تعالى
: (لا تَرْكُضُوا) إلى آخر الآية أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية
المتقدمة فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا
تفروا (وَارْجِعُوا) إلى مواضعكم (لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ) صلحا أو جزية أو أمرا يتفق عليه ، فلما انصرفوا أمر بخت
نصر أن ينادى فيهم يا لثارات النبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم ع ، هذا كله
مروي ، ويحتمل أن يكون (لا تَرْكُضُوا) إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب ، على التأويل الآخر
أن الآيات وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حصورا ولا غيرها ، فالمعنى على هذا
أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله تعالى بمكان وأنه لو جاءهم
عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يخاصموا أو يسألوا عن وجع تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم
عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم ، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين
نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم (لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) كما كنتم تطمعون بسفه آرائكم ، ثم يكون قوله (حَصِيداً) أي بالعذاب تركضوا كالحصيد ، و «الإتراف» التنعيم ، و (دَعْواهُمْ) معناه دعاؤهم وكلامهم أي لم ينطقوا بغير التأسف ، والحصيد
يشبه بحصيد الزرع بالمنجل الذي ردهم الهلاك كذلك ، و (خامِدِينَ) أي موتى دون أزواج مشبهين بالنار إذا طفيت ، ولما فرغ وصف
هذا الحال وضع الله تعالى السامعين بقوله (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي ظن هؤلاء الذين نزل بهم ما نزل وكما تظنون أنتم أيها
الكفرة الآن ففي الآية وعيد بهذا الوجه والمعنى إنما خلقنا هذا كله ليعتبر به
وينظر فيه ويؤمن بالله بحسبه ، قال بعض الناس (تُسْئَلُونَ) معناه تفهمون وتفقهون.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ ، وقالت فرقة (تُسْئَلُونَ) معناه شيئا من أموالكم وعرض دنياكم على وجه الهزء.
قوله عزوجل :
(لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧)
بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
(١٨)
ظاهر هذه الآية
الرد على من قال من الكفار أمر مريم وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول
المبطلين ، و «اللهو» في هذه الآية المرأة وروي أنها في بعض لغات العرب تقع على
الزوجة ، و (أَنْ) في قوله (إِنْ كُنَّا
فاعِلِينَ) يحتمل أن تكون الشرطية بمعنى لو كنا أي ولسنا كذلك ،
وللمتكلمين هنا اعتراض وانفصال ويحتمل أن تكون نافية بمعنى ما وكل هذا قد قيل ، و
«الحق» عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق ، و (الْباطِلِ) أيضا عام كذلك ويدمغه معناه يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر
فكذلك الحق يهلك الباطل ، و (الْوَيْلُ) الخزي والهم وقيل هو اسم واد في جهنم فهو المراد في هذه
الآية وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله تعالى بما لا يجوز عليه ولا يليق به
تعالى الله عن قولهم.
قوله عزوجل :
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا
يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)
(٢٠)
قوله تعالى : (وَلَهُ) يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلا لقوله (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) [الأنبياء : ١٨]
كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واللام في (لَهُ) لام الملك ، وقوله تعالى : (مَنْ فِي السَّماواتِ) يعم الملائكة والنبيين وغيرهم ، ثم خصص من هذا العموم من
أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) لأن «عند» هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة
فوصفهم تعالى بأنهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها. والحسير من
الإبل المعيي ومنه قول الشاعر : [الطويل].
لهن الوجى لم
يكن عونا على النوى
|
|
ولا كان منها
طالع وحسير
|
وحسر واستحسر
بمعنى واحد ، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب
الشيء ، وقوله تعالى : (لا يَفْتُرُونَ) ، روي عن كعب الأحبار أنه قال جعل الله التسبيح كالنفس
وطرف العين للبشر منهم دائبا دون أن يلحقهم فيه سآمة ، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ قال «أتسمعون ما أسمع» قالوا :
ما نسمع من شيء يا رسول الله ، قال «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ما فيها
موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم».
قوله عزوجل :
(أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ
الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ
مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)
(٢٤)
هذه (أَمِ) التي هي بمنزلة ألف الاستفهام ، وهي هاهنا تقرير وتوقيف ،
ومذهب سيبويه أنها بمنزلة بل مع ألف الاستفهام ، كأن في القول إضرابا عن الأول
ووقفهم الله تعالى هل (اتَّخَذُوا آلِهَةً) يحيون ويخترعون ، أي ليست آلهتكم كذلك فهي غير آلهة لأن من
صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. وقرأت فرقة «ينشرون» بضم الياء بمعنى
يحيون غيرهم ، وقرأت فرقة «ينشرون» بمعنى يحيونهم وتدوم حياتهم يقال نشر الميت
وأنشره الله تعالى ، ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق ، واقتضاب
القول في هذا أن الإلهين لو فرضا فوقع بينهما الاختلاف في تحريك جرم وتسكينه فمحال
أن تتم الإرادتان ومحال أن لا تتم جميعا ، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزا
، وهذا ليس بإله ، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما ونظر آخر وذلك أن كل
جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن يتعلق به قدرتان ، فإذا كانت قدرة أحدهما
موجدة بقي الآخر فضلا لا معنى له في ذلك الجزء ، ثم يتمادى النظر هكذا جزءا جزءا
ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه أهل الجهالة والكفر ، ثم وصف نفسه تعالى بأنه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وهذا وصف يحتمل معنيين : إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه
لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء ، وإما أن يريد أنه
محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض ، وهؤلاء من
البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير ، ثم
قررهم تعالى ثانية على اتخاذ الآلهة ، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في نكره وبيان
فساده ، وفي هذا التقرير زيادة على الأول وهي قوله تعالى : (مِنْ دُونِهِ) فكأنهم قررهم هنا على قصد الكفر بالله عزوجل ، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان. وقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي) يحتمل أن يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها ،
أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله ، بل فيها ضد ذلك ، ويحتمل أن يريد
هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين ، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع
لهم وردهم على طريق النجاة ، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم ،
ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فهذا برهاني أنا ظاهر في (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ
وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) وقرأت فرقة «هذا ذكر من» «وذكر من» بالإضافة فيهما ، وقرأت
فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بتنوين «ذكر» الثاني وكسر الميم من
قوله تعالى : (مَنْ قَبْلِي) وقرأ يحيى بن سعيد وابن مصرف بالتنوين في «ذكر من» في
الموضعين وكسر الميم من قوله «من» في الموضعين ، وضعف أبو حاتم هذه القراءة كسر
الميم في الأولى ولم ير لها وجها ، ثم حكم عليهم تعالى بأن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) لإعراضهم عنه وليس المعنى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنهم لا يعلمون بل المعنى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ولذلك (لا يَعْلَمُونَ
الْحَقَ) وقرأ الحسن وابن محيصن «الحق» بالرفع على معنى هذا القول
هو الحق والوقف على هذه القراءة على (لا يَعْلَمُونَ).
قوله عزوجل :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)
(٢٨)
لما أخبرهم تعالى
أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولا إلا أوحى
إليه أن الله تعالى فرد صمد ، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات ، وإنما اختلفت في
الأحكام. وقرأ حمزة والكسائي «نوحي» بنون مضمومة ، وقرأ الباقون «يوحى» بياء
مضمومة. واختلف عن عاصم ثم عدد بعد ذلك نوعا آخر من كفرهم وذلك أنهم مع اتخاذهم
آلهة كانوا يقربون بالله تعالى هو الخالق الرازق إلا أنهم قال بعضهم اتخذ الملائكة
بنات ، وقال نحو هذه المقالة النصارى في عيسى ابن مريم عليهالسلام ، واليهود في عزير ، فجاءت هذه الآية رادة على جميعهم
منبهة عليهم ، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالة الكفرة وأضرب عن مقالهم ونص ما هو الأمر
في نفسه بقوله (بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ) وهذه عبارة تشمل الملائكة وعزيرا وعيسى. وقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال الأمر ، وقوله
تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما تقدم من أفعالهم وأعمالهم ، والحوادث التي لها إليهم
تنسب وما تأخر ، ثم أخبر تعالى أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له ،
قال بعض المفسرين لأهل لا إله إلا الله ، «والمشفق» البالغ في الخوف المحترق من
الفزع على أمر ما.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)
(٣٠)
المعنى من يقل
منهم كذا أن لو قاله وليس منهم من قال هذا ، وقال بعض المفسرين المراد بقوله (وَمَنْ يَقُلْ) الآية ، إبليس.
قال القاضي أبو
محمد : هذا ضعيف لأن إبليس لم يرو قط أنه ادعى ربوبية ، وقرأ الجمهور «نجزيه» بفتح
النون ، وقرأ أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد «نجزيه» بضم النون والهاء ووجهها أن
المعنى نجعلها تكتفي به من قولك أجزاني الشيء ثم خففت الهمزة ياء. وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي كجزائنا هذا القائل جزاؤنا الظالمين ، ثم وقفهم على
عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته ، و «الرتق» الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي
لا صدع فيه ولا فتح ومنه امرأة رتقاء ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك
ففتقهما الله تعالى سبعا
سبعا ، وعلى هذين
القولين ف «الرؤية» الموقف عليها رؤية القلب ، وقالت فرقة السماء قبل المطر رتق
والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات ، كما قال الله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ
ذاتِ الصَّدْعِ) [الطارق : ١١ ـ ١٢]
وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍ) أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه
الاعتبار ، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع و «الرؤية»
على هذين القولين رؤية العين ، و (الْأَرْضَ) هنا اسم الجنس فهي جمع ، وقرأ الجمهور «رتقا» بسكون التاء
، والرتق مصدر وصف به كالزور والعدل ، وقرأ الحسن والثقفي وأبو حيوة «كانتا رتقا»
بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنفض والنفض والخبط والخبط وقال كانتا من حيث هما
نوعان ونحوه قول عمرو بن شيم. ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا.
وقوله (كانَتا) في القولين الأولين بمنزلة قولك كان زيد حيا ، أي لم يكن ،
وفي القولين الآخرين بمنزلة قولك كان زيدا عالما أي وهو كذلك ، وقرأ ابن كثير وحده
«ألم ير» بإسقاط الواو. وقوله (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك
، ولكن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه
مستعارة داخل في هذا ، وقالت فرقة المراد ب «الماء» المني في جميع الحيوان ، ثم
وقفهم على ترك الإيمان توبيخا وتقريعا.
قوله عزوجل :
(وَجَعَلْنا فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ)
(٣٣)
«الرواسي» جمع
راسية أي ثابتة يقال رسا يرسو إذا ثبت واستقر ولا يستعمل إلا في الأجرام الكبار
كالجبال والسفينة ونحوه ، ويروى أن الأرض كانت تكفأ بأهلها حتى ثقلها الله تعالى
بالجبال فاستقرت ، و «الميد» التحرك ، و «الفجاج» الطرق المتسعة في الجبال وغيرها
، و (سُبُلاً) جمع سبيل ، والضمير في قوله تعالى : (فِيها) يحتمل أن يعود على الرواسي ويحتمل أن يعود على (الْأَرْضِ) وهو أحسن ، و (يَهْتَدُونَ) معناه في مسالكهم وتصرفهم ، و «السقف» ما علا ، و «الحفظ»
هنا عام في الحفظ من الشياطين ومن الرمي وغير ذلك من الآفات ، و (آياتِها) كواكبها وأمطارها ، والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك مما
يشبه ، وقرأت فرقة «وهم عن آيتها» بالإفراد الذي يراد به الجنس ، و «الفلك» الجسم
الدائر دورة اليوم والليلة فالكل في ذلك سابح متصرف ، وعن بعض المفسرين أن الكلام
فيما هو الفلك فقال بعضهم كحديد الرحى ، وقال بعضهم كالطاحونة مما لا ينبغي التسور
عليه ، غير أنا نعرف أن الفلك جسم يستدير. و (يَسْبَحُونَ) معناه يتصرفون ، وقالت فرقة «الفلك» موج مكفوف ورأوا قوله (يَسْبَحُونَ) من السباحة وهو العوم.
قوله عزوجل :
(وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا
تُرْجَعُونَ)
(٣٥)
قيل إن سبب هذه
الآية أن بعض المسلمين قال إن محمدا لن يموت وإنما هو مخلد فبلغ ذلك النبيصلىاللهعليهوسلم ، فأنكره ونزلت هذه الآية والمعنى لم نخلد أحدا ولا أنت لا
نخلدك وينبغي أن لا ينتقم أحد من المشركين عليك في هذا أهم مخلدون إن مت أنت فيصح
لهم انتقام ، وقيل إن سبب الآية أن كفار مكة طعنوا على أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، بأنه بشر وأنه
يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله فنزلت الآية رادة عليهم ، وألف الاستفهام داخلة
في المعنى على جواب الشرط وقدمت في أول الجملة لأن الاستفهام له صدر الكلام
والتقدير أفهم (الْخالِدُونَ) إن مت ، والفاء في قوله «فإن» عاطفة جملة على جملة ، وقرأت
فرقة «مت» بضم الميم ، وفرقة «مت» بكسرها ، وقوله (كُلُّ نَفْسٍ) عموم يراد به الخصوص ، والمراد كل نفس مخلوفة ، و «الذوق»
هاهنا مستعار ، (وَنَبْلُوكُمْ) معناه نختبركم وقدم الشر لأن الابتداء به أكثر ولأن العرب
من عادتها أن تقدم الأقل والأردى فمنه قوله تعالى : (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] ومنه
قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] فبدأ
في تقسيم أمة محمد بالظلم وقال الطبري عن ابن عباس أنه جعل (الْخَيْرِ) و «الشر» هنا عاما
في الغنى والفقر والصحة والمرض والطاعة والمعصية والهدى والضلالة.
قال القاضي أبو
محمد : إن المراد من (الْخَيْرِ) و «الشر» هنا ما
يصح أن يكون فتنة وابتلاء وذلك خير المال وشره وخير الدنيا في الحياة وشرها ، وأما
الهدى والضلال فغير داخل في هذا ولا الطاعة ولا المعصية لأن من هدى فليس نفس هداه
اختبار بل قد تبين خبره ، فعلى هذا ففي الخير والشر ما ليس فيه اختبار ، كما يوجد
أيضا اختبار بالأوامر والنواهي ، وليس بداخل في هذه الآية. و (فِتْنَةً) معناه امتحانا وكشفا ، ثم أخبر عزوجل عن الرجعة إليه والقيام من القبور ، وفي قوله (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) وعيد ، وقرأت فرقة «ترجعون» بضم التاء ، وقرأت فرقة «ترجعون»
بفتحها ، وقرأت فرقة «يرجعون» بالياء مضمومة على الخروج من الخطاب إلى الغيبة.
قوله عزوجل :
(وَإِذا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ
آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
(٣٨)
روي أن أبا سفيان
بن حرب وأبا جهل بن هشام رأيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، في المسجد
فاستهزآ به فنزلت
الآية بسببهما ، وظاهر الآية أن كفار قريش وعظماءهم يعمهم هذا المعنى من أنهم
ينكرون أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، في أمر آلهتهم وذكره لهم بفساد ، و (إِنْ) بمعنى ما وفي الكلام حذف تقديره يقولون (أَهذَا الَّذِي) وقوله (يَذْكُرُ) لفظة تعم المدح والذم لكن قرينة المقال أبدا تدل على
المراد من الذكر وتم ما حكي عنهم في قوله تعالى : (آلِهَتَكُمْ) ، ثم رد عليهم بأن قرن بإنكارهم ذكر الأصنام كفرهم بذكر
الله أي فهم أحق وهم المخطئون. وقوله تعالى : (بِذِكْرِ) أي بما يجب أن يذكر به ولا إله إلا الله منه.
وقوله (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) روي أن الآية نزلت حين أنكروا هذه اللفظة وقالوا ما نعرف
الرحمن إلا في اليمامة ، وظاهر الكلام أن الرحمن قصد به العبارة عن الله تعالى كما
لو قال (وَهُمْ بِذِكْرِ) الله وهذا التأويل أغرق في ضلالهم وخطاهم. وقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب وطلبهم آية مقترحة
وهي مقرونة بعذاب مجهز إن كفروا بعد ذلك ، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس
بأنه «خلق من عجل» وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال أنت من لعب ولهو
وكما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لست من دد ولا دد
مني» ، وهذا نحو قول الشاعر :
وإنا لمما نضرب
الكبش ضربة
|
|
على رأسه تلقي
اللسان على الفم
|
كأنه مما كانوا
أهل ضرب الهام ، وملازمة الضرب قال إنهم من الضرب ع وهذا التأويل يتم به معنى
الآية المقصود في أن ذمت عجلتهم وقيل لهم على جهة الوعيد إن الآيات ستأتي (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) إنه على المقلوب كأنه أراد خلق العجل من الإنسان على معنى
أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزءا من أخلاقه ع وهذا التأويل ليس فيه مبالغة وإنما هو
إخبار مجرد وإنما حمل قائليه عليه عدمهم وجه التجوز والاستعارة في أن يبقى الكلام
على ترتيبه ونظير هذا القلب الذي قالوه قول العرب : إذا طلعت الشعرى استوى العود
على الحرباء ، وكما قالوا عرضت الناقة على الحوض وكما قال الشاعر : [البسيط]
حسرت كفي على
السربال آخذه
|
|
فردا يخر على
أيدي المفدينا
|
وأما المعنى في
تأويل من رأى الكلام من المقلوب فكالمعنى الذي قدمناه ، وقالت فرقة من المفسرين
قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) إنما أراد أن آدم عليهالسلام خلقه الله تعالى في آخر ساعة من يوم الجمعة فتعجل به قبل
مغيب الشمس ، وروى بعضهم أن آدم عليهالسلام قال يا رب أكمل خلقي فإن الشمس على الغروب أو غربت ع وهذا
قول ضعيف ومعناه لا يناسب معنى الآية ، وقالت فرقة العجل الطين والمعنى خلق آدم من
طين. وأنشد النقاش : والنخل ينبت بين الماء والعجل. وهذا أيضا ضعيف ومعناه مباين
لمعنى الآية ، وقالت فرقة معنى قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) أي بقوله كن فهو حال عجلة وهذا أيضا ضعيف وفيه تخصيص ابن
آدم بشيء كل مخلوق يشاركه فيه ، وليس في هذه الأقوال ما يصح معناه ويلتئم مع الآية
إلا القول الأول ، وقرأت فرقة «خلق» على بناء الفعل للمفعول ، وقرأت فرقة «خلق
الإنسان» على معنى خلق الله الإنسان ، فمعنى الآية بجملتها خلق الإنسان من عجل على
معنى التعجب من تعجل
هؤلاء المقصودين
بالرد ، ثم توعدهم بقوله (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي سآتي ما يسوءكم إذا دمتم على كفركم ، يريد يوم بدر
وغيره ، ثم فسر استعجالهم بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وكأن استفهامهم على جهة الهزء والتكذيب ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يريدون محمدا صلىاللهعليهوسلم ومن آمن به لأن المؤمنين كانوا يتوعدونهم على لسان الشرع
وموضع (مَتى) رفع عند البصريين وقال بعض الكوفيين موضعه نصب على الظرف
والعامل فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء والأول أصوب.
قوله عزوجل :
(لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)
بَلْ
تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ)
(٤١)
حذف جواب (لَوْ) إيجازا لدلالة الكلام عليه وأبهم قدر العذاب لأنه أبلغ
وأهيب من النص عليه وهذا محذوف نحو قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) [الرعد : ٣١] ،
ويقدر المحذوف في جواب هذه الآية لما استعجلوه ونحوه ، وقوله (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ
النَّارَ) يريد يوم القيامة ، وذكر «الوجوه» خاصة لشرفها من الإنسان
وأنها موضع حواسه وهو أحرص على الدفاع عنه ، ثم ذكر «الظهور» ليبين عموم النار
لجميع أبدانهم ، وقوله (بَلْ تَأْتِيهِمْ) استدراك مقدر قبله نفي تقديره أن الآيات لا تأتي بحسب
اقتراحهم (بَلْ تَأْتِيهِمْ
بَغْتَةً) ، والضمير للساعة التي تصيرهم إلى العذاب ويحتمل أن يكون ل
(النَّارَ) ، وقرأت فرقة «يأتيهم» بالياء على أن الضمير للوعد «فيبهتهم»
بالياء أيضا ، والبغتة الفجأة من غير مقدمة ، و (يُنْظَرُونَ) معناه يؤخرون ثم آنس تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم بما جرى على سائر الأنبياء من استهزاء قومهم بهم وحلول
العذاب بالمستهزئين ، و «حاق» معناه نزل وحل وهي مستعملة في العذاب والمكاره ،
وقوله (ما كانُوا) فيه محذوف تقديره جزاء ما كانوا أو نحوه ومع هذا التأنيس
الذي لمحمد صلىاللهعليهوسلم وعيد للكفرة وضرب مثل لهم بمن سلف من الأمم.
قوله عزوجل :
(قُلْ مَنْ
يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)
(٤٤)
المعنى (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفرة المستهزئين بك وبما جئت به الكافرين
بذكر الرحمن
الجاهلين به قل
لهم على جهة التوبيخ والتقريع من يحفظكم ، و «كلأ» معناه حفظ ومنه قول النبيصلىاللهعليهوسلم لبلال «اكلأ لنا الفجر» وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه
قال ليس لهم مانع ولا كالىء وعلى هذا النفي تركبت (بَلْ) في قوله (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ثم يقضي عليهم التقدير في أنه لا مانع لهم من الله بأن كشف
أمر آلهتهم والمعنى أيظنون أن آلهتهم التي هي بهذه الصفة (تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) بل ما يمنعهم أحد إلا نحن ، وقوله تعالى : (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) يحتمل تأويلين أحدهما يجارون ويمنعون ، والآخر (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) بخير ولا تزكية ونحو هذا ، وفي الكلام تقدير بعد محذوف
كأنه قال ليس ثم شيء من هذا كله بل ضل هؤلاء لأنا متعناهم ومتعنا آباءهم فنسوا
عقاب الله وظنوا أن حالهم لا تبيد والمعنى (طالَ الْعُمُرُ) في رخاء ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي
البشر بحسب الخلاف والأطراف ، والرؤية في قوله (يَرَوْنَ) رؤية العين تتبعها رؤية القلب ، و (نَأْتِي) معناه بالقدرة والبأس ، و (الْأَرْضَ) عامة في الجنس. وقوله (مِنْ أَطْرافِها) إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن
يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض ، وقال قوم
النقص من الأطراف موت العلماء ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل
الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بين بل هم مغلوبون مقهورون.
قوله عزوجل :
(قُلْ إِنَّما
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ
(٤٥)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)
(٤٦)
المعنى (قُلْ) أيها المقترحون المتشططون (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) بوحي يوحيه الله إلى وبدلالات على العبر التي نصبها الله
تعالى لينظر فيها كنقصان الأرض من أطرافها وغيره ولم أبعث بآية مضطرة ولا ما
تقترحون ، ثم قال (وَلا يَسْمَعُ) بمعنى وأنتم معرضون عما أنذر به فهو غير نافع لكم ومثل
أمرهم ب (الصُّمُ) ، وقرأ جمهور القراء «ولا يسمع» بالياء وإسناد الفعل إلى
الصّم وقرأ ابن عامر وحده «ولا تسمع» بضم التاء وكسر الميم ونصب «الصمّ» ، وقرأت
فرقة «ولا تسمع» بتاء مضمومة وفتح الميم وبناء الفعل للمفعول والفرقتان نصبت (الدُّعاءَ) ، وقرأت فرقة «ولا يسمع الصم الدعاء» بإضافة «الصم» إلى «الدعاء»
وهي قراءة ضعيفة وإن كانت متوجهة ، ثم خاطب تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم متوعدا لهم بقوله (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ
نَفْحَةٌ) ، والنفحة الخطرة والمسة كما تقول نفح بيده إذا قال بها
هكذا ضاربا إلى جهة ، ومنه نفحة الطيب كأنه يخطر خطرات على الحاسة ، ومنه نفح له
من عطايا إذا أجراه منها نصيبا ، ومنه نفح الفرس برجله إذا ركض ، والمعنى ولئن مس
هؤلاء الكفرة صدمة عذاب في دنياهم ليندمن وليقرن بظلمهم.
قوله عزوجل :
(وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنا
بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ
أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)
(٥٠)
لما توعدهم بنفحة
من عذاب الدنيا عقب ذلك بتوعد بوضع (الْمَوازِينَ) وإنما جمعها وهو ميزان واحد من حيث لكل أحد وزن يخصه ووحد (الْقِسْطَ) وهو جاء بلفظ (الْمَوازِينَ) مجموعا من حيث (الْقِسْطَ) مصدر وصف به كما تقول قوم عدل ورضى وقرأت فرقة «القصط»
بالصاد ، وقوله تعالى : (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لحساب يوم القيامة أو لحكم يوم القيامة فهو بتقدير حذف
مضاف والجمهور على أن الميزان في يوم القيامة بعمود وكفتين توزن به الأعمال ليبين
المحسوس المعروف عندهم ، والخفة والثقل متعلقة بأجسام ويقرنها الله تعالى يومئذ
بالأعمال فإما أن تكون صحف الأعمال أو مثالات تخلق أو ما شاء الله تعالى. وقرأ
نافع وحده «مثقال» بالرفع على أن تكون (كانَ) تامة ، وقرأ جمهور الناس «مثقال» بالنصب على معنى وإن كان
الشيء أو العمل ، وقرأ الجمهور «أتينا» على معنى جئنا ، وقرأ ابن عباس ومجاهد
وغيرهما «آتينا» على معنى «وآتينا» من المواتاة ولا يقدر تفسير آتينا بأعطينا لما
تعدت بحرف جر.
قال القاضي أبو
محمد : ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف وإنما يعرف ذلك
في المضمومة والمكسورة ، وفي قوله (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) توعد ، ثم عقب بالتمثيل بأمر موسى عليهالسلام ، و (الْفُرْقانَ) فيما قالت فرقة التوراة وهي الضياء والذكر ، وقرأ ابن كثير
وحده «ضيئاء» بهمزتين قبل الألف وبعدها ، وقرأ الباقون «ضياء» بهمزة واحدة بعد
الألف ، وقرأ ابن عباس «ضياء» بغير واو وهي قراءة عكرمة والضحاك وهذه القراءة تؤيد
قول من قال المراد بذلك كله التوراة ، وقالت فرقة (الْفُرْقانَ) هو ما رزقه الله من نصر وظهور حجة وغير ذلك مما فرق بين
أمره وأمر فرعون ، و «الضياء» التوراة و «الذكر» بمعنى التذكرة ، وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) يحتمل ثلاث تأويلات أحدها في غيبهم وخلواتهم وحيث لا يطلع
عليهم أحد وهذا أرجحها ، والثاني أنهم يخشون الله تعالى على أن أمره تعالى غائب
وإنما استدلوا بدلائل لا بمشاهدة ، والثالث أنهم يخشون الله ربهم بما أعلمهم به
مما غاب عنهم من أمر آخرتهم ودنياهم. و «الإشفاق» أشد الخشية و (السَّاعَةِ) القيامة ، وقوله تعالى : (وَهذا) إشارة إلى القرآن ، و (أَنْزَلْناهُ) إما أن يكون بمعنى أتيناه كما تقول أنزل السلطان فلانا
بمكان كذا إذا أثبته له ، وإما أن يتعلق النزول بالملك ، ثم وقفهم الله تعالى
تقريرا وتوبيخا هل يصح لهم إنكار بركته وما فيه من الدعاء إلى الله تعالى وإلى
صالح العمل.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١)
إِذْ
قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ
(٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها
عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ
كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي
ضَلالٍ
مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ
أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ
بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى
ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)
وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ
جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)
(٥٨)
الرشد عام في
هدايته إلى رفض الأصنام وفي هدايته في أمر الكوكب والشمس والقمر وغير ذلك من النبوءة
فما دونها ، وقال بعضهم معناه وفق للخير صغيرا وهذا كله متقارب ، و (مِنْ قَبْلُ) معناه من قبل موسى وهارون ، فبهذه الإضافة هو قبل كما هي
نسبة نوح منه ، قوله (وَكُنَّا بِهِ
عالِمِينَ) مدح ل (إِبْراهِيمَ) أي بأنه يستحق ما أهل له وهذا نحو قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤]
والعامل في (إِذْ) قوله (آتَيْنا) و (التَّماثِيلُ) الأصنام لأنها كانت على صورة الإنسان من خشب ، و «العكوف»
الملازمة للشيء وقوله (فَطَرَهُنَ) عبارة عنها كأنها تعقل وهذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد
وصفت من مواضع بما يوصف به من يعقل ، وقوله (تَاللهِ لَأَكِيدَنَ) الآية ، روي أنه حضرهم عيد لهم فعزم قوم منهم على إبراهيم
في حضوره طمعا منهم أن يستحسن شيئا من أخبارهم فمشى معهم فلما كان في الطريق أثنى
عزمه على التخلف عنهم فقعد وقال لهم إني سقيم فمر به جمهورهم ثم قال في خلوة من
نفسه (وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وسمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس ، وقوله (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) معناه إلى عيدهم ثم انصرف إبراهيم عليهالسلام إلى بيت أصنامهم فدخله ومعه قدوم فوجد الأصنام وقفت أكبرها
أول ثم الذي يليه فالذي يليه وقد جعلوا أطعمتهم في ذلك اليوم بين يدي الأصنام
تبركا لينصرفوا من ذلك العيد إلى أكله ، فجعل عليهالسلام يقطعها بذلك القدوم حتى أفسد أشكالها كلها حاشى الكبير
فإنه تركه بحاله وعلق القدوم من يده وخرج عنها ، و (جُذاذاً) معناه قطعا صغارا ، والجذ القطع. وقرأ الجمهور «جذاذا» بضم
الجيم ، وقرأ الكسائي وحده بكسرها ، وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها
وهي لغات والمعنى واحد ، وقوله (فَجَعَلَهُمْ) ونحوه معاملة للأصنام بحال من يعقل من حيث كانت تعبد وتنزل
منزلة من يعقل ، والضمير في (إِلَيْهِ) أظهر ما فيه أنه عائد على «إبراهيم» أي فعل هذا كله توخيا
منه أن يعقب ذلك منهم رجعة إليه وإلى شرعه ويحتمل أن يعود الضمير على الكبير
المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام.
قوله عزوجل :
(قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)
قالُوا
سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ(٦٠)
قالُوا
فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)
قالُوا
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)
(٦٣)
المعنى فانصرفوا
من عيدهم فرأوا ما حدث بآلهتهم فأكبروا ذلك وحينئذ (قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا) على جهة البحث والإنكار ، و (قالُوا) الثانية الضمير فيها للقوم الضعفة الذي سمعوا إبراهيم حين
قال (وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧]
واختلف في وجه رفع قوله (إِبْراهِيمُ) فقالت فرقة هو مرتفع بتقدير النداء كأنهم أرادوا الذي يقال
له عند ما يدعى يا إبراهيم ، وقالت فرقة رفعة على إضمار الابتداء تقديره هو
إبراهيم.
قال القاضي أبو
محمد : والأول أرجح ، وقال الأستاذ أبو الحجاج الإشبيلي الأعلم هو رفع على الإهمال
ع لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه ذهب إلى رفعه بغير شيء كما
قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء ع والوجه عندي أنه مفعول لم يسم فاعله
على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص بل تجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة
وهذا كما تقول زيد وزن فعل أو زيد ثلاثة أحرف فلم تدخل بوجه على الشخص بل دللت
بنطقك على نفس اللفظة وعلى هذه الطريقة تقول قلت إبراهيم ويكون مفعولا صحيحا
أنزلته منزلة قول وكلام فلا يتعذر بعد ذلك أن بني الفعل للمفعول ، وقوله (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) يريد في الحفل وبمحضر الجمهور ، وقوله (يَشْهَدُونَ) يحتمل أن يراد به الشهادة عليه يريدون بفعله أو بقوله (لَأَكِيدَنَ) [الأنبياء : ٥٧]
ويحتمل أن يريد به المشاهدة أي يشاهدون عقوبته أو غلبته المؤدية إلى عقوبته ،
المعنى فجاء إبراهيم حين أوتي به فقالوا له أنت فعلت هذا بالآلهة فقال لهم إبراهيم
عليهالسلام (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) هذا على معنى الاحتجاج عليهم أي إنه غار من أن يعبد وتعبد
الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، وقالت فرقة هي الأكثر إن هذا الكلام قاله إبراهيم عليهالسلام لأنها كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم كافرين والحديث
الصحيح يقتضي ذلك وهو قول النبي صلىاللهعليهوسلم ، «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩]
وقوله (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله للملك هي أختي» ثم تطرق إلى موضع خزيهم بقوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) على جهة التوقيف ع وذهبت فرقة إلى نفي الكذب عن هذه
المقالات ، وقالت فرقة معنى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لم يكذب إبراهيم»
أي لم يقل كلاما ظاهره الكذب أو يشبه الكذب وذهبت إلى تخريج هذه المقالات فخرجت
هذه الآية على معنى أنه أراد تعليق فعل الكبير بنطق الآخرين كأنه قال بل هو الفاعل
إن نطق هؤلاء ولم يخرج الخبر ، على أن الكبير فعل ذلك ، وفي الكلام تقديم على هذا
التأويل في قوله (فَسْئَلُوهُمْ) وذهب الفراء إلى جهة أخرى بأن قال قوله (فَعَلَهُ) ليس من الفعل وإنما هو فلعله على جهة التوقع حذف اللام على
قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام ع وهذا تكلف.
قوله عزوجل :
(فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ
(٦٤)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ
(٦٦)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)
قُلْنا
يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)
وَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ)
(٧٠)
المعنى فظهر لهم
ما قال إبراهيم من أن الأصنام التي قد أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر
«فقالوا إنكم الظالمون» في توقيف هذا الرجل على هذا الفعل وأنتم معكم من تسألون ،
ثم ارتكبوا في ضلالهم ورأوا بالفكرة وبديهة العقل أن الأصنام لا تنطق فسامهم ذلك
حتى نطقوا عنه إلى موضع قيام الحجة عليهم ، وقوله تعالى : (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس رأسه فهي أقبح هيئة
للإنسان وكذلك هذا هو في أسوأ حالات النظر فقالوا لإبراهيم حين نكسوا في حيرتهم (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي فما بالك تدعو إلى ذلك فوجد إبراهيم عليهالسلام عند هذه المقالة موضع الحجة ووقفهم موبخا على عبادتهم
تماثيل لا تنفع بذاتها ولا تضر ثم حقر شأنها وأزرى بها في قوله (أُفٍّ لَكُمْ) وقرأ ابن كثير «أفّ لكم» بالفتح ، وقرأ أبو عمرو وحمزة
والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «أف لكم» بالكسر وترك التنوين فيهما ، وقرأ نافع
وحفص عن عاصم «أفّ» بالكسر والتنوين و (أُفٍ) لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء فيستعار ذلك للمكروه
من المعاني كهذا وغيره فلما غلبهم إبراهيم عليهالسلام من جهة النظر والحجة نكسوا رؤوسهم وأخذتهم عزة بإثم
وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة ف (قالُوا حَرِّقُوهُ) وروي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس
أي من باديتها فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وقوله
تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) تحريض كما تقول أعزم على كذا إن كنت عازما ، وروي أنهم لما
أجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك وأمر بجمع الحطب فجمع في مدة أشهر وكان
المريض يجعل على نفسه نذرا إن هو برىء أن يجمع كذا وكذا حزمة حتى اجتمع من الحطب
مما تبرع به الناس ومما جلب الملك من أهل الرساتيق كالجبل من الحطب ثم أضرم نارا
فلما أرادوا طرح إبراهيم فيه لم يقدروا على القرب منه ، فجاءهم إبليس في صورة شيخ
فقال لهم أنا أصنع لكم آلة يلقى بها في النار ، فعلمهم صنعة المنجنيق ، ثم أخرج
إبراهيم عليهالسلام فشد رباطا ووضع في كفه المنجنيق ورمي به فوقع في النار وقد
قيل لها (كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً) فاحترق الحبل الذي ربط به فقط.
وروي أن جبريل عليهالسلام جاءه وهو في الهواء فقال له ألك حاجة فيروى أنه قال له أما
إليك فلا.
ويروى أنه قال له
إني خليل وإنما أطلب حاجتي من خليلي لا من رسوله فقال الله تعالى : يا إبراهيم
قطعت الواسطة بيني وبينك لأقطعنها بيني وبين النار ، يا نار.
وروي أنه حين
خوطبت النار خمدت كل نار في الأرض.
وروي أن الغراب
كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم.
وروي أن الوزغة
كانت تنفخ عليه لتضرم وكذلك البغل.
وروي أن العضرفوط
والخطافة والضفدع كانوا ينقلون الماء لتطفأ النار فأبقى الله على هذه الوقاية وسلط
الله على تلك الأخرى النوائب والأيدي وقال بعض العلماء إن الله تعالى لو لم يقل (وَسَلاماً) لهلك إبراهيم من برد النار.
قال القاضي أبو
محمد : وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم وذكروا تحديد مدة بقائه في النار
وصورة بقائه ما
رأيت اختصاره لقلة صحته ، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى
عليه (بَرْداً وَسَلاماً) فخرج منها سالما وكانت أعظم آية.
وروي أنهم قالوا
إنها نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق.
وروي أن العيدان
أينعت وأثمرت له هنالك ثمارها التي كانت أصولها ، وقوله (وَسَلاماً) معناه وسلامة ، وقال بعضهم هي تحية من الله تعالى لإبراهيم
(ع) : وهذا ضعيف وكان الوجه أن يكون مرفوعا ، و «الكيد» هو ما أرادوه من حرقه
وكانوا في خسارة من كفرهم وغلبته لهم وحرق الشيخ الذي جربوا به النار.
وروي أن الملك بنى
بناء واطلع منه على النار فرأى إبراهيم عليهالسلام ومعه ناس فعجب وسأل هل طرح معه أحد فقيل له فناداه فقال من
أولئك فقال هم ملائكة ربي ع والمروي في هذا كثير غير صحيح.
قوله عزوجل :
(وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ
وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)
(٧٣)
روي أن إبراهيم عليهالسلام لما أخرج من النار أحضره النمرود وكلمه ثم ختم الله عليه
بالكفر فلج وقال لإبراهيم في بعض قوله يا إبراهيم أين جنود ربك الذي تزعم ، فقال
له سيريك فعل أضعف جنوده ، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض ،
فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضا ، ودخلت منها بعوضة في رأس
نمرود فكان رأسه يضرب بالعيدان ودام يعذبه بها زمانا طويلا وهلك منها وخرج إبراهيم
عليهالسلام وابن أخيه لوط من تلك الأرض مهاجرين وهي كوثا من العراق
ومع إبراهيم ابنة عمه سارة زوجته ، وفي تلك السفرة لقي الجبار الذي رام أخذها منه
واختلف الناس في (الْأَرْضِ) التي بورك فيها ولجأ إليها إبراهيم ولوط عليهماالسلام ، فقالت فرقة هي مكة وذكروا قول الله تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦]
وقال الجمهور من أرض الشام وهي الأرض التي بارك فيها أما من جهة الآخرة فبالنبوءة
وأما من جهة الدنيا ففي أطيب بلاد الله أرضا وأعذبها ماء وأكثرها ثمرة ونعمة وهو
الموضع المعروف بسكنى إبراهيم وعقبه.
وروي أنه ليس في
الأرض ماء عذب إلا وأصله وخروجه من تحت صخرة بيت المقدس ع وهذا ضعيف وهي أرض
المحشر وبها مجمع الناس وبها ينزل عيسى ابن مريم وبها يهلك المسيح الدجال.
وروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال يوما في خطبته : إنه كان بالشام جند وبالعراق جند
وباليمن جند فقال رجل يا رسول الله خر لي فقال عليك بالشام فإن الله تعالى قد تكفل
لي بالشام وأهله فمن بقي فليلحق مأمنه وليس بعدره ، وقال عمر لكعب الأحبار ألا
تتحول إلى المدينة ، فقال يا أمير المؤمنين إني أجد في كتاب الله تعالى المنزل أن
الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
وروي أن إبراهيم
ولوطا هاجرا من كوثا ومرا بمصر وليست بالطريق ولكنهم نكبوا خوف الإتباع حتى جاؤوا
الشام فنزل إبراهيم السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ونزل لوط بالمؤتفكة ، و (إِسْحاقَ) بن إبراهيم و (يَعْقُوبَ) ولد إسحاق و «النافلة» العطية كما تقول نفلني الإمام كذا
ونافلة الطاعة كأنها عطية من الله تعالى لعباده يثيبهم عليها ، وقالت فرقة الموهوب
(إِسْحاقَ) و «النافلة» (يَعْقُوبَ) والأول أبين ، و (يَهْدُونَ) معناه يرشدون غيرهم و «الإقام» مصدر وفي هذا نظر.
قوله عزوجل :
(وَلُوطاً آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ
الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤)
وَأَدْخَلْناهُ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
وَنُوحاً
إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)
(٧٧)
التقدير وآتينا
لوطا (آتَيْناهُ) فهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر ، و «الحكم» فصل
القضاء بين الناس ، و (الْخَبائِثَ) إتيان الرجال وضراطهم في مجالسهم إلى غير ذلك من كفرهم ،
وقوله تعالى في نوح (مِنْ قَبْلُ) بالإضافة إلى إبراهيم ولوط ، و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الغرق وما نال قومه من الهلكة بدعائه عليهم الذي استجيب ،
وقوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ) لما كان جل نصرته النجاة وكانت غلبة قومه بغير يديه بل
بأمر أجنبي منه حسن أن يكون «نصرناه من» ولا يتمكن هنا «على» كما يتمكن في أمر محمد
صلىاللهعليهوسلم ، مع قومه ع وذكر هؤلاء الأنبياء عليهمالسلام ضرب مثل لقصة محمد صلىاللهعليهوسلم ، مع قومه ونجاة الأنبياء وهلاك مكذبيهم ضمنها توعد للكفار
من قريش.
قوله عزوجل :
(وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ(٧٨)
فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)
(٧٩)
المعنى «واذكر
داود وسليمان» هكذا قدره جماعة من المفسرين.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل عندي ويقوى أن يكون المعنى وآتينا داود عطفا على قوله تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٤]
والمعنى على هذا التأويل متسق ، (وَسُلَيْمانَ) هو ابن داود (وَداوُدَ) من بني إسرائيل وكان ملكا عدلا نبيا يحكم بين الناس فوقعت
بين يديه هذه النازلة ، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج
منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود على باب آخر
فتخاصم إلى داود عليهالسلام رجل له زرع وقيل كرم ع و (الْحَرْثِ) يقال فيهما وهو في الزرع أبعد عن الاستعارة ، دخلت حرثه
غنم رجل آخر فأفسدت عليه ، فرأى داود عليهالسلام أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فقالت فرقة على أن يبقى
كرمه بيده ، وقالت فرقة بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث ، والحرث إلى صاحب الغنم ع
فيشبه على هذا القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت ، وعلى القول
الثاني رآها تقاوم الحرث وغلته ع ولا يظن بداود عليهالسلام إلا أن حكمه بنظر متوجه فلما خرج الخصمان على سليمان عليهالسلام تشكى له صاحب الغنم فجاء سليمان إلى داود فقال يا نبي الله
إنك حكمت بكذا وإني رأيت ما هو أوفق بالجميع ، قال وما هو ، قال أن يأخذ صاحب
الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك
المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله صرف
كل واحد مال صاحبه فرجعت الغنم إلى ربها ، والحرث إلى ربه ، فقال داود. وفقت يا
بني وقضى بينهما بذلك. ع ولا شك أن سليمان رأى أن ما يتحمله صاحب الغنم من فقد
مرافق غنمه تلك المدة ومن مؤونة إصلاح الحرث يوازي ما فسد في الحرث وفضل حكمه حكم
أبيه في أنه أحرز أن يبقى ملك كل واحد منهما على متاعه وتبقى نفسه بذلك طيبة ع
وذهبت فرقة إلى أن هذه النازلة لم يكن الحكم فيها باجتهاد وإنما حكم داود بوحي
وحكم سليمان بوحي نسخ الله تعالى به حكم داود وجعلت فرقة ومنها ابن فورك ، قوله
تعالى : (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله تعالى أن
يستقر في النازلة ع وتحتاج هذه الفرقة في هذا اللفظة إلى هذا التعب ويبقى لها
المعنى بعد قلقا ، وقال جمهور الأمة إن حكمهما كان باجتهاد ، وأدخل العلماء هذه
الآية في كتبهم على مسألة اجتهاد العالمين فينبغي أن نذكر هنا تلخيص مسألة
الاجتهاد ، اختلف أهل السنة في العالمين فما زاد يفتيان من الفروع والأحكام في
المسألة فيختلفان ، فقالت فرقة الحق في مسائل الفروع في طرف واحد عند الله تعالى
وقد نصب على ذلك أدلة وحمل المجتهدين على البحث عنها والنظر فيها ، فمن صادف العين
المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق وله أجران أجر في الاجتهاد وأجر في
الإصابة ، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده ، مخطئ في أن لم يصب العين فله أجر
وهو غير معذور ، وهذا هو الذي قال النبي صلىاللهعليهوسلم فيه «إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر» وكذلك أيضا يدخل في
قوله عليهالسلام «إذا اجتهد العالم
فأخطأ» ، العالم يجتهد فيخالف نصا يمر به كقول سعيد بن المسيب في النكاح إنه العقد
في مسألة التحليل للزوج المطلق ونحوه وهذا يجمع بين قوله «إذا اجتهد العالم فأخطأ»
وبين قوله «كل مجتهد مصيب» أي أخطأ العين المطلوب وأصاب في اجتهاده ، ورأت هذه
الفرقة أن العالم المخطئ لا إثم عليه في خطئه وإن كان غير معذور ، وقالت فرقة الحق
في طرف واحد ، ولم ينصب الله تعالى عليه دليلا ، بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين
فمن أصابه ، أصابه ومن أخطأ فهو معذور ومأجور ، ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبد
بالاجتهاد فقط ، وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه الحق في مسائل
الفروع في الطرفين وكل مجتهد مصيب والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه والدليل على هذه
المقالة ممن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله
دون مخالف قوله ، ومنه رد مالك رحمهالله للمنصور عن حمل الناس على الموطأ إلى كثير من هذا
المعنى ، وإذا قال
عالم في أمر ما حلال فذلك هو الحق فيما يخص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من
أخذ بقوله ، فأما من قال إن الحق في طرف فرأى مسألة داود وسليمان مطردة على قوله
وأن سليمان صادف العين المطلوبة وهي التي فهم ، ومن رأى الحق في الطرفين رأى أن
سليمان عليهالسلام فهم القضية المثلى والتي هي أرجح ، لا أن الأولى خطأ وعلى
هذا يحملون قول النبي صلىاللهعليهوسلم ، «إذا اجتهد العالم فأخطأ» أي فأخطأ الأفضل ع وكثير ما
يكون بين الأقوال في هذه المسائل قليل تباين إلا أن ذلك الشفوف يشرف القول ،
وكثيرا ما يبين الفضل بين القولين بأدنى نظر ومسائل الفروع تخالف مسائل الأصول في
هذا ومسألة المجتهدين في نفسها مسألة أصل ، والفرق بين مسائل الفروع ومسائل الأصول
أن مسائل الأصول الكلام فيها إنما هو في وجود شيء ما كيف هو كقولنا يرى الله تعالى
يوم القيامة ، وقالت المعتزلة لا يرى ، وكقولنا الله واحد ، وقالت النصارى ثلاثة ،
وهكذا هل للمسائل عين أو ليس لها عين مطلوبة.
ومسائل الفروع
إنما الكلام فيها على شيء متقرر الوجود كيف حكمه من تحليل أو تحريم ونحو هذا ،
والأحكام خارجة عن ذات وجوده وإنما هي بمقاييس واستدلالات ، وتعتبر مسائل الفروع
بأنها كل ما يمكن أن ينسخ بعضه ببعض ومسائل الأصول ما لو تقرر الوجه الواحد لم يصح
أن يطرأ الآخر ناسخا عليه.
قال القاضي أبو
محمد : ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة إلا أن هذه النبذة تليق بالآية ويقتضيها
حرصنا على الإيجاز ، ويتعلق بالآية فصل آخر لا بد من ذكره وهو رجوع الحاكم بعد
قضاء من اجتهاد إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول ، فإن داود عليهالسلام ، فعل ذلك في هذه النازلة ، واختلف فقهاء المذهب المالكي
في القاضي يحكم في قضية ثم يرى بعد ذلك أن غير ما حكم به أصوب فيريد أن ينقض الأول
ويقضي بالثاني ، فقال عبد الملك ومطرف في الواضحة ذلك له ما دام في ولايته ، فأما
إن كانت ولاية أخرى فليس ذلك له وهو بمنزلة غيره من القضاة ، وهذا هو ظاهر قول
مالك رحمهالله في المدونة ، وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى
غيره مما رآه أصوب ليس ذلك له وقاله ابن عبد الحكم قالا ويستأنف الحكم بما قوي
عنده أحرى من ذي قبل ، قال سحنون إلا أن يكون نسي الأقوى عنده أو وهم فحكم بغيره
فله نقضه ، وأما إن حكم بحكم وهو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوي عنده غيره بعد
ذلك فلا سبيل له إلى نقض الأول ، قال سحنون في كتاب ابنه وقال أشهب في كتاب ابن
المواز إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول وإن كان في طلاق أو نكاح أو
عتق فليس له نقضه ، وقد تقدم القول في (الْحَرْثِ) روت فرقة أنه كان زرعا وروت فرقة أنه كان كرما. و «النفش»
تسرب البهائم في الزرع وغيرها بالليل والهمل تسربها في ذلك بالنهار والليل ، قال
ابن سيده لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل ومضى الحكم في الإسلام بتضمين
أرباب النعم ما أفسدت بالليل لأن على أهلها أن يثقفوها وعلى أهل الزرع وغيرهم
حفظها بالنهار هذا هو مقتضى الحديث في ناقة البراء بن عازب وهو مذهب مالك وجمهور
الأمة ، ووقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان
محدقة ، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة وبساتين كذلك فيضمن أرباب الغنم
ما أفسدت من ليل أو نهار ع كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد
بعيد لأنها ولا بد تفسد وقال أبو حنيفة في ذلك لا ضمان وأدخله في
عموم قول النبي صلىاللهعليهوسلم جرح العجماء جبار فقاس جميع أفعالها على جرحها. وقوله
تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) تأول قوم منهم أن داود لم يخطىء في هذه النازلة بل فيها
أوتي الحكم ، والعلم ، وقالت فرقة بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه مدحه الله
تعالى بأن له (حُكْماً وَعِلْماً) يرجع إليه في غير هذه النازلة ، وقوله (وَكُنَّا فاعِلِينَ) مبالغة في الخير وتحقيق له ، وفي اللفظ معنى ، وكان ذلك في
حقه وعند مستوجبه منا فكأنه قال (وَكُنَّا فاعِلِينَ) لأجل استجابة ذلك ، وحذف اختصارا لدلالة ظاهر القول عليه
على ما حذف منه. وقوله تعالى : (لِحُكْمِهِمْ) يريد «داود سليمان» والخصمين لأن الحكم يضاف إلى جميعهم
وإن اختلفت جهات الإضافة. وقرأت فرقة «لحكمهما» واختلف الناس في قوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ) فذهبت فرقة وهي الأكثر إلى أنه قول سبحان الله وذهبت فرقة
، منها منذر بن سعيد إلى أنه بمعنى يصلين معه بصلاته.
قوله عزوجل :
(وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ)
(٨١)
عدد الله تعالى
على البشر أن علم داود (صَنْعَةَ) الدروع فكان يصنعها أحكم صنعة لتكون وقاية من الحرب وسبب
نجاة من العدو ، و «اللبوس» في اللغة السلاح فمنه الدرع والسيف والرمح وغير ذلك
ومنه قول الشاعر [عامر بن الحليس] : [الكامل]
ومعي لبوس
للبئيس كأنه
|
|
روق بجبهة ذي
لقاح مجفل
|
يعني الرمح. وقرأ
نافع والجمهور «ليحصنكم» بالياء على معنى ليحصنكم داود واللبوس ، وقرأ ابن عامر
وحفص عن عاصم «لتحصنكم» بالتاء على معنى الصنعة أو الدروع التي أوقع عليها اللبوس
، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لنحصنكم» على معنى رد الفعل إلى الله تعالى ، ويروى أنه
كان الناس قبل تتخذ القوي لباسا من صفائح الحديد فكان ثقله يقطع بأكثر الناس ،
وقرأت فرقة «الريح» بالنصب على معنى وسخرنا لسليمان الريح ، وقرأت فرقة «الريح»
بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور قبله ، ويروى أن الريح العاصفة تهب على
سرير سليمان الذي فيه بساطه وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صنع سرير يحمل
جميع عسكره وأقواته ، فتقله من الأرض في الهواء ، ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك
، فتحمله إلى حيث أراد سليمان. وقوله تعالى : (إِلى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) اختلف الناس فيها ، فقالت فرقة هي أرض الشام وكانت مسكنه
وموضع ملكه ، وخصص في هذه الآية انصرافه في سفراته إلى أرضه لأن ذلك يقتضي سيره
إلى المواضع التي سافر إليها ، و «البركة» في أرض الشام بينة الوجوه ، وقال بعضهم
إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب في الإسراع إلى الوطن والرخاء
كانت في البداءة ، حيث أصاب ، أي حيث يقصده بأن ذلك وقت تأن وتدبير وتقلب رأي ،
وقال منذر بن سعيد في الآية تقديم وتأخير والكلام تام عند قوله (إِلى الْأَرْضِ) ، وقوله (الَّتِي بارَكْنا
فِيها) صفة ل (الرِّيحَ) ع ويحتمل أن يريد
الأرض التي يسير
إليها سليمان عليهالسلام كائنة ما كانت ، وذلك أنه لم يكن يسير إلى أرض إلا أصلحها
وقتل كفارها وأثبت فيها الإيمان وبث فيها العدل. ولا بركة أعظم من هذا ، فكأنه قال
إلى أي أرض باركنا فيها بعثنا سليمان إليها.
قوله عزوجل :
(وَمِنَ الشَّياطِينِ
مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)
فَاسْتَجَبْنا
لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)
(٨٤)
يحتمل أن يكون
قوله تعالى : (يَغُوصُونَ) في موضع نصب على معنى وسخرنا ، ويحتمل أن يكون في موضع رفع
على الابتداء ، ويتناسب هذا مع القراءتين المتقدمتين في قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [سبأ : ١٢] بالنصب
والرفع وقوله تعالى : (يَغُوصُونَ) جمع على معنى (مِنَ) لا على لفظها. و «الغوص» الدخول في الماء والأرض والعمل
دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوه ، وقوله تعالى : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) قيل معناه من إفسادهم ما صنعوه فإنهم كان لهم حرص على ذلك
لو لا ما حال الله تعالى : «بينهم وبين ذلك» ، وقيل معناه عادين وحاصرين أي لا يشذ
عن علمنا وتسخيرنا أحد منهم وقوله : (وَأَيُّوبَ) أحسن ما فيه النصب بفعل مضمر تقديره واذكر أيوب ، وفي قصص
أيوب عليهالسلام طول واختلاف من المفسرين ، وتلخيص ذلك أنه روي أن أيوب عليهالسلام ، كان نبيا مبعوثا إلى قوم ، وكان كثير المال من الإبل
والبقر والغنم ، وكان صاحب البثنية من أرض الشام يغمر كذلك مدة ، ثم إن الله تعالى
، لما أراد محنته وابتلاءه ، أذن لإبليس في أن يفسد ماله ، فاستعان بذريته فأحرقوا
ماله ونعمه أجمع ، فكان كلما أخبر بشيء من ذلك حمد الله تعالى وقال هي عارية
استردها صاحبها والمنعم بها ، فلما رأى إبليس ذلك جاء فأخبر بعجزه عنه ، وأذن الله
له في إهلاكه بنيه وقرابته ففعل ذلك أجمع ، فدام أيوب على شكره وصبره ، فأخبره
إبليس بعجزه ، فأذن الله له في إصابته في بدنه وحجر عليه لسانه وعينيه وقلبه ،
فجاءه إبليس وهو ساجد ، فنفخ في أنفه نفخة احترق بدنه منها وجعلها الله تعالى أكلة
في بدنه ، فلما عظمت وتقطع أخرجه الناس من بينهم وجعلوه على سباطة ولم يبق معه بشر
حاشى زوجته ، ويقال كانت بنت يوسف الصديق ، وقيل اسمها رحمة ، وقيل في أيوب إنه من
بني إسرائيل ، وقيل من الروم من قرية عيصو ، فكانت زوجته تسعى عليه وتأتيه يأكل
وتقوم عليه ، فدام في هذا العذاب مدة طويلة قيل ثلاثين سنة ، وقيل ثماني عشرة ،
وقيل اثنتي عشرة ، وقيل تسعة أعوام ، وقيل ثلاثة ، وهو في كل ذلك صابر شاكر ، حتى
جاءه فيما روي ثلاثة ممن كان آمن به فوقذوه بالقول وأنبوه ونجهوه. وقالوا ما صنع
بك ربك هذا إلا لخبث باطنة فيك ، فراجعهم أيوب في آخر قولهم بكلام مقتضاه أنه ذليل
لا يقدر على إقامة حجة ولا بيان ظلامة ، فخاطبه الله تعالى معاتبا على هذه المقالة
ومبينا أنه لا حجة لأحد مع الله ولا يسأل عما يفعل ثم عرفه تعالى بأنه قد أذن في
صلاح حاله وعاد عليه بفضله ، فدعا أيوب عند ذلك فاستجيب له ، ويروى أن أيوب لم يزل
صابرا لا يدعو في
كشف ما به ، وكان فيما روي تقع منه الدود فيردها بيده ، حتى مر به قوم كانوا
يعادونه فشمتوا به ، فتألم لذلك ودعا حينئذ فاستجيب له ، وكانت امرأته غائبة عنه
في بعض شأنها فأنبع الله تعالى له عينا وأمر بالشرب منها فبرىء باطنه ، وأمر
بالاغتسال فبرىء ظاهره ، ورد إلى أفضل جماله ، وأتي بأحسن الثياب ، وهب عليه رجل
من جراد من ذهب فجعل يحثي منها في ثوبه فناداه الله تعالى يا أيوب ألم أغنيتك عن
هذا ، قال بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك ، فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته فلم
تره على السباطة فجزعت وظنت أنه أزيل عنها ، وجعلت تتوله فقال لها ما شأنك أيتها
المرأة فهابته لحسن هيئته ، وقالت إني فقدت مريضا كان لي في هذا الموضع ومعالم
المكان قد تغيرت ، وتأملته في أثناء المقاولة ، فرأت أيوب ، فقالت له أنت أيوب ،
فقال لها نعم واعتنقها وبكى فروي أنه لم يفارقها حتى أراه الله تعالى جميع ماله
حاضرا بين يديه ، واختلف الناس في أهله وولده بأعيانهم وجعل مثلهم له عدة في
الآخرة ، وقيل بل أتى جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال وقوله تعالى : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي وتذكرة وموعظة للمؤمنين ، ولا يعبد الله تعالى إلا مؤمن
والذكرى إنما هي في محنته والرحمة في زوال ذلك ، وقوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) تقديره «بأني مسني» فحذف الجار وبقيت (أَنِّي) في موضع نصب ، وروي أن سبب محنة أيوب أنه دخل مع قوم على
ملك جار عليهم فأغلظ له القوم ولين له أيوب القول خوفا منه على ماله ، فعاقبه الله
تعالى على ذلك ، وروي أنه كان يقال له ما لك لا تدعو في العافية فكان يقول إني
لأستحيي من الله تعالى أن أسأله زوال عذابه حتى يمر علي فيه ما مر من الرخاء ،
وأصابه البلاء فيما روي وهو ابن ثمانين سنة.
قوله عزوجل :
(وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
وَأَدْخَلْناهُمْ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)
(٨٦)
المعنى واذكر
إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل وهو أبو العرب المعروفين اليوم في قول
بعضهم (وَإِدْرِيسَ) هو خنوخ وهو أول نبي بعثه الله تعالى من بني آدم وروي أنه
كان خياطا وكان يسبح الله تعالى عند إدخال الإبرة ويحمده عند إخراجها و «ذو الكفل»
كان نبيا.
وروي أنه بعث إلى
رجل واحد وقيل لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا ، وروي أن أليسع جمع بني
إسرائيل فقال من يتكفل لي بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب وأوليه النظر
للعباد بعدي ، فقام إليه شاب فقال أنا لك بذلك فراجعه ثلاثا في كل ذلك يقول أنا لك
بذلك فاستعمله ، فلما مات أليسع قام بالأمر فجاء إبليس ليغضبه وكان لا ينام إلا في
القائلة فكان يأتيه وقت القائلة أياما فيوقظه ويشتكي ظلامته ويقصد تضييق صدره فلم
يضق به صدرا ومضى معه لينصفه بنفسه فلما رأى إبليس ذلك غلس عنه وكفاه الله شره
فسمي (ذَا الْكِفْلِ) لأنه تكفل بأمر فوفى به وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
فَاسْتَجَبْنا
لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)
التقدير واذكر «ذا
النون» ، والنون الحوت وصاحبه يونس بن متّى عليهالسلام ، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها
في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب» ، وفي حديث آخر
«لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ، وهذا الحديث وقوله «لا تفضلوني
على موسى» يتوهم أنهما يعارضان قوله عليهالسلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». والانفصال عن هذا
بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم» متأخرا في التاريخ
وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر ، والوجه
الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليهالسلام ، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب
التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك
اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان ، وسبب الحديث يقتضي هذا ، وذلك أن يهوديا قال لا
والذي فضل موسى على العالمين ، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليهالسلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما
وقع له ، فنهيه عليهالسلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا
بين الأنبياء». وهذا كله مع قوله «أنا سيد ولد آدم» وإطلاق الفضل له دون اقتران
بأحد ، بيّن صحيح وتأمل هذا ، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح
ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض.
قال القاضي أبو
محمد : ولفظة سيد ولفظة خير شيئان ، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن
من التعارض ، وقوله (مُغاضِباً) قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا
بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة
هذا الأمر ، وروي أنه كان شابا فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ
الربع تحت الحمل ولهذا قيل للنبي صلىاللهعليهوسلم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الْحُوتِ) [القلم : ٤٨] أي
اصبر ودم على الشقاء بقومك ، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا
نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليهالسلام ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب (مُغاضِباً) ربه واستفزه إبليس ، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه
أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا ، فأخبرهم
يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال ، فلما كان سحر
ذلك اليوم قام يونس فرحل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز ، وفرقوا بين
صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا ، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في
موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذبا وقال والله
لا انصرفت
إليهم أبدا. وروي
أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة
في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي ، واختلف
الناس في قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فقالت فرقة استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر
الله عليه بمعاقبة ع وهذا قول مردود ، وقالت فرقة ظن أن لن يضيق عليه في مذهبه من
قوله تعالى : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء : ٣٠] ،
وقالت فرقة هو من القدر ، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة ، وقالت فرقة الكلام
بمعنى الاستفهام ، أي أفظن أن لن يقدر الله عليه ، وحكى منذر بن سعيد أن بعضهم قرأ
«أفظن» بالألف ، وقرأ الزهري «تقدّر» بضم النون وفتح القاف وشد الدال ، وقرأ الحسن
«يقدر» وعنه أيضا «نقدر» ، وبعد هذا الكلام حذف كثير اقتضب لبيانه في غير هذه
الآية ، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه ، واختلف
الناس في جمع (الظُّلُماتِ) ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة
الحوت ، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس ع
ويصح أن يعبر ب (الظُّلُماتِ) عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب وفي كل
جهاته ظلمة فجمعها سائغ ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في
قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجدا في موضع لم يتخذه أحد
قبلي» و (أَنْ) مفسرة نحو قوله تعالى (أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] وفي هذا
نظر وقوله تعالى : (مِنَ الظَّالِمِينَ) يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا
أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره فاستجاب الله تعالى له وأخرجه إلى البر ، ووصف هذا
يأتي في موضعه ، و (الْغَمِ) ما كان ناله حين التقمه الحوت ، وقرأ جمهور القراء «ننجي»
بنونين الثانية ساكنة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «نجي» بنون واحدة مضمومة وشد
الجيم ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأت فرقة «ننجّي» بنونين الأولى مضمومة والثانية
مفتوحة والجيم مشددة ، فأما القراءة الأولى والثالثة فبينتان الأولى فعلها معدى
بالهمزة والأخرى بالتضعيف ، وأما القراءة الوسطى التي هي بنون واحدة مضمومة وجيم
مشددة وياء ساكنة فقال أبو علي لا وجه لها وإنما هي وهم من السامع ، وذلك أن عاصما
قرأ «ننجي» والنون الثانية لا يجوز إظهارها لأنها تخفى مع هذه الحروف يعني الجيم
وما جرى مجراها فجاء الإخفاء يشبهها بالإدغام ، ويمتنع أن يكون الأصل «ننجي» ثم
يدعو اجتماع النونين إلى إدغام إحداهما في الجيم لأن اجتماع المثلين إنما يدعو إلى
ذلك إذا كانت الحركة فيهما متفقة ، ويمتنع أن يكون الأصل «نجي» وتسكن الياء ويكون
المفعول الذي لم يسم فاعله المصدر كأنه قال «نجي» النجاء المؤمنين لأن هذه لا تجيء
إلا في ضرورة فليست في كتاب الله والشاهد فيها قول الشاعر : [الوافر]
ولو ولدت قفيزة
جرو كلب
|
|
لسب بذلك الجرو
الكلابا
|
وأيضا فإن الفعل
الذي يبنى للمفعول إذا كان ماضيا لم يسكن آخره ع والمصاحف فيها نون واحدة كتبت
كذلك من حيث النون الثانية مخفية.
قوله عزوجل :
(وَزَكَرِيَّا إِذْ
نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)
فَاسْتَجَبْنا
لَهُ وَوَهَبْنا
لَهُ
يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)
(٩٠)
تقدم أمر زكرياء عليهالسلام في سورة مريم ، وإصلاح الزوجة قيل بأن جعلها ممن تحمل وهي
عاقر قاعد فحاضت وحملت وهذا هو الذي يشبه الآية وقيل بأن أزيل بذاء كان في لسانها
ع وهذا ضعيف وعموم اللفظ يتناول جميع وجوه الإصلاح ، وقرأت فرقة «يدعوننا» ، وقرأت
فرقة «يدعونا» ، وقرأت فرقة «رغبا» بفتح الراء والغين «ورهبا» كذلك ، وقرأت فرقة
بضم الراء فيهما وسكون الغين والهاء ، وقرأت فرقة بفتح الراء وسكون الغين والهاء ،
والمعنى أنهم يدعون في وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ، ورهبة وخوف في حال واحدة
لأن الرغبة والرهبة متلازمان ، وقال بعض الناس الرغب أن ترفع بطون الأكف نحو
السماء والرهب أن ترفع ظهورها ع وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر أن يستعين
بيديه ، فالرغب من حيث هو طلب يحسن معه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه إذ هي
موضع الإعطاء وبها يتملك ، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك والإشارة
إلى إذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه و «الخشوع» التذلل بالبدن المتركب على التذلل
بالقلب.
قوله عزوجل :
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
(٩٥)
المعنى واذكر (الَّتِي أَحْصَنَتْ) وهي مريم بنت عمران أم عيسى ، و «الفرج» فيما قال الجمهور
وهو ظاهر القرآن الجارحة المعروفة وفي إحصانها هو المدح ، وقالت فرقة الفرج هنا هو
فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك وهذا ضعيف ، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من
العلماء إنما نفخ في جيب درعها وأخاف الروح إضافة الملك إلى المالك ، (وَابْنَها) هو عيسى ابن مريم عليهالسلام ، وأراد تعالى أنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها
إلى آخرها (آيَةً) لمن اعتبر ذلك ، و (لِلْعالَمِينَ) يريد لمن عاصره فيما بعد ذلك ، وقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) يحتمل الكلام أن يكون منقطعا خطابا لمعاصري محمد صلىاللهعليهوسلم ثم أخبر عن الناس أنهم تقطعوا ثم وعد وأوعد ، ويحتمل أن
يكون متصلا أي جعلنا مريم (وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) بأن بعث لهم بملة وكتاب وقيل لهم (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي دعي الجميع إلى الإيمان بالله تعالى وعبادته ، ثم أخبر
تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا وتقطعوا أمرهم ثم فرق بين المحسن والمسيء فذكر المحسن
بالوعد أي (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فهو بنعيمه مجازى وذكر المسيء في
قوله ، (وَحَرامٌ) إلى آخر الآية فتأمل الوعيد فيها على كل قول تذكرة فإنه
بين ، و «الكفران» مصدر كالكفر ومنه قول الشاعر : [الطويل]
رأيت أناسا لا
تنام جدودهم
|
|
وجدي ولا كفران
لله نائم
|
واختلف القراء في
قوله تعالى (وَحَرامٌ) ، فقرأ عكرمة وغيره «وحرم» بفتح الحاء وكسر الراء ، وقرأ
جمهور السبعة و «حرام» ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، و «حرم» بكسر الحاء
وسكون الراء ، وقرأ ابن العباس بخلاف عنه «وحرم» بفتح الحاء وسكون الراء ، وقرأت
فرقة «وحرّم» بفتح الحاء وشد الراء ، وقرأت فرقة «وحرّم» بضم الحاء وكسر وشدها ،
وقرأ قتادة ومطر الوارق «وحرم» بفتح الحاء وضم الراء ، والمستفيض من هذه القراءات
قراءة من قرأ و «حرم» ، وقراءة من قرأ و «حرام» وهما مصدران بمعنى نحو الحل
والحلال ، فأما معنى الآية فقالت فرقة «حرام وحرم» معناه جزم وحتم فالمعنى وحتم (عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ
لا يَرْجِعُونَ) إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون بل هم صائرون إلى العقاب ،
وقال بعض هذه الفرقة الإهلاك هو بالطبع على القلوب ونحوه والرجوع هو إلى التوبة
والإيمان ، وقالت فرقة المعنى (وَحَرامٌ) أي ممتنع ، و «حرم» كذلك ، (عَلى قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وقالوا (لا) زائدة في الكلام واختلفوا في الإهلاك والرجوع بحسب القولين
المذكورين ، قال أبو علي يحتمل أن يرتفع «حرام» بالابتداء والخبر رجوعهم و (لا) زائدة ، ويحتمل أن يرتفع «حرام» على خبر الابتداء كأنه قال
والإقالة والتوبة «حرام» ثم يكون التقدير «بأنهم لا يرجعون» فتكون (لا) على بابها كأنه قال هذا عليهم ممتنع بسبب كذا فالتحريم في
الآية بالجملة ليس كتحريم الشرع الذي إن شاء المنهي ركبه.
قال القاضي أبو
محمد : ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بيّن وذلك أنه ذكر من عمل صالحا وهو مؤمن ثم
عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ولا يرجعون إلى
معاد فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء أي وممتنع
على الكفرة المهلكين أن لا يرجعون بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه فتكون (لا) على بابها والحرام على بابه وكذلك الحرم فتأمله.
قوله عزوجل :
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا
قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)
(٩٧)
تحتمل (حَتَّى) في هذه الآية أن تكون متعلقة بقوله (وَتَقَطَّعُوا) [الأنبياء : ٩٣]
وتحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق ب (يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥]
وتحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب (إِذا) لأنها تقتضي جوابا وهو المقصود ذكره ، واختلف هنا في
الجواب ، فقالت فرقة الجواب قوله (اقْتَرَبَ الْوَعْدُ)
والواو زائدة ،
وقالت فرقة منها الزجاج وغيره الجواب في قوله (يا وَيْلَنا) التقدير قالوا (يا وَيْلَنا) وليست الواو بزائدة ، والذي أقول إن الجواب في قوله (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره لأنه رجوعهم الذي كانوا
يكذبون به وحرم عليهم امتناعه ، وقرأ الجمهور «فتحت» بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عامر
وحده «فتحت» بتثقيلها ، وروي أن يأجوج ومأجوج يشرفون في كل يوم على الفتح فيقولون
غدا نفتح ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى فإذا كان غدا وجدوا الردم كأوله حتى
إذا أذن الله تعالى في فتحه قال قائلهم غدا نفتحه إن شاء الله فيجدونه كما تركوه
قريب الانفتاح فيفتحونه حينئذ ، وقرأ عاصم وحده (يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ) بالهمز ، وقرأ الجمهور بالتسهيل ، وقد تقدم في سورة الكهف
توجيه ذلك وكثير من حال (يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ) فغنيناها هنا عن إعادة ذلك. و «الحدب» كل متسنم من الأرض
كالجبل والظرب والكدية والقبر ونحوه. وقالت فرقة المراد بقوله ، (وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) لأنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويعمون الأرض وذلك أنهم من
الكثرة بحيث قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، «يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم أخرج بعث النار من ذريتك
فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» قال ففزع الناس فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، «إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل» ويروى أن الرجل
منهم لا يموت حتى يولد له ألف بين رجل وامرأة وقالت فرقة المراد بقوله (وَهُمْ) جميع العالم وإنما هو تعريف بالبعث من القبور وقرأ ابن
مسعود «من كل جدث» وهذه القراءة تؤيد هذا التأويل و (يَنْسِلُونَ) معناه يسرعون في تطامن ومنه قول الشاعر : [الرمل]
عسلان الذئب
أمسى قاربا
|
|
برد الليل عليه
فنسل
|
وقرأت فرقة بكسر
السين ، وقرأت بضمها ، وأسند الطبري عن أبي سعيد قال يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون
أحدا إلا قتلوه إلا أهل الحصون فيمرون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول كان هنا
مرة ما ، قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر أعناقهم فيقول أهل الحصون لقد هلك
أعداء الله فيدلون رجلا ينظر فيجدهم قد هلكوا قال فينزل الله تعالى من السماء ماء
فيقذف بهم في البحر فيطهر الأرض منهم ، وفي حديث حذيفة نحو هذا وفي آخره قال وعند
ذلك طلوع الشمس من مغربها ، وروي أن ابن عباس رأى صبيانا يلعبون وينزوا بعضهم على
بعض فقال هكذا خروج يأجوج ومأجوج.
وقوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) يريد يوم القيامة ، وروي في الحديث «أن الرجل ليتخذ الفلو
بعد يأجوج ومأجوج فلا يبلغ منفعته حتى تقوم الساعة» ، وقوله تعالى : (هِيَ) ، مذهب سيبويه أنها ضمير القصة كأنه قال فإذا القصة أو
الحادثة (شاخِصَةٌ أَبْصارُ) وجوز الفراء أن تكون ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام
ويجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك : [الطويل]
فلا وأبيها لا
تقول حليلتي
|
|
ألا فرّعني مالك
بن أبي كعب
|
والشخوص بالعين
إحداد النظر دون أن يطرف ، وذلك يعتري من الخوف المفرط أو علة أو نحوه ، وقوله : (يا وَيْلَنا) تقديره يا ويلنا لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا الآن وتبينا
الآن من الحقائق ثم تركوا الكلام الأول ورجعوا إلى نقد ما كان يداخلهم من تعهد
الكفر وقصد الإعراض فقالوا (بَلْ كُنَّا
ظالِمِينَ).
قوله عزوجل :
(إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)
لَوْ
كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ)
(٩٩)
هذه مخاطبة لكفار
مكة أي إنكم وأصنامكم (حَصَبُ جَهَنَّمَ) والحصب ما توقد به النار ، إما لأنها تحصب به أي ترمى وإما
أن تكون لغة في الحطب إذا رمي وأما قبل أن يرمى به فلا يسمى حصبا إلا بتجوز ، وقرأ
الجمهور «حصب» بالصاد مفتوحة ، وسكنها ابن السميفع وذلك على إيقاع المصدر موقع اسم
المفعول ، وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعائشة وابن الزبير «حطب جهنم» بالطاء
، وقرأ ابن عباس «حضب» جهنم بالضاد منقوطة مفتوحة وسكنها كثير غيره ، والحضب أيضا
ما يرمى به في النار لتوقد به والمحضب العود الذي تحرك به النار أو الحديدة أو
نحوه ومنه قول الأعشى : [المتقارب]
فلا تك في حربنا
محضبا
|
|
لتجعل قومك شتى
شعوبا
|
وقوله (وَما تَعْبُدُونَ) يريد الأصنام وحرقها في النار على جهة التوبيخ لعابدها ومن
حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع اعترض في هذه الآية عبد الله بن الزبعرى على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فقال إن عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدوا من دون الله فيلزم
أن يكونوا حصبا لجهنم فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ) [الأنبياء : ١٠١]
ثم قرر الأمر بالإشارة إلى الأصنام التي أرادها في قوله (ما تَعْبُدُونَ) ، فقال (لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً) وعبر عن الأصنام ب (هؤُلاءِ) من حيث هي عندهم بحال من يعقل ، و «الورود» في هذه الآية
ورود الدخول.
قوله عزوجل :
(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
لا
يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
(١٠٣)
الضمير في (لَهُمْ) عائد على من يعقل ممن توعد ، و «الزفير» صوت المعذب وهو
كنهيق الحمير ، وشبهه إلا أنه من الصدر ، وقوله : (لا يَسْمَعُونَ) قالت فرقة معناه لا يسمعون خيرا ولا سارا من القول ، وقالت
فرقة إن عذابهم أن يجعلوا في توابيت في داخل توابيت أخرى فيصيرون هنالك لا يسمعون
شيئا ولما اعترض ابن الزبعرى بأمر عيسى ابن مريم وعزير نزلت (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) مبينة أن هؤلاء ليسوا تحت المراد لأنهم لم يرضوا ذلك ولا
دعوا إليه ، و (الْحُسْنى) يريد كلمة الرحمة والحتم بالتفضيل ، و «الحسيس» الصوت وهو
بالجملة ما يتأدى إلى الحس من حركة الأجرام وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن
الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه
،
و (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكأن يوم القيامة
بجملته هو (الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ) وإن خصص بشيء من ذلك فيجب أن يقصد لأعظم هوله ، قالت فرقة
في ذلك هو ذبح الموت ، وقالت فرقة هو وقوع طبق جهنم على جهنم ، وقالت فرقة هو
الأمر بأهل النار إلى النار ، وقالت فرقة هو النفخة الآخرة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا وما قبله من الأوقات أشبه أن يكون فيها (الْفَزَعُ) لأنها وقت لترجم الظنون وتعرض الحوادث ، فأما وقت ذبح
الموت ووقوع الطبق فوقت قد حصل فيه أهل الجنة في الجنة فذلك فزع بين إلا أنه لا
يصيب أحدا من أهل الجنة فضلا عن الأنبياء ، اللهم إلا أن يريد لا يحزنهم الشيء
الذي هو عند أهل النار فزع أكبر ، فأما إن كان فزعا للجميع فلا بد مما قلنا من أنه
قبل دخول الجنة وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) يعم كل مؤمن.
وروي عن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أنه قال عثمان منهم ع ولا مرية أنها مع نزولها في خصوص
مقصود تتناول كل من سعد في الآخرة وقوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ) يريد بالسلام عليهم والتبشير لهم ، أي هذا يومكم الذي
وعدتم فيه الثواب والنعيم.
قوله عزوجل :
(يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
وَلَقَدْ
كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ)
(١٠٥)
قرأت فرقة «نطوي»
بنون العظمة ، وقرأت فرقة «يطوي السماء» بياء مفتوحة على معنى يطوي الله تعالى ،
وقرأ فرقة «تطوى السماء» بتاء مضمومة ورفع «السماء» على ما لم يسم فاعله ، واختلف
الناس في (السِّجِلِ) فقالت فرقة هو ملك يطوي الصحف ، وقالت فرقة (السِّجِلِ) رجل كان يكتب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ع وهذا كله وما شاكله ضعيف ، وقالت فرقة (السِّجِلِ) الصحيفة التي يكتب فيها ، والمعنى (كَطَيِّ السِّجِلِ) أي كما يطوى السجل من أجل الكتاب الذي فيه ، فالمصدر مضاف
إلى المفعول ويحتمل أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، أي كما يطوي السجل الكتاب
الذي فيه ، فكأنه قال (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ) كالهيئة التي فيها طي السجل للكتاب ، ففي التشبيه تجوز ،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «السّجل» بشد السين وسكون الجيم وتخفيف اللام وفتح أبو
السمال السين فقرأ «السّجل» وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السّجل» بضم السين
وشدها وضم الجيم ، وقرأ الجمهور «للكتاب» ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب»
وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون خبرا عن البعث أي كما
اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور ،
والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى
الدنيا ، ويؤيد هذا التأويل أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا كما بدأنا
أول خلق نعيده» وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا) الكاف متعلقة بقوله (نُعِيدُهُ) ، وقوله (إِنَّا كُنَّا
فاعِلِينَ) تأكيد للأمر بمعنى
أن الأمر واجب في ذلك
، وقالت فرقة (الزَّبُورِ) اسم يعم جميع الكتب المنزلة لأنه مأخوذ من زبرت الكتاب إذا
كتبته ، قالت هذه الفرقة و (الذِّكْرِ) أراد به اللوح المحفوظ ، وقال بعضهم (الذِّكْرِ) الذي في السماء ، وقالت فرقة (الزَّبُورِ) هو اسم زبور داود ، و (الذِّكْرِ) أراد به التوراة ، وقالت فرقة (الزَّبُورِ) ما بعد التوراة من الكتب ، و (الذِّكْرِ) التوراة ، وقرأ حمزة وحده «الزّبور» بضم الزاي ، وقالت
فرقة (الْأَرْضَ) أراد بها أرض الدنيا أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض ،
وقالت فرقة أراد أرض الجنة ، واستشهدت بقوله تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤]
وقالت فرقة إنما أراد بهذه الآية الإخبار عما كان صنعه مع بني إسرائيل أي فاعلموا
أنا كما وفينا لهم بما وعدناهم فكذلك ننجز لكم ما وعدناكم من النصرة.
قوله عزوجل :
(إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
وَما
أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما
تُوعَدُونَ)
(١٠٩)
قالت فرقة الإشارة
بقوله (فِي هذا) إلى هذه الآيات المتقدمة ، وقالت فرقة الإشارة إلى القرآن
بجملته ، و «العبادة» تتضمن الإيمان بالله تعالى ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قالت فرقة عم العالمين وهو يريد من آمن فقط ، وذلك أن
النبي صلىاللهعليهوسلم ليس برحمة على من كفر به ومات على الكفر ، وقالت فرقة «العالمون»
عام ورحمته للمؤمنين بينة وهي للكافرين بأن الله تعالى رفع عن الأمم أن يصيبهم ما
كان يصيب القرون قبلهم من أنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل الكلام أن يكون معناه «وما أرسلناك للعالمين إلا رحمة» أي هو رحمة
في نفسه وهذا بين أخذ به من أخذ ، وأعرض عنه من أعرض ، وقوله تعالى (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) معناه عرفتكم بنذارتي وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي
من الخوف عليكم من الله تعالى ، ثم أعلمهم بأنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم بل هو
مترقب في القرب والبعد وهذا أهول وأخوف.
قوله عزوجل :
(إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)
وَإِنْ
أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)
(١١٢)
الضمير في قوله (إِنَّهُ) عائد على الله عزوجل ، وفي هذه الآية تهديد أي يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم
وهو بالمرصاد في الجزاء عليها ، وقرأ يحيى بن عامر «وإن أدري لعله وإن أدري أقريب»
بفتح الياء فيهما وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء ووجهه أبو الفتح ، قوله (لَعَلَّهُ) الضمير فيه عائد على الإملاء لهم
وصفح الله تعالى
عن عذابهم وتمادي النعمة عليهم ، و (فِتْنَةٌ) معناه امتحان وابتلاء ، و «المتاع» ، ما يستمتع به مدة
الحياة الدنيا ، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) والدعاء هنا بهذا فيه توعد ، أي إن الحق إنما هو في نصرتي
عليكم ، وأمر الله تعالى له بهذا الدعاء دليل على الإجابة والعدة بها ، وقرأت فقر «رب
احكم» وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ربّ» بالرفع على المنادى المفرد وقرأت فرقة «ربي
أحكم» على وزن أفعل وذلك على الابتداء والخبر ، وقرأت فرقة «ربي أحكم» على وزن أنه
فعل ماض ، ومعاني هذه القراءات بينة ، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى ،
وقرأ جمهور القراء «قل رب» ، وقرأ عاصم فيما روي عنه «قال رب» ، وقرأ ابن عامر
وحده «يصفون» بالياء ، وقرأ الباقون والناس «تصفون» بالتاء من فوق على المخاطبة.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحج
هذه السورة مكية
سوى ثلاث آيات قوله (هذانِ خَصْمانِ) [الحج : ١٩] إلى
تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد ، وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى
قوله (عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٩] ، وقال الضحاك هي مدينة ، وقال قتادة سورة الحج
مدنية إلا أربع آيات من قوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٢٥] إلى
قوله (عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ) [الحج : ٥٥] فهن
مكيات ، وعدّ النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات ، وقال الجمهور مختلطة فيها مكي
ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك. وروي عن أنس بن مالك أنه
قال : نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه ، فقال «أتدرون أي يوم هذا؟»
فبهتوا ، فقال : «يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة
وتسعة وتسعين» قال : فاغتم الناس فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أبشروا فمنكم رجل
ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل» الحديث.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
يَوْمَ
تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ
اللهِ شَدِيدٌ)
(٢)
صدر الآية تحذير
لجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر (زَلْزَلَةَ) القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئا» إما لأنها حاصلة
متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا.
وهي معدومة إذ
اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي إذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم
يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها إذا كانت فهي حينئذ شيء عظيم ، والزلزلة التحريك
العنيف وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث
نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر : [الخفيف]
يعرف الجاهل
المضلل أن
|
|
الدهر فيه
النكراء والزلزال
|
فيحتمل أن تكون «الزلزلة»
في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى (مَسَّتْهُمُ
الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة : ٢١٤]
وكما قال عليهالسلام «اللهم اهزمهم
وزلزلهم» ، والجمهور على أن (زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ) هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة ، واختلف
المفسرون في «الزلزلة» المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم
القيامة ، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور هي في الدنيا
والضمير في (تَرَوْنَها) عائد عندهم على الزلزلة وقوى قولهم إن الرضاع والحمل إنما
هو في الدنيا ، وقالت فرقة «الزلزلة» في القيامة واحتجت بحديث أنس المذكور آنفا إذ
قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الآية ثم قال «إنه اليوم الذي يقول الله تعالى فيه لآدم
أخرج بعث النار». ع وهذا الحديث لا حجة فيه لأنه يحتمل أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة ثم قصد في تذكيره
وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره وهذا من الفصاحة ، والضمير عند هذه
الفرقة عائد على (السَّاعَةِ) أي يوم يرون ابتداءها في الدنيا ، فيصح لهم بهذا التأويل
أن لا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة ولو أعادوه على الزلزلة فسد قولهم
بما يلزمهم ، على أن النقاش ذكر أن المراد ب (كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) من مات من الإناث وولدها في جوفها. ع وهذا ضعيف و «الذهول»
الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره وقال ابن زيد المعنى
تترك ولدها للكرب الذي نزل بها ، وقرأ ابن أبي عبلة «تذهل» بضم التاء وكسر الهاء
ونصب «كلّ» وألحق الهاء في «مرضع» لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على
الفعل وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلا ترضعه فإنما تقول مرضع مثل حامل قال
علي بن سليمان هذه الهاء في (مُرْضِعَةٍ) ترد على الكوفيين قولهم إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له
بالرجال ، وحكى الطبري أن بعض نحويي الكوفة قال أم الصبي مرضعة ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشبيه لهم ، أي من الهم ، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي
هو من الخمر قاله الحسن وغيره ، وقرأ جمهور القراء «سكارى» بضم السين وثبوت الألف
وكذلك في الثاني وهذا هو الباب فمرة جعله سيبويه جمعا ومرة جعله اسم جمع ، وقرأ
أبو هريرة بفتح السين فيهما وهذا أيضا قد يجيء في هذه الجموع قال أبو الفتح هو
تكسير ، وقال أبو حاتم هي لغة تميم ، وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» في الموضعين ،
ورواه عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهي قراءة ابن مسعود وحذيفة وأصحاب عبد الله ، قال
سيبويه وقوم يقولون «سكرى» جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم
جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب ، قال أبو علي ويصح أن
يكون «سكرى» جمع سكر كزمن وزمنى وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران فتجيء «سكرى»
حينئذ لتأنيث الجمع كالعلامة في طائفة لتأنيث الجمع ، وقرأ سعيد بن جبير «وترى
الناس سكرى وما هم بسكارى» بالضم والألف ، وحكى المهدوي عن الحسن أنه قرأ الناس «سكارى
وما هم بسكرى» ، وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين «سكرى»
بضم السين ، قال أبو الفتح هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عن
هذا ، وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو هريرة وأبو نهيك «وترى» بضم التاء «الناس»
بالنصب قال وإنما هي محسبة ، ورويت هذه القراءة «ترى الناس» بضم التاء والسين أي
ترى جماعة الناس.
قوله عزوجل :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣)
كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)
قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ) الآية ، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف
وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة ، و «المجادلة»
المحاجة والموادة مؤخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى في قدرة الله تعالى وصفاته ،
وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولا يقيم
الأجساد من القبور ، و «الشيطان» هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من
الإنس والإنحاء على متبعيه ، و «المريد» المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد ،
وشجرة مردى أي عارية من الورق ، وصرح ممرد أي مملس من زجاج ، وصخرة مرداء أي
ملساء. والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على الشيطان قاله قتادة ويحتمل أن يعود على المجادل و
(أَنَّهُ) في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله و (أَنَّهُ) الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وقيل هي مكررة للتأكيد
فقط وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام «أن» الأولى إنما هو بصلتها
في قوله (السَّعِيرِ) وكذلك لا يعطف ولسيبويه في مثل هذا (أَنَّهُ) بدل ، وقيل (أَنَّهُ) خبر ابتداء محذوف تقديره فشأنه أنه يضله وقدره أبو علي فله
أن يضله.
قال القاضي أبو
محمد : ويظهر لي أن الضمير في (أَنَّهُ) الأولى للشيطان وفي الثانية لمن الذي هو المتولي ، وقوله (وَيَهْدِيهِ) بمعنى يدله على طريق ذلك وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق
، وقرأ أبو عمرو «إنه من تولاه فإنه يضله» بالكسر فيهما ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله
تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم
ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب» الشك ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ) شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعث» بفتح
العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله
تعالى : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يريد المني الذي يكون من البشر ، و «النطفة» تقع على قليل
الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد (نُطْفَةٍ) آدم ، وقوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن
للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله
تعالى : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله
تعالى : (مُخَلَّقَةٍ) معناه متممة البنية ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) غير متممة أي التي تستسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو
العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد
منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقة»
بالنصب «وغير» بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في
أم الولد إذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما
: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى
يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ) قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين
، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرّ» ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت
فرقة (لِنُبَيِّنَ) معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين
للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرّ» بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجكم»
بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي
بالياء في «يقر» وفي «يخرجكم» والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على
التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نشاء» بكسر النون ، و «الأجل المسمى» هو مختلف
بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا ، وقوله تعالى : (طِفْلاً) اسم الجنس أي أطفالا ، واختلف الناس في «الأشد» من ثمانية
عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة
وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو
الاحتلام ، و «الأشد» في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول
الإنسان في زمانة واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا
يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبدا يلحق مع الكبر وقد يكون (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) خمسة وسبعون سنة وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه
فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيرا أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل
العمر ، وقرأ الجمهور «العمر» مشبعة وقرأ نافع «العمر» مخففة الميم واختلف عنه ،
قوله تعالى : (لِكَيْلا يَعْلَمَ) أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئا
فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على
إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.
قوله عزوجل :
وَتَرَى
الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ
(٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ
الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)
(١٠)
هذا هو المثال
الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك
الأجساد ، و (هامِدَةً) معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال
الأعشى: [الكامل]
قالت قتيلة ما
لجسمك شاحبا
|
|
وأرى ثيابك
باليات همدا
|
واهتزاز الأرض هو
حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، (وَرَبَتْ) معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ
جعفر بن القعقاع «وربأت» بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر
وخالد بن إلياس وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفا من
الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو ، و «الزوج» النوع ، و «البهيج» فعيل
من البهجة وهي الحسن قاله قتادة وغيره. قوله عزوجل : قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى كون ما تقدم ذكر ف (ذلِكَ) ابتداء ، وخبره (بِأَنَ) أي هو (بِأَنَّ اللهَ) تعالى «حق» محيي قادر وقوله (وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ) ليس بسبب لما ذكر لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو
على تقدير: والأمر أن الساعة ، وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) الآية ، الإشارة بقوله (وَمِنَ النَّاسِ) إلى القوم المتقدم ذكرهم ، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه
قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه
الأمثال في غاية الوضوح والبيان (وَمِنَ النَّاسِ) مع ذلك (مَنْ يُجادِلُ) فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف
جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ ، و (ثانِيَ) حال من ضمير في (يُجادِلُ) ولا يجوز أن تكون من (مِنَ) لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة (ثانِيَ) غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانيا
عطفه ، وقوله (ثانِيَ عِطْفِهِ) عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره ، ع : وذلك
أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي
عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين ، والعطف الجانب وقرأ الحسن «عطفه» بفتح
العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه ، وقرأ الجمهور «ليضل» بضم
الياء ، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء ، وكذلك قرأ أبو عمرو ، و «الخزي» الذي
توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء ، و «الحريق» طبقة من
طبقات جهنم ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) بمعنى يقال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا
الاكتساب واختلف في الوقف على قوله (يَداكَ) فقيل لا يجوز لأن التقدير : وبأن الله أي (وَأَنَّ اللهَ) هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله
تعالى (لَيْسَ بِظَلَّامٍ) و «العبيد» هنا
ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة.
قوله عزوجل :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١)
يَدْعُوا
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا
يَنْفَعُهُ
ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)
(١٣)
هذه الآية نزلت في
أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله
وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني ، وإن كان الأمر
بخلاف ، تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون وغيرهم ، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد
وقتادة وغيرهم ، وقوله تعالى: (عَلى حَرْفٍ) معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء أو على شفى منها
معدى للزهوق ، و «الفتنة» : الاختبار ، وقوله تعالى : (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) عبارة للمولي عن الأمور وخسارته (الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) ، أما (الدُّنْيا) فبالمقادير التي جرت عليه ، وأما (الْآخِرَةَ) فبارتداده وسوء معتقده ، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسرا
الدنيا والآخرة» نصبا على الحال ، وقوله تعالى : (ما لا يَضُرُّهُ) يريد الأوثان ، ومعنى (يَدْعُوا) يعبد ، ويدعو أيضا في ملماته ، واختلف الناس في قوله تعالى
: (يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ) فقالت فرقة من
الكوفيين اللام مقدمة على موضعها وإنما التقدير «يدعو من لضره» ، ويؤيد هذا
التأويل أن عبد الله بن مسعود قرأ «يدعو من ضره» ، وقال الأخفش (يَدْعُوا) يمعنى يقول ، و «من» مبتدأ و (ضَرُّهُ) مبتدأ ، و (أَقْرَبُ) خبره ، والجملة صلة ، وخبر (مِنْ) محذوف والتقدير يقول لمن ضره أقرب منه نفعه إله وشبه هذا ،
يقول عنترة : «يدعون عنتر والرماح كأنها» ع وهذا القول فيه نظر فتأمل إفساده
للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها واعتذار أبي علي هنا
مموه ، وأيضا فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به ، وقيل المعنى في (يَدْعُوا) يسمى ، وهذا كالقول الذي قبله ، إلا أن المحذوف آخرا مفعول
تقديره إلها ، وقال الزجاج يجوز أن يكون (يَدْعُوا) في موضع الحال وفيه هاء محذوفة والتقدير ذلك هو الضلال
البعيد يدعو أو يدعوه ، فيوقف على هذا ، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي
، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه ، فيوقف على هذا ، قال أبو علي ويحسن أن
يكون ذلك بمعنى الذي ، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه ، فيوقف على هذا ،
قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي ، أي الذي هو الضلال البعيد (يَدْعُوا) فيكون قوله ذلك موصولا بقوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) ويكون (يَدْعُوا) عاملا في قوله (ذلِكَ) ع كون (ذلِكَ) بمعنى الذي غير سهل وشبهه المهدوي بقوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] وقد
يظهر في الآية أن يكون قوله (يَدْعُوا) متصلا بما قبله ، ويكون فيه معنى التوبيخ كأنه قال (يَدْعُوا) من لا يضر ولا ينفع. ثم كرر (يَدْعُوا) على جهة التوبيخ غير معدى إذ عدي أول الكلام ثم ابتدأ
الإخبار بقوله (لَمَنْ ضَرُّهُ) واللام مؤذنة بمجيء القسم والثانية التي في (لَبِئْسَ) لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء
والثانية لام اليمين ، ويظهر أيضا في الآية أن يكون المراد يدعو من ضره ثم علق
الفعل باللام وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت
وخشيت ، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه ، و (الْعَشِيرُ) القريب المعاشر في الأمور ، وذهب الطبري إلى أن المراد
بالمولى والعشير هو الإنسان الذي يعبد الله على حرف ويدعو الأصنام ، والظاهر أن
المراد ب (الْمَوْلى) و (الْعَشِيرُ) هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه ، وهو قول مجاهد والله
أعلم.
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ
وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
(١٧)
لما ذكر تبارك
وتعالى حالة من يعبده (عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] وسفه
رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم
به من إدخاله إياهم الجنة ، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى
رأيهم وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على
حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمدا وأتباعه ونحن إنما
أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك ، (فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ) وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة
وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر
ما لا يمكنه ، و «السبب» الحبل ، و «النصر» معروف ، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى
معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة وكما قال الشاعر : [الطويل]
وإنك لا تعطي
امرأ فوق حقه
|
|
ولا تملك الشق
الذي الغيث ناصره
|
وقال : وقف بنا
سائل من بني أبي بكر فقال من ينصرني ينصره الله ، و (السَّماءِ) على هذه الأقوال الهواء علوا فكأنه أراد سقفا أو شجرة أو
نحوه وقال ابن زيد (السَّماءِ) هي المعروفة ، وذهب إلى معنى آخر كأنه قيل لمن يظن أن الله
تعالى لا ينصر محمدا إن كانت تظن ذلك فامدد (بِسَبَبٍ إِلَى
السَّماءِ) واقطعه إن كنت تقدر على ذلك فإن عجزت فكذلك لا تقدر على
قطع سبب محمد صلىاللهعليهوسلم إذ نصرته من هنالك والوحي الذي يأتيه.
قال القاضي أبو
محمد : و «القطع» على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب ، وفي مصحف ابن
مسعود «ثم ليقطعه» بهاء ، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق ، وقال الخليل :
وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية ، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن
يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا
لا ينصر فليمت كمدا هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظا وكمدا ويؤيد هذا أن
الطبري والنقاش قالا : ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر
محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع ، والمعنى الأول الذي قيل
فيه للعابدين (عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] ليس
بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة إذ
تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله ، وقال مجاهد : الضمير في
(يَنْصُرَهُ) عائد على (مَنْ) والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين. ع والضمير في
التأويل الذي ذكرناه في أن يراد الكفار لا يعود إلا على النبي صلىاللهعليهوسلم فقط ، وقالت فرقة : الضمير عائد على الدين والقرآن ، وقرأ
أبو عمرو وابن عامر «ليقطع فلينظر» بكسر اللام فيهما على الأصل وهي قراءة الجمهور
، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون اللام فيهما في لام الأمر في كل القرآن مع الواو
والفاء و «ثم» ، واختلف عن نافع وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وعيسى ، ع أما الواو
والفاء إذا دخلا على الأمر فحكى سيبويه أنهم يرونها كأنها من الكلمة ، فسكون اللام
تخفيف وهو أفصح من تحريكها ، وأما «ثم» فهي كلمة مستقلة فالوجه تحريك اللام بعدها
ع وقد رأى بعض النحويين الميم من «ثم» بمنزلة الواو والفاء ، وقوله تعالى : (ما يَغِيظُ) يحتمل أن تكون (ما) بمعنى الذي ، وفي (يَغِيظُ) عائد عليها ، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفا فلا عائد عليها ،
و «الكيد» هو مده السبب ع وأبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلا ويكون «النصر»
المعروف و «القطع» الاختناق و (السَّماءِ) الارتفاع في الهواء بسقف أو شجرة ونحوه فتأمله ، وقوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ) إلى (شَهِيدٌ) المعنى وكما وعدنا بالنصر وأمرنا بالصبر كذلك أنزلنا
القرآن آية بينة لمن نظر واهتدى لا ليقترح معها ويستعجل القدر ، وقال الطبري :
المعنى وكما بينت حجتي على من جحد قدرتي على إحياء الموتى (كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) والضمير في (أَنْزَلْناهُ) عائد على القرآن ، وجاءت هذه الضمائر هكذا وإن لم يتقدم
ذكر لشهرة المشار إليه نحو قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] وغيره ،
وقوله تعالى : (وَأَنَ) في موضع خير الابتداء والتقدير والأمر أن الله يهدي من
يريد ، وهداية الله تعالى هي خلقه الرشاد والإيمان في نفس الإنسان ، ثم أخبر الله
تعالى عن فعله بالفرق المذكورين وهم المؤمنون بمحمد عليهالسلام وغيره ، واليهود والصابئون وهم قوم يعبدون الملائكة
ويستقبلون القبلة ويوحدون الله ويقرؤون الزبور قاله قتادة (وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ) وهم عبدة النار والشمس والقمر ، والمشركون وهم عبدة
الأوثان ، قال قتادة الأديان ستة ، خمسة للشيطان وواحد للرحمن وخبر (إِنَ) قوله تعالى الله (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) ، ثم دخلت (إِنَ) على الخبر مؤكدة وحسن ذلك لطول الكلام فهي وما بعدها خبر (إِنَ) الأولى ، وقرن الزجاج هذه الآية. بقول الشاعر : [البسيط]
إن الخليفة إن
الله سربله
|
|
سربال ملك به
ترجى الخواتيم
|
نقله من الطبري ع
وليس هذا البيت كالآية لأن الخبر في البيت في قوله ترجى الخواتيم وإن الثانية
وجملتها معترضة بين الكلامين ، ثم تم الكلام كله في قوله تعالى : (الْقِيامَةِ) واستأنف الخبر عن (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) عالم به وهذا خبر مستأنف للفصل بين الفرق وفصل الله تعالى
بين هذه الفرق هو إدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ
إِنَّ
اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ
نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
يُصْهَرُ
بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)
وَلَهُمْ
مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(٢١) كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)
(٢٢)
(أَلَمْ تَرَ) تنبيه من رؤية القلب ، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات
جمع لله وخضوعها ، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر
كالرياح والهواء ف (مَنْ فِي السَّماواتِ) الملائكة ، (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من عبد من البشر ، (وَالشَّمْسُ) كانت تعبدها حمير وهم قوم بلقيس ، والقمر كانت كنانة تعبده
قاله ابن عباس ، وكانت تميم تعبد الدبران ، وكانت لخم تعبد المشتري ، وكانت طيّىء
تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعرى ، وكانت أسد تعبد عطارد ، وكانت ربيعة تعبد
المرزم ، (وَالْجِبالُ
وَالشَّجَرُ) منها النار وأصنام الحجارة والخشب ، (وَالدَّوَابُ) فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه ، و
«السجود» في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر كما قال الشاعر «ترى الأكم فيه
سجدا للحوافر». وهذا مما يتعذر فيه السجود المتعارف ، وقال مجاهد : سجود هذه
الأشياء هو بظلالها ، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع : وهذا وهم وإنما
خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة ، وقوله تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم ، أي (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يسجد ، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند
المكاره ونحو ذلك ، قاله مجاهد ، وقال : سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء
مقطوعا مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد
ذلك (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرم» بكسر الراء ، وقرأ ابن
أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل ، وقرأ الجمهور
«والدوابّ» مشددة الباء ، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي
تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة : [البسيط]
كأن إبريقهم ظبي
على شرف
|
|
مفدم بسبا
الكتان ملثوم
|
أراد بسبائب
الكتان وأنشد أبو علي في مثله : [الكامل]
حتى إذا ما لم
أجد غير الشر
|
|
كنت امرأ من
مالك بن جعفر
|
وهذا باب إنما
يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة وقوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ) الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله (هذانِ) فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في
المتبارزين يوم بدر وهم ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن
ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول
من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع
ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة
إلى المؤمنين وأهل
الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم دينا منكم ونحو هذا ،
فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي
رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على
العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله (هذانِ خَصْمانِ) والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى
قيام الساعة بالعداوة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : (خَصْمانِ) يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد
ويدل على أنه أراد الجمع قوله (اخْتَصَمُوا) فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم»
وقوله (فِي رَبِّهِمْ) معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في
رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و (قُطِّعَتْ) معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من
نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب (الْحَمِيمُ) وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع» فتنكشف
أدمغتهم فيصب (الْحَمِيمُ) حينئذ ، وقيل بل يصب الحميم أولا فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب
«المقامع» بعد ذلك ، و (الْحَمِيمُ) الماء المغلي ، و (يُصْهَرُ) معناه يذاب ، وقيل معناه يعصر وهذه العبارة قلقة ، وقيل
معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر» وإنما يشبه فيمن قال يعصر. أنه
أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته ، وقد روى أبو هريرة عن النبي
صلىاللهعليهوسلم أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه ، ثم يعاد كما كان ، وقرأ
الجمهور «يصهر» وقرأت فرقة «يصهّر» بفتح الضاد وشد الهاء ، و «المقمعة» بكسر الميم
مقرعة من حديد يقمع بها المضروب ، وقوله : (أَرادُوا) روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب
النار فيريدون الخروج فيضربون ب «المقامع» وتردهم الزبانية و «من» في قوله (مِنْها) الابتداء الغاية ، وفي قوله (مِنْ غَمٍ) يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية
أيضا وهي بدل من الأولى. وقوله : (وَذُوقُوا) هنا محذوف تقديره
ويقال لهم : (ذُوقُوا) و (الْحَرِيقِ) فعيل بمعنى مفعل أي محرق ، وقرأ الجمهور «هذان» بتخفيض
النون ، وقرأ ابن كثير وحده «هذانّ» بتشديد النون ، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب
في المبهمات ، كاللذان ، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ
(٢٤) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)
(٢٥)
هذه الآية معادلة
لقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج : ١٩] وقرأ
الجمهور «يحلون» بضم الياء وشد اللام من الحلي ، وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء
واللام وتخفيفها ، يقال حلي الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم
لم يحل فلان بطائل ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَساوِرَ) هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض ، و «الأساور» جمع
سوار وإسوار بكسر الهمزة ، وقيل (أَساوِرَ) جمع أسورة وأسورة جمع سوار ، وقرأ ابن عباس من «أسورة من
ذهب» ، و «اللؤلؤ» الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره والأشهر أنه اسم للجوهر ، وقرأ
نافع وعاصم في رواية أبي بكر «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على موضع الأساور لأن التقدير
يحلون أساور ، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن
عمر ، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل ، وقرأ الباقون من السبعة و «لؤلؤ»
بالخفض عطفا إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور ، وإما على الذهب
لأن الأساور أيضا تكون «من ذهب» و «لؤلؤ» قد جمع بعضه إلى بعض ، ورويت هذه القراءة
عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة ، وثبتت في الإمام ألف
بعد الواو قاله الجحدري ، وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر عن
عاصم همز الواو الثانية دون الأولى ، وروى المعلى بن منصور عن أبي بكر عن عاصم ضد
ذلك ، قال أبو علي : همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله ، وقرأ
ابن عباس «ولئلئا» بكسر اللامين ، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات
الآخرة ، وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم «من لبس الحرير في
الدنيا لم يلبسه في الآخرة» ، وقال ابن عباس : لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا
إلا في الأسماء فقط وأما الصفات فمتباينة ، و (الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ) لا إله إلّا الله وما جرى معها من ذكر الله تعالى وتسبيحه
وتقديسه وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنها لا تسمع فيها لاغية ، و (صِراطِ الْحَمِيدِ) هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه ، ويحتمل أن يريد
ب (الْحَمِيدِ) نفس الطريق فأضاف إليه على حد إضافته في قوله «دار الآخرة»
[الأنعام : ٣٢ ، يوسف : ١٠٩ ، النحل : ٣٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) الآية ، قوله (وَيَصُدُّونَ) تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت
فرقة الواو زائدة (وَيَصُدُّونَ) خبر (إِنَ) وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند
قوله (وَالْبادِ) تقديره خسروا أو هلكوا ، وجاء (يَصُدُّونَ) مستقبلا إذ هو فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ) [الرعد : ٢٨]
ونحوه ، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع
إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، وقالت فرقة (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم
المقصود من ذلك ، وقرأ جمهور الناس «سواء» بالرفع وهو على الابتداء و (الْعاكِفُ) خبره ، وقيل الخبر (سَواءً) وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة
أو متعبدا ، وقرأ حفص عن عاصم «سواء» بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعل» ويرتفع العاكف» به لأنه مصدر في معنى مستو
أعمل عمل اسم الفاعل ، والوجه الثاني أن يكون حالا من الضمير في «جعلنا» وقرأت
فرقة «سواء» بالنصب «العاكف» بالخفض عطفا على الناس. و (الْعاكِفُ) ، المقيم في البلد ، و (الْبادِ) ، القادم عليه من غيره ، وقرأ
ابن كثير في الوصل
والوقف «البادي» بالياء. ووقف أبو عمرو بغير ياء ، ووصل بالياء ، وقرأ نافع «الباد»
بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي ، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس ،
وروى ورش الوصل بالياء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلا ووقفا
، وهي في الإمام بغير ياء ، وأجمع الناس على الاستواء في نفس (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) واختلفوا في مكة ، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد
وجماعة معهم إلى أن الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب
المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال : ذلك سفيان الثوري وغيره ، وكذلك كان الأمر في
الصدر الأول ، قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل
بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال : إنما أردت حفظ
متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب ، وقال جمهور من الأمة منهم مالك :
ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد ، وعلى هذا هو العمل اليوم ،
وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك
والأوزاعي ، أو صلح كما روي عن الشافعي ، فمن رآها صلحا فإن الاستواء في المنازل
عنده بعيد ، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها ، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها
أحدا وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.
قال القاضي أبو
محمد : وظاهر قول النبي صلىاللهعليهوسلم «وهل ترك لنا عقيل
منزلا» ، يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله عليهالسلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره ، وتؤول
بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف ، ويصح مع ذلك
أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار
بالعنوة والصلح ، وقوله تعالى : (بِإِلْحادٍ) قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر :
بواد يمان ينبت
الشت صدره
|
|
وأسفله بالمرخ
والشبهان
|
ومنه قول الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا
أرماحنا
وهذا كثير ويجوز
أن يكون التقدير (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) الناس (بِإِلْحادٍ) و «الإلحاد» الميل
، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، فلعظم حرمة
المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه ، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب
بذلك إلا في مكة ، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم ، وقال ابن عباس : «الإلحاد»
في هذه الآية الشرك ، وقال أيضا : هو استحلال الحرام وحرمته ، وقال مجاهد : هو
العمل السيّء فيه ، وقال عبد الله بن عمرو : قول لا والله وبلى والله بمكة من
الإلحاد ، وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم
يأتي على هذا كله ، وقرأت فرقة «ومن يرد» من الورود حكاه الفراء ، والأول أبين
وأعم وأمدح للبقعة ، و (مَنْ) شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على (الَّذِينَ) والله المستعان.
قوله عزوجل :
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ)
(٢٨)
المعنى واذكر (إِذْ بَوَّأْنا) ، و «بوأ» هي تعدية باء بالتضعيف ، و «باء» معناه رجع فكأن
المبوّئ يرد المبوأ إلى المكان ، واستعملت اللفظة بمعنى سكن ، ومنه قوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] وقال
الشاعر :
كم من أخ لي
صالح
|
|
بوأته بيديّ
لحدا
|
واللام في قوله
تعالى : (لِإِبْراهِيمَ) قالت فرقة هي زائدة ، وقالت فرقة (بَوَّأْنا) نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن
يكون المفعول الأول ب (بَوَّأْنا) محذوفا تقديره الناس أو العالمين ، ثم قال (لِإِبْراهِيمَ) بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا ، و (الْبَيْتِ) هو الكعبة ، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبدا لآدم
عليهالسلام ، ثم درس بالطوفان ، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره
الله تعالى ببنائه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا ، فبعث الله ريحا فكشف له عن
أساس آدم ، فرفع قواعده عليه. وقوله (أَنْ لا تُشْرِكْ) هي مخاطبة لإبراهيم عليهالسلام ، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك ، وقرأ
عكرمة «ألا يشرك» بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له ، قال أبو حاتم : ولا بد
من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن» في قراءة
الجمهور مفسرة ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة ، وفي الآية طعن على من أشرك من
قطان البيت ، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد ، وأنتم لم تفوا بل أشركتم ،
وقالت فرقة : الخطاب من قوله (أَنْ لا تُشْرِكْ) لمحمد صلىاللهعليهوسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك
لإبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير
ذلك ، و «القائمون» ، هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة : أعظمها. وهي
القيام والركوع والسجود ، وقرأ جمهور الناس «وأذّن» بشد الذال ، وقرأ الحسن بن أبي
الحسن وابن محيصن «وآذن» بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني ، فإنه حكى عنها
«وأذن» فعل ماض وأعرب عن ذلك بأن جعله عطفا على (بَوَّأْنا) ، وروي أن إبراهيم عليهالسلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟
فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على
حجر المقام ونادى : أيها الناس ، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت
الروايات في ألفاظه عليهالسلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج ، وروي أنه يوم نادى
أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من
جماد وغيره لبيك اللهم لبيك ، فجرت التلبية على ذلك ، قاله ابن عباس وابن جبير ،
وقرأ جمهور الناس «بالحج» بفتح الحاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها ، و
(رِجالاً) ، جمع راجل كتاجر وتجار ، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز
وجعفر بن محمد «رجّالا» بضم الراء وشد الجيم ، ككاتب وكتاب ، وقرأ عكرمة أيضا وابن
أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية
الجمع ورويت عن
مجاهد ، وقرأ مجاهد «رجالى» على وزن فعالى فهو كمثل كسالى ، و «الضامر» ، قالت
فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر.
ومنه قول الأعشى :
عهدي بها في
الحي قد ذرعت
|
|
هيفاء مثل
المهرة الضامر
|
فيجيء قوله (يَأْتِينَ) مستقيما على هذا التأويل ، وقالت فرقة «الضامر» هو كل ما
اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر لكنه يتضمن معنى الجماعات أو
الرفاق فيحسن لذلك قوله (يَأْتِينَ) وقرأ أصحاب ابن مسعود «يأتون» وهي قراءة ابن أبي عبلة
والضحاك ، وفي تقديم (رِجالاً) تفضيل للمشاة في الحج ، قال ابن عباس : ما آسى على شيء
فاتني إلا أن أكون حججت ما شيا فإني سمعت الله تعالى يقول : «يأتونك رجالا» وقال
ابن أبي نجيح : حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين ، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر
من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية : لا أسمع للبحر
ذكرا ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ، وذلك أن مكة ليست في
ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما
راجلا وإما على (ضامِرٍ) فإنما ذكرت حالتا الوصول ، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر
ليس بالكثير ولا القوي ، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق
شخصا ما ، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس
بسبيل يستطاع ، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما ظاهره أن الوجوب لا يسقطه
شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف و «الفج» الطريق الواسعة ، و «العميق» معناه
البعيد. وقال الشاعر : [الطويل]
إذا الخيل جاءت
من فجاج عميقة
|
|
يمد بها في
السير أشعث شاحب
|
و «المنافع» في
هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره ، وقال أبو جعفر محمد بن
علي : أراد الأجر و (مَنافِعَ) الآخرة ، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى : (اسْمَ اللهِ) ، يصح أن يريد بالاسم هاهنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على
تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب ، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات
وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات ، وهذا كله
على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكرا على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليهالسلام «إنها أيام أكل
وشرب وذكر الله تعالى» ، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحر
والذبح ، وقالوا إن في ذكر «الأيام» دليلا على أن الذبح في الليل لا يجوز ، وهو
مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات» هي أيام العشر ويوم
النحر وأيام التشريق ، وقال ابن سيرين : بل أيام العشر فقط ، وقالت فرقة : أيام
التشريق ، ذكره القتبي ، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه : بل المعلومات يوم النحر
ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوما لا معدودا
واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا
التفصيل أنهم أخذوا ذكر (اسْمَ اللهِ) هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره ، فاليوم الرابع لا
يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في
الأيام المعدودات
فتأمل هذا ، يبين لك قصدهم ، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك
الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم
وتكون فائدة قوله (مَعْلُوماتٍ) و (مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤ ،
آل عمران : ٢٤] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه
قال : هي مخصوصات فلتغتنم. وقوله ، (فَكُلُوا) ندب ، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن
يتصدق بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل ، و (الْبائِسَ) الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها ، يقال : بأس الرجل يبؤس وقد
يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقرا ، ومنه قوله عليهالسلام ، «لكن البائس سعد بن خولة» ، والمراد في هذه الآية أهل
الحاجة.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
ذلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ
لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
(٣٠)
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما
خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي
مَكانٍ سَحِيقٍ)
(٣١)
اختلفت القراءة في
سكون اللام في قوله تعالى : (لْيَقْضُوا
وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا) وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا» وتسكين
الاثنين وقد تقدم في قوله : (فَلْيَمْدُدْ) [الحج : ١٥ ، مريم
: ٧٥] بسبب توجيه جميع ذلك ، و «التفث» ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر
وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء
جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوفّوا»
بفتح الواو وشد الفاء ، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى ، وأوفى
أكثر. و «النذور» ما معهم من هدي وغيره ، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف
الإفاضة الذي هو من واجبات الحج ، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك ، قال
مالك : هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوداع إذ المستحسن أن يكون
ولا بد ، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيرا عن قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) فقال : هو طواف الوداع ، وقال مالك في الموطأ واختلف
المتألون في وجه صفة البيت ب (الْعَتِيقِ) ، فقال مجاهد والحسن (الْعَتِيقِ) القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء ، قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال :
سمي عتيقا لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ولا نظر مع الحديث ، وقالت فرقة : سمي عتيقا لأنه لم يملك
موضعه قط ، وقالت فرقة : سمي عتيقا لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من
العذاب ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا يرده التصريف ، وقيل : سمي عتيقا لأنه
أعتق من غرق الطوفان ، قاله ابن جبير ، ويحتمل أن يكون (الْعَتِيقِ) صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال
عمر بن الخطاب رضي
الله عنه «حملت على فرس عتيق» الحديث ونحوه قولهم كلام حر وطين حر ، وقوله تعالى :
(ذلِكَ) يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير فرضكم ذلك أو الواجب ذلك
، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار ، وأحسن
الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير : [البسيط]
هذا وليس كمن
يعطي بخطته
|
|
وسط الندى إذا
ما قائل نطقا
|
والحرمات المقصودة
هاهنا في أفعال الحج المشار إليها في قوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ويدخل في ذلك تعظيم المواضع ، قاله ابن زيد وغيره ، ووعد
على تعظيمها بعد ذلك تحريضا ، وتحريصا ، ثم لفظ الآية بعد ذلك يتناول كل حرمة لله
تعالى في جميع الشرع. وقوله تعالى : (فَهُوَ خَيْرٌ) ، ظاهره أنها ليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير ، ويحتمل أن
يجعل (خَيْرٌ) للتفضيل على تجوز في هذا الموضع ، وقوله تعالى : (أُحِلَّتْ) إشارة إلى ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها
كالبحيرة والسائبة فأذهب الله تعالى ذلك وأحل لهم جميع (الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى) عليهم في كتاب الله تعالى. في غير موضع ثم أمرهم باجتناب (الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) والكلام يحتمل معنيين أحدهما أن تكون (مَنْ) لبيان الجنس فيقع نهيه عن رجس الأوثان فيقع نهيها في غير
هذا الموضع ، والمعنى الثاني أن تكون (مَنْ) لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأ
الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، ويظهر أن الإشارة إلى
الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم ، ومن قال (مَنْ) للتبعيض قلب معنى الآية ويفسده ، والمروي عن ابن عباس وابن
جريج أن الآية نهي عن عبادة الأوثان ، و (الزُّورِ) ، عام في الكذب والكفر وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب
وباطل وزور ، وقال ابن مسعود وابن جريج : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «عدلت شهادة الزور بالشرك» ، وتلا هذه الآية ، و (الزُّورِ) مشتق من الزور وهو الميل ومنه في جانب فلان زور ويظهر أن
الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل مما كانوا قد شرعوه في الأنعام ، و (حُنَفاءَ) ، معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة الحنف
من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل ، و (حُنَفاءَ) نصب على الحال ، وقال قوم (حُنَفاءَ) معناه حجاجا ع وهذا تخصيص لا حجة معه ، و (غَيْرَ مُشْرِكِينَ) ، يجوز أن يكون حالا أخرى ، ويجوز أن يكون صفة لقول (حُنَفاءَ) ثم ضرب تعالى مثلا للمشرك بالله أظهره في غاية السقوط
وتحمل والانبتات من النجاة بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦]
ومنه قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء إلى
الأرض أهون علي من أن أكذب عليه ، الحديث. وقرأ نافع وحده «فتخطّفه الطير» بفتح
الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل وقرأ الباقون «فتخطفه» بسكون الخاء وتخفيف
الطاء ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «فتخطّفه» بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة ،
وقرأ أيضا الحسن وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء والطاء وشدها ، وقرأ الأعمش «من
السماء تخطفه» بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه
بتقدير فهو تخطفه الطير ، وقرأ أبو جعفر ، «الرياح» ، و «السحيق» البعيد ومنه
قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليهالسلام «فسحقا فسحقا»
ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء.
قوله عزوجل :
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(٣٣)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ
أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ
وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
(٣٥)
التقدير في هذا
الموضع الأمر ذلك ، و «الشعائر» جمع شعيرة وهي كل شيء لله تعالى ، فيه أمر أشعر به
وأعلم ، قالت فرقة : قصد ب «الشعائر» في هذه الآية الهدي والأنعام المشعرة ، ومعنى
تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة ،
وعود الضمير في «إنها» على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام ، وقرأ «القلوب»
بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو (تَقْوَى) ، ثم اختلف المتألون في قوله (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) الآية ، فقال مجاهد وقتادة : أراد أن للناس في أنعامهم
منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا فإذا بعثها فهو «الأجل
المسمى» ، وقال عطاء بن أبي رباح : أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب
والاحتلاب لمن اضطر ، و «الأجل» نحرها وتكون (ثُمَ) لترتيب الجمل ، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند
هاتين الفرقتين (ثُمَّ مَحِلُّها) إلى موضع النحر فذكر (الْبَيْتِ) لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، وقال ابن زيد
وابن عمر والحسن ومالك : «الشعائر» في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى
وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وفي الآية التي تأتي أن البدن
من الشعائر ، و «المنافع» التجارة وطلب الرزق ، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة
، وبكل احتمال قالت فرقة و «الأجل» الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله ، (مَحِلُّها) مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف
الإفاضة ب (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، ف (الْبَيْتِ) على هذا التأويل مراد بنفسه ، قاله مالك في الموطأ ، ثم
أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة (مَنْسَكاً) أي موضع نسك وعبادة وهذا على أن المنسك ظرف كالمذبح ونحوه
، ويحتمل أن يريد به المصدر ، كأنه قال عبادة ونحو هذا ، والناسك العابد ، وقال
مجاهد : سنة في هراقة دماء الذبائح ، وقرأ معظم القراء «منسكا» بفتح السين وهو من
نسك ينسك بضم السين في المستقبل ، وقرأ حمزة والكسائي «منسكا» بكسر السين قال أبو
علي : الفتح أولى لأنه إما المصدر وإما المكان وكلاهما مفتوح والكسر في هذا من
الشاذ في اسم المكان أن يكون مفعل من فعل يفعل مثل مسجد من سجد يسجد ، ولا يسوغ
فيه القياس ، ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب. وقوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ) معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له
لأنه رازق ذلك ، ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه
فالإله واحد لجميعكم بالأمر كذلك في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له ، و (أَسْلِمُوا) معناه لحقه ولوجهه ولإنعامه آمنوا وأسلموا ، ويحتمل أن
يريد الاستسلام ثم أمر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يبشر بشارة على الإطلاق وهي أبلغ من المفسرة لأنها
مرسلة مع نهاية التخيل ،
و (الْمُخْبِتِينَ) المتواضعين الخاشعين من المؤمنين ، والخبت ما انخفض من
الأرض والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدود من الأرض وقال عمرو بن أوس
المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين ، وقال مجاهد : هم المطمئنون
بأمر الله ، ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله ، وذلك لقوة يقينهم
ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه ، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها ،
وقرأ الجمهور «الصلاة» بالخفض ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الصلاة» بالنصب على توهم
النون وأن حذفها للتخفيف ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ الأعمش «والمقيمين الصلاة»
بالنون والنصب في «الصلاة» ، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة» ، وروي أن هذه الآية ،
قوله (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قوله عزوجل :
(وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
لَنْ
يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ)
(٣٧)
البدن جمع بدنة وهي
ما أشعر من ناقة أو بقرة ، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن ، وقيل
بل هذا الاسم خاص بالإبل ، وقالت فرقة (الْبُدْنَ) جمع بدن بفتح الدال والباء ثم اختلفت ، فقال بعضها (الْبُدْنَ) مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر ،
ويقال للمسلمين من الرجال بدن ، وقال بعضها (الْبُدْنَ) جمع بدنة كثمرة وثمر ، وقرأ الجمهور «والبدن» ساكنة الدال
، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدن» بضم الدال ، فيحتمل أن يكون
جمع بدنة كثمر ، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه (الْبُدْنَ) ، وقد تقدم القول في «الشعائر» ، و «الخير» قيل فيه ما قيل
في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة ، وقوله ، (عَلَيْها) يريد عند نحرها ، وقرأ جمهور الناس «صوافّ» بفتح الفاء
وشدها جمع صافّة أي مصطفة في قيامها ، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى
الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى
لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك ، وقرأ الحسن أيضا «صواف» بكسر الفاء
وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حدفت الياء تخفيفا على غير قياس وفي هذا
نظر ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن» بالنون
جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، والصافن من الخيل
الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجنيه ومنه قوله تعالى : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) [ص : ٣١].
وقال عمرو بن
كلثوم :
تركنا الخيل
عاكفة عليه
|
|
مقلدة أعنتها
صفونا
|
و (وَجَبَتْ) ، معناه سقطت بعد نحرها ، ومنه وجبت الشمس ، ومنه قول أوس
بن حجر : ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب ، وقوله «كلوا» ندب ، وكل
العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا
يأكلون من هديهم ، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري : هي إباحة ، و (الْقانِعَ) ، السائل يقال قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل ، بفتح النون
في الماضي ، وقنع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ، قاله الخليل
ومن الأول قول الشماخ :
لمال المرء
يصلحه فيغني
|
|
مفاقره أعف من
القنوع
|
فمحرور القول من
أهل العلم قالوا (الْقانِعَ) السائل (وَالْمُعْتَرَّ) المتعرض من غير سؤال ، قاله محمد بن كعب القرظي ومجاهد
وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن ، وعكست فرقة هذا القول ، حكى الطبري عن ابن
عباس أنه قال (الْقانِعَ) المستغني بما أعطيه (وَالْمُعْتَرَّ) المتعرض ، وحكي عنه أنه قال (الْقانِعَ) المتعفف (وَالْمُعْتَرَّ) السائل ، وحكي عن مجاهد أنه قال (الْقانِعَ) الجار وإن كان غنيا ، وقرأ أبو رجاء «القنع» فعلى هذا
التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضا والمتعرض ، وذهب أبو الفتح
بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفا وهذا بعيد لأن توجيه على ما ذكرته
آنفا أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة ، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد «المعتري»
والمعنى واحد ، وروي عن أبي رجاء «والمعتر» بتخفيف الراء وقال الشاعر : [الطويل]
لعمرك ما المعتر
يغشى بلادنا
|
|
لنمنعه بالضائع
المتهضم
|
وذهب ابن مسعود
إلى أن الهدي أثلاث ، وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أطعم (الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) ثلثا ، والبائس الفقير ثلثا ، وأهلي ثلثا ، وقال ابن
المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض
، ثم قال (كَذلِكَ) أي كما أمرناكم فيها بهذا كله (سَخَّرْناها لَكُمْ) ، و (لَعَلَّكُمْ) ، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا ، وقوله ، (يَنالَ) عبارة مبالغة وتوكيد وهي بمعنى لن يرتفع عنده ويتحصل سبب
ثواب ، وقال ابن عباس إن أهل الجاهلية كانوا يضرجون البيت بالدماء فأراد المؤمنون
فعل ذلك فنهى الله عن ذلك ونزلت هذه الآية ، والمعنى ولكن ينال الرفعة عنده
والتحصيل حسنة لديه ، (التَّقْوى) ، أي الإخلاص والطاعات ، وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن
يعمر والزهري ، «تنال وتناله» ، بتاء فيهما ، والتسمية والتكبير على الهدي
والأضحية هو أن يقول الذابح باسم الله والله أكبر ، وروي أن قوله (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي قبلها فأما
ظاهر اللفظ فيقتضي العموم.
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ
وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ
اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ)
(٤٠)
روي أن هذه الآية
نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة
أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى
قوله (كَفُورٍ) ، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر ،
وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر «يدافع» «ولو لا دفاع» ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع»
«ولو لا دفع» ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يدافع» «ولو لا دفع» ، قال
أبو علي أجريت «دافع» في هذه القراءة مجرى «دفع» كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء
المصدر دفعا ، قال أبو الحسن والأخفش : أكثر الكلام أن الله «يدفع» ويقولون دافع
الله عنك إلا أن دفع أكثر.
قال القاضي أبو
محمد : فحسن في الآية (يُدافِعُ) لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته
ودفعه مدافعة عنهم ، وحكى الزهراوي أن دفاعا مصدر دفع كحسبت حسابا ، ثم أذن الله
تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله (أُذِنَ) وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض ،
فقرأ نافع وحفص عن عاصم «أذن» بضم الألف «يقاتلون» بفتح التاء ، أي في أن يقاتلهم
فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم
والحسن والزهري «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر التاء ، فالإذن في هذه القراءة في
ابتداء القتال ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر
التاء ، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعا ، وهي في مصحف ابن مسعود «أذن
للذين يقاتلون في سبيل الله» بكسر التاء ، وفي مصحف أبي «أذن» بضم الهمزة «للذين
قاتلوا» ، وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة «أذن» وقوله (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا ، قال ابن جريج : وهذه
الآية أول ما نقض الموادعة ، قال ابن عباس وابن جبير : نزلت عند هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أنه
سيكون قتال ، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا
وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا ، ثم وعد
تعالى بالنصر في قوله (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، وقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم
طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة ، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في
معرض تقرير الذنب وإلزامه ، وقوله (إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده
فيه البدل وجوزه أبو إسحاق ، والأول أصوب ، وقوله (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ) الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر
أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ، فكأنه قال أذن في القتال
فليقاتل المؤمنون ولو لا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة ، هذا أصوب
تأويلات الآية ، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد ، وقال مجاهد (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا ، ولو لا دفع الله ظلم
الظلمة بعدل الولاة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المعنى ولو لا دفع الله
بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى
القتال أليق بما تقدم من الآية ، وقالت فرقة
(وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ) العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى
الآية وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه فتأمله ، وقرأ نافع
وابن كثير «لهدمت» مخففة الدال ، وقرأ الباقون «لهدّمت» مشددة وهذه تحسن من حيث هي
صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨]
فثقل الياء وقال (قَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] فخفف
لكونه فردا (وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوابَ) [يوسف : ٤٣] و (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] و «الصومعة»
موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع من الرجال
الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين ، قاله
قتادة ، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال
الطبري : وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك ، و «الصلوات»
مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل ، أو أراد وموضع صلوات ، وذهبت
فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجمع صلاة ،
وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين ، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس
«صلوات» بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على
أن تعطيل الصلاة هدمها ، وقرأ جعفر بن محمد «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام ،
وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني ، وقرأ الجحدري فيما روي عنه «وصلوات»
بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى ، وقرأ
الجحدري والحجاج بن يوسف «وصلوب» بضم الصاد واللام وبالباء على أنه جمع صليب ،
وقرأ الضحاك والكلبي «وصلوث» بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثا قالوا وهي
مساجد اليهود ، وقرأت فرقة «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام ، وقرأت فرقة «صلوات»
بضم الصاد واللام حكاها ابن جني ، وقرأت فرقة «صلوثا» بضم الصاد واللام وقصر الألف
بعد الثاء ، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتا يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوت»
، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد
الثاء قال القاضي : وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم ، و «الصوامع»
للرهبان ع وقيل للصابئين ، و «البيع» للنصارى ، و «الصلوات» لليهود و «المساجد»
للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم
في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بانصارى في عرف لغة العرب ، ومعاني هذه
الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل
الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع
، وقوله (يُذْكَرُ فِيهَا) الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره
نصرة دينه وشرعه ، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقا
إلى يوم القيامة.
قوله عزوجل :
(الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢)
وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ)
(٤٤)
قالت فرقة : هذه
الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة
الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية ، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر
في جميع الناس ، وإنما الآية آخذة عهدا على كل من مكنه الله ، كل على قدر ما مكن ،
فأما (الصَّلاةَ) و (الزَّكاةَ) فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك ، و «المعروف» و (الْمُنْكَرِ) يعمان الإيمان والكفر فما دونهما ، وقالت فرقة : نزلت هذه
الآية في أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم خاصة من الناس وهذا على أن (الَّذِينَ) بدل من قوله (يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] أو على أن (الَّذِينَ) تابع ل (مِنْ) في قوله (مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ،
وقوله (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن ،
وقوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يعني قريشا وهذه آية تسلية للنبي عليهالسلام ووعيد لقريش ، وذلك أنه مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة
وأسند فعلا فيه علامة التأنيث إلى قوم من حيث أراد الأمة والقبيلة ليطرد القول في (عادٌ وَثَمُودُ) و (قَوْمُ نُوحٍ) هم أول أمة كذبت نبيها ثم أسند التكذيب في موسى عليهالسلام إلى من لم يسم من حيث لم يكذبه قومه بل كذبه القبط وقومه
به مؤمنون ، و «أمليت» ، معناه فأمهلت وكأن الإمهال أن تمهل من تنوي فيه المعاقبة
، وأنت في حين إمهالك عالم بفعله. و «النكير» ، مصدر كالعذير بمعنى الإنكار
والإعذار وهو في هذه المصادر بناء مبالغة فمعنى هذه الآية فكما فعلت بهذه الأمم
كذلك أفعل بقومك.
قوله عزوجل :
(فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ(٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ
بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)
(٤٨)
«كأين» هي كاف
التشبيه دخلت على «أي» قاله سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في
سورة آل عمران في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ) [آل عمران : ١٤٦]
، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاما ، وحكى الفراء «كأين مالك» ، وقرأت فرقة «أهلكناها»
، وقرأت فرقة «أهلكتها» ، بالإفراد والمراد أهل القرية و (ظالِمَةٌ) معناه بالكفر ، و (خاوِيَةٌ) ، معناه خالية ومنه خوى النجم إذا خلا من النور ، ونحوه
ساقطة (عَلى عُرُوشِها) ، والعروش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان
عليها فهي
على العروش ، (وَبِئْرٍ) ، قيل هو معطوف على «العروش» وقيل على «القرية» وهو أصوب ،
وقرأت فرقة «وبيئر» بهمزة وسهلها الجمهور ، وقرأت فرقة «معطلة» بفتح الميم وسكون
العين وفتح الطاء وتخفيفها ، والجمهور على «معطّلة» بضم الميم وفتح العين وشد
الطاء ، و «المشيد» المبني بالشيد وهو الجص ، وقيل «المشيد» المعلى بالآجر ونحو.
فمن الشيد قول عدي بن زيد :
شاده مرمرا
وجلله كلسا
|
|
فللطير في ذراه
وكور
|
شاد ، بنى ، بالشيد
والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر. وقالت فرقة في هذه الآية إن (مَشِيدٍ) معناه معلى محصنا ، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك
قبل خرابه ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة ،
وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالا
بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ، (فَتَكُونَ) ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى
النصب ، وقوله (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ) ، لفظ مبالغة كأنه قال : ليس العمى عمى العين وإنما العمى
حق العمى عمى القلب ، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه ، وهذا كقوله عليهالسلام ، «ليس الشديد بالصرعة وليس المسكين بهذا الطواف». والضمير
في (فَإِنَّها) للقصة ونحوها من التقدير وقوله (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، مبالغة كقوله (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧]
كما تقول : نظرت إليه بعيني ونحو هذا ، والضمير في (يَسْتَعْجِلُونَكَ) لقريش ، وقوله (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) ، وعد ووعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود ، و «الوعد»
هنا مقيد بالعذاب فلذلك ورد في مكروه ، وقوله (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) ، قالت فرقة : معناه (وَإِنَّ يَوْماً) من أيام عذاب الله (كَأَلْفِ سَنَةٍ) مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه ، فكأن المعنى فما
أجهل من يستعجل هذا وقالت فرقة معناه (وَإِنَّ يَوْماً) عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذه قدرته (كَأَلْفِ سَنَةٍ) عندكم ع وهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة وإلى ما لا
نهاية له من العدد في حكم الألف ولكنهم قالوا ذكر الألف لأنه منتهى العدد دون
تكرار فاقتصر عليه ع وهذا التأويل لا يناسب الآية ، وقالت فرقة : إن المعنى أن
اليوم عند الله كألف سنة من هذا العدد ، من ذلك قول النبي صلىاللهعليهوسلم «إني لأرجو أن
تؤخر أمتي نصف يوم» ، وقوله «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم»
ذلك خمسمائة سنة ، ومنه قول ابن عباس : مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة فكأن
المعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله وكرر قوله (وَكَأَيِّنْ) لأنه جلب معنى آخر ذكر أولا القرى المهلكة دون إملاء بل
بعقب التكذيب ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم ، وقرأت فرقة «تعدون»
بالتاء ، وقرأت فرقة «يعدون» بالياء على الغائب.
قوله عزوجل :
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠)
وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ
يُحْكِمُ
اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)
لِيَجْعَلَ
ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ)
(٥٤)
المعنى (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أَنَا لَكُمْ
نَذِيرٌ) عذاب ليس إلي أن أعجل عذابا ولا أن أؤخره عن وقته ، ثم قسم
حالة المؤمنين والكافرين بأن للمؤمنين سترة ذنوبهم ورزقه إياهم في الجنة ، و «الكريم»
صفة نفي المذام ، كما تقول ثوب كريم ، وأن للكافرين المعاجزين عذاب (الْجَحِيمِ) وهذا كله مما أمره أن يقوله ، أي هذا معنى رسالتي لا ما
تتمنون أنتم ، وقوله (سَعَوْا) معناه تحيلوا وكادوا من السعاية ، و «الآيات» : القرآن ،
أو كادوه بالتكذيب وسائر أقوالهم ، وقرأت فرقة ، «معاجزين» ، ومعناه مغالبين كأنهم
طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعلة ، وعبر بعض الناس في
تفسير (مُعاجِزِينَ) بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة ،
وقرأت فرقة «معجّزين» بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم
بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي : «معجزين» ناسبين أصحاب النبي إلى العجز
كما تقول فسّقت فلانا وزنيته إذا نسبته إلى ذلك ، وقوله (وَما أَرْسَلْنا) الآية تسلية للنبي عليهالسلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أمنية النبي عليهالسلام ، و (تَمَنَّى) معناه المشهور أراد وأحب ، وقالت فرقة هو معناها في الآية
، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا : فلما تمنى رسول
الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل ، فحين قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى
قوله (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠] ألقى
الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا
بما نريد وفرحوا بذلك ، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف
فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا ، قال البخاري : هو
أمية بن خلف ، وقال بعض الناس : هو الوليد بن المغيرة ، وقال بعض الناس : هو أبو
أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمدا ففرحوا بذلك
وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا ، وقالت
فرقة (تَمَنَّى) معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر : [الطويل]
تمنى كتاب الله
أول ليلة
|
|
وآخرها لاقى
حمام المقادر
|
ومنه قول الآخر : [الطويل]
«تمنى داود الزبور
على رسل»
وتأولوا قوله
تعالى «إلا أماني» أي إلا تلاوة ، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب «إلقاء الشيطان»
في تلاوة النبي عليهالسلام ما تقدم آنفا من ذكر الله.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري
ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن «الشيطان ألقى»
ولا يعينون هذا السبب ولا غيره ، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة
بها وقعت الفتنة ، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو
مشهور القول أن النبي صلىاللهعليهوسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشيطان أوهمه ووسوس في قلبه حتى
خرجت تلك الألفاظ على لسانه ، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدراسه سورة النجم
فلما قالها رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له جبريل لم آتك بهذا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «افتريت على الله
وقلت ما لم يقل لي» وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ) ، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ
العلماء والمتكلمين من قال : هذا لا يجوز على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ
أسمعه الكفار عند قول النبي صلىاللهعليهوسلم (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم: ٢٠] وصوب صوته من صوت النبي صلىاللهعليهوسلم حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع و (تَمَنَّى) على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد ، وقد روي نحو هذا
التأويل عن الإمام أبي المعالي ع و «الرسول» أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم
يرسلوا وكل رسول نبي ، و «النسخ» في هذه الآية الإذهاب ، كما تقول نسخت الشمس الظل
وليس يرفع ما استقر من الحكم ، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان
كان على لسان النبي عليهالسلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة ، وفي
بعضها تلك الغرانيق ، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع
والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار ، ومنه قول الشاعر : «أهلا بصائدة الغرانق»
وقوله (لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) الآية ، اللام في قوله (لِيَجْعَلَ) متعلقة بقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ) و «الفتنة»
الامتحان والاختبار ، والذين (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) هم ، عامة الكفار ، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي
جهل والنضر وعقبة ، و «الشقاق» ، البعد عن الخير ، والضلال والكون في شق الصلاح ، و
(بَعِيدٍ) ، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم أصحاب محمد رسول الله عليهالسلام ، والضمير في (أَنَّهُ) عائد على القرآن و «تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من
الخبت وهو المطمئن من الأرض ، وقرأت فرقة «لهاد» بغير ياء بعد الدال ، وقرأت فرقة
: «لهادي» بياء ، وقرأت فرقة «لهاد» بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة
لقوله ، قبل (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ).
قوله عزوجل :
(وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(٥٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ
هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ذلِكَ
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
(٦٢)
«المرية» الشك ،
والضمير في قوله (مِنْهُ) قالت فرقة هو عائد على القرآن ، وقالت فرقة : على محمد عليهالسلام ، وقالت فرقة : على ما (أَلْقَى الشَّيْطانُ) [الحج : ٥٢] ،
وقال سعيد بن جبير أيضا على سجود النبي صلىاللهعليهوسلم في سورة النجم ، و (السَّاعَةُ) ، قالت فرقة : أراد يوم القيامة ، «واليوم العقيم» ، يوم
بدر ، وقالت فرقة : (السَّاعَةُ) ، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه ، و «اليوم
العقيم» ، يوم القيامة ، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب (أَوْ) ومن جعل (السَّاعَةُ) و «اليوم العقيم»
، يوم القيامة ، فقد أفسد رتبة (أَوْ) ، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيما لأنه لا ليلة
بعده ولا يوم ، والأيام كأنها نتائج لمجيء واحد إثر واحد ، فكأن آخر يوم قد عقم
وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد ، وقوله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ) ، السابق منه أنه في يوم القيامة من حيث لا ملك فيه لأحد
من ملوك الدنيا ، ويجوز أن يريد به يوم بدر ونحوه من حيث ينفذ فيه قضاء الله وحده
ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه ، فأما من تأوله في يوم القيامة فاتسق
له قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله (مُهِينٌ) ، ومن تأوله في يوم بدر ونحوه جعل قوله «فالذين آمنوا» ،
ابتداء خبر عن حالهم المتركبة على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر.
وقوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن
مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات
حتف أنفه فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم (رِزْقاً حَسَناً) وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل ، وظاهر الشريعة أن
المقتول أفضل ، وقال بعض الناس : المقتول والميت في سبيل الله شهيدان ، ولكن
للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله ، و «الرزق الحسن» ، يحتمل أن يريد به رزق
الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة ، وقرأت فرقة
، «مدخلا» ، بضم الميم من أدخل فهو محمول على الفعل المذكور ، وقرأت فرقة «مدخلا»
بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلا ، وأسند الطبري عن
سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين
أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل ، فقال : أراكم أيها
الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فو الذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت
اقرؤوا قول الله تعالى (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، إلى قوله (حَلِيمٌ) وقوله تعالى : (ذلِكَ) ، إلى قوله (الْكَبِيرُ) المعنى الأمر ذلك ، ثم أخبر تعالى عمن عاقب من المؤمنين من
ظلمه من الكفرة ووعد المبغي
عليه بأنه ينصره
وسمى الذنب في هذه الآية باسم العقوبة كما تسمى العقوبة كثيرا باسم الذنب وهذا كله
تجوز واتساع ، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في أشهر
الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلا القتال فلما اقتتلوا جد المؤمنون
ونصرهم الله ، فنزلت هذه الآية فيهم ، وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ، معناها نصر الله أولياءه ومن بغي عليه بأنه القادر على
العظائم الذي لا تضاهى قدرته فأوجزت العبارة بأن أشار ب (ذلِكَ) إلى النصر وعبر عن القدرة بتفصيلها فذكر منها مثلا لا يدعى
لغير الله تعالى ، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما إيلاجا تجوزا وتشبيها ،
وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) معناه نحو ما ذكرناه ، وقرأت فرقة «وأن» بفتح الألف ،
وقرأت فرقة «وإن» بكسر الألف ، وقرأت فرقة «تدعون» بالتاء من فوق ، وقرأت فرقة «يدعون»
، والإشارة بما يدعى من دونه ، قالت فرقة هي إلى الشيطان ، وقالت فرقة هي إلى
الأصنام والعموم هنا حسن.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ
لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
(٦٥)
(أَلَمْ تَرَ) تنبيه وبعده خبر (أَنَّ اللهَ) تعالى (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) فظلت (الْأَرْضُ) تخضر عنه ، وقوله (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول
الماء واستمرارها كذلك عادة ، ورفع قوله (فَتُصْبِحُ) من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها
جوابا لقوله (أَلَمْ تَرَ) فاسد المعنى ، وروي عن عكرمة أنه قال : هذا لا يكون إلا
بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله (فَتُصْبِحُ) مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في
سائر البلاد يتأخر.
قال القاضي أبو
محمد : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي
تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق ، وقرأ الجمهور «مخضرة» ، و «اللطيف»
المحكم للأمور برفق ، واللام في (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ) لام الملك والمعنى الذي لا حاجة به إلى شيء هكذا هو على
الإطلاق ، وقوله (سَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ) يريد من الحيوان والمعادن وسائر المرافق ، وقرأ الجمهور «والفلك»
بالنصب ، وذلك يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون عطفا على (ما) بتقدير وسخر الفلك ، والآخر أن يكون عطفا على المكتوبة
بتقدير وإن الفلك وقوله ، (تَجْرِي) على الإعراب الأول. في موضع الحال ، وعلى الإعراب الثاني
في موضع الخبر. وقرأت فرقة «والفلك» بالرفع فتجري خبر على هذه القراءة. قوله : (بِإِذْنِهِ) يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة
كوقوعها ، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم
سقطت ، ويحتمل أن
يعود قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على «الإمساك» لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، فكأنه
أراد إلا بإذنه فيه يمسكها ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ
وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ
(٦٧)
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨)
اللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
(٦٩)
الإحياء والإماتة
في هذه الآية ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه
بالمعنى في هذه ، و «المنسك» المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة ، وهو أيضا موضع
النسك ، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة
وقوله (هُمْ ناسِكُوهُ) يعطي أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه
، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح ، وقولهم للمؤمنين
تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب
هذه المنازعة ، وقوله (فَلا يُنازِعُنَّكَ) هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف ، وتحتمل
معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية ، وقال أبو
إسحاق : المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى
التخويف ، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك ، فالنهي إنما يراد به معنى
من غير اللفظ ، كما يراد في قولهم لا أرينك هاهنا أي لا تكن هاهنا ، وقرأت فرقة «فلا
ينزعنّك» ، وقوله (فِي الْأَمْرِ) معناه على التأويل أن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين
والكتاب ونحوه ، وعلى أن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن
الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح ، و «الهدى» في هذه الآية الإرشاد ، وقوله
(وَإِنْ جادَلُوكَ) الآية موادعة محضة نسختها آية السيف ، وباقي الآية وعيد.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ
يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)
(٧٢)
لما أخبر تعالى في
الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخبر بأن
عنده علم كل شيء
ليقع الحكم في معلوم ، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته
و (إِنَّ ذلِكَ) كله (فِي كِتابٍ) وهو اللوح المحفوظ وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) ، يحتمل أن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوما
، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف. ثم ذكر تعالى على جهة التوبيخ
فعل الكفرة في أنهم (يَعْبُدُونَ) من الأصنام (مِنْ دُونِ اللهِ ما
لَمْ يُنَزِّلْ) الله فيه حجة ولا برهانا. و «السلطان» ، الحجة حيث وقع في
القرآن ، وقوله (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ نَصِيرٍ) ، توعد ، والضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على كفار قريش ، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن
من النبي عليهالسلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء
إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون
ويتسرعون إلى السطوة بالتالي ، والمعنى أنهم (يَكادُونَ يَسْطُونَ) دهرهم أجمع ، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين
نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليهالسلام حين أغاثه ، وحل الأمر أبو بكر ، وبعمر حين أجاره العاصي
بن وائل وأبي ذر وغير ذلك ، والسطو إيقاع بمباطشة أو أمر بها ، ثم أمر الله تعالى
نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع (أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) والإشارة ب (ذلِكُمُ) إلى السطو ثم ابتدأ ينبىء كأن قائلا قال له وما هو قال (النَّارُ) أي نار جهنم ، وقوله (وَعَدَهَا اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون
الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه ، ولم يجىء مطلقا ، ويحتمل أن يكون أراد أن
الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه
تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد ونحوه أن ذلك من مسارها ، و (الْمَصِيرُ) مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع ، ويقتضي كلام
الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب (ذلِكُمُ) هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال : ألا أخبركم بأكره
إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا
كله ضعيف.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
(٧٤)
الخطاب بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قيل هو خطاب يعم العالم ، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ
الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه
خطاب يعم جميع الناس.
متى نظره أحد في
عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل ، (ضُرِبَ) ، من هو فقالت فرقة : المعنى (ضُرِبَ) أهل الكفر مثلا لله أصنامهم وأوثانهم فاستمعوا أنتم أيها
الناس لأمر هذه الآلهة ، وقالت فرقة : (ضُرِبَ) الله مثلا لهذه الأصنام وهو كذا وكذا ، فالمثال والمثل في
القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى ، والمثال في التأويل
الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام ، ومعنى (ضُرِبَ) أثبت وألزم وهذا كقوله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) [آل عمران : ١١٢]
،
وكقولك ضربت
الجزية ، وضرب البعث ، ويحتمل أن يكون «ضرب المثل» من الضريب الذي هو المثل ومن
قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل ، وقرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت والضمير
للكفار ، وقرأت فرقة «يدعون» بالياء على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام ، وبدأ
تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به ، فكأنه قال ليس
لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز ، وذكر تعالى أمر سلب الذباب
لأنه كان كثيرا محسوسا عند العرب ، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب
فكان الذباب يذهب بذلك وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلا ، و «الذباب» جمعه
أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في
الديون لا في الحيوان ، واختلف المتأولون في قوله تعالى ، (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ، فقالت فرقة أراد ب (الطَّالِبُ) الأصنام وب (الْمَطْلُوبُ) الذباب ، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من
طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان ، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب
والفضيلة من جهة الأصنام ، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن
لا منفعة لهم وعلى كل قول ، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام
عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة وأخس منزلة ، وقوله (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، خطاب للناس المذكورين ، والضمير في (قَدَرُوا) للكفار والمعنى ما وفوه حقه من التعظيم والتوحيد ثم أخبر
بقوة الله وعزته وهما صفتان مناقضتان لعجز الأصنام.
قوله عزوجل :
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
(٧٧)
روي أن هذه الآية
إلى قوله (الْأُمُورُ) نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من
بيننا الآية فأخبر (اللهُ) تعالى أنه (يَصْطَفِي) أي يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) إلى الأنبياء وغيرهم حسبما ورد في الأحاديث (وَمِنَ النَّاسِ) وهم الأنبياء المبعثون لإصلاح الخلق الذين اجتمعت لهم
النبوءة والرسالة. وقوله (ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) عبارة عن إحاطة علمه بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما
بعدهم ، و (الْأُمُورُ) ، جمع أمر ليس يراد به المصدر ثم أمر الله تعالى المؤمنين
بعبادته وخص «الركوع والسجود» بالذكر تشريفا للصلاة ، واختلف الناس هل في هذه
الآية سجدة؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا ، وقوله (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ) ، ندب ، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا
الموضع ، وقوله (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حق المؤمنين كقوله (لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] و «الفلاح»
في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.
قوله عزوجل :
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ
مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)
(٧٨)
قالت فرقة : هذه
آية أمر الله تعالى فيها بالجهاد في سبيله وهو قتال الكفار ، وقالت فرقة : بل هي
أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك ، أمر الله تعالى
عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي
القتال في سبيل الله ، وقال هبة الله وغيره : إن قوله (حَقَّ جِهادِهِ) وقوله في الأخرى ، (حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]
، منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من
أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعا ثابتا فيقال إنه نسخ بالتخفيف ، وإطلاقهم
النسخ في هذا غير محدق ، و (اجْتَباكُمْ) معناه تخيركم ، وقوله (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) معناه من تضييق يريد في شرعة الملة ، وذلك أنها حنيفية
سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا
مما كثر عده ، والحرجة الشجر الملتف المتضايق ، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن
استقام على منهاج الشرع ، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم
جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين ، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل
لاثنين في سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج ، وقوله (مِلَّةَ) ، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء
، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة وقيل هو كما ينصب المصدر
، وقوله (هُوَ سَمَّاكُمُ) ، قال ابن زيد الضمير ل (إِبْراهِيمَ) والإشارة إلى قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ،
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى ، و (مِنْ قَبْلُ) ، معناه في الكتب القديمة (وَفِي هذا) ، في القرآن ، وهذه اللفظة تضعف قول من قال : الضمير ، ل (إِبْراهِيمَ) ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف ، وقوله (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ) أي بالتبليغ ، وقوله (وَتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم ، وأسند الطبري
إلى قتادة أنه قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي ، كان يقال للنبي أنت
شهيد على أمتك وقيل لهذه (وَتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) ، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) ، وكان يقال للنبي سل تعط وقيل لهذه (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] ثم
أمر تعالى ب (الصَّلاةَ) المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها ، وب (الزَّكاةَ) أن تؤدى كما أنعم عليكم ، فافعلوا كذا ثم أمر ب «الاعتصام
بالله» أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه ، ورفض التوكل على سواه ، و (الْمَوْلى) في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه ، وباقي الآية بين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المؤمنون
قوله عزوجل :
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(٣) وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
فَمَنِ
ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)
(٧)
أخبر الله تعالى
عن فلاح المؤمنين وأنهم نالوا البغية وأحرزوا البقاء الدائم ، وروي عن كعب الأحبار
أن الله تعالى لما خلق جنة عدن قال لها تكلمي فقالت (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) ، وروي عن مجاهد أن الله تعالى لما خلق الجنة وأتقن حسنها
قال (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) ، وقرأ طلحة بن مصرف «قد أفلح المؤمنون» بضم الحاء يريد قد
أفلحوا ، وهي قراءة مردودة ، وروي عنه «قد أفلح» بضم الهمزة وكسر اللام ، ثم وصف
تعالى هؤلاء المفلحين فقال (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) والخشوع التطامن وسكون الأعضاء والوقار ، وهذا إنما يظهر
ممن في قلبه خوف واستكانة ، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في
الصلاة فقال : لو خشع هذا خشعت جوارحه ، وروي أن سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا
يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء
قبلته أو بين يديه ، وفي الحرم إلى الكعبة ، وروي عن ابن سيرين وغيره أن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم كان يلتفت في صلاته إلى السماء فنزلت الآية في ذلك ، و (اللَّغْوِ) سقط القول وهذا يعم جميع ما لا خير فيه ويجمع آداب الشرع ،
وكذلك كان النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وكأن الآية فيها موادعة ، وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) ذهب الطبري وغيره إلى أنها الزكاة المفروضة في الأموال ،
وهذا بين ، ويحتمل اللفظ أن يريد ب «الزكاة» الفضائل كأنه أراد الأزكى من كل فعل ،
كما قال تعالى (خَيْراً مِنْهُ
زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) [الكهف : ٨١]
وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) صفة العفة ، وقوله (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الآية ، يقتضي تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم وكل
ذلك في قوله ، (وَراءَ ذلِكَ) ويريد وراء هذا الحد الذي حد ، ومعنى (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من النساء ولما كان (حافِظُونَ) بمعنى محجزون حسن استعمال (عَلى) ، و «العادي» الظالم.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)
(١١)
قرأ جمهور الناس «لأماناتهم»
بالجمع ، وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد ، والأمانة العهد تجمع كل ما تحمله
الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا ، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير
ذلك ، ورعاية ذلك حفظه والقيام به ، والأمانة أعم من العهد ، إذ كل عهد فهو أمانة
فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد ، وقد تعن أمانة فيما لم يعهد فيه تقدم ، وهذا
إذا أخذناهما بنسبتهما إلى العبد ، فإن أخذناهما من حيث هما عهد الله إلى عباده
وأمانته التي حملهم كانا في رتبة واحدة وقرأ الجمهور «صلواتهم» ، وقرأ حمزة
والكسائي «صلاتهم» بالإفراد ، وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجمع ، والمحافظة
على الصلاة رقب أوقاتها والمبادرة إلى وقت الفضل فيها ، و (الْوارِثُونَ) يريد الجنة ، وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في
النار ، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويحصل الكفار في
مساكنهم في النار ، ويحتمل أن يسمي تعالى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصلوها
دون غيرهم ، فهو اسم مستعار على الوجهين ، و (الْفِرْدَوْسَ) ، مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، واللفظة ، فيما قال مجاهد
، رومية عربت ، والعرب تقول للكروم فراديس ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأم حارثة : إنها جنان كثيرة وإن ابنك قد أصاب الفردوس
الأعلى.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
ثُمَّ
جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ
(١٣) ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)
(١٤)
هذا ابتداء كلام
والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني ، واختلف
المفسرون في قوله (الْإِنْسانَ) فقال قتادة وغيره : أراد آدم عليهالسلام لأنه استل من الطين ع ويجيء الضمير في قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ) عائدا على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى
لا يصلح إلا له ، نظير ذلك (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] وغيره ،
وقال ابن عباس وغيره المراد بقوله (الْإِنْسانَ) ابن آدم ، و (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) صفوة الماء ع وهذا على أنه اسم الجنس ويترتب فيه أنه سلالة
من حيث كان الكل عن آدم أو عن أبويه المتغذيين بما يكون من الماء والطين وذلك
السبع الذي جعل الله رزق ابن آدم فيها ، وسيجيء قول ابن عباس فيها إن شاء الله ،
وعلى هذا يجيء قول ابن عباس : إن «السلالة» هي صفوة الماء يعني المني ، وقال مجاهد
(سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) : مني آدم ع وهذا نبيل إذ آدم طين
وذريته من سلالة ،
وما يكون عن الشيء فهو سلالته ، وتختلف وجوه ذلك الكون فمنه قولهم للخمر سلالة
لأنها سلالة العنب ومنه قول الشاعر : [الطويل]
إذا أنتجت منها
المهار تشابهت
|
|
على العود إلا
بالأنوف سلائله
|
ومن اللفظ قول هند
بنت النعمان بن بشير :
سليلة أفراس
تجللها بغل
ومنه قول الآخر [حسان
بن ثابت] : [الطويل]
فجاءت به عضب
الأديم غضنفرا
|
|
سلالة فرج كان
غير حصين
|
وهذه الفرقة يترتب
مع قولها عود الضمير في «جعلنا وأنشأنا» ، و (النُّطْفَةَ) تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره ، وهي هنا لمني
ابن آدم ، و «القرار المكين» من المرأة هو موضع الولد ، و «المكين» المتمكن فكأن
القرار هو المتمكن في الرحم ، و (الْعَلَقَةَ) الدم الغريض ، و (الْمُضْغَةَ) بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، وقرأ الجمهور (عِظاماً) في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظما»
بالإفراد في الموضعين ، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولا وبالجمع
في الثاني ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكير بعكس ذلك ، وفي قراءة ابن
مسعود ، «ثم جعلنا المضغة عظاما وعصبا فكسوناه لحما» ، واختلف الناس في «الخلق
الآخر» ، فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه
، وقال ابن عباس أيضا : خروجه إلى الدنيا ، وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره ، وقال
مجاهد : كمال شبابه وقال ابن عباس أيضا : تصرفه في أمور الدنيا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق
والإدراك وحسن المحاولة هو بها (آخَرَ) ، وأول رتبة من كونه (آخَرَ) هي نفخ الروح فيه ، والطرف الآخر من كونه (آخَرَ) تحصيله المعقولات ، و «تبارك» مطاوع بارك فكأنها بمنزلة
تعالى وتقدس من معنى البركة ، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية
إلى قوله (آخَرَ) قال (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم هكذا أنزلت ، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل ، ويروى أن
قائل ذلك هو عبد الله بن أبي سرح وبهذا السبب ارتد ، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به
محمد وفيه نزلت : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ
شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] ،
الآية وقوله (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه ومنه قول الشاعر : [الكامل]
ولأنت تفري ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفري
|
وذهب بعض الناس
إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ، فقال ابن جريج : إنما قال (الْخالِقِينَ) لأنه تعالى قد أذن لعيسى في أن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك
، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من
العدم ، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر
فقالوا الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين إن
الله خلق
السماوات سبعا ،
والأرضين سبعا ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع
وعشرين ، فقال : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون
رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من
سبع هذه الآية ، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله (فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً
وَأَبًّا) [عبس : ٢٧] الآية
السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول
، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم ، وقيل القضب والأب للأنعام
والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ إِنَّكُمْ
بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ
لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها
تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)
(٢٠)
(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من هذه الأحوال ، وقرأ ابن أبي عبلة «لمايتون»
بالألف ، و (تُبْعَثُونَ) معناه من قبوركم أحياء ، وهذا خبر بالبعث والنشور ، و «الطريق»
كل ما كان طبقات بعضه فوق بعض ، ومنه طارقت نعلي ، ويريد ب «السبع الطرائق»
السماوات ، ويجوز أن تكون «الطرائق» بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء ، وقوله تعالى
: (وَما كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غافِلِينَ) نفي عام في إتقان خلقهم وعن مصالحهم وعن أعمالهم ، وقوله
تعالى : (ماءً بِقَدَرٍ) ، قال بعض العلماء أراد المطر ، وقال بعضهم إنما أراد
الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل ، والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء
الذي أنزله الله تعالى ، وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ويمكن
أن يقيد هذا بالعذب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ،
وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض ، ولا محالة أن
الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء ، وقوله ، (بِقَدَرٍ) ، أي على مقدار مصلح لأنه لو كثر أهلك ، (فَأَنْشَأْنا) ، معناه فأوجدنا وخلقنا ، وذكر تعالى «النخيل والأعناب»
لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما قاله الطبري ، ولأنهما أيضا أشرف
الثمار فذكرها مثالا تشريفا لها وتنبيها عليها ، وقوله (لَكُمْ فِيها) يحتمل أن يعود الضمير على الجنات فيريد حينئذ جميع أنواع
الفاكهة ، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة ، إذ فيها مراتب وأنواع والأول
أعم لسائر الثمرات ، وقوله (وَشَجَرَةً) عطف على قوله (جَنَّاتٍ) ويريد بها الزيتونة وهي كثيرة في (طُورِ سَيْناءَ) من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليهالسلام قاله ابن عباس وغيره ، و «الطور» الجبل في كلام العرب وقيل
هو مما عرب من كلام العجم واختلف في (سَيْناءَ) فقال قتادة معناه الحسن ويلزم على هذا التأويل أن ينون «الطور»
وقال مجاهد معناه مبارك ، وقال معمر عن فرقة معناه ذو شجر ع ويلزمهم أن ينون «الطور»
، وقال
الجمهور هو اسم
الجبل كما تقول جبل أحد ، و (سَيْناءَ) ، اسم مضاف إليه الجبل ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «سيناء»
بكسر السين ، وقرأ الباقون وعمر بن الخطاب «سيناء» بفتح السين ، وكلهم بالمد ،
فعلى فتح السين لا ينصرف الاسم بوجه ، وعلى كسر السين فالهمزة كهمزة حرباء ولم
يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة أو أرض ، وقرأ الجمهور ، «تنبت» بفتح التاء
وضم الباء فالتقدير تنبت ومعها الدهن كما تقول خرج زيد بسلاحه ، وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء واختلف في التقدير على هذه القراءة ، فقالت فرقة الباء
زائدة وهذا كقوله (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥]
وهذا المثال عندي معترض وإن كان أبو علي ذكره وكقول الشاعر : [الرجز]
نحن بني جعدة
أرباب الفلج
|
|
نضرب بالبيض
ونرجو بالفرج
|
ونحو هذا. وقالت
فرقة : التقدير «تنبت» جناها ومعه الدهن فالمفعول محذوف قاله أبو علي الفارسي أيضا
وقد قيل نبت وأنبت بمعنى فيكون الفعل كما مضى في قراءة الجمهور والأصمعي ينكر
البيت ويتهم قصيدة زهير التي فيها أنبت البقل ، وقرأ الزهري والحسن والأعرج «تنبت»
برفع التاء ونصب الباء قال أبو الفتح هي باء الحال أي تنبت ومعها دهنها وفي قراءة
ابن مسعود تخرج بالدهن وهي أيضا باء الحال وقرأ زر بن حبيش «تنبت» بضم التاء وكسر
الباء «الدهن» بحذف الباء ونصبه وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان»
بالألف والمراد في هذه الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان وهي من أركان النعم
التي لا غنى بالصحة عنها ويدخل في معنى الزيتونة شجر الزيت كله على اختلافه بحسب
الأقطار وقرأت فرقة ، «وصبغ» ، وقرأت فرقة «وأصباغ» بالجمع ، وقرأ عامر بن عبد قيس
، «ومتاعا للآكلين» ، قوله عزوجل :
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ(٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
(٢٢)
(الْأَنْعامِ) هي الإبل والبقر والضأن والمعز و «العبرة» في خلقتها وسائر
اخبارها ، وقرأ الجمهور «نسقيكم» بضم النون من أسقى ، ورويت عن عاصم ، وقرأ نافع
وعاصم وابن عامر «نسقيكم» بفتح النون من سقى ، فمن الناس من قال هما لغتان بمعنى ،
ومنهم من قال سقيته إذا أعطيته للشفة وأسقيته إذا جعلت له سقيا لأرض أو ثمرة ونحوه
، فكأن الله تعالى جعل الأنعام لعبيده سقيا يشربون وينتجعون ، وقرأ أبو جعفر «تسقيكم»
بالتاء من فوق أي تسقيكم الأنعام ، و «المنافع» الحمل عليها وجلودها وأصوافها وأوبارها
وغير ذلك مما يطول عده ، و (الْفُلْكِ) ، السفن واحدها فلك الحركات في الواحد كحركات قفل والحركات
في الجمع كحركات أسد وكتب.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣)
فَقالَ
الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ)
(٢٦)
هذا ابتداء تمثيل
لكفار قريش بأمم كفرت بأنبيائها فأهلكوا ، ففي ضمن ذلك الوعيد بأن يحل بهؤلاء نحو
ما حل بأولئك ، و «نوح» عليهالسلام أول نبي أرسل إلى الناس وإدريس أول من نبيّ ولم يرسل ، و (الْمَلَأُ) الأشراف لأنهم عنهم يصدر الملأ وهو جمع القوم ، وفي قوله «هؤلاء»
استبعاد بعثة البشر وهم قوم مقرون بالملائكة وذلك لا شك متقرر عندهم من بقايا
نبوءة آدم وإدريس وغيرهما. ولم يكن عن علم صحيح ولا معرفة بأخبار نبوءة والجنة
الجنون ، (فَتَرَبَّصُوا) معناه فاصبروا وانتظروا هلاكه ، و (حَتَّى حِينٍ) معناه إلى وقت ولم يعينوه وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم
القدر منه ، ثم إن نوحا عليهالسلام دعا على قومه حين يئس منهم وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس
بنص وإنما هو ظاهر من قوله (بِما كَذَّبُونِ) فهذا يقتضي طلبه العقوبة وأما النصرة بمجردها فكانت تكون
بردهم إلى الإيمان ، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «ربّ انصرني» برفع الباء وكذلك «ربّ
احكم» وشبهه.
قوله عزوجل :
(فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)
وَقُلْ
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)
(٣٠)
قد تقدم القول في
صفة السفينة وقدرها في سورة هود ، و (الْفُلْكَ) هنا مفرد لا جمع ، وقوله تعالى (بِأَعْيُنِنا) عبارة عن الإدراك ، هذا مذهب الحذاق ، ووقفت الشريعة على
أعين وعين ولا يجوز أن يقال عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية و (وَحْيِنا) معناه في كيفية العمل ووجه البيان ، وذلك أن جبريل عليهالسلام نزل إلى نوح فقال له اصنع كذا وكذا لجميع حكم السفينة وما
تحتاج إليه واستجن الكفار نوحا لا دعائه النبوءة بزعمهم أنها دعوى وسخروا منه
لعمله السفينة على غير مجرى ، ولكونها أول سفينة إن صح ذلك ، وقوله ، (أَمْرُنا) ، يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى أن نأمر الماء بالفيض ويحتمل
أن يريد واحد الأمور أي هلاكنا للكفرة ، وقد تقدم القول في معنى قوله (وَفارَ التَّنُّورُ) والصحيح من الأقوال فيه أنه تنور الخبز وأنها أمارة كانت
بين الله تعالى وبين نوح عليهالسلام وقوله (فَاسْلُكْ) معناه فادخل ومنه قول الشاعر : [البسيط]
حتى سلكن الشوى
منهن في مسلك
|
|
من نسل جوابة
الآفاق مهداج
|
وقول الآخر : [الوافر]
وكنت لزاز خصمك
لم أعرد
|
|
وقد سلكوك في
يوم عصيب
|
يقال سلك وأسلك
بمعنى ، وقرأ حفص عن عاصم «من كلّ» بتنوين «كلّ» ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم
بإضافة «كلّ» دون تنوين و «الزوجان» كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء كالذكر والأنثى
من الحيوان ونحو النعال وغيرها كل واحد زوج للآخر هذا موقع اللفظة في اللغة ،
والعدديون يوقعون الزوج على الاثنين وعلى هذا أمر استعمال العامة للزوج ، وقوله (وَأَهْلَكَ) يريد قرابته ثم استثنى (مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ) بأنه كافر وهو ابنه وامرأته ، ثم أمر نوح عليهالسلام أن لا يراجع ربه ولا يخاطبه شافعا في أحد من الظالمين ،
والإشارة إلى من استثنى إذ العرف من البشر الحنو على الأهل ، ثم أمره تعالى بأن
يحمد ربه على النجاة من الظلمة عند استوائه وتمكنه في الفلك ، ثم أمره بالدعاء في
بركة المنزل ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي وهو موضع
النزول ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «منزلا» وهو مصدر بمعنى الإنزال بضم الميم
وفتح الزاي ، ويجوز أن يراد موضع النزول وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) ، خطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم أي أن فيما جرى على هذه الأمم لعبرا ودلائل لمن له نظر
وعقل ، ثم أخبر أنه تعالى يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش
بهذا الإخبار ، و (إِنَ) عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة واللام لام تأكيد ،
والفراء يقول (إِنَ) نافية واللام بمعنى إلا و (لَمُبْتَلِينَ) معناه لمصيبين ببلاء ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١)
فَأَرْسَلْنا
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)
(٣٤)
قال الطبري رحمهالله : إن هذا «القرن» هم ثمود و «رسولهم» صالح.
قال القاضي أبو
محمد : وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة ، وفي
هذا احتمالات كثيرة والله أعلم ، (وَأَتْرَفْناهُمْ) معناه نعمناهم وبسطنا لهم الآمال والأرزاق ، ومقالة هؤلاء
أيضا تقتضي استبعاد بعثة البشر وهذه الطائفة وقوم نوح لم يذكر في هذه الآيات أن
المعجزة ظهرت لهم وأنهم كذبوا بعد وضوحها ولكن ذلك مقدر معلوم وإن لم تعين لنا
المعجزة والعقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه ، ووجوب الاتباع إنما هو
بعد قيام الحجة على المرء أو على من هو المقصد ، والجمهور كالعرب في معجزة القرآن
والأطباء لعيسى ، والسحرة لموسى ، فبقيام الحجة على هؤلاء قامت على جميع من
وراءهم.
قوله عزوجل :
(أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ
هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦)
إِنْ
هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
إِنْ
هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)
قالَ
رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ)
(٣٩)
قوله (أَيَعِدُكُمْ) استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد وبمعنى الهزء
بهذا الوعد.
و (أَنَّكُمْ) الثانية بدل من الأولى عند سيبويه وفيه معنى تأكيد الأولى
وكررت لطول الكلام ، وكأن المبرد أبى عبارة البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر
خبر «أن» الأولى والخبر عند سيبويه محذوف تقديره أنكم تبعثون إذا متم ، وهذا
المقدر هو العامل في (إِذا) وفي قراءة عبد الله بن مسعود «أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا
وعظاما أنكم مخرجون» بحذف (أَنَّكُمْ) الأولى ، ويعنون بالإخراج النشور من القبور ، وقوله (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) استبعاد ، وهذه كلمة لها معنى الفعل ، التقدير بعد كذا ،
فطورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ذلك ، ومنه قول جرير : [الطويل]
فأيهات أيهات
العقيق ومن به
|
|
وأيهات خل
بالعقيق نواصله
|
وأحيانا يكون
الفاعل محذوفا وذلك عند اللام كهذه الآية ، التقدير بعد الوجود لما توعدون ، ومن
حيث كانت هذه اللفظة بمعنى الفعل أشبهت الحروف مثل صه وغيرها ، فلذلك بنيت على
الفتح ، وهذه قراءة الجماعة بفتح التاء وهي مفرد سمي به الفعل في الخبر ، أي بعد ،
كما أن شتان اسم افترق وعرف تسمية الفعل أن يكون في الأمر كصه وحسن ، وقرأ أبو
جعفر «هيهات هيهات» بكسر التاء غير منونة ، وقرأها عيسى بن عمر وأبو حيوة بخلاف
عنه «هيهات هيهات» بتاء مكسورة منونة وهي على هاتين القراءتين عند سيبويه جمع «هيهات»
وكان حقها أن تكون هيهاتي» إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء فقال سيبويه رحمهالله هي مثل بيضات أراد في أنها جمع فظن بعض النحاة أنه أراد في
اتفاق المفرد فقال واحد «هيهات» هيهة وليس كما قال ، وتنوين عيسى على إرادة
التنكير وترك التعريف ، وقرأ عيسى الهمداني «هيهات» بتاء ساكنة وهي على هذا جماعة
لا مفرد ، وقرأها كذلك الأعرج ، ورويت عن أبي عمرو وقرأ أبو حيوة «هيهات» بتاء
مرفوعة منونة وهذا على أنه اسم معرب مستقل وخبره (تُوعَدُونَ) أي البعد لوعدكم ، كما تقول النجح لسعيكم ، وروي عن أبي
حيوة «هيهات» بالرفع دون تنوين ، وقرأ خالد بن إلياس «هيهاتا هيهاتا» بالنصب
والتنوين والوقف على «هيهات» من حيث هي مبنية بالهاء ، ومن قرأ بكسر التاء وقف
بالتاء ، وفي اللفظة لغات «هيها وهيهات وهيهان وأيهات وهيهات وهيهاتا وهيهاء» قال
رؤبة ، «هيهاه» من منخرق «هيهاوه» ، وقرأ ابن أبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون»
بغير لام ، وقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) أرادوا أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود ، وإنما تموت منا
طائفة فتذهب وتجيء طائفة جديدة ، وهذا كفر الدهرية و (بِمُؤْمِنِينَ) معناه بمصدقين ، ثم دعا عليهم نبيهم وطلب عقوبتهم على
تكذيبهم.
قوله عزوجل :
(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ
(٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
(٤٢) ما
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
ثُمَّ
أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ)
(٤٤)
المعنى (قالَ) الله لهذا النبي الداعي (عَمَّا قَلِيلٍ) يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم ، ومن ذكر (الصَّيْحَةُ) ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود ، وقوله (بِالْحَقِ) معناه بما استحقوا من أفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم ، و
«الغثاء» ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به فيشبه كل هامد وتالف
بذلك و «بعدا» منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره ثم أخبر تعالى عن أنه «أنشأ» بعد هؤلاء
أمما كثيرة كل أمة بأجل في كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها و (تَتْرا) مصدر بمنزلة فعلى مثل الدعوى والعدوى ونحوها ، وليس تترى
بفعل وإنما هو مصدر من تواتر الشيء ، وقرأ الجمهور «تترا» كما تقدم ووقفهم بالألف
، وحمزة والكسائي يميلانها ، قال أبو حاتم هي ألف تأنيث ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
«تترا» بالتنوين ووقفهما بالألف وهي ألف إلحاق قال ابن سيده يقال جاءو «تترا وتترا»
أي متواترين التاء مبدلة من الواو على غير قياس لأن قياس إبدال الواو تاء إنما هو
في افتعل وذلك نحو اتزر واتجه ، وقوله أتبعنا (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي في الإهلاك ، وقوله (وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) يريد أحاديث مثل ، وقلّما يستعمل الجعل حديثا إلا في الشر.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥)
إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ
(٤٦) فَقالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما
فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)
(٤٨)
(ثُمَ) هنا على بابها لترتيب الأمور واقتضاء المهلة ، و «الآيات»
التي جاء بها (مُوسى) و (هارُونَ) هي اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي وهما «السلطان
المبين» ، ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست ، وأما غير ذلك
مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. و «الملأ»
هنا الجمع يعم الأشراف وغيرهم ، و «استكبروا» ، معناه عن الإيمان بموسى وأخيه
لأنهم أنفوا من ذلك ، و (عالِينَ) ، معناه قاصدين للعلو بالظلم والكبرياء ، وقوله (عابِدُونَ) معناه خامدون متذللون ، ومن هنا قيل لعرب الحيرة العباد
لأنهم دخلوا من بين العرب في طاعة كسرى ، هذا أحد القولين في تسميتهم والطريق
المعبد المذلل وعلو هؤلاء هو الذي ذكر الله تعالى في قوله (تِلْكَ
الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً) [القصص : ٨٣] و (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) يريد بالغرق.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
يا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
(٥١)
(الْكِتابَ) التوراة ، و (لَعَلَّهُمْ) يريد بني إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون
والقبط ، والترجي في «لعل» في حيز البشر أي كان من فعلنا معهم ما يرجو معه ابن آدم
إيمانهم وهداهم والقضاء قد حتم بما حتم ، و (ابْنَ مَرْيَمَ) ، عيسى عليهالسلام وقصتهما كلها آية عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل وأخذها
من كلا الوجهين متمكن ، و «آوى» معناه ضم واستعمل اللفظة في الأماكن أي أقررناهما
، و «الربوة» المرتفع من الأرض ، وقرأ جمهور الناس «ربوة» بضم الراء ، وقرأ عاصم
وابن عامر بفتحها وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن ، وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم
بكسرها ، وقرأ محمد بن إسحاق «رباوة» بضم الراء ، وقرأ الأشهب العقيلي بفتحها ،
وقرأت فرقة بكسرها وكلها لغات قرىء بها ، و «القرار» ، التمكن فمعنى هذا أنها
مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس ، وقال قتادة «القرار» هنا الحبوب
والثمار ، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها فهي أهل أن يستقر فيها وقد
يمكن أن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار فبين بعد أن ماء هذه الربوة
يرى معينا جاريا على وجه الأرض قاله ابن عباس وهذا كمال الكمال ، و «المعين» ،
الظاهر الجري للعين فالميم زائدة وهو الذي يعاين جريه لا كالبئر ونحوه ، وكذلك
أدخل الخليل وغيره هذه اللفظة في باب. ع ، ي ، ن ، وقد يحتمل أن تكون من قولهم معن
الماء إذا كثر ، ومنه قولهم المعن المعروف والجود ، فالميم فاء الفعل ، وأنشد
الطبري على هذا قول عبيد بن الأبرص :
واهية أو معين
ممعن
|
|
وهضبة دونها
لهوب
|
وقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عينا معينا ، وهذا
يحتمل الوجهين ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم حين استحيت في قصة عيسى
عليهالسلام وهو الذي قيل لها فيه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] هذا
قول بعض المفسرين واختلف الناس في موضع الربوة فقال ابن المسيب سعيد : هي الغوطة
بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأن صفة الغوطة أنها (ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ) على الكمال ، وقال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين وأسنده
الطبري عن كريب البهزي عن النبي عليهالسلام ، ويعارض هذا القول أن الرملة ليس يجري بها ماء البتة
وذكره الطبري وضعف القول به ، وقال كعب الأحبار «الربوة» بيت المقدس وزعم أن في
التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر
ميلا. ع ويترجح أن «الربوة» بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت ،
وحينئذ كان الإيواء ، وقال ابن زيد «الربوة» بأرض مصر وذلك أنها ربا يجيء فيض
النيل إليها فيملأ الأرض ولا ينال تلك الربا وفيها القرى وبها نجاتها ع ويضعف هذا
القول أنه لم يرو أن عيسى عليهالسلام ومريم كانا بمصر ولا
حفظت لهما بهما
قصة وقوله (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ) ، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض
القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى فلم يخاطبوا قط مجتمعين ، وإنما خوطب كل واحد في
عصره ، وقالت فرقة : الخطاب بقوله (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ) لمحمد عليهالسلام ، ثم اختلفت فقال بعضها : أقامه مقام الرسل كما قال :
الذين قال لهم الناس ، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر ، والوجه في هذا أن يكون
الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزا أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو
هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن
تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى ، وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع
صنفه ، وقال الطبري : الخطاب بقوله (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ) لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه ، والمشهور عنه أنه
كان يأكل من بقل البرية ، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، و (الطَّيِّباتِ) هنا الحلال ملذة وغير ذلك ، وفي قوله (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله
على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم.
قوله عزوجل :
(وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ
لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)
(٥٦)
قرأ عاصم وحمزة
والكسائي «وإنّ» بكسر الألف وشد النون ، وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الألف وتخفيف «أن»
، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «وأنّ هذه» بفتح الألف وتشديد «أنّ» ، فالقراءة
الأولى بينة على القطع ، وأما فتح الألف وتشديد النون فمذهب سيبويه أنها متعلقة
بقوله ، آخرا (فَاتَّقُونِ) على تقدير ولأن ، أي فاتقون لأن (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) وهذا عنده نحو قوله عزوجل : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨]. و «أن»
عنده في موضع خفض وهي عند الخليل في موضع نصب لما زال الخافض ، وقد عكس هذا الذي
نسبت إليهما بعض الناس ، وقال الفراء «أن» متعلقة بفعل مضمر تقديره واعلموا أو
واحفظوا ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «أمة واحدة» بالرفع على البدل ، وقرأ نافع
وعاصم وأبو عمرو «أمة واحدة» بالنصب على الحال وقيل على البدل من (هذِهِ) وفي هذا نظر ، وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) [المؤمنون : ٥١] ،
إنما هو مخاطبة لجميعهم وأنه بتقرير حضورهم وتجيء هذه الآية بعد ذلك بتقدير وقلنا
للناس ، وإذا قدرت (أَيُّهَا الرُّسُلُ) [المؤمنون : ٥١]
مخاطبة لمحمد عليهالسلام قلق اتصال هذه واتصال قوله (فَتَقَطَّعُوا) ، أما أن قوله (وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ) وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون بالمعنى فيحسن بعد ذلك
اتصال (فَتَقَطَّعُوا) ، ومعنى «الأمة» هنا الملة والشريعة والإشارة بهذه إلى
الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليهالسلام وهو دين الإسلام ، وقوله (فَتَقَطَّعُوا) يريد الأمم أي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع
الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا
ومثاله تجهمني
الليل وتخوفني السير وتعرقني الزمن ، وقرأ نافع «زبرا» بضم الزاي جمع زبور ، وقرأ
الأعمش وأبو عمرو بخلاف «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء ، فأما القراءة الأولى فتحتمل
معنيين أحدهما أن الأمم تنازعت أمرها كتبا منزلة فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة
وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل ثم حرف الكل وبدل ، وهذا قول قتادة ، والثاني أنهم
تنازعوا أمرهم كتبا وضعوها وضلالات ألفوها وهذا قول ابن زيد ، وأما القراءة
الثانية فمعناها فرقا كزبر الحديد ، ثم ذكر تعالى أن كل فريق منهم معجب برأيه
وضلالته وهذه غاية الضلال لأن المرتاب بما عنده ينظر في طلب الحق ومن حيث كان ذكر
الأمم في هذه الآية مثالا لقريش خاطب محمدا عليهالسلام في شأنهم متصلا بقوله (فَذَرْهُمْ) أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم و «الغمرة» ، ما
عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر لما حصل فيهم ، وقرأ أبو عبد الرحمن «في
غمراتهم» ، و (حَتَّى حِينٍ) أي إلى وقت فتح فيهم غير محدود وفي هذه الآية موادعة
منسوخة بآية السيف ، ثم وقفهم على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عندهم بالمال ونحوه
إنما هي لرضاه عن حالهم وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج ، وخبر «أن» في
قوله (نُسارِعُ) بنون العظمة ، وفي الكلام على هذه القراءة ضمير عائد
تقديره لهم به ، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء من تحت وكسر الراء
بمعنى أن إمدادنا يسارع ولا ضمير مع هذه القراءة إلا ما يتضمن الفعل ، وروي عن أبي
بكرة المذكور «يسارع» بفتح الراء ، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون وسقوط الألف ، و
(الْخَيْراتِ) هنا يعم الدنيا ، وقوله (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) وعيد وتهديد ، والشعور مأخوذ من الشعار وهو ما بلي الإنسان
من ثيابه.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
(٥٨)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)
(٦١)
لما فرغ ذكر
الكفرة وتوعدهم عقب ذلك ذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم ، و «الإشفاق»
أبلغ التوقع والخوف ، و (مِنْ) ، في قوله (مِنْ خَشْيَةِ) هي لبيان جنس الإشفاق ، والإشفاق إنما هو من عذاب الله ، و
«من» ، في قوله «من عذاب» هي لابتداء غاية و «الآيات» تعم القرآن وتعم العبر
والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر واعتبار وفي كل شيء له آية ، ثم ذكرهم
تعالى من الطرف الآخر وهو نفي الإشراك لأن لكفار قريش أن يقولوا ونحن نؤمن بآيات
ربنا ويريدون نصدق بأنه المخترع الخالق فذكر تعالى نفي الإشراك الذي لا حظ لهم فيه
بسبب أصنامهم ، وقوله (وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا) على قراءة الجمهور ، يعطون ما أعطوا وقال الطبري : يريد
الزكاة المفروضة وسائر الصدقة ، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا
التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب ، قال ابن عباس وابن جبير : هو عام
في جميع أعمال البر ، وهذا أحسن كأنه قال : والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله
ما بلغه جهدهم ،
وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يأتون ما أتوا» ومعناه يفعلون
ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلىاللهعليهوسلم وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي ، وذهبت فرقة إلى أن
ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح ، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت
يا رسول الله قوله تعالى (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في
الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه».
قال القاضي أبو
محمد : ولا نظر مع الحديث ، و «الوجل» نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما
المخلط فينبغي أن يكون أبدا تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه ، وأما
التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت ، وفي قوله تعالى (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) تنبيه على الخاتمة ، وقال الحسن : معناه الذين يفعلون ما
يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة ، وروي
عن الحسن أيضا أنه قال : المؤمن يجمع إحسانا وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمنا ،
وقرأ الجمهور «أنهم» بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن
يكون قوله (وَجِلَةٌ) عاملة في «أن» من حيث إنها بمعنى خائفة.
وقرأ الأعمش «إنهم»
بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف ، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل
الخيرات ، وقرأ الجمهور «يسارعون» ، وقرأ الحر النحوي «يسرعون وأنهم إليها سابقون»
، وهذا قول بعضهم في قوله لها ، وقالت فرقة : معناه وهم من أجلها سابقون ، فالسابق
على هذا التأويل هو إلى رضوان الله تعالى وعلى الأول هو إلى الخيرات ، وقال الطبري
عن ابن عباس : المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام
متمكنة في المعنى.
قوله عزوجل :
(وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ
فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
حَتَّى
إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ)
(٦٤)
قوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) نسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق على
الحقيقة ، وتكليف ما لا يطاق أربعة أقسام ، ثلاثة حقيقة ورابع مجازي وهو الذي لا
يطاق للاشتغال بغيره مثل الإيمان للكافر والطاعة للعاصي وهذا التكليف باق وهو
تكليف أكثر الشريعة ، وأما الثلاثة فورد الاثنان منها وفيها وقع النسخ المحال عقلا
في نازلة أبي لهب والمحال عادة في قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٨٤] ،
والثالث لم يرد فيه شيء وهو النوع المهلك لأن الله تعالى لم يكلفه عباده ، فأما
قتل القاتل ورجم الزاني فعقوبته بما فعل وقد مضى القول مستوعبا موجزا في مسألة
تكليف ما لا يطاق في سورة البقرة وفي قولنا ناسخ نظر من جهة التواريخ ، وما نزل
بالمدينة وما نزل بمكة والله المعين ، وقوله تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه
الملائكة ، وفي الآية على هذا التأويل تهديد وتأنيس من الحيف والظلم ، وقالت فرقة
الإشارة بقوله (وَلَدَيْنا كِتابٌ) إلى القرآن.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا يحتمل والأول أظهر ، وقوله (فِي غَمْرَةٍ) يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه ،
وقوله (مِنْ هذا) ، يحتمل أن يشير إلى القرآن ، ويحتمل أن يشير إلى كتاب
الإحصاء ، ويحتمل أن يشير إلى الأعمال الصالحة المذكورة قبل ، أي هم في غمرة من
اطراحها وتركها ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ، وكل تأويل من هذه قالته فرقة ، وقوله تعالى : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الإشارة بذلك إلى الغمرة والضلال المحيط بهم فمعنى الآية
بل هم ضالون معرضون عن الحق ولهم مع ذلك سعايات فساد فوسمهم تعالى بحالتي شر ، قال
هذا المعنى قتادة وأبو العالية ، وعلى هذا التأويل فالإخبار عما سلف من أعمالهم
وعماهم فيه ، وقالت فرقة الإشارة بذلك إلى قوله : (مِنْ هذا) فكأنه قال : لهم أعمال من دون الحق ، وقال الحسن بن أبي
الحسن ومجاهد : إنما أخبر بقوله (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد
يستعملونها ، و (حَتَّى) حرف ابتداء لا غير ، و (إِذا) والثانية التي هي جواب تمنعان من أن تكون (حَتَّى) غاية ل (عامِلُونَ) ، و «المترف» هو المنعم في الدنيا الذي هو منها في سرف
وهذه حال شائعة في رؤساء الكفرة من كل أمة و (يَجْأَرُونَ) معناه يستغيثون بصياح كصياح البقر وكثر استعمال الجؤار في
البشر ومنه قول الأعشى : [المتقارب]
يراوح من صلوات
المليك
|
|
فطورا سجودا
وطورا جؤارا
|
وذهب مجاهد وغيره
إلى أن هذا العذاب المذكور هو الوعيد بيوم بدر وفيه نفذ على (مُتْرَفِيهِمْ) والضمير في قوله (إِذا هُمْ) يحتمل أن يعود على «المترفين» فقط لأنهم صاحوا حين نزل بهم
الهزم والقتل يوم بدر ، ويحتمل أن يعود على الباقين بعد المعذبين وقد حكى ذلك
الطبري عن ابن جريج قال : المعذبون قتلى بدر والذين (يَجْأَرُونَ) قتلى مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.
قوله عزوجل :
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ
إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)
(٦٨)
المعنى يقال لهم
يوم العذاب وعند حلوله (لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) وهذا القول يجوز أن يكون حقيقة ، أي تقول ذلك لهم الملائكة
ويحتمل أن يكون مجازا أي لسان الحال يقول ذلك ، وهذا على أن الذين يجأرون هم
المعذبون ، وأما على قول ابن جريج فلا يحتمل أن تقول ذلك الملائكة ، وقوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يريد بها القرآن ، و (تَنْكِصُونَ) معناه ترجعون وراءكم وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن
الحق ، وقرأ علي بن أبي طالب «على أدباركم تنكصون» بضم الكاف وبذكر الإدبار بدل أعقاب
، و (مُسْتَكْبِرِينَ) حال ، والضمير في (بِهِ) قال الجمهور : هو عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له
ذكر لشهرته في الأمر ، والمعنى أنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد والحرم أعظم
الحقوق على الناس والمنازل عند الله فأنتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق ،
وقالت فرقة :
الضمير عائد على
القرآن من حيث ذكرت الآيات والمعنى يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول جيد وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو متعلق بما بعده كأن الكلام ثم في قوله (مُسْتَكْبِرِينَ) ثم قال لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، (سامِراً تَهْجُرُونَ) ، وقوله (سامِراً) حال وهو مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه
سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر فكانت العرب تجلس
للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من
الغوارب ، وقرأ الجمهور «سامرا» ، وقرأ أبو رجاء «سمارا» ، وقرأ ابن عباس وعكرمة
وابن محيصن «سمرا» ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [الكامل]
من دونهم إن
جئتهم سمرا
|
|
عزف القيان
ومجلس غمر
|
فكانت قريش سمر
حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها ، وقرأ الجمهور «تهجرون» بفتح التاء وضم
الجيم واختلف المتأولون في معناها فقال ابن عباس : معناها تهجرون الحق وذكر الله
وتقطعونه من الهجر المعروف ، وقال ابن زيد : من هجر المريض إذا هذى أي تقولون
اللغو من القول وقاله أبو حاتم ، وقرأ نافع وحده من السبعة «تهجرون» بضم التاء
وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة وابن محيصن وابن عباس أيضا ومعناه يقولون الفحش
والهجر والعضاية من القول وهذه إشارة إلى سبهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه قاله ابن عباس أيضا وغيره ، وفي الحديث «كنت
نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا» ، وقرأ ابن محيصن وابن أبي نهيك «تهجّرون»
بضم التاء وفتح الهاء وشد الجيم مكسورة وهو تضعيف هجر وتكثير الهجر والهجر على
المعنيين المتقدمين ، وقال ابن جني : لو قيل إن المعنى أنكم تبالغون في المهاجرة
حتى أنكم وإن كنتم سمرا بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على غاية الافتضاح لكان
وجها.
قال القاضي أبو
محمد : ولا تكون هذه القراءة تكثير «تهجّرون» بضم التاء ، وكسر الجيم لأن أفعل لا
يتعدى ولا يكثر بتضعيف إذ التضعيف والهمزة متعاقبان ثم وبخهم على إعراضهم بعد تدبر
القول لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد ، قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وسائر ذلك ،
وقوله (أَمْ جاءَهُمْ) كذلك توبيخ أيضا والمعنى أأبدع لهم أمر لم يكن في الناس
قبلهم بل قد جاء الرسل قبل كنوح وإبراهيم وإسماعيل وفي هذا التأويل من التجوز أن
جعل سالف الأمم «آباء» إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم ، ويحتمل اللفظ معنى آخر
على أن يراد ب (آباءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ) من فرط من سلفهم في العرب فكأنه قال : أفلم يدبروا القول
أم جاءهم أمر غريب من عند الله لم يأت (آباءَهُمُ) فبهر عقولهم ونبت أذهانهم عن أمر من أمور الله غريب في
سلفهم والمعنى الأول أبين.
قوله عزوجل :
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ
(٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)
(٧١)
هذا أيضا توبيخ
والمعنى ألم يعرفوه صادقا مدة عمره ولم يقع منهم قط إنكار لمعرفة وجه محمدصلىاللهعليهوسلم وإنما أنكروا صدقه ، وقوله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ) توبيخ أيضا لأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به
وبين كلام ذي الجنة لا يخفى على ذي فطرة ، ثم بين تعالى حاله عليهالسلام في مجيئه بالحق ، وقوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) قال ابن جريج وأبو صالح (الْحَقُ) الله تعالى ع وهذا ليس من نمط الآية ، وقال غيرهما (الْحَقُ) هنا الصواب والمستقيم ع وهذا هو الأجرى على أن يكون
المذكور قبل الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم ، ويستقيم على هذا فساد (السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) لو كان بحكم هوى هؤلاء ، وذلك أنهم جعلوا لله شركاء
وأولادا ولو كان هذا حقا لم تكن لله الصفات العالية ، ولو لم تكن له لم تكن الصنعة
والقدرة كما هي ، وكان فساد (السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) ، ومن قال إن (الْحَقُ) في الآية الله تعالى بشعت له لفظة (اتَّبَعَ) وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع
على كلا الوجهين إنما هي استعارة بمعنى أن تكون أهواؤهم يصوبها الحق ويقررها فنحن
نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم فليس في ذلك فساد سماوات ، وأما الحق نفسه
الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله ، وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع»
بضم الواو وقال أبو الفتح : الضم في هذه الواو قليل والوجه تشبيهها بواو الجمع
كقوله (اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ) [البقرة : ١٦]
وقوله (بِذِكْرِهِمْ) يحتمل أن يريد بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس ، وقرأ
قتادة «نذكّرهم» بنون مضمومة وذال مفتوحة وكسر الكاف مشددة ويحتمل أن يريد بشرفهم
، وهو مروي ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «بل أتيتهم بذكرهم» بضم تاء المتكلم
، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «بل أتيتهم» خطابا لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقرأ الجمهور «بل أتينهم بذكرهم» وروي عن أبي عمرو و «آتيناهم»
بالمد بمعنى أعطيناهم.
قوله عزوجل :
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ
لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ
(٧٤)
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ)
(٧٥)
هذا توبيخ لهم
كأنه قال : أم سألتهم مالا فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله ، وقرأ حمزة والكسائي «خراجا
فخراج» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «خرجا فخراج» وقرأ ابن عامر «خرجا
فخرج» وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة ، قال الأصمعي : الخرج الجعل
مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما ، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة
بمعنى ، وقد قرىء «خراجا» في قصة ذي القرنين وقوله
(فَخَراجُ رَبِّكَ) يريد ثوابه سماه «خراجا» من حيث كان معادلا للخراج في هذا
الكلام ، ويحتمل أن يريد (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزق ربك ويؤيد هذا قوله (وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) ، و (الصِّراطِ) المستقيم ، دين الإسلام و «ناكبون» معناه عادلون ومعرضون
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القحط ومنّ الله عليهم بالخصب ورحمهم بذلك
لبقوا على كفرهم و (لَلَجُّوا فِي
طُغْيانِهِمْ) ، وهذه الآية نزلت في المرة التي أصابت قريشا فيها السنون
المجدبة والجوع الذي دعا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله اللهم سبعا كسني يوسف الحديث.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
حَتَّى
إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)
(٧٧)
هذا إخبار من الله
تعالى عن استكبارهم وطغيانهم بعد ما نالهم من الجوع ، هذا قول روي عن ابن عباس
وابن جريج أن «العذاب» هو الجوع والجدب المشهور نزوله بهم حتى أكلوا الجلود وما جرى
مجراها والباب والمتوعد به يوم بدر ، وهذا القول يرده أن الجدب الذي نالهم إنما
كان بعد وقعة بدر وروي أنهم لما بلغهم الجهد جاء أبو سفيان إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال ألست تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال بلى
قال قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع وقد أكلنا العهن فنزلت الآية ، و (اسْتَكانُوا) معناه انخفضوا وتواضعوا ، ويحتمل أن يكون من السكون ويلزمه
أن يكون «استكنوا» ووجهه أن فتحة الكاف مطلت فتولدت منه الألف ويعطي التصريف أنه
من «كان» وأن وزنه استفعل وعلى الأول وزنه افتعل وكونه من «كان» أبين والمعنى فما
طلبوا أن يكونوا لربهم أي طاعة وعبيد خير ، وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال :
إذا أصاب الناس من قتل السلطان بلاء فإنما هي نقمة فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية
ولكن استقبلوها بالاستغفار واستكينوا وتضرعوا إلى الله وقرأ هذه الآية (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ
فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) و «العذاب الشديد»
، إما يوم بدر بالسيوف كما قال بعضهم وإما توعد بعذاب غير معين وهو الصواب لما
ذكرناه من تقدم بدر للمجاعة ، وروي عن مجاهد أن العذاب والباب الشديد هو كله مجاعة
قريش.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا حسن كأن الأخذ كان في صدر الأمر ثم فتح الباب عند تناهيه حيث أبلسوا
وجاء أبو سفيان ، والملبس : الذي قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه بخير.
قوله عزوجل :
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ
(٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
بَلْ
قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ
وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)
(٨٣)
ابتدأ تعالى
بتعديد نعم في نفس تعديدها استدلال بها على عظيم قدرته وأنها لا يعزب عنها أمر
البعث ولا يعظم و (أَنْشَأَ) بمعنى اخترع و (السَّمْعَ) مصدر فلذلك وحد وقيل أراد الجنس ، و (الْأَفْئِدَةَ) القلوب وهذه إشارة إلى النطق والعقل وقوله (قَلِيلاً) نعت لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا ما تشكرون وذهبت فرقة
إلى أنه أراد (قَلِيلاً) منكم من يشكر أي يؤمن ويشكر حق الشكر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والأول أظهر وذرأ معناه بث وخلق ، وقوله (وَإِلَيْهِ) فيه حذف مضاف أي إلى حكمه وقضائه ، و (تُحْشَرُونَ) يريد البعث ، وقوله (وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي له القدرة التي عنها ذلك ، والاختلاف هنا التعاقب ،
والكون خلفة ، ويحتمل أن يكون الذي هو المغايرة البينة ، وقوله (بَلْ) إضراب والجحد مقدر كأنه قال ليس لهم نظر في هذه الآيات أو
نحو هذا ، و (الْأَوَّلُونَ) يشير به إلى الأمم الكافرة كعاد وثمود ، وقوله (لَمَبْعُوثُونَ) أي لمعادون أحياء وقولهم (وَآباؤُنا) أي حكى المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم جعلوهم
آباء من حيث النوع واحد وإن حكى ذلك عن الأولين فالأمر مستقيم فيهم ، و «الأساطير»
قيل هي جمع أسطورة كأعجوبة وأعاجيب وأحدوثة وأحاديث وقيل هي جمع سطر وأسطار
وأساطير.
قوله عزوجل :
(قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤)
سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)
سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)
قُلْ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)
(٨٩)
أمر الله تعالى
نبيه بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلا الإقرار بها ويلزم من الإقرار
بها أن يؤمنوا بباريها ويذعنوا لشرعه ورسالة رسوله ، وقرأ الجميع في الأول (لِلَّهِ) بلا خلاف وفي الثاني والثالث ، فقرأ أبو عمرو وحده «لله»
جوابا على اللفظ ، وقرأ باقي السبعة ، «لله» جوابا على المعنى كأنه قال في السؤال
لمن ملك (السَّماواتِ
السَّبْعِ) إذ قولك لمن هذه الدار؟ وقولك من مالك هذه الدار؟ واحد في
المعنى ثم جعل التوبيخ مدرجا بحسب وضوح الحجة شيئا شيئا فوقف على الأرض ومن فيها
وجعل بإزاء ذلك التذكر ، ثم وقف على (السَّماواتِ
السَّبْعِ) ، و (الْعَرْشِ) ، وجعل بإزاء ذلك التقية وهي أبلغ من التذكر وهذا بحسب
وضوح الحجة ، وفي قوله تعالى : (أَفَلا تَتَّقُونَ) وعيد ، ثم وقف على (مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) وفي الإقرار بهذا التزام كل ما تقع به الغلبة في الاحتجاج
، فوقع التوبيخ بعد في غاية البلاغة بقوله (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ومعنى «أنى» كيف ومن أين ، وفي هذا تقرير سحرهم وهو سؤال
عن الهيئة التي سحروا بها ، والسحر هنا مستعار لهم وهو تشبيه لما وقع منهم من
التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير
مواضعها بما يقع
من المسحور عبر عنهم بذلك ، وقالت فرقة (تُسْحَرُونَ) معناه تمنعون ، وحكى بعضهم ذلك لغة ، وقرأ ابن محيصن «العظيم»
برفع الميم و (مَلَكُوتُ) مصدر في بناء مبالغة والإجارة المنع من الإنسان والمعنى أن
الله إذا منع أحدا فلا يقدر عليه ، وإذا أراد أحدا فلا مانع له ، وكذلك في سائر
قدرته وما نفذ من قضائه لا يعارض ذلك شيء ولا يحيله عن مجراه.
قوله عزوجل :
(بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
مَا
اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا
يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(٩٢)
المعنى ليس الأمر
كما يقولون من نسبتهم إلى الله تعالى ما لا يليق به (بَلْ أَتَيْناهُمْ) وقرأ ابن أبي إسحاق «بل آتيناك» على الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، و (لَكاذِبُونَ) يراد فيما ذكروا الله تعالى به من الصاحبة والولد والشريك
، وفي قوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ) دليل على التمانع وهذا هو الفساد الذي تضمنه قوله و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
والجزء المخترع محال أن يتعلق به قدرتان فصاعدا أو يختلف الإلهان في إرادة فمحال
نفوذهما ومحال عجزهما فإذا نفذت إرادة الواحد فهو العالي والآخر ليس بإله ، فإذا
قيل نقدرهما لا يختلفان في إرادة قيل ذلك بفرض ، فإذا جوزه الكفار قامت الحجة فإن
ما التزم جوازه جرى ما التزم وقوعه ، وقوله (إِذاً) جواب لمحذوف تقديره لو كان معه إله (إِذاً لَذَهَبَ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «عالم»
بكسر الميم اتباعا للمكتوبة في قوله (سُبْحانَ اللهِ) ، وقرأ الباقون
وأبو بكر عن عاصم «عالم» بالرفع والمعنى هو «عالم» قال الأخفش : الجر أجود ليكون
الكلام من وجه واحد قال أبو علي : ووجهه الرفع إن الكلام قد انقطع.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والابتداء عندي أبرع والفاء في قوله (فَتَعالى) عاطفة بالمعنى كأنه قال : علم الغيب والشهادة (فَتَعالى) وهذا كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته ويحتمل أن يكون
المعنى فأقول تعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) على إخبار مؤتنف ، و (الْغَيْبِ) ما غاب عن الناس و (الشَّهادَةِ) ما شهدوه.
قوله عزوجل :
(قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣)
رَبِّ
فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(٩٤) وَإِنَّا
عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
وَقُلْ
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)
(٩٨)
أمر الله تعالى
نبيه عليهالسلام أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى
ذلك ،
و «إن» شرط و «ما»
زائدة ، و (تُرِيَنِّي) جزم بالشرط لزمت النون الثقيلة وهي لا تفارق «إما» عند
المبرد ، ويجوز عن سيبويه أن تفارق فيقال (إِمَّا تُرِيَنِّي) لكن استعمال القرآن لزومها فمن هنالك ألزمها المبرد ، وهذا
الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله ثم نظيره لسائر الأمة
دعاء في جودة الخاتمة ، وفي هذه الآية بجملتها إعلام بقرب العذاب منهم كما كان في
يوم بدر ، وقوله ثانيا اعتراض بين الشرط وجوابه ، وقوله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية أمر بالصفح ومكارم الأخلاق وما كان منها ، لهذا فهو
حكم باق في الأمة أبدا وما فيها من معنى موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن
أمورهم فمنسوخ بالقتال ، وقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَصِفُونَ) يقتضي أنها آية موادعة ، وقال مجاهد «الدفع بالتي هي أحسن»
هو السلام يسلم عليه إذا لقيه ، وقال الحسن : والله لا يصيبها أحد حتى يكظم غيظه
ويصفح عما يكره.
قال الفقيه الإمام
القاضي : هذه الطرفان وفي هذه الآية عدة للنبي صلىاللهعليهوسلم أي اشتغل بهذا وكل تعذيبهم والنقمة منهم إلينا وأمره
بالتعوذ من الشيطان في «همزاته» وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ،
وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة ، فلذلك اتصلت بهذه
الآية ، وقال ابن زيد : «همز الشيطان» الجنون.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وفي مصنف أبي داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان ، همزه ونفخه ونفثه»
قال أبو داود همزة الموتة وهي الجنون ونفخه الكبر ونفشه السحر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والنزعات وسورات الغضب من الشيطان وهي المتعوذ منها في الآية ، والتعوذ
من الجنون أيضا وكيد ، وفي قراءة أبي بن كعب «رب عائذا بك من همزات الشياطين
وعائذا بك رب أن يحضرون» ، وقوله (أَنْ يَحْضُرُونِ) أن يكونوا معي في أموري فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا
معدين للهمز فإذا لم يكن حضور فلا همز.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وأصل الهمز الدفع والوخز بيد وغيرها ومنه همز الخيل وهمز الناس باللسان
وقيل لبعض العرب أتهمز الفأرة ، سئل بذلك عن اللفظة فظن أن المراد شخص الفأرة فقال
الهر يهمزها.
قوله عزوجل :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)
لَعَلِّي
أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ
وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)
فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(١٠٢)
(حَتَّى) في هذا الموضع حرف ابتداء ويحتمل أن تكون غاية مجردة
بتقدير كلام محذوف ، والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ذكره ،
والضمير في قوله (أَحَدَهُمُ) للكفار ، وقوله (ارْجِعُونِ) معناه إلى الحياة الدنيا ، وجمع الضمير يتخرج على معنيين
إما أن يخاطبه مخاطبة الجمع تعظيما على نحو
إخباره تعالى عن
نفسه بنون الجماعة في غير موضع ، وإما أن تكون استغاثة بربه أولا ثم خاطب ملائكة
العذاب بقوله (ارْجِعُونِ) ، وقال الضحاك هي في المشرك ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم ، لعائشة «إذا عاين المؤمن قالت الملائكة نرجعك فيقول إلى
دار الهموم والأحزان بل قدما إلى الله وأما الكافر فيقول (ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) ، وقرأ الحسن والجمهور «لعلي» بسكون الياء ، وقرأ طلحة بن
مصرف «لعلي» بفتح الياء ، و (كَلَّا) رد وزجر وهي من كلام الله تعالى ، وقوله (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) يحتمل ثلاثة معان : أحدها الإخبار المؤكد بأن هذا الشيء
يقع ويقول هذه الكلمة ، والآخر أن يكون المعنى إنها كلمة لا تغني أكثر من أن
يقولها ولا نفع له فيها ولا غوث ، والثالث أن تكون إشارة إلى أنه لو رد لعاد فتكون
آية ذم لهم ، والضمير في (وَرائِهِمْ) للكفار أي يأتي بعد موتهم حاجز من المدة و «البرزخ» ، في
كلام العرب الحاجز بين المسافتين ، ثم يستعار لما عدا ذلك فهو هنا للمدة التي بين
موت الإنسان وبين بعثه ، هذا إجماع من المفسرين ، وقرأ الجمهور «في الصور» وهو
القرن ، وقرأ ابن عباس «الصور» بفتح الواو جمع صورة ، و (يَوْمِ) مضاف إلى (يُبْعَثُونَ) وقوله (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) اختلف المتأولون في صفة ارتفاع الأنساب فقال ابن عباس
وغيره : هذا في النفخة الأولى وذلك أن الناس بأجمعهم يموتون فلا يكون بينهم نسب في
ذلك الوقت وهم أموات.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا التأويل يزيل ما في الآية من ذكر هول الحشر ، وقال ابن مسعود وغيره
: إنما المعنى أنه عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور فهم حينئذ لهول
المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل وزال انتفاع الأنساب فلذلك
نفاها فالمعنى (فَلا أَنْسابَ) وروي عن قتادة أنه قال : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك
اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن تكون له عنده مظلمة وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه
وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على ابنه وأبيه ، وقد
ورد بهذا حديث ، وكذلك ارتفاع التساؤل والتعارف لهذه الوجوه التي ذكرناها ثم تأتي
في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا التأويل حسن وهو مروي المعنى عن ابن عباس و «ثقل الموازين» هو
الحسنات ، والثقل والخفة إنما يتعلق بأجرام يخترع الله فيها ذلك وهي فيما روي
براءات.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ
آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ
(١٠٦) رَبَّنا
أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
قالَ
اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)
(١٠٨)
جمع «الموازين» من
حيث الموزون جمع وهي الأعمال ع ومعنى الوزن إقامة الحجة على الناس
بالمحسوس على
عادتهم وعرفهم ، ووزن الكافر على أحد وجهين : إما أن يوضع كفره في كفة فلا يجد
شيئا يعادله في الكفة الأخرى ، وإما أن توضع أعماله من صلة رحم ووجه بر في كفة
الحسنات ثم يوضع كفره في الكفة الأخرى فتخف أعماله ، و «لفح النار» إصابتها بالوهج
والإحراق ، وقرأ أبو حيوة «كلحون» بغير ألف والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ،
وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة مع الغضب ، ويعتري الرؤوس عند النار ، وقد شبه
عبد الله بن مسعود ما في هذه الآية مما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار فإنها
تكلح ومنه كلوح الكلب والأسد ويستعار للزمن والخطوب. وقوله (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) قبله محذوف تقديره يقال لهم ، و «الآيات» هنا القرآن وأخبر
عنهم تعالى أنهم إذا سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم وسلموا بقولهم (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا
قَوْماً ضالِّينَ) وقرأ الجمهور «شقوتنا» بكسر الشين دون ألف بعد القاف وهي
قراءة الحرميين ، وقرأ الحمزة والكسائي «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف وهي
قراءة ابن مسعود ، وخير عاصم في الوجهين وهما مصدران من شقي يشقى ، ثم تدرجوا من
الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم ذلوا لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل ،
فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وجاء (وَلا تُكَلِّمُونِ) بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي فهذا مبالغة
في المنع ، ويقال إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا ، وحكى الطبري حديثا طويلا في
مقاولة تكون بين الكفار وبين مالك خازن النار ، ثم بينهم وبين ربهم وآخرها هذه
الكلمة (اخْسَؤُا فِيها) قال فتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في
وجه بعض.
قال الفقيه الإمام
القاضي : واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه ،
وقوله (اخْسَؤُا) زجر يستعمل في زجر الكلاب ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك.
قوله عزوجل :
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)
(١١١)
قرأ هارون «أنه
كان» بفتح الألف وهي قراءة أبي بن كعب ، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «أن كان» وهذا
كله متعاضد ، وفي قراءة ابن مسعود «تكلمون كان فريق» بغير «إنه» وهذه تعضد كسر
الألف من «إنه» لأنها استئناف ، وهذه الهاء هي مبهمة ضمير للأمر ، والكوفيون
يسمونها المجهولة وهي عبارة فاسدة ، وهذه الآية كلها مما يقال للكفار على جهة
التوبيخ ، و «الفريق» المشار إليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع
كفار في مثل هذه الحال ، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم
ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «سخريا»
بضم السين ، وقرأ الباقون «سخريا» بكسرها ، فقالت طائفة هما بمعنى واحد وذكر ذلك
الطبري ، وقال ذلك أبو
زيد الأنصاري
إنهما بمعنى الهزء ، وقال أبو عبيدة وغيره : إن ضم السين من «السخرة» والتخديم
وكسر السين من السخر وهو الاستهزاء ومنه قول الأعشى : [البسيط]
إني أتاني حديث
لا أسرّ به
|
|
من علو لا كذب
فيه ولا سخر
|
قال أبو علي قراءة
كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى إلى
قوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ
تَضْحَكُونَ).
قال القاضي أبو
محمد : ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً
سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] لما
تخلص الأمر للتخديم ، قال يونس إذا أريد التخديم فضم السين لا غير ، وإذا أريد
تخلص الاستهزاء فالضم والكسر ، وقرأ أصحاب عبد الله والأعرج وابن أبي إسحاق كل ما
في القرآن بضم السين ، وقرأ الحسن وأبو عمرو كل ما في القرآن بالكسر إلا التي في
الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس لأنها من التخديم ، وأضاف «الإنسان» إلى «الفريق»
من حيث كان بسببهم والمعنى أن اشتغالهم بالهزء بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم ، وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «أنهم هم الفائزون» بفتح الألف ، ف (جَزَيْتُهُمُ) عامل في «أن» ، ويجوز أن يعمل في مفعول محذوف ويكون
التقدير لأنهم ، وقرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع «إنهم» بكسر الألف فالمفعول
الثاني ل «جزية» مقدر تقديره الجنة أو الرضوان ، و (الْفائِزُونَ) المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم ، ومعنى الفوز النجاة
من هلكة إلى نعمة.
قوله عزوجل :
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
(١١٢)
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)
(١١٥)
قرأ نافع وعاصم
وأبو عمرو وابن عامر «قال كم لبثتم» و «قل إن لبثتم» ، وقرأ حمزة والكسائي فيهما «قل
لكم لبثتم» و «قل إن لبثتم» ، وروى البزي عن ابن كثير «قل كم» على الأمر «قال إن»
على الخبر ، وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي التاء ، والباقون لا يدغمون. فمعنى
الأول إخبار عن الله بوقفهم بالسؤال عن المدة ثم يعلمهم آخرا بلبثهم قليلا ، ومعنى
الثانية الأمر لواحد منهم مشار إليه بمعنى يقال لأحدهم قل كذا فإذا قال غير القويم
قيل له «قل إن لبثتم» ، ومعنى رواية البزي التوقيف ثم الإخبار وفي المصاحف قال
فيهما إلا في مصحف الكوفة فإن فيه «قل» بغير الألف ، وقوله (فِي الْأَرْضِ) قال الطبري معناه في الدنيا أحياء وعن هذا وقع السؤال
ونسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا (يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ).
قال الفقيه الإمام
القاضي : والغرض من هذا توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب
طويل ، وقال جمهور المتأولين معناه في جوف التراب أمواتا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث ، وكان قوله إنهم لا يقومون من
التراب قيل لهم
لما قاموا (كَمْ لَبِثْتُمْ)؟ وقوله آخرا (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا
لا تُرْجَعُونَ) يقتضي ما قلناه ، و (عَدَدَ) نصب ب (كَمْ) على التمييز ، وقرأ الأعمش «عددا سنين» بتنوين «عددا» ،
وقال مجاهد أرادوا ب (الْعادِّينَ) الملائكة ، وقال قتادة أرادوا أهل الحساب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وظاهر اللفظ أنهم أرادوا سل من يتصف بهذه الصفة ، ولم يعينوا ملائكة ولا
غيرها لأن النائم والميت لا يعد الحركة فيقدر له الزمن ، وقوله (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) مقصده على القول بأن اللبث في الدنيا ، أي قليل القدر في
جنب ما تعذبون ، وعلى القول بأن اللبث في القبور معناه أنه قليل إذ كل آت قريب
ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون إذ لم ترغبوا في العلم والهدى ، و (عَبَثاً) معناه باطلا لغير غاية مرادة ، وقرأ الجمهور «ترجعون» بضم
التاء وفتح الجيم ، وقرأ حمزة والكسائي «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم والمعنى
فيهما بين.
قوله عزوجل :
(فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)
(١١٨)
المعنى (فَتَعالَى اللهُ) عن مقالتهم في جهته من الصاحبة والولد ومن حسابهم أنهم لا
يرجعون ، أي تنزه الله عن تلك الأمور وتعالى عنها ، وقرأ ابن محيصن «الكريم» برفع
صفة للرب ، ثم توعد جلت قدرته عبدة الأصنام بقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ) الآية والوعيد قوله (فَإِنَّما حِسابُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) والبرهان الحجة وظاهر الكلام أن (مَنْ) شرط وجوابه في قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) وقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) في موضع الصفة وذهب قوم إلى أن الجواب في قوله (لا بُرْهانَ) وهذا هروب من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له البرهان.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا تحفظ مما لا يلزم ويلحقه حذف الفاء من جواب الشرط وهو غير فصيح قاله
سيبويه ، وفي حرف عبد الله «عند ربك» وفي حرف أبي عند الله وروي أن فيه «على الله»
، ثم حتم وأكد أن الكافر لا يبلغ أمنيته ولا ينجح سعيه ، وقرأ الجمهور «إنه» بكسر
الألف ، وقرأ الحسن وقتادة «أنه» بفتحها ، والمعنى أنه إذ لا يذكر و (لا يُفْلِحُ) يؤخر حسابه وعذابه حتى يلقى ربه. وقرأ الحسن «يفلح» بفتح الياء
واللام ، ثم أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالدعاء في المغفرة والرحمة والذكر له تعالى بأنه (خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل راحم فمتصرف على إرادة الله وتوقيفه وتقديره لمقدار
هذه الرحمة ، ورحمته تعالى لا مشاركة لأحد فيها ، وأيضا فرحمة كل راحم في أشياء وبأشياء
حقيرات بالإضافة إلى المعاني التي تقع فيها رحمة الله تعالى من الاستنقاذ من النار
، وهيئة نعيم الجنة وعلى ما في الحديث فرحمة كل راحم بمجموعها كلها جزء من مائة
رحمة الله جلت قدرته : إذ بث في العالم واحدة وأمسك عنده تسعة وتسعين ، وقرأ ابن
محيصن «ربّ اغفر» بضم الباء.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النّور
هذه السورة كلها
مدنية.
قوله عزوجل :
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
(٢)
قوله (سُورَةٌ) قرأ الجمهور ، «سورة» بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد «سورة»
بالنصب ، وروي ذلك أيضا عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء ، فوجه الرفع خبر
ابتداء مضمر تقديره هذه سورة ، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم ،
ويحتمل أن يكون قوله «سورة» ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة
، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قوله : (الزَّانِيَةُ) وفيما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا
، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول : إن كون
الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في
القياس ، وقول الشاعر «فارس ما تركوه» ، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا
سورة أو نحوه ، وجعله بعضهم أنزلنا (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) ، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى
يجوز أن يتقدم عليه ، وقرأ جمهور الناس «وفرضناها» بتخفيف الراء ، ومعناه الإثبات
والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام ، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو
وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود «وفرّضناها» بشد الراء ومعناه جعلناها
فرائض فرائض ، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير ، وقرأ الأعمش «وفرضناها
لكم» ، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما في السورة من أمر ونهي فرض لا
حض بهذه اللفظة ، و «الآيات البينات» أمثالها ومواعظها وأحكامها ، وقال الزهراوي
المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا تحكم ، وقوله (لَعَلَّكُمْ) أي على توقع البشر ورجائهم ، وقرأ جمهور الناس «الزانية»
بالرفع ، وقرأ عيسى الثقفي «الزانية» بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه عنده كقولك
زيدا أضرب ، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ، وأجمع الناس على
الرفع ، وإن كان
القياس عند سيبويه النصب ، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه
والخبر في قوله (فَاجْلِدُوا) لأن المعنى (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة
، وإن شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا ، وقرأ ابن مسعود «والزان» بغير ياء ، وقدمت (الزَّانِيَةُ) في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى وكان
لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ
موضعهن الحجبة والصيانة ، فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما ، والألف واللام في قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية
باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء ، وجماعة العلماء على
عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها ، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة
الناسخ السنة المتواترة في الرجم ، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي
حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة : «الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة» ، وقال إنا قرأناه في كتاب الله ، واتفق الجميع على أن لفظه رفع
وبقي حكمه ، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة
الرجم جاءت بزيادة ، فالمحصن ، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم ، وهو قول علي بن
أبي طالب وفعله بشراحة ودليلهم قول النبي صلىاللهعليهوسلم «والثيب بالثيب
جلد مائة والرجم» ، ويرد عليهم فعل النبي صلىاللهعليهوسلم حيث رجم ولم يجلد ، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع
الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين.
قال الفقيه الإمام
القاضي : لأنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي صلىاللهعليهوسلم «البكر بالبكر جلد
مائة وتغريب عام» ، وبقوله «على ابنك جلد مائة» ، واستدلوا على أنها غير عامة
بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها ، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة
النساء ، و «الجلد» يكون والمجلود قاعد ، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في في الظهر
، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب
ويفرق الضرب على كل الأعضاء ، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى
والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل ، ويترجح قول مالك رحمهالله بقول النبي صلىاللهعليهوسلم «البينة أو حد في
ظهرك» ، وقول عمر : أو لأوجعن مثناك ، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن
الجراح وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على
قميص وهو قول عثمان وابن مسعود أيضا ، وأما المرأة فتستر قولا واحدا ، وقرأ
الجمهور «رأفة» همزة ساكنة على وزن فعلة ، وقرأ ابن كثير «رأفة» على وزن فعله بفتح
العين ، وقرأ عاصم أيضا «رأفة» على وزن فعالة كسآمة وكآبة ، وهذه مصادر أشهرها
الأولى من رأف إذا أرق ورحم ، وقرأ الجمهور «تأخذكم» بالتاء من فوق ، وقرأ أبو عبد
الرحمن «يأخذكم» بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال
أبو مجلز ولا حق بن حميد ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه ، ولا بد
وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر
على نحو واحد ، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما «الرأفة» المنهي عنها هي في تخفيف
الضرب عن الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية ، ويشتد ضرب الزنا ، وقال
سليمان بن يسار
نهي عن الرأفة في
الوجهين ، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وقول النبي عليهالسلام في السوط دون هذا ، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين
إبطك ، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين ، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية
مشدد لأنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف ، وقوله (فِي دِينِ اللهِ) بمعنى في الإخلال بدين الله أي بشرعه ، ويحتمل أن يكون «الدين»
هنا بمعنى الحكم ، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلا فافعل كذا أي هذه
أفعال الرجال وقوله (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس
، فلا خلاف أن «الطائفة» كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر ، واختلف الناس في أقل
ما يجزىء فقال الحسن بن أبي الحسن لا بد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج
عن الآحاد وهي أقل الكثرة.
وقال ابن زيد
وغيره لا بد من حضور أربعة ، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه ، وقال
الزهري «الطائفة» ثلاثة فصاعدا ، وقال عطاء وعكرمة لا بد من اثنين وهذا مشهور قول
مالك فرآها موضع شهادة ، وقال مجاهد : يجزىء الواحد ويسمى طائفة إلى الألف ، وقاله
ابن عباس ونزعا بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] ،
وقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ) [الحجرات : ٩] ونزلت
في تقاتل رجلين ، واختلف العلماء في التغريب ، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر
وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلا فلحق بالروم
فقال لا أنفي أحدا بعدها ، وفيه عن مالك قولان ، ولا يرى تغريب النساء والعبيد
واحتج بقوله عليهالسلام «لا تسافر المرأة
مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي ، وقال الشافعي
ينفى البكر رجلا كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة.
قوله عزوجل :
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
(٣)
في هذه الآية
أربعة أوجه من التأويل : أحدها أن يكون مقصد الآية تشنيع وتبشيع أمره وأنه محرم
على المؤمنين واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ ، ويريد بقوله (لا يَنْكِحُ) أي لا يطأ فيكون النكاح بمعنى الجماع وردد القصة مبالغة
وآخذا من كلا الطرفين ، ثم زاد تقسيم المشرك والمشركة من حيث الشرك أعم في المعاصي
من الزنا ، فالمعنى (الزَّانِي) لا يطأ في وقت زناه (إِلَّا زانِيَةً) من المسلمين أو من هي أخس منها من المشركات ، وقد روي عن
ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وأنكر ذلك الزجاج وقال لا يعرف
النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، وليس كما قال ، وفي القرآن (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠]
وقد بينه النبي عليهالسلام أنه بمعنى الوطء ، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن
سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير ملخص ولا مكمل. والثاني أن تكون الآية
نزلت في قوم مخصوصين وهذا قول روي معناه عن عبد الله بن عمر وعن ابن عباس وأصحابه
قالوا وهم قوم كانوا يزنون
في جاهليتهم
ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا ، فأرادوا لفقرهم زواج
أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن فنزلت الآية بسببهن ،
والإشارة ب (الزَّانِي) إلى أحد أولئك حمل عليه اسم ازنى الذي كان في الجاهلية
وقوله (لا يَنْكِحُ) أي لا يتزوج ، وفي الآية على هذا التأويل معنى التفزع
عليهم وفي ذلك توبيخ كأنه يقول أي مصاب الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو
مشركة أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذا التأويل
الإجماع على أن (الزَّانِيَةُ) لا يجوز أن يتزوجها مشرك ، ثم قوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذا التأويل أن نكاح
أولئك البغايا حرمه الله على أمة محمد عليهالسلام ومن أشهرهن عناق البغي وكان الذي هم بتزويجها يلقب دولدل
كان يستخرج ضعفة المسلمين من مكة سرا ففطنت له ودعته إلى نفسها فأبى الزنى وأراد
التزويج ، واستأذن في ذلك النبي عليهالسلام ، فنزلت الآية ولما دعته وأبى قالت له : أي تبور والله
لأفضحنك ، وذكر الطبري أن من البغايا المذكورات أم مهزول جارية السائب بن أبي
السائب المخزومي ، ويقال فيها أم مهزم وأم غليظ جارية صفوان بن أمية ، وحنة
القبطية ، جارية العاصي بن وائل ، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن سباق ، وخلالة
جارية سهيل بن عمرو ، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة جارية زمعة
بن الأسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة ، وفرنتا جارية هلال بن أنس ، وغيرهن ممن
كانت لهن رايات تعرف منازلهن بها ، وكذلك كان بالمدينة إماء عبد الله بن أبي وغيره
مشهورات ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال في سياق هذا التأويل كانت بيوت في
الجاهلية تسمى المواخير ، كانوا يؤجرون فيها فتياتهم وكانت بيوتا معلومة للزنى ،
فحرم الله (ذلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام في التأويل الذي ذكرته قبل هذا
، وواحد المواخير ماخور ومنه قول بعض المحدثين في كل واد هبطن فيه دسكرة في كل نشز
صعدن فيه ماخور. والتأويل الثالث تأويل ذكره الزجاج وغيره عن الحسن وذلك أنه قال
المراد (الزَّانِي) المحدود (وَالزَّانِيَةُ) المحدودة تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحهما ،
وقوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ) يريد الزنى ، وحكى الزهراوي في هذا حديثا من طريق أبي
هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وهذا حديث لا يصح
، وقول فيه نظر ، وإدخال «المشرك» في الآية يرده ، وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت
المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك ، ورابع قول روي عن سعيد بن المسيب
وذلك أنه قال : هذا حكم كان في الزنى عامة أن لا يتزوج زان إلا زانية ثم جاءت
الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] وروي
ترتيب هذا النسخ أيضا عن مجاهد ، إلا أنه قال إن التحريم إنما كان في أولئك النفر
خاصة لا في الزناة عامة ، ذكر ذلك عنهما أبو عبيدة في ناسخه وذكر عن مجاهد أنه قال
: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي ، وقرأ أبو البرهسم «وحرم الله
ذلك على المؤمنين» ، واختلف فيمن زنا بامرأة ثم أراد نكاحها فأجاز ذلك أبو بكر
الصديق وابن عمر وجابر بن عبد الله وطاوس وابن الحسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن
وعكرمة وابن عباس ومالك
والثوري والشافعي
ومنعه ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة وقالوا لا يزالان زانيين ما اجتمعا.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(٥)
هذه الآية نزلت في
القاذفين ، فقال سعيد بن جبير كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله
عنها ، وقيل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة ، وذكر الله تعالى في الآية
قذف النساء من حيث هواهم ، ورميهن بالفاحشة أبشع وأنكى للنفوس ، وقذف الرجال داخل
في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير
ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع ، وحكى الزهراوي أن في المعنى
الأنفس (الْمُحْصَناتِ) فهي تعم بلفظها الرجال والنساء ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٢٤] ،
والجمهور على فتح الصاد من «المحصنات» ، وكسرها يحيى بن وثاب. و (الْمُحْصَناتِ) العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف
، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام ، وفي هذه النازلة الحرية ومنه قول
حسان : حصان رزان ، البيت ، ومنه قوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها) [الأنبياء : ٩١] ، وذكر الله من صفات النساء المنافية
للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من
النساء حسب الخلاف في ذلك وعبر عن القذف ب «الرمي» ، من حيث معتاد الرمي أنه مؤذ
كالرمي بالحجر والسهم فلما كان قول القاذف مؤذيا جعل رميا ، وهذا كما قيل وجرح
اللسان كجرح اليد ، والقذف والرمي معنى واحد ، وشدد الله تعالى على القاذف (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) رحمة بعباده وسترا لهم ، وقرأ جمهور الناس «بأربعة شهداء»
على إضافة الأربعة إلى الشهداء ، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة وابن
جريج «بأربعة» بالتنوين و «شهداء» على هذا ، إما بدل وإما صفة للأربعة وإما حال
وإما تمييز وفي هذين نظر إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع ، وسيبويه يرى أن تنوين
العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر ، وقد حسن أبو الفتح هذه القراءة ورجحها على
قراءة الجمهور ، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة
في موطن واحد فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن
الحارث وأخوه نافع ، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم ، وهو
مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم
يؤدها كاملة ، فجلد عمر الثلاثة المذكورين ، و «الجلد» الضرب والمجالدة المضاربة
في الجلود ، أو بالجلود ، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف وغيره ومنه قول قيس بن
الخطيم : [الطويل]
أجالدهم يوم
الحديقة حاسرا
|
|
كأن يدي بالسيف
مخراق لاعب
|
ونصب (ثَمانِينَ) على المصدر و (جَلْدَةً) على التمييز ، ثم أمر تعالى أن لا تقبل للقذفة
المحدودين (شَهادَةً أَبَداً) وهذا يقتضي مدة أعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم «فاسقون» أي
خارجون عن طاعة الله عزوجل ، ثم استثنى عزوجل من تاب وأصلح بعد القذف فإنه وعدهم بالرحمة والمغفرة ،
فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه ،
فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع وعامل في فسقه بإجماع ، واختلف الناس في عمله
في رد الشهادة ، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن والثوري وأبو حنيفة لا
يعمل الاستثناء في رد شهادته وإنما يزول فسقه عند الله تعالى ، وأما شهادة القاذف
فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال ، وقال جمهور الناس
الاستثناء عامل في ريد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ثم اختلفوا في صورة
توبته فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأن
يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه ، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول
في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما ، وأبى أبو بكرة من إكذاب نفسه فرد
عمر شهادته حتى مات ، وقال مالك رحمهالله وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله
بتكذيب ، واختلف فقهاء المالكيين متى تسقط شهادة القاذف ، فقال ابن الماجشون بنفس
قذفه ، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو
أو غيره لم ترد شهادته ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي شهادته في مدة الأجل في
الإثبات موقوفة ، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف ، وإلا فأي
رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته. و (تابُوا) معناه رجعوا وهذا ترجيح ، وقد رجح الطبري وغيره قول مالك
واختلف أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز شهادته ، فقال مالك
رحمهالله تجوز في كل شيء بإطلاق وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء ،
وقال سحنون رحمهالله من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه
، وقال مطرف وابن الماجشون من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه
الزنى ولا في قذف ولا في لعان ، وإن كان عدلا ، ورويا هذا القول عن مالك واتفقوا
فيما أحفظ على ولد الزنا أن شهادته لا تجوز في الزنا.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)
وَالْخامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ
(٧)
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ
غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)
(١٠)
لما نزلت الآية
المتقدمة في (الَّذِينَ يَرْمُونَ) [النور : ٤] تناول
ظاهرها الأزواج وغيرهن ، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا
أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أتعجبون من غيرة
سعد لأنا أغير منه والله أغير مني» ، وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها
، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك
ابن سحماء البلوي
، فعزم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ضربه حد القذف ، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد ، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت ،
وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت ، وفرق رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهما وولدت غلاما كأنه جمل أورق ثم كان بعد ذلك الغلام
أميرا بمصر وهو لا يعرف لنفسه أبا. ثم جاءه أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولا
عن. والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية ، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي
وسط إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عاصم بن عدي ، و «الأزواج» في هذا الحكم يعم المسلمات
والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل ، وتختص الحرة بدفع حد
القذف عن نفسه ، وقرأ الجمهور «أربع شهادات» بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في
ذلك قوله (فَشَهادَةُ) ورفع «الشهادة» على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب ،
أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية
كافية أو واجبة ، وقوله (بِاللهِ) من صلة (شَهاداتٍ) ، ويجوز أن يكون من صلة (فَشَهادَةُ) ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «أربع» بالرفع وذلك على
خبر قوله (فَشَهادَةُ) قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) و (بِاللهِ) على هذه القراءة من صلة (شَهاداتٍ) ، ولا يجوز أن يكون من صلة «شهادة» لأنك كنت تفصل بين
الصلة والموصول بالخبر الذي هو (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ، وقوله : (إِنَّهُ لَمِنَ
الْكاذِبِينَ) في قول من نصب «أربع شهادات» يجوز أن تكون من صلة «شهادة»
وهي جملة في موضع نصب ، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به ، ومن رفع «أربع
شهادات» فقوله (إِنَّهُ لَمِنَ
الْكاذِبِينَ) من صلة (شَهاداتٍ) لعلة الفصل المتقدمة في قوله (بِاللهِ) ، وقرأ حفص عن عاصم «والخامسة» بالنصب في الثانية ، وقرأها
بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش ، وقرأ الجمهور فيهما «والخامسة»
بالرفع ، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله «أربع شهدات» فإنه عطف الخامسة
على ذلك لأنها من الشهادات ، وإن كان يقرأ «أربع» بالرفع ، فإنه جعل نصب قوله ،
والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة ، وأما من رفع قوله «والخامسة»
فإن كان يقرأ «أربع» بالرفع فقوله «والخامسة» عطف على ذلك ، وإن كان يقرأ «أربع»
بالنصب فإنه حمل قوله «والخامسة» على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع
شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر : [الكامل]
ومشجج أما سواد قذاله
البيت على قوله : «إلا رواكد جمرهن هباء»
لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله «والخامسة» في الأولى ، وإنما
خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله (أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ وَالْخامِسَةَ)
على القطع والحمل على المعنى ، وقرأ نافع وحده «أن لعنة» و «أنّ غضب» ، وقرأ
الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى «أن لعنة» و «أن غضب الله» وهذا على إضمار
الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر : «في فتية كسيوف الهند ، البيت» ، وقرأ
باقي السبعة «أنّ لعنة الله» «وأنّ غضب الله» بتشديد النون فيهما ونصب «اللعنة
والغضب» ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل
ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى.
قال الفقيه الإمام
القاضي : لا سيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله «أن غضب» قد وليها الفعل ،
قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء
نحو قوله تعالى (عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ) [المزمل : ٢٠]
وقوله : (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ) [طه : ٨٩] وأما
قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ
إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] فذلك
لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ) [النمل : ٨] ف (بُورِكَ) على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى. و
«العذاب المدرأ» في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو
قول أصحاب الرأي وأنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وظاهر حديث الموقفة في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أنها كانت تحد
لقول النبي عليهالسلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة وجعلت «اللعنة»
للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل «الغضب» الذي هو أشد على
المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ
والله أعلم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولا بد أن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا
يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب ، أجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادعاء
رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده ، وكذلك مشهور المذهب ، وقول مالك إن اللعان يجب
بنفي حمل يدعى قبله استبراء ، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا ينفى الولد
بالاستبراء لأن الحيض يأتي على الحمل ، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز ، وقاله
المغيرة ، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين ، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو
ينفي حملا ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء ، فجل رواة مالك لا يوجب لعانا بل
يحد الزوج ، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضا أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء ،
واختلف بعد القول بالاستبراء في قدر الاستبراء ، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه
يجزىء في ذلك حيضة. وقال أيضا مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض ، وأما موضع اللعان ففي
المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم ، وكذلك يستحب بعد
العصر تغليظا بالوقت وكل وقت مجز ، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو
لدفع الحد وهي لدرء العذاب ، وإن كانت صغيرة لا تحمل لا عن هو لدفع الحد ولم تلاعن
هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء ، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ ،
قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل ، والمستحب من ألفاظ
اللعان أن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة
تزني وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي إن كنت من
الكاذبين ، وقال أصبغ لا بد أن يقول كالمرود في المكحلة ، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك
يقول أشهب لا بد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو ، وأما في لعان نفي الحمل فقيل
يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت ، وقال ابن القاسم في الموازنة : لا يقول وزنت
من حيث يمكن أن تغصب ، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وإنه في ذلك لمن الكاذبين
، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإن منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ
وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك ، وحكى اللخمي عن محمد بن أبي صفرة أنه قال اللعان
لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال : فأحدث طلاقا
،
ومشهور المذهب أن
نفس تمام اللعان بينهما فرقة ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أبي صفرة هذا ليس
بعيد يزاحم به الجمهور. ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده ، وقال
أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما ، فإن مات أحدهما بعد
تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر ، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه
حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق ، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها
وهذا على أن تفريق اللعان فسخ ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم
اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمهالله ، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبدا ، وإن أكذب
نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك ، وروي عن عبد العزيز بن أبي سلمة أنه إن أكذب نفسه
بعد اللعان كان خاطبا من الخطاب ، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا
تعيد ، وقال أشهب تعيد ، والجواب في قوله (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) الآية محذوف تقديره لكشف الزناة بأيسر من هذا ، ولأخذهم
بعذاب من عنده ، أو نحو هذا من المعاني التي أوجب تقديرها إبهام الجواب.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)
(١١)
هذه الآية وما
بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من
أمر «الإفك» ، وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر
الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها. و «الإفك» الزور
والكذب ، والأفاك الكذاب ، و «الإفك» قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة
الصواب وبذلك شبه الكذب واختصار حديث «الإفك» أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع قال ابن
إسحاق كانت سنة ست ، وقال ابن عقبة كانت سنة أربع فضاع لها هناك عقد ، فلما انصرفت
إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه ، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد
أحدا ، وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم
تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها
إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإنا إليه راجعون ، وذلك أنه تخلف وراء الجيش
لحفظ الساقة وقيل اتفاقا فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها ، فاسترجع وقال ظعينة
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خلفت هاهنا ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة
وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل «الإفك» في مقالتهم وكل
الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته
حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ، هذا اختصار الحديث وهو بكماله
وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما
قال الناس فيه : سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط.
قال الفقيه الإمام
القاضي : أراد بزنى ، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في ابنيه «لهما أشبه به من الغراب بالغراب» ، وقيل كان حصورا
لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة ، وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة
أرمينية سنة تسع عشرة في زمن عمر ، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن
معاوية ، وقوله (عُصْبَةٌ) رفع على البدل من الضمير في (جاؤُ) وخبر (إِنَ) في قوله (لا تَحْسَبُوهُ) والتقدير إن فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة
من أن يكون (عُصْبَةٌ) خبر (إِنَ) و «العصبة»
الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة
ولم يسم من أهل «الإفك» إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله وجهل الغير قاله عروة بن الزبير
وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا (عُصْبَةٌ) كما قال الله تعالى. وقوله (لا تَحْسَبُوهُ) خطاب لكل من ساءه من المؤمنين ، وقوله (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يريد أنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أن نزل
وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن ، ونقمة
من المفترين في الدنيا والآخرة ، ففي ذلك شفاء وخير وهذه خمسة أوجه ، والضمير في
قوله (مِنْهُمْ) عائد على العصبة المذكورة ، و (اكْتَسَبَ) مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو
أبلغ في التذنيب ، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال
فيه ، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله :
فحملت برة واحتملت
فجاره ، والإشارة بقوله (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ) إلى عبد الله بن أبي ابن سلول ، والعذاب المتوعد به هو
عذاب الآخرة ، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث ، وروي عن عائشة رضي الله عنها أن
حسان بن ثابت دخل عليها يوما وقد عمي فأنشدها مدحه فيها : [الطويل]
حصان رزان ما
تزنّ بريبة
|
|
وتصبح غرثى من
لحوم الغوافل
|
فقالت له عائشة :
لا لكنك لست كذلك تريد أنه وقع في الغوافل فأنشد : [الطويل]
فإن كان ما قد
قيل عني قلته
|
|
فلا رفعت سوطي
إليّ أناملي
|
فلما خرج قال لها
مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك ،
فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى ، وضرب الحد؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع
فأما قولها عن الحد فإن حسان وحمنة ومسطحا حدوا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي
وأما ضربه بالسيف فإن صفوان بن المعطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه
بالسيف ضربة على رأسه وقال : [الطويل]
تلق ذباب السيف
عني فإنني
|
|
غلام إذا هو جيت
لست بشاعر
|
فأخذ جماعة صفوان
ولببوه وجاؤوا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأهدر رسول الله صلىاللهعليهوسلم جرح حسان أو استوهبه إياه وهذا يقتضي أن حسان من تولى
الكبر ، وقال قوم الإشارة ب (الَّذِي) إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها ف (لِكُلِ) واحد (مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ) وللبادي المفتري عذاب عظيم ، وهو على هذا غير معين وهذا
قول الضحاك والحسن وقال أبو زيد وغيره هو عبد الله بن أبي ، وقرأ
جمهور الناس «كبره»
بكسر الكاف ، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأبو رجاء والأعمش وابن أبي عبلة «كبره»
بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم ، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن
تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سنا أو مكانة ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم في قصة حويصة ومحيصة «الكبر الكبر» ومن استعماله في المعنى
الثاني قول ابن الحطيم : [المنسرح]
تنام عن كبر
شأنها فإذا
|
|
قامت رويدا تكاد
تنقصف
|
قوله عزوجل :
(لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً
وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ
عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)
(١٣)
الخطاب بهاتين
الآيتين لجميع المؤمنين حاشى من تولى الكبر ويحتمل دخولهم في الخطاب ، وفي هذا
عتاب للمؤمنين أي كان الإنكار واجبا عليهم ، والمعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء
المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم وإذا كان ذلك يبعد فيهم فكانوا يقضون بأنه من
صفوان وعائشة أبعد لفضلهما ، وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري
وامرأته ، وذلك أنه دخل عليها فقالت له يا أبا أيوب أسمعت ما قيل؟ فقال نعم وذلك
الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ قالت لا والله ، قال فعائشة والله أفضل منك
، قالت أم أيوب نعم فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين إذ لم يفعله
جميعهم ، والضمير في قوله : (جاؤُ) لأولئك الذين تولوا الكبر وإذا كانوا عند الله كذبة فهي
الحقيقة فيهم وعند هذا حدوا ، ولم يرو في شهير الدواوين أن عبد الله بن أبي حد ،
ويشبه ذلك لأنه لم تقم عليه بالمقالة بينة لنفاقه وتستره ، وإنما كان يخوض فيه مع
من يذيعه ولا يسأل عن شهادته كما قال عروة أخبرت أنه كان يقره ويستمعه ويستوشيه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولكن النبي عليهالسلام استعذر منه على المنبر ووقذه بالقول ووقع في أمره بين
الأوس والخزرج ما هو مطول في مسلم في جملة حديث الإفك.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ(١٤)
إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا
بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)
وَيُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(١٨)
هذا عتاب من الله
تعالى بليغ ذكر أن حالتهم التي وقع فيها جميعهم من تعاطيهم الحديث وإن لم
يكن المخبر ولا
المخبر مصدقين ، ولكن نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة في الحديث هو
الذي وقع العتاب فيه ، وقرأ محمد بن السميفع «إذ تلقونه» بضم التاء وسكون اللام
وضم القاف من لإلقاء ، وهذه قراءة بينة وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «إذ تتلقونه»
بضم التاء من التلقي بتاءين ، وقرأ جمهور السبعة «إذ تلقونه» بحذف التاء الواحدة
وإظهار الذال دون إدغام وهو أيضا من التلقي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «إتلقونه»
بإدغام الذال في التاء ، وقرأ ابن كثير «إذ تلقونه» بإظهار الذال وإدغام التاء في
التاء وهذه قراءة قلقة لأنها تقتضي اجتماع ساكنين وليس كالإدغام في قراءة من قرأ
فلا «تناجوا ولا تنابزوا» لأن لدونة الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما
لا يحسن مع سكون الدال ، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنها وهي أعلم الناس بهذا
الأمر «إذ تلقونه» بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة من قول
العرب ولق الرجل ولقا إذا كذب قال ابن سيده في المحكم قرىء «إذ تلقونه» وحكى أهل
اللغة أنها من ولق إذا كذب فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي وعندي أنه أراد
إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر ووصل بالضمير ، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة
مأخوذة من الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء كعدو في إثر عدو وكلام في إثر
كلام يقال ولق في سيره إذا أسرع ومنه قول الشاعر :
«جاءت به عنس من الشام تلق»
وقوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) مبالغة وإلزام وتأكيد.
والضمير في قوله (وَتَحْسَبُونَهُ) للحديث والخوض فيه والإذاعة له ، وقوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) إلى (حَكِيمٌ) ، عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا
يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا
من زوج نبيه عليهالسلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها (بُهْتانٌ) ، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة
أن يقال في الإنسان ما فيه. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة و (أَنْ) مفعول من أجله بتقدير «كراهية أن» ونحوه ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) توقيف وتأكيد كما تقول ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت
رجلا وسائر الآية بين و (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) صفتان تقتضيهما الآية.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)
(٢٠)
قال مجاهد وابن
زيد الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين عبد الله بن أبي ومن أشبهه ، وهي خاصة في
أمر عائشة رضي الله عنها ع فحبهم شياع (الْفاحِشَةُ) في المؤمنين متمكن على وجهه لعداوتهم في أهل الإيمان ، و «عذابهم
الأليم» (فِي الدُّنْيا) الحدود ، وفي (الْآخِرَةِ) النار ، وقالت فرقة وقولها الأظهر الآية عامة في كل قاذف
منافقا كان أو مؤمنا ع فالقاذف المؤمن لا يتصف بحب شياع (الْفاحِشَةُ) في المؤمنين
جملة لكنه يحبها
لمقذوفه ، وكذلك آخر لمقذوفه ، وآخر حتى (تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) من مجموع فعلهم فهم لها محبون بهذا الوجه من حيث أحب كل
واحد جزءا من شياعها ، والعذاب الأليم (فِي الدُّنْيا) الحدود وفي (الْآخِرَةِ) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون القاذف متوعدا من بين العصاة
بعذاب الآخرة لا يزيله الحد ، حسب مقتضى حديث عبادة بن الصامت ويكون أمره كأمر
المحاربين إذا صلبوا لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب ، والوجه الثاني أن
يحكم بأن الحد مسقط عذاب الآخرة حسب حديث عبادة بن الصامت وأن قوله (وَالْآخِرَةِ) لا يريد به عموم القذفة بل يريد إما المنافقين وإما من لم
يتب ، وقال الطبري معناه إن مات مصرا غير تائب ، وقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ) معناه البريء من المذنب وسائر الأمور ، وحجة الحكمة في
ستركم والتغليظ في الوعيد والعذاب على قاذفيكم ، وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) الآية جواب (لَوْ لا) محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره لفضحكم بذنوبكم ولعذبكم
فيما أفضتم فيه من قول الباطل والبهتان.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ
الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ
اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(٢١)
هذا الخطاب عام
لجميع المؤمنين ، و (خُطُواتِ) جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي فكأن المعنى لا
تمشوا في سبله وطرقه من الأفعال الخبيثة ، وقال منذر بن سعيد يجوز أن يكون (خُطُواتِ) جمع خطأ من الخبيثة ، وسهلت الهمزة فنطق بها (خُطُواتِ) وقرأ بضم الطاء من «خطوات» الجمهور ، وقرأ بسكونها عاصم
والأعمش ، وقرأ الجمهور «ما زكى» ، بتخفيف الكاف أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف
رشدا ، وقرأ أبو حيوة والحسن «زكّى» بشد الكاف أي تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما
هي بفضله لا بأعمالكم وتحرزكم من المعاصي ، ثم ذكر تعالى أنه (يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ممن سبقت له السعادة وكان عمله الصالح أمارة على سبق
السعادة له ، ثم أخبر بأنه (سَمِيعٌ) لجميع أقوالهم وكلامهم من قذف وغيره ، (عَلِيمٌ) بحق ذلك من باطله لا يجوز عليه في ذلك وهم ولا غلط.
قوله عزوجل :
(وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(٢٢)
المشهور من
الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة الصديق ومسطح بن أثاثة ،
وذلك أنه كان ابن خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطح بن أثاثة بن
عباد بن المطلب بن عبد مناف ، وقيل اسمه عوف ومسطح لقب ، وكان أبو بكر ينفق عليه
لمسكنته ، فلما وقع أمر
الإفك وقال فيه
مسطح ما قال حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا ، فجاءه مسطح فاعتذر
وقال إنما كنت أغشى مجلس حسان فأسمع ولا أقول ، فقال له أبو بكر لقد ضحكت وشاركت
فيما قيل ومر على يمينه ، فنزلت الآية ، وقال الضحاك وابن عباس إن جماعة من المؤمنين
قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة
فنزلت الآية في جميعهم والأول أصح ، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة
بأن لا يغتاظ «ذو فضل وسعة» فيحلف أن لا ينفع من هذه صفته غابر الدهر ، ورأى
الفقهاء من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته
ذكره الباجي في المنتقى ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «أيكم المتألي على
الله لا يفعل المعروف» ، و (يَأْتَلِ) معناه يحلف وزنها يفتعل من الألية وهي اليمين ، وقالت فرقة
معناه يقصر من قولك ألوت في كذا إذا قصرت فيه ، ومنه قوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ولا يتأل» وهذا
وزنه يتفعل من الألية بلا خلاف وهي في المصحف ياء تاء لام ، فلذلك ساغ هذا الخلاف
لأبي جعفر وزيد فروياه ، وذكر الطبري أن خط المصحف مع قراءة الجمهور فظاهر قوله إن
ثم ألفا قبل التاء ، و «الفضل والسعة» هنا هي المال ، وقوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ) الآية تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم
فذلك أغفر لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قول النبي عليهالسلام «من لا يرحم لا
يرحم» فروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال إني لأحب أن يغفر الله
لي ورجع إلى مسطح النفقة والإحسان الذي كان يجري عليه ، قالت عائشة وكفر عن يمينه
، وقرأ ابن مسعود وسفيان بن حسين «ولتعفوا ولتصفحوا» بالتاء من فوق فيهما ، ورويت
عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال بعض الناس هذه أرجى آية في كتاب الله عزوجل من حيث لطف الله فيها بالقذفة العصاة بهذا اللفظ ، قال
القاضي أبو محمد وإنما تعطي الآية تفضلا من الله في الدنيا وإنما الرجاء في الآخرة
، أما أن الرجاء في هذه الآية بقياس أي إذا أمر «أولي السعة» بالعفو فطرد هذا
التفضل بسعة رحمته لا رب سواه ، وإنما آيات الرجاء قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣].
وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩].
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول إن أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧].
وقد قال تعالى في آية أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [الشورى : ٢٢].
فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر بها المؤمنين في تلك ، وقال بعضهم أرجى آية
في كتاب الله تعالى قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥]. وذلك
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
يَوْمَ
تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ
وَيَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)
(٢٥)
قال سعيد بن جبير
إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة ،
وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليهالسلام ، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين ، فلعن قاذفهن ولم
يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق ، وذكرت له التوبة ، وقالت جماعة
من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة ، وقال بعض
هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولا في القاذفين ، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت
في السورة التي فيها التوبة ، وقد تقدم القول في (الْمُحْصَناتِ) ما معناه ، و «اللعنة» في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد
واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم. لهم وزوالهم عن رتبة العدالة ، وعلى من قال إن هذه
الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبي وأشباهه وفي ضمن رمي
المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمنا ، والعامل في قوله (يَوْمَ) فعل مضمر يقتضيه «العذاب» أي يعذبونه (يَوْمَ) أو نحو هذا ، وأخبر الله تعالى أن جوارحهم تشهد عليهم ذلك
من أعظم الخزي والتنكيل فيشهد اللسان وقلب المنافق لا يريد ما يشهد به ، وتشهد
الأيدي والأرجل كلاما يقدرها الله عليه ، وقرأ جمهور السبعة «تشهد» بالتاء من فوق
وقرأ حمزة والكسائي «يشهد» بالياء و «الدين» في هذه الآية الجزاء ومنه قول الشاعر
: [شهل بن شيبان الزماني] [الهزج]
ولم يبق سوى
العدوا
|
|
ن دناهم كما
دانوا
|
أي جازيناهم كما
فعلوا مثل المثل كما تدين تدان ، وقرأ جمهور الناس «الحقّ» بالنصب على الصفة للدين
، وقرأ مجاهد «الحقّ» بالرفع على الصفة لله عزوجل وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب «يومئذ يوفيهم الله الحق
دينهم» بتقديم الصفة على الموصوف ورويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقوله (يَعْلَمُونَ أَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) يقوي قول من ذهب إلى أن الآية في المنافقين عبد الله بن
أبي وغيره وذلك أن كل مؤمن ففي الدنيا يعلم (أَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ) وإلا فليس بمؤمن.
قوله عزوجل :
(الْخَبِيثاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)
(٢٦)
اختلف المتأولون
في الموصوف في هذه الآية ب «الخبيث والطيب» ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
هي الأقوال والأفعال ثم اختلفت هذه الجماعة فقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات
«الخبيثات» لا يقولها ويرضاها إلا (الْخَبِيثاتُ) من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه وكذلك (الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) وقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات الخبيثات لا تليق
وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا
الوجه ، وقال ابن زيد الموصوف بالخبيث والطيب
النساء والرجال ،
وإنما الآية على نحو التي تقدمت وهي قوله تعالى : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) [النور: ٣] الآية فمعنى هذا ، التفريق بين حكم عبد الله بن
أبي وأشباهه وبين حكم النبي عليهالسلام وفضلاء صحابته وأمته ، أي النبي عليهالسلام طيب فلم يجعل الله له إلا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل
النساء الخبائث.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وبهذه الآية قيل لأزواج النبي صلىاللهعليهوسلم (الطَّيِّباتُ) المبرءات ، وقوله (أُولئِكَ) إشارة إلى «الطيبين» المذكورين.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
(٢٨)
سبب هذه الآية
فيما ذكر الطبري بسند عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إني
أكون في منزلي على الحالة التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا
يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فنزلت هذه الآية ، ثم هي عامة في
الأمة غابر الدهر من حيث هذه النازلة تختص بكل أحد في نفسه وبيت الإنسان ، هو
البيت الذي لا أحد معه فيه أو البيت الذي فيه زوجه أو أمته ، وما عدا فهو غير بيته
، قال ابن مسعود وغيره ينبغي للإنسان أن لا يدخل البيت الذي فيه أمه إلا بعد
الاستيناس ، وروي في ذلك حديث عن النبي عليهالسلام أن رجلا قال يا رسول الله استأذن على أمي قال نعم قال إنما
هي أمي ولا خادم لها غيري ، قال «أتحب أن تراها عريانة» قال لا ، قال «فاستأذن
عليها وكذلك كل ذات محرم منه لأنه لا ينبغي أن يراهن عاريات» ، وقالت زينب امرأة
ابن مسعود كان ابن مسعود إذا جاء منزله تنحنح مخافة أن يهجم على ما يكره ، و (تَسْتَأْنِسُوا) معناه تستعملوا أي تستعلموا من في البيت وتستبصروا ، تقول
آنست إذا علمت عن حس وإذا أبصرت ومنه قوله تعالى : (آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْداً) [النساء : ٦] ،
وقوله (آنَسْتُ ناراً) [القصص : ٢٩] ومنه
قول حسان بن ثابت «أنظر خليلي بباب جلق هل تؤنس دون البلقاء من أحد» وقول الحارث
أنست نباة البيت ، ووزن آنس أفعل واستأنس وزنه استفعل فكأن المعنى في «تستأنسون»
تطلبون ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم ، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي
يريد دخوله فذلك يكون بالاستئذان على من فيه أو بأن يتنحنح ويستشعر بنفسه بأي وجه
أمكنه ويتأنى قدر ما يتحفظ ويدخل إثر ذلك ، وذهب الطبري في (تَسْتَأْنِسُوا) إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح
والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شهر بكم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه كان
يقرأ «حتى تستأذنوا وتسلموا» وهي قراءة أبي بن كعب وحكاها أبو حاتم «حتى تسلموا
وتستأذنوا» قال ابن عباس (تَسْتَأْنِسُوا) خطأ أو وهم من الكتاب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها (تَسْتَأْنِسُوا) وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان رضي الله عنه فهي التي
لا يجوز خلافها ، والقراءة ب «يستأذنوا» ضعيفة ، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب
في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس والأشبه أن يقرأ «تستأذنوا» على
التفسير ، وظاهر ما حكى الطبري أنها قراءة برواية ولكن قد روي عن ابن عباس أنه قال
(تَسْتَأْنِسُوا) معناه «تستأذنوا» ، ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن (تَسْتَأْنِسُوا) متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب ، وقد قال عمر
للنبي عليهالسلام : استأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة الحديث
المشهور وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلىاللهعليهوسلم فكيف يخطىء ابن عباس رضي الله عنه أصحاب الرسول في مثل هذا
، وحكى الطبري أيضا بسند عن ابن جريج عن ابن عباس وعكرمة والحسن بن أبي الحسن أنهم
قالوا نسخ واستثني من هذه الآية الأولى قوله بعد (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) [النور : ٩] ع
وهذا أيضا لا يترتب فيه نسخ ولا استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة
والآية الثانية في المباحة وكأن من ذهب إلى الاستثناء رأى الأولى عامة ، وصورة
الاستئذان أن يقول الرجل السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع
انصرف وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ثم ينصرف بعد الثلاث ، فأما ثبوت ما ذكرته من صورة
الاستئذان فروى الطبري أن رجلا جاء إلى بيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال آلج أو أنلج فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأمة له يقال لها روضة ، «قولي لهذا يقول السلام عليكم
ادخل» فسمعه الرجل فقالها فقال له النبي عليهالسلام «ادخل». وروي أن
ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل؟
فقالت المرأة ادخل بسلام ، فأعاد ، فأعادت ، فقال لها قولي ادخل ، فقالت ذلك ،
فدخل فكأنه توقف لما قالت بسلام لاحتمال اللفظ أن تريد ادخل بسلامك لا بشخصك ، ثم
لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ، وأما ثبوت الرجوع بعد الاستئذان ثلاثا
فلحديث أبي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري
ثم أبي بن كعب الحديث المشهور ، وقال عطاء بن أبي رباح الاستئذان واجب على كل
محتلم وسيأتي ذكر هذا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «رسول الرجل إذنه» أي إذا أرسل في أحد فقد أذن له في
الدخول وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ) تم الكلام عنده ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) معناه فعلنا ذلك بكم ونبهناكم (لَعَلَّكُمْ) والضمير في قوله (تَجِدُوا فِيها) للبيوت التي هي بيوت الغير ، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال
معنى قوله (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فِيها أَحَداً) إن لم يكن لكم فيها متاع وضعف الطبري هذا التأويل وكذلك هو
في غاية الضعف ، وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن. إذا
كان فيها للداخل متاع ، ورأى لفظة المتاع : متاع البيت الذي هو البسط والثياب وهذا
كله ضعيف وأسند الطبري عن قتادة أنه قال : قال رجل من المهاجرين لقد طلبت عمري كله
هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا مغتبط
لقوله تعالى : (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي
والنظر إلى ما لا يحل ولغيرهم مما يقع في محظور.
قوله عزوجل :
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)
(٢٩)
روي أن بعض الناس
لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم
واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد ،
لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال
الحكم ، ومثل أهل التأويل من هذه البيوت أمثلة فقال محمد بن الحنيفة وقتادة ومجاهد
هي الفنادق التي في طرق المسافرين ، قال مجاهد لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي
إليها كل ابن سبيل و (فِيها مَتاعٌ) لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء في بيوت غير مسكونة
بالخرب التي يدخلها الإنسان للبول والغائط ففي هذا أيضا متاع ، وقال ابن زيد
والشعبي هي حوانيت القيساريات والسوق ، وقال الشعبي لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها
فيها وقالوا للناس هلم ، ع هذا قول غلط قائله لفظ المتاع ، وذلك أن بيوت القيسارية
محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أذن
له بها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس عنها ، وقال محمد بن الحنفية أيضا أراد
تعالى دور مكة ، وهذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة
أخذت عنوة ، وهذا هو في هذه المسألة القول الضعيف ، يرده قوله عليهالسلام «وهل ترك لنا عقيل
منزلا» وقوله «من دخل دار أبي سفيان» «ومن دخل داره» وغير ذلك من وجوه النظر وباقي
الآية بين ظاهره التوعد.
قوله عزوجل :
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ
اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ(٣٠) وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلى جُيُوبِهِنَّ)
قوله (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) بمنزلة قوله إنهم ، فقوله (يَغُضُّوا) جواب الأمر ، وقال المازني المعنى قل لهم غضوا (يَغُضُّوا). ويلحق هذين من الاعتراض أن الجواب خبر من الله وقد يوجد
من لا يغض وينفصل بأن المراد يكونون في حكم من يغض ، وقوله (مِنْ أَبْصارِهِمْ) أظهر ما في (مِنْ) أن تكون للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما
يغض فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض ، ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله عليهالسلام لعلي بن أبي طالب «لا تتبع النظرة فإن الأولى لك وليست لك
الثانية» الحديث. وقال جرير بن عبد الله سألت النبي عليهالسلام عن نظرة الفجأة فقال «اصرف بصرك» ويصح أن تكون (مِنْ) لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية ، والبصر هو
الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب
التحذير منه ، و «حفظ الفروج» يحتمل أن يريد في الزنى ويحتمل أن يريد في ستر
العورة والأظهر أن الجميع مراد واللفظ عام ، وبهذه الآية حرم العلماء دخول
الحمام بغير مئزر
وقال أبو العالية كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا هذه الآيتين فإنه يعني التستر.
قال الفقيه الإمام
الإمام القاضي : ولا وجه لهذا التخصيص عندي وباقي الآية بين وظاهره التوعد ، وقوله
تعالى : (وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ) الآية أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل
ما يكره من جهة الشرع النظر إليه ، وفي حديث أم سلمة قالت : كنت أنا وعائشة عند
النبي صلىاللهعليهوسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي عليهالسلام «احتجبن» فقلنا :
أعمى ، فقال النبي عليهالسلام «أفعمياوان أنتما»؟
و (مِنْ) تحتمل ما تقدم في الأولى ، و «حفظ الفروج» يعم الفواحش
وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ ، وأمر الله تعالى بأن (لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية ، ثم
استثنى ما يظهر من الزينة ، فاختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود ظاهر الزينة
هو الثياب ، وقال سعيد بن جبير الوجه والثياب ، وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء
والأوزاعي الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة ظاهر
الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن
تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس ، وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف
الذراع حديثا عن النبي صلىاللهعليهوسلم وذكر آخر عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في
الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة
فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه
فغالب الأمر أن الوجه بما فيه والكفين يكثر فيهما الظهور ، وهو الظاهر في الصلاة ،
ويحسن بالحسنة الوجه أن تستره إلا من ذي حرمة «محرمة» ، ويحتمل لفظ الآية أن
الظاهر من الزينة لها أن تبديه ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط ومراعاة فساد الناس
فلا يظن أن يباح للنساء من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه والله الموفق
للصواب برحمته ، وقرأ الجمهور «وليضربن» بسكون اللام التي هي للأمر ، وقرأ أبو عمر
في رواية عباس عنه و «ليضربن» بكسر اللام على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر في «ليذهب
وليضرب» ، وإنما تسكينها كتسكين عضد وفخذ ، وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك
الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر قال النقاش كما يصنع النبط
فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله تعالى ب «الخمار على الجيوب»
وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه ، وقالت عائشة رضي الله عنها : رحم الله المهاجرات
الأول لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها أخمرة وضربن بها على
الجيوب. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها
وما هنالك فشقته عليها وقالت إنما يضرب بالكثيف الذي يستر ، ومشهور القراءة ضم
الجيم من «جيوبهن» ، وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء كقراءتهم ذلك في بيوت
وشيوخ ذكره الزهراوي.
قوله عزوجل :
وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ
أَوْ
أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ)
المعنى في هذه
الآية ولا يقصدن ترك الإخفاء للزينة الباطنة كالخلخال والأقراط ونحوه ويطرحن مؤونة
التحفظ إلا مع من سمي وبدأ تعالى ب «البعولة» وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على
أعظم من هذا ، ثم ثنى به المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكنهم تختلف مراتبهم
في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من
كشف ولد زوجها ، وتختلف مراتب ما يبدي لهم فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد
الزوج ، وقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن ، ويدخل في هذا
الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم ، وكتب عمر رضي الله
عنه إلى أبي عبيدة : «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء
المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال
فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد
إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) يدخل فيه الإماء الكتابيات ويدخل فيه العبيد عند جماعة من
أهل العلم ، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، وقال ابن عباس
وجماعة من العلماء لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها ونحو ذلك إلا أن يكون وغدا
، فمنعت هذه الفرقة الكشف بملك اليمين وأباحته بأن يكون من (التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ) وفي بعض المصاحف «ملكت أيمانكم» فيدخل فيه عبد الغير ،
وقوله (أَوِ التَّابِعِينَ) يريد الأتباع ليطعموا المفسول من الرجال الذين لا إربة لهم
في الوطء فهي شرطان ، ويدخل في هذه الصفة المجبوب والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني
والزمن الموقوذ بزمانته ونحو هذا هو الغالب في هذه الأصناف ، ورب مخنث لا ينبغي أن
يكشف ، ألا ترى إلى حديث هند ، ونهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كشفه على النساء لما وصف بادنة بنت غيلان بن معتب ،
وتأمل ما روي في أخبار الدلال المخنث وكذلك الحمقى والمعتوهون فيهم من لا ينبغي أن
يكشف ، والذي «لا إربة له» من الرجال قليل و (الْإِرْبَةِ) الحاجة إلى الوطء ، وعبر عن هذا بعض المفسرين ، قال هو
الذي يتبعك لا يريد إلا الطعام وما تأكله ، وقرأ عاصم وابن عامر «غير» بالنصب وهو
على الحال من الذكر الذي في (التَّابِعِينَ) ، وقرأ الباقون «غير» بالخفض على النعت ل (التَّابِعِينَ) والقول فيها كالقول في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) [الفاتحة : ٧]
وقوله (أَوِ الطِّفْلِ) اسم جنس بمعنى الجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم ، و (يَظْهَرُوا) معناه يطلعون بالوطء ، والجمهور على سكون الواو من «عورات»
، وروي عن ابن عامر فتح الواو ، وقال الزجاج الأكثر سكون الواو ، كجوزات وبيضات
لثقل الحركة على الواو والياء ، ومن قرأ بالفتح فعلى الأصل في فعلة وفعلات.
قوله عزوجل :
وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا
إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ
(٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)
(٣٢)
أسند الطبري عن
المعتمر عن أبيه قال : زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت
في ساقيها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت
هذه الآية ، وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ، ذكره الزجاج ، قال
مكي رحمهالله ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين
ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع ، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليعلم ما سر من زينتهن»
، ثم أمر عزوجل بالتوبة مطلقة وقد قيد توبة الكفار بالإخلاص وبالانتهاء في
آية أخرى ، وتوبة أهل الذمة بالتبيين ، يريد لأمر محمد عليهالسلام وأمر بهذه التوبة مطلقة عامة من كل شيء صغير وكبير ، وقرأ
الجمهور «أيّه» بفتح الهاء ، وقرأ ابن عامر «أيّه» بضم الهاء ووجهه أن تجعل الهاء
كأنها من نفس الكلمة فيكون إعراب المنادى فيها ، وضعف أبو علي ذلك جدا ، وبعضهم
يقف «أيه» وبعضهم يقف «أيها» بالألف ، وقوى أبو علي الوقف بالألف لأن علة حذفها في
الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع
الياء إذا وقفت على (مُحِلِّي) [المائدة : ١] من
قوله (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) [المائدة : ١] ،
والاختلاف الذي ذكرناه في (أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ) كذلك هو في (أَيُّهَا السَّاحِرُ) [الزخرف : ٤٩] و (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١]
قوله عزوجل : وقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى) هذه المخاطبة لكل من تصور أن ينكح في نازلة ما ، فهم
المأمورون بتزويج من لا زوج له وظاهر الآية أن المرأة لا تتزوج إلا بولي ، والأيم
يقال للرجل وللمرأة ومنه قول الشاعر :
«لله در بني على
أيم منهم وناكح» ، ولعموم هذا اللفظ قالت فرقة إن هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى
: (وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٣]
وقوله: (وَالصَّالِحِينَ) يريد للنكاح ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من عبيدكم»
والجمهور على «عبادكم» والمعنى واحد إلا أن قرينة الترفيع بالنكاح يؤيد قراءة
الجمهور ، وهذا الأمر بالإنكاح يختلف بحسب شخص شخص ، ففي نازلة يتصور وجوبه ، وفي
نازلة الندب وغير ذلك وهذا بحسب ما قيل في النكاح ، ثم وعد الله تعالى بإغناء
الفقراء المتزوجين طلب رضى الله عنهم واعتصاما من معاصيه ، وقال ابن مسعود التمسوا
الغنى في النكاح ، وقال عمر رضي الله عنه عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح وقد قال
تعالى : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، قال النقاش هذه الآية حجة على من قال إن القاضي يفرق بين
الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة لأن الله قال (يُغْنِهِمُ) ولم يقل يفرق بينهما ، وهذا انتزاع ضعيف ، وليست هذه الآية
حكما فيمن عجز عن النفقة وإنما هي وعد بالإغناء كما وعد به مع التفرق في قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣]
ونفحات رحمة الله مأمولة في كل حال موعود بها ، وقوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ) صفتان نحو المعنى الذي فيه القول أي (واسِعٌ) الفضل (عَلِيمٌ) بمستحق التوسعة والإغناء.
قوله عزوجل :
(وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ)
«استعف» وزنه
استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفا ، فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه
النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعف ، ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم
المال وعد بالإغناء من فضله ، فعلى هذا التأويل يعم الأمر بالاستعفاف كل من تعذر
عليه النكاح بأي وجه تعذر ، وقالت جماعة من المفسرين «النكاح» في هذه الآية اسم ما
يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، قال القاضي وحملهم على
هذا قوله تعالى : (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي
يتزوج به ، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف ، ثم أمر الله
تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك ، وطلب المملوك الكتابة وعلم
سيده منه (خَيْراً) ، قال النقاش سببها أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل
مولاه الكتابة فأبى عليه ، وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ
(الْكِتابَ) في الآية مصدر كالقتال والجلاد ونحوه من مصادر فاعل ،
والمكاتبة مفاعلة من حيث هذا يكتب على نفسه وهذا على نفسه ، واختلف الناس هل هذا
الأمر بالكتابة على الوجوب أو على الندب على قولين ، فمذهب مالك رحمهالله أن ذلك على الندب ، وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر قول عمر
لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال عمر كاتبه أو لأضربنك
بالدرة ، وهو قول عمرو بن دينار والضحاك ، واختلف الناس في المراد ب «الخير» ،
فقالت فرقة : هو المال ولم تر على سيد عبد أن يكاتب إلا إذا علم أن له مالا يؤدي
منه أو من التجر فيه ، وروي عن ابن عمر وسلمان أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في
الكتابة ووعدا باسترفاق الناس ، فقال كل واحد منهما لعبده أتريد أن تطعمني أوساخ
الناس ، وقال مالك إنه ليقال «الخير» القوة والأداء ، وقال الحسن بن أبي الحسن «الخير»
هو صدق الموعد وقلة الكذب والوفاء وإن لم يكن للعبد مال ، وقال عبيدة السلماني
«الخير» هو الصلاح في الدين ع وهذا في ضمنه القول الذي قبله ، والمكاتب عبد ما بقي
عليه درهم ، وحرمة العتق إنما يتلبس بها بعد الأداء هذا قول جمهور الأمة ، وقال
ابن مسعود إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم ، وقال علي بن أبي طالب العتاقة تجري
فيه بأول نجم ، وقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ) ، قال المفسرون هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال
كتابته ، واستحسن ذلك علي بن أبي طالب أن يكون ذلك ربع الكتابة ، قال الزهراوي
وروي ذلك عن النبي عليهالسلام ، واستحسن الحسن بن أبي الحسن وابن مسعود ثلثها وقال قتادة
عشرها ، ورأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مبادرة إلى الخير خوف أن لا
يدرك آخرها ، ورأى مالك رحمهالله وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم ، وعلة ذلك أنه إذا وضع من
أول نجم ربما عجز العبد ، فرجع هو وماله إلى السيد ، فعادت إليه وضيعته ، وهي شبه
الصدقة ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، ورأى مالك رحمهالله هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضعية حدا ، ورأى
الشافعي وغيره الوضيعة واجبة يحكم بها الحاكم على المكاتب
وعلى ورثته ، وقال
الحسن والنخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ) للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في
فكاك رقابهم ، وقال زيد بن أسلم إنما الخطاب لولاة الأمور بأن يعطوا المكاتبين من
مال الصدقة حظهم وهو الذي تضمنه قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) [البقرة : ١٧٧].
قوله عزوجل :
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
وَلَقَدْ
أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)
روي أن سبب هذه
الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة تسمى مسيكة ، وقيل معادة ، فكان
يأمرها بالزنا والكسب به ، فشكت ذلك إلى النبي عليهالسلام ، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) راجع إلى «الفتيات» ، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن
فحينئذ يتصور ويمكن أن يكون السيد مكرها ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه وإذا كانت
الفتاة لا تريد التحصن ، فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور
فيها وهي مريدة للزنا ، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه ، وذهب هذا النظر عن
كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله : (إِنْ أَرَدْنَ) راجع إلى (الْأَيامى) [النور : ٣٢] في
قوله : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) ، وقال بعضهم هذا الشرط في قوله : (إِنْ أَرَدْنَ) ملغى ونحو هذا مما ضعف والله الموفق للصواب برحمته ، وعرض (الْحَياةِ الدُّنْيا) ، في هذه الآية الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها ومعنى باقي
الآية بين (فَإِنَّ اللهَ مِنْ
بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، بهن ، وقد يتصور الغفران والرحمة بالمكرهين بعد أن تقع
التوبة من ذلك ، فالمعنى (غَفُورٌ) لمن تاب ، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير «لهن
غفور رحيم» بزيادة «لهن» ، ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من
الآيات المنيرات ، وفيما ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ، ليقع التحفظ مما وقع
أولئك فيه وفيما ذكر لهم من المواعظ ، وقرأ جمهور الناس «مبيّنات» بفتح الياء أي
بينها الله تعالى وأوضحها ، وقرأ الحسن وطلحة وعاصم والأعمش «مبيّنات» بكسر الياء
أي بينت الحق وأوضحته.
قوله عزوجل :
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)
«النور» في كلام
العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه
كلام له نور ومنه
الكتاب المنير ومنه قول الشاعر : [الكامل]
نسب كأن عليه من
شمس الضحى
|
|
نورا ومن فلق
الصباح عمودا
|
والله تعالى ليس
كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد (اللهُ) ذو (نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها
، فالكلام على التقريب للذهن ، كما تقول الملك نور الأمة أي به قوام أمورها وصلاح
جملتها ، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة ، إذ هو الذي
أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور
المبصرات تبارك الله لا رب سواه ، وقالت فرقة التقدير دين الله (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم
للمعاني وأوضح مع التأمل ، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن
السلمي الله «نوّر» بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل ، وروي أن
اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأويلها واعترضوا محمدا عليهالسلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه ، فنزلت
حينئذ (مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ) الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل
شيء وخالقه وموجده (مَثَلُ نُورِهِ) كذا وكذا ، واختلف المتأولون في الضمير في (نُورِهِ) على من يعود ، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على
محمد عليهالسلام أي مثل نور محمد ، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو
عائد على المؤمنين ، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين» ، وروي أن في قراءته
«نور المؤمن» ، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به» ، وقال الحسن هو عائد على القرآن
والإيمان ، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله (وَالْأَرْضِ).
قال القاضي أبو
محمد : وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر ، وفيها تقطع المعنى
المراد بالآية ، وقالت فرقة الضمير في (نُورِهِ) عائد على (اللهُ) ، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور» الذي أضيف إلى
الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله ، فقال بعضها هو
محمد ، وقال بعضها هو المؤمن ، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن ، وهذه الأقوال
متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بمعنى الضوء ، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل
شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن ، والإيمان (كَمِشْكاةٍ) وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه.
وهذه الأقوال
الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل ، فعلى قول من قال الممثل
به محمد عليهالسلام ، وهو قول كعب الحبر ، فرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، هو «المشكاة» أو صدره ، و (الْمِصْباحُ) هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه ، و (الزُّجاجَةُ) قلبه و «الشجرة المباركة» هي الوحي والملائكة رسل إليه
وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين ، والآيات التي تضمنها الوحي ، وعلى
قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب ، ف «المشكاة» صدره ، و (الْمِصْباحُ) الإيمان والعلم ، و (الزُّجاجَةُ) قلبه و «الشجرة» القرآن ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي
تضمنها ، قال أبي فهو
على أحسن الحال
يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، ومن قال إن الممثل به القرآن
والإيمان فتقدير الكلام (مَثَلُ نُورِهِ) الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه (كَمِشْكاةٍ) ، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه
كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان ، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه
مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة كهذه الجملة
من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي
الناس ، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيه البشر ، و «المشكاة»
الكوة في الحائط غير النافذة ، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين ، وهي
أجمع للضوء ، و (الْمِصْباحُ) فيها أكثر إنارة من غيرها ، وقال مجاهد «المشكاة» العمود
الذي يكون (الْمِصْباحُ) على رأسه ، وقال أبو موسى «المشكاة» الحديدة أو الرصاصة
التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة ، وقال مجاهد أيضا «المشكاة» الحدائد التي
يعلق بها القنديل ، والأول أصح هذه الأقوال ، وقوله (فِي زُجاجَةٍ) لأنه جسم شفاف (الْمِصْباحُ) فيه أنور منه في غير الزجاج ، و (الْمِصْباحُ) الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني
الألف من «مشكاة» فكسر الكاف التي قبلها ، وقرأ نصر بن عاصم «في زجاجة» بفتح الزاي
، و «الزجاجة» كذلك وهي لغة ، وقوله : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين : إما أن يريد أنها
بالمصباح كذلك ، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور ، قال الضحاك «الكوكب الدري»
الزهرة ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دريّ» بضم الدال وشد الياء.
ولهذه القراءة
وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، وإما أن يكون أصله دريء
مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء»
بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضا أو بمعنى أن بهاءها يدفع
خفاءها ، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور وفي السرية إذا
اشتقت من السرو ، ووجه هذه القراءة أبو علي ، وضعفها غيره ، وقرأ أبو عمرو
والكسائي «دريء» على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة ، وقرأ قتادة «دريء»
بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما حفظ منه السّكينة بشد الكاف ،
وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري» بفتح الدال دون همزة ، وقرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد»
بضم التاء أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «توقّد» بفتح
التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو أيضا وابن كثير «توقد»
بفتح التاء والدال أي المصباح ، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل «يوقد» بالياء
المرفوعة على معنى يوقد المصباح ، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن
وسلام وقتادة «يوقّد» بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد ،
وقوله (مِنْ شَجَرَةٍ) أي من زيت شجرة ، و «المباركة» المنمأة ، و «الزيتون» من
أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي
بذلك ، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية «ابن شمس» : [الخفيف]
ليت شعري مسافر
بن أبي عمرو
|
|
«وليت» يقولها المحزون
|
بورك الميّت
الغريب كما بو
|
|
رك الرمّان
والزيتون
|
وقوله تعالى : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفا على (زَيْتُونَةٍ) ، وقرأ الضحاك «لا شرقية ولا غربية» بالرفع ، واختلف
المتأولون في معناه ، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة
قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أن الشجرة التي تكون
بهذه الصفة ينفسد جناها ، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل
ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية ، وقال ابن زيد
أراد أنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة» ، وقال
ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير
عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، وقوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نارٌ) مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته ، وقرأ الجمهور «تمسسه»
بالتاء من فوق ، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وقوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا
الموضع تم المثال ، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في
ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان.
قوله عزوجل :
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ
الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ)
(٣٧)
الباء في (بُيُوتٍ) تضم وتكسر ، واختلف في الفاء من قوله (فِي) فقيل هي متعلقة ب (مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] قال
أبو حاتم وقيل متعلقة ب (يُسَبِّحُ) المتأخر ، فعلى هذا التأويل يوقف على (عَلِيمٌ) [النور : ٣٨] قال
الرماني هي متعلقة ب (يُوقَدُ) [النور : ٣٥]
واختلف الناس في البيوت التي أرادها بقوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله
تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح ، وقال الحسن بن أبي الحسن
أراد بيت المقدس وسماه بيوتا من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويؤثر ، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به
، وكان الزيت منتخبا مختوما على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره
، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض ، وقال عكرمة أراد بيوت الإيمان على الإطلاق
مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم ، وقال مجاهد أراد
بيوت النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال القاضي أبو
محمد : وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) يقوي أنها المساجد وقوله : (أَذِنَ) بمعنى أمر وقضى ، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن
اقترن بذلك أمر وإنفاذ كان
أقوى ، و (تُرْفَعَ) ، قيل معناه تبنى وتعلى ، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله
تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ) [البقرة : ١٢٧]
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من بنى مسجدا من
ماله بنى الله له بيتا في الجنة» ، وفي هذا المعنى أحاديث ، وقال الحسن بن أبي
الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها ، وذكر (اسْمُهُ) تعالى ، هو بالصلاة والعبادة قولا وفعلا ، وقرأ ابن كثير
وعاصم «يسبّح» بفتح الباء المشددة ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبّح» بكسر الباء
، ف (رِجالٌ) على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه (يُسَبِّحُ) تقديره يسبحه رجال ، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر : «لبيك
يزيد ضارع لخصومة» أي يبكيه ضارع ، و (رِجالٌ) على القراءة الثانية مرتفع ب (يُسَبِّحُ) الظاهر ، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح» بالتاء من
فوق ، و «الغدو والآصال» قال الضحاك أراد الصبح والظهر ، وقال ابن عباس أراد ركعتي
الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ، وقرأ أبو
مجلز «والإيصال» ، ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم
لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا ، وقال كثير من الصحابة
نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل
وبادروا إليها ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة
فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله : (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، (وَإِقامِ) ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف
فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء ، فجاء (إِقامِ) ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز
أقمته إقاما ، وإنما يستعمل مضافا ، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا
يستعمل إلا مضافا ألحقت به هاء عوضا من المحذوف فجاء إقامة ، فهم إذا أضافوه حذفوا
العوض لاستغنائهم عنه بأن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد ، و (الزَّكاةِ) هنا عند ابن عباس الطاعة لله ، وقال الحسن هي الزكاة
المفروضة في المال ، و «اليوم المخوف» الذي ذكره تعالى ، هو يوم القيامة ، واختلف
الناس في تقلب (الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصارُ) كيف هو ، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عيانا فتتقلب قلوب
الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار
وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة ، فأما القول الأول فليس يقتضي
هولا وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم في يوم القيامة وإنما هو بعده.
وإنما معنى الآية
عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه ، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من
طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر ، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر
، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر : «بل كان قلبك في
جناحي طائر» ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى ، ومنه قول الآخر : «إذا حلق النجيد
وصلصل الحديد» وهذا كثير.
قوله عزوجل :
(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
أَوْ
كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)
(٤٠)
اللام في قوله (لِيَجْزِيَهُمُ) متعلقة بفعل مضمر
تقديره فعلوا ذلك ويسروا لذلك ونحو هذا ، ويحتمل أن تكون متعلقة ب (يُسَبِّحُ) [النور : ٣٦]
وقوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) فيه حذف مضاف تقديره ثواب أحسن ثم وعدهم عزوجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبدا
في مزيد ، ثم ذكر أنه (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ويخصه بما يشاء من رحمته دون حساب ولا تعديد ، وكل تفضل
لله فهو (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وكل جزاء على عمل فهو بحساب ، ولما ذكر الله تعالى فيما
تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة
وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين : الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من
أنها غير نافعة ولا مجدية ، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من
الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله (أَوْ كَظُلُماتٍ) ، و «السراب» ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض
المنبسطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء ، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك
أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئا فهي
كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد
شيئا ، و «القيعة» جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول
النبي صلىاللهعليهوسلم في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر» ، وقيل القيعة
مفرد ، وهو بمعنى القاع ، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات» ، وقرأ أبو جعفر وشيبة
ونافع بخلاف «الظمآن» بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة ، وقوله (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) يريد (شَيْئاً) نافعا في العطش ، أو يريد (شَيْئاً) موجودا على العموم ويريد ب (جاءَهُ) جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في (جاءَهُ) على «السراب» ، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه
الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) ، ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله (أَعْمالُهُمْ) ويكون تمام المثل في قوله (ماءً) ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في
المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به ، وقوله (وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ) أي بالمجازاة ، والضمير في (عِنْدَهُ) عائد على العمل ، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب
من حيث هو يعلم لا تكلف فيه وقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على قوله (كَسَرابٍ) ، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا ، أي
إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء ، وذهب بعض الناس
إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات» الأعمال الفاسدة
والمعتقدات الباطلة ، و «البحر اللجي» صدر الكافر وقلبه ، و «اللجي» معناه ذو
اللجة ، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته ، و «الموج» هو الضلال
والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة ، و «السحاب» هو شهوته في الكفر وإعراضه
عن الإيمان وما رين به على قلبه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ ، وقرأ سفيان بن حسين «أو
كظلمات» بفتح الواو ، وقرأ جمهور السبعة «سحاب» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالرفع ،
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «سحاب» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالخفض على البدل من
«ظلمات» الأول ، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير «سحاب» بغير تنوين على الإضافة على
الظلمات ، وقوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَراها) لفظ يقتضي مبالغة الظلمة ، واختلف الناس في هذا اللفظ هل
يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة ، فقالت
فرقة لم يرها جملة وذلك أن «كاد» معناها قارب فكأنه قال (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) لم يقارب رؤيتها ، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة ، وقالت
فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن «كاد» إذا صحبها حرف
النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل ع وهذا لازم متى كان حرف
النفي بعد «كاد» داخلا على الفعل الذي بعدها ، تقول : كاد زيد يقوم ، فالقيام منفي
فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع ، وتقول كاد النعام يطير ، فهذا
يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له ، فإذا كان
حرف النفي مع «كاد» فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه ، تقول المفلوج لا
يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون ، وتقول رجل متكلم لا يكاد يسكن ، فهذا
كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادرا ومنه قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] نفي
مع كاد تضمن وجوب الذبح ، وقوله في هذه الآية (لَمْ يَكَدْ يَراها) نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين ، نفي الرؤية ، ولهذا
ونحوه قال سيبويه رحمهالله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف ،
وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) قالت فرقة يريد في الدنيا ، أي من لم يهده الله لم يهتد ،
وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمهالله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له ، والأول أبين
وأليق بلفظ الآية ، وأيضا فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا
وهدى ، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)
(٤٢)
(أَلَمْ تَرَ) تنبيه ، و «الرؤية» رؤية الفكر ، قال سيبويه كأنه قال
انتبه الله يسبح له من في السماوات ، والتسبيح هنا التعظيم والتنزيه فهو من
العقلاء بالنطق وبالصلاة من كل ذي دين ، واختلف في تسبيح (الطَّيْرُ) وغير ذلك مما قد ورد الكتاب بتسبيحه ، فالجمهور على أنه
تسبيح حقيقي وقال الحسن وغيره هو لفظ تجوز وإنما تسبيحه بظهور الحكمة فيه ، فهو
لذلك يدعو إلى التسبيح ، وقال المفسرون قوله (مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) عامة لكل شيء من له عقل وسائر الجمادات ، لكنه لما اجتمع
ذلك عبر عنه ب (مَنْ) تغليبا لحكم من يعقل ، و (صَافَّاتٍ) معناه مصطفة في الهواء ، وقرأ الأعرج «والطير» بنصب الراء
، وقرأ الحسن و «الطير صافات» مرفوعتان وقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال الحسن المعنى
كل قد علم صلاة
نفسه وتسبيح نفسه فهو يثابر عليها ، قال مجاهد «الصلاة» للبشر و «التسبيح» لما
عداهم ، وقالت فرقة المعنى كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى
إليهما فهذه إضافة خلق إلى خالق ، وقال الزجاج وغيره المعنى (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ) الله (صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) فالضميران للكل ، وقرأت فرقة «علم صلاته وتسبيحه» بالرفع
وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ذكرها أبو حاتم ، وقرأ الجمهور «يفعلون»
بالياء على معنى المبالغة في وصف قدرة الله وعلمه بخلقه ، وقرأ عيسى والحسن «تفعلون»
بالتاء من فوق ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وإعلام
بعد بكون الملك على الإطلاق له وتذكيره بأمر المصير إليه والحشر يقوي أمر التخويف
من الله تعالى وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود «والله بصير بما تفعلون».
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها
مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ
سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
(٤٤)
«الرؤية في هذه
الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته ، و (يُزْجِي) معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل
ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق «على مزاحيف تزجيها مخارير» ،
والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل ، ومنه
قول حبيب في الشيب ، «ونحن نزجيه» ، وسيبويه أبدا يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى
كذا أي تسوقه ثقيلا متباطئا ، وقوله (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه
فروجا ، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت «بين» إلى مفرد لم يصح إلا أن
تريد آخر ، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا ، وورش عن نافع لا يهمز «يولف»
وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يؤلف» وهو الأصل ، و «الركام» الذي يركب بعضه
بعضا ويتكاثف ، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما بالريح عصر بعضه
بعضا فخرج (الْوَدْقَ) منه ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبأ : ١٤] ومن
ذلك قول حسان بن ثابت : [الكامل]
كلتاهما حلب
العصير
|
|
فعاطني بزجاجة
أرخاهما للمفصل
|
ويروى للمفصل بكسر
الميم وبفتح الصاد ، فالمفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان ويروى بالقاف ، أراد
حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب ، فسر هذا
التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن
يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ، و (الْوَدْقَ) المطر ومنه قول الشاعر : [المتقارب]
فلا مزنة ودقت
ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
وقرأ جمهور الناس «من
خلاله» وهو جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ ابن عباس والضحاك «من خلله» ، وقرأ عاصم
والأعرج «وينزّل» على المبالغة والجمهور على التخفيف ، وقوله (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالا (مِنْ بَرَدٍ) وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول
عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال ، وحكي عن الأخفش
تقديره زيادة (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَرَدٍ) وهو قول ضعيف ، و (مِنْ) في قوله (مِنَ السَّماءِ) هي لابتداء الغاية ، وفي قوله «من الجبال» هي للتبعيض ،
وفي قوله (مِنْ بَرَدٍ) هي لبيان الجنس ، و «السنا» ، مقصور ، الضوء والسناء ،
ممدود ، المجد والارتفاع في المنزلة ، وقرأ الجمهور «سنا» بالقصر ، وقرأ طلحة بن
مصرف «سناء» بالمد والهمز.
وقرأ طلحة أيضا «برقة»
بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «برقة» بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من
البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف ، وقرأ الجمهور «يذهب» بفتح الياء ، وقرأ أبو جعفر
«يذهب» بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ويحتمل أن يكون مثل قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) [الحج : ٢٥] فالباء
زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار
والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق
في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
لَقَدْ
أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا
بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
وَإِذا
دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ
الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
(٥٠)
هذه آية اعتبار ،
وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل» على الإضافة ، وقرأ الجمهور «والله خلق كل» ، و
«الدابة» كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلا أمامه قدما ، ويدخل فيه الطير إذ قد
يدب ومنه قول الشاعر : «دبيب قطا البطحاء في كل منهل» ، ويدخل فيه الحوت وفي
الحديث «دابة من البحر مثل الظرب» ، وقوله (مِنْ ماءٍ) قال النقاش أراد أمنية الذكور ، وقال جمهور النظرة أراد أن
خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين ، وعلى هذا يتخرج قول
النبي عليهالسلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما؟ فقال الرسول صلىاللهعليهوسلم «نحن من ماء ...»
الحديث ، و «المشي علي البطن» للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره ، و «على
الرجلين»
للإنسان والطير
إذا مشى ، و «الأربع» لسائر الحيوان ، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على
أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع ، لكن قال
النقاش : إنما اكتفى لقول بذكر ما (يَمْشِي عَلى
أَرْبَعٍ) عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده
على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك
الحيوان في مشيه إلى جميعها.
قال القاضي أبو
محمد : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل
الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه وقوله (آياتٍ مُبَيِّناتٍ) يعم كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعه للعبرة وكل ما نص
في كتابه من آية تنبيه وتذكير وأخبر تعالى أنه أنزل الآيات ، ثم قيد الهداية إليها
لأنها من قبله لبعض دون بعض ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا
بِاللهِ) الآية نزلت في المنافقين وسببها فيما روي أن رجلا من
المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى التحاكم
عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان المنافق مبطلا فأبى من ذلك ودعا اليهود إلى كعب بن
الأشرف فنزلت هذه الآية فيه ، وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال من
دعاه خصمه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ، و (مُذْعِنِينَ) أي مظهرين للانقياد والطاعة وهم إنما فعلوا ذلك حيث أيقنوا
بالنجح وأما إذا طلبوا بحق فهم عنه (مُعْرِضُونَ) ثم وقفهم تعالى على أسباب فعلهم توقيف توبيخ أي ليقروا مما
يوبخ به أو مما يمدح به فهو بليغ جدا ومنه قول جرير «ألستم خير من ركب المطايا»
البيت ، ثم حكم عليهم بأنهم (هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال : (أَنْ يَحِيفَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) من حيث الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه والميل الحيف.
قوله عزوجل :
(إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ
مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣)
قُلْ
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما
حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)
(٥٤)
وقرأ الجمهور «قول»
بالنصب ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن أبي إسحاق «قول» بالرفع ،
واختلف عنهما قال أبو الفتح شرط (كانَ) أن يكون اسمها أعرف من خبرها فقراءة الجمهور أقوى ،
والمعنى إنما كان الواجب أن يقوله المؤمنون (إِذا دُعُوا إِلَى) حكم (اللهِ وَرَسُولِهِ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فكأن هذه ليست إخبارا عن ماضي زمن وإنما كقول الصديق : ما
كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه ودينه ، وقرأ
الجمهور «ليحكم» على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس
والحسن «ليحكم»
على بناء الفعل
للمفعول ، و (الْمُفْلِحُونَ) البالغون آمالهم في دنياهم وآخرتهم ، و «جهد اليمين» بلوغ
الغاية في تعقيدها و (لَيَخْرُجُنَ) معناه إلى الغزو وهذه في المنافقين الذين تولوا حين (دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) وقوله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يحتمل معاني أحدها النهي عن القسم الكاذب إذ عرف أن طاعتهم
دغلة رديئة.
فكأنه يقول لا
تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه ، والثاني أن يكون المعنى لا تتكلفوا القسم طاعة
متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم ، والثالث
أن يكون المعنى لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم ،
والرابع أن يكون المعنى لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسم ، طاعة الله معروفة
وشرعه وجهاد عدوه مهيع لائح ، وقوله (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) متصل بقوله : (لا تُقْسِمُوا) ، و (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) ، اعتراض بليغ ، وقوله (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) الآية مخاطبة لأولئك المنافقين وغيرهم من الكفار وكل من
يتعتى عن أمر محمد عليهالسلام ، وقوله (تَوَلَّوْا) معناه تتولوا محذوف التاء الواحدة يدل على ذلك ، قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) ولو جعلنا (تَوَلَّوْا) فعلا ماضيا وقدرنا في الكلام خروجا من خطاب الحاضر إلى ذكر
الغائب لاقتضى الكلام أن يكون بعد ذلك وعليهم ما حملوا ، والذي حمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في
إنذارهم ، والذي حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق وباقي الآية بين ، وقرأ
ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع في رواية ورش «ويتقهي» بياء بعد الهاء قال أبو علي
وهو الوجه.
وقرأ قالون عن
نافع «ويتقه» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم في
رواية أبي بكر «ويتقه» جزما للهاء ، وقرأ حفص عن عاصم (وَيَتَّقْهِ) بسكون وكسر الهاء.
قوله عزوجل :
(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ
هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ
وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧)
قرأ الجمهور «استخلف»
على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ أبو بكر عن عاصم والأعرج ، «استخلف» على بناء الفعل
للمفعول ، وروي أن سبب هذه الآية أن أحد أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم
وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد عليهالسلام ، وقوله (فِي الْأَرْضِ) يريد في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم
إليها ، و «استخلافهم» هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي
العراق وخراسان
والمغرب ، وقال
الضحاك في كتاب النقاش هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل
الإيمان وعمل الصالحات ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الخلافة بعدي
ثلاثون سنة».
قال الفقيه الإمام
القاضي : والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور ، واللام في قوله (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) لام القسم ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر «ليبدّلنهم»
بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والحسن وابن محيصن
بسكون الباء وتخفيف الدال ، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما قال أصحابه : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا تغبرون إلا
قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة» ، وقوله (يَعْبُدُونَنِي) فعل مستأنف أي هم يعبدونني ، قوله (وَمَنْ كَفَرَ) يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون «الفسق» على
هذا غير المخرج عن الملة ، قال بعض الناس في كتاب الطبري ظهر ذلك في قتلة عثمان
رضي الله عنه ، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة وهو ظاهر قول حذيفة
بن اليمان فإنه قال كان على عهد النبي نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان ،
ولما قدم تعالى شرط عمل الصالحات بينها في هذه الآية ، فنص على عظمها وهي إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة وعم بطاعة الرسول لأنها عامة لجميع الطاعات ، و (لَعَلَّكُمْ) معناه في حقكم ومعتقدكم ، ثم أنحى القول على الكفرة بأن
نبه على أنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله ، وقرأ جمهور السبعة «لا تحسبن» بالتاء
على المخاطبة للنبي عليهالسلام ، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين ، وقرأ حمزة وابن
عامر «لا يحسبن» بالياء قال أبو علي ، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير لا
يحسبن محمد والآخر أن يسند الفعل إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) والمفعول أنفسهم ، وأعجز الرجل ، إذا ذهب في الأرض فلم
يقدر عليه ثم أخبر بأن «مأواهم النار» وأنها بئس الخاتمة والمصير.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(٥٨)
قال ابن عمر (الَّذِينَ مَلَكَتْ) يراد به الرجال خاصة ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي يراد به
النساء خاصة وسبيل الرجال يستأذنوا في كل وقت ، وحكى الزهراوي عن أبي عمر ونحوه ،
وقيل الرجال والنساء كلهم مراد ورجحه الطبري ، وقرأ الجمهور الناس «الحلم» بضم
اللام وكان أبو عمرو يستحسنها ، وهذه الآية محكمة قال ابن عباس تركها الناس وكذلك
ترك الناس قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١١٣]
فأبى الناس إلا أن الأكرم هو الأنسب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذه العبارة بترك إغلاظ وزجر إذ لم تلتزم حق الالتزام ، وإلا فما قال
الله
هو المعتقد في ذلك
العلماء المكتوب في تواليفهم ، أعني في أن الكرم التقوى وأما أمر الاستئذان فإن
تغيير المباني والحجب أغنت عن كثير من الاستئذان ، وصيرته على حد آخر ، وأين أبواب
المنازل اليوم من مواضع النوم وقد ذكر المهدوي عن ابن عباس أنه قال كان العمل بهذه
الآية واجبا إذ كانوا لا غلق ولا أبواب ولو عادت الحال لعاد الوجوب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها ،
ومعنى الآية عند جماعة من العلماء أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد إذ لا
بال لهم والأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون
على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف
فيها وملازمة التعري في المضاجع ، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في
مضاجعهم وقد ينكشف النائم ، فمن مشى ودخل وخرج فحكمه أن يستأذن لئلا يطلع على ما
يجب ستره ، وكذلك في وقت القائلة وهي الظهيرة لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد
حره ، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش ، وأما غير هذه الأوقات
التي هي عروة أي ذات انكشاف ، فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه
الصنيفة بغير إذن إذ هم (طَوَّافُونَ) يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدا من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة
«طوافين» وقال الحسن إذا أبات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه
الأوقات الثلاثة ، وقوله (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) بدل من قوله (طَوَّافُونَ) و (ثَلاثُ عَوْراتٍ) نصب على الظرف لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا إنما
أمروا بالاستئذان ثلاث مواطن ، فالظرفية في (ثَلاثَ) بينة ، قرأ جمهور السبعة «ثلاث عورات» برفع «ثلاث» وهذا
على الابتداء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ثلاث عورات» بنصب «ثلاث» ،
وهذه على البدل من الظرف في قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، وهذا البدل إنما يصح معناه بتقدير أوقات «ثلاث عورات»
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، و (عَوْراتٍ) جمع عورة وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين
كجفنة وجفنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات وجوبة وجوبات ونحوه
لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك.
قوله عزوجل :
(وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(٦٠)
المعنى أن (الْأَطْفالُ) أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة وأبيح لهم
الأمر في غير ذلك من الأوقات ، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا (الْحُلُمَ) على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت وهذا بيان من الله عزوجل ، وقوله : (وَالْقَواعِدُ) ، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد
واحدتهن قاعد.
وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها ، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد
وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح
لهن ما لم يبح لغيرهن.
وأزيل عنهن كلفة
التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن ، وقرأ ابن مسعود «أن يضعن من ثيابهن»
وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضا «من جلابيبهن» ، والعرب تقول امرأة واضع
للتي كبرت فوضعت خمارها ، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج
وإبداء الزينة ، فرب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو
أقبح الأشياء وأبعده عن الحق ، و «التبرج» طلب البدو والظهور إلخ ... والظهور
للعيون ومنه (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨]
وأصل ذلك بروج السماء والأسوار ، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق
الخمار والرداء ، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما ، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع
منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير
، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن» بغير سين ، ثم ذكر تعالى أنه (سَمِيعٌ) لما يقول كل قائل وقائلة ، (عَلِيمٌ) بمقصد كل أحد في قوله ، وفي هاتين الصفتين توعد ، وتحذير
والله الموفق للصواب برحمته.
قوله عزوجل :
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً
طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(٦١)
اختلف الناس في
المعنى الذي رفع الله فيه «الحرج» عن الأصناف الثلاثة ، فظاهر الآية وأمر الشريعة
أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالأكمل
، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص ، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس
في هذا «الحرج» هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم ،
وقوله : (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) الآية معنى مقطوع من الأول ، وقالت فرقة الآية كلها في
معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار
فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من (الْأَعْمى) ولانبساط الجلسة من (الْأَعْرَجِ) ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت
الآية مؤيدة ، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في
الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في (الْأَعْمى) وللعجز عن المزاحمة في (الْأَعْرَجِ) ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم ، وقال ابن
عباس في كتاب
الزهراوي إن أهل
هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن ، وقال
ابن عباس أيضا الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس ، لما نزلت (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨]
قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل
فيقع في أكل المال بالباطل ، وكذلك تحرجوا عن أكل طعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة
جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال
الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه ، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو
، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم ، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب ،
فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك ،
وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب بهم إلى بيت
قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك ، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات
وسقط منها بيوت الأبناء ، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله (مِنْ بُيُوتِكُمْ) لأن بيت ابن الرجل بيته ، وقرأ طلحة بن مصرف «إمهاتكم»
بكسر الهمزة وقوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) يعني ما حزتم وصار في قبضتكم ، فعظمه ما ملكه الرجل في
بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد ، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية
الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف ، وقرأ جمهور الناس «ملكتم» بفتح الميم واللام
، وقرأ سعيد بن جبير «ملّكتم» بضم الميم وكسر اللام وشدها ، وقرأ جمهور الناس «مفاتحه»
، وقرأ سعيد بن جبير «مفاتيحه» بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مفتح
والثانية على جمع مفتاح ، وقرأ قتادة «ملكتم مفاتحه» وقرن تعالى في هذه الآية
الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق ، قال معمر : قلت لقتادة ألا
أشرب من هذا الجب؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب
النقاش الصديق أوكد من القرابة ، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠]
وقوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفرادا البتة ، قاله
الطبري ، ومن ذلك قول بعض الشعراء : [الطويل]
إذا ما صنعت
الزاد فالتمسي له
|
|
أكيلا فإني لست
آكله وحدي
|
وكان بعض العرب
إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل
ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب ، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما
نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم
الانفراد ، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليهالسلام : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) [النور : ٢٧]
وبقوله عليهالسلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه»
الحديث ، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت ، واختلف
المتأولون في أي البيوت أراد ، فقال إبراهيم النخعي أراد المساجد ، والمعنى سلموا
على من فيها من صنفكم فهذا كما قال (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨]
فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل
السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله
(تَحِيَّةً) مصدر ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم
عليه والكاف من قوله (كَذلِكَ) كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد
تبيين الآيات (لَعَلَّكُمْ) تعقلونها وتعملون بها ، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها
منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة ، فإذا كان الإذن
محجورا فالطعام أحرى ، وكذلك أيضا فرضت فرقة نسخا بينها وبين قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨].
قال الفقيه الإمام
القاضي : والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة ، أما قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨]
ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه ، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه
الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة ، وأما آية الإذن فعلة إيجاب
الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح
له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
قوله عزوجل :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(٦٢)
(إِنَّمَا) في هذه الآية للحصر اقتضى المعنى لأنه لا يتم إيمان إلا
بأن يؤمن المرء (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وبأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول
يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك ، و «الأمر الجامع»
يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة ، فأدب الإسلام اللازم في
ذلك إذا كان الأمر حاضرا أن لا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه ، فإذا ذهب بإذن ارتفع عنه
الظن السيّء ، والإمام الذي يرتقب إذنه في هذه الآية هو إمام الإمرة ، وقال مكحول
والزهري الجمعة من «الأمر الجامع» وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام
الإمرة ، إذا كان يرى المستأذن ، ومشى بعض الناس دهرا على استئذان إمام الصلاة
وروي أن هرم بن حيان كان يخطب فقام رجل فوضع يده على أنفه وأشار إلى هرم
بالاستئذان فأذن له فلما قضيت الصلاة كشف عن أمره أنه إنما ذهب لغير ضرورة.
فقال هرم اللهم
أخر رجال السوء لزمان السوء.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وظاهر الآية إنما يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة
فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين ، فأما إمام الصلاة فقط
فليس ذلك إليه لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة ، ثم أمر
الله تعالى نبيه أن يأذن لمن عرف منه صحة العذر وهم الذين يشاء ، وروي أن هذه
الآية نزلت في وقت حفر رسول الله صلىاللهعليهوسلم خندق المدينة وذلك أن بعض المؤمنين كان يستأذن لضرورة ،
وكان المنافقون يذهبون دون
استئذان فأخرج
الله تعالى الذين لا يستأذنون عن صنيفة المؤمنين وأمر النبي عليهالسلام أن يأذن للمؤمن الذي لا تدعوه ضرورة إلى حبسه وهو الذي
يشاء ثم أمره بالاستغفار لصنفي المؤمنين من أذن له ومن لم يؤذن له وفي ذلك تأنيس
للمؤمنين ورأفة بهم.
قوله عزوجل :
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ
يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ)
(٦٤)
هذه الآية مخاطبة
لجميع معاصري رسول الله. وأمرهم الله أن لا يجعلوا مخاطبة رسول الله في النداء
كمخاطبة بعضهم لبعض فإن سيرتهم كانت التداعي بالأسماء وعلى غاية البداوة وقلة
الاهتبال ، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزيز ، فالمنبغي
في الدعاء أن يقول يا رسول الله ، وأن يكون ذلك بتوقير وخفض صوت وبر ، وأن لا يجري
ذلك على عادتهم بعضهم في بعض قاله مجاهد ، وغيره ، وقال ابن عباس المعنى في هذه
الآية إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ) على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى.
والأول أصح ثم
أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم (لِواذاً) قد علمهم. واللواذ الروغان والمخالفة وهو مصدر لاوذ وليس
بمصدر لاذ لأنه كان يقال له لياذا ذكره الزجاج وغيره ، ثم أمرهم بالحذر من عذاب
الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره ، وقوله (يُخالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ) معناه يقع خلافهم بعد أمره وهذا كما تقول كان المطر عن ريح
وعن هي لما عدا الشيء والفتنة في هذا الموضع الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب
الأليم في الآخرة ولا بد للمنافقين من أحد هذين ملكا وخلفا ، ثم أخبرهم أنه قد علم
ما أهل الأرض والسماء عليه وخص منهم بالذكر المخاطبين لأن ذلك موضع الحجة عليهم
وهم به أعني وقوله : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ) يجوز أن يكون معمولا لقوله (يَعْلَمُ) ويجوز أن يكون التقدير والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم
فيكون النصب على الظرف ، وقرأ الجمهور «يرجعون» بضم الياء وفتح الجيم ، وقرأ يحيى
بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو «يرجعون» بفتح الياء وكسر الجيم ، وقال عقبة بن
عامر الجهني رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ هذه الآية خاتمة النور فقال «والله بكل شيء بصير»
وباقي الآية بين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفرقان
هذه السورة مكية
في قول الجمهور وقال الضحاك هي مدنية وفيها آيات مكية قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨]
الآيات.
قوله عزوجل :
(تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا
نُشُوراً)
(٣)
(تَبارَكَ) وزنه تفاعل وهو مطاوع بارك من البركة ، وبارك فاعل من واحد
معناه زاد ، و (تَبارَكَ) فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره ، ولذلك لم يصرف
منه مستقبل ولا اسم فاعل ، وهو صفة فعل أي كثرت بركاته ومن جملتها إنزال كتابه
الذي هو (الْفُرْقانَ) بين الحق والباطل ، وصدر هذه السورة إنما هو رد على مقالات
كانت لقريش ، فمن جملتها قولهم إن القرآن افتراه محمد صلىاللهعليهوسلم وإنه ليس من عند الله فهو ردّ على هذه المقالة ، وقرأ
الجمهور «على عبده» ، وقرأ عبد الله بن الزبير «على عباده». والضمير في قوله (لِيَكُونَ) يحتمل أن يكون وهو عبده المذكور وهذا تأويل ابن زيد ،
ويحتمل أن يكون ل (الْفُرْقانَ) ، وأما على قراءة ابن الزبير فهو ل (الْفُرْقانَ) لا يحتمل غير ذلك إلا بكره ، وقوله (لِلْعالَمِينَ) عام في كل إنسي وجني عاصره أو جاء بعده وهو متأيد من غير
ما موضع من الحديث المتواتر وظاهر الآيات ، و «النذير» المحذر من الشر والرسول من
عند الله نذير ، وقد يكون (نَذِيراً) ليس برسول كما روي في ذي القرنين وكما ورد في رسل الله إلى
الجن فإنهم نذر وليسوا برسل الله.
وقوله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) الآية هي من الرد على قريش في قولهم إن لله شريكا ، وفي
قولهم اتخذ البنات ، وفي قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ، وقوله (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، هو عام في كل مخلوق وتقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة
والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان ، ثم عقب تعالى ذكر هذه الصفات التي هي
للألوهية بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لهم هذه الصفات ، فالعقل يعطي أنهم
ليسوا بآلهة وقوله ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، يحتمل أن يريد يخلقهم الله بالاختراع والإيجاد ، ويحتمل
أن يريد يخلقهم
البشر بالنحت
والنجارة وهذا التأويل أشد إبداء لخساسة الأصنام ، وخلق البشر تجوز ولكن العرب
تستعمله ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما
خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق ثم
لا يفري
|
وهذا من قولهم
خلقت الجلد إذا عملت فيه رسوما يقطع عليها والفري هو أن يقطع على ترك الرسوم ،
وقوله ، (مَوْتاً وَلا حَياةً) يريد إماتة ولا إحياء ، و «النشور» بعث الناس من القبور.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ
فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً(٤)
وَقالُوا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً)
(٦)
المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) قريش وذلك أن بعضهم قال (هَذا إِفْكٌ) وكذب (افْتَراهُ) محمد واختلف المتأولون في «القوم» المعينين على زعم قريش ،
فقال مجاهد أشاروا إلى قوم من اليهود ، وقال ابن عباس أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب
من الفرس أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين وجبر ويسار وعداس وغيرهم ، ثم أخبر الله
تعالى عنهم أنهم ما (جاؤُ) إلا إفكا (وَزُوراً) أي ما قالوا إلا باطلا وبهتانا ، و «الزور» تحسين الباطل
هذا عرفه وأصله التحسين مطلقا ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فأردت أن أقدم بين
يدي أبي بكر مقالة كنت زورتها. وقوله. (وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) ، قال ابن عباس يعني بذلك قول النضر بن الحارث ، وذلك أن
كل ما في القرآن من ذكر (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) فإنما هو بسبب قول النضر ابن الحارث حسب الحديث المشهور في
ذلك ثم رموا محمدا صلىاللهعليهوسلم بأنه (اكْتَتَبَها) وقرأ طلحة بن مصرف «اكتتبها» بضم التاء الأولى وكسر
الثانية على معنى اكتتبت له ، ذكرها أبو الفتح ، وقرأ طلحة «تتلى» بتاء بدل الميم
، ثم أمره تعالى أن يقول إن الذي أنزله هو الله (الَّذِي يَعْلَمُ) سر جميع الأشياء التي (فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ثم أعلم بأنه غفور رحيم ليرجي كل سامع في عفوه ورحمته مع
التوبة والإنابة ، والمعنى أن الله غفور رحيم في إبقائه على أهل هذه المقالات.
قوله عزوجل :
(وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧)
أَوْ
يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً(٨)
انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
(٩)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)
(١٠)
الضمير في قوله (قالُوا) لقريش ، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم مجلس
مشهور ، ذكره ابن
إسحاق في السير وغيره ، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا
يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا ، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا
، فلما أبى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول
الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق ، أي إن من كان رسول الله
مستغن عن جميع ذلك ، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك أو يلقي إليك
كنزا تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهبا أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد
فيها المياه ، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم «ما ل»
هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب ، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر
بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن». وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن
عامر «يأكل منها» بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها» بالنون وهي قراءة ابن
وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران ، ثم أخبر تعالى عنهم وهم (الظَّالِمُونَ) الذين أشير إليهم أنهم قالوا حين يئسوا من محمد صلىاللهعليهوسلم (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي قد سحر فهو لا يرى مراشده ، ويحتمل (مَسْحُوراً) أن يكون من السحر وهي الرؤية فكأنهم ذهبوا إلى تحقيره ، أي
رجلا مثلكم في الخلقة ، ذكره مكي وغيره ، ثم نبّهه الله تعالى مسليا عن مقالتهم
فقال (انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بالمسحور والكاهن والساحر وغيره (فَضَلُّوا) أي أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه
لالتباسهم بضده من الضلال ، وقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي) الآية رجوع بأمور محمد صلىاللهعليهوسلم إلى الله تعالى ، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك ،
والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا ،
وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق ، وقال الطبري والأول أظهر.
قال القاضي أبو
محمد : لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في
الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره ، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) [الفرقان : ١١]
والكل محتمل ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «ويجعل»
بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله (جَعَلَ) لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل». وقرأ أبو بكر عن
عاصم أيضا وابن كثير وابن عامر «ويجعل» بالرفع والاستئناف ، وهي قراءة مجاهد ،
ووجوه العطف على المعنى في قوله (جَعَلَ) لأن جواب الشرط هو موضع الاستئناف ، ألا ترى أن الجمل من
الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ، وقرأ عبد الله بن موسى وطلحة بن سليمان
«ويجعل» بالنصب وهو على تقدير «أن» في صدر الكلام ، قال أبو الفتح هي على جواب
الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة ، وأدغم الأعرج (وَيَجْعَلْ لَكَ) وروي ذلك عن ابن محيصن ، و «القصور» البيوت المبنية
بالجدرات قاله مجاهد وغيره ، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب بيتا
، وتسمي ما كان بالجدرات قصرا لأنه قصر عن الداخلين والمستأذنين.
قوله عزوجل :
(بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
إِذا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها
تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا
مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣)
لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)
(١٤)
المعنى ليس بهم في
تكذيبك ومشيك في الأسواق بل إنهم كفرة لا يفقهون الحق ، فقوله (بَلْ) ترك لنفس اللفظ المتقدم لا لمعناه على ما تقتضيه «بل» في
مشهور معناها ، (وَأَعْتَدْنا) جعلنا معدا ، والعتاد ما يعد من الأشياء ، و «السعير» طبق
من أطباق. جهنم ، وقوله (إِذا رَأَتْهُمْ) يريد جهنم ، (إِذا) اقتضاها لفظ السعير ولفظ (رَأَتْهُمْ) يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز على معنى صارت منهم على قدر
ما يرى الرائي من البعد إلا أنه ورد حديث يقتضي الحقيقة ، ويحتمل المجاز ، في هذا
ذكر الطبري وهو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعده من
النار» ، فقيل يا رسول الله أو لجهنم عينان؟ فقال : «اقرؤا إن شئتم (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الآية ، وروي في بعض الآثار أن البعد الذي تراهم منه مسيرة
خمسمائة سنة ، وقوله (سَمِعُوا لَها
تَغَيُّظاً) لفظ فيه تجوز وذلك أن التغيظ لا يسمع وإنما المسموع ألفاظ
دالة على التغيظ ، وهي لا شك احتدامات في النار كالذي يسمع في نار الدنيا إذا
اضطربت ، ونسبة هذا المسموع الذي في الدنيا من ذلك نسبة الإحراق من الإحراق وهي
سبعون درجة كما ورد في الصحيح ، و «الزفير» صوت ممدود كصوت الحمار المرجع في نهيقه
، قال النقاش «الزفير» آخر صوت الحمار عند نهيقه ، قال عبيد بن عمير إن جهنم لتزفر
زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خرّ ثم ترعد فرائصه ، «والمكان الضيق» منها ، هو
يقصد إلى التضييق عليهم في المكان من النار وذلك نوع من التعذيب ، قال صلىاللهعليهوسلم «إنهم ليكرهون في
النار كما يكره الوتد في الحائط» أي يدعون لزا وعنفا ، وقال ابن عباس تضيق عليهم
كما يضيق الزج على الرمح ، وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو «ضيقا» بتخفيف الياء
والباقون يشدّدون و (مُقَرَّنِينَ) معناه مربوط بعضهم إلى بعض ، وروي أن ذلك بسلاسل من نار ،
والقرينان من الثيران ما قرنا بحبل للحرث ومنه قول الشاعر : [الطويل]
إذا لم يزل حبل
القرينين يلتوي
|
|
فلا بد يوما من
قوى أن تجدما
|
وقرأ أبو شيبة
المهري صاحب معاذ بن جبل رحمهالله «مقرنون» بالواو
وهي قراءة شاذة ، والوجه قراءة الناس ، وقوله (ثُبُوراً) مصدر وليس بالمدعو ، ومفعول (دَعَوْا) محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم أو نحو هذا من التقديرات ،
ويصح أن يكون «الثبور» هو المدعو كما تدعى الحسرة والويل ، والثبور قال ابن عباس
هو الويل ، وقال الضحاك هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعرى : [الخفيف]
إذا أجاري
الشيطان في سنن الغ
|
|
ي ومن مال ميله
مثبور
|
وقوله (لا تَدْعُوا) إلى آخر الآية معناه يقال لهم على معنى التوبيخ والإعلام
بأنهم يخلدون أي لا تقتصروا على حزن واحد بل أحزنوا كثيرا لأنكم أهل لذلك.
قوله عزوجل :
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ
أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً
وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها
ما
يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)
(١٦)
المعنى (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفرة هم بسبيل مصير إلى هذه الأحوال من
النار ، (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ
جَنَّةُ الْخُلْدِ)؟ وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ ، ومن حيث كان الكلام
استفهاما جاز فيه مجيء لفظ التفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له
أن يوقف محاورة على ما يشاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما يمنع سيبويه
وغيره من التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما في المعنى الذي فيه تفضيل إذا كان
الكلام خبرا لأنه فيه محالية ، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ ، وقيل الإشارة
بقوله (أَذلِكَ) إلى الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وإلى القصور التي
في قوله (تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) [الفرقان : ١٠] ،
وهذا على أن يكون الجعل في الدنيا وقيل الإشارة بقوله (أَذلِكَ خَيْرٌ) إلى الكنز والجنة التي ذكر الكفار.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والأصح إن شاء الله أن الإشارة بقوله (أَذلِكَ) إلى النار كما شرحناه آنفا ، و (الْمُتَّقُونَ) في هذه الآية من اتقى الشرك فإنه داخل في الوعد ، ثم تختلف
المنازل في الوعد بحسب تقوي المعاصي ، وقوله (وَعْداً مَسْؤُلاً) يحتمل معنيين وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وابن زيد إنه
مسؤول لأن المؤمنين سألوه أو يسألونه ، وروي أن الملائكة سألت الله نعيم المتقين
فوعدهم بذلك ، قال محمد بن كعب هو قول الملائكة ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم
، والمعنى الثاني ذكره الطبري عن بعض أهل العربية أن يريد وعدا واجبا قد حتمه فهو
لذلك معد أن يسأل ويقتضي وليس يتضمن هذا التأويل أن أحدا سأل الوعد المذكور.
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ
ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)
فَقَدْ
كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ
يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)
(١٩)
المعنى واذكر يوم
، والضمير في (يَحْشُرُهُمْ) للكفار ، وقوله (وَما يَعْبُدُونَ) يريد به كل شيء عبد من دون الله فغلب العبارة عما لا يعقل
من الأوثان لأنها كانت الأغلب وقت المخاطبة ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص
والأعرج وأبو جعفر «يحشرهم» «فيقول» بالياء ، وفي قراءة عبد الله «وما يعبدون من
دونك» ، وقرأ الأعرج «نحشرهم» بكسر الشين وهي قليل في الاستعمال قوية في القياس
لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين ، وهذه الآية تتضمن الخبر
عن أن الله يوبّخ الكفار في القيامة بأن يوقف المعبودين على هذا المعنى ليقع
الجواب بالتبري من الذنب فيقع الخزي على الكافرين ، واختلف الناس في الموقف المجيب
في هذه الآية ، فقال جمهور المفسرين هو كل من ظلم بأن عبد ممن
يعقل كالملائكة
وعزير وعيسى وغيرهم ، وقال الضحاك وعكرمة الموقف المجيب الأصنام التي لا تعقل
يقدرها الله تعالى يومئذ على هذه المقالة ويجيء خزي الكفرة لذلك أبلغ ، وقرأ جمهور
الناس «نتخذ» بفتح النون وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل وأن هذه الآية
بمعنى التي في سورة سبأ : (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١] ،
وكقول عيسى عليهالسلام و (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي
بِهِ) [المائدة : ١١٧] ،
و (مِنْ أَوْلِياءَ) في هذه القراءة في موضع المفعول به ، وقرأ أبو جعفر والحسن
وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وحفص بن
حميد «نتخذ» بضم النون ، وتذهب هذه مذهب من يرى أن الموقف المجيب الأوثان ويضعف
هذه القراءة دخول (مِنْ) في قوله (مِنْ أَوْلِياءَ) ، اعترض بذلك سعيد بن جبير ، وغيره ، قال أبو الفتح (مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع الحال ودخلت (مِنْ) زائدة لمكان النفي المتقدم كما تقول ما اتخذت زيدا من وكيل
، وقرأ علقمة «ما ينبغي» بسقوط «كان» وثبوتها أمكن في المعنى ، لأنهم أخبروا على
حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه ، وفسّر هذا المجيب بحسب الخلاف فيه
الوجه في ضلال الكفار كيف وقع ، وأنه لما متعهم الله تعالى بالنعم الدنياوية
وأدرها لهم ولأسلافهم الأحقاب الطويلة (نَسُوا الذِّكْرَ) أي ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء ، و (بُوراً) ، معناه هلكا ، والبوار الهلاك واختلف في لفظة بور ، فقالت
فرقة هو مصدر يوصف به الجمع والواحد ومنه قول ابن الزبعرى : [الخفيف]
يا رسول المليك
إن لساني
|
|
راتق ما فتقت إذ
أنا بور
|
وقالت فرقة هي جمع
بائر وهو الذي قد فارقه الخير فحصل بذلك في حكم الهلاك باشره الهلاك بعد أو لم
يباشر ، قال الحسن البائر الذي لا خير فيه ، وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) الآية خطاب من الله تعالى بلا خلاف ، فمن قال إن المجيب
الأصنام كان معنى هذه إخبار الكفار أن أصنامهم قد كذبوهم ، وفي هذه الأخبار خزي
وتوبيخ ، والفرقة التي قالت إن المجيب هو الملائكة وعزير وعيسى ونحوهم اختلفت في
المخاطب بهذه الآية ، فقالت فرقة المخاطب الكفار على جهة التقريع والتوبيخ وقالت
فرقة المخاطب هؤلاء المعبودون أعلمهم الله تعالى أن الكفار بأفعالهم القبيحة قد
كذبوا هذه المقالة وزعموا أن هؤلاء هم الأولياء من دون الله ، وقالت فرقة خاطب
الله تعالى المؤمنين من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم أي كذبوكم أيها المؤمنون الكفار فيما تقولونه من التوحيد
والشرع ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «بما يقولون فما يستطيعون» بالياء فيهما
، وقرأ حفص عن عاصم «بما تقولون فما تستطيعون» بالتاء فيهما ، وقرأ الباقون وأبو
بكر أيضا عن عاصم والناس «تقولون» بالتاء من فوق «فما يستطيعون» بالياء من تحت ،
ورجحها أبو حاتم ، وقرأ أبو حيوة «يقولون» بالياء ، من تحت «فما تستطيعون» بالتاء
من فوق ، وقال مجاهد الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين ، قال الطبري وفي مصحف ابن
مسعود ، «فما يستطيعون لك صرفا» ، وفي قراءة أبي بن كعب «لقد كذبوك فما يستطيعون
لك» ، قال أبو حاتم في حرف عبد الله «لكم صرفا» على جمع الضمير ، و (صَرْفاً) معناه ردّ التكذيب أو العذاب أو ما اقتضاه المعنى بحسب
الخلاف المتقدم ، وقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ نُذِقْهُ ،) ، قيل هو خطاب للكفار ، وقيل للمؤمنين ، والظلم هنا الشرك
قاله الحسن وابن جريج وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي ، وفي حرف أبي «ومن يكذب
منكم نذقه عذابا كبيرا».
قوله عزوجل :
(وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً
(٢٠) وَقالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ
نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)
(٢١)
هذه الآية رد على
كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧]
فأخبر الله تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبيا إلا بهذه الصفة
، والمفعول ب (أَرْسَلْنا) محذوف يدل عليه الكلام تقديره رجالا أو رسلا ، وعلى هذا
المحذوف المقدر يعود الضمير في قوله (إِلَّا إِنَّهُمْ) وذهبت فرقة إلى أن قوله (لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ) كناية عن الحدث ، وقرأ جمهور الناس «ويمشون» بفتح الياء
وسكون الميم وتخفيف الشين ، وقرأ علي وعبد الرحمن وابن مسعود «يمشّون» بضم الياء
وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه ، وقرأ أبو عبد
الرحمن بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى يمشون ومنه قول الشاعر :
[الطويل]
أمشي بأعطان
المياه وأبتغي
|
|
قلائص منها صعبة
وركوب
|
ثم أخبر عزوجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد (فِتْنَةً) لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة
للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص
بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل ،
وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب ، والتوقيف ب (أَتَصْبِرُونَ) خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختبارا ثم وقفهم
هل يصبرون أم لا ، ثم أعرب قوله (وَكانَ رَبُّكَ
بَصِيراً) عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين ، ثم أخبر عن مقالة
الكفار (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية ، وقوله (يَرْجُونَ) قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي
: [الطويل]
إذا لسعته النحل
لم يرج لسعها
|
|
وخالفها في بيت
نوب عوامل
|
قال القاضي أبو
محمد : والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله
تعالى مقترن أبدا برجائه ، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث
لنفي الخوف والرجاء ، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء
الله تعالى ، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها
فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى
عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل ، (وَعَتَوْا) ، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا ، ويقال عتو وعتي على الأصل
، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب.
قوله عزوجل :
(يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
أَصْحابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)
(٢٦)
المعنى في هذه
الآية أن الكفار لما قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١] ،
أخبر الله تعالى أنهم (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ) إنما هو يوم القيامة ، وقد كان أول الآية يحتمل أن يريد
يوم تفيض أرواحهم ، لكن آخرها يقتضي أن الإشارة إلى يوم القيامة ، وأمر العوامل في
هذه الظروف بين إذا تأمل فاختصرناه لذلك ، ومعنى هذه الآية أن هؤلاء الذين تمنّوا
نزول الملائكة لا يعرفون ما قدر الله في ذلك فإنهم (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ) هو شر لهم و (لا بُشْرى) لهم بل لهم الخسار ولقاء المكروه و (يَوْمَئِذٍ) ، خبر (لا بُشْرى) لأن الظروف تكون إخبارا عن المصادر.
الضمير في قوله (وَيَقُولُونَ) ، قال الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد هو «للملائكة» ، المعنى
وتقول الملائكة للمجرمين (حِجْراً مَحْجُوراً) عليكم البشرى ، أي حراما محرما. والحجر الحرام ومنه قول
المتلمس جرير بن عبد المسيح : [البسيط]
حنت إلى النخلة
القصوى فقلت لها
|
|
حجر حرام الا
تلك الدهاريس
|
وقال مجاهد أيضا
وابن جريج إن الضمير في قوله (وَيَقُولُونَ) هو للكفار المجرمين قال ابن جريج كانت العرب إذا كرهوا
شيئا قالوا حجرا ، قال مجاهد (حِجْراً) عوذا ، يستعيذون من الملائكة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويحتمل أن يكون المعنى ويقولون حرام محرم علينا العفو ، وقد ذكر أبو
عبيدة أن هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام
إذا لقيه وبينهما ترة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا المعنى هو مقصد بيت المتلمس الذي تقدّم ، أي هذا الذي حننت إليه
ممنوع. وقرأ الحسن وأبو رجاء «حجرا» بضم الحاء ، والناس على كسرها ، ثم أخبر تعالى
عما يأتي عليه قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة (وَقَدِمْنا) أي قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة ، وقيل
هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة (قَدِمْنا) لأن القادم على شيء مكروه لم يقدره ولا أمر به مغير له
مذهب ، وأما قول الراجز :
وقدم الخوارج
الضلال
|
|
إلى عباد ربنا
فقالوا :
|
إن دماءكم لنا
حلال
فالقدوم فيه على
بابه ، ومعنى الآية وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئا إذ لا نية
معها فجعلناها على
ما تستحق لا تعد شيئا وصيرناها (هَباءً مَنْثُوراً) أي شيئا لا تحصيل له ، والهباء هي الأجرام المستدقة
الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به
الظل كالكوة أو نحوها ، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو
الهباء ، ووصفه في هذه الآية ب «منثور» ، ووصفه في غيرها ب «منبث» ، فقالت فرقة
هما سواء ، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره
كسنابك الخيل والرياح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك ، والمنبث كأنه هو انبث من دقته
، وقال ابن عباس الهباء المنثور ، ما تسفي به الرياح وتبثه ، وروي عنه أنه قال
أيضا الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا
بثثته وقال الشاعر [الحارث بن حلزة اليشكري] : [الخفيف]
وترى خلفها من
الربع والوق
|
|
ع منينا كأنه
أهباء
|
ومعنى هذه الآية
جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة ، ثم أخبر عزوجل بأن مستقر أهل الجنة (خَيْرٌ) من مستقر أهل النار ، وجاءت (خَيْرٌ) ، هاهنا للتفضيل بين شيئين لا شركة بينهما ، فذكر الزجاج
وغيره في ذلك أنه لما اشتركا في أن هذا مستقر وهذا مستقر فضل الاستقرار الواحد.
قال القاضي أبو
محمد : ويظهر لي أن هذه الألفاظ التي فيها عموم ما يتوجّه حكمها من جهات شتى ، نحو
قولك أحب وأحسن وخير وشر يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما ، فتقول السعد
في الدنيا أحب إليّ من الشقاء إذ قد يوجد بوجه ما من يستحب الشقاء كالمتعبد
والمغتاظ وكذلك في غيرها ، فإذا كانت أفعل في معنى بين أن الواحد من الشيئين لا حظ
له فيه بوجه فسد الإخبار بالتفضيل به ، كقولك الماء أبرد من النار ، ومن هذا إنك
تقول في ياقوتة ومدرة وتشير إلى المدرة هذه أحسن وخير وأحب وأفضل من هذه ، ولو قلت
هذه ألمع وأشد شراقة من هذه لكان فاسدا ، وقوله (مَقِيلاً) ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج إلى أن حساب الخلق يكمل في
وقت ارتفاع النهار ، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فالمقيل من
القائلة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة ، فالعرب تفضل البلاد بحسن
المقيل لأن وقت القائلة يبدو فساد هواء البلاد ، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء
حسنا جاز الفضل ومن ذلك قول الأسود بن يعفر الإيادي : [الكامل]
أرض تخيرها لطيب
مقيلها
|
|
كعب بن مامة
وابن أم دواد
|
وقوله (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ
بِالْغَمامِ) يريد يوم القيامة عند انفطار السماء ونزول الملائكة ووقوع
الجزاء بحقيقة الحساب ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «تشّقّق» بشد الشين والقاف
، وقرأ الباقون بتخفيف الشين ، وقوله (بِالْغَمامِ) أي يشقق عنه ، والغمام سحاب رقيق أبيض جميل لم يره البشر
بعد إلا ما جاء في تظليل بني إسرائيل ، وقرأ جمهور القراء «ونزّل الملائكة» بضم
النون وشدّ الزاي المكسورة ورفع «الملائكة» على مفعول لم يسم فاعله ، وقرأ أبو
عمرو في رواية عبد الوهاب «ونزل» بتخفيف الزاي المكسورة ، قال أبو الفتح وهذا غير
معروف لأن «نزل» لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا «للملائكة» ، ووجهه أن يكون مثل زكم
الرجل وجن فإنه لا
يقال إلا أزكمه الله وأجنه وهذا باب سماع لا قياس ، وقرأ أبو رجاء «ونزّل الملائكة»
بفتح النون وشدّ الزاي وقرأ الأعمش ، «وأنزل الملائكة» وكذلك قرأ ابن مسعود ، وقرأ
أبي بن كعب «ونزلت الملائكة» ، وقرأ ابن كثير وحده «وننزل الملائكة» بنونين وهي
قراءة أهل مكة ، فرويت عن أبي عمرو «ونزل الملائكة» بإسناد الفعل إليها ، وقرأت
فرقة «وتنزل الملائكة» ، وقرأ أبي بن كعب أيضا «وتنزلت الملائكة» ، ثم قرّر أن «الملك
الحق هو يومئذ للرحمن» ، إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك وعسره (عَلَى الْكافِرِينَ) توجه بدخول النار عليهم فيه وما في خلال ذلك من المخاوف ،
وقوله (عَلَى الْكافِرِينَ) ، دليله أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله ليهون القيامة على المؤمنين حتى أخف
عليهم من صلاة مكتوبة صلوها».
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ
سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ
يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
وَكَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً)
(٣١)
قوله (وَيَوْمَ) ظرف العامل فيه فعل مضمر ، وعض اليدين هو فعل النادم
الملهوف المتفجّع ، وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين (الظَّالِمُ) في هذه الآية عقبة بن أبي معيط وذلك أنه كان أسلم أو جنح
إلى الإسلام وكان أبي بن خلف الذي قتله رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده يوم أحد (خَلِيلاً) لعقبة فنهاه عن الإسلام فقبل نهيه فنزلت الآية فيهما ف (الظَّالِمُ) عقبة. و «فلان» أبي وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن (الظَّالِمُ) أبي فإنه كان يحضر النبي صلىاللهعليهوسلم فنهاه عقبة فأطاعه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومن أدخل في هذه الآية أمية بن خلف فقد وهم إلا على قول من يرى (الظَّالِمُ) اسم جنس ، وقال مجاهد وأبو رجاء الظالم اسم جنس و «فلان»
الشيطان.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويظهر أن (الظَّالِمُ) عام وأن مقصد الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنه يوم
تندم فيه الظلمة وتتمنى أن لو لم تطع في دنياها خلانها الذين أمروهم بالظلم ، فلما
كان خليل كل ظالم غير خليل الآخر وكان كل ظالم يسمي رجلا خاصا به عبر عن ذلك ب «فلان»
الذي فيه الشياع التام ومعناه واحد من الناس ، وليس من ظالم إلا وله في دنياه خليل
يعينه ويحرضه ، هذا في الأغلب ويشبه أن سبب الآية وترتب هذا المعنى كان عقبة وأبيا
، وقوله (مَعَ الرَّسُولِ) يقوي ذلك بأن يجعل تعريف (الرَّسُولِ) للعهد والإشارة إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعلى التأويل الأول التعريف بالجنس ، وكلهم قرأ «يا
ليتني» ساكنة الياء غير أبي عمرو فإنه حرك الياء في «ليتني اتخذت» ورواها أبو خليد
عن نافع مثل أبي عمرو ، و «السبيل» المتمناة هي طريق الآخرة ، وفي هذه الآية لكل
ذي نهية تنبيه على تجنب قرين
السوء ، والأحاديث
والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة ، وقوله (يا وَيْلَتى) التاء فيه عوض من الياء في يا ويلي والألف هي التي في
قولهم يا غلاما وهي لغة ، وقرأت فرقة بإمالة (يا وَيْلَتى) قال أبو علي وترك الإمالة أحسن لأن أصل هذه اللفظة الياء (يا وَيْلَتى) فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء ، فمن أمال
رجع إلى الذي فر منه أولا ، و (الذِّكْرِ) ، هو ما ذكر به الإنسان أمر آخرته من قرآن أو موعظة ونحوه
، وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يحتمل أن يكون من قول (الظَّالِمُ) ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالى على جهة
الدلالة على وجه ضلالتهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ ، وقوله تعالى
: (وَقالَ الرَّسُولُ) ، حكاية عن قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه ، هذا قول الجمهور ،
وهو الظاهر ، وقالت فرقة هو حكاية عن قول ذلك في الآخرة ، وقرأ نافع وابن كثير
وأبو عمرو «قومي» بتحريك الياء والباقون بسكونها ، و (مَهْجُوراً) يحتمل أن يريد مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء وهذا قول
ابن زيد ، ويحتمل أن يريد مقولا فيه الهجر بضم الهاء إشارة إلى قولهم شعر وكهانة
وسحر وهذا قول مجاهد وإبراهيم النخعي.
قال القاضي أبو
محمد : وقول ابن زيد منبه للمؤمنين على ملازمة المصحف وأن لا يكون الغبار يعلوه في
البيوت ويشتغل بغيره ، وروى أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «من علق مصحفا ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا
به يقول هذا اتخذني (مَهْجُوراً) افصل يا رب بيني وبينه» ، ثم سلاه عن فعل قومه بأن أعلمه
أن غيره من الرسل كذلك امتحن بأعداء في زمنه ، أي فاصبر كما صبروا و (عَدُوًّا) يراد به الجمع ، تقول هؤلاء عدو لي فتصف به الجمع والواحد
والمؤنث ثم وعده تعلق بقوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ
هادِياً وَنَصِيراً) والباء في (بِرَبِّكَ) للتأكيد على الأمر إذ المعنى اكتف بربك.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً
(٣٢) وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ
سَبِيلاً)
(٣٤)
روي عن ابن عباس وغيره
أن كفار قريش قالوا في بعض معارضتهم لو كان هذا القرآن من عند الله لنزل (جُمْلَةً) كما نزل التوراة والإنجيل وقوله (كَذلِكَ) يحتمل أن يكون من قول الكفار إشارة إلى التوراة والإنجيل ،
ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى ومعناه كما نزل أردناه فالإشارة إلى
نزوله متفرقة وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقا تثبيت فؤاد محمد عليهالسلام وليحفظه ، وقال مكي والرماني من حيث كان أميا لا يكتب
وليطابق الأسباب المؤقتة فنزل في نيف على عشرين سنة ، وكان غيره من الرسل يكتب
فنزل إليه جملة ، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليثبت» بالياء ، والترتيل التفريق بين
الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة ، وأراد الله تعالى أن ينزل
القرآن في النوازل والحوادث التي قدرها وقدر نزوله فيها ، ثم أخبر تعالى نبيه أن
هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة
منهم كتمثيلهم في
هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن (بِالْحَقِ) في ذلك بالجلية ثم هو (أَحْسَنَ تَفْسِيراً) وأفصح بيانا وتفصيلا ، ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم
القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور ، إلى أن هذا المشي على
الوجوه حقيقة ، وروي في ذلك من طريق أنس بن مالك حديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال له رجل يا رسول الله كيف يقدرون على المشي على وجوههم
، وقال إن الذي أقدرهم على المشي على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ، وقالت
فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي وقوله تعالى : (شَرٌّ مَكاناً) القول فيه كالقول في قوله (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤].
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا
إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ
لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً
وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
وَعاداً
وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨)
وَكُلاًّ
ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)
(٣٩)
هذه الآية التي
ذكر فيها الأمم هي تمثيل لهم وتوعد أن يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين ، و (الْكِتابَ) التوراة ، والوزير المعين ، وهو من تحمل الوزر أي ثقل
الحال أو من الوزر الذي هو الملجأ ، و (الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا) هم فرعون وملؤه من القبط ، ثم حذف من الكلام كثير دل عليه
ما بقي ، وتقدير المحذوف فأديا الرسالة فكذبوهما فدمرناهم. وقرأ علي بن أبي طالب
ومسلمة بن محارب «فدمرانهم» أي كونا سبب ذلك ، قال أبو الفتح ألحق نون التوكيد ألف
التثنية كما تقول اضربان زيدا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وروي عن علي رضي الله عنه «فدمراهم» ، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «فدمرناهم»
بكسر الميم خفيفة ، قال وروي عنه «فدمروا بهم» على الأمر لجماعة وزيادة باء ،
والذي فسر أبو الفتح وهم وإنما القراءة «فدمرا بهم» بالباء ، وكذلك المهدوي ، ونصب
قوله (وَقَوْمَ نُوحٍ) بفعل مضمر يدل عليه (أَغْرَقْناهُمْ) ، وقوله (الرُّسُلَ) وهم إنما كذبوا نوحا فقط معناه أن الأمة التي تكذب نبيا
واحدا ففي ضمن ذلك تكذيب جميع الأنبياء فجاءت العبارة بما يتضمنه فعلهم تغليظا في
القول عليهم ، وقوله (آيَةً) أي علامة على سطوة الله تعالى بكل كافر بأنبيائه ، وعاد
وثمود يصرف ، وجاء هاهنا مصروفا ، وقرأ ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى «وعادا»
مصروفا «وثمود» غير مصروف ، واختلف الناس في (أَصْحابَ الرَّسِ) فقال ابن عباس هم قوم ثمود ، وقال قتادة هم أهل قرية من
اليمامة يقال لها (الرَّسِ) والفلج ، وقال مجاهد هم أهل قرية فيها بير عظيمة إلخ ...
يقال لها (الرَّسِ) ، وقال كعب ومقاتل والسدي (الرَّسِ) بير بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين ، وقال الكلبي (أَصْحابَ الرَّسِ) قوم بعث إليهم نبي فأكلوه ، وقال قتادة (أَصْحابَ الرَّسِ) وأصحاب ليكة قومان أرسل إليهما
شعيب عليهالسلام ، وقاله وهب بن منبه وقال علي رضي الله عنه في كتاب
الثعلبي (أَصْحابَ الرَّسِ) قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت ، رسوا نبيهم في
بير حفروه له في حديث طويل ، و (الرَّسِ) في اللغة كل محفور من بير أو قبر أو معدن ومنه قول الشاعر [النابغة
الجعدي] : [المتقارب]
سبقت إلى فرط
بأهل
|
|
تنابلة يحفرون
الرساسا
|
وروى عكرمة ومحمد
بن كعب القرظي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن أهل الرس المشار إليهم في هذه الآية قوم أخذوا نبيهم
فرسوه في بير وأطبقوا عليه صخرة ، قال فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك
البير فيعينه الله على تلك الصخرة إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم
أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل ، قال الطبري فيمكن
أنهم كفروا به بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية ، وقوله (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عزوجل وقد تقدّم شرح القرن وكم هو ، ومن هذا اللفظ قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فيما يروى ، ويروى أن ابن عباس قاله ، «كذب النسابون من
فوق عدنان لأن الله تعالى أخبر عن كثير من الخلق والأمم ولم يحد» ، ثم قال تعالى
إن كل هؤلاء «ضرب له الأمثال» ، ليهتدي فلم يهتد ، «فتبره» الله أي أهلكه ،
والتبار الهلاك ومنه تبر الذهب أي المكسر المفتت ، وكذلك يقال لفتات الرخام
والزجاج تبر ، وقال ابن جبير إن أصل الكلمة نبطي ولكن العرب قد استعملته.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ أَتَوْا
عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
أَمْ
تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
(٤٤)
قال ابن عباس وابن
جريج والجماعة الإشارة إلى مدينة قوم لوط وهي سدوم بالشام ، و (مَطَرَ السَّوْءِ) حجارة السجيل ، وقرأ أبو السمال «السّوء» بضم السين
المشددة ، ثم وقفهم على إعراضهم وتعرضهم لسخط الله بعد رؤيتهم العبرة من تلك
القرية ، ثم حكم عليهم أنهم إذا رأوا محمدا صلىاللهعليهوسلم استهزؤوا به واستحقروه وأبعدوا أن يبعثه الله رسولا ،
فقالوا على جهة الاستهزاء (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وفي (بَعَثَ) ضمير يعود على الذي حذف اختصارا وحسن ذلك في الصلة ، ثم
أنس النبي صلىاللهعليهوسلم عن كفرهم بقوله (أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية ، والمعنى لا تتأسف عليهم ودعهم لرأيهم ولا تحسب
أنهم على ما يجب من التحصيل والعقل بل هم كالأنعام في الجهل بالمنافع وقلة التحسس
للعواقب ، ثم حكم بأنهم (أَضَلُّ سَبِيلاً) من حيث لهم الفهم وتركوه ، و «الأنعام» لا سبيل لهم
إلى فهم المصالح ،
ومن حيث جهالة هؤلاء وضلالتهم في أمر أخطر من الأمر الذي فيه جهالة الأنعام ،
وقوله (اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) معناه جعل هواه مطاعا فصار كالإله والهوى قائد إلى كل فساد
لأن النفس أمارة بالسوء وإنما الصلاح إذا ائتمرت للعقل ، وقال ابن عباس الهوى
الإله يعبد من دون الله ذكره الثعلبي ، وقيل الإشارة بقوله (إِلهَهُ هَواهُ) إلى ما كانوا عليه من أنهم كانوا يعبدون حجرا فإذا وجدوا
أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الثاني الذي وقع هواهم عليه ، قال أبو حاتم وروي عن
رجل من أهل المدينة قال ابن جني هو الأعرج (إِلهَهُ هَواهُ) والمعنى اتخذ شمسا يستضيء بها هواه إذ الشمس يقال لها إلهة
وتصرف ولا تصرف ، و «الوكيل» القائم على الأمر الناهض به.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)
ثُمَّ
قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)
(٤٧)
(أَلَمْ تَرَ) معناه انتبه ، والرؤية هاهنا رؤية القلب ، وأدغم عيسى بن
عمر (رَبِّكَ كَيْفَ) ، قال أبو حاتم والبيان أحسن ، و (مَدَّ الظِّلَ) بإطلاق هو بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس ومن بعد مغيبها
مدة يسيرة فإن في هذين الوقتين على الأرض كلها ظل ممدود على أنها نهار ، وفي سائر
أوقات النهار ظلال متقطعة والمد والقبض مطرد فيها وهو عندي المراد في الآية والله
أعلم ، وفي الظل الممدود ما ذكر الله في هواء الجنة لأنها لما كانت لا شمس فيها
كان ظلها ممدودا أبدا.
وتظاهرت أقوال
المفسرين على أن (مَدَّ الظِّلَ) هو من الفجر إلى طلوع الشمس وهذا معترض بأن ذلك في غير
نهار بل في بقايا الليل لا يقال له ظل ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل (الشَّمْسَ) ونسخها إياه وطردها له من موضع إلى موضع (دَلِيلاً) عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه ، حكى الطبري أنه لو
لا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها وقوله (قَبْضاً يَسِيراً) يحتمل أن يريد لطيفا أي شيئا بعد شيء لا في مرة واحدة ولا
بعنف ، قال مجاهد ، ويحتمل أن يريد معجلا وهذا قول ابن عباس ويحتمل أن يريد سهلا
قريب المتناول ، قال الطبري ووصف (اللَّيْلَ) باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها ، و «السبات»
ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا ، فشبه النائم به ، والسبت الإقامة في المكان
فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه ، و «النشور» في هذا الموضع الإحياء شبه اليقظة به
ليتطابق الإحياء مع الإماتة والتوفي اللذين يتضمنهما النوم والسبات ويحتمل أن يريد
ب «النشور» وقت انتشار وتفرق لطلب المعايش وابتغاء فضل الله ، وقوله (النَّهارَ نُشُوراً) وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم.
قوله عزوجل :
(وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً
مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وَلَقَدْ
صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا
لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)
فَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)
(٥٢)
قرأت فرقة «الرياح»
، وقرأت فرقة «الريح» على الجنس ، فهي بمعنى الرياح وقد نسبنا القراءة في سورة
الأعراف وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب
، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح ، لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق
وتأتي لينة من هاهنا وهاهنا ، وشيئا إثر شيء ، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما
تأتي جسدا واحدا ، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه ، قال الرماني جمعت رياح
الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والشمال وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا
تلقح وهي الدبور.
قال القاضي أبو
محمد : يرد على هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ،
واختلف القراء في «النشر» ، في النون والباء وغير ذلك اختلافا قد ذكرناه في سورة
الأعراف ، و (نَشْراً) معناه منتشرة متفرقة و «الطهور» بناء مبالغة في طاهر وهذه
المبالغة اقتضته في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهرا مطهرا
وفيما كثرت فيه التغايير ، كماء الورد وعصير العنب أن يكون طاهرا ولا مطهرا ، ووصف
«البلدة» ب «الميت» لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤنث وجاز ذلك من
حيث البلدة بمعنى البلد ، وقرأ طلحة بن مصرف «لننشىء به بلدة ونسقيه» بضم النون
وهي قراءة الجمهور ومعناه نجعله لهم سقيا ، هذا قول بعض اللغويين في أسقى قالوا
وسقى معناه للشفة ، وقال الجمهور سقى وأسقى بمعنى واحد وينشد على ذلك بيت لبيد : [الوافر]
سقى قومي بني
نجد وأسقى
|
|
نميرا والقبائل
من هلال
|
وقرأ أبو عمرو «ونسقيه»
بفتح النون وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة وأبي حيوة ، ورويت عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ، (وَأَناسِيَ) ، قيل هو جمع إنسان والياء المشددة بدل من النون في الواحد
قاله سيبويه ، وقال المبرد هو جمع إنسي وكان القياس أن يكون أناسية كما قالوا في
مهلبي ومهالبة ، وحكى الطبري عن بعض اللغويين في جمع إنسان أناسين بالنون كسر حان
وبستان ، وقرأ يحيى بن الحارث «أناسي» بتخفيف الياء ، والضمير في (صَرَّفْناهُ) قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء ،
المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض
المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد ، وقاله ابن مسعود ، وقوله على هذا
التأويل (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة ، وقيل (كُفُوراً) على الإطلاق لما تركوا التذكر ، وقال ابن عباس الضمير في (صَرَّفْناهُ) للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك
قوله بعد ذلك ، (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) ، وعلى التأويل الأول الضمير في (بِهِ) يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه ، وقال ابن زيد يراد به
الإسلام ، وقرأ عكرمة «صرفنا» بتخفيف الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذكروا»
بسكون الذال ،
وقرأ الباقون «ليذكّروا» بشد الذال والكاف ، وفي قوله (وَلَوْ شِئْنا) الآية اقتضاب يدل عليه ما ذكر تقديره ولكنا أفردناك
بالنذارة وحملناك (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ).
قوله عزوجل :
(وَهُوَ الَّذِي
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً)
(٥٧)
اضطرب الناس في
تفسير هذه الآية فقال ابن عباس أراد بحر السحاب والبحر الذي في الأرض ، ورتبت
ألفاظ الآية على ذلك ، وقال مجاهد البحر العذب هو مياه الأنهار الواقعة في البحر «الأجاج»
وقوعها فيه هو مرجها. قال و «البرزخ» و «الحجر» هو حاجز في علم الله لا يراه البشر
، وقاله الزجاج ، وقالت فرقة معنى (مَرَجَ) أدام أحدهما في الآخر ، وقال ابن عباس خلى أحدهما على
الآخر ونحو هذا من الأقوال التي تتداعى مع بعض ألفاظ الآية ، والذي أقول به في
الآية إن المقصد بها التنبيه على قدرة الله تعالى وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في
الأرض مياها عذبة كثيرة من أنهار وعيون وآبار ، وجعلها خلال الأجاج وجعل الأجاج
خلالها ، فتلقى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ، وتلقى الماء العذب في
الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج فبثها هكذا في الأرض هو خلطها ، وهو قوله (مَرَجَ) ومنه مريج أي مختلط مشتبك ، ومنه مرجت عهودهم في الحديث
المشهور ، و «البحران» يريد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الأجاج ، كأنه قال
مرج نوعي الماء والبرزخ والحجر هو ما بين (الْبَحْرَيْنِ) من الأرض واليبس ، قاله الحسن ، ومنه القدرة التي تمسكها
مع قرب ما بينهما في بعض المواضع ، وبكسر الحاء قرأ الناس كلهم هنا والحسن بضم
الحاء في سائر القرآن ، و «الفرات» الصافي اللذيذ المطعم ، و «البرزخ» الحاجز بين
الشيئين ، وقرأ الجمهور «هذا ملح» وقرأ طلحة بن مصرف «هذا ملح» بكسر اللام وفتح
الميم ، قال أبو حاتم هذا منكر في القراءة ، قال ابن جني أراد مالحا وحذف الألف
كبرد وبرد ، و «الأجاج» أبلغ ما يكون من الملوحة ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ) الآية ، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم ،
والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب
والصهر ، وقوله (مِنَ الْماءِ) إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء ، وإما
أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة ، والأول أفصح وأبين ، و «النسب والصهر»
معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين ، ف «النسب» هو أن يجتمع إنسان مع آخر في
أب أو في أم قرب ذلك أو بعد ، و «الصهر» تواشج المناكحة ، فقرابة الزوجة هم
الأختان ، وقرابة الزوج ثم الأحماء والأصهار يقع عاما لذلك كله ، وقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه «النسب» ما لا يحل نكاحه «والصهر» ما يحل نكاحه وقال الضحاك «الصهر»
قرابة الرضاع.
قال القاضي أبو
محمد : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس ، وفي
رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) [النساء : ٢٣] ،
فهذا هو من النسب. ثم يريد ب «الصهر» قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ) [النساء : ٢٣] ، ثم ذكر المحصنات ، ومجمل هذا أن ابن عباس
أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر لأن الرضاع صهر
وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه ، ومن
روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي
الأزواج ، وحكى الزهراوي قولا أن «النسب» من جهة البنين «والصهر» من جهة البنات.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا حسن وهو في درج ما قدمته ، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي صلىاللهعليهوسلم وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكادة حرمة إلى
يوم القيامة. وقوله (وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) هي (كانَ) التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضيا فقط ، ثم ذكر
تعالى خطأهم في عبادتهم أصناما لا تملك لهم ضرا ولا نفعا وقوله (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) فيه تأويلان : أحدهما أن «الظهير» المعين فتكون الآية
بمعنى توبيخهم على ذلك من أن الكفار يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة والشيطان بأن
يطيعوه ويظاهروه ، وهذا هو تأويل مجاهد والحسن وابن زيد ، والثاني ذكره الطبري أن
يكون «الظهير» فعيلا ، من قولك ظهرت الشيء إذا طرحته وراء ظهرك واتخذته ظهريا ،
فيكون معنى الآية على هذا التأويل احتقار الكفرة ، و (الْكافِرُ) في هذه الآية اسم الجنس وقال ابن عباس بل هو معين أراد به
أبا جهل بن هشام.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويشبه أن أبا جهل سبب الآية ولكن اللفظ عام للجنس كله. وقوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ) الآية تسلية لمحمد صلىاللهعليهوسلم أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك حسرات حرصا عليهم فإنما أنت
رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة النار ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين ، ثم
أمره تعالى بأن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله (ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي ، وقوله (إِلَّا مَنْ شاءَ) الظاهر فيه أنه استثناء منقطع ، والمعنى مسؤولي ومطلوبي من
شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة ، قال الطبري المعنى لا أسألكم
أجرا إلا إنفاق المال في سبيل الله فهو المسئول وهو السبيل إلى الرب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فالاستثناء على هذا كالمتصل ، وكأنه قال إلا أجر من شاء والتأويل الأول
أظهر.
قوله عزوجل :
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)
(٦٠)
المعنى قل لهم يا
محمد هذه المقالة التي لا ظن يتطرق إليك معها ولا تهتم بهم وبشّر وأنذر (وَتَوَكَّلْ عَلَى) المتكفل بنصرك وعضدك في كل أمرك ، ثم وصف تعالى نفسه الصفة
التي تقتضي التوكل في قوله (الْحَيِّ الَّذِي لا
يَمُوتُ) إذ هذا المعنى يختص بالله تعالى دون كل ما لدينا مما يقع
عليه اسم حي ، وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) قل سبحان الله وبحمده أي تنزيهه واجب وبحمده أقول.
قال القاضي أبو
محمد : وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه
ولو كانت مثل زبد البحر ، فهذا معنى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان ، الحديث ، وقوله (وَكَفى بِهِ) توعد وإزالة كل عن محمد صلىاللهعليهوسلم في همه بهم ، وقوله (وَما بَيْنَهُما) مع جمعه (السَّماواتِ) قبل سائغ من حيث عادل لفظ (الْأَرْضَ) لفظ (السَّماواتِ) ونحوه قول عمرو بن شييم : [الوافر]
ألم يحزنك أن
جبال قيس
|
|
وتغلب قد
تباينتا انقطاعا
|
من حيث عادلت
جبالا جبالا ، ومنه قول الآخر : [الكامل]
إن المنية
والحتوف كلاهما
|
|
يوفي المخارم
يرقبان سواد
|
وقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) اختلفت الرواية في اليوم الذي ابتدأ الله فيه الخلق ،
فأكثر الروايات على يوم الأحد ، وفي مسلم وفي كتاب الدلائل يوم السبت ، وبين بكون
ذلك (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وضع الإناءة والتمهل في الأمور لأن قدرته تقضي أنه يخلقها
في طرفة عين لو شاء لا إله إلا هو ، وقد تقدّم القول في الاستواء ، وقوله (الرَّحْمنُ) يحتمل أن يكون رفعه بإضمار مبتدأ أي هو (الرَّحْمنُ) ويحتمل أن يكون بدلا من الضمير في قوله (اسْتَوى) وقرأ زيد بن علي بن الحسين «الرحمن» بالخفض ، وقوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فيه تأويلان : أحدهما (فَسْئَلْ) عنه و (خَبِيراً) على هذا منصوب إما بوقوع السؤال عليه والمعنى ، اسأل جبريل
والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، والثاني أن يكون المعنى كما تقول لو لقيت فلانا
لقيت به البحر كرما أي لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر ، و (خَبِيراً) على هذا منصوب إما بوقوع السؤال وإما على الحال المؤكدة
كما قال (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] ،
وليست هذه بحال منتقلة إذ الصفة العلية لا تتغير ، ولما ذكر في هذه الآية «الرحمن»
كانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله ، وكان مسيلمة كذاب اليمامة تسمى ب «الرحمن»
فغالطت قريش بذلك وقالت إن محمدا يأمر بعبادة «الرحمن» اليمامة فنزل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) الآية ، وقولهم (وَمَا الرَّحْمنُ) استفهام عن مجهول عندهم ف (مَا) على بابها المشهور ، وقرأ جمهور القراء «تأمرنا» بالتاء أي
أنت يا محمد ، وقرأ حمزة والكسائي والأسود بن يزيد وابن مسعود «يأمرنا» بالياء من
تحت إما على إرادة محمد والكناية عنه بالغيبة ، وإما على إرادة رحمان اليمامة ،
وقوله : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي أضلهم هذا اللفظ ضلالا لا يختص به حاشى ما تقدم منهم.
قوله عزوجل :
(تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ
شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)
(٦٣)
لما جعلت قريش
سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية
مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته ، و «البروج» هي التي علمتها
العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل
برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩] والعرب
تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجا تشبيها ببروج السماء. ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨].
وقال الأخطل : [البسيط]
كأنها برج روميّ
يشيده
|
|
لز بجص وآجور
وأحجار
|
وقال بعض الناس في
هذه الآية التي نحن فيها «البروج» القصور في الجنة ، وقال الأعمش : كان أصحاب عبد
الله يقرؤونها «في السماء قصورا» ، وقيل «البروج» الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن
أبي صالح ، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص ، وأما القول بأنها قصور في الجنة
فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله
أو جاهل به. وقرأ الجمهور «سراجا» وهي الشمس ، وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن
مسعود وعلقمة والأعمش «سرجا» وهو اسم جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا ،
وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش «سرجا» بسكون الراء ، قال أبو حاتم روى عصمة عن
الحسن «وقمرا» بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد إلا أن يكون عنى جمعا كثمر
وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي ، وقوله (خِلْفَةً) أي هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا ، ومن هذا المعنى قول
زهير : [الطويل]
بها العين والأرآم
يمشين خلفة
|
|
وأطلاؤها ينهضن
من كل مجثم
|
ومن هذا قول الآخر
يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا [يزيد بن معاوية] : [المديد]
ولها بالماطرون
إذا
|
|
أكل النمل الذي
جمعا
|
خلفة حتى إذا
ارتبعت
|
|
سكنت من جلق
بيعا
|
في بيوت وسط دسكرة
|
|
حولها الزيتون
قد ينعا
|
وقال مجاهد (خِلْفَةً) من الخلاف ، هذا أبيض وهذا أسود ، وما قدمناه أقوى ، وقال
مجاهد وغيره من النظار (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ) أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل
والفهم والفكر ،
وقال عمر بن
الخطاب والحسن وابن عباس معناه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ) ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في
الذي يليه ، وقرأ حمزة وحده «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف ، وهي قراءة ابن وثاب
وطلحة والنخعي ، وقرأ الباقون «يذّكر» بشد الذال ، وفي مصحف أبي بن كعب «يتذكر»
بزيادة تاء ، ثم قال تعالى (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور ، و «العباد»
والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه ، وسمي قوم من عبد القيس
العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب ، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد
الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وعبد الرحمن» ،
ذكره الثعلبي ، وقوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ) عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم
لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال ، (هَوْناً) ، بمعنى أمره كله هون أي لين ، قال مجاهد ، بالحلم والوقار
، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع ، وقال الحسن حلما إن جهل عليهم لم
يجهلوا ، وذهبت فرقة إلى أن (هَوْناً) مرتبط بقوله (يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ) أي المشي هو هون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق
ذلك الماشي (هَوْناً) مناسبة لمشية فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون
المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش (هَوْناً) رويدا وهو ذئيب أطلس. وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتكفا في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليهالسلام الصدر في هذه الآية. وقوله صلىاللهعليهوسلم «من مشى منكم في
طمع فليمش رويدا» إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده ، ألا ترى أن المبطلين
المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم [أبي جعفر المنصور]:
[مجزوء الرمل]
كلهم يمشي رويدا
|
|
كلهم يطلب صيدا
|
وقال الزهري سرعة
المشي تذهب ببهاء الوجه.
قال القاضي أبو
محمد : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم
كنت أسأل عن تفسير قوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فما وجدت في ذلك شفاء ، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم
الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فهذا تفسير في الخلق ، و (هَوْناً) معناه رفقا وقصدا ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «أجب حبيبك هونا
ما» الحديث وقوله (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً). اختلف في تأويل ذلك ، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول
للجاهل سلاما بهذا اللفظ أي سلمنا سلاما وتسليما ونحو هذا ، فيكون العامل فيه فعلا
من لفظه على طريقة النحويين ، والذي أقول إن (قالُوا) هو العامل في (سَلاماً) لأن المعنى (قالُوا) هذا اللفظ ، وقال مجاهد معنى (سَلاماً) قولا سديدا ، أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين ف (قالُوا) على هذا التأويل عامل في قوله (سَلاماً) على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولا ، وهذه الآية كانت
قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة ،
وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه ، ورجح به أن
المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية
مكية فنسختها آية السيف.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن
أبي طالب رضي الله عنه قال يوما بمحضر المأمون وعنده جماعة : كنت أرى عليا في
النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول علي بن أبي طالب ، فكنت أجيء معه إلى قنطرة
فيذهب فيتقدمني في عبورها ، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به
منك ، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه ، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال
: فكان يقول لي سلاما سلاما ، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو
ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي
بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة
صحيحة.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً
(٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)
(٦٦)
هذه آية فيها
تحريض على القيام بالليل للصلاة ، قال الحسن لما فرغ من وصف نهارهم وصف في هذه
ليلهم ، وقال بعض الناس من صلى العشاء الآخرة وشفع وأوتر فهو داخل في هذه الآية.
قال الفقيه الإمام
القاضي : إلا أنه دخول غير مستوفى ، وقرأ أبو البرهسم «سجودا وقياما» ، ومدحهم
تعالى بدعائه في صرف (عَذابَ جَهَنَّمَ) من حيث ذلك دليل على صحة عقدهم وإيمانهم ومن حيث أعمالهم
بحسبه ، و (غَراماً) معناه ملازما ، وقيل مجحفا ومنه غرام الحب ومنه المغرم
ومنه قول الأعشى : [الخفيف]
إن يعاقب يكن
غراما وإن يع
|
|
ط جزيلا فإنه لا
يبالي
|
وقول بشر بن أبي
حازم : [المتقارب]
ويوم النسار
ويوم الجفار
|
|
كانا عناء وكانا
غراما
|
وقرأ جمهور الناس «مقاما»
بضم الميم من الإقامة ، ومنه قول الشاعر : «حيوا المقام وحيوا ساكن الدار» ، وقرأت
فرقة «مقاما» بفتح الميم من قام يقوم فجهنم ضد مقام كريم والأول أفصح وأشهر.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨)
يُضاعَفْ
لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)
إِلاَّ
مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(٧٠)
اختلف المفسرون في
هذه الآية التي في الإنفاق ، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في
الطاعة ، وإن أسرف
، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه ، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه
، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف» أن
تنفق مال غيرك. ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية ، وخلط الطاعة
والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر ، والوجه أن يقال إن النفقة في المعصية أمر قد
حظرت الشريعة قليله وكثيره ، وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون
منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات ، فأدب
الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا وأن لا يضيق
أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي المعتدل
، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه
الخصال ، وخير الأمور أوسطها ، ولهذا ترك رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في
الدين ومنع غيره من ذلك ، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري
ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف ، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب
للجمال ولا يأكلون طعاما للذة ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين
زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين ، ثم تلا الآية ،
وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله ، وقرأ نافع
وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يقتروا» بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم «يقتروا» بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ حمزة والكسائي
بفتح الياء وفتح التاء ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف ، وقرأ أبو
عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء ، وقرأ أبو عمرو «والناس قواما» بفتح القاف ، أي
معتدلا ، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغا وسدادا وملاك حال ، و (قَواماً) خبر (كانَ) واسمها مقدر أي الإنفاق ، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله (بَيْنَ ذلِكَ). وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ) الآية إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم
الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا
الذي كان عندهم مباحا ، وفي نحو هذه الآية قال عبد الله بن مسعود : قلت يوما يا
رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قلت ثم أي؟ قال أن
تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك ، ثم قرأ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر
ذلك ، «والحق» الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان ، و «الزنا»
بعد الإحصان ، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين ، و «الأثام» في كلام
العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر : [الوافر]
جزى الله ابن
عروة حيث أمسى
|
|
عقوقا والعقوق
له أثام
|
أي جزاء وعقوبة ،
وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن (أَثاماً) واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقابا للكفرة ، وقرأ
نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يضاعف ويخلد» جزما ، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر
والحسن «يضعّف» بشد العين وطرح الألف وبالجزم في «يضعف ويخلد» ، وقرأ طلحة بن
سليمان
«نضعّف» بضم النون
وكسر العين المشددة «العذاب» نصب «ويخلد» جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وقرأ
عاصم في رواية أبي بكر «يضاعف ويخلد» بالرفع فيهما ، وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد»
بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك ، وروي عن أبي عمرو «ويخلّد» بضم الياء من تحت
وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية «ويضاعف» بالجزم بدل من (يَلْقَ) قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر :
«متى تأتنا تلمم
بنا في ديارنا». البيت
وقوله (إِلَّا مَنْ تابَ) الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر
والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين ، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه
الفرقة قاعدتها قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ) [النساء : ٤٨]
فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب ، ويتأولون الخلود الذي في آية
القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه ، وروى أبو هريرة في
أن التوبة لمن قتل حديثا عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة ، وقاله سعيد
بن جبير ، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل ، قال ابن عباس وهذه الآية إنما
أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت (إِلَّا مَنْ تابَ) الآية ، ونزلت (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] ،
فما رأينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح ، وقال غير ابن عباس ممن قال
بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت ،
ورواه أيضا سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة
سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا
أغفره وقوله تعالى : (يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ). معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك
سببا لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن ، ورد على من قال
هو في يوم القيامة ، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى
يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات ، وذكره الترمذي
والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.
قال القاضي أبو
محمد : وهو معنى كرم العفو ، وقرأ ابن أبي عبلة «يبدل» بسكون الباء وتخفيف الدال.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
وَالَّذِينَ
إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)
(٧٤)
أكد بهذه الألفاظ
أمر التوبة والمعنى (وَمَنْ تابَ) فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا ، كما تقول لمن
تستحسن قوله في
أمره لقد قلت يا فلان قولا ، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد
بابا للفرج والمغفرة عظيما ، ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى
عنهم شهادة الزور ، و (يَشْهَدُونَ) في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون ، و (الزُّورَ) كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد ،
ومنه الغناء ، وبه فسر مجاهد ، ومنه الكذب ، وبه فسر ابن جريج ، وقال علي بن أبي
طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور
الكذب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة ، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني
أغرق في المعاصي وأنكى ، و «اللغو» كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو
وغير ذلك ، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من
المنكر ، و (كِراماً) معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه
، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لقد أصبح ابن أم عبد كريما ، وقرأ الآية.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير ، وحدود التغيير معروفة وقوله
تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا
وَعُمْياناً) يحتمل تأويلين : أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه
الصفة بل يكون سجدا وبكيا ، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعا أي إنما خرج
جريئا مقدما. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق ، أو الشاك ، والتأويل الثاني
ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم
وجهدهم في ذلك ، وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد
الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا
وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا ، ولكن أصله
أنه على غير ترتيب ، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل
والذرية ، و «قرة العين» يحتمل أن تكون من القرار ، ويحتمل أن تكون من القر ، وهو
الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن ، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن
الله عين العدو ، و «قرة العين» في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله
تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي ، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه
كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم
في إيمان أحبابهم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن «ذرياتنا» ، وقرأ أبو
عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى «ذريتنا» بالإفراد. وقوله تعالى : (لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قيل هو جمع ، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي
اجعلنا يأتم بنا المتقون ، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة وهذا هو
قصد الداعي ، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين
وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
قوله عزوجل :
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)
(٧٧)
قرأ أبي كعب «يجازون»
بألف ، و (الْغُرْفَةَ) من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما
قال : [الهزج]
ولو لا الحبة
السمراء
|
|
لم نحلل بواديكم
|
وقرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو «ويلقّون» بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر
وشيبة والحسن ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن
النبي صلىاللهعليهوسلم «ويلقون» بفتح الياء
وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختلف عن عاصم وقوله (حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) معادل لقوله في جهنم (ساءَتْ) وقوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ) الآية أمر لمحمد صلىاللهعليهوسلم أن يخاطب بذلك ، و (ما) تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات
أحدها أن تكون الآية إلى قوله (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) خطابا لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله
بكم ولا ينظر إليكم لو لا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من
أجله. قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].
وقال النقاش وغيره المعنى لو لا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف
الناس المرعي فيهم ، وقرأ ابن الزبير وغيره «فقد كذب الكافرون» وهذا يؤيد أن
الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس ، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف
يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما ، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين
لقريش خاصة أي (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم ، والثالثة وهو
قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لو لا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو
محمد : والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و (يَعْبَؤُا) مشتق من العبء ، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش
، وقرأ ابن الزبير «وقد كذبت الكافرون فسوف» ، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن
عباس إلخ ... «فقد كذب الكافرون» ، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على
التفسير وأكثر الناس على أن «اللزام» المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو
قول أبي بن كعب وابن مسعود ، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب ، وقالت فرقة هو تعوذ
بعذاب الآخرة ، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره
الزهراوي ، وقال ابن عباس أيضا «اللزام» الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به
متأول الموت المعتاد في الناس عرفا فهو ضعيف ، وقرأ جمهور الناس «لزاما» بكسر
اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي : [الوافر]
فإمّا ينجوا من
حتف أرض
|
|
فقد لقيا
حتوفهما لزاما
|
وقرأ أبو السمال «لزاما»
لفتح اللام من لزم والله المعين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشعراء
هذه السورة مكية
كلها فيما قال جمهور الناس ، وقال مقاتل منها مدني الآية التي تذكر فيها الشعراء
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧].
قوله عزوجل :
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
إِنْ
نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها
خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)
فَقَدْ
كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(٩)
تقدم القول في
الحروف التي في أوائل السور مستوعبا ، و (تِلْكَ) رفع بالابتداء وهو وخبره ساد مسد الخبر عن (طسم) في بعض التأويلات ، والإشارة ب (تِلْكَ) هي بحسب الخلاف في (طسم) وعلى بعض الأقوال تكون (تِلْكَ) إشارة إلى حاضر وذلك موجود في الكلام ، كما أن هذه قد تكون
الإشارة بها إلى غائب معهود كأنه حاضر ، و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) القرآن ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «طسم» بكسر
الطاء ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتحها وبإدغام النون من سين في
الميم ، وقرأ حمزة وحده بإظهارها وهي قراءة أبي جعفر ، ورويت عن نافع ، وروى يعقوب
عن أبي جعفر ونافع قطع كل حرف منها على حدة ، قال أبو حاتم الاختيار فتح الطاء
وإدغام آخر سين في أول ميم ، فتصير الميم متعلقة ، وقوله (لَعَلَّكَ) الآية تسلية لمحمدصلىاللهعليهوسلم لما كان من القلق والحرص على إيمانهم فكان من شغل البال في
حيز الخوف على نفسه ، و «الباخع» القاتل والمهلك بالهم قاله ابن عباس والناس ومن
ذلك قول ذي الرمة : [الطويل]
ألا أيها ذا
الباخع الوجد نفسه
|
|
لشيء نحته عن
يديه المقادر
|
وخوطب «بلعل» على
ما في نفوس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال ، ومعنى الآية أي لا تهتم يا
محمد بهم وبلغ رسالتك وما عليك من إيمانهم فإن ذلك بيد الله. لو شاء لآمنوا ، وقوله
«أن لا» مفعول من أجله. وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ) شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا ،
وأما
الله تعالى فقد
علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات
الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله
وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو
كانت ، وقرأ «تنزّل» بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم
والحسن ، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي ، وروى هارون عن أبي
عمرو «يشأ ينزل» بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما
بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإما أن تكون
من الوضوح وبهر العقول ، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس ، وكل هذين لم يأت
به نبي ، ووجه ذلك ما ذكرناه ، وهو توجيه منصوص للعلماء. وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم»
وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع
الفعل ، وقوله تعالى : (أَعْناقُهُمْ) يحتمل تأويلين أحدهما : وهو قول مجاهد وأبي زيد والأخفش ،
أي يريد جماعاتهم ، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : [مجزوء
الكامل]
إن العراق وأهله
|
|
عنق إليك فهيت
هيتا
|
وعليه حمل قول أبي
محجن :
واكتم السر فيه
ضرب العنق
ولهذا قيل عتق
رقبة ولم يقل عتق عنق فرارا من الاشتراك قاله الزهراوي ، فعلى هذا التأويل ليس في
قوله (خاضِعِينَ) موضع قول ، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة
المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر : [الكامل]
وإذا الرجال
رأوا يزيد رأيتهم
|
|
خضع الرقاب
نواكس الأبصار
|
فعلى هذا التأويل
يتكلم على قوله (خاضِعِينَ) كيف جمعه جمع من يعقل ، وذلك متخرج على نحوين من كلام
العرب : أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى
المؤنث تأنيث علامة المذكر ، ومنه قول الأعشى :
«كما شرقت صدر
القناة من الدم»
وهذا كثير ،
والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للبشر وهو الخضوع ، إذ
هو فعل يتبع أمرا في النفس ، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١]. وقوله : (رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ) [يوسف : ٤]. وقرأ
ابن أبي عبلة «لها خاضعة» ثم عنف الكفار ونبه على سوء فعلهم بقوله : (وَما يَأْتِيهِمْ) الآية ، وقوله (مُحْدَثٍ) يريد محدث الإتيان ، أي مجيء القرآن للبشر كان شيئا بعد
شيء. وقالت فرقة يحتمل أن يريد ب «الذكر» محمد صلىاللهعليهوسلم كما قال تعالى في آية أخرى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [الطلاق : ١٠].
فيكون وصفه بالمحدث متمكنا.
قال القاضي أبو
محمد : والقول الأول أفصح.
وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ). الآية وعيد بعذاب الدنيا والآخرة ، ويقوى أنه وعيد بعذاب
الدنيا لأن ذلك قد نزل بهم كبدر وغيرها ، ولما كان إعراضهم عن النظر في الصانع
والإله من أعظم كفرهم وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ويعرضون عن الذكر في ذلك ، نبه
على قدرة الله وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) الآية ، و «الزوج» النوع والصنف ، و «الكريم» الحسن المتقن
قاله مجاهد وقتادة ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور والأغذية والنباتات ،
ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن إنبات ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً) [نوح : ١٧]. قال
الشعبي الناس من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد
ذلك وقوله تعالى : (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). حتم على أكثرهم بالكفر ثم توعد تعالى بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ). يريد عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة ، وقال نحو
هذا ابن جريج ، وفي لفظة (الرَّحِيمُ) وعد.
قوله عزوجل :
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
قَوْمَ
فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١)
قالَ
رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي
وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ
(١٣) وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ
كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
فَأْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ
مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
قالَ
أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨)
وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)
(١٩)
التقدير واذكر (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمداصلىاللهعليهوسلم ، وقوله (أَنِ ائْتِ) يجوز في (أَنِ) أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة أي ، ويجوز
أن تكون غيرها وهي في موضع نصب بتقدير بأن ائت ، وقوله (أَلا يَتَّقُونَ) معناه قل لهم فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى
عنهم وأمرهم بالتقوى ، وقرأ الجمهور «يتقون» بالياء من تحت ، وقرأ عبد الله بن
مسلم وحماد بن سلمة وأبو قلابة «تتقون» بالتاء من فوق على معنى قل لهم ، ولعظيم
نخوة فرعون وتألهه وطول مدته وما أشربت القلوب من مهابته قال عليهالسلام (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ). وقرأ جمهور الناس «ويضيق» بالرفع و «ينطلق» كذلك ، وقرأ
الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما ، فقراءة الرفع هي إخبار من موسى بوقوع ضيق
صدره وعدم انطلاق لسانه ، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة ، وقراءة النصب تقتضي أن
ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على (يُكَذِّبُونِ) ، وكان في خلق موسى عليهالسلام حد وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته ، وحكى أبو
عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب «ويضيق» وبرفع «ينطلق» ، وقد يكون عدم انطلاق اللسان
بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق صدر
ولم ينطلق اللسان ، وقد قال موسى عليهالسلام (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) [طه : ٢٧] فالراجح
قراءة الرفع ، وقوله تعالى : (فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليهالسلام فصيحا واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال
عليه ، ثم ذكر موسى خوفه
القبط من أجل ذنبه
، وهو قتله الرجل الذي وكزه ، قاله قتادة ومجاهد والناس ، فخشي أن يستقاد منه لذلك
فقال الله عزوجل له (كَلَّا) ردا لقوله (إِنِّي أَخافُ) أي لا تخف ذلك فإني لم أحملك ما حملتك إلا وقد قضيت بنصرك
وظهورك وأمر موسى وهارون بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ، ولكن قال
لموسى «اذهبا» أي أنت وأخوك ، والآيات تعم جميع ما بعثهما الله به وأعظم ذلك العصا
بها وقع العجز ، وبالآيتين تحدى موسى عليهالسلام ، ولا خلاف في أن موسى عليهالسلام هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلها ، وأن هارون كان نبيا
رسولا معينا له وزيرا ، وقوله (إِنَّا مَعَكُمْ) إما على أن يجعل الاثنين جماعة ، وإما أن يريدهما ،
والمبعوث إليهم وبني إسرائيل ، وقوله (مُسْتَمِعُونَ) على نحو التعظيم والجبروت التي لله تعالى ، وصيغة قوله (مُسْتَمِعُونَ) تعطي اهتبالا بالأمر ليس في صيغة قوله «سامعون» ، وإلا
فليس يصف الله تعالى بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى أو
تكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع ، وقوله تعالى : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) هو على أن العرب أجرت الرسول مجرى المصدر في أن وصفت به
الجمع والواحد والمؤنث ، ومن ذلك قول الهذلي :
ألكني إليها
وخير الرسو
|
|
ل أعلمهم بنواحي
الخبر
|
ومنه قول الشاعر :
وإن كان مولدا.
إن التي أبصرتها
|
|
سحرا تكلمني
رسول
|
وقوله (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه سرح ، فهو من الإرسال الذي هو بمعنى الإطلاق ، وكما
تقول أرسلت الحجر من يدي ، وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين : أحدهما أن يرسل
بني إسرائيل ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة ، والثاني أن يؤمن ويهتدي وأمر
بمكافحته ومقاومته في الأول ، ولم يؤمر بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره ، وبعث
بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط ، هذا قول بعض العلماء ، وقول فرعون لموسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ) هو على جهة المن عليه والاحتقار ، أي ربيناك صغيرا ولم
نقتلك في جملة من قتلنا ، (وَلَبِثْتَ فِينا
سِنِينَ) ، فمتى كان هذا الذي تدعيه ، وقرأ جمهور القراء «من عمرك»
بضم الميم ، وقرأ أبو عمرو «عمرك» بسكونها ، ثم قرره على قتل القبطي بقوله (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل ، وقرأ الشعبي «فعلتك»
بكسر الفاء وهي هيئة الفعل ، وقوله (وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) ، يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يريد وقتلت القبطي (وَأَنْتَ) في قتلك إياه (مِنَ الْكافِرِينَ) إذ هو نفس لا يحل قتله قاله الضحاك ، أو يريد (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد ، وهذان بمعنى واحد في
حق لفظ الكفر ، وإنما اختلفا باشتراك لفظ الكفر والثاني أن يكون بمعنى الهزء على
هذا الدين فأنت من الكافرين بزعمك قاله السدي ، والثالث هو قول الحسن أن يريد (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الآن يعني فرعون بالعقيدة التي كان يبثها فيكون الكلام
مقطوعا من قوله (وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ) وإنما هو إخبار مبتدأ كان من الكافرين وهذا الثاني أيضا
يحتمل أن يريد به كفر النعمة.
قال القاضي أبو
محمد : وكان بين خروج موسى عليهالسلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا إلى فرعون إحدى عشر سنة غير
أشهر.
قوله عزوجل :
(قالَ فَعَلْتُها
إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
قالَ
فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)
قالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)
(٢٨)
القائل هنا هو
موسى عليهالسلام والضمير في قوله (فَعَلْتُها) لقتله القبطي ، وقوله (إِذاً) صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ ، وقوله (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال ابن زيد معناه من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على
نفسه ، وقال أبو عبيدة معناه من الناسين لذلك ، ونزع بقوله تعالى أن تضل إحداهما ،
وفي قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس «وأنا من الجاهلين» ويشبه أن تكون هذه
القراءة على جهة التفسير ، وقوله (حُكْماً) يريد النبوة وحكمتها ، وقرأ عيسى «حكما» بضم الحاء والكاف
، وقوله (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) درجة ثانية للنبوة فرب نبي ليس برسول ، ثم حاجه عليهالسلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، فقال قتادة هذا منه
على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتمد على نعمة ترك
قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم ، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا
يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك ، وقرأ الضحاك «وتلك
نعمة ما لك أن تمنها» ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وقال الأخفش قيل ألف
الاستفهام محذوفة والمعنى «أو تلك» وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال «تروح
من الحي أم تبتكر».
قال القاضي أبو
محمد : وهذا القول تكلف ، قول موسى عليهالسلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما قال قتادة والله المعين ،
وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليهالسلام على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه يقول وتربيتك نعمة علي من
حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي.
قال القاضي أبو
محمد : ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه
كله ، والثاني مبد من موسى عليهالسلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق ، ومتى حصل أحد المجادلين في
هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس ، ولما لم
يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى
في قوله «رسول رب العالمين» فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء قال مكي كما
يستفهم عن الأجناس ، فلذلك استفهم ب (ما) وقد ورد له استفهام «بمن» في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن
، فأتى موسى عليهالسلام بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي
ربوبية السماوات والأرض ، وهذه
المجادلة من فرعون
تدل على أن موسى عليهالسلام دعاه إلى التوحيد فقال فرعون عند ذلك (أَلا تَسْتَمِعُونَ) على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة ، إذ كانت عقيدة
القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك وهذه ضلالة منها في مصر وديارها
إلى اليوم بقية فزاد موسى في البيان بقوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وقرأ جمهور الناس على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ حميد
الأعرج ومجاهد «أرسل» على بناء الفعل للفاعل ، فزاد موسى عليهالسلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون وتبين له أنه في غاية
البعد عن القدرة عليها وهي ربوبية (الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ) ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض
الإسكندرية ، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه «رب المشارق والمغارب وما بينهما».
قوله عزوجل :
(قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
فَأَلْقى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)
(٣٣) قالَ
لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَحَّارٍ عَلِيمٍ)
(٣٧)
لما انقطع فرعون
في الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب ، وهذه أبين علامات الانقطاع ، فتوعّد موسى عليهالسلام بالسجن حين أعياه خطابه ، وفي توعده بالسجن ضعف لأنه خارت
طباعه معه ، وكان فيما روي يفزع منه فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله ، وروي أن
سجنه كان أشد من القتل في مطبق لا ينطلق منه أبدا فكان مخوفا.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه نزعة دار النبود إلى اليوم ، وكان عند موسى عليهالسلام من أمر الله تعالى ما لا يفزعه توعد فرعون فقال له موسى
على جهة اللطف به والطمع في إيمانه (أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يتضح لك معه صدقي ، أفكنت تسجنني ، فلما سمع فرعون ذلك طمع
أن يجد أثناءه موضع معارضة فقال له (فَأْتِ بِهِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى) موسى عصاه من يده وكانت من عصي الجنة وكانت عصى آدم عليهالسلام ، ويروى أنها كانت من غير ورقة الريحان ، وكانت عند شعيب عليهالسلام في جملة عصي الأنبياء فأعطاها لموسى عليهالسلام عند رعايته له الغنم على صورة قد تقدم ذكرها دلت على نبوة
موسى وكان لها في رأسها شعبتان فثم كان فم الحية وغير ذلك من قصص هذه ، ونزع يده
من جيبه فإذا هي تتلألأ كأنها قطعة من الشمس ، فلما رأى فرعون ذلك هاله ولم يكن له
فيه مدفع غير أنه فزع إلى رميه بالسحر ، وطمع ، لعلو علم السحر في ذلك الوقت
وكثرته ، أن يكون فيه سبب لمقاومة موسى فأوهم قومه وأتباعه أن موسى عليهالسلام ساحر ، ثم استشارهم في أمره وأغراهم به في قوله (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِ) فأشاروا عليه بتأخير أمره وأمر أخيه وجمع السحرة لمقاومته
، وروي أنهم أشاروا بسجنه وهو كان الإرجاء عندهم ، و «الإرجاء» التأخير ولم يشيروا
بقتله لأن حجته نيرة وضلالتهم في ربوبية فرعون مبينة فخشوا الفتنة وطمعوا أن يغلب
بحجة تقنع العوام ، و «الحاشر» الجامع ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «بكل سحار» ،
وهو بناء المبالغة وقرأ عاصم أيضا والأعمش «بكل ساحر».
قوله عزوجل :
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
وَقِيلَ
لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ
لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣)
فَأَلْقَوْا
حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغالِبُونَ)
(٤٤)
«اليوم» هو يوم الزينة
، وقيل كان يوم كسر خليج النيل ، فهو كان يوم الزينة على وجه الدهر بمصر ، وقال
ابن زيد إن هذا الجمع كان بالإسكندرية ، وقوله (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ) ليس معناه نتبعهم في السحر إنما أراد نتبعهم في نصرة ديننا
وملتنا والإبطال على معارضتنا ، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «أين لنا» على الاستفهام ،
وقرأ عيسى «نعم» بكسر العين ، والتقريب الذي وعدهم به فرعون هو الجاه الزائد على
العطاء الذي طلبوه والقرب من الملك الذي كان عندهم إلههم ، واختلف الناس في عدد
السحرة ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم ، وكانوا مجموعين من مدائن مصر ريف النيل وهي
كانت بلاد السحر الفرما وأنصناء وغير ذلك ومعظمهم كان من الفرما ، والحبال والعصي
كانت أوقار إبل ، وقولهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) يحتمل وجهين أحدهما القسم كأنهم أقسموا بعزة فرعون ، كما
تقول بالله إني لأفعل كذا وكذا ، فكان قسمهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) غير مبرور ، والآخر أن يكون على جهة التعظيم لفرعون إذ
كانوا يعبدونه والتبرك باسمه كما تقول ابتدأت بعمل شغل (بِسْمِ اللهِ*) «وعلى بركة الله».
ونحو هذا.
قوله عزوجل :
(فَأَلْقى مُوسى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)
(٥١)
تقدم في غير هذه
السورة ما ذكر الناس في عظم الحية حين ألقى موسى عصاه ، وفي هذه الآيات متروك كثير
يدل عليه الظاهر ، وقد ذكر في مواضع أخر وهي خوف موسى من ظهور سحرهم واسترهابهم
للناس وتخييلهم في حبالهم وعصيهم أنها تسعى بقصد ، ثم إن الحية التي خلق الله في
العصا التقمت تلك
الحبال والعصي عن
آخرها وأعدمها الله تعالى في جوفها وعادت العصا إلى حالها حين أخذ موسى بالفرجة
التي في رأسها فأدخل يده في فمها فعادت عصا بإذن الله عزوجل. وقرأ جمهور القراء «تلقّف» بفتح التاء خفيفة واللام وشدّ
القاف ، وقرأ حفص عن عاصم «تلقف» بسكون اللام وتخفيف القاف ، وروى البزي وفليح عن
ابن كثير شد التاء وفتح اللام وشد القاف ، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن
يجلب همزة الوصل وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء
الفاعلين ، وقوله (ما يَأْفِكُونَ) ، أي ما يكذبون معه وبسببه في قولهم إنها معارضة لموسى
ونوع من فعله ، والإفك الكذب ، ثم إن السحرة لما رأوا العصا ، خالية من صناعة
السحر ورأوا فيها بعد من أمر الله ما أيقنوا أنه ليس في قوة بشر أذعنوا ورأوا أن
الغنيمة هي الإيمان والتمسك بأمر الله عزوجل فسجدوا كلهم لله عزوجل مقرين بوحدانيته وقدرته ، ووصلوا إيمانهم بسبب موسى وهارون
، وصرحوا بأن ذلك على أيديهما لأن قولهم «رب العالمين» مغن فلم يكرروا البيان في
قولهم (رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ) إلا لما ذكرناه فلما رأى فرعون وملؤه إيمان السحرة وقامت
الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم وقع فرعون في الورطة العظمى ، فرجع إلى
السحرة بهذه الحجة الأخرى ، فوقفهم موبخا على إيمانهم بموسى قبل إذنه ، وفي هذه
اللفظة مقاربة عظيمة وبعض إذعان لأن محتملاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن ، ثم
توعدهم بقطع الأيدي والأرجل (مِنْ خِلافٍ) والصلب في جذوع النخل فقالوا له (لا ضَيْرَ) أي لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه.
وروي أنه أنفذ
فيهم ذلك الوعيد وصلبهم على النيل ، قال ابن عباس أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ،
وقولهم (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ) يريدون من القبط وصنيفتهم وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت
، وقرأ الناس «أن كنا» بفتح الألف ، وقرأ أبان بن تغلب «إن» بكسر الألف بمعنى أن
طمعهم إنما هو بهذا الشرط.
قوله عزوجل :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣)
إِنَّ
هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ
لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧)
وَكُنُوزٍ
وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ
مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)
(٦٢)
ثم إن الله عزوجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه
أمر موسى أن يخرج بني إسرائيل ليلا من مصر ، وأخبر أنهم سيتبعون وأمره بالسير تجاه
البحر ، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم وأن يستكثروا من أخذ
أموالهم كيف ما استطاعوا هذا فيما رواه بعض المفسرين ، وأمره باتخاذ خبز الزاد ،
فروي أنه أمر باتخاذه فطيرا لأنه أبقى وأثبت ، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اختمار
خبز الزاد ، وخرج موسى عليهالسلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه
نحو البحر ، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى هكذا
أمرت ، فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم وبعث إلى مدائن
مصر لتلحقه العساكر ، فروي أنه لحقه ومعه
ستمائة ألف أدهم
من الخيل حاشى سائر الألوان ، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا
قاله ابن عباس والله أعلم بصحته ، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليهالسلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك
العدد ، قال ابن عباس كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل ، و «الشرذمة»
الجمع القليل المحتقر ، وشرذمة كل شيء بقيته الخسيسة وأنشد أبو عبيدة : «تخذين في
شراذم النعال».
وقال الآخر : [الرجز]
جاء الشتاء
وقميصي أخلاق
|
|
شراذم يضحك منها
النواق
|
وقوله (لَغائِظُونَ) يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية وتفلتهم منهم
تلك الليلة على ما روي ، قال أبو حاتم ، وقرأ من لا يؤخذ عنه «لشر ذمة قليلون»
وليست هذه موثوقة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «حذرون» وهو جمع حذر وهو المطبوع على
الحذر وهو هاهنا غير عامل ، وكذلك هو في قول أبي أحمر : [السريع]
هل ينسئن يومي
إلى غيره
|
|
أنى حوالى وإني
حذر
|
واختلف في عمل فعل
فقال سيبويه إنه عامل وأنشد : [الكامل]
حذر أمورا لا
تضير وآمن
|
|
ما ليس منجيه من
الأقدار
|
وادعى اللاحقي
تدليس هذا البيت على سيبويه ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «حاذرون» وهو
الذي أخذ يحذر ، وقال عباس بن مرداس : [الوافر]
وإني حاذر أنهي
سلاحي
|
|
إلى أوصال ذيال
صنيع
|
وقرأ ابن أبي
عمارة وسميط بن عجلان «حادرون» بالدال غير منقوطة من قولهم عين حدرة أي معينة
فالمعنى ممتلئون غضبا وأنفة ، والضمير في قوله (فَأَخْرَجْناهُمْ) عائد على القبط ، و «الجنات والعيون» بحالتي النيل في
أسوان إلى رشيد قاله ابن عمر وغيره ، و «الكنوز» قيل هي إشارة إلى الأموال التي
احتجنوها قال مجاهد لأنهم لم ينفقوها قط في طاعة ، وقيل هي إشارة إلى كنوز المعظم
ومطالبه وهي باقية إلى اليوم ، «والمقام الكريم» قال ابن لهيعة هو الفيوم ، وقيل
يعني به المنابر ، وقيل مجالس الأمراء والحكام ، وقال النقاش المساكن الحسان ،
وقرأ الأعرج وقتادة بضم الميم من «مقام» ، وتوريث بني إسرائيل يحتمل مقصدين :
أحدهما أنه تعالى ورثهم هذه الصفة من أرض الشام ، والآخر أنه ورثهم مصر ولكن بعد
مدة طويلة من الدهر قاله الحسن ، على أن التواريخ لم تتضمن ملك بني إسرائيل في مصر
و (مُشْرِقِينَ) ، معناه عند شروق الشمس ، أي حين دخلوا فيه ، وقيل معناه
نحو الشرق ، وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بصلة الألف وشد التاء ، والجمهور على قطع
الألف وسكون التاء ، فلما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل
العدد القوي وراءهم والبحر أمامهم ساءت ظنونهم وقالوا لموسى عليهالسلام على جهة التوبيخ والجفاء (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي هذا رأيك ، فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكر وعد الله له
بالهداية
والظفر ، وقرأ
الجمهور «إنا لمدركون» ، وقرأ الأعرج وابن عمير «إنا لمدرّكون» بفتح الدال وشدّ
الراء ومعناها يتتابع علينا حتى نفنى ، وقرأ حمزة «تريء الجمعان» بكسر الراء بمد
ثم بهمز ، وروي مثله عن عاصم ، وروي أيضا عنه مفتوحا ممدودا ، والجمهور يقرؤونه
مثل تداعى وهذا هو الصواب ، لأنه تفاعل ، قال أبو حاتم وقراءة حمزة في هذا الحرف
محال ، وحمل عليه ، قال وما روي عن الأعمش وابن وثاب خطأ.
قوله عزوجل :
(فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)
وَأَزْلَفْنا
ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ
مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(٦٨)
لما عظم البلاء
على بني إسرائيل أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه ، وذلك لأنه عزوجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله وإلا
فضرب العصا ليس بفالق للبحر ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله
واختراعه ، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل ،
ووقف الماء ساكنا كالجبل العظيم ، وروي عن ابن جريج والسدي وغيرهما أن بني إسرائيل
ظن كل فريق منهم أن الباقي قد غرق ، فأمر الله الماء فصار كالشراجب والطيقان وراء
بعضهم بعضا فتأنسوا (وَأَزْلَفْنا) معناه قربنا ، وقرأ ابن عباس عن أبي بن كعب «وأزلقنا»
بالقاف ونسبها أبو الفتح إلى عبد الله بن الحارث ، وقرأ أبو حيوة والحسن «زلفنا»
بغير ألف وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر وقد دخل بنو إسرائيل قيل إنه صمم ومخرق
، بأن قال لي انفرق ، فدخل على ذلك ، وقيل بل كع وهم بتدبير الانصراف فعرض جبريل
على فرس وديق فمضى وراءه حصان فرعون ، فدخل على نحو هذا وتبعه الناس ، وروي أن
الله تعالى جعل ملائكة تسوق قومه حتى حصولهم في البحر ، ثم إن موسى وقومه خرجوا
إلى البر من تلك الطرق ولما أحسوا باتباع فرعون وقومه فزعوا من أن يخرج وراءهم ،
فهم موسى بخلط البحر فحينئذ قيل له ، اترك البحر رهوا ، ولما تكامل جند فرعون وهو
مقدمهم بالخروج انطبق عليهم البحر وغرقوا ، ودخل موسى عليهالسلام البحر بالطول. وخرج في الضفة التي دخل منها بعد مسافة وكان
بين موضع دخوله وموضع خروجه أوعار وجبال ولا تسلك إلا على تخليق الأيام ، وكان ذلك
في يوم عاشوراء ، وقال النقاش البحر الذي انفلق لموسى نهر النيل بين إيلة ومصر.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا مردود إن شاء الله ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) تنبيه على موضع العبرة ، وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) أي عز في نقمته من الكفار ورحم المؤمنين من كل أمة وقد مضى
كثير مما يلزم من قصة موسى عليهالسلام.
قوله عزوجل :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها
عاكِفِينَ
(٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا
بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
قالَ
أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥)
أَنْتُمْ
وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)
فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ)
(٧٧)
هذه القصة تضمنت
الإعلام بغيب والإيمان بما قطع أن محمدا عليهالسلام لم يكن يعرفه ثم ظهر على لسانه في ذلك ما في الكتب
المتقدمة ، وليست هذه الآية مثالا لقريش إلا في أمر الأصنام فقط لأنه ليس فيها
تكذيب وعذاب ، وقول إبراهيم عليهالسلام (ما تَعْبُدُونَ) استفهام بمعنى التقرير ، والصنم ما كان من الأوثان على
صورة ابن آدم من حجر أو عود أو غير ذلك ، و «نظل» عرفها في فعل للشيء نهارا وبات
عرفها في فعله ليلا ، وطفق عامة للوجهين ، ولكن قد تجيء ظل بمعنى العموم وهذا
الموضع من ذلك ، و «العكوف» اللزوم ، ومنه المعتكف ، ومنه قول الراجز : «عكف
النبيط يلعبون الفنزجا». ثم أخذ إبراهيم عليهالسلام يوقفهم على أشياء يشهد العقل أنها بعيدة من صفات الله ،
وقرأ الجمهور بفتح الياء من «يسمعونكم» ، وقرأ قتادة بضمها من أسمع وبكسر الميم
والمفعول على هذه القراءة محذوف ، وقرأ جماعة من القراء (إِذْ تَدْعُونَ) بإظهار الذال والتاء ، وقرأ الجمهور (إِذْ تَدْعُونَ) بإدغام الذال في التاء بعد القلب ويجوز فيه قياس مذكر ،
ولم يقرأ به وطرد القياس أن يكون اللفظ به «إذ ددعون» والذي منع من هذا اللفظ
اتصال الدال الأصلية بالفعل فكثرت المماثلات ، وقولهم بل (وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ، أقبح وجوه التقليد لأنه على ضلالة وفي أمر بين خلافه
وعظيم قدره ، فلما صرحوا لإبراهيم عليهالسلام عن عدم نظرهم وأنه لا حجة لهم خاطبهم ببراءته من جميع ما
عبد من دون الله وعداوته لذلك وعبر عن بغضته واطراحه لكل معبود سوى الله تعالى
بالعداوة إذ هي تقتضي التغيير ومحو الرسم ، وقيل في الكلام قلب لأن الأصنام لا
تعادي وإنما هو عاداها ، وقوله (إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) قالت فرقة هو استثناء متصل لأن في بغضته الأقدمين من قد
عبد الله ، وقالت فرقة هو استثناء منقطع لأنه إنما أراد عبادة الأوثان من كل قرن
منهم ، ولفظة (عَدُوٌّ) تقع للجميع والمفرد والمؤنث والمذكر.
قوله عزوجل :
(الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي
ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ
لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
وَاجْعَلْنِي
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ)
(٨٧)
أتى إبراهيم عليهالسلام في هذه الأوصاف التي وصف الله عزوجل بها بالصفات التي المتصف بها يستحق الألوهية وهي الأوصاف
الفعلية التي تخص البشر ، ومنها يجب أن يفهم ربه عزوجل وهذا حسن الأدب
في العبارة ،
والكل من عند الله تعالى ، وقوله (يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ) تعديد للنعمة في الرزق ، وقال أبو بكر الوراق في كتاب
الثعلبي يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب ، كما قال النبي عليهالسلام «إني أبيت عند ربي
يطعمني ويسقين ، وأسند إبراهيم المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله عزوجل. وهذا حسن الأدب في العبارة والكل من عند الله تعالى ،
وهذا كقول الخضر عليهالسلام : أن فأردت ها أن عيبها. وقال جعفر الصادق إذا مرضت
بالذنوب شفاني بالتوبة ، وقرأ الجمهور هذه الأفعال «يهدين» بغير ياء ، وقرأ نافع
وابن أبي إسحاق «يهدين» ، وكذلك ما بعده وأوقف عليهالسلام نفسه على الطمع في المغفرة وهذا دليل على شدة خوفه مع
منزلته وخلته ، وقوله (خَطِيئَتِي) ، ذهب فيه أكثر المفسرين إلى أنه أراد كذباته الثلاث ،
قوله هي أختي في شأن سارة ، وقوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] ،
وقوله (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] ،
وقالت فرقة أراد ب «الخطيئة» اسم الجنس فدعا في كل أمره من غير تعيين.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أظهر عندي لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعارض ، وهي
وإن كانت كذبات بحكم قول النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، وبحكم ما في حديث
الشفاعة من قوله في شأن إبراهيم نفسي نفسي فهي في مصالح وعون شرع وحق ، وقرأ
الجمهور «خطيئتي» بالإفراد ، وقرأ الحسن «خطاياي» بالجمع ، و «الحكم» الذي دعا فيه
إبراهيم هو الحكمة والنبوة ، ودعاء إبراهيم في مثل هذا هو في معنى التثبيت
والدوام. و «لسان الصدق» في الآخرين هو الثناء وخلد المكانة بإجماع من المفسرين ،
وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل ملة تتمسك به وتعظيمه وهو على الحنيفية التي جاء بها
محمد صلىاللهعليهوسلم ، قال مكي وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان
من يقوم بالحق فأجيبت الدعوة في محمد صلىاللهعليهوسلم.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ ، واستغفاره
لأبيه في هذه الآية هو قبل أن تبين له بموته على الكفر أنه عدو لله ، أي محتوم
عليه وهو عن الموعدة المذكورة في غير هذه الآية ، وفي قراءة أبي بن كعب «واغفر لي
ولأبوي إنهما كانا من الضالين».
قوله عزوجل :
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ
هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها
هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
أَجْمَعُونَ)
(٩٥)
(يَوْمَ) بدل من الأولى في قوله (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧]
والمعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها فقصد من ذلك العظم والأكثر لأن المال
والبنين هي زينة الحياة الدنيا ، وقوله (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) معناه خالص من الشرك والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن
كانت مباحة كالمال والبنين ، قال سفيان هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا يقتضي عموم اللفظة ، ولكن السليم من الشرك هو الأهم ، وقال الجنيد
بقلب لديغ من خشية
الله والسليم اللديغ ، (وَأُزْلِفَتِ) معناه قربت ، و «الغاوون» التي برزت لهم الجحيم هم
المشركون بدلالة أنهم خوطبوا في أمر الأصنام ، والقول لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) هو على جهة
التقريع والتوبيخ والتوقيف على عدم نصرتهم نحوه ، وقرأ الأعمش «فبرزت» بالفاء
والجمهور بالواو ، وقرأ مالك بن دينار «وبرزت» بفتح الراء والزاي ورفع «الجحيم» ،
ثم أخبر عن حال يوم القيامة من أن الأصنام تكبكب في النار أي تلقى كبة واحدة ووصل
بها ضمير من يعقل من حيث ذكرت بعبادة ، وكانت يسند إليها فعل من يعقل ، وقيل
الضمير في قوله «هم» للكفار ، و (الْغاوُونَ) الشياطين ، و «كبكب» مضاعف من كب هذا قول الجمهور وهو
الصحيح لأن معناها واحد ، والتضعيف في الفعل بين مثل صر وصرصر وغير ذلك ، و (الْغاوُونَ) الكفرة الذين شملتهم الغواية ، و (جُنُودُ إِبْلِيسَ) نسله وكل من يتبعه لأنهم جند له وأعوان.
قوله عزوجل :
(قالُوا وَهُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا
إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
(١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٠٤)
ثم وصف تعالى أن
أهل النار (يَخْتَصِمُونَ) فيها ويتلاومون ويأخذون في شأنهم بجدال ، ومن جملة قولهم
لأصنامهم على جهة الإقرار وقول الحق قسم (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى الذي
هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم ، ثم عطفوا يردون الملامة على غيرهم أي ما أضلنا
إلا كبراؤنا وأهل الجرم والجرأة والمكانة ، ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين
رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان عموما ، وشفاعة
الصديق في صديقه خاصة (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) وفي هذه اللفظة منبهة على محل الصديق من المرء ، قال ابن
جريج (شافِعِينَ) من الملائكة و (صَدِيقٍ) من الناس.
قال القاضي أبو
محمد : ولفظة «الشفيع» تقتضي رفعة مكانه ، ولفظ «الصديق» يقتضي شدة مساهمة ونصرة ،
وهو فعيل من صدق الود ، و «الحميم» الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك وحامة
الرجل خاصته وباقي الآية بين قد مضى.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه الآيات من قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨] هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليهالسلام وهي إخبار من الله عزوجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليهالسلام عنده في دعائه أن لا يخزى فيه.
قوله عزوجل :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦)
إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧)
فَاتَّقُوا
اللهَ
وَأَطِيعُونِ
(١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
قالَ
وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢)
إِنْ
حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
فَأَنْجَيْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ
أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٢٢)
أسند (كَذَّبَتْ) إلى «القوم» وفيه علامة التأنيث من حيث القوم في معنى
الأمة والجماعة ، وقوله (الْمُرْسَلِينَ) من حيث من كذب نبيا واحدا ، كذب جميع الأنبياء إذ قولهم
واحد ودعوتهم سواء ، وقوله (أَخُوهُمْ) يريد في النسب والمنشأ لا في الدين ، و (أَمِينٌ) معناه على وحي الله ورسالته ، وقرأ ابن كثير وعاصم «أجري»
ساكنة الياء ، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بفتح الياء في كل القرآن ، ثم رد عليهم
الأمر بالتقوى والدعاء إلى طاعته تحذيرا ونذارة وحرصا عليهم فذهب أشرافهم إلى
استنقاص أتباعه بسبب صغار الناس الذين اتبعوه وضعفائهم ، وهذا كفعل قريش في شأن
عمار بن ياسر وصهيب وغيرهما ، وقال بعض الناس (الْأَرْذَلُونَ) الحاكة ، والحجامون والأساكفة ، وفي هذا عندي على جهة
المثال أي أهل الصنائع الخسيسة لا أن هذه الصنائع المذكورة خصت بهذا ، و (الْأَرْذَلُونَ) جمع الأرذل ولا يستعمل إلا معرفا أو مضافا أو ب «من».
قال القاضي أبو
محمد : ويظهر من الآية أن مراد «قوم نوح» بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين
أفعالهم لا النظر في صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح (ما عِلْمِي) الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري وعلمي بأعمالهم
ومعتقداتهم فائدة إنما أقنع بظاهرهم وأجتزئ به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا
نحو قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أمرت أن أقاتل
الناس» الحديث بجملته ، وقرأ جمهور الناس «واتبعك» على الفعل الماضي ، وقرأ ابن
السميفع اليماني وسعيد بن أسعد الأنصاري «وأتباعك» على الجمع ، ونسبها أبو الفتح
إلى ابن مسعود والضحاك وطلحة ، قال أبو عمرو وهي قراءة ابن عباس والأعمش وأبي حيوة
، وقرأ عيسى بن عمر الهمذاني «لو يشعرون» بالياء من تحت ، وإعراب قوله «وأتباعك»
إما جملة في موضع الحال وإما عطف على الضمير المرفوع وحسن لك الفصل بقوله (لَكَ) ، وقولهم (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ، يحتمل أن يريدوا بالحجارة ، ويحتمل أن يريدوا بالقول
والشتم ونحوه ، وهو شبيه برجم الحجارة ، وهو من الرجم بالغيب والظن ونحو ذلك ،
وقوله «افتح» معناه احكم ، والفتاح القاضي بلغة يمنية ، و (الْفُلْكِ) السفينة وجمعها فلك أيضا ، وقد تقدم بسط القول في هذا
الجمع في سورة الأعراف ، و (الْمَشْحُونِ) معناه المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، وباقي الآية
بين.
قوله عزوجل :
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ
مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
وَإِذا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ
عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٤٠)
(عادٌ) قبيلة ، وانصرف للخفية ، وقيل هو اسم أبيهم وخاطبهم «هود» عليهالسلام بمثل مخاطبة سائر الرسل ، ثم كلمهم فيما انفردوا به من
الأفعال التي اقتضتها أحوالهم فقال (أَتَبْنُونَ) على جهة التوبيخ ، «والريع» المرتفع من الأرض ، ومنه قول
المسيب ابن عباس يصف ظعنا : [الكامل]
في الآل يخفضها
ويرفعها
|
|
ريع يلوح كأنّه
سحل
|
والسحل الثوب
الأبيض ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]
طراق الخوافي
مشرق فوق ريعة
|
|
ندى ليله في
ريشه يترقرق
|
ومنه قول الأعشى :
[المتقارب]
وبهماء قفر
تجاوزتها
|
|
إذا خب في ريعها
آلها
|
ويقال «ريع» بكسر
الراء ويقال «ريع» بفتحها ، وبها قرأ ابن أبي عبلة وعبر بعض المفسرين عن الريع
بالطريق وبعضهم بالفج وبعضهم بالثنية الصغيرة.
قال القاضي أبو
محمد : وجملة ذلك أنه المكان المشرف وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه ، و «الآية»
، البنيان ، قال ابن عباس آية علم ، قال مجاهد أبراج الحمام ، قال النقاش وغيره
القصور الطوال ، و «المصانع» جمع مصنع وهو ما صنع وأتقن في بنائه من قصر مشيد
ونحوه ، قال قتادة هي ما خد للماء ، وقوله (لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) إما أن يريد على أملكم ورجائكم ، وإما أن يريد الاستفهام
على معنى التوبيخ والهزء بهم ، وقرأ الجمهور «تخلدون» بفتح التاء وضم اللام ، وقرأ
قتادة «تخلدون» بضم التاء وفتح اللام يقال خلد الشيء وأخلده غيره وقرأ أبي وعلقمة «لعلكم
تخلّدون» بضم التاء وفتح الخاء وفتح اللام وشدّها ، وروي عن أبي ، «كأنكم تخلدون»
وروي عن ابن مسعود «كي تخلدون» ، و «البطش» الأخذ بسرعة وقوة ، و «الجبار» المتكبر
، ومنه قولهم نخلة جبارة إذا كانت لا تدرك علوا.
ومنه قوله عليهالسلام في المرأة التي أبت أن تتنحى عن طريقه «إنها جبارة» ، ومنه
الجبروت فالمعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة ، والبوادر من غير تثبت ،
ثم ذكرهم عليهالسلام بأيادي الله قبلهم فيما منحهم من الأنعام والذرية والجنات
والمياه المطردة فيها ، ثم خوفهم عذاب الله تعالى في الدنيا فكانت مراجعتهم أن
سووا بين وعظه وتركه الوعظ ، وقرأ ابن محيصن «أوعت» بإدغام الظاء في التاء ، ثم
قالوا (إِنْ هذا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ، واختلفت القراءة في ذلك ، فقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن
عامر «خلق» بضم اللام فالإشارة بهذا إلى دينهم وعبادتهم وتخرقهم في المصانع ، أي
هذا الذي نحن عليه خلق الناس وعادتهم وما بعد ذلك بعث ولا تعذيب كما تزعم أنت ،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو قلابة «خلق الأولين» بضم الخاء وسكون اللام
ورواها الأصمعي عن نافع ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو «وخلق الأولين» بفتح الخاء
وسكون اللام وهي قراءة ابن مسعود وعلقمة والحسن ، وهذا يحتمل وجهين : أحدهما وما
هذا الذي تزعمه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك وكذبهم فأنت على منهاجهم ،
والثاني أن يريدوا وما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون
حياة وموت وما ثم بعث ولا تعذيب ، وكل معنى مما ذكرته تحتمله كل قراءة ، وروى
علقمة عن ابن مسعود «إلا اختلاق الأولين» وباقي الآية قد مضى تفسيره.
قوله عزوجل :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي
ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ
طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩)
فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
قالُوا
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ
(١٥٣) ما
أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
قالَ
هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٥٩)
(ثَمُودُ) قبيلة عربية وتصرف على مقصد الحي أو القبيلة ، وقرأ
بالوجهين ، الجمهور بغير صرف وابن وثاب وغيره بالصرف ، و (صالِحٌ) أخوهم في النسب والأنبياء من العرب أربعة هود وصالح وشعيب
ومحمد عليهمالسلام ، وإسماعيل عليهالسلام عربي اللسان سرياني النسب وهو أبو العرب الموجودين اليوم ،
وقوله (أَتُتْرَكُونَ فِي ما
هاهُنا) تخويف لهم بمعنى أتطمعون أن تقروا في النعم على معاصيكم ، و
«الهضيم» معناه اللين الرطب و «الطلع» الكفرى وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم
في أول نباته فكأن الإشارة إلى أن طلعها يثمر ويرطب ، قال ابن عباس إذا أينع وبلغ
فهو (هَضِيمٌ) وقال الزهري
«الهضيم» الرخص
اللطيف أول ما يخرج ، وقال الزجاج هو فيما قيل الذي رطبه بغير نوى ، وقال الضحاك «الهضيم»
معناه المنضد بعضه على بعض.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف ، وقرأ الجمهور «تنحتون» بكسر الحاء ، وقرأ عيسى بفتحها ، وذكر
أنها لغة قال أبو عمرو وهي قراءة الحسن وأبي حيوة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن
عامر «فارهين» وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين»
، وقرأ مجاهد «متفرهين» على وزن متفعلين ، واللفظة مأخوذة من الفراهة وهي جودة
منظر الشيء وخبرته وقوته وكماله في نوعه فمعنى الآية كيسين متهممين قاله ابن عباس
، وقال مجاهد شرهين. وقال ابن زيد أقوياء وقال أبو عمرو بن العلاء آشرين بطرين ،
وذهب عبد الله بن شداد إلى أنه بمعنى مستفرهين أي مبالغين في استجادة الفاره من كل
ما تصنعونه وتشتهونه ، وقوله (وَلا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) خاطب به جمهور قومه وعنى ، ب (الْمُسْرِفِينَ) كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم ، وقولهم (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) فيه تأويلان : أحدهما مأخوذ من السّحر بكسر السين أي قد
سحرت فأنت لذلك مخبول لا تنطق بقويم ، والثاني أنه مأخوذ من السّحر بفتح السين وهي
الرئة وبسببها يقال انفتح سحره. وقيل السحر قصبة الرئة بما يتعلق بها من كبد وغيره
، أي أنت ابن آدم لا يصح أن تكون رسولا عن الله ، وما بعده في الآية يقوي هذا
التأويل ومن اللفظة قول لبيد : [الطويل]
فإن تسألينا فيم
نحن فإننا
|
|
عصافير من هذا
الأنام المسحر
|
ويقال للاغتداء
التسحير ومنه قول امرئ القيس :
«ونسحر بالطعام وبالشراب»
ثم اقترحوا عليه «آية»
وروي أنهم اقترحوا خروج ناقة من جبل من جبالهم ، وقصتها في هذه الآية وجيزة وقد
مضت مستوعبة ، فلما خرجت الناقة (قالَ) لهم (هذِهِ ناقَةٌ لَها
شِرْبٌ) ، وهو الحظ من الماء ، وقرأ ابن أبي عبلة «لها شرب ولكم
شرب» بضم الشين فيهما ، وقد تقدم قصص ورود الناقة ، و «السوء» عقرها ، وتوعدهم
عليه بعذاب ظاهر أمره أنه أراد في الدنيا وكذلك استمر الوجود ، ونسب «عقرها» إلى
جميعهم مع اختصاص قدار الأحمر بعقرها من حيث اتفقوا على ذلك رأيا وتدبيرا ، وقوله (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) لما ظهر لهم تغيير ألوانهم حسبما كان صالح أخبرهم ندموا ،
ورأوا أن الأمر على ما أخبر به حتى نزل بهم العذاب ، وكانت صيحة خمدت لها أبدانهم
وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصبت عليهم حجارة خلال ذلك.
قوله عزوجل :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما
خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ
لَتَكُونَنَّ
مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ(١٦٩) فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٧٥)
قال النقاش إن في
مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة «إذ قال لهم لوط» وسقط «أخوهم» ، واختصرت الياء في الخط
واللفظ من قوله (وَأَطِيعُونِ) مراعاة لرؤوس الآي أن تتناسب ، ثم وقفهم على معصيتهم
البشعة في إتيان (الذُّكْرانَ) وترك فروج الأزواج والمعنى ويذر ذلك العاصي في حين معصيته
لا أن معناه تركوا النساء جملة ، وفي قراءة ابن مسعود «ما أصلح لكم ربكم» و (عادُونَ) ، معناه ظالمون مرتكبون للحظر. فتوعدوه بالإخراج من أرضه
وداره فلا يتهم عند ذلك واقتصر على الإخبار بأنه قال لعملهم ، و «القلى» بغض الشيء
وتركه ، ثم دعا في النجاة فنجاه الله بأن أمره بالرحلة ليلا ، وكانت امرأته كافرة
تعين عليه قومه فأصابها حجر فهلكت فيمن هلك ، وقوله (فِي الْغابِرِينَ) معناه في الباقين ، فإما أن يريد في الباقين من لداتها
وأهل سنها وهذا تأويل أبي عبيدة ، وإما أن يريد في الباقين في العذاب النازل بهم
وهذا تأويل قتادة ، والمشهور في غبرانها بمعنى بقي ، وغابر الزمان مستقبله ، ولكن
الأعشى قد استعمل غابر الزمان بمعنى ماضيه في شعر المنافرة المشهور ، وقال
الزهراوي يقال للذاهب غابر وللباقي غابر ، و «التدمير» الإهلاك بإمطار الحجارة
وبذلك جرت السنين في رجم اللوطي وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦)
إِذْ
قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ
وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
وَاتَّقُوا
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
قالُوا
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما
أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦)
فَأَسْقِطْ
عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي
أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)
فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(١٩١)
قال النقاش في
مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة «إذ قال لهم أخوهم شعيب» ، قالوا ولا وجه لمراعاة النسب
وإنما هو أخوهم من حيث هو رسولهم وآدمي مثلهم ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر أصحاب
ليكة» على وزن فعلة هنا وفي ص ، وقرأ الباقون «الأيكة» وهي الدوحة الملتفة من
الشجر على الإطلاق ، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفه الحمام والقماري ونحوها ،
وقال قتادة كان شجرهم هذا دوما ، و «ليكة» اسم
البلد في قراءة
ذلك قاله بعض المفسرين ، ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام ، وذهب قوم إلى أنها مسهلة
من «الأيكة» وأنها وقعت في المصحف هنا وفي سورة ص بغير ألف ، وقال أبو علي سقوط
ذلك من المصحف لا يرجح النطق بها هكذا ، لأن المصحف اتبع فيه تسهيل اللفظ ، فكما
سقطت الألف من اللفظ سقطت من الخط نحو سقوط الواو من قوله (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ،
لما سقطت من اللفظ ، وأما ترجيح القراءة في «ليكة» بفتح التاء في موضع الجر فلا
يقتضيه ما في المصحف وهي قراءة ضعيفة ، ويدل على ضعفها أن سائر القرآن غير هذين
الموضعين مجمع فيه على «الأيكة» بالهمز والألف والخفض ، وكانت مدن القوم سبعة فيما
روي ولم يكن شعيب منهم ، فلذلك لم يذكر هنا بأنه أخ لهم وإنما كان من بني مدين
ولذلك ذكر بأخوتهم ، وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة
بعينها إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحدا بعينه ، وفي قولهم عليهمالسلام (أَلا تَتَّقُونَ) عرض رقيق وتلطف كما قال تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨].
وكانت معصيتهم المضافة إلى كفرهم بخس الموازين وتنقص أموال الناس بذلك ، و «القسطاس»
المعتدل من الموازين وهو بناء مبالغة من القسط ، وذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن معنى
قوله (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ) عدلوا أموركم بميزان العدل الذي جعله الله لعباده ، وقرأ
الجمهور «بالقسطاس» بضم القاف من «القسطاس» ، وقرأ عيسى وأهل الكوفة بكسرها ، و (تَعْثَوْا) معناه تفسدون يقال عثا إذا أفسد ، و (الْجِبِلَّةَ) القرون ، والخليقة الماضية وقال الشاعر [الكامل]
والموت أعظم
حادث
|
|
مما يمر على
الجبلّه
|
وقرأ جمهور الناس «والجبلة»
بكسر الجيم والباء ، وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف «والجبلة» بضمها ، و «الكسف»
القطع واحدها كسفة كتمرة وتمر ، و (يَوْمِ الظُّلَّةِ) هو يوم عذابهم وصورته فيما روي أن الله امتحنهم بحر شديد ،
فلما كان في ذلك اليوم غشي بعض قطرهم سحاب فجاء بعضهم إلى ظله فأحس فيه بردا وروحا
فتداعوا إليه ، حتى تكاملوا فيه فاضطرمت عليهم تلك السحابة نارا فأحرقتهم من عند
آخرهم ، وللناس في حديث (يَوْمِ الظُّلَّةِ) تطويلات لا تثبت ، والحق أنه عذاب جعله الله ظلة عليهم ،
وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب ، وباقي الآية
بين.
قوله عزوجل :
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ
عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)
(١٩٩)
الضمير في (إِنَّهُ) للقرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر وإنما هو من عند الله
تعالى ، و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) ، جبريل عليهالسلام بإجماع ، ونزل باللفظ العربي والمعاني الثابتة في الصدور
والمصاحف ، وعلى ذلك كله يعود الضمير في (بِهِ) و «اللسان» ،
عبارة عن اللغة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم
في رواية حفص «نزل»
خفيفة الزاي «الروح» رفع ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بشد
الزاي «الروح» نصبا ورجحها أبو حاتم بقوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلى قَلْبِكَ) [البقرة : ٩٧]. وبقوله (لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ). وقوله ، (بِهِ) في موضع الحال كقوله تعالى : (وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : ٦١] ،
وقوله : (عَلى قَلْبِكَ) إشارة إلى حفظه إياه ، وعلل النزول على قلبه بكونه (مِنَ الْمُنْذِرِينَ) لأنه لا يمكن أن ينذر به إلا بعد حفظه ، وقوله : (بِلِسانٍ) يمكن أن تتعلق الباء ب (نَزَلَ بِهِ) وهذا على أن النبي صلىاللهعليهوسلم إنما كان يسمع من جبريل حروفا عربية وهو القول الصحيح ،
وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه ، ويمكن أن
يتعلق بقوله (لِتَكُونَ) وتمسك بهذا من رأى أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يسمع مثل صلصلة الجرس يتفهم له منه القرآن.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول ضعيف مقتضاه أن بعض ألفاظ القرآن من لدن النبي عليهالسلام وهذا مردود ، وقوله (وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ، أي في كتبهم يريد القرآن أنه مذكور في الكتب المنزلة
القديمة منبه عليه مشار إليه ، وقرأ الجمهور «زبر» بضم الباء ، وقرأ الأعمش
بسكونها ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره كون علماء بني إسرائيل
يعلمونه كعبد الله بن سلام ونحوه قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال ابن عباس أيضا فيما
حكى عنه الثعلبي أن أهل مكة بعثوا إلى الأحبار بيثرب يسألونهم عن النبي عليهالسلام فقالوا هذا زمانه ووصفوا نعته ثم خلطوا في أمر محمد عليهالسلام فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو
محمد : ويؤيد هذا كون الآية مكية ، وقال مقاتل هذه الآية مدنية ، فمن قال إنها
مكية ذهب إلى أن علماء بني إسرائيل ذكروا في التوراة صفة النبي الأمي فهذه الإشارة
إلى ذلك وكلهم قرأ (يَكُنْ) بالياء (آيَةً) نصبا غير ابن عامر فإنه قرأ «تكن» بالتاء من فوق «آية»
رفعا وهي قراءة عاصم الجحدري ، وقرأ جمهور الناس «أن يعلمه» بالياء من تحت ، وقرأ
الجحدري «تعلمه» بالتاء من فوق ، ثم سلى محمدا صلىاللهعليهوسلم عن صدود قومه عن الشرع بأن أخبر أن هذا القرآن العربي لو
سمعوه من أعجمي أي من حيوان غير ناطق أو من جماد ، و «الأعجم» كل ما لا يفصح ، ما
كانوا يؤمنون أي قد ختم الكفر عليهم فلا سبيل إلى إيمانهم ، والأعجمون جمع أعجم
وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له أعجم ، وكذلك يقال للحيوانات
والجمادات ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «جرح العجماء جبار»
، وأسند الطبري عن عبد الله بن مطيع أنه قال حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة :
جملي هذا أعجم فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون ، والعجمي هو الذي نسبه في العجم وإن
كان أفصح الناس ، وقرأ الحسن «الأعجميين». قال أبو حاتم أراد جمع الأعجمي المنسوب
، وقال بعض النحويين «الأعجمون» جمع أعجم أضيف فقويت بالإضافة رتبته في الأسماء
فجمع وليس بأعجمي النسبة إلى العجم ، وقرأ جمهور الناس «أو لم يكن» بالياء «لهم
آية» بالنصب ، وقرأ «أو ليس لم يكن آية» ابن مسعود ، والأعمش ، وفي مصحف أبي «أليس»
بغير واو ، وقرأت فرقة «تكن» بالتاء من فوق «آية» رفعا ، وقرأ بعض من قرأ بالياء «آية»
بالنصب وسائرهم بالرفع ، وقد مضى ذكرها في السبع وذكر الطبري أن الضمير في قوله (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ) عائد على الذكر في قوله (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ) [الأنبياء : ٢].
قوله عزوجل :
(كَذلِكَ سَلَكْناهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
(٢٠٠) لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما
كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا
ظالِمِينَ)
(٢٠٩)
الإشارة بذلك إلى
ما يتحصل لسامع الآية المتقدمة من الحتم عليهم بأنهم لا يؤمنون وهي قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ) [الشعراء : ١٩٨] ،
و (سَلَكْناهُ) معناه أدخلناه ، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٩٨]
قاله الحسن. قال الرماني لا وجه لهذا لأنه لم يجر ذكره وإنما الضمير للقرآن
وإحضاره بالبال ، وحكى الزهراوي أن الضمير للتكذيب المفهوم وحكاه الثعلبي ، وقرأ
ابن مسعود «كذلك جعلناه في قلوب» ، وروي عنه «نجعله» ، و «المجرمون» أراد بهم
مجرمي كل أمة ، أي إن هذه عادة الله تعالى فيهم ، أنهم لا يؤمنون (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم وهذا على جهة
المثال لقريش أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب ما تضمنته هذه الآية يوم بدر ، وقرأ
الجمهور «فيأتيهم» بالياء أي العذاب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فتأتيهم» بالتاء
من فوق يعني الساعة ، وفي قراءة أبي بن كعب «فيروه بغتة» ومن قول كل أمة معذبة (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي مؤخرون ، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع
الرغبة ، ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله تعالى في طلبهم
سقوط السماء كسفا وغير ذلك وقولهم لمحمد صلىاللهعليهوسلم أين ما تعدنا أي إنه لا ينبغي لهم ذلك لأن عذابنا بالمرصاد
إذا حان أجله ، ثم خاطب محمدا صلىاللهعليهوسلم بإقامة الحجة عليهم في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء
لا تغني مع نزول العذاب بعدها ووقوع النقمة ، وذلك في قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ) الآية ، قال عكرمة (سِنِينَ) يريد عمر الدنيا ، ولأبي جعفر المنصور ، قصة في هذه الآية
، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله عزوجل (ذِكْرى) لهم وتبصرة وإقامة حجة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل ، و (ذِكْرى) عند الكسائي نصب على الحال ، ويصح أن يكون في موضع نصب على
المصدر ، وهو قول الزجاج ، ويصح أن يكون في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره ذلك
ذكرى ، ثم نفى عن جهته عزوجل الظلم إذ هو مما لا يليق به.
قوله عزوجل :
(وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ
لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ
فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)
(٢١٦)
لما كان بعض ما
قال الكفار إن هذا القرآن كهانة نزلت هذه الآية مكذبة لذلك أي (ما تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشَّياطِينُ) لأنها قد عزلت عن السمع الذي كانت تأخذ له مقاعدها ، وقوله
(وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ) أي ما يمكنهم ، وقد تجيء هذه اللفظة عبارة عما لا يمكن
وعبارة عما لا يليق وإن كان ممكنا ، ولما جاء الله بالإسلام حرس السماء بالشهب
الجارية إثر الشياطين فلم يخلص شيطان بشيء يلقيه كما كان يتفق لهم في الجاهلية ،
وقرأ الجمهور «الشياطين» ، وروي عن الحسن أنه قرأ «الشياطون» وهي قراءة مردودة ،
قال أبو حاتم هي غلط منه أو عليه وحكاها الثعلبي أيضا عن ابن السميفع ، وذكر عن
يونس بن حبيب أنه قال سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون قال يونس
فقلت ما أشبه هذه بقراءة الحسن ، ثم وصى عزوجل نبيه عليهالسلام بالثبوت على توحيد الله تعالى وأمره بنذارة عشيرته تخصيصا لهم
إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية. وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا
يحتمله غيرهم فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته.
وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم ، وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من
غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد
، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر عليا رضي الله عنه بأن
يصنع طعاما وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر
منه عليهالسلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلا ينقصون
رجلا أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم
ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة
ابنته وقال لهم : «لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد» في
حديث مشهور ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف وا
صباحاه» فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى ، على بطون قريش
جميعا ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن. قال لهم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح
هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي» قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذبا ،
فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد» ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا
لك سائر اليوم فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) [المسد : ١]
السورة ، و «العشيرة» قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض
الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر ، والضمير في (عَصَوْكَ) عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالا فأمره الله بالتبري
منهم وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف.
قوله عزوجل :
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)
يُلْقُونَ
السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ
فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)
(٢٢٦)
قرأ نافع وابن
عامر وأبو جعفر وشيبة «فتوكل» بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام ،
والجمهور بالواو
وكذلك في سائر المصاحف ، وأمره الله تعالى بالتوكل عليه في كل أمره ، ثم جاء
بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة المذكورتان في أواخر قصص الأمم
المذكورة في هذه السورة ، وضمنها نصر كل نبي على الكفرة والتهمم بأمره والنظر إليه
، وقوله (الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ) ، (يَراكَ) عبارة عن الإدراك ، وظاهر الآية أراد قيام الصلاة ، ويحتمل
أن يريد سائر التصرفات وهو تأويل مجاهد وقتادة ، وقوله (فِي السَّاجِدِينَ) قيل يريد أهل الصلاة أي صلاتك مع المصلين ، قاله ابن عباس
وعكرمة وغيرهما ، وقال أيضا مجاهد يريد تقلبك أي تقليبك عينك وأبصارك الساجدين حين
تراهم من وراء ظهرك.
قال القاضي أبو محمد
: وهذا معنى أجنبي هنا ، وقال ابن عباس أيضا وقتادة أراد تقلبك في المؤمنين فعبر
عنهم ب (السَّاجِدِينَ) ، وقال ابن جبير أراد الأنبياء أي تقلبك كما تقلب غيرك من
الأنبياء ، وقوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) معناه قل لهم يا محمد هل أخبركم (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) وهذا استفهام توقيف وتقرير ، و «الأفاك» الكذاب ، و «الأثيم»
الآثم. ويريد الكهنة لأنهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من
السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة ، فإذا صدقت تلك الكلمة كانت سبب ضلالة لمن سمعها
، وقوله (يُلْقُونَ) يعني الشياطين ،
ويقتضي ذلك أن الشيطان المسترق أيضا كان يكذب إلى ما سمع هذا في الأكثر ، ويحتمل
الضمير في (يُلْقُونَ) أي يكون للكهنة فإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن
كلام كتاب الله عقب ذلك بذكر (الشُّعَراءُ) وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن ، إذ قال في
القرآن بعض الكفرة إنه شعر ، وهذه الكناية هي عن شعراء الجاهلية ، حكى النقاش عن
السدي أنها في ابن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ومسافع الجمحي
وأبي عزة وأمية بن أبي الصلت.
قال القاضي أبو
محمد : والأولان ممن تاب رضي الله عنهما ، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح
شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور ، وقرأ نافع «يتبعهم» بسكون التاء وهي قراءة أبي
عبد الرحمن والحسن بخلاف عنه ، وقرأ الباقون بشد التاء وكسر الباء ، واختلف الناس
في قوله (الْغاوُونَ) ، فقال ابن عباس هم الرواة وقال ابن عباس أيضا هم
المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم ، وقال عكرمة هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر
ويتغنمون إنشاده وهذا أرجح الأقوال ، وقال مجاهد وقتادة (الْغاوُونَ) الشياطين ، وقوله (فِي كُلِّ وادٍ
يَهِيمُونَ) عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله
وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن قاله ابن عباس وغيره ، وقوله ، (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا
يَفْعَلُونَ) ، ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب
، وفي هذا اللفظ عذر لبعضهم أحيانا فإنه يروى أن النعمان بن عدي لما ولاه عمر بن
الخطاب ميسان وقال لزوجته الشعر المشهور عزله عمر فاحتج عليه بقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا
يَفْعَلُونَ) فدرأ عنه عمر الحد في الخمر ، وروى جابر ابن عبد الله عن
النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال من مشى سبع خطوات في شعر كتب من الغاوين ذكره أسد
بن موسى وذكره النقاش.
قوله عزوجل :
(إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ)
(٢٢٧)
هذا الاستثناء هو
في شعراء الإسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكل من اتصف بهذه
الصفة ، ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أن هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل في الشعراء
وذكروا ذلك للنبي عليهالسلام فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وقوله (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) يحتمل أن يريد في أشعارهم وهو تأويل ابن زيد ، ويحتمل أن
يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة قاله ابن عباس ، وهذا كما قال لبيد حين طلب منه
شعره إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه وكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح من
غير حق ولا يرتدع عن قول دنيء فهم داخلون في هذه الآية وكل تقي منهم يكثر من الزهد
ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في الاستثناء ، وقوله (وَانْتَصَرُوا) إشارة إلى ما قاله من الشعر علي وغيره في قريش قال قتادة
وفي بعض القراءة ، «وانتصروا بمثل ما ظلموا» ، وباقي الآية وعيد للظلمة كفار مكة
وتهديد لهم ، وعمل (يَنْقَلِبُونَ) في (أَيَ) لتأخيره.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النّمل
هذه السورة مكية.
قوله عزوجل :
(طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
إِنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ
يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)
(٥)
تقدم القول في
الحروف المقطعة في أوائل السور ، وكل الأقوال مترتب هاهنا ، وعلى القول بأنها حروف
من أسماء الله تعالى فالأسماء هنا لطيف وسميع وكونها إشارة إلى نوع حروف المعجم
أبين الأقوال ، وعطف «الكتاب» على (الْقُرْآنِ) وهما لمسمى واحد من حيث هما صفتان لمعنيين ، فالقرآن لأنه
اجتمع والكتاب لأنه يكتب ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» بالرفع ، وقوله (هُدىً وَبُشْرى) يحتمل أن يكون في موضع نصب على المصدر ، ويحتمل أن يكون في
موضع رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك (هُدىً وَبُشْرى). ثم وصف تعالى المؤمنين بالأوصاف الخليقة بهم ، وإقامة
الصلاة إدامتها وأداؤها على وجهها ، و (الزَّكاةَ) هنا يحتمل أن ـ تكون غير المفروضة لأن السورة مكية قديمة ،
ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير ، وقيل (الزَّكاةَ) هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق ،
وتكرار الضمير في قوله (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ) للتأكيد ، ثم ذكر تعالى الكفرة (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالبعث ، والإشارة إلى قريش ، وقوله (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) يحتمل أن يريد أنه تعالى جعل عقابهم على كفرهم أن حتم
عليهم الكفر وحبب إليهم الشرك ، وزينه بإن خلقه واخترعه في نفوسهم ، ومع ذلك
اكتسابهم وحرصهم ، وهذا على أن تكون الأعمال المزينة كفرهم وطغيانهم ويحتمل أن
الأعمال المزينة هي الشريعة التي كان الواجب أن تكون أعمالهم ، فأخبر الله تعالى
على جهة الذكر لنقصهم أنه بفضله ونعمته زين الدين وبينه ، ورسم الأعمال والتوحيد
لكن هؤلاء (يَعْمَهُونَ) ، ويعرضون ، والعمه الحيرة والتردد في الضلال ، ثم توعدهم
تعالى ب (سُوءُ الْعَذابِ) ، فمن ناله شيء في الدنيا بقي عليه عذاب الآخرة.
ومن لم ينله عذاب
الدنيا كان سوء عذابه في موته وفيما بعده ، و (الْأَخْسَرُونَ) جمع أخسري لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف فتقوى رتبته
في الأسماء.
قوله عزوجل :
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
إِذْ
قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ
آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
(٧) فَلَمَّا
جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ
أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(٩)
«تلقى» تفعل مضاعف
لقي يلقى ومعناه تعطى ، كما قال (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : ٣٥] قال
الحسن المعنى أنك لتقبل القرآن.
قال القاضي أبو
محمد : ولا شك أنه يفيض عليه فضل الله ويعتمد به فيقلبه صلىاللهعليهوسلم ، وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم إن القرآن من
تلقاء محمد صلىاللهعليهوسلم بن عبد الله ، و (مِنْ لَدُنْ) ، معناه من عنده ومن جهته ، و «الحكيم» ذو الحكمة في
معرفته ، حيث يجعل رسالاته وفي غير ذلك لا إله إلا هو ، ثم قص تعالى خبر موسى ،
والتقدير اذكر (إِذْ قالَ مُوسى) وكان من أمر موسى عليهالسلام أنه حين خرج بزوجه بنت شعيب عليهالسلام يريد مصر وقد قرب وقت نبوته مشوا في ليلة ظلماء ذات برد
ومطر ففقدوا النار ومسهم البرد واشتدت عليهم الظلمة وضلوا الطريق وأصلد زناد موسى عليهالسلام ، فبينما هو في هذه الحالة إذ رأى نارا على بعد ، و (آنَسْتُ) معناه رأيت ، ومنه قول حسان بن ثابت : [المنسرح]
انظر خليلي بباب
جلّق هل تؤنس
|
|
دون البلقاء من
أحد
|
فلما رأى موسى ذلك
قال لأهله ما في الآية.
ومشى نحوها فلما
دنا منها رأى النار في شجرة سمر خضراء وهي لا تحرقها ، وكلما قرب هو منها بعدت هي
منه ، وكان ذلك نورا من نور الله عزوجل ولم يكن نارا في نفسها لكن ظنه موسى نارا فناداه الله عزوجل عند ذلك ، وسمع موسى عليهالسلام النداء من جهة الشجرة وأسمعه الله كلامه والخبر الذي رجاه
موسى عليهالسلام هو الإعلام بالطريق ، وقوله (بِشِهابٍ قَبَسٍ) شبه النار التي تؤخذ في طرف عود أو غيره ب «الشهاب» ، ثم
خصصه بأنه مما اقتبس ، إذ الشهب قد تكون من غير اقتباس ، و «القبس» اسم لقطعة
النار تقتبس في عود أو غيره كما القبض اسم ما يقبض ومنه قول أبي زيد : [المنسرح]
في كفة صعدة
مشقفة
|
|
فيها سنان كشعلة
القبس
|
ومنه قول الآخر : «من
شاء من نار الجحيم اقتبسا» وأصل الشهاب الكوكب المنقض في أثر مسترق السمع وكل من
يقال له شهاب من المنيرات فعلى التشبيه ، قال الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب
وكلامه معترض ، و «القبس» يحتمل أن يكون اسما غير صفة ويحتمل أن يكون صفة ، فعلى
كونه اسما غير صفة أضاف إليه بمعنى بشهاب اقتبسته أو اقتبسه ، وعلى كونه صفة يكون
ذلك كإضافة الدار إلى الآخرة والصلاة إلى الأولى وغير ذلك ، وقرأ الجمهور بإضافة «شهاب»
إلى «قبس» وهي قراءة الحسن وأهل المدينة ومكة والشام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «بشهاب
قبس» بتنوين «شهاب» فهذا على الصفة.
ويجوز أن يكون «القبس»
مصدر قبس يقبس كما الجلب مصدر جلب يجلب وقال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في
القراءة كما تقول دار آجر وسوار ذهب حكاه أبو علي ، و (تَصْطَلُونَ) معناه تستدفئون من البرد ، والضمير في (جاءَها) للنار التي رآها موسى ، وقوله (أَنْ بُورِكَ) يحتمل أن تكون (أَنْ) مفسرة ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على تقدير «بأن بورك»
، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير نودي أنه قاله الزجاج ، وقوله (بُورِكَ) معناه قدس وضوعف خيره ونمي ، والبركة مختصة بالخير ، ومن
هذا قول أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب :
بورك الميت
الغريب كما بو
|
|
رك ينع الرمان
والزيتون
|
وبارك متعد بغير
حرف تقول العرب باركك الله وقوله (مَنْ فِي النَّارِ) اضطرب المتأولون فيه فقال ابن عباس وابن جبير والحسن
وغيرهم : أراد عزوجل نفسه وعبر بعضهم في هذا القول عبارات مردودة شنيعة ، وقال
ابن عباس رضي الله عنه : أراد النور ، وقال الحسن وابن عباس : أراد بمن حولها
الملائكة وموسى.
قال القاضي أبو
محمد : فأما قول الحسن وغيره فإنما يتخرج على حذف مضاف بمعنى (بُورِكَ مَنْ) قدرته وسلطانه (فِي النَّارِ) والمعنى في النار على ظنك وما حسبت ، وأما القول بأن (مَنْ) للنور فهذا على أن يعبر على النور بمن من حيث كان من نور
الله ويحتمل أن تكون من الملائكة لأن ذلك النور الذي حسبه موسى نارا لم يخل من
الملائكة ، (وَمَنْ حَوْلَها) يكون لموسى عليهالسلام وللملائكة
المطيفين به ، وقرأ أبي بن كعب «أن بوركت النار» ، كذا حكى أبو حاتم وحكى ابن جني
أنه قرأ تباركت النار ومن حولها» ، وحكى الداني أبو عمرو أنه قرأ «ومن حولها من
الملائكة» ، قال : وكذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وقوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى ، ويحتمل أن يكون
خطابا لمحمد عليهالسلام اعتراضا بين الكلامين ، والمقصد به على كلا الوجهين تنزيه
الله تعالى ممّا عسى أن يخطر ببال في معنى النداء من الشجرة وكون قدرته وسلطانه في
النار وعود من عليه ، أي هو منزه في جميع هذه الحالات عن التشبيه والتكييف ، قال
الثعلبي : وإنما الأمر كما روي أن في التوراة جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير
واستعلى من فاران ، المعنى ظهرت أوامره بأنبيائه في هذه الجهات وفاران جبل مكة ،
وباقي الآية إعلام بأنه الله تعالى والضمير في (إِنَّهُ) للأمر والشأن.
قال الطبري :
ويسميها أهل الكوفة المجهولة وأنسه بصفاته من العزة ، أي لا خوف معي ، والحكمة ،
أي لا نقص في أفعالي.
قوله عزوجل :
(وَأَلْقِ عَصاكَ
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا
مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
(١٠)
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)
(١٢)
أمره الله عزوجل بهذين الأمرين تدريبا له في استعمالهما ، وفي الكلام حذف
تقديره فألقى العصا
(فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ) ، وأمال «رآها» بعض القراء ، و «الجانّ» الحيات لأنها تجن
أنفسها أي تسترها ، وقالت فرقة : الجان صغار الحيات وعصا موسى صارت حية ثعبانا وهو
العظيم فإنها شبهت ب «الجانّ» في سرعة الاضطراب ، لأن الصغار أكثر حركة من الكبار
، وعلى كل قول فإن الله خلق في العصا حياة وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية ، وقرأ
الحسن والزهري وعمرو بن عبيد «جأن» بالهمز فلما أبصر موسى عليهالسلام هول ذلك المنظر (وَلَّى) فارا ، قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة : ولم يلتفت.
قال القاضي أبو
محمد : و «عقب» الرجل إذا ولى عن أمر ثم صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على
عقبيه وناداه الله مؤنسا ومقويا على الأمر : (يا مُوسى لا تَخَفْ) فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوّة لا يخافون عندي ، ومعي ،
فأخذ موسى الحية فرجعت عصا ثم صارت له عادة ، واختلف الناس في الاستثناء في قوله
تعالى (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ، فقال مقاتل وغيره : الاستثناء متصل وهو من الأنبياء ،
وروى الحسن أن الله تعالى قال لموسى : أخفتك بقتلك النفس ، وقال الحسن أيضا : كانت
الأنبياء تذنب فتعاقب ثم تذنب والله فتعاقب فكيف بنا ، وقال ابن جريج : لا يخيف
الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه ، قال كثير من
العلماء : لم يعر أحد من البشر من ذنب إلا ما روي عن يحيى بن زكرياء.
قال القاضي أبو
محمد : وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهمالسلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل واختلف فيما
عدا هذا ، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك ، وفي الآية على هذا
التأويل حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه تقديره فمن ظلم (ثُمَّ بَدَّلَ) ، وقال الفراء وجماعة : الاستثناء منقطع وهو إخبار عن غير
الأنبياء كأنه قال : لكن من ظلم من الناس ثم تاب (فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ، وقالت فرقة : (إِلَّا) بمعنى الواو.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول لا وجه له ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ألا من ظلم»
على الاستفتاح ، وقوله (ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً) معناه عملا صالحا مقترنا بتوبة ، وهذه الآية تقتضي حتم
المغفرة للتائب ، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك ، وأهل السنة في التائب
من المعاصي على أنه في المشيئة كالمصرّ ، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على
المصر ، وقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] عمت
الجميع من التائب والمصر ، وقالت المعتزلة (لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
معناه للتائبين.
قال القاضي أبو
محمد : وذلك مردود من لفظ الآية لأن تفصيلها بين الشرك وغيره كان يذهب فائدته إذ
الشرك يغفر للتائب وما دونه كذلك على تأويلهم فما فائدة التفصيل في الآية وهذا
احتجاج لازم فتأمله ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «حسنا بعد سوء» بفتح الحاء والسين
وهي قراءة مجاهد وابن أبي ليلى ، وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني «حسنى» مثل فعلى ،
ثم أمر تعالى موسى بأن يدخل يده في جيب جبته لأنها لم يكن لها كم فيما قال ابن
عباس ، وقال مجاهد كانت مدرعة صوف إلى بعض يده ، و «الجيب» الفتح في الثوب لرأس
الإنسان ، وروي أن يد موسى عليهالسلام كانت تخرج تلألأ كأنها قطعة نور ، ومعنى إدخال اليد في
الجيب ضم الآية إلى موسى وإظهار تلبسها به لأن المعجزات من شروطها أن يكون لها
اتصال
بالآتي بها ،
وقوله (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ولا علة وإنما هي آية تجيء وتذهب ، وقوله (فِي تِسْعِ آياتٍ) ، متصل بقوله (أَلْقِ وَأَدْخِلْ) ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره نمهد ونيسر ذلك لك في جملة تسع
آيات ، وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والحجر ،
وفي هذين الأخيرين اختلاف والمعنى تجيء بهن إلى فرعون وقومه.
قوله عزوجل :
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣)
وَجَحَدُوا
بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
(١٤)
الضمير في قوله (جاءَتْهُمْ) لفرعون وقومه ، و (مُبْصِرَةً) معناه معها الإبصار والوضوح ، وهذا على نحو قولهم : نهار
صائم وليل قائم ونائم ، وقرأ قتادة وعلي بن الحسين «مبصرة» بفتح الميم والصاد ،
وظاهر قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) حصول الكفر عنادا وهي مسألة قولين هل يجوز أن يقع أم لا؟
فجوزت ذلك فرقة وقالت يجوز أن يكون الرجل عارفا إلا أنه يجحد عنادا ويموت على
معرفته وجحوده فهو بذلك في حكم الكافر المخلد ، قالوا وهذا حكم إبليس وحكم حيي بن
أخطب وأخيه حسبما روي عنهما.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وإن عورض هذا المثال فرض إنسان ويجوز ذلك فيه وقالت فرقة لا يصح لوجهين :
أحدهما أن هذا لا
يجوز وقوعه من عاقل ، والوجه الآخر أن المعرفة تقتضي أن تحل في القلب ، وذلك إيمان
وحكم الكفر لا يلحقه إلا بأن يحل بالقلب كفر ، ولا يصح اجتماع الضدين في محل واحد
، قالوا : ويشبه في هذا العارف الجاحد أن يسلب عند الموافاة تلك المعرفة ويحل
بدلها الكفر.
قال القاضي أبو
محمد : والذي يظهر عندي في هذه الآية وكل ما جرى مجراها أن هؤلاء الكفرة كانوا إذا
نظروا في آيات موسى عليهالسلام أعطتهم عقولهم أنها ليست تحت قدرة البشر وحصل لهم اليقين
أنها من عند الله تعالى ، فيغلبهم أثناء ذلك الحسد ويتمسكون بالظنون في أنه سحر
وغير ذلك مما يختلج في الظن بحسب كل آية ، ويلجون في عماهم فيضطرب ذلك اليقين
ويدفعونه في كل حيلة من التحيل لربوبية فرعون وغير ذلك ، حتى يستلب ذلك اليقين أو
يدوم كذلك مضطربا ، وحكمه حكم المستلب في وجوب عذابهم ، و (ظُلْماً) معناه على غير استحقاق للجحد ، و «العلو» في الأرض أعظم
آفة على طالبه. قال الله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً) [القصص : ٨٣]. ثم
عجبه تعالى من عقاب (الْمُفْسِدِينَ) قوم فرعون وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى وفي هذا تمثيل
لكفار قريش إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «ظلما وعليا» ،
وحكى أبو عمرو الداني عنهم وعن أبان بن تغلب أنهم كسروا العين من «عليا».
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى
كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(١٥)
وَوَرِثَ
سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)
(١٧)
هذا ابتداء قصص
فيه غيوب وعبر وليس بمثال لقريش ، و (داوُدَ) من بني إسرائيل وكان ملكا (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ) ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه
فسمي ميراثا تجوزا ، وهذا نحو قولهم العلماء ورثة الأنبياء ، وحقيقة الميراث في
المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ، ويحتمل
قوله عليهالسلام «إنا معشر
الأنبياء لا نورث» أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث
ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه ، وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما
شغلنا العبادة ، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر ، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر
العرب أقرى الناس لضيف. وقوله (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ) إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير
المعاني التي نفوسها ، وهذا نحو ما كان نبينا محمدصلىاللهعليهوسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليهالسلام حكى عن البلبل أنه قال : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء
إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره : إنما كان هذا الأمر في الطير
خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة ، قال الشعبي : وكذلك كانت هذه القائلة ذات
جناحين ، وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من
جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته
ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير ، والنمل حيوان فطن قويّ
شمام جدا يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها
تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع ، ويستبقي سائره عدّة ، وقوله (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم ، ثم ردد شكر فضل
الله تعالى ، ثم قص تعالى حال سليمان فقال : (وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ) أي جمع واختلف
الناس في مقدار جند سليمان عليهالسلام اختلافا شديدا لم أر ذكره لعدم صحة التحديد ، غير أن
الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض وانقادت له المعمورة وكان كرسيه يحمل أجناده
من الإنس والجن ، وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها في الأمور ، وكان له في الكرسي
الأعظم موضع يخصه ، و (يُوزَعُونَ) معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفّون ، وقال قتادة فكان لكل
صنف وزعة في رتبهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها فرب وقت كان يسير
فيه في الأرض ، ومنه قول الحسن الصبري حين ولي قضاء البصرة : لا بد للحاكم من وزعة
، ومنه قول أبي قحافة حين وصفت له الجارية في يوم الفتح أنها ترى سوادا أمامه فارس
قد نهد من الصف فقال لها : ذلك الوازع ، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الطويل]
على حين عاتبت
المشيب على الصبا
|
|
وقلت ألمّا أصح
والشيب وازع
|
أي كاف.
قوله عزوجل :
(حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨)
فَتَبَسَّمَ
ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)
(١٩)
ظاهر هذه الآية أن
سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض ، وبذلك يتفق حطم النمل ، ويحتمل أنهم كانوا في
الكرسي المحمول بالريح وأحست النمل بنزولهم في (وادِ النَّمْلِ) ، وأمال أبو عمرو الواو من (وادِ) ، والجميع فخم ، وبالإمالة قرأ ابن إسحاق ، وقرأ المعتمر
بن سليمان عن أبيه «النمل» بضم الميم كالسمر ، و «قالت نملة» بالضم كسمرة ، وروي
عنه ضم النون والميم من «النّمل» ، وقال نوف البكالي : كانت تلك النملة على قدر
الذئاب وقالت فرقة : بل كانت صغارا.
قال القاضي أبو
محمد : والذي يقال في هذا أن النمل كانت نسبتها من ذلك الخلق نسبة هذا النمل منا
فيحتمل أن كان الخلق كله أكمل ، وهذه النملة قالت هذا المعنى الذي لا يصلح له إلا
هذه العبارة قولا فهمه عنها النمل ، فسمعها سليمان على بعده ، وجاءت المخاطبة كمن
يعقل ، لأنها أمرتهم بما يؤمر به من يعقل ، وروي أنه كان على ثلاثة أميال (فَتَبَسَّمَ) من قولها ، والتبسم ضحك الأنبياء في غالب أمرهم لا يليق
بهم سواه ، وكان تبسمه سرورا ، واختلف بما كان ، فقالت فرقة بنعمة الله في إسماعه
وإفهامه ونحو ذلك ، وقالت فرقة بثناء النملة عليه وعلى جنوده في أن نفت عنهم تعمد
القبيح من الفعل فجعلت الحطم (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) ، وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» بسكون السين على الإفراد ،
وفي مصحف أبي «مساكنكن» ، و (ضاحِكاً) نصب على الحال ، وقرأ محمد بن السميفع «ضحكا» وهو نصب على
المصدر إما ب «تبسم» على مذهب المبرد إذ هو في معنى ضحك ، وإما بتقدير ضحك على
مذهب سيبويه ، وقرأ جمهور القراء «لا يحطمنّكم» بشد النون وسكون الحاء ، وقرأ أبو
عمرو وفي رواية عبيد «لا يحطمنكم» بسكون النون وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، وقرأ
الحسن وأبو رجاء «لا يحطّمنّكم» بضم الياء وفتح الحاء وكسر الطاء وشدها وشد النون
وعنه أيضا «يحطّمنكم» بفتح الياء وكسر الحاء والطاء وشدها ، وقرأ الأعمش وطلحة «لا
يحطمكم» مخففة بغير نون ، وفي مصحف أبي بن كعب «لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل
الكاف ، ثم دعا سليمان إلى ربه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه إلى شكر نعمته وهذا
هو معنى «إيزاع الشكر» ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠)
لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
فَمَكَثَ
غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ)
(٢٣)
اختلف الناس في
معنى «تفقده الطير» ، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم
بكل جزء منها.
قال القاضي أبو
محمد : وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير ، وقالت فرقة : بل «تفقد الطير» لأن الشمس
دخلت من موضع (الْهُدْهُدَ) حين غاب ، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت
الشمس ، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب (الْهُدْهُدَ) لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ، لأنه
كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن (الْهُدْهُدَ) كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان
بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة
قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره ، وقال في كتاب النقاش كان (الْهُدْهُدَ) مهندسا ، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا
فقال له : قف يا وقاف كيف يرى (الْهُدْهُدَ) باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه. فقال له ابن عباس
رضي الله عنه: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال وهب بن منبه : كانت الطير تنتاب
سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد (الْهُدْهُدَ) ، وقوله (ما لِيَ لا أَرَى) إنما مقصد الكلام (الْهُدْهُدَ) غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على
جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله (ما لِيَ) ، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم ، ثم توعده عليهالسلام بالعذاب ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه
للطير كان بأن تنتف ، قال ابن جريج : ريشه أجمع ، وقال يزيد بن رومان : جناحاه ،
وروى ابن وهب أنه بأن تنتف أجمع وتبقى بضعة تنزو ، و «السلطان» الحجة حيث وقع في
القرآن ، قاله عكرمة عن ابن عباس ، وقرأ ابن كثير وحده «ليأتينني» بنونين ، وفعل
سليمان هذا بالهدهد إغلاظا عن العاصين وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته ، وقرأ
جمهور القراء ، «فمكث» بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده «فمكث» بفتحها ، ومعناه في
القراءتين أقام ، والفتح في الكاف أحسن لأنها لغة القرآن في قوله (ماكِثِينَ) [الكهف : ٣] إذ هو
من مكث بفتح الكاف ، ولو كان من مكث بضم الكاف لكان جمع مكيث ، والضمير في «مكث»
يحتمل أن يكون لسليمان أو ل (الْهُدْهُدَ) ، وفي قراءة ابن مسعود «فتمكث ثم جاء فقال» وفي قراءة أبي
بن كعب «فتمكث» ثم قال (أَحَطْتُ) وقوله (غَيْرَ بَعِيدٍ) كما في مصاحف الجمهور يريد به في الزمن والمدة ، وقوله (أَحَطْتُ) أي علمت علما تاما ليس في علمك ، واختلف القراء في (سَبَإٍ) ، فقرأ جمهور القراء «سبأ» بالصرف. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو «سبأ» بفتح الهمزة وترك الصرف ، وقرأ الأعمش «من سبإ» بالكسر وترك الصرف وروى
ابن حبيب عن اليزيدي «سبا» بألف ساكنة ، وقرأ قنبل عن النبال بسكون الهمزة ، فالأولى
على أنه اسم رجل وعليه قول الشاعر : [البسيط]
الواردون وتيم
في ذرى سبإ
|
|
قد عضّ أعناقهم
جلد الجواميس
|
وقال الآخر : «من
سبأ الحاضرين مآرب» ، وهذا على أنها قبيلة والثانية على أنها بلدة ، قاله الحسن
وقتادة ، وكلا
القولين قد قيل ، ولكن روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد
تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشوى ، والثالثة
على البناء والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفا للتثقيل في توالي
الحركات ، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى بل هي إما على الثانية أو الثالثة ،
وقرأت فرقة «بنبإ» وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة ، وقرأت فرقة «بنبإ» بالألف
مقصورة ، وقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) مبالغة أي مما تحتاج المملكة قال الحسن : من كل أمر الدنيا
، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان ، وروي عن نافع الوقف على (عَرْشٌ) ف (عَظِيمٌ) على هذا يتعلق بما بعده ، وهذه المرأة هي بلقيس بنت شراحيل
فيما قال بعضهم ، وقيل بنت الفشرح ، وقيل كانت أمها جنية ، وأكثر بعض الناس في
قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته وإنما اللازم من الآية أنها امرأة ملكة على
مدائن اليمن ذات ملك عظيم وكانت كافرة من قوم كفار.
قوله عزوجل :
(وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧)
اذْهَبْ
بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا
يَرْجِعُونَ)
(٢٨)
كانت هذه الأمة
أمة تعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما روي ، وقيل كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ،
وقوله (أَلَّا يَسْجُدُوا) إلى قوله (الْعَظِيمِ) ظاهره أنه من قول الهدهد ، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق
ويعترض بأنه غير مخاطب ، فكيف يتكلم في معنى شرع ، ويحتمل أن يكون من قول الله
تعالى اعتراضا بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل ، وقراءة التشديد في «ألّا» تعطي
أن الكلام للهدهد ، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله ،
وقرأ جمهور القراء «ألا يسجدوا» ف «أن» في موضع نصب على البدل من (أَعْمالَهُمْ) وفي موضع خفض على البدل من (السَّبِيلِ) أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا ف «أن» متعلقة إما ب «زين»
وإما ب «صدهم» ، واللام الداخلة على «أن» داخلة على مفعول له ، وقرأ ابن عباس وأبو
جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد : «ألا» على جهة الاستفتاح
ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا ، ثم يبتدىء «اسجدوا» ، واحتج الكسائي لقراءته
هذه بأنه روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه موضع سجدة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضا يا
هؤلاء ويجيء موضع سجدة ، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا
ومنه قول الشاعر : «ألا يا سلمي» يا دار ميّ على البلا إلخ .. البيت ، ونحو قول
الآخر وهو الأخطل : [الطويل]
ألا يا أسلمي يا
هند هند بني بدر
|
|
وإن كان حيانا
عدى آخر الدهر
|
ومنه قول الآخر :
فقالت ألا يا
اسمع أعظك بخطة
|
|
فقلت سمعنا
فاسمعي واصمتي
|
ويحتمل قراءة من
شدد : «ألّا» أن يجعلها بمعنى التخصيص ، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام
إضمار كثير ولكنه متوجه ، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم ، وقرأ الأعمش
«هل لا يسجدون» ، وفي حرف عبد الله بن مسعود «ألا هل تسجدون» بالتاء ، وفي قراءة
أبيّ : «ألا هل تسجدوا» بالتاء أيضا ، و (الْخَبْءَ) الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء ، و «خبء» السماء مطرها
، و «خبء» الأرض كنوزها ونباتها ، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر
ابن عباس ، وقرأ جمهور الناس «الخبء» بسكون الباء والهمز ، وقرأ أبي بن كعب «الخب»
بفتح الباء وترك الهمز ، وقرأ عكرمة «الخبا» بألف مقصورة ، وحكى سيبويه أن بعض
العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفا ، وإذا
كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واوا ، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك
بالوثا والوثو والوثي ، وكذلك يجيء (الْخَبْءَ) في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ
جمهور القراء «يخفون» و «يعلنون» بياء الغائب.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية
حفص «تخفون وما تعلنون» بتاء الخطاب ، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عزوجل لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء
من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون» ، وخصص (الْعَرْشِ) بالذكر في قوله (رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ) لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه وقبضته ، ثم إن
سليمان عليهالسلام أخّر أمر الهدهد إلى أن يبين له حقه من باطله فسوفه بالنظر
في ذلك وأمر بكتاب فكتب وحمله إياه وأمره بإلقائه إلى القوم والتولي بعد ذلك ،
وقال وهب بن منبه أمره بالتولي حسن أدب ، ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى
وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم ، وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه أي
ألقه وارجع ، قال وقوله (فَانْظُرْ ما ذا
يَرْجِعُونَ) في معنى التقديم على قوله (ثُمَّ تَوَلَ).
قال القاضي أبو
محمد : واتساق رتبة الكلام أظهر أي «ألقه ثم تول» وفي خلال ذلك (فَانْظُرْ) وإنما أراد أن يكل الأمر إلى علم ما في الكتاب دون أن تكون
للرسول ملازمة ولا إلحاح.
وقرأ نافع «فألقه»
بكسر الهاء ، وفرقة «فألقه» بضمها ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بإشباع ياء
بعد الكسرة في الهاء ، وروى عنه ورش بياء بعد الهاء في الوصل ، وقرأ قوم بإشباع
واو بعد الضمة ، وقرأ البزي عن أبي عمرو وعاصم وحمزة «فألقه» بسكون الهاء ، وروي
عن وهب بن منبه في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدرات
فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها
فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة ، فلما انتبهت وجدته فراعها
وظنت أنه قد دخل عليها أحد ثم قامت فوجدت حالها كما عهدته فنظرت إلى الكوة
تهمما بأمر الشمس
فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.
قوله عزوجل :
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(٣٠) أَلاَّ
تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ
أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ(٣٣) قالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)
(٣٤)
في هذا الموضع
اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها ، و
(الْمَلَأُ) أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع ، ووصفت «الكتاب
بالكرم» إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان ، وهذا قول
ابن زيد ، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كرم الكتاب ختمه» وإما إن أرادت أنه بدىء (بِسْمِ اللهِ) ف (كَرِيمٌ) ضد أجذم كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كل كلام لم يبدأ
باسم الله تعالى فهو أجذم ، ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب فيحتمل اللفظ أنه نص
الكتاب موجزا بليغا وكذلك كتب الأنبياء وقدم فيه العنوان وهي عادة الناس على وجه
الدهر ، ثم سمى الله تعالى ، ثم أمرهم بأن لا يعلوا عليه طغيانا وكفرا وأن يأتوه (مُسْلِمِينَ) ، ويحتمل أنها قصدت إلى اقتضاب معانيه دون ترتيبه فأعلمتهم
(إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ) وأن معنى ما فيه كذا وكذا ، وقرأ أبيّ «وأن بسم الله» بفتح
الهمز وتخفيف النون وحذف الهاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «أنه» من «وأنه» بفتح الهمزة
فيهما ، وفي قراءة عبد الله «وأنه من سليمان» بزيادة ، و (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، استفتاح شريف بارع المعنى معبر عنه بكل لغة وفي كل شرع ،
و «أن» في قوله تعالى : (أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَ) يحتمل أن تكون رفعا على البدل من (كِتابٌ) ، أو نصبا على معنى «بأن لا تعلوا» ، أو مفسرة بمنزلة أي
قاله سيبويه ، وقرأ وهب بن منبه «أن لا تغلوا» بالغين منقوطة ، قال أبو الفتح
رواها وهب عن ابن عباس وهي قراءة الأشهب العقيلي ذكرها الثعلبي ثم أخذت في حسن
الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرها وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر فكيف في
هذه النازلة الكبرى ، فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها ب «القوة
والبأس» أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت ، ثم سلموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة
حسنة من الجميع ، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمرا» بالضاد من القضاء ، وذكر
مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفا ، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة
ألف.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا بعيد ، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه ، ثم أخبرت بلقيس عند
ذلك بفعل (الْمُلُوكَ) بالقرى التي يتغلبون عليها ، وفي الكلام خوف على قومها
وحيطة لهم واستعظام لأمر سليمان عليهالسلام ، وقالت فرقة إن (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) من قول بلقيس تأكيدا منها للمعنى الذي أرادته ، وقال ابن
عباس : هو من قول الله تعالى معرفا لمحمد عليهالسلام وأمته ومخبرا به.
قوله عزوجل :
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
(٣٥)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ
مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)
ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)
(٣٧)
روي أن بلقيس قالت
لقومها إني أجرب هذا الرجل (بِهَدِيَّةٍ) أعطيه فيها نفائس الأموال وأغرب عليه بأمور المملكة ، فإن
كان ملكا دنياويا أرضاه المال فعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبيا لم يرضه المال
ولازمنا في أمر الدين فينبغي أن نؤمن به ونتبعه على دينه ، فبعثت إليه (بِهَدِيَّةٍ) عظيمة أكثر بعض الناس في تفصيلها فرأيت اختصار ذلك لعدم
صحته ، واختبرت علمه فيما روي بأن بعثت إليه قدحا فقالت املأه لي ماء ليس من الأرض
ولا من السماء ، وبعثت إليه درة فيها ثقب محلزق وقالت يدخل سلكها دون أن يقربها
إنس ولا جان ، وبعثت أخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه غير الإنس والجن ، فملأ
سليمان القدح من عرق الخيل ، وأدخلت السلك دودة. وثقبت الدرة أرضة ماء ، وراجع
سليمان مع رد الهدية بما في الآية وعبر عن «المرسلين» ب (جاءَ) وبقوله (ارْجِعْ) لما أراد به الرسول الذي يقع على الجمع والإفراد والتأنيث
والتذكير ، وقرأ ابن مسعود «فلما جاؤوا سليمان» وقرأ «ارجعوا» ، ووعيد سليمان لهم
مقترن بدوامهم على كفرهم ، وذكر مجاهد أنها بعثت في هديتها بعدد كثير من العبيد
بين غلام وجارية وجعلت زيهم واحدا وجربته في التفريق بينهم.
قال القاضي أبو
محمد : وليس هذا بتجربة في مثل هذا الأمر الخطير ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أتمدونني»
بنونين وياء في الوصل ، وقرأ ابن عامر وعاصم والكسائي «أتمدونن» بغير ياء في وقف
ووصل ، وقرأ جمزة «أتمدونّي» بشد النون وإثبات الياء ، وقرأ عاصم «فما آتان الله»
بكسر النون دون ياء ، وقرأ فرقة «آتاني» بياء ساكنة ، وقرأ أبو عمرو ونافع «آتاني»
بياء مفتوحة ، ثم توعدهم بالجنود والغلبة والإخراج أذلاء والمعنى إن لم يسلموا ،
وقرأ عبد الله «لا قيل لهم بهم» على جمع ضمير الجنود. و (لا قِبَلَ) معناه لا طاقة ولا مقاومة.
قوله عزوجل :
(قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)
(٤٠)
القائل سليمان عليهالسلام و (الْمَلَؤُا) المنادى جمعه من الإنس والجن ، واختلف المتأولون في
غرضه في استدعاء «عرشها»
فقال قتادة ذكر له بعظم وجودة فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي
أموالهم ، و «الإسلام» على هذا التأويل الدين ، وهو قول ابن جريج ، وقال ابن زيد
استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها ، و (مُسْلِمِينَ) في هذا التأويل بمعنى مستسلمين وهو قول ابن عباس وذكره صلة
في العبارة لا تأثير لاستسلامهم في غرض سليمان ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإسلام ،
وظاهر هذه الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليهالسلام بعد مجيء هديتها ورده إياها ، وقد بعث الهدهد بالكتاب وعلى
هذا جمهور المفسرين ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال هذه المقالة هي ابتداء النظر
في صدق الهدهد من كذبه لما قال له (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] قال
سليمان (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها) ثم وقع في ترتيب القصص تقديم وتأخير.
قال القاضي أبو
محمد : والقول الأول أصح وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة مرصعا بالياقوت والجوهر
وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق ، وقرأ الجمهور «قال عفريت» ، وقرأ
أبو رجاء وعيسى الثقفي «قال عفرية» ، ورويت عن أبي بكر الصديق ، وقرأت فرقة «قال
عفر» بكسر العين ، وكل ذلك لغات فيه وهو من الشياطين القوي المارد والتاء في (عِفْرِيتٌ) زائدة ، وقد قالوا تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية ،
قال وهب بن منبه اسم هذا العفريت كودا ، وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني ومن هذا
الاسم قول ذي الرمة : [البسيط]
كأنه كوكب في
إثر عفرية
|
|
مصوب في سواد
الليل منقضب
|
وقوله (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال مجاهد وقتادة وابن منبه معناه قبل قيامك من مجلس الحكم
، وكان يجلس من الصبح إلى وقت الظهر في كل يوم ، وقيل معناه قيل أن تستوي من جلوسك
قائما ، و (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ) ، قال ابن جبير وقتادة قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه
في أبعد ما ترى ، وقال مجاهد معناه قبل أن يحتاج إلى التغميض أي مدة ما يمكنك أن
تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداد.
قال القاضي أبو
محمد : وهذان القولان يقابلان قول من قال إن القيام هو من مجلس الحكم ، ومن قال إن
القيام هو من الجلوس ، فيقول في ارتداد الطرف هو أن يطرف أي قبل أن تصلح عينيك
وتفتحهما ، وذلك أن الثاني تعاطى الأقصر في المدة ولا بد. وقوله (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) معناه «قوي» على حمله (أَمِينٌ) على ما فيه ، ويروى أن بلقيس لما فصلت من بلدها متوجهة إلى
سليمان تركت العرش تحت أقفال وثقاف حصين فلما علم سليمان بانفصالها أراد أن يغرب
عليها بأن تجد عرشها عنده ليبين لها أن ملكه لا يضاهى ، فاستدعى سوقه فدعا الذي
عنده علم من التوراة وهو (الْكِتابِ) المشار إليه باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك
الزمن أن لا يدعو به أحد إلا أجيب ، فشقت الأرض بذلك العرش حتى نبع بين يدي سليمان
عليهالسلام وقيل بل جيء به في الهواء. قال مجاهد وكان بين سليمان وبين
العرش كما بين الكوفة والحيرة ، وحكى الرماني أن العرش حمل من مأرب إلى الشام في
قدر رجع البصر.
قال القاضي أبو
محمد : وهي مسيرة شهرين للمجدّ ، وقول مجاهد : أشهر ، وروي أن الجن كانت
تخبر سليمان
بمناقل سيرها فلما قربت قال (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها) ، واختلف المفسرون في (الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) من هو ، فجمهور الناس على أنه رجل صالح من بني إسرائيل
اسمه «آصف بن برخيا» روي أنه صلى ركعتين ثم قال يا نبي الله أمدد بصرك فمد بصره
نحو اليمن فإذا بالعرش فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده ، وقال قتادة اسمه بليخا ،
وقال إبراهيم النخعي هو «جبريل عليهالسلام» ، وقال ابن لهيعة هو الخضر وحكى النقاش عن جماعة أنهم
سمعوا أنه ضبة بن آد جد بني ضبة من العرب ، قالوا وكان رجلا فاضلا يخدم سليمان على
قطعة من خيله.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة بل هو سليمان عليهالسلام والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال هو (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ
مِنْ مَقامِكَ) ، كأن سليمان عليهالسلام استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) واستدل قائل هذا القول بقول سليمان. (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ، واستدل أيضا بهذا القول مناقضه إذ في كلا الأمرين على
سليمان فضل من الله تعالى ، وعلى القول الأول المخاطبة لسليمان ، ولفظ ، (آتِيكَ) ، يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا ، ويحتمل أن يكون اسم فاعل ،
وفي الكلام حذف تقديره فدعا باسم الله فجاء العرش بقدرة الله فلما رآه سليمان
مستقرا عنده جعل يشكر نعمة ربه بعبارة فيها تعليم للناس وهي عرضة للاقتداء بها
والاقتباس منها ، وقال ابن عباس المعنى (أَأَشْكُرُ) على السرير وسوقه (أَمْ أَكْفُرُ) إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني وظهر العامل في
الظرف من قوله (مُسْتَقِرًّا) وهذا المقدر أبدا في كل ظرف جاء هنا مظهرا وليس في كتاب
الله تعالى مثله. وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّها
ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ
ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
(٤٤)
أراد سليمان عليهالسلام في هذا «التنكير» تجربة ميزها ونظرها وليزيد في الإغراب
عليها ، وروت فرقة أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا
ذلك وعابوها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة وبأن رجلها كحافر دابة ، فجرب عقلها وميزها
بتنكير عرشها ، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح ، لتكشف عن ساقيها عنده ، وقرأ أبو حيوة
«تنظر» بضم الراء ، و «تنكير العرش» تغيير وضعه وستر بعضه ، ونحو هذا ، وقال ابن
عباس ومجاهد والضحاك تنكيره بأن زيد فيه ونقص منه ، ويعترض هذا بأن من حقها على
هذا أن تقول ليس به وتكون صادقة ، وقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) ، تجوز فصيح ونحوه قول الله تعالى : (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤]. وقال
الحسن بن الفضل شبهوا عليها فشبهت عليهم ولو قالوا هذا عرشك لقالت نعم ، وفي
الكلام حذف تقديره كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها)
الآية ، وهذا منه
على جهة تعديد نعم الله ، وإنما قال ذلك لما علمت هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله
عليه وعلى آبائه ، وقوله تعالى : (وَصَدَّها) الآية ، يحتمل أن يكون من قول الله تعالى إخبارا لمحمد عليهالسلام والصاد ما كانت تعبد أي عن الإيمان ونحوه. وقال الرماني عن
التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ والكافر خشيب أو يكون الصاد سليمان عليهالسلام قاله الطبري ، أو يكون الصاد الله عزوجل. ولما كان (صَدَّها) بمعنى منعها ، تجاوز على هذا التأويل بغير حرف جر وإلا
فبابه ألا يتعدى إلا ب «عن» ، وقرأ جمهور الناس «إنها بكسر الهمزة ، وقرأ سعيد بن
جبير وابن أبي عبلة «أنها» بفتح الهمزة وهو على تقدير ذلك أنها ، أو على البدل من (ما) ، قال محمد بن كعب القرظي وغيره ولما وصلت بلقيس أمر
سليمان الجن فصنعت له صرحا وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنيا كالصهريج وملىء ماء
وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ، وبهذا جاء صرحا ، و (الصَّرْحَ) أيضا كل بناء عال ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ
، وجعل لسليمان في وسطه كرسي ، فلما وصلت إليه بلقيس (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي) إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من
كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف «كشفت عن
ساقيها» ، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر ، فلما
بلغا هذا الحد ، قال لها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ
مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ، و «الممرد» المحكوك المملس ، ومنه الأمرد والشجرة
المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضا المطول ، ومنه قيل للحصن مارد ، وعند ذلك
استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ، فروي أن سليمان تزوجها عند
ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك ، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها
وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة ، فولدت له غلاما سماه
داوود مات في حياته ، و (مَعَ) ظرف ، وقيل حرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا
خلاف أنه حرف جاء لمعنى وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخريط «عن سأقيها»
بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل «يكشف عن سأق» فأما
همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا
حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد «لحب المؤقدان إلى موسى» ووجهها أن
الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما ، وقرأ ابن مسعود «عن رجليها» ، وروي أن
سليمان عليهالسلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل
إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله.
فصنعوا النورة ولم
تكن قبل الأمم ، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليهالسلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها
والإغراب عليها ، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري
والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)
قالُوا
اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)
(٤٧)
هذه الآية على جهة
التمثيل لقريش ، و (أَنِ) من قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ، يحتمل أن تكون مفسرة ويحتمل أن تكون في موضع نصب تقديره «بأن
اعبدوا الله» ، و (فَرِيقانِ) يريد بهما من آمن بصالح ومن كفر به ، و «اختصاصهم» تنازعهم
وجدلهم ، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأعراف ، ثم إن (صالِحاً) تلطف بقومه وترفق بهم في الخطاب فوقفهم على خطيئتهم في
استعجال العذاب قبل الرحمة والمعصية لله تعالى قبل الطاعة وفي أن يكون اقتراحهم
وطلبهم يقتضي هلاكهم ، ثم حضهم على ما هو أيسر من ذلك وأعود بالخير وهو الإيمان
وطلب المغفرة ورجاء الرحمة فخاطبوه عند ذلك بقول سفساف معناه تشاء منا بك ، قال
المفسرون : وكانوا في قحط فجعلوه لذات صالح وأصل «الطيرة» ما تعارفه أهل الجهل من
زجر الطير وشبهت العرب ما عن بما طار حتى سمي ما حصل الإنسان في قرعة طائرا ، ومنه
قوله تعالى (أَلْزَمْناهُ
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ،
وخاطبهم صالح ببيان الحق أي (طائِرُكُمْ) على زعمكم وتسميتكم وهو حظكم في الحقيقة من تعذيب أو إعفاء
هو (عِنْدَ اللهِ) وبقضائه وقدره وإنما أنتم قوم تختبرون ، وهذا أحد وجوه
الفتنة ، ويحتمل أن يريد بل أنتم قوم تولعون بشهواتكم وهذا معنى قد تعورف استعمال
لفظ الفتنة فيه ومنه قولك : فتن فلان بفلان ، وشاهد ذلك كثير.
قوله عزوجل :
(وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا
بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا
مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا
مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)
(٥١)
ذكر الله تعالى في
هذه الآية (تِسْعَةُ) رجال كانوا من أوجه القوم وأفتاهم وأغناهم وكانوا أهل كفر
ومعاص جمة ، جملة أمرهم أنهم (يُفْسِدُونَ وَلا
يُصْلِحُونَ) ، قال عطاء بن أبي رباح : بلغني أنهم كانوا يقرضون
الدنانير والدراهم.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا نحو الأثر المروي : قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض ، و (الْمَدِينَةِ) مجتمع ثمود وقريتهم ، و «الرهط» من أسماء الجمع القليلة ،
العشرة فما دونها رهط ، ف (تِسْعَةُ رَهْطٍ) كما تقول تسعة رجال ، وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قدار
عاقر الناقة وقد تقدم في غير هذا الموضع ما ذكر في أسمائهم ، وقوله (تَقاسَمُوا) حكى الطبري أنه يجوز أن يكون فعلا ماضيا في موضع الحال
كأنه قال متقاسمين أي متحالفين بالله ، وكان في قوله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) ، ويؤيد هذا التأويل أن في قراءة عبد الله «ولا يصلحون
تقاسموا» بسقوط (قالُوا) ، ويحتمل وهو تأويل الجمهور أن يكون (تَقاسَمُوا) فعل أمر أشار بعضهم على بعض بأن يتحالفوا على هذا الفعل ب «صالح»
، ف (تَقاسَمُوا) هو قولهم على
هذا التأويل وهذه
الألفاظ الدالة على قسم أو حلف تجاوب باللام وإن لم يتقدم قسم ظاهر فاللام في (لَنُبَيِّتَنَّهُ) جواب ذلك ، وقرأ جمهور القراء «لنبيتنه» بالنون ، «ثم
لنقولن» بنون وفتح اللام ، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب «ليبيتنه» بالياء مضمومة
فيهما «ثم ليقولن» بالياء وضم اللام ، وفي قراءة عبد الله «ثم لتقسمن ما شهدنا» ،
وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء «ثم لتقولن» بالتاء وضم اللام وهي قراءة
الحسن وحميد ، فهذا ذكر الله فيه المعنى الذي أرادوه ، لا بحسب لفظهم ، وروي في
قصص هذه الآية أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة وقد
أخبرهم صالح بمجيء العذاب اتفق هؤلاء التسعة فتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا
فيقتلوه وأهله المختصين به ، قالوا فإن كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق ،
وإن كان صادقا كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا ، قال الداودي. فجاؤوا واختفوا
لذلك في غار قريب من داره ، فروي أنه انحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا ، وروي أنه
طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم ، وكل فريق لا يعلم بما جرى على الآخر
، وكانوا قد بنوا على جحود الأمر من قرابة صالح الذين يمكن أن يغضبوا له فهذا كان
أمرهم ، و «المكر» نحو الخديعة ، وسمى الله تعالى عقوبتهم باسم ذنبهم وهذا مهيع
ومنه قوله تعالى : (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وغير ذلك ، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم
وفتح اللام ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتحهما ، وروي عنه فتح الميم وكسر اللام
، و «العاقبة» حال تقتضيها البدأة وتؤدي إليها بواجب ، ويعني بالأهل ، كل من آمن
معه قاله الحسن ، وقرأ جمهور القراء «إنا دمرناهم» بكسر الألف ، وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ، ف (كانَ) على قراءة الكسر في الألف تامة ، وإن قدرت ناقصة فخبرها
محذوف أو يكون الخبر (كَيْفَ) مقدما لأن صدر الكلام لها ولا يعمل على هذا «انظر» ، في (كَيْفَ) لكن يعمل في موضع الجملة كلّها ، وهي في قراءة الفتح ناقصة
وخبرها «أنّا» ويجوز أن يكون الخبر (كَيْفَ) وتكون «أنّا» بدلا من العاقبة ، ويجوز أن تكون (كانَ) تامة «وأنّا» بدلا من العاقبة ، ووقع تقرير السؤال ب (كَيْفَ) عن جملة قوله (كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ
أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) وليس بمحض سؤال ولكنه حقه أن يسأل عنه ، و «التدمير»
الهلاك.
ويحتمل أن تتقدر (كانَ) تامة على قراءة الفتح ، وغيره أظهر ، وقرأ أبي بن كعب «أن
دمرناهم» فهذه تؤيد قراءة الفتح في «أنا».
قوله عزوجل :
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤)
أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ
أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦)
فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧)
وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨)
«إخواء البيوت»
وخرابها مما أخبر الله تعالى به في كل الشرائع أنه مما يعاقب به الظلمة وفي
التوراة: ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، و (خاوِيَةً) نصب على الحال التي فيها الفائدة ، ومعناها خالية قفرا ،
قال الزجاج وقرئت «خاوية» بالرفع وذلك على الابتداء المضمر أي «هي خاوية» ، أو على
الخبر عن تلك ، و (بُيُوتُهُمْ) بدل أو على خبر ثان ، وهذه البيوت المشار إليها هي التي
قال فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين» الحديث ، ثم قال تعالى (وَلُوطاً) تقديرة «واذكر لوطا» ، و (الْفاحِشَةَ) إتيان الرجال في الأدبار ، و (تُبْصِرُونَ) معناه بقلوبكم أنها خطيئة وفاحشة ، وقالت فرقة (تُبْصِرُونَ) بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من
بعض ، واختلف القراء في قوله (أَإِنَّكُمْ) وقد تقدم ، وقرأ جمهور الناس «جواب» نصبا ، وقرأ الحسن
وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع ، ونسب ابن جني قراءة النصب إلى الحسن وفسّرها في
الشاذ ، وأخبر الله تعالى عن قوم لوط أنهم تركوا في جوابهم طريق الحجة وأخبروا
بالمبالغة فتأمروا بإخراجه وإخراج من آمن معه ثم ذموهم بمدحه ، وهي «التطهر» من
هذه الدناءة التي أصفقوا هم عليها قال قتادة هابوهم والله بغير عيب ، وقرأ عاصم في
رواية أبي بكر «قدرناها» بتخفيف الدال ، وقرأ جمهور القراء «قدّرناها» بشدّ الدال
، الأولى بمعنى جعلناها وحصلناها والثانية بمعنى قدرناها عليها من القضاء والقدر ،
و «الغابرون» ، الباقون في العذاب ، وغبر بمعنى بقي ، وقد يجيء أحيانا في بعض كلام
العرب يوهم أنه بمعنى مضى ، وإذا تؤمل توجه حمله على معنى البقاء ، و «المطر» الذي
مطر عليهم هي حجارة السجيل أهلكت جميعهم ، وهذه الآية أصل لمن جعل من الفقهاء
الرجم في اللوطية ، وبها تأنس لأن الله تعالى عذبهم على كفرهم به وأرسل عليهم
الحجارة لمعصيتهم ولم يقس هذا القول على الزنا فيعتبر الإحصان.
بل قال مالك وغيره
يرجمان في اللوطية أحصنا أو لم يحصنا وإنما ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم «اقتلوا الفاعل
والمفعول به» فذهب من ذهب إلى رجمهما بهذه الآية.
قوله عزوجل :
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ
حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أَمَّنْ
جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ)
(٦١)
قرأ أبو السمال «قل»
بفتح اللام وكذلك في آخر السورة وهذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش وهو
بعد يعم كل مكلف
من الناس جميعا ، وافتتح ذلك بالقول بحمده وتحميده وبالسلام على عباده الذين
اصطفاهم للنبوءة والإيمان ، فهذا اللفظ عام لجميعهم من بني آدم ، وكان هذا صدر
خطبة للتقرير المذكور. وقال ابن عباس العباد المسلم عليهم هم أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم واصطفاهم لنبيه.
قال القاضي أبو
محمد : وفي هذا الاختصاص توبيخ للمعاصرين من الكفار ، وقال الفراء الأمر بالقول في
هذه الآية هو للوط عليهالسلام.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه عجمة من الفراء رحمهالله ، ثم وقف قريشا والعرب على جهة التوبيخ على موضع التباين
بين الله عزوجل وبين الأوثان والأنصاب ، وقرأ جمهور الناس «تشركون» بالتاء
من فوق ، وحكى المهدوي عن أبي عمرو وعاصم «يشركون» بالياء من تحت ، وفي هذا
التفضيل بلفظة (خَيْرٌ) أقوال ، أحدها أن التفضيل وقع بحسب معتقد المشركين إذ كانت
تعتقد أن في آلهتها خيرا بوجه ما ، وقالت فرقة في الكلام حذف مضاف في موضعين
التقدير أتوحيد الله خير أم عبادة ما تشركون ، «فما» في هذه الآية بمعنى الذي ،
وقالت فرقة «ما» مصدرية وحذف المضاف إنما هو أولا تقديره أتوحيد الله خير أم شرككم
، وقيل (خَيْرٌ) هنا ليست بأفعل إنما هي فعل كما تقول الصلاة خير دون قصد
تفضيل.
قال القاضي أبو
محمد : وقد تقدم أن هذه الألفاظ التي تعم معاني كثيرة كخير وشر وأحب ونحو ذلك قد
يقع التفضيل بها بين أشياء متباينة لأن المتباينات قدر بما اشترك فيها ولو بوجه
ضعيف بعيد ، وأيضا فهذا تقرير والمجادل يقرر خصمه على قسمين أحدهما فاسد ، ليرى
وقوعه وقد استوعبنا هذا فيما مضى ، وقالت فرقة تقدير هذه الآية «الله ذو خير أما
تشركون».
قال القاضي أبو
محمد : وهذا النوع من الحذف بعيد تأوله ، وقرأ الحسن وقتادة وعاصم «يشركون» بالياء
من تحت ، وقرأ أهل المدينة ومكة والكوفة بالتاء من فوق وقوله تعالى. (أَمَّنْ خَلَقَ) وما بعدها من التوقيفات ، توبيخ لهم وتقرير على ما لا
مندوحة لهم عن الإقرار به ، وقرأ الجمهور «أمّن» بشد الميم وهي «أم» دخلت على «من»
، وقرأ الأعمش «أمن» بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون «أمن» استفهاما
فتكون في معنى «أم من» المتقدمة ، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء
وتقدير الخير يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى ، و «الحدائق» مجتمع الشجر
من الأعناب والنخيل وغير ذلك ، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق
به ، وقال قوم يقال ذلك كان جدارا أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة
الجمال والنضرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات بهجة» بجمع «ذات» وفتح الهاء من «بهجة»
، ثم أخبر على جهة التوقيف أنه (ما كانَ) للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها
، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين
من قوله «أإلاه» وأ إذا وأ إنك لأنت يوسف» ، قال أبو حاتم القراءة باجتماع
الهمزتين محدثة. لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارئ عتيق ، و (يَعْدِلُونَ) يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم ،
ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلا ومثيلا ، و (خِلالَها) معناه بينها وأثناءها ، و «الرواسي» الجبال ، رسا الشيء
يرسو إذا ثبت وتأصل ، و «البحران» ، الماء العذب بجملته والماء الأجاج بجملته ، و
«الحاجز» ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها على رقتها في بعض المواضع
ولطافتها
التي لو لا قدرة
الله تعالى لغلب الملح العذب وكل ما مضى من القول في تأويل في قوله (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) [الفرقان : ٥٣]
فهو مترتب هاهنا وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢)
أَمَّنْ
يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)
(٦٦)
وقفهم في هذه
الآية على المعاني التي تبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها وهي عبر
ونعم ، فالحجة قائمة بها من الوجهين ، وقوله تعالى : (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) معناه بشرط إن شاء على المعتقد في الإجابة ، لكن (الْمُضْطَرَّ) لا يجيبه متى أجيب إلا الله عزوجل ، و (السُّوءَ) عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده ، وقرأ الحسن «ويجعلكم»
بياء على صيغة المستقبل ورويت عنه بنون ، وكل قرن خليف للذي قبله.
وقرأ جمهور القراء
«تذكرون» بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وحده والحسن والأعمش بالياء على
الغيب ، و «الظلمات» عام لظلمة الليل التي هي الحقيقة في اللغة ولظلمة الجهل
والضلال والخوف التي هي مجازات وتشبيهات وهذا كقول الشاعر :
«تجلت عمايات
الرجال عن الصبا»
وكما تقول أظلم
الأمر وأنار ، وقد تقدم اختلاف القراء في قوله (نَشْراً) ، وقرأ الحسن وغيره ، «يشركون» بالياء على الغيبة ، وقرأ
الجمهور «تشركون» على المخاطبة ، و «بدء الخلق» اختراعه وإيجاده ، و (الْخَلْقَ) هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث
ذكر الإعادة ، و «الإعادة» البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب (الْخَلْقَ) مصدر خلق يخلق ويكون في (يَبْدَؤُا وَيُعِيدُ) استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر
كذا وكذا إذا كان يتقنه ، والرزق (مِنَ السَّماءِ) بالمطر ومن (الْأَرْضِ) بالنبات ، هذا مشهور ما يحسه البشر ، وكم لله من لطف خفي ،
ثم أمر عزوجل نبيه أن يوقفهم على أن (الْغَيْبَ) مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمي غيبا لغيبه عن المخلوقين ،
ويروى أن هذه الآية من قولهم (قُلْ لا يَعْلَمُ) ، إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي
يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد ، فأعلم عزوجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء
بلفظ يعم الساعة
وغيرها ، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) وبهذه الآية احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها ومن زعم
أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية ، والمكتوبة في قوله تعالى: (إِلَّا اللهُ) بدل من (مَنْ) ، وقرأ جمهور الناس «أيان» بفتح الهمزة ، وقرأ أبو عبد
الرحمن السلمي «إيان» بكسرها وهما لغتان ، وقرأ جمهور القراء «بل ادارك» أصله
تدارك أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت ثم احتيج إلى ألف الوصل ، وقرأ أبي بن
كعب فيما روي عنه «تدارك» ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «بل أدرك» على وزن افتعل
وهي بمعنى تفاعل ، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار «بل ادّرك» بفتح الام ولا
همزة تشديد الدال دون الف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة ، «بل
أدرك» وقرأ مجاهد «أم أدرك» بدل «بل» ، وفي مصحف أبي بن كعب «أم تدارك علمهم» ،
وقرأ ابن عباس «بل أدرك» وقرأ ابن عباس أيضا «بل آدارك» بهمزة ومدة على جهة
الاستفهام ، وقرأ ابن محيصن «بل آدرك» على الاستفهام ونسبها أبو عمرو الداني إلى
ابن عباس والحسن.
فأما قراءة
الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم
أي أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم؟ وأما القراءات المتقدمة فتحتمل معنيين أحدهما
«بل أدرك علمهم» أي تناهى كما تقول أدرك النبات وغيره وكما تقول هذا ما أدرك علمي
من كذا وكذا فمعناه قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقدارا
فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا وكذلك «أدرك وتدارك»
وسواها وإن جملت هذه القراءة معنى التوقيف والاستفهام ساغ وجاء إنكارا لأن أدركوا
شيئا نافعا ، والمعنى الثاني «بل أدرك» بمعنى يدرك أي إنهم في الآخرة يدرك علمهم
وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها وأما في الدنيا فلا. وهذا هو
تأويل ابن عباس ونحى إليه الزجاج ، فقوله (فِي الْآخِرَةِ) على هذا التأويل ظرف ، وعلى التأويل الأول (فِي) بمعنى الباء ، و «العلم» قد يتعدى بحرف الجر تقول علمي
يزيد كذا ومنه قول الشاعر : [الطويل]
وعلمي بإسدام
المياه .... البيت
ثم وصفهم عزوجل بأنهم (فِي شَكٍّ مِنْها) ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر
الآخرة ، و (عَمُونَ) أصله عميون كحذرون وغيره.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ
(٦٧)
لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(٦٩) وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ
(٧٣)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)
(٧٤)
استبعد الكفار أن
تبعث الأجساد والرمم من القبور واستملحوا ذلك فذكر ذلك عنهم على جهة الرد
عليهم ، وقرأ أبو
عمرو وابن كثير «أ. ذا. أ. نا» مهموز ، غير أن أبا عمرو يمد وابن كثير لا يمد ،
وقرأ عاصم وحمزة «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما ، وقرأ نافع «إذا» مكسورة الألف «أنا.»
ممدوة الألف ، وقرأ الباقون «آيذا» ممدودة «إننا» بنونين وكسر الألف ، ثم ذكر
الكفار أن هذه المقالة مما قد وعد بها قبل وردوا على جميع الأنبياء وجعلوها من
الأساطير ، ثم وعظهم تعالى بحال من كذب من الأمم فأمر نبيه أن يأمرهم بالسير
والتطلع على حال مجرمي الأمم وبالحذر أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، وهذا التحذير
يقتضيه المعنى ، ثم سلى نبيه عليهالسلام عنهم ، وهذا بحسب ما كان عنده من الحرص عليهم الاهتمام
بأمرهم ، وقرأ ابن كثير «في ضيق» بكسر الضاد ورويت عن نافع ، وقرأ الباقون بفتحها و
«والضّيق» و «الضّيق» مصدران بمعنى واحد ، وكره أبو علي أن يكون «ضيق» كهين ولين
مسهلة من ضيق قال: لأن ذلك يقتضي أن تقام الصفة مقام الموصوف ، ثم ذكر استعجال
قريش بأمر الساعة والعذاب بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) ، على معنى التعجيز للواعد به ، فأمر تعالى نبيه أن
يتوعدهم بأنه عسى أن يأذن الله في أن يقرب منهم بعض ما استعجلوه من الساعة والعذاب.
و (رَدِفَ) معناه قرب وأزف قاله ابن عباس وغيره ، ولكنها عبارة عما
يجيء بعد الشيء قريبا منه ولكونه بمعنى هذه الأفعال الواقعة تعدى بحرف وإلا فبابه
أن يتجاوز بنفسه ، وقرأ الجمهور بكسر الدال ، وقرأ الأعرج «ردف» بفتح الدال ، وقرأ
جمهور الناس ، «تكن» من أكن وقرأ ابن محيصن وابن السميفع «تكن» من كن وهما بمعنى.
قوله عزوجل :
(وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ
(٧٥) إِنَّ
هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما
أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ
أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)
(٨٢)
التاء في (غائِبَةٍ) للمبالغة ، أي ما من شيء في غائبة الغيب والخفاء (إِلَّا فِي كِتابٍ) عند الله عزوجل وفي مكنون علمه ، ثم نبه تعالى على (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) أخبر (بَنِي إِسْرائِيلَ) بأكثر الأشياء التي كان بينهم الخلاف في صفتها فجاءت في
القرآن على وجهها ، ثم وصفه تعالى بأنه هدى ورحمة للمؤمنين ، كما أنه عمى على
الكافرين المحتوم عليهم ومعنى ذلك أن كفرهم استتب مع قيام الحجة ووضوح الطريق فكثر
عماهم بهذه الجهة ثم أخبر أن ذلك كله بقضاء من الله وحكم قضاه فيهم وبينهم ، ثم
أمره بالتوكل عليه والثقة بالله وبأنه (عَلَى الْحَقِ) أي إنك الجدير بالنصرة والظهور ، ثم سلاه عنهم وشبههم ب (الْمَوْتى) من
حيث الفائدة في
القول لهؤلاء وهؤلاء معدومة فشبههم مرة ب (الْمَوْتى) ومرة ب (الصُّمَ) ، قال العلماء : الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله
بكفره.
قال القاضي أبو
محمد رضي الله عنه : واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلىاللهعليهوسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي
ووقفت مع هذه الآية وقد صح أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم» فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد
عليهالسلام في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ، ولو لا إخبار
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من
الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم.
وقد عورضت هذه
الآية بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في
أوقات قالوا : فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا كله غير معارض للآية لأن السلام على القبور إنما هو عبادة وعند الله
الثواب عليها وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم ، وإن جوزنا مع
هذا أن الأرواح في وقت على القبور فإن سمع فليس الروح بميت وإنما المراد بقوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها ، وفيها تقول خرقت
العادة لمحمد عليهالسلام في أهل القليب وذلك كنحو قوله صلىاللهعليهوسلم في الموتى «إذا دخل عليهم الملكان إنهم يسمعون خفق النعال»
، وقرأ ابن كثير «ولا يسمع» بالياء من تحت «الصمّ» رفعا ومثله في الروم ، وقرأ
الباقون «تسمع» بالتاء «الصمّ» نصبا ، وقرأ جمهور القراء «بهادي العمي» بالإضافة ،
وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد العمي» بتنوين الدال ونصب «العمي» ، وقرأ
حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي» بفعل مستقبل وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن يعمر ،
وفي مصحف عبد الله «وما أن تهدي العمي» ، ومعنى قوله (وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) ، إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله
تعالى في ذلك أي حتمه عليهم ، وقضاؤه وهذا بمنزلة قوله تعالى : (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) [الزمر : ٧١]
فمعنى الآية وإذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم
دابة من الأرض ، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر
ولا يبقى منيب ولا تائب ، كما أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد
آمن ، ووقع ، عبارة عن الثبوت واللزوم وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب
من أول الأشراط وإن لم تعين الأولى وكذلك الدجال.
قال القاضي أبو
محمد : وظاهر الأحاديث والروايات أن الشمس آخرها لأن التوبة تنقطع معها وتعطي
الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيمانا
وحينئذ ينفخ في الصور ، ونحن نروي أن الدابة تسم قوما بالإيمان وتجد أن عيسى ابن
مريم يعدل بعد الدجال ويؤمن الناس به وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل الصفا بمكة
قاله عبد الله بن عمر ، وقال عبد الله بن عمرو نحوه ، وقال : لو شئت أن أضع قدمي
على موضع خروجها لفعلت ، وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة ، وروي أنها تخرج من
مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليهالسلام ، وروى بعضهم عن حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث
خرجات ، وروي أنها
دابة مزغبة شعراء ، وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب
وقوائمها في الأرض ، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان ، وذكر الثعلبي عن أبي الزبير
نحوه ، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم ، فعلى
هذا التأويل (دَابَّةً) إنما هو اسم جنس ، وحكى النقاش عن ابن عباس أنها الثعبان
المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة ، وقرأ
جمهور الناس «تكلمهم» من الكلام ، وفي مصحف أبيّ «تنبئهم» ، وفسرها عكرمة بتسمهم
قال قتادة : وفي بعض القراءة تحدثهم.
وقرأ أبو زرعة بن
عمرو بن جريج «تكلمهم» بكسر اللام من الكلم وهو الجرح ، قال أبو الفتح: وهي قراءة
ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري ، وقال ابن عباس : كلا والله تفعل تكلمهم
وتكلمهم.
قال القاضي أبو
محمد : وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزجره وتشتمه وربما
حطمته وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها ، وقرأ
جمهور القراء «إن الناس» بكسر «إن» وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «أن» بفتح الألف ،
وفي قراءة عبد الله «تكلمهم بأن» وهذا تصديق للفتح ، وعلى هذه القراءة يكون قوله (أَنَّ النَّاسَ) إلى آخر القراءة من تمام كلام الدابة ، وروي ذلك عن ابن
عباس ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عزوجل.
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ
قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ
شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)
(٨٧)
المعنى واذكر يوم
، وهذا تذكير بيوم القيامة و (نَحْشُرُ) نجمع ، و (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) يريد من كل قرن من الناس متقدم ، لأن كل عصر لم يخل من
كفرة بالله من لدن تفرق بني آدم ، و «الفوج» الجماعة الكثيرة من الناس والمعنى ممن
حاله أنه مكذب بآياتنا ، و (يُوزَعُونَ) معناه يكفون في السوق أي يحبس أولهم على آخرهم ، قال قتادة
وغيره : ومنه وازع الجيش ، وفيه يقول عبد الشارق بن عبد العزى : [الوافر]
فجاؤوا عارضا
بردا وجئنا
|
|
كمثل السيل نركب
وازعينا
|
ثم أخبر تعالى عن
توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ (أَكَذَّبْتُمْ) الآية ، ثم قال (أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) على معنى استيفاء الحجج ، أي إن كان لكم عمل أو حجة
فهاتوها ، وقرأ أبو حيوة «أما ذا كنتم تعملون» بتخفيف الميم ، ثم أخبر عن وقوع
القول عليهم أي نفوذ العذاب وحتم القضاء وأنهم (لا يَنْطِقُونَ) بحجة لأنها ليست لهم وهذا في موطن من مواطن القيامة وفي
فريق من الناس لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.
ثم ذكر تعالى
الآية في (اللَّيْلَ) وكونه وقت سكون واتداع لجميع الحيوان والمهم من ذلك بنو
آدم ، وكون (النَّهارَ مُبْصِراً) أي ذا إبصار ، وهذا كما تقول ليل قائم ونهار صائم ، ومعنى
ذلك يقام فيه ويصام ، فكذلك هذا ، معناه يبصر فيه فهو لذلك ذو إبصار ، ثم تجوز بأن
قيل (مُبْصِراً) فهو على النسب كعيشة راضية ، و «الآيات» في ذلك هي
للمؤمنين والكافرين ، هي آية لجميعهم في نفسها ، لكن من حيث الانتفاع بها والنظر
النافع إنما هو للمؤمنين فلذلك خصوا بالذكر ، ثم ذكر تعالى يوم (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، وهو القرن في قول جمهور الأمة ، وهو مقتضى الأحاديث ،
وقال مجاهد : هو كهيئة البوق ، وقالت فرقة : «الصور» جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة
وجمر والأول أشهر ، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليهالسلام هو صاحب «الصور» وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام
الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ ، وهذه النفخة المذكورة
في هذه الآية هي نفخة الفزع ، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات :
نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام
من القبور ، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة ،
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨]
وقالوا : أخرى لا يقال إلا في الثانية.
قال القاضي أبو
محمد : والقول الأول أصح ، و (أُخْرى) [الزمر : ٦٨] يقال
في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم : [الكامل]
«ولقد شفعتهما
بآخر ثالث»
ومنه قوله تعالى :
(وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠]. وأما
قول الشاعر : [مجزوء الكامل]
جعلت لها عودين
من
|
|
نشم وآخر من
ثمامه
|
فيحتمل أن يريد به
ثانيا وثالثا فلا حجة فيه ، وقال تعالى : (فَفَزِعَ) وهو أمر لم يقع بعد إشعارا بصحة وقوعه وهذا معنى وضع
الماضي موضع المستقبل ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء
عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور ، قال أبو هريرة : هي في الشهداء ، وذكر
الرماني أنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال مقاتل : هي في جبريل عليهالسلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإذا كان الفزع الأكبر لا
ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا.
قال القاضي أبو
محمد : على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها ، وقرأ
جمهور القراء «وكل آتوه» على وزن فاعلوه ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «أتوه» على صيغة
الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة ، وقرأ قتادة «أتاه» على الإفراد
اتباعا للفظ «كل» وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها ، و «الداخر» المتذلل
الخاضع ، قال ابن زيد وابن عباس : «الداخر» الصاغر ، وقرأ الحسن «دخرين» بغير ألف
، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء
عند ربهم يرزقون ، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن في ذلك اليوم.
قوله عزوجل :
(وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
مَنْ
جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
وَمَنْ
جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
إِنَّما
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ
شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ
إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ)
(٩٣)
هذا وصف حال
الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية» هي بالعين وهذه الحال «للجبال»
هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن
، ثم تصير في آخر الأمر هباء منبثا ، و «الجمود» ، التضام والتلزز في الجوهر ، قال
ابن عباس (جامِدَةً) قائمة ، ونظيره قول الشاعر [النابغة] : [الطويل]
بأرعن مثل الطود
تحسب أنهم
|
|
وقوف لحاج
والركاب تهملج
|
و (صُنْعَ اللهِ) مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على
الإغراء بمعنى انظروا صنع الله ، و «الإتقان» الإحسان في المعمولات وأن تكون حسانا
وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون» بالياء وقرأ الباقون «تفعلون»
بالتاء على الخطاب ، و «الحسنة» الإيمان ، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة : هي لا
إله إلا الله ، وروي عن علي بن الحسين أنه قال : كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي ب «لا
إله إلا الله» فسمعت قائلا يقول إنها الكلمة التي قال الله فيها (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها) وقوله (خَيْرٌ مِنْها) يحتمل أن يكون للتفضيل ، ويكون في قوله (مِنْها) حذف مضاف تقديره خير من قدرها واستحقاقها ، بمعنى أن الله
تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته ، قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشرا والداعية
إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل ، ويحتمل أن يكون خبر
ليس للتفضيل بل اسم للثواب والنعمة ، ويكون قوله تعالى : (مِنْها) لابتداء الغاية ، أي هذا الخير الذي يكون له هو من حسنته
وبسببها ، وهذا قول الحسن وابن جريج ، وقال عكرمة : ليس شيء خيرا من لا إله إلا
الله ، وإنما له الخير منها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «من فزع»
بالإضافة ، ثم اختلفوا في فتح الميم وكسرها من (يَوْمَئِذٍ) فقرأ أكثرهم بفتح الميم على بناء الظرف لما أضيف إلى غير
متمكن ، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع بكسر الميم على إعمال الإضافة ، وذلك أن
الظروف إذا أضيفت إلى غير متمكن جاز بناؤها وإعمال الإضافة فيها.
ومن ذلك قول
الشاعر [النابغة الذبياني] : [الطويل]
على حين عاتبت
المشيب على الصبا
|
|
وقلت ألمّا أصح
والشيب وازع
|
فإنه يروى «على
حين» بفتح النون و «على حين» بكسرها ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «من فزع» بالتنوين
وترك الإضافة ولا يجوز مع هذه القراءة إلا فتح الميم من «يومئذ» ، و «السيئة» التي
هي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي فيمن ختم الله تعالى عليه من أهل المشيئة بدخول
النار ، و «كبت» معناه جعلت تلي النار ، وجاء هذا كبا من حيث خلقتها في الدنيا
تعطي ارتفاعها ، وإذا كبت الوجوه فسائر البدن أدخل في النار إذ الوجه موضع الشرف
والحواس ، وقوله (هَلْ تُجْزَوْنَ) بمعنى يقال لهم ذلك وهذا على جهة التوبيخ ، وقوله (إِنَّما أُمِرْتُ) بمعنى قل يا محمد لقومك (إِنَّما أُمِرْتُ) ، و (الْبَلْدَةِ) المشار إليها مكة ، وقرأ جمهور الناس «الذي حرمها» ، وقرأ
ابن عباس وابن مسعود «التي حرمها» ، وأضاف في هذه الآية التحريم إلى الله تعالى من
حيث ذلك بقضائه وسابق علمه وأضافه النبي صلىاللهعليهوسلم إلى إبراهيم في قوله «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت
المدينة» ، من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته فليس بين الآية
والحديث تعارض ، وفي قوله (حَرَّمَها) تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات
والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب ، وقوله (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) معناه بالملك والعبودية ، وقرأ جمهور الناس «أن أتلو» عطفا
على قوله (أَنْ أَكُونَ) وقرأ ابن مسعود «وأن اتل القرآن» بمعنى وقيل لي اتل القرآن
و «اتل» معناه تابع بقراءتك بين آياته واسرده وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى خير
كثير ، وقوله (فَمَنِ اهْتَدى) معناه من تكسب الهدى والإيمان ونظر نظرا ينجيه ف (لِنَفْسِهِ) سعيه.
قال القاضي أبو
محمد : فنسبة الهدى والضلال إلى البشر في هذه الآية إنما هي بالتكسب والحرص والحال
التي يقع عليها الثواب والعقاب والكل أيضا من الله تعالى بالاختراع ، وقوله (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) توعد بعذاب الدنيا كبدر ، والفتح ، ونحوه وبعذاب الآخرة ،
وقرأ جمهور القراء «عما يعملون» ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم عما «تعملون»
بالتاء من فوق على مخاطبتهم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القصص
هذه السورة مكية.
إلا قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] ، نزلت هذه بالجحفة في وقت هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، قاله ابن سلام وغيره ، وقال مقاتل : فيها من
المدني (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [القصص : ٥٢] إلى
قوله (لا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥].
قوله عزوجل :
(طسم (١)
تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)
إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً
مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ)
(٤)
تقدم القول في
الحروف التي في أوائل السور بما أغنى عن الإعادة ، فمن قال إن هذه الحروف من أسماء
الله تعالى قال إن الطاء من الطول الذي لله تعالى والسين من السلام والميم من
المنعم أو الرحيم ونحو هذا ، وقوله تعالى : (تِلْكَ) يتقدر موضعها بحسب كل قول من الأقوال في الحروف ، فمن جعل (طسم) مثالا لحروف المعجم جاءت الإشارة ب (تِلْكَ) إلى حروف المعجم ، ومن قطعها قال (تِلْكَ) في موضع هذه ، وساغ هذا من حيث لم تكن حاضرة عتيدة بل هي
أقوال ينقضي بعضها شيئا فشيئا فسائغ أن يقال في الإشارة إليها (تِلْكَ).
قال القاضي أبو
محمد : والأصل أن (تِلْكَ) إشارة إلى ما غاب و «هذه» إشارة إلى ما حضر ، وقد تتداخل
متى كان في الغيبة حصول وثقة به تقوم مقام الحضور ـ ومتى كان في الحضور بعد ما
يقوم مقام الغيبة فمن ذلك قوله تعالى (وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] لما كان
موسى لا يرى ربه تعالى ، فهو وعصاه في منزل غيب ، فساغ ذلك ، ومن النقيض قول
المؤلف لكتاب ونحوه هذا كتاب وما جرى هذا المجرى فتتبعه فهو كثير فيشبه في آياتنا
هذه أن تكون (تِلْكَ) بمنزلة هذه (آياتُ الْكِتابِ
الْمُبِينِ) ، ويشبه أن تكون متمكنة من حيث الآيات كلها وقت هذه
المخاطبة لم تكن عتيدة ، و (نَتْلُوا) معناه نقص ونتابع القصص ، وخص تعالى بقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) من حيث هم المنتفعون بذلك دون غيرهم فخصوا تشريفا ، و (عَلا فِي الْأَرْضِ) من علو الطغيان والتغلب ، وقوله (فِي الْأَرْضِ) يريد في أرض مصر وموضع ملكه ،
ومتى جاءت (الْأَرْضِ) هكذا عامة فإنما يراد بها الأرض التي تشبه قصة القول
المسوق لأن الأشياء التي تعم الأرض كلها قليلة والأكثر ما ذكرناه ، و «الشيع»
الفرق ، وكان هذا الفعل من فرعون بأن جعل القبط ملوكا مستخدمين ، وجعل بني إسرائيل
عبيدا مستخدمين ، وهم كانوا الطائفة المستضعفة ، و (يُذَبِّحُ) مضعف للمبالغة والعبارة عن تكرار الفعل ، وقال قتادة كان
هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماؤه إن غلاما لبني إسرائيل يفسد ملكك ،
وقال السدي : رأى في ذلك رؤيا ـ فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين فرأى أنه يقطع
نسلهم ، فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما ، فولد هارون في عام الاستحياء وولد موسى في
عام الذبح ، وقرأ جمهور القراء «يذبح» بضم الياء وكسر الباء على التكثير ، وقرأ
أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال ، قال وهب بن منبه : بلغني أن فرعون
ذبح في هذه المحاولة سبعين ألفا من الأطفال ، وقال النقاش : جميع ما قتل ستة عشر
طفلا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : طمع بجهله أن يرد القدر وأين هذا المنزع من قول النبي عليهالسلام «فلن تقدر عليه»
يعني ابن صياد ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥)
وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما
كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ)
(٧)
المعنى يستضعف
فرعون ونحن نريد أن ننعم ونعظم المنة على أولئك المستضعفين ، و «الأئمة» ولاة
الأمور قاله قتادة (وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ) يريد أرض مصر والشام ، وقرأ الأعمش «ولنمكن» بلام ، وقرأ
الجمهور «ونري فرعون» بضم النون وكسر الراء وفتح الياء ونصب فرعون ، وقرأ حمزة
والكسائي «ويرى» بالياء وفتح الراء وسكون الياء على الفعل الماضي وإسناد الفعل إلى
(فِرْعَوْنَ) ومن بعده والمعنى ويقع فرعون وقومه وجنوده فيما خافوه
وحذروه من جهة بني إسرائيل وظهورهم ، (وَهامانَ) هو وزير فرعون وأكبر رجاله ، فذكر لمحله من الكفر ولنباهته
في قومه فله في هذا الموضع صغار ولعنة لا شرف ، وهذا «الوحي» (إِلى أُمِّ مُوسى) قالت فرقة : كان قولا في منامها ، وقال قتادة : كان إلهاما
، وقالت فرقة : كان بملك تمثل لها وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال
الملك لها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص في الحديث المشهور وغير ذلك مما روي
من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وجملة أمر أم موسى أنها علمت أن الذي وقع
في نفسها هو من عند الله ووعد منه ، يقتضي ذلك قوله تعالى بعد : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [القصص : ١٣] وهذا
معنى قوله (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) [القصص : ١٠] أي
بالوعد ، وقال السدي وغيره : أمرت أن ترضعه عقب الولادة وتصنع به ما في الآية. لأن
الخوف كان عقب كل
ولادة ، وقال ابن جريج : أمرت برضاعه أربعة أشهر في بستان فإذا خافت أن يصيح لأن
لبنها لا يكفيه ، صنعت به هذا.
قال القاضي أبو
محمد : والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده أمران : أحدهما قوله (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) و «إذا» ظرف لما
يستقبل من الزمان ، والآخر أنه لم يقبل المراضع والطفل إثر ولادته لا يعقل ذلك ،
اللهم إلا أن يكون هذا منه بأن الله تعالى حرمها عليه وجعله يأباها بخلاف سائر
الأطفال ، وقرأ عمرو بن عبد الواحد «أن أرضعيه» بكسر النون وذلك على حذف الهمزة
عبطا لا تخفيفا ، والتخفيف القياسي فتح النون قاله ابن جني ، ونسب المهدوي هذه
القراءة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و (الْيَمِ) جمهور الماء ومعظمه ، والمراد نيل مصر ، وروي في قصص هذه
الآية أن أم موسى واسمها يوحانه أخذته ولفته في ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا وسدته
عليه بقفل وعلقت مفتاحه عليه وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده فلما غاب عنها
عاودها بثها وأسفت عليه وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الأخت تقصه
أي تطلب أثره.
قوله عزوجل :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ
(٨) وَقالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ
يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)
وَقالَتْ
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)
(١١)
«الالتقاط» اللقاء
على غير قصد وروية ، ومنه قول الشاعر [نقادة الأسدي] : [الرجز]
ومنهل وردته
التقاطا
|
|
لم ألق إذ وردته
فراطا
|
إلا الحمام
القمر والغطاطا
|
|
فهن يلغطن به
إلغاطا
|
ومنه اللغطة و (آلُ فِرْعَوْنَ) أهله وجملته ، وروي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم
في اليم فأمرت بسوقه وفتحته فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته ، وقال السدي : إن
جواريها كان لهن في القصر على النيل فرضة يدخل الماء فيها إلى القصر حتى ينلنه في
المرافق والمنافع فبينا هنّ يغسلن في تلك الفرضة إذ جاء التابوت فحملنه إلى
مولاتهن ، وقال ابن إسحاق : رآه فرعون يعوم فأمر بسوقه وآسية جالسة معه فكان ما
تقدم ، وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) هي لام العاقبة لا أن المقصد بالالتقاط كان لأن يكون عدوا
، وقرأ الجمهور «وحزنا» بفتح الحاء والزاي.
وقرأ حمزة
والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «وحزنا» بضم الحاء وسكون الزاي ، و «الخاطئ»
متعمد الخطأ ، والمخطئ الذي لا يتعمده ، واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه
امرأة فرعون (قُرَّة
عَيْنٍ
لِي وَلَكَ) ، فقالت فرقة : كان ذلك عند التقاط التابوت لما أشعرت
فرعون به سبق إلى وهمه أنه من بني إسرائيل وأن ذلك قصد به ليخلص من الذبح فقال
عليّ بالذباحين فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون : أما لي فلا ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم «لو قال فرعون نعم
لآمن بموسى ولكان قرة عين له» ، وقال السدي : بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة
وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ بذبحه
وحينئذ خاطبته بهذا وجربته له في الجمرة والياقوتة فاحترق لسانه وعلق العقدة ،
وقوله (لا يَشْعُرُونَ) أي بأنه الذي يفسد الملك على يديه قال قتادة وغيره ، وقرأ
ابن مسعود «لا تقتلوه قرة عين لي ولك» قدم وأخر ، وقوله (وَأَصْبَحَ) عبارة عن دوام الحال واستقرارها وهي كظل ، ومنه قول أبي
سفيان للعباس يوم الفتح : لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما يريد استقرت حاله
عظيما. وقرأ جمهور الناس «فارغا» من الفراغ واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس : «فارغا»
من كل شيء إلا من ذكر موسى ، وقال مالك : هو ذهاب العقل.
قال الفقيه الإمام
القاضي : نحو قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ) [إبراهيم : ٤٣]
وقالت فرقة «فارغا» من الصبر ، وقال ابن زيد «فارغا» من وعد الله تعالى ووحيه
إليها أي تناسته بالهم وفتر أثره في نفسها وقال لها إبليس فررت به من قتل لك فيه
أجر وقتلته بيدك ، وقال أبو عبيدة «فارغا» من الحزن إذ لم يغرق ، وقرأ فضالة بن
عبد الله ويقال ابن عبيد والحسن «فزعا» من الفزع بالفاء والزاي ، وقرأ ابن عباس «قرعا»
بالقاف والراء من القارعة وهي الهم العظيم ، وقرأ بعض الصحابة رضي الله عنهم «فرغا»
بالفاء المكسورة والراء الساكنة والغين المنقوطة ومعناها ذاهبا هدرا تالفا من الهم
والحزن ، ومنه قول طليحة الأسدي في حبال أخيه : [الطويل]
فإن تك قتلى قد
أصيبت نفوسهم
|
|
فلن يذهبوا فرغا
بقتل حبال
|
أي هدرا تالفا لا
يتبع ، وقرأ الخليل بن أحمد «فرغا» بضم الفاء والراء. وقوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي أمر ابنها ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كادت أم موسى أن تقول وا ابناه وتخرج صائحة على
وجهها» و «الربط على القلب» تأنيسه وتقويته ، ومنه قولهم للشجاع والصابر في المضايق
: رابط الجأش ، قال قتادة : وربط على قلبها بالإيمان ، وقوله (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدقين بوعد الله وما أوحى إليها به ، ثم قالت
لأخت موسى طمعا منها وطلبا ، (قُصِّيهِ) ، والقص طلب الأثر ، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة
تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين
لم يقبل المراضع ، و (عَنْ جُنُبٍ) أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به ، يقال فيه
جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر : [الطويل]
لقد ذكرتني عن
جناب حمامة
|
|
بعسفان أهلي
فالفؤاد حزين
|
ومن جنابة قول
الأعشى : [الطويل]
أتيت حريثا
زائرا عن جنابة
|
|
فكان حريث عن
عطائي جامدا
|
قال الفقيه الإمام
القاضي : وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن
منه فيشعر لها ، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة : [الطويل]
فلا تحرمنّي
نائلا عن جنابة
|
|
فإني امرؤ وسط
القباب غريب
|
وقرأ قتادة «عن
جنب» بفتح الجيم وسكون النون وهي قراءة الحسن والأعرج ، وقرأ «عن جانب» النعمان بن
سالم ، وقرأ الجمهور «عن جنب» بضم الجيم والنون ، وقوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، معناه أنها أخته وأنها من جملة لطائف الله تعالى له
ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها ، ويقال : بصرت الشيء وأبصرته بمعنى واحد متقارب
، قال المهدوي : وقيل (عَنْ جُنُبٍ) معناه عن شوق وهي لغة لجذام يقولون جنبت إلى لقائك أي
اشتقت إليه ، وقال قتادة : معنى (عَنْ جُنُبٍ) أنها تنظر إليه كأنها لا تريده.
قوله عزوجل :
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى
أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(١٣) وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)
(١٥)
قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا) يقتضي أن الله تعالى خصه من الامتناع من ثدي النساء بما
يشد به عن عرف الأطفال وهو تحريم تنقيص ، و (الْمَراضِعَ) جمع مرضع واستعمل دون هاء التأنيث لأنه لا يلتبس بالرجال.
وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) معناه من أول أمره ، و (قَبْلُ) مبني ، والضمير في «قالت» لأخت موسى قال النقاش اسمها مريم
، و (يَكْفُلُونَهُ) ، معناه يحسنون تربيته وإرضاعه ، وعلم القوم أن مكلمتهم من
بني إسرائيل وكان ذلك عرف بني إسرائيل أن يكونوا مراضع وخدمة ، وقوله (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) يحتمل أن الضمير يعود على الطفل ويحتمل أن يعود على الملك
الذي كان الطفل في ظاهر أمره من جملته ، وقال ابن جريج : إن القوم تأولوا أنها
أعادت الضمير على الطفل فقالوا لها إنك قد عرفته فأخبرينا من هو فقالت : ما أردت
إلا أنهم ناصحون للملك ، فتخلصت منهم بهذا التأويل.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويحتمل أن يعود الضمير على الطفل ولكن يكون النصح له بسبب الملك وحرصا
على التزلف إليه والتقرب منه ، وفي الكلام هنا حذف يقتضيه الظاهر وهو أنها حملتهم
إلى أم موسى وكلموها في ذلك فدرت عليه وقبلها وحظيت بذلك وأحسن إليها وإلى أهل
بيتها ، و «قرت عينها» أي سرت بذلك ، وروي أن فرعون قال لها : ما سبب قبول هذا
الطفل؟ فقالت إني طيبة الرائحة طيبة اللبن ودمع الفرح بارد ودموع الهم حرّى سخنة
فمن هذا المعنى قيل قرت العين وسخنت ، وقرأ يعقوب «نقر» بنون مضمومة وكسر القاف ، و
(وَعْدَ اللهِ) المشار إليه وهو الذي أوحاه إليها أولا إما بملك وإما
بمنامة وإما بإلهام حسب اختلاف المفسرين في ذلك ، والقول بالإلهام يضعف أن يقال
فيه (وَعْدَ) ، وقوله تعالى : (أَكْثَرَهُمْ)
يريد القبط ، و «الأشد»
، جمع شدة كنعمة وأنعم ، هذا قول سيبويه وقال غيره : «الأشد» جمع شد وقالت فرقة «الأشد»
اسم مفرد وليس بجمع ، واختلف في قدر الأشد من السنين ، فقالت فرقة : بلوغ الحلم
وهي نحو خمسة عشر عاما ، وقالت فرقة : ثمانية عشر عاما ، وقال السدي : عشرون ،
وقالت فرقة: خمسة وعشرون ، وقالت فرقة : ثلاثون ، وقال مجاهد وابن عباس : ثلاثة
وثلاثون ، وقالت فرقة عظيمة : ستة وثلاثون ، وقال مجاهد وقتادة «الاستواء» أربعون
سنة ، وقال مكي وقيل هو ستون سنة وهذا ضعيف ، و «الأشد» شدة البدن واستحكام أسره
وقوته ، و (اسْتَوى) معناه تكامل عقله وحزمه ، وذلك عند الجمهور مع الأربعين ، و
«الحكم» الحكمة ، و «العلم» ، والمعرفة بشرع إبراهيم عليهالسلام وهي مقدمة نبوته عليهالسلام ، واختلف المتألون في قوله تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) فقال السدي : كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق
بفرعون وكان يركب مراكبه حتى أنه كان يدعى موسى بن فرعون ، فقالوا فركب فرعون يوما
وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف ثم علم موسى بركوب فرعون فركب بعده ولحق
بتلك المدينة في وقت القائلة وهو حين الغفلة ، قاله ابن عباس وقال أيضا هو ما بين
العشاء والعتمة ، وقال ابن إسحاق بل (الْمَدِينَةَ) مصر نفسها ، وكان موسى في هذا الوقت قد بدت منه مجاهرة
لفرعون وقومه بما يكرهون فكان مختفيا بنفسه متخوفا منهم فدخل متنكرا حذرا مغتفلا
للناس ، وقال ابن زيد : بل كان فرعون قد نابذه وأخرجه من المدينة وغاب عنها سنين
فنسي أمره وجاء هو والناس على غفلة بنسيانهم لأمره وبعد عهدهم به ، وقيل كان يوم
عيد ، وقوله تعالى : (يَقْتَتِلانِ) في موضع الحال أي مقتتلين ، و (شِيعَتِهِ) بنو إسرائيل ، و (عَدُوِّهِ) القبط ، وذكر الأخفش سعيد «استعانه» بالعين غير معجمة
وبالنون وهي تصحيف لا قراءة ، وذكر الثعلبي أن الذي (مِنْ شِيعَتِهِ) هو السامري وأن الآخر طباخ فرعون ، وقوله (هذا وَهذا) حكاية حال قد كانت حاضرة ولذلك عبر ب (هذا) عن غائب ماض ، «والوكز» الضرب باليد مجموعا كعقد ثلاثة
وسبعين ، وقرأ ابن مسعود «فلكزه» والمعنى واحد ، إلا أن اللكز في اللحا ، والوكز
على القلب ، وحكى الثعلبي أن في مصحف ابن مسعود «فنكزه» بالنون والمعنى واحد ، «وقضى
عليه» ، معناه قتله مجهزا ، وكان موسى عليهالسلام لم يرد قتل القبطي لكن وافقت وكزته الأجل وكان عنها موته
فندم ورأى أن ذلك من نزغ الشيطان في يده ، وأن الغضب الذي اقترنت به تلك الوكزة
كان من الشيطان ومن همزه ، ونص هو عليهالسلام على ذلك وبهذا الوجه جعله من عمله وكان فضل قوة موسى ربما
أفرط في وقت غضبه بأكثر مما يقصد.
قوله عزوجل :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)
(١٨)
ثم إن ندم موسى
حمله على الخضوع لربه والاستغفار عن ذنب باء به عنده تعالى فغفر الله خطأه ذلك.
قال قتادة : عرف والله المخرج فاستغفر.
قال القاضي أبو
محمد : ولم يزل عليهالسلام يعتمد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر حتى أنه في
القيامة يقول «وقتلت نفسا لم أؤمر بقتلها» حسبما صح في حديث الشفاعة ، ثم قال عليهالسلام لربه معاهدا (رَبِ) بنعمتك علي وبسبب إحسانك وغفرانك فأنا ملتزم ألا أكون
معينا (لِلْمُجْرِمِينَ) هذا أحسن ما تؤول.
وقال الطبري إنه
قسم أقسم بنعمة الله تعالى عنده ويضعفه صورة جواب القسم فإنه غير متمكن في قوله (فَلَنْ أَكُونَ) ، والقسم لا يتلقى ب «لن» ، والفاء تمنع أن تنزل «لن»
منزلة «لا» أو «ما» فتأمله ، واحتج الطبري بأن في قراءة عبد الله «فلا تجعلني
ظهيرا».
قال الفقيه الإمام
القاضي : واحتج أهل العلم والفضل بهذه الآية في خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من
أمرهم ورأوا أنها تتناول ذلك ، نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره ، وقوله تعالى (فَأَصْبَحَ) عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول : أصبح
زيد عالما ، و (يَتَرَقَّبُ) معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس ، قال ابن
عباس : فمر وهو بحالة الترقب وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل
آخر من القبط ، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم فلما رأى الإسرائيلي موسى
استصرخه بمعنى صاح به مستغيثا ومنه قول الشاعر [سلامة بن جندل] : [البسيط]
كنا إذا ما
أتانا صارخ فزع
|
|
كان الصراخ له
فرع الظنابيب
|
فلما رأى موسى
قتاله لآخر أعظم ذلك وقال له معاتبا ومؤنبا (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) وكانت إرادة موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي فلما دنا
منهما خشي الإسرائيلي وفزع منه وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس
فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول.
قوله عزوجل :
(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ
رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
فَخَرَجَ
مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
(٢١)
قرأ جمهور القراء «يبطش»
، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهما لغتان ، فقال الإسرائيلي لموسى معنى الآية
بلسانه وفر منه فشهر أمر القتيل ، والجبابرة شأنهم قتل الناس بغير حق فلذلك جعله
الإسرائيلي كذلك ونفى عنه الإصلاح ، قال الشعبي : من قتل رجلين فهو جبار ، ولما
اشتهر أن موسى قتل القتيل وكان قول الإسرائيلي يغلب على النفوس تصديقه على موسى مع
ما كان لموسى من المقدمات أتى رأي فرعون وملئه على قتل موسى وذبحه ، وغلب على نفس
فرعون أنه المشار إليه بفساد المملكة فأنفذ فيه من يطلبه من جنده ويأتي به للقتل
فخرج على الطريق الأعظم ، وأخذ رجل يقال إنه مؤمن آل فرعون ويقال إنه غيره
في بنيات الطريق
قصد إلى موضع موسى فبلغه قولهم له (إِنَّ الْمَلَأَ) الآية ، و (يَسْعى) معناه يسرع في مشيه قاله الزجاج وغيره وهو دون الجري ،
وقال ابن جريج : معناه يعمل وليس بالشد.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذه نزعة مالك رحمهالله في سعي الجمعة والأول عندي أظهر في هذه الآية : و (يَأْتَمِرُونَ) وزنه يفتعلون ويفتعلون يأتي كثيرا بمعنى يتفاعلون ، ومنه
ازدوج بمعنى تزاوج ، وذهل ابن قتيبة إلى أنه بمعنى يأمر بعضهم بعضا وقال : لو كان
ذلك لكان يتأمرون.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وذهب عنه أن يفتعل بمعنى يتفاعل وفي القرآن (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق : ٦] ،
وقد قال النمر بن تولب : [المتقارب]
أرى الناس قد
أحدثوا شيمة
|
|
وفي كل حادثة
يؤتمر
|
وأنشد الطبري : [الكامل]
ما تأتمر فينا
فأمرك في
|
|
يمينك أو شمالك
|
ومنه قول ربيعة بن
جشم : [المقارب]
أجار بن كعب
كأني خمر
|
|
ويعدو على المرء
ما يأتمر
|
فخرج موسى عليهالسلام وأفلت القوم فلم يجده أحد منهم وخرج بحكم فزعه ومبادرته إلى
الطريق المؤدية إلى مدين وهي مدينة قوم شعيب عليهالسلام ، وكان موسى لا يعرف تلك الطريق ، ولم يصحب أحدا ، فركب
مجهلتها واثقا بالله تعالى ومتوكلا عليه ، قال السدي ومقاتل : فروي أن الله تعالى
بعث إليه جبريل ، وقيل ملكا غيره ، فسدده إلى طريق مدين وأعطاه عصا يقال هي كانت
عصاه ، وروي أن عصاه إنما أخذها لرعي الغنم في مدين وهو أصح وأكثر ، وبين مدين
ومصر مسيرة ثمانية أيام قاله ابن جبير والناس ، وكان ملك مدين لغير فرعون ، وحكى
الطبري عن ابن جريج أو ابن أبي نجيح ، شك الطبري أنه قال : إن الذي (أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) هو الإسرائيلي
فنهاه موسى عن ذلك بعد أن قال له (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) [القصص : ١٨] ففزع
الإسرائيلي عند ذلك من موسى وخاطبه بالفضح وكان موسى من الندامة والتوبة في حد لا
يتصور معه أن يريد البطش بهذا الفرعوني الآخر ، وروى ابن جريج أن اسم الرجل الساعي
(مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ) شمعون ، وقال ابن إسحاق : شمعان.
قال الفقيه القاضي
أبو محمد : والثبت في هذا ونحوه بعيد.
قوله عزوجل :
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ
ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣)
فَسَقى
لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ
رَبِّ
إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)
(٢٤)
ولما خرج موسى عليهالسلام فارا بنفسه منفردا حافيا لا شيء معه ، رأى حاله وعدم
معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي
سَواءَ السَّبِيلِ) ، وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفا بالله تعالى عالما
بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى ، و (تَوَجَّهَ) ، رد وجهه إليها ، و (تِلْقاءَ) معناه ناحية ، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور
، و (سَواءَ السَّبِيلِ) معناه وسطه وقويمه ، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك
المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد : أراد ب (سَواءَ السَّبِيلِ) طريق مدين وقال الحسن : أراد سبيل الهدى.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلىاللهعليهوسلم «هذا الذي يهديني
السبيل» الحديث ، فمشى عليهالسلام حتى ورد (مَدْيَنَ) أي بلغها ، و «وروده الماء» معناه بلغه لا أنه دخل فيه ،
ولفظة «الورود» قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون بمعنى الإطلال عليه
والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ، وهذه
الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها) [مريم : ٧١] ، و (مَدْيَنَ) لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة ، و «الأمة» الجمع الكثير ، و (يَسْقُونَ) معناه ماشيتهم ، و (مِنْ دُونِهِمُ) ، معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى «المرأتين»
قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما (مِنْ دُونِهِمُ) بالإضافة إليه ، و (تَذُودانِ) معناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قوله عليهالسلام «فليذادن رجال عن
حوضي» الحديث ، وشاهد الشعر في ذلك كثير ، وفي بعض المصاحف «امرأتين حابستين
تذودان» ، واختلف في المذود ، فقال عباس وغيره (تَذُودانِ) غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء ، وقال قتادة (تَذُودانِ) الناس عن غنمهما ، فلما رأى موسى عليهالسلام انتزاح المرأتين (قالَ ما خَطْبُكُما) أي ما أمركما وشأنكما ، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما
هو في مصاب أو مضطهد أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر
فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما (شَيْخٌ كَبِيرٌ) فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما
لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأتي حتى يصدر
الناس عن الماء ويخلى ، وحينئذ تردان ، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم
الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى
، فعن هذا الغلب الذي كان منه ، وصفته إحداهما بالقوة ، وقالت فرقة : بل كانت
آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من
الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليهالسلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها
لا يرفعه إلا سبعة ، قاله ابن زيد ، وقال ابن جريج : عشرة ، وقال ابن عباس :
ثلاثون ، وقال الزجاج : أربعون ، فرفعه موسى وسقى للمرأتين ، فعن رفع الصخرة وصفته
بالقوة ، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت
عادة المرأتين شرب الفضلات ، وقرأ الجمهور «نسقي» بفتح النون ، وقرأ طلحة «نسقي»
بضمها ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يصدر» بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن
وأبي جعفر وقتادة ، وقرأ الباقون «يصدر» بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول
تقديره مواشيهم وحذف المفعول
كثير في القرآن
والكلام ، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى ، و (الرِّعاءُ) جمع راع ، و (تَوَلَّى) موسى عليهالسلام إلى ظل سمرة قاله ابن مسعود ، وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، ولم يصرح بسؤال ، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا
الكلام ما يأكله ، قال ابن عباس : وكان قد بلغ به الجوع واخضر لونه من أكل البقل
وضعف حتى لصق بطنه بظهره ، ورئيت خضرة البقل في بطنه وإنه لأكرم الخلق يومئذ على
الله ، وروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدمه ، وفي هذا معتبر وحاكم بهوان
الدنيا على الله تعالى.
قوله عزوجل :
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما
يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)
(٢٧)
في هذا الموضع
اختصار يدل عليه الظاهر قدره ابن إسحاق فذهبتا إلى أبيهما سريعتين وكانت عادتهما
الإبطاء في السقي فحدثتاه بما كان من أمر الرجل الذي سقى لهما فأمر الكبرى من
بنتيه ، وقيل الصغرى ، أن تدعوه له فجاءت على ما في هذه الآية ، وروي أن اسم
إحداهما ليا والأخرى شرفا ، وروي أن اسم زوجة موسى منهما صفورة ، وقيل إن اسمها
صوريا ، وقال وهب : زوجه الكبرى ، وروي عن النبي عليهالسلام أنه زوجه الصغرى ، وذكره الثعلبي ومكي من طريق أبي ذر ،
وقال النقاش : ويقال كانتا توأمتين ، وولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار ، وقوله (تَمْشِي) حال من (إِحْداهُما) ، وقوله (عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي خفرة قد سترت وجهها بكم درعها قاله عمر بن الخطاب رضي
الله عنه ، وقال عمرو بن ميمون : لم تكن سلفعا من النساء ولاجة خراجة ، واختلف
الناس في الرجل الداعي لموسى عليهالسلام من هو ، فقال الجمهور هو شعيب عليهالسلام وهما ابنتاه ، وقال الحسن : هو ابن أخي شعيب واسمه ثروان ،
وقال أبو عبيدة : يثرون ، وقيل هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب ، وقيل إن المرأتين
إنما كان مرسلهما عمهما وهو كان صاحب الغنم وهو المزوج ولكن عبر عن العم بالأب في
جميع الأمر إذ هو بمثابته ، وروي أن موسى عليهالسلام لما جاءته بالرسالة أجاب فقام يتبعها إلى أبيها فهبت ريح
ضمت قميصها إلى بدنها فوصفت عجيزتها فتحرج موسى من النظر إليها فقال لها ارجعي
خلفي وأرشديني الطريق ففهمت عنه فذلك سبب وصفها له بالأمانة قاله ابن عباس ، فوصل
موسى عليهالسلام إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فأنسه بقوله (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون.
فلما فرغ كلامهما
قالت الابنة التي ذهبت عنه (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) الآية ، فلما وصفته بالقوة والأمانة
قال لها أبوها ومن
أين عرفت هذا منه؟ فقالت : أما قوته ففي رفع الصخرة وأما أمانته ففي تحرجه من
النظر إليّ وقت هبوب الريح ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم ، فقال له عند
ذلك الأب (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) قال ابن عباس فزوجه التي دعته ، و «تأجر» ، معناه تثيب
وقال مكي في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمر
وجعل المهر إجارة ودخل ولم ينقد شيئا.
قال القاضي أبو
محمد : أما التعيين فيشبه أنه كان في أثناء حال المراوضة وإنما عرض الأمر مجملا
وعين بعد ذلك ، وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه
فإما رسماه ، وإلا فهو من وقت العقد وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وهذا
أمر قد قرره شرعنا وجرى به في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن ، وذهب بعض
العلماء إلى أن ذلك خاص ، وبعضهم إلى أنه منسوخ ، ولم يجوز مالك رحمهالله
النكاح بالإجارة ،
وجوزها ابن حبيب وغيره إذا كانت الأجرة تصل إلى الزوجة قبل ومن لفظ شعيب عليهالسلام حسن في لفظ العقود في النكاح ، أنكحه إياها أكثر من أنكحها
إياه وهذا معترض ، وجعل شعيب «الثمانية الأعوام» شرطا ووكل العامين إلى المروءة.
قوله عزوجل :
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى
ما نَقُولُ وَكِيلٌ(٢٨) فَلَمَّا قَضى
مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ
لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ
أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)
فَلَمَّا
أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ
مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ
عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
اسْلُكْ
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)
(٣٢)
لما فرغ كلام شعيب
قرره موسى عليهالسلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان
حجج ، و (أَيَّمَا) استفهام نصبه ب (قَضَيْتُ) وما صلة للتأكيد ، وقرأ الحسن «أيما» بسكون الياء ، وقرأ
ابن مسعود «أي الأجلين ما قضيت» ، وقرأ الجمهور «فلا عدوان» بضم العين وقرأ أبو
حيوة «فلا عدوان» بكسر العين ، والمعنى لا تبعة علي من قول ولا فعل ، و «الوكيل»
الشاهد القائم بالأمر ، قال ابن زيد : ولما كمل هذا النكاح بينهما أمر شعيب موسى
أن يسير إلى بيت له فيه عصيّ وفيه هذه العصا ، فروي أن العصا وثبت إلى موسى فأخذها
وكانت عصا آدم وكانت من عير ورقة الريحان ، فروي أن شعيبا أمره بردها ففعل وذهب
يأخذ غيرها ، فوثبت إليه ، وفعل ذلك ثالثة ، فلما رأى شعيب ذلك علم أنه يرشح
للنبوءة فتركها له ،
وقيل إنما تركها
له لأنه أمر موسى بتركها ، فأبى موسى ذلك فقال له شعيب : نمد إليها جميعا فمن
طاوعته فهي له ، فمد إليها شعيب يده فثقلت ، ومد إليها موسى فخفت ووثبت إليه ،
فعلما أن هذا من الترشيح ، وقال عكرمة : إن عصا موسى إنما دفعها إليه جبريل ليلا
عند توجهه إلى مدين ، وقوله تعالى (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ) ، قال سعيد بن جبير سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى
موسى ، فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب أعني ابن عباس ، فقدمت عليه فسألته ،
فقال قضى أكملهما وأوفاهما إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قال وفى فعدت فأعلمت النصراني ، فقال صدق هذا والله
العالم ، وروي عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين ، وحكى الطبري
عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف وفي قصص هذه الآية أن موسى عليهالسلام لما قضى الأجل أراد أن يسير بأهله إلى مصر بلده وقومه وقد
كان لا محالة أحس بالترشيح للنبوءة فسار وكان رجلا غيورا لا يصحب الرفاق ، فلما
جاء في بعض طريقه في ليلة مظلمة مردة حرة قال النقاش كانت ليلة جمعة فقدوا النار
وأصلد الزند وضلوا الطريق واشتد عليهم الخصر ، فبينا هو كذلك إذ رأى نارا وكان ذلك
نورا من الله تعالى قد التبس بشجرة قال وهب كانت عليقا وقال قتادة عوسجا.
وقيل زعرورا ،
وقيل سمرة ، قاله ابن مسعود و «آنس» معناه أحس والإحساس هنا بالبصر ومن هذه اللفظة
قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦]
ومنها قول حسان : [المنسرح]
انظر خليلي بباب
جلق هل ت
|
|
ونس دون البلقاء
من أحد
|
وكان هذا الأمر
كله في (جانِبِ الطُّورِ) وهو جبل معروف بالشام ، و (الطُّورِ) كل جبل ، وخصصه قوم بأنه الذي لا ينبت فلما رأى موسى النار
سر فقال لأهله أقيموا فقد رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ) عن الطريق أين هو (أَوْ جَذْوَةٍ) وهي القطعة من النار في قطعة عود كبيرة لا لهب لها إنما هي
جمرة ومن ذلك قول الشاعر [ابن مقبل] : [البسيط]
باتت حواطب ليلى
يلتمسن لها
|
|
جزل الجذا غير
خوار ولا دعر
|
قال القاضي أبو
محمد : وأحسب أن أصل «الجذوة» أصول الشجر وأهل البوادي أبدا يوقدونها ، فتلك هي
الجذوة حقيقة ، ومنه قول السلمي يصف الصلى : [الطويل]
حمى حب هذا
النار حب خليلتي
|
|
وحب الغواني فهي
دون الحبائب
|
وبدلت بعد البان
والمسك شقوة
|
|
دخان الجذا في
رأس أشحط شاحب
|
وقرأ الجمهور «جذوة»
بكسر الجيم ، وقرأ حمزة والأعمش «جذوة» بضمها ، وقرأ عاصم «جذوة» بفتحها ، وهي
لغات والصلى حر النار ، و (تَصْطَلُونَ) تفتعلون منه أبدلت التاء طاء ، فلما أتى موسى عليهالسلام ذلك الضوء الذي رآه وهو في تلك الليلة ابن أربعين سنة نبىء
عليهالسلام ، فروي أنه كان يمشي إلى ذلك النور فكان يبعد منه تمشي به
الشجرة وهي خضراء غضة حتى (نُودِيَ) ، و «الشاطئ» والشط ضفة
الوادي ، وقوله (الْأَيْمَنِ) يحتمل أن يكون من اليمن صفة للوادي أو للشاطىء ، ويحتمل أن
يكون المعادل لليسار فذلك لا يوصف به الشاطئ إلا بالإضافة إلى موسى في استقباله
مهبط الوادي أو يعكس ذلك وكل هذا قد قيل ، و «بركة البقعة» هي ما خصت به من آيات
الله تعالى وأنواره وتكليمه لموسىعليهالسلام ، والناس على ضم الباء من «بقعة» ، وقرأ بفتحها أبو الأشهب
، قال أبو زيد : سمعت من العرب : هذه بقعة طيبة بفتح الباء ، وقوله تعالى (مِنَ الشَّجَرَةِ) يقتضي أن موسى عليهالسلام سمع ما سمع من جهة الشجرة ، وسمع وأدرك غير مكيف ولا محدد
، وقوله تعالى (أَنْ يا مُوسى) يحتمل أن تكون (أَنْ) مفسرة ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، وقرأت
فرقة «أني أنا الله» بفتح «أني» ، ثم أمره الله تعالى بإلقاء العصا ، فألقاها
فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب «الجانّ» وهو صغير الحيات فجمعت هول الثعبان ونشاط
الجانّ ، هذا قول بعضهم ، وقالت فرقة : بل «الجانّ» يعم الكبير والصغير وإنما شبه
ب «الجان» جملة العصا لاضطرابها فقط ، وولى موسى عليهالسلام فزعا منها ، و (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ، معناه لم يرجع على عقبه ، من توليه فقال الله تعالى (يا مُوسى أَقْبِلْ) فأقبل وقد آمن بتأمين الله إياه ، ثم أمره بأن يدخل يده في
جيبه وهو فتح الجبة من حيث يخرج رأس الإنسان ، وروي أن كم الجبة كان في غاية الضيق
فلم يكن له جيب تدخل يده إلا في جيبه ، و «سلك» معناه أدخل ومنه قول الشاعر : [البسيط]
حتى سلكن الشوا
منهن في مسك
|
|
من نسل جوابة
الآفاق مهداج
|
وقوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ولا مثلة.
وروي أن يده كانت
تضيء كأنها قطعة شمس ، وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ذهب مجاهد وابن زيد إلى أن ذلك حقيقة ، أمره بضم عضده
وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ، ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في
أوقات فزعه أن يقوى قلبه ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز والاستعارة وأنه أمره
بالعزم على ما أمر به وأنه كما تقول العرب اشدد حيازيمك واربط جأشك ، أي شمر في
أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه في غير ما موطن قاله أبو علي ، وقوله تعالى (فَذانِكَ بُرْهانانِ) قال مجاهد والسدي : هي إشارة إلى العصا واليد ، وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو والناس «الرّهب» بفتح الراء والهاء ، وقرأ عاصم وقتادة «الرهب»
بسكون الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم أيضا «الرّهب» بضم الراء وسكون
الهاء ، وقرأ الجحدري «الرّهب» بضم الراء والهاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فذانّك»
بشد النون ، وقرأ الباقون «فذانك» بتخفيف النون ، وقرأ شبل عن ابن كثير «فذانيك»
بياء بعد النون المخففة ، أبدل إحدى النونين ياء كراهة التضعيف ، وقرأ ابن مسعود «فذانيك»
بالياء أيضا مع شد النون وهي لغة هذيل ، وحكى المهدوي أن لغتهم تخفيف النون و «برهانان»
، حجتان ومعجزتان ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ
هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً
فَأَرْسِلْهُ
مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما
بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
وَقالَ
مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
وَقالَ
فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ
وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا
يُرْجَعُونَ)
(٣٩)
كان موسى عليهالسلام قد امتحن بمخاوف فطلب شد العضد بأخيه (هارُونُ) لأنه كان فصيح اللسان سجيح الخلق ، وقرأ الجمهور «ردءا»
بالهمز ، وقرأ نافع وحده «ردا» بتنوين الدال دون همز وهي قراءة أبي جعفر والمدنيين
وذلك على التخفيف من ردء ، والردء الوزر المعين والذي يسند إليه في الأمر ، وذهبت
فرقة إلى أنها من معنى الزيادة كما قال الشاعر [القرطبي] : [الطويل]
وأسمر خطّي كأن
كعوبه
|
|
نوى القسب قد
أردى ذراعا على العشر
|
وهذا على ترك
الهمز وأن يكون وزنه فعلا ، وقرأ الجمهور «يصدقني» بالجزم وذلك على جواب (فَأَرْسِلْهُ) ، وقرأ عاصم وحمزة «يصدقني» أي مصدقا فهو صفة للردء أو حال
، و «شد العضد» استعارة في المعونة والإنهاض ، وقرأ الحسن بضم العين من «عضد» ،
وقرأ عيسى بن عمر بفتح العين والضاد ، و «السلطان» ، الحجة ، وقوله (بِآياتِنا) يحتمل أن تتعلق الباء بقوله (وَنَجْعَلُ لَكُما) أو ب (يَصِلُونَ) وتكون باء السبب ، ويحتمل أن تتعلق بقوله (الْغالِبُونَ) أي تغلبون بآياتنا ، والآيات هي معجزاته عليهالسلام ، ولما كذبوه ورموه بالسحر قارب موسى عليهالسلام في احتجاجه وراعه تكذيبهم فرد الأمر إلى الله عزوجل وعول على ما سيظهره في شأنهم وتوعدهم بنقمة الله تعالى
منهم ، وقرأ ابن كثير «قال موسى» بغير واو ، وقرأ غيره وجميع السبعة «وقال» بواو ،
وقرأ الجمهور «تكون» بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي «يكون» ، بالياء على التذكير إذ
هي بمنزلة العاقب فهي كالصوت والصيحة والوعظ والموعظة ، واستمر فرعون في طريق
مخرقته على قومه وأمر (هامانُ) بأن يطبخ له الآجر وأن يبني له (صَرْحاً) أي سطحا في أعلى الهواء ، وليس الصرح إلا ما له سطح ،
ويحتمل أن يكون الإيقاد على الطين كالبرامي ، وترجى بذلك بزعمه أن يطلع في السماء
، فروي عن السدي أنه بناه أعلى ما يمكن ثم صعد فيه ورمى بالنبل فردها الله تعالى
إليه مخضوبة بالدم ليزيدهم عمى وفتنة ، فقال فرعون حينئذ : إني قتلت إله موسى ، ثم
قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
مِنَ الْكاذِبِينَ) يريد في أن موسى أرسله مرسل ، فالظن على بابه وهو معنى
إيجاب الكفر بمنزلة التصميم على التكذيب ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع «لا يرجعون» ،
وقرأ الباقون والحسن وخالد «لا يرجعون» بضم الياء وفتح الجيم.
قوله عزوجل :
(فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ
فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى
بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
(٤٣)
«نبذناهم» معناه
طرحناهم ، ومنه نبذ النواة ومنه قول الشاعر :
نظرت إلى عنوانه
فنبذته
|
|
كنبذك نعلا من
نعالك باليا
|
وقوم فرعون وإن
كانوا ساروا إلى البحر ودخلوه باختيارهم فإن ما ضمهم من القدر السابق السائق هو
نبذ الله تعالى إياهم فيه ، و (الْيَمِ) بحر القلزم في قول أكثر الناس ، وقالت فرقة : كان غرقهم في
نيل مصر والأول أشهر ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ) عبارة عن حالهم وأفعالهم وخاتمتهم ، أي هم بذلك كالداعين
إلى النار وهم فيه أئمة من حيث اشتهروا وبقي حديثهم ، فهم قدوة لكل كافر وعات إلى
يوم القيامة ، و (الْمَقْبُوحِينَ) الذين يقبح كل أمرهم قولا لهم وفعلا بهم ، قال ابن عباس :
هم الذين قبحوا بسواد الوجوه وزرق العيون ، (وَيَوْمَ) ظرف مقدم ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) إخبار بأنه أنزل التوراة على موسى بعد هلاك فرعون وقومه
وبعد هذه الأمم التي قد تقدم ذكرها من عاد وثمود وقرية قوم لوط وغيرها ، والقصد
بهذا الإخبار التمثيل لقريش بما تقدم في غيرها من الأمم ، وقالت فرقة : إن الآية
مضمنة أن إنزال التوراة على موسى هو بعد أن رفع الله تعالى عذاب الأمم فلم تعذب
أمة بعد نزول التوراة إلا القرية التي مسخت قردة ، فيما روي ، وقوله (بَصائِرَ) نصب على الحال ، أي طرائق هادية ، وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي على ترجي البشر وما يعطيه تأميل من أمل الأمر ، وروي عن
أبي سعيد الخدري أنه قال : ما أهلك الله تعالى أمة بعذاب منذ أنزل إلى الأرض غير
القرية التي مسخت قردة وهم الذين تعدوا في السبت ، وهذا التعذيب من سبب شرع موسى
فكأنه لا ينقص فضيلة التوراة برفع العذاب عن الأرض.
قوله عزوجل :
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً
فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ
تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(٤٥)
وَما
كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ
قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
(٤٦)
المعنى ولم تحضر
يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها ولكنها صارت إليك بوحينا أي فكان الواجب
أن يسارع إلى
الإيمان بك ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمنا زمنا فعزبت حلومهم
واستحكمت جهالتهم وضلالتهم ، و (قَضَيْنا) معناه أبعدنا وصيرنا ، و (الْأَمْرَ) يعني النبوءة ، وقالت فرقة : يعني ما أعلمه به من أمر محمد
صلىاللهعليهوسلم.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا
قُرُوناً) ، و «الثاوي» المقيم ، وقوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ) يريد وقت إنزال التوراة إلى موسى.
وقوله تعالى : (إِذْ نادَيْنا) ، روي عن أبي هريرة أنه نودي يومئذ من السماء يا أمة محمد
استجبت لكم قبل أن تدعوني وغفرت لكم قبل أن تسألوني ، فحينئذ قال موسى عليهالسلام : اللهم اجعلني من أمة محمد ، فالمعنى (إِذْ نادَيْنا) بأمرك وأخبرنا بنبوتك وقوله (رَحْمَةً) نصب على المصدر أو مفعول من أجله ، وقوله (وَلكِنْ) مرتبط بقوله (وَما كُنْتَ) أي (وَلكِنْ) جعلناك وأنفذنا أمرك قديما (رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ) أو يكون المعنى (وَلكِنْ) أعلمناك ونبأناك (رَحْمَةً) منا لك وإفضالا ، وقرأ الناس «رحمة» بالنصب ، وقرأ عيسى «رحمة»
بالرفع ، ويريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير معاصر به من العرب ، وباقي الآية بين ،
وقال الطبري : معنى قوله (إِذْ نادَيْنا) بأن سأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠)
«المصيبة» عذاب في
الدنيا على كفرهم ، وجواب (لَوْ لا) محذوف يقتضيه الكلام تقديره لعاجلناهم بما يستحقونه ، وقال
الزجاج : تقديره لما أرسلنا الرسل ، وقوله (جاءَهُمُ الْحَقُ) يريد القرآن ومحمدا عليهالسلام ، والمقالة التي قالتها قريش (لَوْ لا أُوتِيَ
مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) كانت من تعليم اليهود لهم قالوا لهم لم لا يأتي بآية باهرة
كالعصا واليد ونتق الجبل وغير ذلك ، فعكس الله عليهم قولهم ووقفهم على أنه قد وقع
منهم في تلك الآيات ما وقع من هؤلاء في هذه ، فالضمير في (يَكْفُرُوا) لليهود ، وقرأ الجمهور «ساحران» والمراد بهما موسى وهارون
قاله مجاهد ، وقال الحسن : موسى وعيسى وقال ابن عباس : موسى ومحمد ، وقال الحسن
أيضا : عيسى ومحمد عليهماالسلام ، والأول أظهر ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «سحران» والمراد
بهما التوراة
والإنجيل ، قال عكرمة ، وقال ابن عباس : التوراة والقرآن ، وقرأ ابن مسعود «سحران
اظاهرا» وهي قراءة طلحة والضحاك.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل أن يريد بما (أُوتِيَ مُوسى) أمر محمد الذي في التوراة كأنه يقول وما يطلبون بأن يأتي ب
(مِثْلَ ما أُوتِيَ
مُوسى) وهم قد كفروا في التكذيب بك بما أوتيه موسى من الإخبار بك
، وقوله (إِنَّا بِكُلٍّ
كافِرُونَ) يؤيد هذا التأويل ، و (تَظاهَرا) معناه تعاونا ، وقوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) الآية ، هذه حجة أمره الله تعالى أن يصدع بها ، أي أنتم
أيها المكذبون بهذه الكتب التي قد تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق ونهت عن
الكفر والنقائص ووعد الله تعالى مع ذلك الثواب عليها الجزيل إن كان تكذيبهم لمعنى
وبحال صحة (فَأْتُوا بِكِتابٍ
مِنْ عِنْدِ اللهِ) يهدي أكثر من هدي هذه أتبعه معكم ، ثم قال تعالى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) وهو قد علم أنهم لا يستجيبون على معنى الإيضاح لفساد حالهم
، وسياق القياس البين لأنهم متبعون لأهوائهم ، ثم عجب تعالى من ضلال من تبع هواه
بغير هداية ولغير مقصد نير وقرر على ذلك على جهة البيان أي لا أحد أضل منه.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
وَإِذا
يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا
كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)
(٥٥)
الذين وصل (لَهُمُ الْقَوْلَ) هم قريش قاله مجاهد وغيره ، وقال أبو رفاعة القرظي : نزلت
في اليهود في عشرة أنا أحدهم ذكره الطبري ، وقال الجمهور : معناه واصلنا لهم في
القرآن وتابعناه موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام ، قال
الحسن وفي ذكر الأمم المهلكة وصلت لهم قصة بقصة حسب مرور الأيام ، وذهب مجاهد أن
معنى (وَصَّلْنا) فصلنا أي جعلناه أوصالا من حيث كان أنواعا من القول في
معان مختلفة ، ومعنى اتصال بعضه ببعض حاصل من جهة أخرى لكن إنما عدد عليهم هاهنا
تقسيمه في أنواع من القول ، وذهب الجمهور إلى أن هذا التوصيل الذي وصل لهم القول
معناه وصل المعاني من الوعظ والزجر وذكر الآخرة وغير ذلك ، وذهبت فرقة إلى أن
الإشارة بتوصيل القول إنما هي إلى الألفاظ أي إلى الإعجاز ، فالمعنى (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ) قولا معجزا على نبوتك.
قال القاضي أبو
محمد : والمعنى الأول تقديره (وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ) قولا تضمن معاني من تدبرها اهتدى ، وقرأ الحسن بن أبي
الحسن «ولقد وصلنا» بتخفيف الصاد ، وقوله (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) أي في طمع البشر ، وظاهر الأمر عندهم وبحسبهم ، ثم ذكر
تعالى القوم الذين آمنوا من أهل الكتاب مباهيا بهم قريشا ، واختلف إلى من الإشارة
، فقيل إلى جماعة من اليهود أسلمت وكانت تلقى من الكفار أذى ، وقيل إلى بحيرا
الراهب ، وقال
الزهراوي : إلى النجاشي ، وقيل : إلى سلمان وابن سلام ، وأسند الطبري عن علي بن
أبي رفاعة قال : خرج عشرة رهط من أهل الكتاب فيهم أبو رفاعة يعني أباه فأسلموا
فأوذوا فنزلت فيهم هذه الآية ، والضمير في (قَبْلِهِ) يحتمل أن يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويحتمل أن يعود على القرآن ، وما بعد يؤيد هذا ، قوله (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) وقولهم (إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) يريدون الإسلام المتحصل لهم من شريعة موسى وعيسى عليهماالسلام ، و (أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ) معناه على ملتين وبحظوة شريعتين ، وهذا المعنى هو الذي قال
فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاثة يؤتيهم أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن
بنبيه وآمن بي ، والعبد الناصح في عبادة ربه وخدمة سيده ، ورجل كانت له أمة فأدبها
وعلمها ثم أعتقها وتزوجها» وقوله تعالى : (بِما صَبَرُوا) عام في صبرهم على ملتهم ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه
من الكفار وغير ذلك من أنواع الصبر ، وقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ) معناه يدفعون هذا وصف لمكارم الأخلاق أي يتعاقبون ومن قال
لهم سوءا لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه ، وهذه آية مهادنة وهي في صدر
الإسلام وهي مما نسخته آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاها أمة محمد إلى
يوم القيامة ، وقوله تعالى : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) مدح لهم بالنفقة في الطاعات وعلى رسم الشرع ، وفي ذلك حض
على الصدقات ونحوها ، و (اللَّغْوَ) سقط القول ، والقول يسقط لوجوه يعز حصرها ، فالفحش لغو ،
والسب لغو ، واليمين لغو حسب الخلاف فيها ، وكلام مستمع الخطبة لغو ، والمراد من
هذا في هذه الآية ما كان سبا وأذى فأدب أهل الإسلام الإعراض عنه ، والقول على جهة
التبري (لَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وقال ابن زيد (اللَّغْوَ) هاهنا ما كان بنو إسرائيل كتبوه في التوراة مما ليس من عند
الله.
قال القاضي أبو
محمد : فهذه المهادنة هي لبني إسرائيل الكفار منهم ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في هذا الموضع ليس المقصود بها التحية ، لكنه لفظ التحية
قصد به المتاركة ، وهو لفظ مؤنس مستنزل لسامعه إذ هو في عرف استعماله تحية.
قال الزجاج : وهذا
قبل الأمر بالقتال ، و (لا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ) معناه لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمسابة.
قوله عزوجل :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ
حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَكَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)
(٥٨)
أجمع جل المفسرين
على أن قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) إنما نزلت في شأن أبي طالب عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال أبو هريرة وابن المسيب وغيرهما : إن النبي صلىاللهعليهوسلم
دخل عليه وهو يجود
بنفسه فقال له : «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» ، وكان
بحضرته عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب
يا أبا طالب؟ فقال أبو طالب : يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت
بها عينك ، ثم قال أبو طالب : أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ ، فتفجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخرج عنه فمات أبو طالب على كفره فنزلت هذه الآية ، قال
أبو روق : قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، إشارة إلى العباس ، والضمير في قوله (وَقالُوا) لقريش ، قال ابن عباس والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل
وقصد الإخبار بأن العرب تنكر عليهم رفض الأوثان وفراق حكم الجاهلية فتخطفهم من
أرضهم ، وقوله و (الْهُدى) معناه على زعمك ، وحكى الثعلبي أنه قال له إنا لنعلم أن
الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفنا العرب فقطعهم الله تعالى بالحجة ، أي أليس
كون الحرم لكم مما يسرناه وكففنا عنكم الأيدي فيه فكيف بكم لو أسلمتم واتبعتم ديني
وشرعي ، وروي عن أبي عمرو «نتخطف» بضم الفاء ، و «أمن الحرم» هو أن لا يغزى ولا
يؤذى فيه أحد ، وقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ
ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تجمع وتجلب ، وقرأ نافع وحده «تجبى» بالتاء من فوق ،
وقرأ الباقون «يجبى» بياء من تحت ، ورويت التاء من فوق عن أبي عمرو وأبي جعفر
وشيبة بن نصاح ، وقوله تعالى : (كُلِّ شَيْءٍ) ، يريد مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم ، وليس العموم فيه
على الإطلاق ، وقرأ أبان بن تغلب «ثمرات» بضم الثاء والميم ، ثم توعد تعالى قريشا
بضرب المثل بالقرى المهلكة ، أي فلا تغتروا بالحرم والأمن والثمرات التي تجبى ،
فإن الله تعالى يهلك الكفرة على ما سلف في الأمم ، و (بَطِرَتْ) معناه سفهت وأشرت وطغت قاله ابن زيد وغيره ، و (مَعِيشَتَها) نصب على التفسير مثل قوله (سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠]
وقال الأخفش هو إسقاط حرف الجر أي (بَطِرَتْ) في (مَعِيشَتَها) ثم أحالهم على الاعتبار في خراب ديار الأمم المهلكة كحجر
ثمود وغيره وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)
(٦١)
إن كانت الإرادة ب
(الْقُرى) المدن التي في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم ف «أم القرى» مكة ، وإن كانت الإرادة (الْقُرى) بالإطلاق في كل زمن ف (أُمِّها) في هذا الموضع أعظمها وأفضلها الذي هو بمثابة مكة في عصر
محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإن كانت أم القرى كلها أيضا من حيث هي أول ما خلق من
الأرض ومن حيث فيها البيت ، ومعنى الآية أن الله تعالى يقيم الحجة على عباده
بالرسل فلا يعذب إلا بعد نذارة وبعد أن يتمادى أهل القرى في ظلم وطغيان ، و «الظلم»
هنا يجمع الكفر والمعاصي والتقصير في الجهاد وبالجملة وضع الباطل موضع الحق ، ثم
خاطب تعالى قريشا محقرا لما كانوا يفخرون به من مال
وبنين وغير ذلك من
قوة لم تكن عند محمد صلىاللهعليهوسلم ولا عند من آمن به فأخبر تعالى قريشا أن ذلك متاع الدنيا
الفاني وأن الآخرة وما فيها من النعم التي أعدها الله لهؤلاء المؤمنين (خَيْرٌ وَأَبْقى) ، ثم وبخهم بقوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، وقرأ الجمهور «أفلا يعقلون» بالياء ، وقرأ أبو عمرو وحده
بالتاء من فوق ، وروي عنه بالياء ، كذا قال أبو علي في الحجة ، وذلك خلاف ما حكى
أبو حاتم والناس ، فإن نافعا يقرأ بالتاء من فوق وهي قراءة الأعرج والحسن وعيسى ،
ثم زادهم توبيخا بقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً) الآية ، وقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) يعم معناها جميع العالم لكن اختلف الناس فيمن نزلت ، فقال
مجاهد : الذي وعد الوعد الحسن هو محمد عليهالسلام وضده أبو جهل ، وقال مجاهد أيضا : نزلت في حمزة وأبي جهل ،
وقيل في علي وأبي جهل ، وقال قتادة : نزلت عامة في المؤمن والكافر كما معناها عام.
قال القاضي أبو
محمد : ونزولها عام بين الاتساق بما قبله من توبيخ قريش ، و (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) ، معناه في عذاب الله قاله مجاهد وقتادة ، ولفظة «محضرين»
مشيرة إلى سوق بجبر ، وقرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء ، وقرأ مسروق «أفمن وعدناه
نعمة منا فهو لاقيها».
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
(٦٢) قالَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا
يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ
أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ)
(٦٤)
التقدير واذكر يوم
، وهذا النداء يحتمل أن يكون بواسطة ، ويحتمل بغير ذلك ، والضمير المتصل «بينادي»
لعبدة الأصنام والإشارة إلى قريش وكفار العرب وقوله (أَيْنَ) ، على جهة التقريع والتوبيخ وقوله (شُرَكائِيَ) أي على قولكم وزعمكم.
قال القاضي أبو
محمد : ولما كان هذا السؤال مسكتا لهم مبهتا فكأنه لا متعلق لجمهور الكفرة إلا ب «المغوين»
لهم والأعيان ، الرؤوس منهم وبالشياطين المغوين فكأن هذه الصنيفة المغوية إنما أتت
الكفرة على علم فالقول عليها متحقق وكلمة العذاب ماضية لكنهم طمعوا في التبري من
كل أولئك الكفرة الأتباع فقالوا (رَبَّنا هؤُلاءِ) إنما أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم وأرادوا هم
اتباعنا وأحبوا الكفر كما أحببناه.
فنحن نتبرأ إليك
منهم وهم لم يعبدونا إنما عبدوا غيرنا.
قال القاضي أبو
محمد : فهذا التوقيف يعم جميع الكفرة ، والمجيبون هم كل مغو داع إلى الكفر من
الشياطين ومن الإنس الرؤساء والعرفاء والسادة في الكفر ، وقرأ الجمهور «غوينا»
بفتح الواو ، يقال غوى الرجل يغوى بكسر الواو ، وروي عن ابن عامر وعاصم «غوينا»
بكسر الواو ، ثم أخبر تعالى أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام الذين اعتقدوهم آلهة
(ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام التي كنتم تزعمون أنهم شركاء لله ،
وأضاف الشركاء
إليهم لما كان ذلك الاسم بزعمهم ودعواهم ، فيهذا القول من الاختصاص أضاف الشركاء
إليهم ، ثم أخبر أنهم دعوهم فلم يكن في الجمادات ما يجيب ورأى الكفار العذاب ،
وقوله تعالى : (لَوْ أَنَّهُمْ
كانُوا يَهْتَدُونَ) ذهب الزجاج وغيره من المفسرين إلى أن جواب (لَوْ) محذوف تقديره لما نالهم العذاب ولما كانوا في الدنيا
عابدين للأصنام ففي الكلام على هذا التأويل تأسف عليهم ، وذلك محتمل مع تقديرنا
الجواب لما كانوا عابدين للأصنام وفيه مع تقديرنا الجواب لما نالهم العذاب نعمة
منا ، وقالت فرقة (لَوْ) متعلقة بما قبلها تقديره فودّوا (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ).
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥)
فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
فَأَمَّا
مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ)
(٦٨)
هذا النداء أيضا
كالأول في احتماله الواسطة من الملائكة ، وهذا النداء أيضا للكفار يوقفهم على ما
أجابوا به (الْمُرْسَلِينَ) الذين دعوهم إلى الله تعالى فتعمى (عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي أظلمت لهم الأمور فلم يجدوا خبرا يخبرون به مما لهم فيه
نجاة ، وساق الفعل في صيغة المضي لتحقق وقوعه وأنه يقين ، والماضي من الأفعال
متيقن فلذلك توضع صيغته بدل المستقبل المتيقن وقوعه وصحته ، و «عميت» معناه أظلمت
جهاتها وقرأ الأعمش «فعمّيت» بضم العين وشد الميم ، وروي في بعض الحديث : كان الله
في عماء ، وذلك قبل أن يخلق الأنوار وسائر المخلوقات ، و (الْأَنْباءُ) جمع نبأ ، وقوله تعالى (فَهُمْ لا
يَتَساءَلُونَ) معناه فيما قال مجاهد وغيره بالأرحام والمتات الذي عرفه في
الدنيا أن يتساءل به لأنهم قد أيقنوا أن كلهم لا حيلة له ولا مكانة.
ويحتمل أن يريد
أنهم لا يتساءلون عن الأنباء ليقين جميعهم أنه لا حجة لهم ، ثم انتزع تعالى من
الكفرة (مَنْ تابَ) من كفره (وَآمَنَ) بالله ورسله (وَعَمِلَ) بالتقوى ، ورجى عزوجل فيهم أنهم يفوزون ببغيهم ويبقون في النعيم الدائم وقال
كثير من العلماء «عسى» من الله واجبة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه فضله وكرمه واللازم من «عسى» أنها ترجية لا
واجبة ، وفي كتاب الله عزوجل (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥] ،
وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) الآية ، قيل سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلىاللهعليهوسلم وقول بعضهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١]
فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع ، ورد الله تعالى عليهم وأخبر أنه يخلق من عباده
وسائر مخلوقاته ما يشاء وأنه يختار لرسالته من يريد ويعلم فيه المصلحة ثم نفى أن
يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه ، هذا قول جماعة من المفسرين أن (ما) نافية أي ليس لهم تخير على الله تعالى فتجيء الآية كقوله
تعالى (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ) الآية [الأحزاب : ٣٦].
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل أن يريد و (يَخْتارُ) الله تعالى الأديان والشرائع وليس لهم الخيرة في أن يميلوا
إلى الأصنام ونحوها في العبادة ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) ، وذهب الطبري إلى أن (ما) في قوله تعالى و (يَخْتارُ ما كانَ) مفعولة ب (يَخْتارُ) قال : والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم
لأصنامهم أشياء فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده يخلق ويختار من
الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس لا كما يختارون هم ما ليس إليهم ويفعلون ما لم
يؤمروا به.
قال القاضي أبو
محمد : واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بأقوال لا تتحصل وقد رد الناس عليه في ذلك ، وذكر عن
الفراء أن القاسم بن معن أنشده بيت عنترة : [البسيط]
أمن سمية دمع
العين تذريف
|
|
لو كان ذا منك قبل
اليوم معروف
|
وقرن الآية بهذا
البيت والرواية في البيت لو أن ذا ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن
يكون الأمر والشأن مضمرا في كان وذلك في الآية ضعيف ، لأن تفسير الأمر والشأن لا
يكون بجملة فيها مجرور وفي هذا كله نظر ، والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في
قوله (وَيَخْتارُ) وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك ويتجه عندي أن
يكون (ما) مفعولة إذا قدرنا (كانَ) تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا
بإذنه ، وقوله تعالى : (لَهُمُ الْخِيَرَةُ) جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله
تعالى لهم لو قبلوا وفهموا.
قوله عزوجل :
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩)
وَهُوَ
اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ
الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(٧٣)
ذكر تعالى في هذه
الآيات أمورا يشهد عقل كل مفطور بأن الأصنام لا شركة لها فيها ، فمنها علم ما في
النفوس وما يجيش بالخواطر ، و (تُكِنُ) معناه تستر ، وقرأ ابن محيص «تكن» بفتح التاء وضم الكاف ،
وعبر عن القلب ب «الصدر» من حيث كان محتويا عليه ، ومعنى الآية أن الله تعالى يعلم
السر والإعلان ، ثم أفرد نفسه بالألوهية ونفاها عن سواه ، وأخبر أن الحمد له في
الدنيا والآخرة إذ له الصفات التي تقتضي ذلك ، و (الْحُكْمُ) في هذا الموضع القضاء والفصل في الأمور ، ثم أخبر بالرجعة
إليه والحشر ، ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم على أمر الليل والنهار وما منح الله
فيهما من المصالح والمرافق وأن يوقفهم على
إيجاده تعالى
بتقليب الليل والنهار ، وأنه لو مد أحدهما (سَرْمَداً) لما وجد من يأتي بالآخر ، و «السرمد» من الأشياء الدائم
الذي لا ينقطع ، وقرأت فرقة هي الجمهور «بضياء» بالياء ، وقرأ ابن كثير في رواية
قنبل «بضئاء» بهمزتين وضعفه أبو علي ، ثم ذكر عزوجل انقسام الليل والنهار على السكون وابتغاء الفضل بالمشي
والتصرف وهذا هو الغالب في أمر الليل والنهار ، فعدد النعمة بالأغلب وإن وجد من
يسكن بالنهار ويبتغي فضل الله بالليل فالشاذ النادر لا يعتد به ، وقال بعض الناس :
قوله تعالى (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إنما عبر به عن الزمان لم يقصد لتقسيم ، أي في هذا الوقت
الذي هو ليل ونهار يقع السكون وابتغاء الفضل ، وقوله (وَلَعَلَّكُمْ) أي على نظر البشر من يرى هذا التلطف والرفق يرى أن ذلك
يستدعي الشكر ولا بد.
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ
لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)
(٧٥)
التقدير «واذكر
يوم يناديهم» وكرر هذا المعنى إبلاغا وتحذيرا وهذا النداء هو عند ظهور كل ما وعد
الرحمن على ألسنة المرسلين من وجوب الرحمة لقوم والعذاب لآخرين ومن خضوع كل جبار
وذلة الكل لعزة رب العالمين.
فيتوجه حينئذ
توبيخ الكفار (فَيَقُولُ) الله تعالى لهم : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) على معنى التقريع ، ثم أخبر تعالى أنه يخرج في ذلك اليوم (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يميز بينه وبين الناس وهذا هو النزع أن يميز بين شيئين
فينتزع أحدهما من الآخرة ، وقال مجاهد : أراد ب «الشهيد» النبي الذي يشهد على أمته
وقال الرماني : وقيل أراد عدولا من الأمم وخيارا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهم حملة الحجة الذين لا يخلو منهم زمان ، و «الشهيد» على هذا التأويل ،
اسم الجنس وفي هذا الموضع حذف يدل عليه الظاهر تقديره يشهد على الأمة بخيرها وشرها
فيحق العذاب على من شهد عليه بالكفر ويقال لهم على جهة استبراء الحجة والاعذار في
المحاورة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على حق بأيديكم إن كان لكم ، فيسقط حينئذ في أيديهم
ويعلمون (أَنَّ الْحَقَ) متوجه (لِلَّهِ) عليهم في تعذيبهم ، وينتلف لهم ما كانوا بسبيله في الدنيا
من كذب مختلق وزور في قولهم هذه آلهتنا للأصنام وفي تكذيبهم للرسل وغير ذلك ، ومن
هذه الآية انتزع قول القاضي عند إرادة الحكم أبقيت لك حجة.
قوله عزوجل :
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)
وَابْتَغِ
فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ
وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ
وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
(٧٧)
(قارُونَ) اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف واختلف الناس في قرابة (قارُونَ) من (مُوسى) عليهالسلام فقال ابن إسحاق هو عمه ، وقال ابن جريج وإبراهيم النخعي هو
ابن عمه لحّا ، وهذا أشهر ، وقيل هو ابن خالته ، وهو بإجماع رجل من بني إسرائيل
كان ممن آمن بموسى وحفظ التوراة وكان من أقرأ الناس لها ، وكان عند موسى من عباد
المؤمنين ثم إنه لحقه الزهو والإعجاب فبغى على قومه بأنواع من البغي من ذلك كفره
بموسى واستخفافه به ومطالبته له فيما قال ابن عباس بأنه عمد إلى امرأة مومسة ذات
جمال وقال لها أنا أحسن إليك وأخلطك بأهلي على أن تجيئي في ملإ بني إسرائيل عندي
فتقولي يا قارون اكفني أمر موسى فإنه يعترضني في نفسي ، فجاءت المرأة فلما وقفت
على الملإ أحدث الله تعالى لها توبة ، فقالت يا بني إسرائيل إن قارون قال لي كذا
وكذا ، ففضحته في جميع القصة ، وبرأ الله تعالى موسى من مطالبته ، وقيل بل قالت
المرأة ذلك عن موسى فلما بلغه الخبر وقف المرأة بمحضر ملإ من بني إسرائيل فقالت يا
نبي الله كذبت عليك وإنما دعاني قارون إلى هذه المقالة وكان من بغيه أنه زاد في
ثيابه شبرا على ثياب الناس ، قاله شهر بن حوشب ، إلى غير ذلك مما يصدر عمن فسد
اعتقاده ، وكان من أعظم الناس مالا وسميت أمواله «كنوزا» إذ كان ممتنعا من أداء
الزكاة وبسبب ذلك عادى موسى عليهالسلام أول عداوته ، و «المفاتح» ظاهرها أنها التي يفتح بها
ويحتمل أن يريد بها الخزائن والأوعية الكبار ، قاله الضحاك لأن المفتح في كلام
العرب الخزانة.
قال القاضي أبو
محمد : وأكثر المفسرون في شأن (قارُونَ) فروي عن خيثمة أنه قال : نجد في الإنجيل مكتوبا أن مفاتيح
قارون كانت من جلود الإبل وكان المفتاح من نصف شبر وكانت وقر ستين بعيرا أو بغلا
لكل مفتاح كنز.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وروي غير هذا مما يقرب منه ذلك كله ضعيف والنظر يشهد بفساد هذا ومن كان
الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى ما يحصى
ويقدر وعلى حصره بسهولة وكان يلزم على هذا المعنى أن تكون «مفاتيح» بياء وهي قراءة
الأعمش والذي يشبه إنما هو أن تكون «المفاتيح» من الحديد ونحوه وعلى هذا «تنوء (بِالْعُصْبَةِ)» إذا كانت كثيرة لكثرة مخازنه وافتراقها من المواضع أو
تكون «المفاتيح» الخزائن ، قال أبو صالح كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلا وأما
قوله «تنوء» فمعناه تنهض بتحامل واشتداد ومن ذلك قول الشاعر : [الطويل]
ينؤن ولم يكسبن
إلا قنازعا
|
|
من الريش تنواء
النعاج الهزائل
|
ومنه قول الآخر
يصف راميا : [الرجز]
حتى إذا ما
اعتدلت مفاصله
|
|
وناء في شق
الشمال كاهله
|
والوجه أن يقال إن
العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها وكذلك قال كثير من المتأولين المراد هذا لكنه
قلب كما تفعل
العرب كثيرا ، فمن ذلك قول الشاعر : [الوافر]
فديت بنفسه نفسي
ومالي
|
|
وما آلوك إلا ما
أطيق
|
ومن ذلك قول الآخر
[خداش بن زهير] : [الطويل]
وتركب خيل لا
هوادة بينها
|
|
وتشفي الرماح
بالضياطرة الحمر
|
وهذا البيت لا حجة
فيه إذ يتجه على وجهه فتأمله ، ومن ذلك قول الآخر :
فما كنت في
الحرب العوان مغمزا
|
|
إذا شب حر
وقودها أجدالها
|
وقال سيبويه
والخليل التقدير «لتنيء العصبة» فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر كما تقول ناء
الحمل وأنأته ونؤت به ، بمعنى جعلته ينوء والعرب تقول ناء الحمل بالبعير إذا
أثقله.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويحتمل أن يسند «تنوء» إلى المفاتح مجازا لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك
الذي ينهض بها وهذا مطرد في قولهم ناء الحمل بالعير ونحوه فتأمله ، واختلف الناس
في «العصبة» كم هي فقال ابن عباس ثلاثة ، وقال قتادة من العشرة إلى الأربعين ،
وقال مجاهد خمسة عشر حملا ، وقيل أحد عشر حملا على إخوة يوسف وقيل أربعون ، وقرأ
بديل بن ميسرة «لينوء» بالياء ووجهها أبو الفتح على أنه يقرأ «مفاتحه» جمعا وذكر
أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه» على الإفراد فيستغنى على هذا
عن توجيه أبي الفتح ، وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ) ، متعلق بقوله (فَبَغى) ، ونهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر
وإعجاب ، و «الفرح» هو الذي تخلق دائما بالفرح ، ولا يجب في هذا الموضع صفة فعل
لأنه أمر قد وقع فمحال أن يرجع إلى الإرادة وإنما هو لا يظهر عليهم بركته ولا يبهم
رحمته ، ثم وصوه أن يطلب بماله رضى الله تعالى ويقدم لآخرته ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ، اختلف المتأولون فيه فقال ابن عباس والجمهور : معناه لا
تضيع عمرك في أن لا تعمل عملا صالحا في دنياك إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا
فنصيب الإنسان وعمله الصالح فيها فينبغي أن لا يهمله.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فالكلام كله على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة
: معناه ولا تضيع أيضا حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة
دنياك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا
مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة ، وقال الحسن : معناه قدم الفضل
وأمسك ما يبلغ. وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف. وحكى الثعلبي أنه قيل أرادوا
بنصيبه الكفن.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا وعظ متصل كأنهم قالوا لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو
الكفن ونحو هذا قول الشاعر : [الطويل]
نصيبك مما تجمع
الدهر كله
|
|
رداءان تلوى
فيهما وحنوط
|
وقوله (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ
إِلَيْكَ) أمر بصلة المساكين وذوي الحاجة وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ
قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
(٧٨)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
(٧٩)
القائل قارون لما
وعظه قومه وندبوه إلى اتقاء الله تعالى في المال الذي أعطاه تفضلا منه عليه أخذته
العزة بالإثم فأعجب بنفسه ، وقال لهم على جهة الرد عليهم والروغان عما ألزموه فيه (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) ، ولكلامه هذا وجهان يحتملهما وبكل واحد منهما قالت فرقة
من المفسرين فقال الجمهور منهم إنه ادعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب ذلك
المال وتلك النعمة ، ثم اختلفوا في العلم الذي أشار إليه ما هو ، فقال بعضهم علم
التوراة وحفظها ، قالوا وكانت هذه مغالطة ورياء ، وقال أبو سليمان الداراني : أراد
العلم بالتجارب ووجوه تثمير المال فكأنه قال (أُوتِيتُهُ) بإدراكي وبسعيي ، وقال ابن المسيب : أراد علم الكيمياء ،
وقال ابن زيد وغيره : إنما أراد (أُوتِيتُهُ عَلى
عِلْمٍ) من الله وتخصيص من لدنه قصدني به أي فلا يلزمني فيه شيء
مما قلتم ، ثم جعل قوله (عِنْدِي) كما تقول في معتقدي وعلى ما أراه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وعلى الاحتمالين معا فقد نبه القرآن على خطئه في اغتراره وعارض منزعه بأن
من معلومات الناس المتحققة عندهم (أَنَّ اللهَ) تعالى (قَدْ أَهْلَكَ) من الأمم والقرون والملوك من هو أشد من قارون قوة وأكثر
جمعا إما للمال وإما للحاشية والغاشية ، وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه ، وقوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ) ، قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بمعنى ما قبله ، والضمير
في (ذُنُوبِهِمُ) عائد على من أهلك من القرون ، أي أهلكوا ولم يسأل غيرهم
بعدهم عن ذنوبهم أي كل واحد إنما يكلم ويعاقب بحسب ما يخصه ، وقالت فرقة : هو
إخبار مستأنف عن حال يوم القيامة أن المجرمين لا يسألون عن ذنوبهم ، قال قتادة ذلك
لأنهم يدخلون النار بغير حساب ، وقال قتادة أيضا ومجاهد : معناه أن الملائكة لا
تسأل عن ذنوبهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ونحو ذلك قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١].
قال الفقيه الإمام
القاضي : وفي كتاب الله تعالى آيات تقتضي أن الناس يوم القيامة يسألون كقوله تعالى
: (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤]
وغير ذلك ، وفيه آيات تقتضي أنه لا يسأل أحد كقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] ،
وغير ذلك ، فقال الناس في هذا إنها مواطن وطوائف ، وذلك من قوله محتمل ويشبه عندي
أن تكون الآيات التي توجب السؤال إنما يراد بها أسئلة التوبيخ والتقرير والتي تنفي
السؤال يراد بها أسئلة الاستفهام والاستخبار على جهة الحاجة إلى علم ذلك من
المسئولين ، أي أن ذلك لا يقع لأن العلم بهم محيط وسؤال التوبيخ غير معتد به ، ثم
أخبر تعالى أن قارون «خرج على قومه» وقد أظهر قدرته من الملابس والمراكب وزينة
الدنيا ، قال جابر ومجاهد : خرج في
ثياب حمر ، وقال
ابن زيد : خرج هو وجملته في ثياب معصفرة ، وقيل : في ثياب الأرجوان ، وقيل غير هذا
، وأكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحة له فاختصرته ، وباقي
الآية في اغترار الجهلة والأغمار من الناس بين.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ
الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)
(٨٢)
أخبر الله تعالى
عن (الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به أنهم زجروا
الأغمار الذين تمنوا حال قارون وحملوهم على الطريقة المثلى من أن النظر والتمني
إنما ينبغي أن يكون في أمر الآخرة ، وأن حالة المؤمن العامل الذي ينتظر (ثَوابُ اللهِ) تعالى (خَيْرٌ) من حال كل ذي دنيا ، ثم أخبر تعالى عن هذه النزعة وهذه
القوة في الخير والدين أنها لا يلقاها أي يمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة
الله وعن شهوات نفسه ، وهذا هو جماع الخير كله ، والضمير من (يُلَقَّاها) عائد على ما لم يتقدم له ذكر من حيث الكلام دال عليه ،
فذلك يجري مجرى (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] و (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦]
وقال الطبري الضمير عائد على الكلمة قوله (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ
لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي لا يلقى هذه الكلمة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) وعنهم تصدر ، وروي في «الخسف» بقارون وبداره أن موسى عليهالسلام لما أمضه فعل قارون به وتعديه عليه ورميه بأمر المرأة وغير
ذلك من فعله به استجار الله تعالى وبكى وطلب النصرة فأوحى الله تعالى إليه لا تهتم
فإني أمرت الأرض أن تطيعك في قارون وأهله وخاصته وأتباعه ، فقال موسى للأرض خذيهم
فأخذت منهم إلى الركب فاستغاثوا يا موسى يا موسى ، فقال خذيهم فأخذتهم شيئا شيئا
وهم يستغيثون به كل مرة وهو يلج إلى أن تم الخسف بهم ، فأوحى الله تعالى إليه يا
موسى استغاثوا بك فلم ترحمهم لو بي استغاثوا أو إلي تابوا لرحمتهم وكشفت ما بهم ،
وقال قتادة ومالك بن دينار : روي لنا أنه يخسف به كل يوم قامة فهو يتجلجل إلى يوم
القيامة. و «الفئة» الجماعة الناصرة التي يفيء إليها الإنسان الطالب للنصرة ، وقصة
قارون هي بعد جوازهم اليم لأن الرواة ذكروا أنه كان ممن حفظ التوراة وكان يقرؤها ،
ثم أخبر تعالى عن حال (الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) وندمهم واستشعارهم أن الحول والقوة لله تعالى.
وقوله (وَيْكَأَنَ) مذهب سيبويه والخليل أن «وي» حرف تنبيه ، وهي منفصلة من «كأن»
لكن أضيفت في الكتاب لكثرة الاستعمال ، والمعنى أنهم نبهوا من خاطبوه ثم قالوا بين
الاخبار وعلى جهة التعجب
والتثبت كأن الله
يبسط ، وقال أبو حاتم وجماعة من النحويين «ويك» هي ويلك حذفت اللام منها لكثرة
الاستعمال وجرت في الكلام كذلك ومنه قول عنترة : [الكامل]
ولقد شفى نفسي
وأذهب سقمها
|
|
قيل الفوارس ويك
عنتر أقدم
|
فكأن المعنى ويلك
اعلم أن الله ونحو هذا من الإضمار ، وقالت فرقة من النحويين (وَيْكَأَنَ) بجملتها دون تقدير انفصال كلمة بمنزلة قولك ألم تر أن.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويقوى الانفصال فيها على ما قاله سيبويه لأنها تجيء مع «أنّ» ، ومع «أن»
وأنشد سيبويه
ويكأن من يكن له
نشب يحبب
|
|
ومن يفتقر يعش
عيش ضر
|
وهذا البيت لزيد
بن عمرو بن نفيل ، وقرأ الأعمش «لو لا من الله» بحذف «أن» وروي عنه «لو لا منّ»
برفع النون وبالإضافة إلى الله تعالى ، وقرأ الجمهور «لخسف» بضم الخاء وكسر السين
، وقرأ عاصم بفتح الخاء والسين ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «لا نخسف» كأنه فعل
مضارع أريد به أن الأرض كانت تبتلعه ، وروي عن الكسائي أنه كان يقف على «وي» ،
ويبتدىء «كأن» ، وروي عنه الوصل كالجماعة ، وروي عن أبي عمرو أنه كان يقف «ويك»
ويبتدىء «أن الله» وعلى هذا المعنى قال الحسن إن شئت «ويكأن» أو «يكإن» بفتح
الهمزة وبكسرها ، وكذلك في (وَيْكَأَنَّهُ).
قوله عزوجل :
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً
وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(٨٣) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى
الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ
بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)
(٨٥)
هذا إخبار مستأنف
من الله تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته
الآية ، وهذا الحض يتصمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه ، والمعنى أن الآخرة ليست
في شيء من أمر قارون إنما هي لمن صفته كذا وكذا ، و «العلو» المذموم هو بالظلم ولا
الانتحاء والتجبر ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك ، و
«الفساد» يعم وجوه الشر ، ومما قال العلماء هو أخذ المال بغير حق (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، خبر منفصل جزم معناه إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة ولا
بد ، ثم وصف تعالى أمر جزاء الآخرة أنه (مَنْ جاءَ) بعمل صالح (فَلَهُ خَيْرٌ) من القدر الذي يقتضي النظر أنه مواز لذلك العمل هذا على أن
نجعل «الحسنة» للتفضيل ، وفي القول حذف مضاف أي من ثوابها الموازي لها ويحتمل أن
تكون (مَنْ) لابتداء الغاية أي له خير بسبب حسنته ومن أجلها.
وأخبر تعالى أن
السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلا منه ورحمة ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ) ، معناه أنزله عليك وأثبته ، والفرض أصله عمل فرضة في عود
أو نحوه فكأن الأشياء التي تثبت وتمكن وتبقى تشبه ذلك الفرض ، وقال مجاهد معناه
أعطاك القرآن وقالت فرقة في هذا القول حذف مضاف ، والمعنى «فرض عليك أحكام القرآن»
، واختلف المتأولون في معنى قوله (لَرادُّكَ إِلى
مَعادٍ) ، فقال جمهور المتأولين : أراد إلى الآخرة ، أي باعثك بعد
الموت ، فالآية على هذا مقصدها إثبات الحشر والإعلام بوقوعه ، وقال ابن عباس وأبو
سعيد الخدري وغيرهما : «المعاد» الجنة وقال ابن عباس أيضا وجماعة : «المعاد»
الموت.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فكأن الآية على هذا واعظة ومذكرة ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد «المعاد»
مكة ، وهذه الآية نزلت في الجحفة مقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هجرته إلى المدينة ، قال أبو محمد : فالآية على هذا
معلمة بغيب قد ظهر للأمة ومؤنسة بفتح ، و «المعاد» الموضع الذي يعاد إليه وقد
اشتهر به يوم القيامة لأنه معاد الكل ، وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) الآية ، آية متاركة للكفار وتوبيخ ، وأسند الطبري في تفسير
قوله (لَرادُّكَ إِلى
مَعادٍ) قال إلى الجنة ، قال وسماها معادا إما من حيث قد دخلها
النبي صلىاللهعليهوسلم في الإسراء وغيره وإما من حيث قد كان فيها آدم عليهالسلام فهي معاد لذريته.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وإنما قال هذا من حيث تعطي لفظة «المعاد» أن المخاطب قد كان في حال يعود
إليها وهذا وإن كان مما يظهر في اللفظ فيتوجه أن يسمى معادا ما لم يكن المرء قط
فيه تجوزا ، ولأنها أحوال تابعة للمعاد الذي هو النشور من القبور.
قوله عزوجل :
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا
أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ(٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ
عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
وَلا
تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(٨٨)
قال بعض المفسرين
: قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا) الآية ابتداء كلام مضمنه تعديد النعمة على محمد صلىاللهعليهوسلم وأن الله تعالى رحمه رحمة لم يحتسبها ولا بلغها أمله ،
وقال بعضهم بل هو متعلق بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] أي
وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وقوله تعالى : (يُلْقى إِلَيْكَ) عبارة عن تقليده النبوءة وتبليغ القرآن. كما تقول : ألقى
فلان إلى فلان بالرياسة ونحو هذا ، وقوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً) نصب على استثناء منقطع ، و «الظهير» المعين أي اشتد يا
محمد في تبليغك ولا تلن ولا تفشل فتكون معونة للكافرين بهذا الوجه أي بالفتور عنهم
، وقوله تعالى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ) ، أي بأقوالهم وكذبهم وأذاهم ، ولا تلتفت نحوه وامض لشأنك
، وقرأ يعقوب «ولا يصدنك» بجزم
النون ، وقوله (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ، وجميع الآيات تتضمن المهادنة والموادعة ، وهذا كله منسوخ
بآية السيف ، وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليه من تعظيم أوثانهم وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته
أمر الغرانيق ، وقوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) نهي عما هم بسبيله ، فهم المراد وإن عري اللفظ من ذكرهم ،
وقوله تعالى : (إِلَّا وَجْهَهُ) قالت فرقة : هي عبارة عن الذات ، المعنى هالك إلا هو ،
قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمهالله ، وقال الزجاج : إلا إياه ، وقال سفيان الثوري : المراد
إلا ذا وجهه ، أي ما عمل لذاته ومن طاعته وتوجه به نحوه ومن هذا قول الشاعر :
«رب العباد إليه
الوجه والعمل»
ومنه قول القائل
أردت بفعلي وجه الله تعالى ومنه قوله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢]
وقوله تعالى : (لَهُ الْحُكْمُ) أي فصل القضاء وإنفاذ القدرة في الدنيا والآخرة ، وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إخبار بالحشر والعودة من القبور ، وقرأ الجمهور «ترجعون»
بضم التاء وفتح الجيم ، وقرأ عيسى «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم ، وقرأ أبو عمرو
بالوجهين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العنكبوت
هذه السورة مكية.
إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة ،
وفي هذا الفصل اختلاف وهذا أصح ما قيل فيه.
قوله عزوجل :
(الم (١)
أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)
(٣)
تقدم القول في
الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقرأ ورش «ألم احسب» بفتح الميم من غير همز بعدها
وذلك على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على الميم ، وهذه الآية نزلت في قوم من
المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، فكانت
صدورهم تضيق لذلك ، وربما استنكر أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين قال مجاهد وغيره
، فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله تعالى في عباده اختبارا
للمؤمنين وفتنة ليعلم الصادق ويري ثواب الله له ويعلم الكاذب ويري عقابه إياه.
قال القاضي أبو محمد
: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة فهي بمعناها باقية في أمة
محمد صلىاللهعليهوسلم ، موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله تعالى
والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك ، وإذا اعتبر أيضا
كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي
ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر ، وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : نزلت هذه
الآية في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله تعالى ونظرائه ، وقال الشعبي : سبب
الآية ما كلفه المؤمنون من الهجرة ، فهي الفتنة التي لم يتركوا دونها ، لا سيما
وقد لحقهم بسببها أن اتبعهم الكفار وردوهم وقاتلوهم ، فقتل من قتل ونجا من نجا ،
وقال السدي : نزلت في مسلمين كانوا بمكة وكرهوا الجهاد والقتال حين فرض على النبي صلىاللهعليهوسلم في المدينة ، و «حسب» ، معناه ظن ، و (أَنْ) نصب ب «حسب» وهي
والجملة التي بعدها تسد مسد مفعولي «حسب» و (أَنْ) الثانية في موضع نصب على تقدير إسقاط حرف الخفض تقديره «بأن
يقولوا» ، ويحتمل أن يقدر «لأن يقولوا» ، والمعنى في الباء واللام مختلف وذلك أنه
في الباء كما تقول تركت زيدا بحاله ،
وهي في اللام بمعنى
من أجل أن حسبوا أن إيمانهم علة للترك ، و (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ، يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر ، وقرأ
الجمهور «فليعلمن» بفتح الياء واللام الثانية ، ومعنى ذلك ليظهرن عليهم ويوجدن
منهم ما علمه أزلا ، وذلك أن علمه بذلك قديم وإنما هذه عبارة عن الإيجاد بالحالة
التي تضمنها العلم القديم ، والصدق والكذب على بابهما أي من صدق فعله قوله ومن
كذبه ونظير هذا قول زهير : [البسيط]
ليث بعثّر يصطاد
الرجال إذا
|
|
ما كذب الليث عن
أقرانه صدقا
|
قال النقاش ، قيل
إن الإشارة ب (صَدَقُوا) هي إلى مهجع مولى عمر بن الخطاب لأنه أول قتيل قتل من
المؤمنين يوم بدر ، وقالت فرقة : إنما هي استعارة وإنما أراد بها الصلابة في الدين
أو الاضطراب فيه وفي جهاد العدو ونحو هذا ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «فليعلمن»
بضم الياء وكسر اللام ، وهذه القراءة تحتمل ثلاثة معان أحدها أن يعلم في الآخرة
هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا ، بمعنى
يوقفهم على ما كان منهم ، والثاني أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره ليعلمن
الناس أو العالم هؤلاء الصادقين والكاذبين ، أي يفضحهم ويشهرهم ، هؤلاء في الخير
وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، والثالث أي يكون ذلك من العلامة أي لكل
طائفة علما تشهر به ، فالآية على هذا ينظر إليها قول النبي صلىاللهعليهوسلم «من أسر سريرة
ألبسه الله رداءها» وعلى كل معنى منها ففيها وعد للمؤمنين الصادقين ووعيد للكافرين
، وقرأ الزهري الأولى كقراءة الجمهور والثانية كقراءة عليّ رضي الله عنه.
قوله عزوجل :
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)
(٧)
(أَمْ) معادلة للألف في قوله (أَحَسِبَ) [العنكبوت : ١]
وكأنه عزوجل قرر الفريقين ، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر
الكافرين (الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقاب
الله ويعجزونه ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ، وإن كان الكفار المراد الأول بحسب النازلة التي الكلام
فيها فإن لفظ الآية يعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم ، وقوله (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) يجوز أن يكون (ما) بمعنى الذي فهي في موضع رفع ، ويجوز أن يكون في موضع نصب
على تقدير ساء حكما يحكمونه ، وقال ابن كيسان : (ما) مع (يَحْكُمُونَ) في موضع المصدر كأنه قال : ساء حكمهم ، وفي هذه الآية وعيد
للكفرة الفاتنين ، وتأنيس وعده بالنصر للمؤمنين
المفتونين
المغلوبين ، ثم أخبر تعالى عن الحشر والرجوع إلى الله تعالى في القيامة بأنه آت إذ
قد أجله الله تعالى وأخبر به ، وفي قوله (مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ) ، تثبيت ، أي من كان على هذا الحق فليوقن بأنه آت وليتزيد
بصيرة ، وقال أبو عبيدة (يَرْجُوا) هاهنا بمعنى يخاف ، والصحيح أن الرجاء هاهنا على بابه
متمكنا ، قال الزجاج : المعنى لقاء ثواب الله ، وقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، معناه لأقوال كل فرقة ، و (الْعَلِيمُ) معناه بالمعتقدات التي لهم ، وقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ
لِنَفْسِهِ) ، إعلام بأن كل واحد مجازى بفعله فهو إذا له ، وهو حظه
الذي ينبغي أن لا يفرط فيه فإن الله غني عن جهاده و «غني عن العالمين» بأسرهم ،
وهاتان الآيتان نبذ على سؤال الطائفة المرتابة المترددة في فتنة الكفار التي كانت
تنكر أن ينال الكفار المؤمنين بمكروه وترتاب من أجل ذلك ، فكأنهم قيل لهم من كان
يؤمن بالبعث فإن الأمر حق في نفسه ، والله تعالى بالمرصاد ، أي هذه بصيرة لا ينبغي
لأحد أن يعتقدها لوجه أحد ، وكذلك من جاهد فثمرة جهاده له فلا يمن بذلك على أحد ،
وهذا كما يقول المناظر عند سوق حجته من أراد أن يرى الحق فإن الأمر كذا وكذا ونحو
هذا فتأمله ، وقيل : معنى الآية ومن جاهد المؤمنين ودفع في صدر الدين فإنما جهاده
لنفسه لا لله فالله غني.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول ذكره المفسرون وهو ضعيف ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة
من البدار إلى الله تعالى رفع بهم عزوجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم
الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة ع و «السيئات» ، الكفر وما اشتمل عليه ويدخل في
ذلك المعاصي من المؤمنين مع الأعمال الصالحات واجتناب الكبائر ، وفي قوله عزوجل (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَحْسَنَ) حذف مضاف تقديره ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
قوله عزوجل :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا
كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)
(١١)
قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) الآية ، روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي
وقاص ، وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج
هو في هجرته ، ونزلت الآية ، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وذلك أنه اعتراه في
دينه نحو من هذا بعد أن خدعه أبو جهل ورده إلى أمه الحديث في كتاب السيرة ، ولا
مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو
الهجرة فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا ، لعظم الأمر
وكثرة الخطر فيه
مع الله تعالى ، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة
وأكدت فيه وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما ، وقوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حُسْناً) على معنى أنا لا نخلّ ببر الوالدين لكنا لا نسلطه على طاعة
الله لا سيما في معنى الإيمان والكفر وقوله : (حُسْناً) يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تجوز ويسهله كونه
عاما لمعان ، كما تقول وصيتك خيرا أو وصيتك شرا ، عبر بذلك عن جملة ما قلت له ،
ويحسن ذلك دون حرف جر كون حرف الجر في قوله (بِوالِدَيْهِ) لأن المعنى (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ) بالحسن في فعله ، مع والديه ، ونظير هذا قول الشاعر : [الرجز]
عجبت من دهماء
إذ تشكونا
|
|
ومن أبي دهماء
إذ يوصينا
|
خيرا بها فكأننا
جافونا
ويحتمل أن يكون
المفعول الثاني في قوله (بِوالِدَيْهِ) وينتصب (حُسْناً) بفعل مضمر تقديره يحسن حسنا ، وينتصب انتصاب المصدر ،
والجمهور على ضم الحاء وسكون السين ، وقرأ عيسى «حسنا» بفتحهما ، وقال الجحدري في
الإمام مكتوب «بوالديه إحسانا» قال أبو حاتم يعني «في الأحقاف» ، وقال الثعلبي في
مصحف أبي بن كعب «إحسانا» ، ووجوه إعرابه كالذي تقدم في قراءة من قرأ «حسنا».
وقوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر ، ثم كرر تعالى
التمثيل بحالة المؤمنين العاملين ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم ، وقوله تعالى : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) مبالغة على معنى في الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته
وإذا تحصل للمؤمنين هذا الحكم تحصل ثمره وجزاؤه وهو الجنة ، وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) الآية إلى قوله (الْمُنافِقِينَ) نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة مختفين بإسلامهم ، قال
ابن عباس : فلما خرج كفار قريش إلى بدر أخرجوا مع أنفسهم طائفة من هؤلاء فأصيب
بعضهم فقال المسلمون كانوا أصحابنا وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] ،
قال فكتبت لمن بقي بمكة بهذه الآية أي لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون
فأعطوهم الفتنة وردوهم إلى مكة فنزلت فيهم هذه الآية ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ) الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير
، ثم نزلت فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٠] ،
فكتب لهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم فنجا من
نجا وقتل من قتل ، وقال ابن زيد : نزل قوله تعالى : (جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ) الآية في منافقين كفروا لما أوذوا ، وقوله تعالى : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ
اللهِ) أي صعب عليه أذى الناس حين صده وكان حقه أن لا يلتفت إليه
وأن يصبر له في جنب نجاته من عذاب الله ، ثم أزال تعالى موضع تعلقهم ومغالطتهم أن
جاء نصر ، ثم قررهم على علم الله تعالى بما في صدورهم أي لو كان يقينا تاما
وإسلاما خالصا لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم وقوله تعالى
: (وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ، تفسيره على حد ما تقدم في نظيره ، وهنا انتهى المدني في
هذه السورة.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما
هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ
عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤)
فَأَنْجَيْناهُ
وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)
(١٥)
روي أن قائل هذه
المقالة الوليد بن المغيرة ، وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش قالوا لأتباع النبيصلىاللهعليهوسلم ادخلوا في أمرنا وأقروا بآلهتنا واعبدوها معنا ونحن
ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نتضمن لكم حمل خطاياكم فيما دعوناكم إليه
إن كان في ذلك درك كما تزعمون ، وقولهم (وَلْنَحْمِلْ) إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ولكنهم
أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة وهذا نحو
قال الشاعر [مدثار بن شيبان النمري] : [الوافر]
فقلت ادعي وأدع
فإن أندى
|
|
لصوت أن ينادي
داعيان
|
ولكونه خبرا حسن
تكذيبهم فيه ، فأخبر الله عزوجل أن ذلك باطل وأنهم لو فعلوه لم ينحمل عن أحد من هؤلاء
المغترين بهم شيء من خطاياه التي تختص به ، وقرأ الجمهور «ولنحمل» بجزم اللام ،
وقرأ عيسى ونوح القاري «ولنحمل» بكسر اللام وقرأ داود بن أبي هند «من خطيهم» بفتح
الطاء وكسر الياء وحكى عنه أبو عمرو أنه قرأ «من خطيئاتهم» بكسر الطاء وهمزة وتاء
بعد الألف ، وقال مجاهد : الحمل هو من الحمالة لا من الحمل على الظهر.
ثم أخبر تعالى عن
أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم من كفرهم الذي يجترحونه ويتلبسون به ، و (أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) يريد ما يلحقهم من إغوائهم لعامتهم وأتباعهم فأنه يلحق كل
داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور ، «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله
مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة» الحديث.
قال القاضي أبو
محمد : وهي وإن كانت من (أَثْقالَهُمْ) فلكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه فرق بينها وبين (أَثْقالَهُمْ) ولم ينسبها إلى غيرهم بل جعلها في رتبة أخرى فقط فهم فيها
إنما يزرون بوزر أنفسهم ، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أنه يقتص للمظلوم
بأن يعطى من حسنات ظالمه فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه»
، وقوله تعالى : (وَلَيُسْئَلُنَ) ، يريد على جهة التوبيخ والتقريع لا على جهة الاستفهام
والاستعلام ، و (يَفْتَرُونَ) ، معناه يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد لله تعالى
وغير ذلك ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً) الآية
قصة فيها تسلية
لمحمد عليهالسلام عما تضمنته الآيات قبلها من تعنت قومه وفتنتهم للمؤمنين
وغير ذلك ، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح ، والواو في قوله (وَلَقَدْ) عاطفة جملة كلام على جملة ، والقسم فيها بعيد ، وقوله
تعالى : (أَرْسَلْنا) ، (فَلَبِثَ) ، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا
يدعو ، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه من لدن مولده إلى غرق
قومه ، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنيه التي بعث عندها ، فقيل أربعون ،
وقيل ثمانون ، وقال عون بن أبي شداد : ثلاثمائة وخمسون ، وكذلك يحتمل أن تكون
وفاته عليهالسلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير.
وقد روي أنه عمر
بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاما وأنه عاش ألف سنة وستمائة وخمسين سنة ، وقوله تعالى
: (فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفانُ) يقتضي أنه أخذ قومه فقط ، وقد اختلف في ذلك فقالت فرقة :
إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح ، وقالت فرقة : هي
الجمهور : إنما غرقت المعمورة كلها.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا هو ظاهر الأمر لاتخاذه السفينة ولبعثه الطير يرتاد زوال الماء ولغير
ذلك من الدلائل ، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض ،
فالوجه في ذلك أن يقال : إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بأن لا يهدي غيرها ولا يدعوها
إلى توحيد الله تعالى ، وإنما هو بأن لا يؤخذ بقتال غيرها ولا ببث العبادات فيهم ،
لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة والناس حولها يعبدون الأوثان ولم يكن
الناس يومئذ كثيرا بحكم القرب من آدم فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله كان قد
بلغ الكل فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم ، و (الطُّوفانُ) العظيم الطامي ، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء
أو نار أو موت ومنه قول الشاعر :
فجاءهم طوفان موت
جارف
و «طوفان» وزنه
فعلان بناء مبالغة من طاف يطوف إذا عم من كل جهة ، ولكنه كثر استعماله في الماء
خاصة وقوله تعالى : (وَهُمْ ظالِمُونَ) ، يريد بالشرك ، (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) قد تقدم في غير هذه السورة الاختلاف في عددهم ، وهم بنوه
وقوم آمنوا معه ، والضمير في قوله (وَجَعَلْناها) يحتمل أن يعود على (السَّفِينَةِ) ويحتمل أن يعود على العقوبة ، ويحتمل أن يعود على النجاة ،
والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه ، قال قتادة : أبقاها آية على
الجودي.
قوله عزوجل :
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(١٧)
يجوز أن يكون (إِبْراهِيمَ) معطوفا على «نوح» ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في «أنجيناه»
[العنكبوت : ١٥] ، ويجوز أن ينصبه فعل تقديره «واذكر إبراهيم». ، وهذه القصة أيضا
تمثيل
لقريش ، وكان
نمرود وأهل مدينته عبدة أصنام فدعاهم إبراهيم إلى توحيد الله تعالى وعبادته ، ثم
قرر لهم ما هم عليه من الضلال ، وقرأ جمهور الناس ، «تخلقون إفكا» ، وقرأ ابن
الزبير وفضيل «إفكا» على وزن فعل وهو مصدر كالكذب والضحك ونحوه ، واختلف في معنى (تَخْلُقُونَ) فقال ابن عباس هو نحت الأصنام وخلقها. سماها (إِفْكاً) توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة ، وقال مجاهد
: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك ، وقرأ عبد الرحمن السلمي وعون العقيلي
وقتادة وابن أبي ليلى «وتخلّقون إفكا» بفتح الخاء وشد اللام وفتحها ، و «الإفك»
على هذه القراءة الكذب ثم وقفهم على جهة الاحتجاج عليهم بأمر تفهمه عامتهم وخاصتهم
وهو أمر الرزق ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، وأمر بابتغاء الخير عند الله تعالى
وخصص (الرِّزْقَ) لمكانته من الخلق فهو جزء يدل على جنسه كله ، ويقال شكرت
لك وشكرتك بمعنى واحد ، ثم أخبرهم بالمعاد والحشر إليه.
قوله عزوجل :
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا
فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(٢٠)
في قوله تعالى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) الآية وعيد ، أي
قد كذب غيركم وعذب وإنما على الرسول البلاغ ، وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله ، وقرأ
حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه «أو لم تروا» بالتاء ، وقرأ الباقون «أو لم يروا»
بالياء ، الأولى على المخاطبة والثانية على الحكاية عن الغائب.
وقرأ الجمهور «يبدىء»
وقرأ عيسى وأبو عمرو بخلاف والزهري «يبدأ» وهذه الإحالة على ما يظهر مع الأحيان من
إحياء الأرض والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور والحشر ،
ويحتمل أن يريد (أَوَلَمْ يَرَوْا) بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعد الله الأجسام بعد الموت
وهو تأويل قتادة ، وقال الربيع ابن أنس : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال
أخر حتى إلى التراب ، وقال مقاتل (الْخَلْقَ) في هذه الآية الليل والنهار ، ثم أمر تعالى نبيه ، ويحتمل
أن يكون إبراهيم ، ويحتمل أن يكون محمدا ، إن كان في قصة إبراهيم اعتراض بين
كلامين بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرض والنظر في كل قطر وفي كل أمة
قديما وحديثا ، فإن ذلك يوجد أن لا خالق إلا الله تعالى ولا يبتدىء بالخلق سواه ،
ثم ساق على جهة الخبر أن الله تعالى يعيد وينشىء نشأة القيام من القبور ، وقرأت
فرقة «النشأة» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «النشاءة» على وزن الفعالة وهي قراءة
الأعرج ، وهذا كما تقول رأفة ورافة ، وقرأ الباقون «النشأة» على وزن الفعلة ، وقرأ
الزهري «النشّة» بشين مشددة في جميع القرآن ، والبعث من القبور يقوم دليل العقل
على جوازه وأخبرت الشرائع وقوعه ووجوده.
قوله عزوجل :
(يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
السَّماءِ
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
(٢٣)
المعنى ييسر من
يشاء لأعمال من حق عليه العذاب وييسر من يشاء لأعمال من سبقت له الرحمة فيتعلق
الثواب والعقاب بالاكتساب المقترن بالاختراع الذي لله تعالى في أعمال العبد ، ثم
أخبر أن إليه المنقلب وأن البشر ليس بمعجز ولا مفلت (فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ) ، ويحتمل أن يريد ب (السَّماءِ) الهواء علوا أي ليس للإنسان حيلة صعد أو نزل حكى نحوه
الزهراوي ويحتمل أن يريد (السَّماءِ) المعروفة أي لستم (بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَلا) ولو كنتم (فِي السَّماءِ) ، وقال ابن زيد معناه ولا من في السماء معجز إن عصى ونظروه
على هذا بقول حسان بن ثابت : [الوافر]
أمن يهجو رسول
الله منا
|
|
ويمدحه وينصره
سواء
|
والتأويل الأوسط
أحسنها.
ونحوه قول الأعشى
: [الطويل]
ولو كنت في جب
ثمانين قامة
|
|
ولقيت أسباب
السماء بسلم
|
ليعتورنك القول
حتى تهزه
|
|
وتعلم أني لست
عنك بمحرم
|
و «الولي» أخص من «النصير
، وقرأ يحيى بن الحارث وابن القعقاع «ييسوا» من غير همز ، قال قتادة ذم الله تعالى
قوما هانوا عليه فقال (أُولئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي).
قال القاضي أبو
محمد : وما تقدم من قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ) [العنكبوت : ١٩]
إلى هذه الآية المستأنفة ، يحتمل أن يكون خطابا لمحمد ويكون اعتراضا في قصة
إبراهيم ، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم ومحاورة لقومه ، وعند آخر ذلك ذكر جواب
قومه.
قوله عزوجل :
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)
(٢٥)
قرأ الجمهور «جواب»
بالنصب ، وقرأ الحسن «جواب» بالرفع ، وكذلك قرأ سالم الأفطس ، وأخبر الله تعالى
عنهم أنهم لما بين إبراهيم الحجج وأوضح أمر الدين رجعوا معه إلى الغلبة والقهر
والغشم وعدوا عن طريق الاحتجاج حين لم يكن لهم قبل به فتأمروا في قتله أو تحريقه
بالنار ، وأنفذوا أمر تحريقه حسبما قد اقتص في غير هذا الموضع ، «وأنجاه الله»
تعالى من نارهم بأن جعلها عليه بردا وسلاما ، قال كعب
الأحبار : ولم
تحرق النار إلا الحبل الذي أو ثقوه به ، وجعل ذلك آية وعبرة ودليلا على وحدانيته
لمن شرح صدره ويسره للإيمان أي هذا الصنف ينتفع بالآية والكفار هي عليهم عمى وإن
كانت في نفسها آية للكل ، ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليهالسلام قررهم على أن اتخاذهم الأوثان والأنصاب إنما كان اتباعا من
بعضهم لبعض وحفظا لموداتهم ومحباتهم الدنياوية ، وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم
بعضا ويتلاعنون لأن توادهم كان على غير تقوى ، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا
المتقين ، وقرأ عاصم في رواية الأعمش عن أبي بكر عنه «مودة» بالرفع «بينكم» بالنصب
وهي قراءة الحسن وأبي حيوة.
وقرأ أبو عمرو
وابن كثير والكسائي في رواية المفضل «مودة» بترك التنوين والرفع «بينكم» بالخفض ،
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية أبي زيد «مودة
بينكم» بالتنوين والنصب ونصب «بين» ، وقرأ حمزة «مودة» بالنصب وترك التنوين
والإضافة إلى «بين» ، فأما قراءتا الرفع في «مودة» فوجههما أن يكون «ما» بمعنى
الذي وفي قوله (اتَّخَذْتُمْ) ضمير عائد على الذي ، وهذا الضمير هو مفعول أول ل (اتَّخَذْتُمْ) ، و (أَوْثاناً) مفعول ثان ، و «مودة» خبر «إن» في قراءة من نونها ، وفي
قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما» كافة ولا يكون في قوله (اتَّخَذْتُمْ) ضمير ويكون قوله (أَوْثاناً) مفعولا لقوله (اتَّخَذْتُمْ) ثم يقتصر عليه ، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه ، كما يقدر
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [الأعراف : ١٥٢]
أي إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) [الأعراف : ١٥٢] ،
ويكون قوله «مودة» خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في
تسمية الأوثان «مودة» أو يكون ذلك على حذف مضاف ، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما»
كافة وعلى خلو (اتَّخَذْتُمْ) من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون
نصب «المودة» على المفعول من أجله ، ومن أضاف «المودة» إلى «البين» في القراءتين
بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء ، ومن نصب «بينكم» في قراءتي
الرفع والنصب في «مودة» فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقا ب «مودة»
وكذلك (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) ظرف أيضا متعلق ب «مودة»
وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز
ذلك ، تقول رأيت زيدا أمس في السوق ولا تقول رأيت زيدا أمس البارحة اللهم إلا أن
يكون أحد الظرفين جزءا للآخر ، رأيت زيدا أمس عشية ، ويجوز أن ينتصب «بينكم» على
أنه صفة ل «مودة» ، فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة» ثابتة «بينكم» ، وفي الظرف ضمير
عائد على «مودة» لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه ، وقوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في (بَيْنِكُمْ) بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة» وجاز تعلقها بها
، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها ، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا
في المفعول ، فأما في الظرف والحال فيعمل ، قال مكي : ويجوز أن يكون (فِي الْحَياةِ) صفة ثابتة ل «مودة» ويكون فيها مقدر مستقرة وفيها ضمير ثان
عائد إلى «مودة» فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا.
قال القاضي أبو
محمد : ويصح أن يكون قوله «مودة» في قراءة من نصب مفعولا ثانيا لقوله (اتَّخَذْتُمْ) ويكون في ذلك اتساع فتأمله ، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة
بينهم» بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم».
قوله عزوجل :
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ)
(٢٨)
(فَآمَنَ) معناه فصدق وهو فعل يتعدى بالباء وباللام والقائل (إِنِّي مُهاجِرٌ) هو إبراهيم عليهالسلام قاله قتادة والنخعي.
وقالت فرقة : هو
لوط عليهالسلام ، ومما صح من القصص أن إبراهيم ولوطا هاجرا من قريتهما
كوثا وهي في سواد الكوفة من أرض بابل إلى بلاد الشام فلسطين وغيرها ، وقال ابن
جريج : إلى حران ، ثم أمرا بعد إلى الشام وفي هذه الهجرة كانت سارة في صحبة
إبراهيم واعتراهما أمر الملك ، والمهاجر ، النازع عن الأمر وهو في عرف الشريعة من
ترك وطنه رغبة في رضى الله تعالى ، وقد ذهب بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل الفتح ، وقوله (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مع الهجرة إليه ، صفتان بليغتان يقتضي استحقاق التوكل عليه
، وفي قوله (إِلى رَبِّي) ، حذف مضاف كأنه يقول إلى رضى ربي أو نحو هذا ، و (إِسْحاقَ) بن إبراهيم هو الذي بشر به في شيخه ، وبشر ب (يَعْقُوبَ) من ورائه فهو ولد إسحاق ، (وَالْكِتابَ) اسم الجنس أي جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم جميع الكتب
المنزلة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، وعيسى عليهالسلام من ذريته ، وقوله (أَجْرَهُ فِي
الدُّنْيا) ، يريد في حياته وبحيث أدرك ذلك وسر به ، والأجر الذي آتاه
الله هو العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح والثناء الحسن قاله
مجاهد ، وأن كل أمة تتولاه ، قاله ابن جريج ، والولد الذي قرت به العين بحسب طاعة
الله ، قاله الحسن ثم أخبر عنه أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضى
الله وفازوا برحمته وكرامته العليا ، وقوله تعالى (وَلُوطاً) نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطا ، و (الْفاحِشَةَ) إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط.
قوله عزوجل :
(أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي
عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(٣٠)
وَلَمَّا
جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ)
(٣١)
تقدم القول في
القرآن في (أَإِنَّكُمْ) ، واختلف الناس في قطع السبيل المشار إليه هاهنا ، فقالت
فرقة :
كان قطع الطريق
بالسلب فاشيا فيهم ، وقال ابن زيد : كانوا يقطعون الطرق على الناس لطلب الفاحشة
فكانوا يخيفون ، وقالت فرقة : بل أراد قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال
، وقالت فرقة : أراد أنهم لقبح الأحدوثة عنهم يقطعون سبل الناس عن قصدهم في
التجارات وغيرها ، و «النادي» المجلس الذي يجتمع فيه الناس وهو اسم جنس لأن
الأندية في المدن كثيرة فكأنه قال وتأتون في اجتماعكم حيث اجتمعتم.
واختلف الناس في (الْمُنْكَرَ) ، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون
بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هاني عن النبي صلىاللهعليهوسلم وكانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة ، وقال مجاهد
ومنصور : كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا ، وقال القاسم بن محمد : منكرهم
أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم ، ذكره الزهراوي ، وقال ابن عباس كانوا يتضارطون
ويتصافعون في مجالسهم ، وقال مجاهد أيضا : كان أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع
بالحناء والصفير والحذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وقد توجد هذه الأمور في بعض
عصاة أمة محمد صلىاللهعليهوسلم فالتناهي واجب ، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى
التكذيب واللجاج فقالوا (ائْتِنا) بالعذاب ، أي أن ذلك لا يكون ولا تقدر عليه ، وهم لم
يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه ، وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند
يقول هذا ، ثم استنصر لوط عليهالسلام ربه عليهم ، فبعث ملائكة لعذابهم ورجمهم بالحاصب فجاؤوا
إبراهيم أولا مبشرين بإسحاق ومبشرين بنصرة لوط على قومه ، وكان لقاؤهم لإبراهيم
على الصورة التي بينت في غير هذه الآية ، فلفظة «البشرى» في هذه الآية تتضمن أمر
إسحاق ونصرة لوط ، ولما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط
فعارضهم بأمره حسبما يأتي.
قوله عزوجل :
(قالَ إِنَّ فِيها
لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ
امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ(٣٢) وَلَمَّا أَنْ
جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ
وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا
مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(٣٥)
روي عن ابن عباس
أن إبراهيم عليهالسلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على
المؤمنين فجادل الملائكة وقال لهم : أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أتتركونهم
، قالوا ليس فيهم ذلك ، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات ، فقال له الملائكة
ليس فيهم عشرة ولا خمسة ولا ثلاثة ولا اثنان ، فحينئذ قال إبراهيم (إِنَّ فِيها لُوطاً) فراجعوه حينئذ بأنا (نَحْنُ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِيها) أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن
عامر «لننجّينّه» بفتح النون الوسطى وشد الجيم و «منجّوك» بفتح النون وشد الجيم.
وقرأ حمزة والكسائي
«لننجينه» بسكون النون وتخفيف الجيم ، «ومنجوك» ، بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقرأ
ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «لننجّينه» بالتشديد و «منجوك» بالتخفيف ، وقرأت
فرقة «لننجينه» بسكون النون الأخيرة من الكلمة وهذا إنما يجيء على أنه خفف النون
المشددة وهو يريدها ، وامرأة لوط هذه كانت كافرة تعين عليه وتنبه على أضيافه ، و «الغابر»
الباقي ومعناه (مِنَ الْغابِرِينَ) في العذاب ، وقالت فرقة (مِنَ الْغابِرِينَ) أي ممن عمر وبقي من الناس وعسا في كفره ، والضمير في (بِهِمْ) في الموضعين عائد على الأضياف الرسل ، وذلك من تخوفه لقومه
عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه ، وقرأ عامة القراء «سيء» بكسر السين ، وقرأ
عيسى وطلحة بضمها ، و «الرجز» ، العذاب ، وقوله : (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) ، أي عذابهم بسبب فسقهم ، وكذلك كل أمة عذبها الله ، فإنما
عذبها على الفسوق والمعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة ، وقرأ
أبو حيوة والأعمش «يفسقون» بكسر السين ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من خبرها وما بقي من أثرها ، ف «من» لابتداء الغاية
ويصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية ومنظرها ، و «الآية»
موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى ، وقرأ
جمهور القراء «منزلون» بتخفيف الزاي ، وقرأ ابن عامر «منزّلون» بشد الزاي وهي
قراءة الحسن وعاصم بخلاف عنهما ، وقرأ الأعمش «إنا مرسلون» بدل (مُنْزِلُونَ) ، وقرأ ابن محيصن «رجزا» بضم الراء.
قوله عزوجل :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦)
فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)
(٣٨)
نصب (شُعَيْباً) بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا ، فأمر شعيب
بعبادة الله تعالى والإيمان بالبعث واليوم الآخر ومع الإيمان به يصح رجاؤه ، وذهب
أبو عبيدة إلى أن المعنى وخافوا ، و (تَعْثَوْا) ، معناه تفسدون ، يقال عثا يعثو وعث يعث وعاث يعيث وعثى
يعثي إذا فسد ، وأهل (مَدْيَنَ) قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة ، وقيل (مَدْيَنَ) اسم القبيلة وأصحاب الأيكة وغيرهم ، وقيل هم بعضهم ومنهم
وذلك أن معصيتهم في أمر الموازين والمكاييل كانت واحدة.
و (الرَّجْفَةُ) ميد الأرض بهم وزلزلتها عليهم وتداعيها بهم وذلك نحو من
الخسف ، ومنه الإرجاف بالأخبار ، و «الجثوم» في هذا الموضع تشبيه ، أي كان همودهم
على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر والحيوان ، ومنه قول لبيد : [الكامل]
فغدوت في غلس
الظلام وطيره
|
|
غلب على خضل
العضاة جثوم
|
وقوله (وَعاداً) منصوب بفعل مضمر تقديره واذكر عادا ، وقيل هو معطوف على
الضمير في قوله (فَأَخَذَتْهُمُ) ، وقال الكسائي هو معطوف على قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) [العنكبوت : ٣] ، وقرأ ، «وثمودا» عاصم وأبو عمرو وابن
وثاب ، وقرأ «وثمود» بغير تنوين أبو جعفر وشيبة والحسن ، وقرأ ابن وثاب «وعاد
وثمود» بالخفض والتنوين ، ثم دل عزوجل على ما يعطي العبرة في بقايا (مَساكِنِهِمْ) ورسوم منازلهم ودثور آثارهم ، وقرأ الأعمش «تبين لكم
مساكنهم» دون «من» ، وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ) عطف جملة من الكلام على جملة ، و (السَّبِيلِ) ، هي طريق الإيمان بالله ورسله ، ومنهج النجاة من النار ،
وقوله ، (مُسْتَبْصِرِينَ) ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه لهم بصيرة في كفرهم
وإعجاب به وإصرار عليه فذمهم بذلك ، وقيل لهم بصيرة في أن الرسالة والآيات حق
لكنهم كانوا مع ذلك يكفرون عنادا ويردهم الضلال إلى مجاهله ومتالفه ، فيجري هذا
مجرى قوله تعالى في غيرهم (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] ، وتزيين
الشيطان هو بالوسواس ومناجاة ضمائر الناس ، وتزيين الله تعالى الشيء هو بالاختراع
وخلق محبته والتلبس به في نفس العبد.
قوله عزوجل :
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩)
فَكُلاًّ
أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ)
(٤٠)
نصب (قارُونَ) إما بفعل مضمر تقديره اذكر وإما بالعطف على ما تقدم ، و (قارُونَ) من بني إسرائيل وهو الذي تقدمت قصته في الكنوز وفي البغي
على موسى بن عمران عليهالسلام ، (وَفِرْعَوْنَ) مشهور ، و (هامانَ) وزيره ، وهو من القبط ، و «البينات» المعجزات والآيات
الواضحة ، و (سابِقِينَ) ، معناه مفلتبن من أخذنا وعقابنا ، وقيل معناه (سابِقِينَ) أولياءنا ، وقيل معناه (ما كانُوا سابِقِينَ) الأمم إلى الكفر ، أي قد كانت تلك عادة أمم مع رسل ،
والذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس : هم قوم لوط.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويشبه أن يدخل قوم عاد في «الحاصب» لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم
بأمور مؤذية ، و «الحاصب» هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء ، ومنه قول
الأخطل : [الكامل]
ترمي العضاة
بحاصب من ثلجها
|
|
حتى يبيت على
العضاة جفالا
|
ومنه قول الفرزدق
: [البسيط]
مستقبلين شمال
الشام تضربهم
|
|
بحاصب كنديف
القطن منثور
|
والذين أخذتهم (الصَّيْحَةُ) قوم ثمود ، قاله ابن عباس وقال قتادة : هم قوم شعيب ، و «الخسف»
كان بقارون ، قاله ابن عباس.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب ، والغرق كان في قوم
نوح ، وبه فسر ابن عباس وفي فرعون وحزبه ، وبه فسر قتادة ، وظلمهم أنفسهم كان
بالكفر ووضع العبادة في غير موضعها وقدم المفعول على (يَظْلِمُونَ) للاهتمام وهذا نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] وغيره ، وحكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم
شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود.
قوله عزوجل :
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ)
(٤٣)
شبه تعالى الكفار
في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ب (الْعَنْكَبُوتِ) التي تبني وتجتهد وأمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة
أذهبته فكذلك أمر أولئك وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد ، ومن حديث ذكره النقاش «العنكبوت
شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه» ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «طهروا
بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر» ، وقوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، أي (يَعْلَمُونَ) أن هذا مثلهم وأن حالهم ونسبتهم من الحق هذه الحال ، وقوله
(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ).
قرأ أبو عمرو
وسلام «يعلم ما» بالإدغام ، وقرأ عامة القراء بالفك ، وقرأ الجمهور «تدعون» بالتاء
من فوق ، وقرأ أبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بالياء من تحت على الغيبة ، فأما موضع
(ما) من الإعراب فقيل معناه أن الله يعلم الذين يدعون من دونه
من جميع الأشياء أن حالهم هذه وأنهم لا قدرة لهم ، وقيل قوله (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) إخبار تام ، وقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) متصل به ، واعترض بين الكلامين (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وذلك على هذا النحو من النظر يحتمل معنيين أحدهما أن
تكون (ما) نافية أي لستم تدعون شيئا له بال ولا قدر ولا خلاق فيصلح
أن يسمى شيئا وفي هذا تعليق (يَعْلَمُ) وفيه نظر ، الثاني أن تكون (ما) استفهاما كأنه قرر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من
جميع الأشياء ما هو إذ لم يكن الله تعالى أي ليس لهم على هذا التقرير جواب مقنع
البتة ، ف (مِنْ) على القول الأول والثالث للتبعيض المجرد ، وعلى القول
الوسط هي زائدة في الجحد ومعناها التأكيد ، وقال أبو علي (ما) استفهام نصب ب (يَدْعُونَ) ولا يجوز نصبها ب (يَعْلَمُ) ، والتقدير أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه أو غيره لا
يخفى ذلك عليه ، وقوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) إشارة إلى هذا المثل ونحوه ، و (نَضْرِبُها) مأخوذ من الضرب
أي النوع كما تقول
هذان من ضرب واحد وهذا ضريب هذا أي قرينه وشبهه ، فكأن ضرب المثل هو أن يجعل للأمر
الممثل ضريب ، وباقي الآية بين. وقرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت ، وقرأت فرقة
«تدعون» بالتاء على المخاطبة ، وقال جابر : قال النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله (إِلَّا الْعالِمُونَ) : «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته».
قوله عزوجل :
(خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
اتْلُ
ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى
عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تَصْنَعُونَ)
(٤٥)
نبه في ذكر خلق (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على أمر يوقع الذهن على صغر قدر الأوثان وكل معبود من دون
الله ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) أي بالواجب النير لا للعبث واللعب ، بل ليدل على سلطانه ويثبت
شرائعه ويضع الدلالات لأهلها ويعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا ، ثم أمر
تعالى نبيه عليهالسلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه ، وإقامة
الصلاة أي إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى) صاحبها وممتثلها (عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ).
قال الفقيه الإمام
القاضي : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله
تعالى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة ، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك
نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن
الفحشاء والمنكر ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله
، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون ، وقد روي عن بعض
السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال : إني أقف
بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ، ومن كانت صلاته دائرة حول
الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ،
فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج
الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن
الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا». وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك غير صحيح السند ، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا
قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى
كأنها معصية ، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه
في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده ، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد
الذي كان بسبيله ، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى ، وقيل لابن مسعود
إن فلانا كثير الصلاة ، فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها ، وقرأ الربيع بن أنس «إن
الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» ، وقال ابن عمر (الصَّلاةَ) هاهنا
القرآن ، وقال
حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي : إن الصلاة تنهى ما دمت فيها.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذه عجمة وأنى هذا مما روى أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي
مع النبي صلىاللهعليهوسلم ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فقيل ذلك للنبي
صلىاللهعليهوسلم فقال «إن صلاته ستنهاه» ، فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألم أقل لكم»؟ وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة :
معناه ، (وَلَذِكْرُ اللهِ) إياكم (أَكْبَرُ) من ذكركم إياه ، وقيل معناه (وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ) مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر ، قال
ابن زيد وقتادة معناه (وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ) من كل شيء ، وقيل لسلمان أي الأعمال أفضل؟ فقال : أما تقرأ
القرآن (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). ومنه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير
أعمالكم؟» الحديث ، وقيل معناه (وَلَذِكْرُ اللهِ) كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وعندي أن المعنى (وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ) على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر.
فالجزء الذي منه
في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر
مراقب ، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ
ذكرته في ملإ خير منه» ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي ، والذكر
النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى ، وأما ما لا يتجاوز
اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه ،
وذلك ثمرة لذكر العبد ربه ، قال الله عزوجل (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] ،
وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة.
قوله عزوجل :
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
(٤٦)
قرأ الجمهور «إلا»
على الاستثناء ، وقرأ ابن عباس «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، واختلف المفسرون
في المراد بهذه الآية ، فقال ابن زيد : معناها «لا تجادلوا» من آمن بمحمد من (أَهْلَ الْكِتابِ) فكأنه قال (أَهْلَ الْكِتابِ) المؤمنين (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) أي الموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك ،
وقوله تعالى على هذا التأويل (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا) يريد به من بقي على كفره منهم ، كمن كفر وغدر من قريظة
والنضير وغيرهم ، والآية على هذا محكمة غير منسوخة ، وقال مجاهد : المراد ب (أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى الباقون على دينهم أمر الله تعالى
المؤمنين ألا يجادلوهم (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) من الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته ، وأن يزال
معهم عن طريق الإغلاظ والمخاشنة ، وقوله على هذا التأويل (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم
يؤد جزية
الحرب ، ومن قال
وصرح بأن لله ولدا أو له شريك أو يده مغلولة ، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من
لم يحارب ، قال قتادة هي منسوخة بقول الله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩].
قال الفقيه الإمام
القاضي : والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية ،
وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض
ولا طلب جزية ولا غير ذلك ، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين
بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب ، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا
يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة ، ثم استثنى من ظلم
منهم المؤمنين إما بفعل ، وإما بقول ، وإما بإذاية محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا
، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن
التي هي أحسن ، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال والجزية وهذا قول قتادة وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا) الآية ، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة
بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد
ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل».
قوله عزوجل :
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ
هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ
تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلاَّ الظَّالِمُونَ)
(٤٩)
تقدم في الآية
التي قبل هذه ما يتضمن نزول شرع وكتاب من عند الله على أنبياء قبل محمد عليهالسلام فحسن لذلك عطف (كَذلِكَ أَنْزَلْنا) على ما في المضمر ، أي وكما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا
إليك ، و (الْكِتابِ) القرآن ، وقوله (فَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد التوراة والإنجيل ، أي فالذين كانوا في عصر نزول
الكتاب وأوتوه حينئذ (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي كانوا مصدقين بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ، فالضمير
في (بِهِ) عائد على القرآن ، ثم أخبر عن معاصري محمد صلىاللهعليهوسلم أن منهم أيضا (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) ولم يكونوا آمنوا بعد ، ففي هذا إخبار بغيب بينه الوجود
بعد ذلك ، ثم أنحى على الجاحدين من أمة قد آمن سلفها في القديم وبعضها في الحديث ،
وحصل الجاحدون في أخس رتبة من الضلال ، ويشبه أن يراد أيضا في هذا الإنحاء كفار
قريش مع كفار بني إسرائيل ، ثم بين تعالى الحجة على «المبطلين» المرتابين ما وضح
أن مما يقوي نزول هذا القرآن من عند الله أن محمدا صلىاللهعليهوسلم جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك
وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتابا ولا يخط حرفا ولا سبيل له
إلى العلم ، فإنه
لو كان ممن يقرأ (لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) وكان لهم في ارتيابهم متعلق ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه
الحجة فظاهر فساده ، وقال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا لا يخط
ولا يقرأ كتابا فنزلت هذه الآية ، وذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه
قال : ما مات النبيصلىاللهعليهوسلم حتى كتب وأسند أيضا حديثا إلى أبي كبشة السلولي مضمنه أنه عليهالسلام قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا كله ضعيف ، وقول الباجي رحمهالله منه ، وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ) إضراب عن مقدر من الكلام يقتضيه ما تقدم كأنه قال : ليس
الأمر كما حسبوا (بَلْ هُوَ) وهذا الضمير يحتمل أن يعود على القرآن ، ويؤيده أن في
قراءة ابن مسعود «بل هي آيات» ، ويحتمل أن يعود على محمد صلىاللهعليهوسلم ويؤيده أن قتادة قرأ «بل هو آية بينة» على الإفراد ، وقال
: المراد النبيصلىاللهعليهوسلم ، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلىاللهعليهوسلم في أنه لم يتل ولا خط ، وبكل احتمال قالت فرقة ، وكون هذا
كله (آياتٌ) أي علامات (فِي صُدُورِ) العلماء من المؤمنين بمحمد ، يراد به مع النظر والاعتبار. و
(الظَّالِمُونَ) و (الْمُبْطِلُونَ) ، قيل يعم لفظهما كل مكذب بمحمد صلىاللهعليهوسلم ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم ، قاله مجاهد
، وقال قتادة : (الْمُبْطِلُونَ) اليهود.
قوله عزوجل :
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
أَوَلَمْ
يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)
(٥٢)
الضمير في (قالُوا) لقريش ولبعض اليهود ، لأنهم كانوا يعلمون قريشا مثل هذه
الحجة يقولون : لم لا يأتيكم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها ، وقرأ ابن كثير
وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعلي بن نضر عن أبي عمرو «آية من ربه» ، وقرأ
نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم «آيات من ربه» ، فأمر الله تعالى نبيه أن
يعلم أن هذا الأمر بيد الله عزوجل ولا يستنزله الاقتراح ولا التمني وأنه بعث نذيرا ولم يؤمر
بغير ذلك ، وفي مصحف أبي بن كعب «قالوا لو ما يأتينا بآيات من ربه قل إنما الآيات»
، ثم احتج عليهم في طلبهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس
فقال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، ثم قرر ما فيه من «الرحمة والذكرى» للمؤمنين ، فقوله (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) ، جواب لمن قال (لَوْ لا أُنْزِلَ) ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين
كتبوا عن اليهود بطائق أخبروهم بشيء من التوراة فكتبوه ، فأنكر ذلك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وقال «كفى بها ضلالة قوم أن رغبوا عما آتاهم به نبيهم إلى
ما أتى به غيره» ، ونزلت الآية بسببه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات ، ثم أمر تعالى نبيه بالإسناد إلى أمر
الله تعالى وأن يجعله حسبه (شَهِيداً) وحاكما بينه وبينهم بعلمه وتحصيله جميع أمورهم ، وقوله (بِالْباطِلِ) ، يريد بالأصنام والأوثان وما يتبع أمرها من المعتقدات ،
والباطل ، هو أن يفعل فعل يراد به أمر ما ، وذلك الأمر لا يكون عن ذلك الفعل ،
والأصنام أريد بأمرها الأكمل والأنجح في زعم عبادها وليس الأكمل والأنجح إلا رفضها
فهي إذا باطل ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣)
يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)
يَوْمَ
يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ
ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(٥٥)
قوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) يراد به كفار قريش في قولهم ائتنا بما تعدنا ، وغير ذلك من
استدعائهم على جهة التعجيز والتكذيب عذاب الله الذي يتوعدهم محمد صلىاللهعليهوسلم به ، ثم أخبر تعالى أنه يأتيهم (بَغْتَةً) أي فجأة وهذا هو عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر في
السنين السبع.
ثم ذكر تعالى أن
تأخره إنما هو حسب الأجل المقدور السابق ، وقال المفسرون عن الضحاك : أن «الأجل
المسمى» في هذه الآية الآجال ..
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف يرده النظر ، والآجال لا محالة (أَجَلٌ مُسَمًّى) ولكن ليس هذا موضعها ، ثم توعدهم تبارك وتعالى بعد عذاب
الآخرة في قوله (يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم إحاطة جهنم بهم وقال
عكرمة فيما حكى الطبري إن (جَهَنَّمَ) هاهنا أراد بها البحر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) ظرف يعمل فيه قوله «محيطة» ، و (يَغْشاهُمُ) معناه يغطيهم من كل جهة من جهاتهم ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة
والكسائي «ويقول» أي ويقول الله ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ونقول»
بالنون ، فإما أن تكون نون العظمة أو نون جماعة الملائكة ، وقرأ ابن مسعود «ويقال»
بياء وألف وهي قراءة ابن أبي عبلة ، وقوله تعالى : (ذُوقُوا) توبيخ ، وتشبيه مس العذاب بالذوق ، ومنه قوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ،
ومنه قول أبي سفيان : ذق عقق ونحو هذا كثير ، وقوله تعالى : (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما في أعمالكم من اكتسابكم.
قوله عزوجل :
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها
نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
(٥٩)
هذه الآيات نزلت
في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة ، فأخبرهم تعالى بسعة أرضه وأن
البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب ، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله في أرضه
، وقال ابن جبير وعطاء ومجاهد : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه
الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق ، وقاله مالك ، وقال مطرف بن الشخير قوله (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) عدة بسعة الرزق في جميع الأرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم
وابن عامر «يا عبادي» بفتح الياء ، وقرأ ابن عامر وحده «إن أرضي» بفتح الياء أيضا
، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكونها ، وكذلك قرأ نافع وعاصم «أرضي» ساكنة ،
وقوله تعالى : (فَإِيَّايَ) منصوب بفعل مقدر يدل عليه الظاهر تقديره (فَإِيَّايَ) اعبدوا (فَاعْبُدُونِ) على الاهتمام أيضا في التقديم ، وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ
إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة
تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا ، فحقر الله تعالى شأن الدنيا ،
أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا ، فالبدار إلى طاعة الله عزوجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل ، وقرأ الجمهور «ترجعون»
بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم بالياء من تحت وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو ، وقرأ
أبو حيوة «كل نفس ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب ، ثم وعد المؤمنين العاملين
بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى ، وذكر الجزاء الذي ينالونه ، وقرأ جمهور القراء «لنبوئنهم»
من المباءة أي لننزلنهم ولنمكننهم ليدوموا فيها ، و (غُرَفاً) مفعول ثان لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة
والكسائي «لنثوينهم» من أثوى يثوي وهو معدى ثوى بمعنى أقام وهي قراءة على بن أبي
طالب رضي الله عنه وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن وثاب وطلحة ، وقرأها بعضهم «لنثوّينهم»
بفتح الثاء وتشديد الواو معدى بالتضعيف لا بالهمزة ، فقوله (غُرَفاً) نصب بإسقاط حرف الجر التقدير في غرف ، وقرأ يعقوب «لنبوينهم»
بالياء من تحت ، وروي عن ابن عامر «غرفا» بضم الغين والراء ، ثم وصفهم تعالى
بالصبر والتوكل وهاتان جماع الخير كله أي الصبر على الطاعات وعن الشهوات.
قوله عزوجل :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ)
(٦٣)
(كَأَيِّنْ) بمعنى كم ، وهذه الآية أيضا تحريض على الهجرة لأن بعض
المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا
فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في
رزقها ، المعنى فهو يرزقكم أنتم ، ففضلوا طاعته على كل
شيء ، وقوله تعالى
: (لا تَحْمِلُ) يجوز أن يريد من الحمل أي لا تستقل ولا تنظر في ادخار ،
وقاله ابن مجلز ومجاهد وعلي بن الأقمر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والادخار ليس من خلق الموقنين ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لابن عمر : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق
سنة بضعف اليقين» ، ويجوز أن يريد من الحمالة أي لا تتكفل لنفسها ولا تروي فيه ، ثم
خاطبه تعالى بأمر الكفار وإقامة الحجة عليهم بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي
هي دلائل القدرة لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى ، و (يُؤْفَكُونَ) معناه يصرفون ، ونبه تعالى على خلق السماوات وخلق الأرض
وتسخير الكواكب وذكر عظمها فاقتضى ذلك ما دونه ، ثم نبه على «بسط الرزق» وقدره
لقوم ، وإنزال المطر من السماء ، وهذه عبر كفيلة لمن تأمل بالنجاة والمعتقد الأقوم
، ثم أمر تعالى نبيه بحمده على جهة التوبيخ لعقولهم وحكم عليهم بأن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ولا يتسدد منهم نظر.
قوله عزوجل :
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
فَإِذا
رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)
لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ)
(٦٧)
وصف الله تعالى (الدُّنْيا) في هذه الآية بأنها (لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى ، فأما ما كان لله فهو
من الآخرة ، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قوام العيش
والقوة على الطاعات فإنما هو (لَهْوٌ وَلَعِبٌ) ، وتأمل ذلك في المطاعم والملابس والأقوال والمكتسبات وغير
ذلك ، وانظر أن حالة الغني والفقير في الأمور الضرورية واحدة كالتنفس في الهواء
وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد وهذه عظم أمر العيش ، و (الْحَيَوانُ) و (الْحَياةُ) بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه
، والمعنى لا موت فيها قاله مجاهد وهو حسن ، ويقال أصله حييان فبدلت إحداهما واوا
لاجتماع المثلين ، ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم ، فإن كل
بشر ينسى كل صنم وغيره ويتمسك بالدعاء والرغبة إلى الله تعالى ، وقوله (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي يرجعون إلى ذكر أصنامهم ، وتعظيمها ، وقوله (لِيَكْفُرُوا) نصب بلام كي ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «وليتمتعوا»
بكسر اللام ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام على صيغة
الأمر التي هي للوعيد والتهديد ، والواو على هذا عاطفة جملة كلام ، لا عاطفة فعل
على فعل وفي مصحف أبي بن كعب «فتمتعوا فسوف تعلمون» ، وفي قراءة ابن مسعود «لسوف
تعلمون» باللام ، ثم عدد تعالى على كفار قريش نعمته عليهم في الحرم في أنه جعله
لهم آمنا لا خوف فيه من أحوال العرب وغارتهم وسوء أفعالهم من القتل وأخذ الأموال
ونحوه ، وذلك هو «التخطف» الذي كان الناس بسبيله ، ثم قررهم على جهة التوبيخ
على إيمانهم
بالباطل وكفرهم بالله وبنعمته ، وقرأ جمهور القراء «يؤمنون» بالياء من تحت وكذلك «يكفرون»
، وقرأهما بالتاء من فوق الحسن وأبو عبد الرحمن.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ
جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
(٦٩)
قررهم عزوجل على حال من (افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً أَوْ كَذَّبَ) بآياته ، وهذه كانت حالهم وأعلمهم أنه لا أحد (أَظْلَمُ) منهم ، وهذا في ضمنه وعيد شديد ، ثم بين الوعيد أيضا
بالتقرير على أمر جهنم ، و «المثوى» موضع الإقامة ، وألفاظ هذه الآيات في غاية
الاقتضاب والإيجاز وجمع المعاني ، ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه ، وقرر
ذلك بذكر الكفرة والظلمة ليبين تباين الحالتين ، وقوله (فِينا) ، معناه في مرضاتنا وبغية ثوابنا. قال السدي وغيره : نزلت
هذه الآية قبل فرض القتال.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته ، قال
الحسن بن أبي الحسن : الآية في العباد ، وقال عياش وإبراهيم بن أدهم : هي في الذين
يعلمون ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم» ، ونزع بعض
العلماء بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٨٢] ،
وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما
علمنا ، وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط بل هو
نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين ، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عزوجل وهو الجهاد الأكبر ، قاله الحسن وغيره وفيه حديث عن النبيصلىاللهعليهوسلم «رجعتم من الجهاد
الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ، وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك : إذا رأيت الناس
قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، وقال الضحاك : معنى الآية (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) في الهجرة (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) سبل الثبوت على الإيمان ، و «السبل» هاهنا يحتمل أن تكون
طرق الجنة ومسالكها ، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد
النيرة ، قال يوسف بن أسباط : هي إصلاح النية في الأعمال وحب التزيد والتفهيم ،
وهذا هو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم يقتدح من علم متقدم وهي حال
من رضي الله عنه ، وباقي الآية وعد ، و «مع» تحتمل أن تكون هنا اسما ولذلك دخلت
عليها لام التأكيد ، ويحتمل أن تكون حرفا ودخلت اللام لما فيها من معنى الاستقرار
كما دخلت في «إن زيدا لفي الدار».
كمل تفسير سورة
العنكبوت والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الرّوم
هذه السورة مكية.
ولا خلاف أحفظه في ذلك.
قوله عزوجل :
(الم (١)
غُلِبَتِ
الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)
فِي
بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ
اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)
وَعْدَ
اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
(٦)
تقدم القول في
الحروف التي في أوائل السور بما فيه كفاية ، وقرأ الجمهور «غلبت» بضم الغين وقالوا
معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد : في الجزيرة
وهو موضع بين العراق والشام ، وقال عكرمة : وهي بين بلاد العرب والشام ، وقال
مقاتل : بالأردن وفلسطين ، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) وتكون الدولة لهم في الحرب ، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن
أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غلبت» الروم بفتح الغين واللام ،
وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر
المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم (سَيَغْلِبُونَ) أيضا (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم ، والرواية الأولى والقراءة
بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على «سيغلبون» أنه بفتح الياء يريد به الروم ، وروي
عن ابن عمرو أنه قرأ أيضا «سيغلبون» بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي
تظاهرت الروايات به ، و (أَدْنَى الْأَرْضِ) معناه أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من (أَدْنَى الْأَرْضِ) بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله : [الطويل]
تنورتها من
أذرعات وأهلها
|
|
بيثرب أدنى
دارها نظر عال
|
وإن كانت الوقعة
بالجزيرة فهي (أَدْنَى) بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي (أَدْنَى) إلى أرض الروم ، قال أبو حاتم : وقرىء «أداني الأرض» ، وقرأ
جمهور الناس «غلبهم» بفتح اللام كما يقال أحلب حلبا لك شطره ، وقرأ ابن عمر
بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول ، وروي في قصص هذه الآية عن ابن
عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن
الروم (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين. كأنه
تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة : من الثلاث إلى الخمس ، وقوله مردود ،
فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم : أسركم إن غلبت الروم
فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم (سَيَغْلِبُونَ فِي
بِضْعِ سِنِينَ) فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال
يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر فلنتناحب ، أي نتراهن ، في ذلك فراهنهم أبو بكر
قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص ، والأجل ثلاث سنين ،
فأخبر النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن
واستزدهم في الأجل» ، ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت
الروم في أثناء الأجل ، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم
بدر ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان ، روي
نحوه عن قتادة ، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ، وذكر الناس أن
سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك
إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار
ككفار قريش والعرب.
قال القاضي أبو
محمد : ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه
أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على
الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. و (سِنِينَ) ، يجمع كجمع من يعقل عوضا من النقص الذي في واحده لأن أصل
سنة سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه خارج عن قياسه ونمطه ثم
أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه
وبإرادته وقدره ، فقال (لِلَّهِ الْأَمْرُ) أي إنفاذ الأحكام (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) أي من بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء القوم ، و (قَبْلُ) و (بَعْدُ) ظرفان بنيا على الضم لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليه
وصارا متضمنين ما حذف فخالفا معرب الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا وخصا
بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر أو أضيف زال بناؤه ، وكذلك هما فضما
كما المنادى مبني على الضم ، وقيل في ذلك أيضا أن الفتح تعذر فيهما لأنه حالهما في
إظهار ما أضيفا إليه ، وتعذر الكسر لأنه حالهما عند إضافتهما إلى المتكلم ، وتعذر
السكون لأن ما قبل أحدهما ساكن ، فلم يبق إلا الضم فبنيا عليه ، ومن العرب من يقول
«من قبل ومن بعد» بالخفض والتنوين.
قال الفراء :
ويجوز ترك التنوين فيبقى كما هو في الإضافة وإن حذف المضاف ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ) يحتمل أن يكون عطفا على القبل والبعد ، كأنه حصر الأزمنة
الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر ،
ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله (بَعْدُ) ، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) ، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون ، والنصر الذي (يَفْرَحُ) به (الْمُؤْمِنُونَ) يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة
الإسلام بحكم السببين اللذين قد ذكرتهما ، ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص
المؤمنين على عدوهم وهذا أيضا غيب أخبر به وأخرجه الوجود إما يوم بدر وإما يوم
بيعة الرضوان ، ويحتمل
أن يشار به إلى
فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن
هذا ضرب من النصر عظيم ، وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ) نصب على المصدر المؤكد ، وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) يريد الكفار من قريش والعرب ، أي لا يعلمون أن الأمور من
عند الله وأن وعده لا يخلف وأن ما يورده نبيه حق.
قال القاضي أبو
محمد : هذا الذي ذكرناه هو عمدة ما قيل ، وقد حكى الطبري وغيره روايات يردها النظر
أو قول الجمهور ، من ذلك أن بعضهم قال إنما نزلت (وَعْدَ اللهِ لا
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) بعد غلبة الروم لفارس ووصول الخبر بذلك ، وهذا يقتضي أن
الآية مدنية والسورة مكية بإجماع ونحو هذا من الأقوال.
قوله عزوجل :
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)
(٨)
وصف تعالى الكفرة
الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، واختلف الناس في معنى (ظاهِراً) فقالت فرقة معناه بينا أي ما أدته إليهم حواسهم فكأن
علومهم إنما هي علوم البهائم ، وقال ابن عباس والحسن والجمهور : معناه ما فيه
الظهور والعلو في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب الأموال والفلاحات
ونحو هذا ، وقالت فرقة : معناه ذاهبا زائلا أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء
لها ولا عاقبة ومثل هذه اللفظة قول الهذلي :
وعيرها الواشون
أني أحبها
|
|
وتلك شكاة ظاهر
عنك عارها
|
وقال سعيد بن جبير
: إن قوله (ظاهِراً مِنَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) إشارة إلى ما يعلم من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين ،
وقال الروماني : كل ما يعلم بأوائل العقول فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو
الباطن.
قال القاضي أبو
محمد : وفيه تقع الغفلة وتقصير الجهال ، ثم وصفهم ب «الغفلة» والإعراض عن أمر
الآخرة وكرر الضمير تأكيدا ، وغفلة الكافر هي على الكمال والمؤمن المنهمك في أمور
الدنيا التي هي أكبر همه يأخذ من هذه الآية بحظ ، نوّر الله قلوبنا بهداه ، ثم
وقفهم على جهة التوبيخ على أنهم قد فكروا فلم تنفعهم الفكرة والنظر إذ لم يكن على
سداد ، وقوله تعالى : (فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل معنيين : أحدهما أن تكون الفكرة في ذواتهم وحواسهم
وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق المخترع ، ثم أخبر عقب هذا المعنى بأن الحق هو
السبب في خلق السماوات والأرض ، فيفهم على طريقة الإيجاز والاختصار أن من فكر في
نفسه علم حقيقة هذا الخبر ووقف عليه ببصيرة نفسه ، والمعنى الثاني أن تكون النفس
ظرفا للفكرة في خلق السماوات والأرض فيكون قوله (فِي أَنْفُسِهِمْ) تأكيدا لقوله (يَتَفَكَّرُوا) كما تقول انظر بعينك واسمع بأذنك ، فقولك بأذنك تأكيد ،
وقوله (إِلَّا بِالْحَقِ) أي بسبب المنافع التي هي حق واجب يريد من
الدلالة عليه
والعبادة له دون فتور ، والانتصاب للعبرة ومنافع الأرزاق وغير ذلك ، (وَأَجَلٍ) عطف على «الحق» أي وبأجل مسمى وهو يوم القيامة ، ففي الآية
إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية من في هذا العالم ، ثم أخبر عن كثير من الناس
أنهم كفرة بذلك المعنى فعبر عنه (بِلِقاءِ) الله لأن لقاء الله هو عظم الأمر وفيه النجاة أو الهلكة.
قوله عزوجل :
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ
مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
(٩)
هذا أيضا توقيف
وتوبيخ على أنهم ساروا ونظروا ، أي إن ذلك لم ينفعهم حين لم يعملوا بحسب العبرة وخوف
العاقبة.
قال القاضي أبو
محمد : ولا يتوجه للكفرة أن يعارض منهم من لم يسر فيقول لم أسر لأن كافة من سار من
الناس قد نقلت إلى من لم يسر فاستوت المعرفة وحصل اليقين للكل ، وقامت الحجة ،
وهذا بين ، وقوله تعالى : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) يريد بالمباني والحرث والحروب ، وسائر الحوادث التي
أحدثوها هي كلها إثارة للأرض بعضها حقيقة وبعضها تجوز لأن إثارة أهل الأرض
والحيوان والمتاع ، إثارة للأرض ، وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمد الهمزة قال ابن
مجاهد : ليس هذا بشيء ، قال أبو الفتح : وجهها أنه أشبع فتحة الهمزة فنشأت ألف
ونحوه قول ابن هرمة : [الوافر]
فأنت من الغوائل
حين ترمى
|
|
ومن ذم الرجال
بمنتزاح
|
قال وهذا من ضرورة
الشعر لا يجيء في القرآن ، وقرأ أبو حيوة «وآثروا الأرض» بالمد بغير ألف بعد الثاء
من الأثرة ، والضمير في (عَمَرُوها) الأول للماضين والثاني للحاضرين والمعاصرين ، وباقي الآية
بين يتضمن الوعد والتخويف من عدل الله تعالى.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)
وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ)
(١٣)
قرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم (كانَ) والخبر يجوز أن يكون (السُّواى) ويجوز أن يكون (أَنْ كَذَّبُوا) وتكون (السُّواى) على هذا مفعولا ب (أَساؤُا) وإذا كان (السُّواى) خبرا
ف (أَنْ كَذَّبُوا) مفعول من أجله ولا يصح تعلقه ب (أَساؤُا) لأن في ذلك فصلا بين الصلة والموصول بخبر (كانَ) ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «عاقبة» بالنصب على
أنها خبر مقدم واسم (كانَ) أحد ما تقدم ، و (السُّواى) مصدر كالرجعى والفتيا والشورى ، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف
تقديره الخلة السوأى أو الخلال السوأى قال أبو حاتم هذه قراءة العامة بالمد على
الواو وفتح الهمزة وياء التأنيث فبعض القراء فخم وبعضهم أمال ، وقرأ الحسن «السوّى»
بشد الواو دون همز ، وقرأ الأعمش وابن مسعود «السوء» بالتذكير ، وروي عن عثمان بن
عفان رضي الله عنه أنه قال «السوء والسوأى» اقرأ بما شئت ، قال ابن عباس (أَساؤُا) هنا بمعنى كفروا و (السُّواى) هي النار والتكذيب (بِآياتِ اللهِ) ، تعالى غير الاستهزاء بها فلذلك عدد عليهم الفعلين ، ثم
أخبر تعالى إخبارا مطلقا لجميع العالم بالحشر والبعث من القبور ، وقرأ طلحة وابن
مسعود «يبدىء» بضم الياء وكسر الدال ، وقرأ جمهور القراء «ترجعون» بالتاء من فوق ،
وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء ، وقوله (وَيَوْمَ) منصوب ب (يُبْلِسُ) ، والإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير في ذلك الشر
بعينه ، فإبلاسهم هو في عذاب الله تعالى ، وقرأ عامة القراء بكسر اللام ، وقرأ أبو
عبد الرحمن وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بفتحها ، وأبلس الربع
إذا بلي وكأنه يئس من العمارة ومنه قول العجاج :
يا صاح هل تعرف
رسما مكرسا
|
|
قال نعم أعرفه
وأبلسا
|
وقرأ عامة القراء «ولم
يكن لهم» بالياء من تحت ، وروي عن نافع «تكن» بالتاء من فوق ، و «الشركاء» المشار
إليهم هم الأصنام أي الذين كانوا يجعلونهم شركاء لله بزعمهم.
وقوله (وَكانُوا) معناه يكونون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام
فعبر عنه بالماضي لتيقن الأمر وصحة وقوعه.
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥)
وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)
(١٨)
(يَتَفَرَّقُونَ) معناه في المنازل والأحكام والجزاء ، قال قتادة : فرقة
والله لا اجتماع بعدها ، و (يُحْبَرُونَ) معناه ينعمون ، قاله مجاهد ، والحبرة والحبور السرور
والتنعم ، وقال يحيى بن أبي كثير : (يُحْبَرُونَ) معناه يسمعون الأغاني ، وهذا نوع من الحبرة ، وقال ابن
عباس (يُحْبَرُونَ) يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة
ومنه بيت أبي ذؤيب : [الطويل]
فراق كقيص السن
فالصبر انه
|
|
لكل أناس عبرة
وحبور
|
هذا على هذه
الرواية ، ويروى عثرة وحبور ، وهي أكثر وذكر تعالى «الروضة» لأنها من أحسن ما يعلم
من بقاع الأرض ، وهي حيث اكتمل النبت الأخضر وجن وما كان منها في المرتفع من الأرض
كان أحسن ، ومنه قول الأعشى : [البسيط]
وما روضة من
رياض الحزن معشبة
|
|
خضراء جاد عليها
مسل هطل
|
ومنه قول كثير : [الطويل]
فما روضة طيبة
الثرى
|
|
تمج الندا
جثجاثها وعرارها
|
قال الأصمعي : ولا
يقال «روضة» حتى يكون فيها ماء يشرب منه ، و (مُحْضَرُونَ) معناه مجموعون له لا يغيب أحد عنه ، وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ) خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه
الأوقات ، كأنه يقول إذ هذه الفرق هكذا من النعمة والعذاب فجدوا أيها المؤمنون في
طريق الفوز برحمة الله ، وقال ابن عباس وقتادة وبعض الفقهاء : في هذه الآية تنبيه
على أربع صلوات : المغرب والصبح والعصر والظهر ، قالوا والعشاء هي الآخرة في آية
أخرى في (زُلَفاً مِنَ
اللَّيْلِ) [هود : ١١٤] وفي
ذكر أوقات العورة ، وقال ابن عباس أيضا وفرقة من الفقهاء : في هذه الآية تنبيه على
الصلوات الخمس لأن قوله تعالى (حِينَ تُمْسُونَ) يتضمن الصلاتين ، وقوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض بين الكلامين من نوع تعظيم الله تعالى والحض على
عبادته ، وقرأ عكرمة«حينا تمسون وحينا تصبحون» والمعنى حين تمسون فيه.
قوله عزوجل :
(يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
وَمِنْ
آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْعالِمِينَ) (٢٢)
(الْحَيَ) و (الْمَيِّتِ) في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازا ، فالحقيقة المني
يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى
هذا المجرى ، وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود وقال الحسن : المعنى المؤمن من
الكافر والكافر من المؤمن.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وروي هذا المعنى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قرأ هذه الآية عند ما كلمته بالإسلام أم كلثوم بنت
عقبة بن أبي معيط ، والمجاز إخراج النبات الأخضر من الأرض وإخراج الطعم من النبات
وما جرى هذا المجرى ، ومثل بعد إحياء الأرض بالمطر بعد موتها
بالدثور والعطش ،
ثم بعد هذا الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلا ساق الخبر بأن كذلك خروجنا من
القبور. وقرأت فرقة «يخرجون» بالياء من تحت ، وقرأ عامة القراء «تخرجون» بالتاء
المضمومة ، وقرأ الحسن وابن وثاب والأعمش وطلحة بفتح التاء وضم الراء ، و (مِنْ) في قوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ) للتبعيض ، وقال (خَلَقَكُمْ) من حيث خلق أباهم آدم قاله قتادة ، و (تَنْتَشِرُونَ) معناه تتصرفون وتتفرقون في الأغراض والأسفار ونحوها ،
وقوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يحتمل أن يريد خلقه حواء من ضلع آدم فحمل ذلك على جميع
النساء من حيث أمهم مخلوقة من نفس آدم ، أي من ذات شخصه ، ويحتمل أن يريد من نوعكم
ومن جنسكم ، و «المودة والرحمة» على بابها المشهور من التواد والتراحم ، هذا هو
البليغ ، وقال مجاهد والحسن وعكرمة : عنى ب «المودة» الجماع وب «الرحمة» الولد ،
ثم نبه تعالى على خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان وهذه عظم مواقع
العبرة من هذه الآيات ، وقوله (وَأَلْوانِكُمْ) يحتمل أن يريد البياض والسواد وغيرهما ، ويحتمل أن يريد
ضروب بني آدم وأنواعهم نعم وأشخاص الأخوة ونحوهم تختلف بالألوان ونعم الألسنة
وبذلك تصح الشهادات والمداينات وتقع الفروق والتعيين فهكذا تبين النعمة ، وقرأ
جمهور القراء «للعالمين» بفتح اللام ، وقرأ حفص عن عاصم «للعالمين» بكسر اللام
فالأولى على أن هذه الآية هي نفسها منصوبة لجميع العالم والثانية على معنى أن أهل
الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم.
قوله عزوجل :
(وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)
(٢٥)
ذكر تعالى النوم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وعرف النوم إنما هو بالليل وحده ، ثم ذكر الابتغاء (مِنْ فَضْلِهِ) كأنه فيهما وإنما معنى ذلك أنه عم بالليل والنهار فسمى
الزمان وقصد من ذلك تعديد آية النوم وتعديد آية ابتغاء الفضل فإنهما آيتان تكونان
في ليل ونهار ، والعرف يجيز كل واحدة من النعمتين أي محلها من الأغلب وقال بعض
المفسرين في الكلام تقديم وتأخير.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف وإنما أراد أن يرتب النوم لليل والابتغاء للنهار ولفظ الآية لا
يعطي ما أراد ، وقوله تعالى : (يُرِيكُمُ) فعل مرتفع لما حذفت «أن» التي لو كانت لنصبته فلما حل
الفعل محل الاسم أعرب بالرفع.
ومنه قول طرفة : [الطويل]
ألا أيها ذا
الزاجري أحضر الوغى
|
|
وأن أشهد اللذات
هل أنت مخلدي
|
قال الرماني :
وتحتمل الآية أن يكون التقدير (وَمِنْ آياتِهِ) آية (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) وحذفت الآية لدلالة من عليها ومنه قول الشاعر :
وما الدهر إلا
تارتان فمنهما
|
|
أموت وأخرى
أبتغي العيش أكدح
|
التقدير فمنها
تارة أموت.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا على أن (مِنْ) للتبعيض كسائر هذه الآيات ، ويحتمل في هذه وحدها أن تكون (مِنْ) لابتداء الغاية فلا يحتاج إلى تقدير «أن» ولا إلى تقدير «آية»
، وإنما يكون الفعل مخلصا للاستقبال وقوله (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، قال قتادة (خَوْفاً) للمسافر (وَطَمَعاً) للمقيم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولا وجه لهذا التخصيص ونحوه بل فيه الخوف والطمع لكل بشر ، قال الضحاك :
الخوف من صواعقه والطمع في مطره ، وقوله تعالى : (أَنْ تَقُومَ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ) معناه تثبت ، كقوله تعالى (وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة : ٢٠]
وهذا كثير ، وقيل هو فعل مستقبل أحله محل الماضي ليعطي فيه معنى الدوام الذي هو في
المستقبل ، والدعوة من الأرض هي البعث و (مِنَ الْأَرْضِ) حال للمخاطبين كأنه قال : خارجين من الأرض ، ويجوز أن يكون
(مِنَ الْأَرْضِ) صفة للدعوة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : و (مِنْ) ، عندي هاهنا لانتهاء الغاية كما تقول دعوتك من الجبل إذا
كان المدعو في الجبل ، والوقف في هذه الآية عند نافع ويعقوب الحضرمي على (دَعْوَةً) ، والمعنى بعد إذا أنتم تخرجون من الأرض ، وهذا على أن (مِنْ) لابتداء الغاية ، والوقف عند أبي حاتم على قوله (مِنَ الْأَرْضِ) ، وهذا على أن (مِنْ) لانتهاء الغاية ، قال مكي : والأحسن عند أهل النظر أو
الوقف في آخر الآية لأن مذهب الخليل وسيبويه في (إِذا) الثانية أنها جواب الأولى كأنه قال : ثم إذا دعاكم خرجتم
وهذا أسدّ الأقوال.
وقرأ حمزة
والكسائي «تخرجون» بفتح التاء ، وقرأ الباقون «تخرجون» بضم التاء.
قوله عزوجل :
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ
(٢٦)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(٢٨)
اللام في (لَهُ) الأولى لام الملك ، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت» إذ «قنت»
بمعنى خضع في طاعته وانقياده ، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في القنت والعموم في
كل من يعقل ، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر ، ونحن نجد كثيرا من الجن
والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال ، فلا بد أن عموم
ظاهر هذه الآية
معناه الخصوص ، واختلف المتأولون في هذا الخصوص أين هو ، فقال ابن عباس وقتادة :
هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة
والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك ، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها
فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن ، وقال ابن زيد ما معناه :
إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من ملك ومؤمن ، وقوله (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) معناه ينشئه ويخرجه من العدم ، وجاء الفعل بصيغة الحال لما
كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل ، فكانت
صيغة الحال تعطي هذا كله ، و (يُعِيدُهُ) معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى ، واختلف
المتأولون في قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) ، فقال ابن عباس والربيع بن خيثم : المعنى وهو هين ونظيره
قول الشاعر : (لعمرك ما أدري وأني لأوجل) بمعنى لوجل ، وقول الآخر (بيت دعائمه أعز
وأطول) ، وقولهم في الأذان الله أكبر وقال الآخر وهو الشافعي :
فتلك سبيل لست
فيها بأوحد
واستشهد بهذا
البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير ، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه» ، وفي بعض
المصاحف و «كل هين عليه» ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة : المعنى وهو أيسر
عليه ، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة ، ولكن هذا التفضيل
بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء
أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة ، وهذان
القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى ، وقالت فرقة أخرى : الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على الخلق.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فهذا بمعنى المخلوق فقط ، وعلى التأويلين الأولين يصح أن يكون المخلوق أو
يكون مصدرا من خلق ، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من
إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة ، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو
هذا ، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد ، فكأنه قال وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة
وأقل انتقالا ، وقال بعضها : المعنى «وهو أهون» على المخلوق أن يعيد شيئا بعد
إنشائه ، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق
وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي
لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و «العزة والحكمة» ، صفتان موافقتان لمعنى
الآية ، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء ، ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد
معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل ، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد
تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء
المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في
حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه
شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم
عندكم بجوانبكم ،
هذا تفسير ابن عباس والجماعة.
وجاء هذا المعنى
في معرض السؤال والتقرير ، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسكم» بنصب السين ، وقرأ ابن أبي
عبلة «أنفسكم» بضمها ، وقرأ الجمهور «نفصل» بالنون حملا على (رَزَقْناكُمْ) ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل» بالياء حملا على (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً).
قوله عزوجل :
(بَلِ اتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ
اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ(٢٩)
فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(٣١)
مِنَ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ)
(٣٢)
الإضراب ب (بَلِ) هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة ، كأنه يقول : ليس لهم
حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى ، بل اتبعوا أهواءهم جهالة
وشهوة وقصدا لأمر دنياهم ، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله ،
أي لا هادي لأهل هذه الحال ، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم ، ثم أمر تعالى نبيه عليهالسلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام ، وإقامة
الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ، وذكر الوجه لأنه جامع
حواس الإنسان وأشرفه ، و (حَنِيفاً) ، معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة ،
وقوله (فِطْرَتَ اللهِ) نصب على المصدر ، كقوله (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨]
وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم (فِطْرَتَ اللهِ) ، واختلف الناس في «الفطرة» هاهنا ، فذكر مكي وغيره في ذلك
جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق ، والذي يعتمد عليه في
تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز
بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه قال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) الذي هو الحنيف وهو (فِطْرَتَ اللهِ) الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض ، ومنه
قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه»
الحديث ، فذكر الأبوين : إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) يحتمل تأويلين : أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة
أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق ، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا
بوجه ، والآخران أن يكون قوله (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم
وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا
تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون ، وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ،
وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي
عقائدها ، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها قول عكرمة ، وقد روي
عن ابن عباس (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، ومنها قول بعضهم
في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله (فَطَرَ النَّاسَ) على الخصوص أي المؤمنين ، وقيل «الفطرة» هو العهد الذي
أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسما من ظهره ، ونحوه حديث معاذ بن جبل
حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة؟ قال :
الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي
العصمة فقال عمر : صدقت ، و (الْقَيِّمُ) بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة ، وقوله (مُنِيبِينَ) يحتمل أن يكون حالا من قوله (فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْها) لا سيما على رأي من رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين ، ويحتمل
أن يكون حالا من قوله «أقم وجهك» وجمعه لأن الخطاب بإقامة الوجه للنبي صلىاللهعليهوسلم ولأمته ، نظيرها قوله (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ،
والمنيب الراجع المخلص المائل إلى جهة ما بوده ونفسه ، و «المشركون» المشار إليهم
في هذه الآية هم اليهود والنصارى ، قاله قتادة وقال ابن زيد : هم اليهود ، وقالت
عائشة وأبو هريرة : هي في أهل القبلة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فلفظة الإشراك على هذا فيها تجوز فإنهم صاروا في دينهم فرقا ، و «الشيع»
الفرق واحدها «شيعة» ، وقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) معناه أنهم مفتونون بآرائهم معجبون بضلالهم ، وذلك أضل لهم
، وقرأت فرقة «فارقوا دينهم» بالألف.
قوله عزوجل :
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)
(٣٥)
هذا ابتداء إنحاء
على عبدة الأصنام المشركين بالله عزوجل غيره بين الله تعالى لهم أنهم كسائر البشر في أنهم إذا
مسهم (ضُرٌّ دَعَوْا) الله وتركوا الأصنام مطرحة ولهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع
، ف (إِذا أَذاقَهُمْ) رحمته أي باشرهم أمره بها ، والذوق مستعار ، إذا طائفة
تشرك به أصناما ونحو هذا ، و (إِذا) للمفاجأة فلذلك صلحت في جواب (إِذا) الأولى بمنزلة الفاء وهذه الطائفة هي عبدة الأصنام.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين إذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك
بمخلوقين أو بحذق آرائهم وغير ذلك لأن فيه قلة شكر لله تعالى ، ويسمى تشريكا مجازا
، وقوله تعالى (لِيَكْفُرُوا) اللام لام كي ، وقالت فرقة هي لام الأمر على جهة الوعيد
والتهديد ، وأما قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا) فأمر على جهة الوعيد ، والتقدير قل لهم يا محمد (فَتَمَتَّعُوا) وقرأ أبو العالية «فيتمتعوا» بياء قبل التاء وذلك عطف على (لِيَكْفُرُوا) أي لتطول أعمارهم
على الكفر ، وفي
حرف ابن مسعود «فليتمتعوا» ، وروي عن أبي العالية «فيمتعوا» بضم الياء دون تاء
أولى ، وفي مصحف ابن مسعود «تمتعوا» هكذا قال هارون ، وقرأ عامة الناس «تعلمون»
بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو العالية «يعلمون» بالياء على ذكر الغائب.
وقوله (أَمْ) بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه أضرب عن صدر الكلام ورجع إلى
هذه الحجة ، و «السلطان» هنا البرهان من رسول أو كتاب ونحوه ، والسلطان في كلام
العرب جمع سليط كرغيف ورغفان وغدير وغدران فهو مأخوذ من التسلط والتغلب ، ولزم هذا
الاسم في العرب الرئيس لأنه سليط بوجه الحق ولزمه اسم جمع من حيث أنواع الغلبة
والملك عنده ، وقال قوم : هو اسم مفرد وزنه فعلان ، وقوله تعالى : (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) معناه أن يظهر حجتهم وينطق بشركهم قاله قتادة ، فيقوم ذلك
مقام الكلام ، كما قال تعالى (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩].
قوله عزوجل :
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
فَآتِ
ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(٣٨)
لما ذكر تعالى
حالة الناس متى تأتيهم شدة وضر ونجوا منه إلى سعة ذكر في هذه الآية الأمر أيضا من
الطرف الآخر بأن تنال الرحمة ثم تعقب الشدة فلهم في الرتبة الأولى تضرع ثم إشراك
وقلة شكر ، ولهم في هذه فرج وبطر ثم قنط ويأس ، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط ،
والمقل والمكثر إلا من ربطت الشريعة جأشه ونهجت السنة سبيله وتأدب بأدب الله تعالى
، فصبر عند الضراء ، وشكر عند السراء ، ولم يبطر عند النعمة ، ولا قنط عند
الابتلاء ، وقوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي إن الله يمتحن الأمم ويصيب منهم عند فشو المعاصي وظهور
المناكر ، وكذلك قد يصاب شخص بسوء أعماله يسيء وحده ويصاب وحده ، وفي الأغلب يعفو
الله عن كثير ، و «القنط» اليأس الصريح ، وقرأ أبو عمرو وجماعة «يقنطون» بكسر
النون ، وقرأ نافع والحسن وجماعة «يقنطون» بفتحها ، وجواب الشرط في قوله (إِنْ تُصِبْهُمْ) قوله (إِذا هُمْ
يَقْنَطُونَ) وذلك أنها للمفاجأة لا يبتدأ بها ، فهي بمنزلة الفاء لا
يبتدأ بها ويجاب بها الشرط ، وأما «إذا» التي للشرط أو التي فيها معنى الشرط فهما
يبدأ بهما ولا يكون فيهما جواب الشرط ، ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس
من روح الله على حال وهو أن الله تعالى يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق ويقدر على
من شاء منهم فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه ، ثم أمر تعالى نبيه أمرا
تدخل الأمة فيه وهذا على جهة الندب إلى إيتاء ذي القربى حقه من صلة المال وحسن
المعاشرة ولين القول ، قال الحسن : (حَقَّهُ) المواساة في اليسر وقول ميسور في العسر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم
«في المال حق سوى
الزكاة وذلك للمسكين وابن السبيل حق» وبين أن حق هذين إنما هو في المال وغير ذلك
معهما لا غناء له وكذلك يلزم القريب المعدم الذي يقضي حقه أن يقضي أيضا حق قريبه
في جودة العشرة و (وَجْهَ اللهِ) هنا جهة عبادته ورضاه و (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون ببغيتهم البالغون لآمالهم.
قوله عزوجل :
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما
آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(٤١)
قرأ جمهور القراء «وما
آتيتم» بمعنى وما أعطيتم ، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما
تقول أتيت صوابا وأتيت خطأ ، وأجمعوا على المد في قوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ). و «الربا» الزيادة ، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية
فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس : هذه آية نزلت في هبات الثواب.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان
لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى ، وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم
النخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل
عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع ، وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم
الإنسان به أحدا وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول ، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية
النهي عن الربا في التجارات لما حض عزوجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل
المرء من ربا ليزداد به مالا وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك «لا يربوا
عند الله» ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة ، وما أعطى الإنسان من زكاة
تنمية لماله وتطهيرا يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافا
مضاعفة على ما شاء الله تعالى له ، وقال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف لأنهم
كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش ، وقرأ جمهور القراء السبعة «ليربو» بالياء
وإسناد الفعل إلى الربا ، وقرأ نافع وحده «لتربوا» بضم التاء على وزن تفعلوا بمعنى
تكونوا ذوي زيادة ، وهذه قراءة ابن عباس وأهل المدينة الحسن وقتادة وأبي رجاء
والشعبي ، قال أبو حاتم هي قراءتنا ، وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث ، و «المضعف»
الذي هو ذو أضعاف من الثواب كما المؤلف الذي له آلاف ، وكما تقول أخصب إذا كان ذا
خصب. وهذا كثير ، ومنه أربى المتقدم في قراءة من قرأ «لتربوا» بضم التاء ، ثم كرر
مخاطبة الكفرة في أمر أوثانهم فذكر أفعال الله تعالى التي لا شريك له فيها وهي
الخلق والرزق والإماتة والإحياء ولا يمكن أن ينكر ذلك عاقل ، ووقف الكفار على جهة
التقرير والتوبيخ هل من شركائهم أي الذين
جعلوهم شركاء من
يفعل شيئا من ذلك ، وهذا الترتيب ب (ثُمَ) هو في الآحاد شيئا بعد شيء ، ومن هنا أدخل الفقهاء الولد
مع أبيه في تعقب الأحباس إذا كان اللفظ على أعقابهم ثم على أعقاب أعقابهم ، ثم نزه
تعالى نفسه عن مقالتهم في الإشراك ، وقرأ الجمهور «يشركون» بالياء من تحت ، وقرأ
الأعمش وابن وثاب بالتاء من فوق ، ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد
بسبب المعاصي في قوله (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، واختلف الناس في معنى (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في هذه الآية ، فقال مجاهد «البر» البلاد البعيدة من البحر
، و «البحر» السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار ، وقال قتادة «البر»
الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري ، و «البحر» المدن جمع بحرة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلىاللهعليهوسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه
البحرة على أن يتوجوه ، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور» ، ورويت عن
ابن عباس ، وقال مجاهد أيضا : ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وفي
البحر أخذ السفن غضبا ، وقال بعض العباد (الْبَرِّ) اللسان و (الْبَحْرِ) القلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هما المعروفان المشهوران في اللغة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا
وحدوث فتن وتغلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس :
الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة
الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه ، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة ،
وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم قد كان الظلم عم الأرض برا وبحرا ، وقد جعل الله هذه
الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون
بصائرهم في طاعة الله تعالى ، وقوله تعالى : (بِما كَسَبَتْ) تقديره جزاء ما كسبت ، ويحتمل أن تتعلق الباء ب (ظَهَرَ) أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر ،
والترجي في «لعل» هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور ، وقرأ عامة القراء
والناس «ليذيقهم» بالياء ، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم»
بالنون ومعناهما بين ، وقرأ أيضا أبو عبد الرحمن «لتذيقهم» بالتاء من فوق.
قوله عزوجل :
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)
فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ
مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
مَنْ
كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)
(٤٤)
هذا تنبيه لقريش
وأمر لهم بالاعتبار فيمن سلف من الأمم وفي سوء عواقبهم بكفرهم وإشراكهم ، ثم أمر
تعالى نبيه عليهالسلام بإقامة وجهه ، والمعنى اجعل قصدك ومسعاك للدين أي لطريقه
ولأعماله واعتقاداته ، و (الْقَيِّمِ) أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة
فأبدلت الواو ياء وأدغمت
الأولى في الثانية
، ثم حذره تعالى من يوم القيامة تحذيرا يعم العالم وإياهم القصد ، و (لا مَرَدَّ لَهُ) معناه ليس فيه رجوع لعمل ولا لرغبة ولا عنه مدخل ، ويحتمل
أن يريد لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ ، و (يَصَّدَّعُونَ) معناه يتفرقون بعد جمعهم ، وهذا هو التصدع والمعنى يتفرقون
إلى الجنة وإلى النار ، ثم قسم الفريقين بأحكام تلحقهم من أعمال في الدنيا ثم عبر
عن «الكفر» ب «عليه» وهي تعطي الثقل والمشقة وعن العمل الصالح باللام التي هي كلام
الملك ، و (يَمْهَدُونَ) معناه يوطئون ويهيئون وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها
إلى الأحوال والمراتب ، وقال مجاهد : هذا التمهيد هو للقبر.
قوله عزوجل :
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(٤٦)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ)
(٤٧)
اللام في قوله (لِيَجْزِيَ) متعلقة ب (يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] ،
ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك أو فعل ذلك (لِيَجْزِيَ) وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ) [الروم : ٤٤] و (عَمِلَ صالِحاً) [الروم : ٤٤] ،
وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ
الْكافِرِينَ) ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات
رحمته ولا يرضاه لهم دينا ونحو هذا ، ثم ذكر تعالى من آياته أشياء يقضي كل عقل
بأنها لا مشاركة للأوثان فيها وهو ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر ،
ويذيق الله بها المطر ويلقح بها الشجر وغير ذلك ويجري بها السفن في البحر ويبتغي
الناس بها فضل الله في التجارات في البحر وفي ذرو الأطعمة وغير ذلك ، ثم أنس محمدا
بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، وتوعد قريشا بأن ضرب لهم مثل من هلك من
الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء ، ثم وعد محمدا وأمته النصر إذ أخبر أنه جعله (حَقًّا) عليه تبارك وتعالى ، و (حَقًّا) خبر (كانَ) قدمه اهتماما لأنه موضع فائدة الجملة ، وبعض القراء في هذه
الآية وقف على قوله (حَقًّا) وجعله من الكلام المتقدم ثم استأنف جملة من قوله (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذا قول ضعيف لأنه لم يدر قدما عرضه في نظم الآية.
قوله عزوجل :
(اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ
بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)
وَإِنْ
كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى
آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ
لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(٥٠)
«الإثارة» تحريكها
من سكونها وتسييرها ، وبسطه (فِي السَّماءِ) هو نشره في الآفاق ، و «الكسف»
القطع ، وقرأ
جمهور القراء «كسفا» بفتح السين ، وقرأ ابن عباس «كسفا» بسكون السين وهي قراءة
الحسن وأبي جعفر والأعرج وهما بناءان للجمع كما يقال وسدر بسكون الدال وسدر بفتح
الدال ، وقال مكي : من أسكن السين فمعناه يجعل السحاب قطعة واحدة ، و (الْوَدْقَ) الماء يمطر ومنه قول الشاعر : [المتقارب]
فلا مزنة ودقت
ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
و (خِلالِهِ) الفطور الذي بين بعضه وبعض لأنه متخلخل الأجزاء ، وقرأ
الجمهور «من خلاله» بكسر الخاء وألف بعد اللام جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ علي بن
أبي طالب وابن عباس والضحاك والحسن بخلاف عنه «من خلله» وهم اسم جنس ، والضمير في (خِلالِهِ) يحتمل أن يعود على السحاب ويحتمل أن يعود على الكسف في
قراءة من قرأ بسكون السين ، وذكر الضمير مراعاة اللفظ لا لمعنى الجمع ، كما تقول
هذا تمر جيد ومن الشجر الأخضر نارا ، ومن قرأ «كسفا» بفتح السين فلا يعيد الضمير
إلا على السحاب فقط ، وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) تأكيد أفاد سرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار
وذلك أن قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل بكثير كالأيام ونحوه
فجاء قوله (مِنْ قَبْلِهِ) بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد ، وقرأ يعقوب
وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه «ينزل» مخففة ، وقرأت عامة القراء بالتثقيل في الزاي ،
وقرأ ابن مسعود عليهم «لمبلسين» بسقوط (مِنْ قَبْلِهِ) والإبلاس الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها ، ثم عجبه
يراد بها جميع الناس من أجل رحمة الله وهي المطر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أثر»
بالإفراد ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «آثار» بالجمع ، واختلف عن عاصم ، وقرأ
سلام «إلى إثر» بكسر الهمزة وسكون الثاء ، وقوله (كَيْفَ يُحْيِ) يحتمل أن يكون الضمير الذي في الفعل للأثر ، ويحتمل أن
يكون لله تعالى وهو أظهر ، وقرأت فرقة «كيف تحيى» بالتاء المفتوحة «الأرض» بالرفع
، وقرأ الجحدري وابن السميفع وأبو حيوة «تحيي» بتاء مضمومة على أن إسناد الفعل إلى
ضمير الرحمة «الأرض» نصبا ، قال أبو الفتح : قوله «كيف تحيى» جملة منصوبة الموضع
على الحال حملا على المعنى كأنه قال محيية ، وهذه الحياة والموت استعارة في القحط
والإعشاب ، ثم أخبر تعالى على جهة القياس والتنبيه عليه بالبعث والنشور ، وقوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) عموم.
قوله عزوجل :
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ)
(٥٣)
ثم أخبر تعالى عن
حال تقلب ابن آدم في أنه بعيد الاستبشار بالمطر أن بعث الله ريحا فاصفر بها النبات
ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة توكل وتسليم لله تعالى ، والضمير في «رأوه» للنبات كما
قلنا أو للأثر وهو حوة النبات الذي أحييت به الأرض وقال قوم هو للسحاب ، وقال قوم
هو للريح ، وهذا كله ضعيف ، واللام في (لَئِنْ) مؤذنة بمجيء القسم ، وفي (لَظَلُّوا) لام القسم ، وقوله «ظلوا» فعل ماض نزله منزلة
المستقبل واستنابه
منابه لأن الجزاء هنا لا يكون إلا بفعل مستقبل لكن يستعمل الماضي بدل المستقبل في
بعض المواضع توثيقا لوقوعه ، وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى) الآية استعارة للكفار وقد تقدم القول على مثل هذه الآية في
سورة النمل ، وكلهم قرأ «ولا تسمع» بتاء مضمومة ونصب «الصمّ» ، وقرأ ابن كثير
وعباس عن أبي عمرو «يسمع» بياء مفتوحة الصمّ رفعا ، وقرأ الجمهور «بهادي العمي»
بالإضافة ، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» بالتنوين «العمي» نصبا ، وقوله (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ) معناه إن نسمع إسماعا ينفع ويجدي ، وأما سماع الكفرة فغير
مجد فاستويا ، وقوله تعالى : (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لما كانت الهداية تتضمن الصرف عديت ب (عَنْ) كما تتعدى صرفت ومعنى الآية ليس في قدرتك يا محمد ولا عليك
أن تهدي ، وقرأ ابن أبي عبلة «من ضلالتهم».
قوله عزوجل :
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ
الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(٥٦)
وهذه أيضا عبر بين
فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها.
وقرأ جمهور القراء
والناس بضم الضاد في «ضعف» ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي
رجاء ، والضم أصوب ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ على النبي صلىاللهعليهوسلم بالفتح فردها عليه بالضم ، وقال كثير من اللغويين : ضم
الضاد في البدن وفتحها في العقل ، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم
ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحو «ضعفا» ، وقرأ عيسى بن عمر «من ضعف» بضمتين ،
وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان ، و «الضعف» الأول هو كون الإنسان من ماء
مهين ، و «القوة» بعد ذلك الشبيبة ، وقوة الأسر ، و «الضعف» الثاني الهرم والشيخ
هذا قول قتادة وغيره ، ثم أخبر تعالى عن يوم القيامة أن المجرمين يقسمون لجاجا
منهم وتسورا على ما لا علم لهم به أنهم ما لبثوا تحت التراب غير ساعة وهذا إتباع
لتحيلهم الفاسد ونظرهم في ذلك الوقت على نحو ما كانوا في الدنيا يتبعون ذلك ، و (يُؤْفَكُونَ) عن الحق أي يصرفون وقيل المعنى ما لبثوا في الدنيا كأنهم
استقلوها لما عاينوا من أمر الآخرة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا يضعفه قوله تعالى : (كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) إذ لو أراد تقليل الدنيا بالإضافة إلى الآخرة لكان منزعا سديدا
وكان قولهم (ساعَةٍ) تجوزا في القدر والموازنة ، ثم أخبر تعالى عن (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمانَ) أنهم يقفون في تلك الحال على حق ويعرفون أنه الوعد المتقرر
في الدنيا ، وقال بعض المفسرين : إنما أراد أوتوا الإيمان والعلم ففي الكلام تقديم
وتأخير.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولا يحتاج إلى هذا بل ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم
يعلم كل ما يوجب الإيمان ، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيها عليه وتشريفا لأمره كما
قال تعالى : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨]
فنبه على مكان الإيمان وخصه بالذكر تشريفا.
قوله عزوجل :
(فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
وَلَقَدْ
ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨)
كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)
(٦٠)
هذا إخبار عن هول
يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى
وهي الرضى ، و (يُسْتَعْتَبُونَ) بمعنى يعتبون كما تقال يملك ويستملك ، والباب في استفعل
أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى كان يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب
منهم عتبى.
وقرأ عاصم والأعمش
«ينفع» بالياء كما قال تعالى (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥]
وحسن هذا أيضا بالتفرقة التي بين الفعل وما أسند إليه كما قال الشاعر : [الطويل]
وهل يرجع
التسليم أو يكشف العمى
|
|
ثلاث الأثافي
والديار البلاقع
|
ثم أخبر تعالى عن
قسوة قلوبهم وعجرفة طباعهم في أنه ضرب لهم كل مثل وبين عليهم بيان الحق ثم هم مع
ذلك الآية والمعجزة يكفرون ويلجون ويعمهون في كفرهم ، ويصفون أهل الحق بالإبطال ،
ثم أخبر تعالى أن هذا إنما هو من طبعه وختمه على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليهم
الكفر في الأزل ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه من قولهم طبع السيف أي صدىء أشد صدأ ، ثم
أمر نبيه بالصبر وقوى نفسه لتحقيق الوعد ونهاه عن الاهتزاز لكلامهم والتحرك
واضطراب النفس لأقوالهم إذ هم لا يقين لهم ولا بصيرة ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «يستحقنك»
بحاء غير معجمة وقاف من الاستحقاق ، والجمهور على الخاء المعجمة والفاء من
الاستخفاف ، إلا أن ابن أبي إسحاق ويعقوب سكنا النون من «يستخفنك» ، وروي أن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه كان في صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج بأعلى صوته
فقرأ هذه الآية : (وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] ،
فعلم علي رضي الله عنه مقصده في هذا وتعريضه به فأجابه وهو في الصلاة بهذه الآية :
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة لقمان
هذه السورة مكية
غير آيتين قال قتادة أولهما : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ) [لقمان : ٢٧] إلى
آخر الآيتين ، وقال ابن عباس ثلاث آيات أولهن (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧].
قوله عزوجل :
(الم (١)
تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً
لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(٥)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)
(٦)
تقدم القول في
الحروف التي في أوائل السور وفي ترتيب (تِلْكَ) مع كل قول منها ، و (الْحَكِيمِ) يصح أن يكون من الحكمة ويصح أن يكون من الحكم ، وقرأ جمهور
القراء «هدى ورحمة» بالنصب على الحال من المبهم ، ولا يصح أن تكون من (الْكِتابِ) لأنه مضاف إليه ، وقرأ حمزة والكسائي «هدى ورحمة» بالرفع
على تقدير هو هدى ، وخصصه (لِلْمُحْسِنِينَ) من حيث لهم نفعه وهم نظروه بعين الحقيقة وإلا فهو هدى في
نفسه ، وفي قراءة ابن مسعود «هدى وبشرى للمؤمنين» ، ثم وصف تعالى المحسنين بأنهم
الذين عندهم اليقين بالبعث وبكل ما جاء به الرسول ، وعندهم إقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة ومن صفتهم ما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سأله جبريل عن الإحسان قال : «أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث. وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلىاللهعليهوسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي
أمامة الباهلي بأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية ، وقال
في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية ، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد
الله ومجاهد ، وقال الحسن (لَهْوَ الْحَدِيثِ) المعازف والغناء ، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث
لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثا من محمد ،
وقال قتادة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش
وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فكأن ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى *) [البقرة : ١٦ ،
١٧٥] ، وقد قال مطرف : شراء (لَهْوَ الْحَدِيثِ) استحبابه ، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالا ولكن سماعه
هو شراؤه ، وقال الضحاك (لَهْوَ الْحَدِيثِ) الشرك ، وقال مجاهد أيضا (لَهْوَ الْحَدِيثِ) الطبل وهذا ضرب من الغناء.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو حديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ
الآية بقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) ، والتوعد بالعذاب المهين ، وأما لفظة الشراء فمحتملة
للحقيقة والمجاز على ما بينا ، و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه ، والآية باقية المعنى في
أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزوا ولا عليهم هذا
الوعيد ، بل ليعطل عبادة ويقطع زمانا بمكروه ، وليكون من جملة العصاة والنفوس
الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى ، وقيل لبعضهم
أتمل الحديث؟ قال : إنما يمل العتيق.
قال الفقيه الإمام
القاضي : يريد القديم المعاد ، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من
الملل ، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة «ليضل» بضم الياء.
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو بفتحها ، وفي حرف أبيّ «ليضل الناس عن سبيل الله» ، وقرأ حمزة والكسائي
وحفص عن عاصم «ويتخذها» بالنصب عطفا على (لِيُضِلَ) ، وقرأ الباقون «ويتخذها» بالرفع عطفا على (يَشْتَرِي) ، والضمير في (يَتَّخِذَها) يحتمل أن يعود على (الْكِتابِ) المذكور أولا ويحتمل أن يعود على السبيل ، ويحتمل أن يعود
على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث ، وكذلك (سَبِيلِ اللهِ) اسم جنس ولكل وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل.
قوله عزوجل :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيم(٧) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها
وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٩)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ)
(١١)
هذا دليل على كفر
الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها ، و «الوقر» في الأذن الثقل الذي يعسر إدراك
المسموعات ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها ، ولما ذكر عزوجل حال هؤلاء الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم ، عقب بذكر
المؤمنين وما وعدهم به من (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ليبين الفرق ، و (وَعْدَ اللهِ) منصوب على المصدر ، و (حَقًّا) مصدر مؤكد ، وقوله تعالى : (بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها) يحتمل
أن يعود الضمير
على (السَّماواتِ) فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك ، وهذا
قول الحسن والناس ، و (تَرَوْنَها) على هذا القول في موضع نصب على الحال ، ويحتمل أن يعود
الضمير على «العمد» فيكون (تَرَوْنَها) صفة للعمد في موضع خفض ، ويكون المعنى أن السماء لها عمد
لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس ، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه ،
ويجوز أن تكون (تَرَوْنَها) في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم ، و «الرواسي» هي الجبال
التي رست أي ثبتت في الأرض ، وقوله : (أَنْ تَمِيدَ) بمعنى لئلا تميد ، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من
ذلك ، وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل نوع ، و «الزوج» في اللغة النوع والصنف وليس
بالذي هو ضد الفرد ، وقوله تعالى : (كَرِيمٍ) يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة
والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها ، ويحتمل أن
يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق
الكرم ، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها ، ولما كان
عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها. وقوله : «أنبتنا» يعم جميع أنواع الحيوان
وأنواع النبات والمعادن ، ثم وقف تعالى الكفار على جهة التوبيخ وإظهار الحجة على
أن هذه الأشياء هي مخلوقات الله تعالى ، ثم سألهم أن يوجده ما خلق الأوثان
والأصنام وغيرهم ممن عبد ، أي أنهم لن يخلقوا شيئا ، بل هذا الذي قريش فيه ضلال
مبين ، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم ، وقوله : (ما ذا) يجوز أن تكون «ما» استفهاما في موضع رفع بالابتداء و «ذا»
خبرها بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون «ما» مفعولة ب «أروني» و «ذا» و «ما»
بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره في الوجهين خلقه.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
وَإِذْ
قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)
(لُقْمانَ) رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه
في الدين والعقل ، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط ، فقال بنبوءته عكرمة
والشعبي ، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره ، وقال ابن عباس : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول «لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن
اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ،
فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني
وكان قاضيا في بني إسرائيل نوبيا أسود مشقق الرجلين ذا مشافر» ، قاله سعيد بن
المسيب ومجاهد وابن عباس ، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان
ما أرى؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعني ، وقال ابن المسيب : كان من سودان
مصر من النوبة ، وقال خالد بن الربيع : كان نجارا ، وقيل كان خياطا ، وقيل كان
راعيا ، وحكم لقمان كثيرة مأثورة ، قيل له وأي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي إن رآه
الناس مسيئا.
وقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ) يجوز أن تكون (أَنِ) في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي «بأن اشكر لله» ، ويجوز
أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات
والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى ، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو
المنتفع بذلك ، و (اللهَ) تعالى (غَنِيٌ) عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد (حَمِيدٌ) في نفسه فلا يضره كفر الكافرين و (حَمِيدٌ) بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته ، وقوله (وَإِذْ قالَ) يحتمل أن يكون التقدير واذكر إذ قال ، ويحتمل أن يكون
التقدير «وآتيناه الحكمة إذ قال» واختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه واسم ابنه ثاران
، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يا بنيّ» بالشد
والكسر في الياء في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى ، وقرأ حفص والمفضل
عن عاصم «يا بنيّ» بالشد والفتح في الثلاثة على قولك يا بنيا ويا غلاما ، وقرأ ابن
أبي برة عن ابن كثير «يا بني» بسكون الياء ، و (يا بُنَيَّ إِنَّها) [لقمان : ١٦]
بالكسر ، و (يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ) [لقمان : ١٧] بفتح
الياء ، وروى عنه قنبل بالسكون في الأولى والثالثة وبكسر الوسطى وظاهر قوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أنه من كلام لقمان ، ويحتمل أن يكون خبرا من الله تعالى
منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى ، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه
لما نزلت (وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الانعام : ٨٢]
أشفق أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : أينا لم يظلم ، فأنزل الله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فسكن إشفاقهم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون ذلك خبرا من الله تعالى ، وقد يسكن الإشفاق
بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد.
قوله عزوجل :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
وَإِنْ
جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(١٥)
هاتان الآيتان
اعتراض أثناء وصية لقمان ، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده ،
وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يضعّف أن
تكون مما قالها لقمان ، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد
للأول منها ولا للآخر ، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير
إضمار وقال أيضا لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه ، وهذه الآية شرك الله
تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما ، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة
ذكر الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلىاللهعليهوسلم حين قال له رجل من أبر؟ «قال : أمك. قال ثم من؟ قال : ثم
أمك. قال ثم من؟ قال : ثم أمك. قال ثم من؟ قال ثم أباك» فجعل له الربع من المبرة
كالآية. (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) معناه ضعفا على ضعف ، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة
الولادة بعده ، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه ، ويحتمل أن
أشار إلى تدرج
حالها في زيادة الضعف ، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد
بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره ، وقرأ عيسى الثقفي «وهنا على وهن» بفتح الهاء ،
ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «وفصاله» ، وقرأ الحسن وأبو
رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله» ، وأشار ب «الفصال» إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه
بغايته ، والناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما
في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين لا زيادة ولا نقص ، وقالت فرقة العامان وما
اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم ، وقالت فرقة إن
فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقوله تعالى
: (أَنِ اشْكُرْ) يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر» ، ويحتمل أن تكون مفسرة
، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى. ومن دعا لوالديه
في دبر الصلوات فقد شكرهما ، وقوله تعالى : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) توعد أثناء الوصية ، وقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) الآية روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص
وذلك أن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية لما أسلم حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى
يفارق دينه ويرجع إلى دين قومه فلج سعد في الإسلام ، وكانت هي إذا أفرط عليها
الجوع والعطش شحوا فاها ، ويروى شجروا فاها ، أي فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها
، فلما طال ذلك ورأت أن سعدا لا يرجع أكلت ، ففي هذه القصة نزلت الآيات ، قاله سعد
بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فمطلب الآية الأولى الأمر ببر الوالدين وتعظيمه ، ثم حكم بأن ذلك لا يكون
في الكفر والمعاصي ، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا
في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات
الندب ، ومنه أمر جهاد الكفاية والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، على أن
هذا أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة ، فلا يكون
أقوى من الندب ، وخالف الحسن في هذا الفصل فقال إن منعته أمه من شهود العشاء
الآخرة شفقة فلا يطعها ، وقوله (وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً) يعني الأبوين الكافرين أي صلهما بالمال وادعهما برفق ،
ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلىاللهعليهوسلم وقد قدمت عليها خالتها ، وقيل أمها من الرضاعة ، فقالت :
يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم. وراغبة قيل معناه عن
الإسلام.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة وما كانت لتقدم على أسماء لو لا حاجتها
، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد عزى بن عبد أسعد وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم
رومان قديمة الإسلام.
وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) ، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان ، و (أَنابَ) معناه ، مال ورجع إلى الشيء ، وهذه سبيل الأنبياء
والصالحين ، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر ، وقال : إن أبابكر
لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا آمنت؟
قال نعم ، فنزلت فيه (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ) [الزمر : ٩] فلما
سمعها الستة آمنوا فأنزل الله
تعالى فيهم (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) [الزمر : ١٧] إلى
قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَداهُمُ اللهُ) [الزمر : ١٨]. ثم توعد عزوجل بالبعث من القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير
الأعمال وكبيرها.
قوله عزوجل :
(يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
يا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَلا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)
(١٩)
المعنى وقال لقمان
(يا بُنَيَ) ، وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة
الله تعالى وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه ، لأن «الخردلة» يقال إن الحس لا يقدر
لها ثقلا إذ لا ترجح ميزانا ، وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بها
علما. وقوله (مِثْقالَ حَبَّةٍ) عبارة تصلح للجواهر ، أي قدر حبة ، وتصلح للأعمال أي ما
تزنه على جهة المماثلة قدر حبة ، وظاهر الآية أنه أراد شيئا من الأشياء خفيا قدر
حبة ، ويؤيد ذلك ما روي من أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مقل البحر يعلمها
الله ، فراجعه لقمان بهذه الآية. وذكر كثير من المفسرين أنه أراد الأعمال المعاصي
والطاعات ، ويؤيد ذلك قوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي لا تفوت ، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف
منضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى ، وفي القول الآخر ليس ترجية ولا تخويف. ومما
يؤيد قول من قال هي من الجواهر قراءة عبد الكريم الجزري «فتكنّ» بكسر الكاف وشد
النون من الكن الذي هو الشيء المغطى ، وقرأ جمهور القراء «إن تك» بالتاء من فوق «مثقال»
بالنصب على خبر «كان» واسمها مضمر تقديره مسألتك على ما روي ، أو المعصية أو
الطاعة على القول الثاني. ولهذا المقدر هو الضمير في (إِنَّها). وقرأ نافع وحده بالتاء أيضا «مثقال» بالرفع على اسم «كان»
وهي التامة ، وأسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو
منه وهذا كقول الشاعر : [الطويل]
مشين كما اهتزت
رماح تسفهت
|
|
أعاليها مرّ
الرياح النواسم
|
وهي قراءة الأعرج
وأبي جعفر. وقوله (فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ) ، قيل أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء وهي على
ظهر ملك وقيل هي صخرة في الريح.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا كله ضعيف لا يثبته سند ، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في
التفهيم ، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض.
وقرأ قتادة «فتكن» بكسر الكاف والتخفيف من وكن يكن ، وتقدمت قراءة عبد الكريم «فتكنّ».
وقوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ) إن أراد الجواهر فالمعنى (يَأْتِ بِهَا) إن احتيج إلى ذلك أو كانت رزقا ونحو هذا ، وإن أراد
الأعمال فمعناه (يَأْتِ) بذكرها وحفظها فيجازي عليها بثواب أو عقاب. و (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) صفتان لائقتان بإظهار غرائب
القدرة ، ثم وصى
ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا إنما يريد به
بعد أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع ، وقوله (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نال ضررا فهو إشعار بأن
المغير يؤذي أحيانا ، وهذا القدر هو على جهة الندب والقوة في ذات الله ، وأما على
اللزوم فلا. وقوله تعالى (إِنَّ ذلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به ، قاله ابن جريج ،
ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم والسالكين طريق النجاة ،
والأول أصوب ، وبكليهما قالت طائفة. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن
محيصن «ولا تصاعر» ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد وأبو جعفر «ولا
تصعر» ، وقرأ الجحدري «ولا تصعر» بسكون الصاد والمعنى متقارب ، و «الصعر» الميل
ومنه قول الأعرابي : «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» ، ومنه قول عمرو بن
حنى التغلبي : [الطويل]
وكنا إذا الجبار
صعر خده
|
|
أقمنا له من
ميله فتقوم
|
أي فتقوم أنت ،
قاله أبو عبيدة ، وأنشد الطبري «فتقوما» وهو خطأ لأن قافية الشعر مخفوضة ، وفي بيت
آخر أقمنا له من خده المتصعر. فمعنى الآية ولا تمل (خَدَّكَ لِلنَّاسِ) كبرا عليهم ونخوة وإعجابا واحتقارا لهم وهذا هو تأويل ابن
عباس وجماعة ، ويحتمل أن يريد أيضا الضد ، أي «ولا تصاعر خدك» سؤالا ولا ضراعة
بالفقر ، والأول أظهر بدلالة ذكر الاختيال والفخر بعد ، وقال مجاهد «ولا تصعر»
أراد به الإعراض هجرة بسبب إحنة ، والمرح النشاط ، والمشي مرحا هو في غير شغل
ولغير حاجة ، وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح مختال في مشيه وقد
قال عليهالسلام «من جرّ ثوبه
خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» ، وقال : «بينما رجل من بني إسرائيل يجر
ثوبه خيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» ، وقال مجاهد «الفخور» هو
الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وفي الآية الفخر بالنسب وغير ذلك ، ولما نهاه عن الخلق الذميم رسم له
الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله من القصد في المشي وهو أن لا يتخرق في إسراع
ولا يواني في إبطاء وتضاؤل على نحو ما قال القائل : [مجزوء الرمل]
كلنا نمشي رويد
|
|
كلنا يطلب صيد
|
غير عمرو بن عبيد
وأن لا يمشي مختالا متبخترا ونحو هذا مما ليس في قصد ، و «غض الصوت» أوفر للمتكلم
وأبسط لنفس السامع وفهمه ، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه ، أي تلك هي
التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات ، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو
في طريق تلك وفي الحديث «إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها
رأت شيطانا» ، وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير ، وقال عطاء
: صياح الحمير دعاء على الظلمة ، و (أَنْكَرَ) معناه أقبح وأخشن ، و (أَنْكَرَ) عبارة تجمع المذام اللاحقة للصوت الجهير ، وكانت العرب
تفتخر بجهارة الصوت الجهير على خلق الجاهلية ومنه قول الشاعر يمدح آخر : [المتقارب]
جهير الكلام
جهير العطاس
|
|
جهير الرواء
جهير النعم
|
ويعدو على الأين
عدو الظليم
|
|
ويعلو الرجال بخلق
عمم
|
فنهى الله تعالى
عن هذه الخلق الجاهلية ، وقوله (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أراد ب «الصوت» اسم الجنس ، ولذلك جاء مفردا ، وقرأ ابن
أبي عبلة «أنكر الأصوات أصوات الحمير» بالجمع في الثاني دون لام ، والغض رد طمحان
الشيء كالنظر وزمام الناقة والصوت وغير ذلك.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١)
هذه آية تنبيه على
الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر
والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك ، وقرأ يحيى بن
عمارة وابن عباس «وأصبغ» بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب
السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا ، والجمهور قراءتهم بالسين ، وقرأ نافع وأبو
عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم «نعمه» جمع نعمة
كسدرة وسدر بفتح الدال ، و «الظاهرة» هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك ، و «الباطنة»
المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل.
قال ابن عباس «الظاهرة»
الإسلام وحسن الخلقة ، و «الباطنة» ما يستر من سيىء العمل ، وفي الحديث قيل يا رسول
الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة؟ قال : ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومن «الباطنة» التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة ، ومن «الظاهرة»
عمل الجوارح بالطاعة. قال المحاسبي رحمهالله «الظاهرة» تعم
الدنيا و «الباطنة» تعم العقبى ، وقرأ جمهور الناس «نعمة» على الإفراد ، فقال
مجاهد المراد لا إله إلا الله ، وقال ابن عباس أراد الإسلام ، والظاهر عندي أنه
اسم جنس كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ،
النحل : ١٨] ، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى
: (وَمِنَ النَّاسِ) ، وقال النقاش : الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه
لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية ، فذلك جدالهم ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور
بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتابا بأمر الله يقر بأنه وحي ، بل ذلك دعوى
منهم وتخرص ، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة
فسلكوا طريق الآباء ، ثم وقف الله تعالى وهم المراد بالتوفيق على اتباعهم دين
آبائهم أيكون وهم بحال من يصير (إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ) فكان القائل منهم يقول هم يتبعون دين آبائهم ولو كان
مصيرهم إلى السعير فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام فتأمله.
قوله عزوجل :
(وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُور(٢٢)
وَمَنْ
كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣)
نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)
لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
(٢٦)
لما ذكر تعالى حال
الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل ،
وقرأت عامة القراء «يسلم» بسكون السين وتخفيف اللام.
وقرأ عبد الله بن
مسلم وأبو عبد الرحمن «يسلّم» بفتح السين وشد اللام ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به
، و «الوجه» هنا الجارحة استعير للمقصود لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه
فاستعير ذلك للمقاص ، و «المحسن» الذي جمع القول والعمل ، وهو الذي شرح رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سأله جبريل عن الإحسان ، و «العروة الوثقى» استعارة
للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال والعرى موضع التعليق فكأن
المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك (بِالْعُرْوَةِ) ، و (الْأُمُورِ) جمع أمر وليس بالمضاد للنهي ، ثم سلى عزوجل نبيه عن موجدته لكفر قومه وإعراضهم فأمره أن لا يحزن لذلك
بل يعمد لما كلفه من التبليغ ويرجع الكل إلى الله تعالى ، وقرأت فرقة «يحزنك» من
الرباعي ، وقرأت فرقة «يحزنك» من الثلاثي ، و «ذات الصدور» ما فيها والقصد من ذلك
إلى المعتقدات والآراء ، ومن ذلك قولهم «الذئب مغبوط بذي بطنه» ، ومنه قول أبي بكر
رضي الله عنه «ذو بطن بنت خارجة» ، والمتاع القليل هو العمر في الدنيا ، و «العذاب
الغليظ» معناه المغلظ المؤلم ، ثم أقام عليهم الحجة في أمر الأصنام بأنهم يقرون
بأن الله تعالى خالق المخلوقات ويدعون مع ذلك إلها غيره ، والمعنى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ظهور الحجة عليكم ، وقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) إضراب عن مقدر تقديره ليس دعواهم بحق ونحو هذا ، وقوله (أَكْثَرُهُمْ) على أصله لأن منهم من شذ فعلهم كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس
، وورقة بن نوفل ، ويحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى من هو معد أن يسلم ، ثم أخبر
على جهة الحكم وفصل القضية بأن الله له ملك السماوات والأرض وما فيها ، أي وأقوال
هؤلاء لا معنى لها ولا حقيقة ، و (الْغَنِيُ) الذي لا حاجة به في وجوده وكماله إلى شيء ولا نقص بجهة من
الجهات ، و (الْحَمِيدُ) المحمود أي كذلك هو بذاته وصفاته.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
(٢٨)
روي عن ابن عباس
أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول (وَما أُوتِيتُمْ
مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥]
ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء ،
فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم «التوراة قليل من
كثير» ونزلت هذه الآية ، وهذا هو القول الصحيح ، والآية مدنية وقال قوم : سبب
الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية ، وقال السدي :
قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية
وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى ، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة
، وأيضا فإن الآية إنما تضمنت أن (كَلِماتُ اللهِ) لم تكن لتنفد ، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه
«الأقلام» والبحور ، قال أبو علي : المراد ب «الكلمات» والله أعلم ما في المقدور
دون ما أخرج منه إلى الوجود ، وذهبت فرقة إلى أن «الكلمات» هنا إشارة إلى
المعلومات.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية
بحر نظر ، نور الله تعالى قلوبنا بهداه ، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي
إسحاق وعيسى «والبحر» بالنصب عطفا على «ما» التي هي اسم «أن» ، وقرأ جمهور الناس و
«البحر» بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه ، حاله
كذا ، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على «أن» لأنها في موضع رفع
بالابتداء ، وقرأ جمهور الناس «يمده» من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يمده» من أمد
، وقالت فرقة هما بمعنى واحد ، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضا وأمد الشيء ما ليس
منه ، فكأن «الأبحر السبعة» المتوهمة ليست من (الْبَحْرُ) الموجود ، وقرأ جعفر بن محمد «والبحر مداده» وهو مصدر ،
وقرأ ابن مسعود «وبحر يمده» ، وقرأ الحسن «ما نفد كلام الله» ، ثم ذكر تعالى أمر
الخلق والبعث أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء لأنه كله بكن فيكون قاله مجاهد.
وحكى النقاش أن
هذه الآية في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه ابني الحجاج وذلك أنهم قالوا يا
محمد إنا نرى الطفل يخلق بتدرج وأنت تقول الله يعيدنا دفعة واحدة فنزلت الآية
بسببهم.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
(٣٠)
هذا تنبيه خوطب به
محمد صلىاللهعليهوسلم والمراد به جميع العالم ، وهذه عبرة تدل على الخالق
المخترع أن يكون الليل بتدرج والنهار كذلك فما قصر من أحدهما زاد في الآخر ثم
بالعكس ينقسم بحكمة بارئ العالم لا رب غيره ، و (يُولِجُ) معناه يدخل ، و «الأجل المسمى» القيامة التي تنتقض فيها
هذه البنية وتكور الشمس ، وقرأ جمهور القراء «بما تعملون» بالتاء من فوق ، وقرأ
عباس عن أبي عمرو «يعملون» بالياء ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) الإشارة ب (ذلِكَ) إلى هذه العبرة وما جرى
مجراها ، ومعنى (هُوَ الْحَقُ) أي صفة الألوهية له حق ، فيحسن في القول تقدير ذو ، وكذلك
الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر ومنه قول الشاعر :
فإنما هي إقبال
وإدبار
وهذا كثير ومتى
قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق ، وقوله (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها
ب (الْباطِلُ) على نحو ما قدمناه في (الْحَقُ) ، ويصح أن تكون (ما) مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل
الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به ، وقرأ الجمهور «تدعون» بالتاء من فوق ، وقرأ
«يدعون» بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ
خَتَّارٍ كَفُورٍ)
(٣٢)
الرؤية في قوله (أَلَمْ تَرَ) رؤية العين يتركب عليها النظر والاعتبار ، والمخاطب محمد صلىاللهعليهوسلم والمراد الناس أجمع ، و (الْفُلْكَ) جمع وواحد بلفظ واحد ، وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم
اللام ، وقوله (بِنِعْمَتِ اللهِ) يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات
، فالباء للأرزاق ، ويحتمل أن يريد الريح وتسخير الله البحر ونحو هذا ، فالباء باء
السبب ، وقرأ الجمهور «بنعمة» ، وقرأ الأعرج ويحيى بن يعمر «بنعمات» على الجمع ،
وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات» بفتح النون وكسر العين ، وذكر تعالى من صفة المؤمن «الصبار»
و «الشكور» لأنهما عظم أخلاقه الصبر على الطاعات وعلى النوائب وعلى الشهوات ،
والشكر على الضراء والسراء ، وقال الشعبي الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه الآخر ،
واليقين الإيمان كله. و «غشي» غطى ، أو قارب ، و «الظلل» السحاب ، وقرأ محمد بن
الحنفية «الظلال» ومنه قول النابغة الجعدي يصف البحر : [الوافر]
يماشيهن أخضر ذو
ظلال
|
|
على حافاته فلق
الدنان
|
ووصف تعالى في هذه
الآية حالة البشر الذين لا يعتبرون حق العبرة ، والقصد بالآية تبيين آية تشهد
العقول بأن الأوثان والأصنام لا شرك لها فيه ولا مدخل وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال الحسن منهم مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم.
وقال مجاهد : يريد
(فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) على كفره أي منهم من يسلم الله ويفهم نحو هذا من القدرة
وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها بسيرته ونشأته ، والختّار القبيح الغدر وذلك
أن نعم الله تعالى على
العباد كأنها عهود
ومنن يلزم عنها أداء شكرها فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان ، ومن «الختر» قول
عمرو بن معدي كرب : [الوافر]
وإنك لو رأيت
أبا عمير
|
|
ملأت يديك من
غدر وختر
|
وقال الحسن : «الختار»
هو الغدار ، و (كَفُورٍ) بناء مبالغة.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ
وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
(٣٤)
(يَجْزِي) معناه يقضي ، والمعنى لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه ، و (هُوَ جازٍ) جملة في موضع الصفة ، أي ولا يجزي مولود قد كان في الدنيا
يجزي ، و (الْغَرُورُ) التطميع بما لا يتحصل ، و (الْغَرُورُ) الشيطان ، بذلك فسر مجاهد والضحاك وقال هو الأمل والتسويف
، وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة «الغرور» بضم العين ، وقال سعيد بن جبير : معنى
الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة ، وقرأ الجمهور «يجزي» بفتح الياء من جزا ،
وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء على ما لم يسم فاعله ، وحكى ابن مجاهد قراءة «لا
يجزىء» بضم الياء والهمز وفي رفع «مولود» اضطراب من النحاة قال المهدوي : ولا يكون
مبتدأ لأنه نكرة وما بعده صفة له فيبقى بغير خبر.
وقرأ ابن أبي
إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب «ولا يغرنكم» خفيفة النون ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ذكر النقاش أن رجلا سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن هذه الخمس وروي أنه سأل عن بعضها عن جنين وعما يكسب
ونحو هذا فنزلت الآية حاصرة لمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ولن تجد
من المغيبات شيئا إلا هذه أو ما يعيده النظر ، والتأويل إليها ، و (عِلْمُ السَّاعَةِ) مصدر مضاف إلى المفعول ، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر
الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه ،
وكذلك نزول الغيث أمر قد استأثر الله تعالى بتفصيله وعلم وقته الخاص به ، وأمر
الأجنة كذلك ، وأفعال البشر وجميع كسبهم كذلك وموضع موت كل بشر كذلك إلا الأصقاع
والموضع الخاص بالجسد ، وقرأ ابن أبي عبلة «بأيّة أرض» بفتح الياء وزيادة تاء
تأنيث ، و (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) صفتان متشابهتان لمعنى الآية ، وقال ابن مسعود : كل شيء
أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية ، وقرأ «وينزل» خفيفة أهل الكوفة وأبو
عمرو وعيسى ، وقرأ «وينزّل» بالتثقيل نافع وأبو جعفر وعاصم وشيبة ، وذكر أبو حاتم
في ترجيح التثقيل رؤيا (انتهى).
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة السّجدة
هذه السورة مكية
غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] إلى
تمام ثلاث آيات ، ويأتي تفسيرها ، وقال جابر بن عبد الله : ما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينام حتى يقرأ (الم) «السجدة» و «تبارك»
[الملك : ١].
قوله عزوجل :
(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ)
(٤)
(تَنْزِيلُ) يصح أن يرتفع بالابتداء والخبر (لا رَيْبَ) ويصح أن يرتفع على أنه خبر ابتداء ، وهو إما الحروف المشار
إليها على بعض الأقوال في أوائل السور ، وإما ذلك تنزيل أو نحو هذا من التقدير
بحسب القول في الحروف وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي هو كذا في نفسه ولا يراعى ارتياب الكفرة ، وقوله (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق ب (تَنْزِيلُ) ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، ويجوز أن يتعلق بقوله (لا رَيْبَ) أي لا شك فيه من جهة الله تعالى وإن وقع شك للفكرة فذلك لا
يراعى ، والريب الشك وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله (رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠]
وقوله (أَمْ يَقُولُونَ) إضراب ، كأنه قال بل أيقولون ، و (افْتَراهُ) اختلقه ، ثم رد تعالى على مقالتهم هذه وأخبر أنه (الْحَقُ) من عند الله ، واللام في قوله (لِتُنْذِرَ) يجوز أن تتعلق بما قبلها ، ولا يجوز الوقف على قوله (مِنْ رَبِّكَ) ويجوز أن تتعلق بفعل مضمر تقديره أنزله لتنذر فيوقف حينئذ
على قوله (مِنْ رَبِّكَ) ، وقوله (ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ) أي لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب ، وقوله تعالى
: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] يعم
من بوشر من النذر ومن سمع به فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه
لأنها علمت بإبراهيم وبنيه ودعوتهم وهم ممن لم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقال ابن عباس ومقاتل : المعنى لم يأتهم نذير في الفترة
بين عيسى ومحمد عليهماالسلام ، وقوله تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يقضي بأن يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء ،
وتظاهرت الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدئ يوم الأحد ، وخلق آدم يوم الجمعة آخر
الأشياء فهذا مستقيم مع هذه الآية.
ووقع في كتاب مسلم
أن الخلق ابتدئ يوم السبت ، فهذا يخالف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية
جميع الأشياء غير آدم ، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين
السماء والأرض ، لأن آدم لم يكن حينئذ مما بينهما ، وقد تقدم القول في قوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بما فيه كفاية ، و (ثُمَ) في هذا الموضع لترتيب الجمل لأن الاستواء كان بعد أن لم
يكن ، وهذا على المختار في معنى (اسْتَوى) ونفي «الشفاعة» محمول على أحد وجهين : إما عن الكفرة وإما
نفي الشفعاء من ذاتهم على حد شفاعة الدنيا لأن شفاعة الآخرة إنما هي بعد إذن من
الله تعالى.
قوله عزوجل :
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)
(٥)
(الْأَمْرَ) اسم جنس لجميع الأمور ، والمعنى ينفذ الله تعالى قضاءه
بجميع ما يشاؤه ، (ثُمَّ يَعْرُجُ
إِلَيْهِ) خبر ذلك (فِي يَوْمٍ) من أيام الدنيا (مِقْدارُهُ) أن لو سير فيه السير المعروف من البشر (أَلْفَ سَنَةٍ) لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة هذا أحد الأقوال ،
وهو قول مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك ، وقال مجاهد أيضا : إن المعنى أن
الضمير في (مِقْدارُهُ) عائد على «التدبير» ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم
ألف سنة لو دبرها البشر ، وقال مجاهد أيضا المعنى أن الله تعالى يدبر ويلقي إلى
الملائكة أمور ألف سنة من عندنا وهو اليوم عنده فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها ،
فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدة ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه
، وقيل المعنى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) في مدة الدنيا (ثُمَّ يَعْرُجُ
إِلَيْهِ) يوم القيامة ويوم القيامة (مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ) من عندنا وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لهوله وشنعته
حسبما في سورة «سأل سائل» وسنذكر هنالك ما فيه من الأقوال والتأويل إن شاء الله ،
وحكى الطبري في هذه الآية عن بعضهم أنه قال قوله (فِي يَوْمٍ) إلى آخر الآية متعلق بقوله قبل هذا (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [السجدة: ٤] ومتصل
به أي أن تلك الستة كل واحد منها من ألف سنة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول ضعيف مكرهة ألفاظ هذه الآية عليه رادة له الأحاديث التي بينت
أيام خلق الله تعالى المخلوقات ، وحكي أيضا عن ابن زيد عن بعض أهل العلم أن الضمير
في (مِقْدارُهُ) عائد على العروج ، والعروج الصعود ، والمعارج الأدراج التي
يصعد عليها ، وقالت فرقة معنى الآية يدبر أمر الشمس في أنها تصعد وتنزل في يوم
وذلك قدر ألف سنة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا أيضا ضعيف وظاهر عود الضمير في (إِلَيْهِ) على اسم الله تعالى كما قال (ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩]
وكما قال «مهاجر إلى ربي» ، وهذا كله بريء من التحيز ، وقيل إن الضمير يعود على (السَّماءِ) لأنها قد تذكر ، وقرأ جمهور الناس «تعدون» بالتاء ، وقرأ
الأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بالياء من تحت.
قوله عزوجل :
(ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ
مِنْ
طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ
رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
(١١)
قالت فرقة أراد ب (الْغَيْبِ) الآخرة ، وب (الشَّهادَةِ) الدنيا ، وقيل أراد ب (الْغَيْبِ) ما غاب عن المخلوقين وب (الشَّهادَةِ) ما شوهد من الأشياء فكأنه حصر بهذه الألفاظ جميع الأشياء ،
وقرأ جمهور الناس «خلقه» بفتح اللام على أنه فعل ماض ، ومعنى (أَحْسَنَ) أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها ،
ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة : ليست است القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة
، والجملة في (خَلَقَهُ) يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة ل (كُلَ) أو في موضع خفض صفة ل (شَيْءٍ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «خلقه» بسكون اللام
وذلك منصوب على المصدر ، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول ،
ويصح أن يكون بدلا من (كُلَ) وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن (أَحْسَنَ) بمعنى ألهم ، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدى) [طه : ٥٠] أي ألهم
الرجل إلى المرأة ، والجمل إلى الناقة ، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري ، وقرأ
جمهور الناس «وبدأ» ، وقرأ الزهري «وبدا خلق الإنسان» بألف دون همزة وبنصب القاف
وذلك على البدل لا على التخفيف.
قال الفقيه الإمام
القاضي : كأنه أبدل الياء من بدى ألفا ، وبدى لغة الأنصار ، وقال ابن رواحة: [الرجز]
«بسم الإله وبه بدينا
|
|
ولو عبدنا غيره
شقينا»
|
و (الْإِنْسانِ) آدم عدد أمره على بنيه إذ خلقه خلق لهم من حيث هو منسلهم ،
و «النسل» ما يكون عن الحيوان من الولد كأنه مأخوذ من نسل الشيء إذا خرج من موضعه
، ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء : ٩٦]
ومنه نسل ريش الطائر إذا تساقط ، و «السلالة» من سل يسل فكأن الماء يسل من الإنسان
ومن ذلك قول الشاعر : [الطويل]
فجاءت به عضب
الأديم غضنفرا
|
|
سلالة فرج كان
غير حصين
|
و «المهين» الضعيف
، مهن الإنسان إذا ضعف وذل ، وقوله (وَنَفَخَ) عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم ، والضمير في (رُوحِهِ) لله تعالى ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق ، ثم
أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله (لَكُمُ) بضمير (السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وهي لمن تقدم ذكره أيضا كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح
وهو لجميع ذريته ، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به.
ويحتمل أن يكون (الْإِنْسانِ) في هذه الآية اسم الجنس ، وقوله تعالى : (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف ، وهو في موضع الحال حين حذف الموصوف به ،
والضمير في (قالُوا) للكفار الجاحدين البعث من القبور والمستبعدين لذلك دون حجة
ولا دليل. وموضع (إِذا) نصب بما في قوله (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ) لأن معناه لنعاد ، واختلفت القراءة في (أَإِذا) وقد تقدم استيعاب ذكره في غير هذا الموضع. وقرأ جمهور
القراء «ضللنا» بفتح اللام ، وقرأ ابن عامر وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب «ضللنا»
بكسر اللام والمعنى تلفنا وتقطعت أوصالنا فذهبنا حتى لم نوجد ، ومنه قول الأخطل :
[الكامل]
كنت القذا في
متن أكدر مزبد
|
|
قذف الأتيّ به
فضلّ ضلالا
|
ومنه قول النابغة
:
فآب مضلوه بعين
جلية
|
|
وغودر بالجولان
حزم ونائل
|
أي متلفوه دفنا ،
ومنه قول امرئ القيس : «تضل المداري في مثنى ومرسل». وقرأ الحسن البصري «صللنا»
بالصاد غير منقوطة وفتح اللام ، قال الفراء وتروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ومعناه صرنا من الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة ، ويجوز أن يريد به من التغير كما
يقال صل اللحم ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبان بن سعيد بن العاصي ، وقرأ
الحسن أيضا «صللنا» بالصاد غير منقوطة وكسر اللام ، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو
حيوة «ضلّلنا» بضم الضاد وكسر اللام وشدها ، وقولهم (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ) أي إنا لفي هذه الحالة نعاد ويجدد خلقنا. وقوله تعالى : (بَلْ) إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال ليسوا مستفهمين «بل هم
كافرون» جاحدون بلقاء الله تعالى ، ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير
مفصلة ، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه
فجمع الغايتين الأولى والآخرة ، و (يَتَوَفَّاكُمْ) معناه يستوفيكم.
ومنه قول الشاعر :
[الرجز]
أزيني الأردم
ليسوا من أحد
|
|
ولا توفيهم قريش
في العدد
|
و (مَلَكُ الْمَوْتِ) اسمه عزرائيل وتصرفه كله بأمر الله وبخلقه واختراعه وروي
في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله روحها دون ملك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : كأنه يعدم حياتها ، وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك
وملائكة معه في قبض أرواحهم ، وكذلك أيضا غلظ العذاب على الكافرين بذلك ، وروي عن
مجاهد : أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
إِنَّما
يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)
(١٥)
قوله تعالى : (لَوْ تَرى) تعجيب لمحمد وأمته من حال الكفرة وما حل بهم ، وجواب (لَوْ) محذوف لأن حذفه أهول إذ يترك الإنسان فيه مع أقصى تخيله ، و
(الْمُجْرِمُونَ) هم الكافرون بدليل التوعد بالنار وبدليل قولهم (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي أنهم كانوا في الدنيا غير موقنين ، وتنكيس الرؤوس هو من
الذل واليأس والهم بحلول العذاب وتعلق نفوسهم بالرجعة إلى الدنيا ، وفي القول
محذوف تقديره يقولون (رَبَّنا) وقولهم (أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا) أي ما كنا نخبر به في الدنيا فكنا مكذبين به ، ثم طلبوا
الرجعة حين لا ينفع ذلك ، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين بأن
يلطف بهم لطفا يؤمنون به ويخترع الإيمان في نفوسهم ، هذا مذهب أهل السنة ، وقال
بعض المفسرين تعرض عليهم آية يضطرهم بها إلى الإيمان.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول بعض المعتزلة ، إلا أن من أشرنا إليه من المفسرين لم يقدر قدر
القول ولا مغزاه ولذلك حكاه ، والذي يقود المعتزلة إلى هذه المقالة أنهم يرون أن
من يقدر على اللطف بإنسان حتى يؤمن ولا يفعل فإن ذلك ليس من الحكمة ولا من الأمر
المستقيم ، والكلام على هذه المسألة يطول وله تواليفه ، و (الْجِنَّةِ) الشياطين ، وقوله (فَذُوقُوا) بمعنى يقال لهم ذوقوا ، و (نَسِيتُمْ) معناه تركتم ، قاله ابن عباس وغيره ، وفي الكلام حذف مضاف
تقديره عمل أو عدة ونحوه ، وقوله (إِنَّا نَسِيناكُمْ) سمى العقوبة باسم الذنب ، وقوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بتكسبكم الآثام ، ثم أثنى عزوجل على القوم الذين يؤمنون بآياته ووصفهم بالصفة الحسنى
بسجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم بخلاف ما يصنع الكفر من الإعراض عند
التذكير وقول الهجر وإظهار التكبر. وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، وقال ابن
عباس : السجود هنا بمعنى الركوع ، وقد روي عن ابن جريج ومجاهد أن هذه الآية نزلت
بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد
من هذا ، ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ، وأيضا فمن مذهب ابن عباس أن القارئ
للسجدة يركع واستدل بقوله (وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ) [ص : ٢٤].
قوله عزوجل :
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ
نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
أَفَمَنْ
كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ
(١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا
فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)
(٢٠)
جفا الرجل الموضع
إذا تركه ، و «تجافى الجنب» عن مضجعه إذا تركه وجافى الرجل جنبه عن مضجعه ، ومنه
في الحديث «ويجافي بضبعيه» أي يبعدهما عن الأرض وعن يديه ، فقوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) أي تبعد وتزول ، ومنه قول عبد الله بن رواحة : [الطويل]
نبيّ تجافى جنبه
عن فراشه
|
|
إذا استثقلت
بالمشركين المضاجع
|
ويروى يبيت يجافي
، قال الزجاج والرماني : التجافي التنحي إلى جهة فوق.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول حسن ، وكذلك في الصفح عن المخطي في سب ونحوه ، و «الجنوب» جمع
جنب ، و «المضجع» موضع الاضطجاع للنوم ، وقال أنس بن مالك : أراد بهذه الآية
الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال عطاء وأبو سلمة أراد صلاة العشاء الآخرة ، وقال
أبو محمد : وكانت الجاهلية ينامون من أول المغرب ومن أي وقت شاء الإنسان فجاء
انتظار وقت العشاء الآخرة غريبا شاقا ، وقال أنس بن مالك أيضا : أراد انتظار
العشاء الآخرة لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل وفي ذلك أحاديث كثيرة ، وقال
الضحاك : «تجافي الجنب» هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وهذا قول حسن
يساعده لفظ الآية ، وقال الجمهور من المفسرين : أراد بهذا التجافي صلاة النوافل
بالليل.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وعلى هذا التأويل أكثر الناس ، وهو الذي فيه المدح ، وفيه أحاديث عن
النبي صلىاللهعليهوسلم يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية ، ذكره الطبري عن معاذ
بن جبل ، ورجح الزجاج هذا القول بأنهم جزوا بإخفاء فدل ذلك على أن العمل إخفاء
أيضا وهو قيام الليل ، وقوله (يَدْعُونَ) يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين ، أي في وقت
التجافي ، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة ، أي (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) وهم أيضا في كل أحوالهم (يَدْعُونَ) ليلهم ونهارهم. و «الخوف» من عذاب الله ، و «الطمع» في
ثواب الله. و (يُنْفِقُونَ) قيل معناه الزكاة المفروضة وقيل النوافل والصدقات غير
المفروضة وهذا القول أمدح ، ثم ذكر تعالى وعدهم من النعيم بما لم تعلمه نفس ولا
بشر ولا ملك ، وقرأ حمزة وحده «أخفي» بسكون الياء كأنه قال أخفي أنا وهي قراءة
الأعمش ، وروي عنه «ما أخفيت لهم من قرة أعين» ، وقرأ عبد الله «ما نخفي لهم»
بالنون مضمومة ، وروى المفضل عن الأعمش «ما يخفى لهم» بالياء المضمومة وفتح الفاء
، وقرأ محمد بن كعب «ما أخفى» بفتح الهمزة ، أي ما أخفى الله ، وقرأ جمهور الناس «أخفي»
بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول ، و (ما) يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، فعلى القراءة الأولى فثم ضمير
محذوف تقديره أخفيه ، وعلى قراءة الجمهور فالضمير الذي لم يسم فاعله يجري في
العودة على الذي ، ويحتمل أن تكون استفهاما ، فعلى القراءة الأولى فهي في موضع نصب
ب «أخفي» وعلى القراءة الثانية هي في موضع رفع بالابتداء ، و (قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ما تلذه وتشتهيه وهي مأخوذة من القر كما
أن سخنة العين
مأخوذة من السخانة ، وأصل هذا فيما يزعمون أن دمع الفرح بارد ودمع الحزن سخن ، وفي
معنى هذه الآية قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الله عزوجل : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر. واقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
وقال ابن مسعود : «في
التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر». وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء ، «قرات» على
الجمع ، وقوله (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي بتكسبهم ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً) الآية ، روي عن عطاء بن يسار أنها نزلت في علي بن أبي طالب
: والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد : أنا أبسط منك
لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة ، فقال له علي بن أبي طالب : اسكت فإنك فاسق ،
فنزلت الآية.
وذكر الزجاج
والنحاس وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط ، وعلى هذا يلزم أن تكون
الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدينة وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من بدر ، ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد
وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان فيه أو لما روي من نقله عن بني
المصطلق ما لم يكن حتى نزلت فيه (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ) [الحجرات : ٦]
ويحتمل أيضا أن تطلق الشريعة ذلك عليه لأنه كان على طرف مما يبغي وهو الذي شرب
الخمر في خلافة عثمان وصلى الصبح بالناس أربعا ثم التفت وقال : أتريدون أن أزيدكم
ونحو هذا مما يطول ذكره. ثم قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر
لأن التكذيب الذي في آخر الآية يقتضي ذلك ، وقرأ طلحة «جنة» بالإفراد ، وقرأ أبو
حيوة «نزلا» بإسكان الزاي ، والجمهور على ضمها وسائر باقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)
(٢٢)
الضمير في قوله (لَنُذِيقَنَّهُمْ) لكفار قريش ، أعلم الله تعالى أنه يصيبهم بعذاب دون عذاب
الآخرة ، واختلف المتأولون في تعيين (الْعَذابِ الْأَدْنى) ، فقال إبراهيم النخعي ومقاتل : هم السنون التي أجاعهم
الله تعالى فيها ، وقال ابن عباس وأبي بن كعب : هو مصائب الدنيا من الأمراض ونحوها
وقاله ابن زيد ، وقال ابن مسعود والحسن بن علي هو القتل بالسيف كبدر وغيرها.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فيكون على هذا التأويل الراجع غير الذي يذوق بل الذي يبقى بعده وتختلف
رتبتا ضمير الذوق مع ضمير «لعل» ، وقال أبيّ بن كعب أيضا هي البطشة ، واللزام ،
والدخان. وقال ابن عباس أيضا عنى بذلك الحدود.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويتجه على هذا التأويل أن تكون في فسقة المؤمنين ، وقال مجاهد : عنى
بذلك عذاب القبر ،
ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) على جهة التعجب ، والتقدير أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته ،
وهي بخلاف ما تقدم في صفة المؤمنين من أنهم إذا ذكروا بآيات الله خروا سجدا ، ثم
توعد تعالى (الْمُجْرِمِينَ) وهم المتجاسرون على ركوب الكفر والمعاصي بالنقمة ، وظاهر
الإجرام هنا أنه الكفر ، وحكى الطبري عن يزيد بن رفيع أنه قال : إن قول الله تعالى
في القرآن (إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) إنما هو في أهل القدر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : يريد القائلين بأن الأمر أنف ، وأن أفعال العبد من قبله ، قال ثم قرأ
يزيد بن رفيع (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا
مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). [القمر ٤٧ ـ ٤٩].
قال الفقيه الإمام
القاضي : في هذا المنزع من البعد ما لا خفاء به ، وروى معاذ بن جبل عن النبيصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ثلاث من فعلهن فقد أجرم ، من عقد لواء في غير
حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالما».
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
(٢٥)
قرأ الناس «في
مرية» بكسر الميم ، وقرأ الحسن بضمها ، واختلف المتأولون في الضمير الذي في (لِقائِهِ) على من يعود ؛ فقال أبو العالية الرياحي وقتادة : يعود على
موسى ، والمعنى لا تكن في شك من أن تلقى موسى ، أي في ليلة الإسراء ، وهذا قول
جماعة من السلف ، وقاله المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة ، وقالت
فرقة الضمير عائد على (الْكِتابَ) أي أنه لقي موسى حين لقيه موسى ، والمصدر في هذا التأويل
يصح أن يكون مضافا للفاعل بمعنى لقي الكتاب موسى ، ويصح أن يكون مضافا إلى المفعول
بمعنى لقي الكتاب ـ بالنصب ـ موسى ، وقال الحسن الضمير عائد على ما يتضمنه القول
من الشدة والمحنة التي لقي موسى ، وذلك أن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى) هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من
المحنة بالناس ، وكأن الآية تسلية لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقالت فرقة معناه فلا تكن في شك من لقائه في الآخرة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة الضمير عائد على (مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١]
الذي تقدم ذكره ، وقوله (فَلا تَكُنْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) اعتراض بين الكلامين.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أيضا ضعيف ، و «المرية» الشك ، والضمير في (جَعَلْناهُ) يحتمل أن يعود على موسى ، وهو قول قتادة ، ويحتمل أن يعود
على (الْكِتابَ) و (أَئِمَّةً) جمع إمام وهو الذي يقتدى
به وأصله خيط
البناء وجمهور النحويين على «أئمة» بياء وتخفيف الهمزة ، إلا ابن أبي إسحاق فإنه
جوز اجتماع الهمزتين وقرأ «أئمة» ، وقرأ جمهور القراء «لمّا صبروا» بفتح اللام وشد
الميم ، وقرأ حمزة والكسائي «لما» بكسر اللام وتخفيف الميم وهي قراءة ابن مسعود
وطلحة والأعمش ، فالأولى في معنى الظرف والثانية كأنه قال لأجل صبرهم ، ف «ما»
مصدرية ، وفي القراءتين معنى المجازاة أي جعلهم أئمة جزاء على صبرهم عن الدنيا
وكونهم موقنين بآيات الله وأوامره وجميع ما تورده الشريعة ، وقرأ ابن مسعود «بما
صبروا». وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) الآية ، حكم يعم جميع الخلق ، وذهب بعض المتأولين إلى
تخصيص الضمير وذلك ضعيف.
قوله عزوجل :
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩)
فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)
(٣٠)
(يَهْدِ) معناه يبين قاله ابن عباس ، وقرأ جمهور الناس «يهد» بالياء
فالفاعل الله تعالى في قول فرقة ، والرسول في قول فرقة ، كأنه قال «أو لم يبين لهم
الهدى» ، وجوز الكوفيون أن يكون الفاعل (كَمْ) ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأنها في الخبر على حكمها في
الاستفهام في أنها لا يعمل فيها ما قبلها ، وقرأ أبو عبد الرحمن «نهد» بالنون وهي
قراءة الحسن وقتادة ، فالفاعل الله تعالى ، و (كَمْ) في موضع نصب ، فعند الكوفيين ب «نهد» وعند البصريين ب (أَهْلَكْنا) ، على القراءتين جميعا ، وقرأ جمهور الناس «يمشون» بفتح
الياء وتخفيف الشين ، وقرأ ابن السميفع اليماني «يمشّون» بضم الياء وفتح الميم وشد
الشين ، وقرأ عيسى بن عمر «يمشون» بضم الياء وسكون الميم وشين مضمومة مخففة ،
والضمير في (يَمْشُونَ) يحتمل أن يكون للمخاطبين بالتنبيه المحتج عليهم ، ويحتمل
أن يكون للمهلكين ، ف (يَمْشُونَ) في موضع الحال ، أي أهلكوا وهم ماشون في مساكنهم ، والضمير
في (يَسْمَعُونَ) للمنبهين ، ومعنى هذه الآية إقامة الحجة على الكفرة بالأمم
السالفة الذين كفروا فأهلكوا ، ثم أقام عزوجل الحجة عليهم في معنى الإيمان بالقدرة وبالبعث بأن نبههم
على إحياء الأرض الموات بالماء والنبات ، و «السوق» هو بالسحاب ، وإن كان سوق بنهر
فأصله من السحاب و (الْجُرُزِ) الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والغيظ ، ومنه
قيل للأكول جروز. قالة الشاعر :
خب جروز وإذا جاع
بكى
ومن عبر عنها
بأنها الأرض التي لا تنبت فإنها عبارة غير مخلصة ، وعم تعالى كل أرض هي بهذه
الصفة لأن الآية
فيها والعبرة بينة ، وقال ابن عباس أيضا وغيره (الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر ، وجمهور
الناس على ضم الراء ، وقال الزجاج وتقرأ «الجرز» بسكون الراء ، ثم خص تعالى «الزرع»
بالذكر تشريفا ولأنه عظم ما يقصد من النبات ، وإلا فعرف أكل الأنعام إنما هو من
غير الزرع ، لكنه أوقع الزرع موقع النبات على العموم ، ثم فصل ذلك بأكل الأنعام
وبني آدم ، وقرأ أبو بكر بن عياش وأبو حيوة «يأكل» بالياء من تحت ، وقرأ ابن مسعود
«يبصرون» ، وقرأ جمهور الناس «تبصرون» بالتاء من فوق ، ثم حكي عن الكفرة أنهم
يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب ، و (الْفَتْحُ) الحكم هذا قول جماعة من المفسرين ، وهذا أقوى الأقوال ،
وقالت فرقة الإشارة إلى فتح مكة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف يرده الإخبار بأن الكفرة لا ينفعهم الإيمان ، فلم يبق إلا أن
يكون (الْفَتْحُ) إلا إما حكم الآخرة ، وهذا قول مجاهد ، وإما فصل في الدنيا
كبدر ونحوها. وقوله تعالى : (قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ) إشارة إلى (الْفَتْحِ) الأول حسب محتملاته ، فالألف واللام في (الْفَتْحِ) الثاني للعهد ، و (يَوْمَ) ظرف ، والعامل فيه (يَنْفَعُ) ، و (يُنْظَرُونَ) معناه يؤخرون ، ثم أمره تعالى بالإعراض عن الكفار وانتظار
الفرج ، وهذا مما نسخته آية السيف. وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ
مُنْتَظِرُونَ) أي العذاب ، بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون ، وقرأ
محمد بن السميفع «منتظرون» بفتح الظاء أي للعذاب النازل بهم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحزاب
هذه السورة مدنية
بإجماع فيما علمت وكذلك قال المهدوي وغيره.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢)
وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)
(٣)
قوله : (اتَّقِ) معناه دم على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء هو به متلبس
فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية ، وحذره تعالى من طاعة
الكافرين وهم الملجون بالكفر والمنافقين ، وهم المظهرون للإيمان وهم لا يبطنونه ،
وسبب الآية أنهم كانوا يتسخبون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالطلبات والإرادات ربما كان في إرادتهم سعي على الشرع وهم
يدخلونها مدخل النصائح ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخلقه العظيم وحرصه على استئلافهم ربما لا ينهم في بعض
الأمور ، فنزلت الآية بسبب ذلك تحذيرا له منهم وتنبيها على عداوتهم والنوازل في
طلباتهم كثيرة محفوظة ، وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) تسلية لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، أي لا عليك منهم ولا من إيمانهم فالله عليم بما ينبغي لك
حكيم في هدي من شاء وإضلال من شاء ، ثم أمره تعالى باتباع ما يوحى إليه وهو القرآن
الحكيم والاقتصار على ذلك ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) توعد ما ، وقرأ أبو عمرو وحده «يعملون» بالياء ، والتوعد
على هذه القراءة للكافرين والمنافقين أبين ، وقوله (كانَ) في هاتين الآيتين هي التي تقتضي الدوام ، أي كان ويكون ،
وليست الدالة على زمن مخصوص للمضي ، ثم أمره تعالى بالتوكل على الله في جميع أمره
وأعلمه أن ذلك كاف مقنع ، والباء في قوله (بِاللهِ) زائدة على مذهب سيبويه ، وكأنه قال «وكفى الله» ، وهي عنده
نحو قولهم : بحسبك أن تفعل ، وغيره يراها غير زائدة متعلقة ب (كَفى) على أنه بمعنى اكتف بالله ، و «الوكيل» القائم بالأمر
المغني فيه عن كل شيء.
قوله عزوجل :
(ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ)
(٤)
اختلف الناس في
السبب في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، فقال ابن عباس
سببها أن بعض
المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم
عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فنفاه الله تعالى عنه ، وقال ابن عباس أيضا بل
سببه أنه كان في قريش في بني فهر رجل فهم يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين ،
قال الثعلبي وهو ابن معمر وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ، فلما وقعت هزيمة
بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت الآية بسببه ونفيا
لدعواه ، وقيل إنه كان ابن خطل ، قال الزهري جاء هذا اللفظ على جهة المثل في زيد
بن حارثة والتوطئة لقوله تعالى : (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، أي كما ليس لأحد قلبان كذلك ليس دعيه ابنه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت
وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن بعض العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلبان قلب
يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك ، ومن هذا قول الكميت : [الطويل]
تذكر من أنا ومن
أين شربه
|
|
يؤامر نفسيه كذي
الثلة الإبل
|
والناس حتى الآن
يقولون إذا وصفوا أفكارهم في شيء ما يقول لي أحد قلبي كذا ويقول الآخر كذا ، وكذا
كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقا وكانت تعتقد الدعي
المتبني ابنا فأعلم الله تعالى أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا أيضا طعن على
المنافقين الذين تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما حله إيمان وإما حله كفر
لأن درجة النفاق كأنها متوسطة يؤمن قلب ويكفر الآخر ، فنفاها الله تعالى وبين أنه
قلب واحد ، وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئا أو وهم يقول
على جهة الاعتذار (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، أي إذا نسي قلبه الواحد يذكره الآخر ، وكذلك أعلم أن
الزوجة لا تكون أما وأن الدعي لم يجعله ابنا ، وقرأ نافع وابن كثير «اللاء» دون
ياء ، وروي عن أبي عمرو وابن جبير «اللاي» بياء ساكنة بغير همز ، وقرأ ورش بياء
ساكنة مكسورة من غير همز ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وطلحة والأعمش
بهمزة مكسورة بعدها ياء ، وقرأ ابن عامر «تظاهرون» بشد الظاء وألف ، وقرأ عاصم
والحسن وأبو جعفر وقتادة «تظاهرون» بضم التاء وتخفيف الظاء ، وأنكرها أبو عمرو
وقال : إنما هذا في المعاونة.
قال القاضي أبو
محمد : وليس بمنكر ولفظة ظهار تقتضيه ، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم «تظاهرون»
بفتح التاء والظاء مخففة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تظّهّرون» بشد الظاء
والهاء دون ألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «تظهرون» بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء ،
وفي مصحف أبيّ بن كعب «تتظهرون» بتاءين ، وكانت العرب تطلق تقول أنت مني كظهر أمي
فنزلت الآية وأنزل الله تعالى كفارة الظهار ، وتفسير الظهار وبيانه أثبتناه في
سورة المجادلة ، وقوله (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الآية سببها أمر زيد بن حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد ،
وذلك أنه كان عبدا لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأقام معه مدة ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال
لهما النبي صلىاللهعليهوسلم ـ وذلك قبل البعث ـ : «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون
فداء» ، فخيراه فاختار الرق مع محمد على حريته وقومه ، فقال محمد عليهالسلام : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» ، فرضي بذلك
أبوه وعمه
وانصرفا. وقوله
تعالى : (بِأَفْواهِكُمْ) تأكيد لبطلان القول ، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما
هو قول فقط ، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا
كثير ، و (يَهْدِي) معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر ، وقرأ قتادة «يهدّي»
بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، و (السَّبِيلَ) هو سبيل الشرع والإيمان ، وابن كثير والكسائي وعاصم في
رواية حفص يقفون «السبيلا» ويطرحونها في الوصل ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف
وصلا ووقفا ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلا ووقفا ، وهذا كله في غير هذا
الموضع ، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلا ووقفا لمكان ألف الوصل التي تلقى
اللام.
قوله عزوجل :
(ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً
رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)
(٦)
أمر الله تعالى في
هذه الآية بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه كان مولى وأخا في
الدين ، فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة إلى غير ذلك.
وذكر الطبري أن
أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين
ومولاكم ، قال الراوي : ولو علم والله أن أباه حمارا لا نتمى إليه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث ، و (أَقْسَطُ) معناه أعدل ، وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة ،
وقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) الآية رفع للحرج عمن وهم ونسي وأخطأ فجرى على العادة من
نسبة زيد إلى محمد وغير ذلك مما يشبهه ، وأبقى الجناح في التعمد مع النهي المنصوص
، وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) يريد لما مضى من فعلهم في ذلك ، ثم هي صفتان لله تعالى
تطرد في كل شيء ، وقالت فرقة «خطأهم» فيما كان سلف من قولهم ذلك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف لا يتصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي وإنما «الخطأ» هنا بمعنى
النسيان وما كان مقابل العمد ، وحكى الطبري عن قتادة أنه قال : «الخطأ» الذي رفع
الله تعالى فيه الجناح أن تعتقد في أحد أنه ابن فلان فتنسبه إليه وهو في الحقيقة
ليس بابنه ، والعمد هو أن تنسبه إلى فلان وأنت تدري أنه ابن غيره ، والخطأ مرفوع
عن هذه الأمة عقابه ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه». وقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أخشى عليكم النسيان. وإنما أخشى
العمد». وقوله
تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ) الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام
منها : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب
حديث عمر بن الخطاب ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من
ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا أو ضياعا ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ)». وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن
أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويؤيد هذا قوله عليهالسلام «أنا آخذ بحجزكم
عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش». وشرف تعالى أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة
وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها
: يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه
أمهاتهم وهو أب لهم» ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» ،
وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ
وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليهالسلام : (هؤُلاءِ بَناتِي) [هود : ٧٨] إنما
أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن ، ثم حكم بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته
من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام
بهذين الوجهين اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله
تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ،
وقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق ب (أَوْلى) الثانية ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى :
(إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا) يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله
قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ،
والقريب الكافر يوصى له بوصية ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصيا ، فجوز بعض ومنع
بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب
مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين.
قال القاضي أبو
محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضا حسن كما قدمناه ، إذ
ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام.
و (الْكِتابِ) الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و (مَسْطُوراً) من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته إسطارا ومنه قول العجاج «في
الصحف الأولى التي كان سطرا» ، قال قتادة وفي بعض القراءة «كان ذلك عند الله مكتوبا».
قوله عزوجل :
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً
غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً)
(٩)
(إِذْ) يحتمل أن تكون ظرفا لتسطير الأحكام المتقدمة في الكتاب ،
كأنه قال كانت هذه الأحكام مسطرة ملقاة إلى الأنبياء إذ أخذنا عليهم الميثاق في
التبليغ والشرائع ، فتكون (إِذْ) متعلقة بقوله (كانَ ذلِكَ فِي
الْكِتابِ مَسْطُوراً) ، [الأحزاب : ٦] ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل
تقديره واذكر إذ ، وهذا التأويل أبين من الأول ، وهذا «الميثاق» المشار إليه قال
الزجاج وغيره إنه الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، قالوا فأخذ
الله تعالى حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وبتصديق بعضهم بعضا وبجميع ما تتضمنه
النبوءة ، وروي نحوه عن أبيّ بن كعب ، وقالت فرقة بل أشار إلى أخذ الميثاق على كل
واحد منهم عند بعثه وإلى إلقاء الرسالة إليه وأوامرها ومعتقداتها ، وذكر الله
تعالى (النَّبِيِّينَ) جملة ، ثم خصص بالذكر أفرادا منهم تشريفا وتخصيصا ، إذ
هؤلاء الخمسة صلى الله عليهم هم أصحاب الكتب والشرائع والحروب الفاصلة على التوحيد
وأولو العزم ، ذكره الثعلبي ، وقدم ذكر محمد على مرتبته في الزمن تشريفا خاصا له
أيضا ، وروي عنه عليهالسلام أنه قال : «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث» ،
وكرر «أخذ الميثاق» لمكان الصفة التي وصف بها قوله (غَلِيظاً) إشعار بحرمة هذا الميثاق وقوتها ، واللام في قوله (لِيَسْئَلَ) متعلقة ب (أَخَذْنا) ، ويحتمل أن تكون لام كي ، أي بعثت الرسل وأخذت عليها
المواثيق في التبليغ لكي يجعل الله خلقه فرقتين ، فرقة صادقة يسألها عن صدقها على
معنى إقامة الحجة والتقرير كما قال لعيسى عليهالسلام «أأنت قلت للناس»
فتجيبه بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها فيثيبها على ذلك ، وفرقة كفرت
فينالها ما أعد لها من العذاب الأليم ويحتمل أن تكون اللام في قوله (لِيَسْئَلَ) لام الصيرورة ، أي أخذ المواثيق على الأنبياء ليصير الأمر
إلى كذا والأول أصوب ، والصدق في هذه الآية يحتمل أن يكون المضاد للكذب في القول ،
ويحتمل أن يكون من صدق الأفعال واستقامتها ، ومنه عود صدق وصدقني السيف والمال ،
وقال مجاهد (الصَّادِقِينَ) في هذه الآية أراد بهم الرسل ، أي يسألهم عن تبليغهم ،
وقال أيضا أراد المؤدين المبلغين عن الرسل وهذا كله محتمل ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآيات إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الأحزاب : ٢٨]. نزلت
في شأن غزوة الخندق وما اتصل بها من أمر بني قريظة ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أجلى بني النضير من موضعهم عند المدينة إلى خيبر ، فاجتمعت
جماعة منهم ومن غيرهم من اليهود ، وخرجوا إلى مكة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وحرضوهم على ذلك ، وأجمعت قريش السير إلى المدينة ، ونهض
اليهود إلى غطفان وبني أسد ومن أمكنهم من أهل نجد وتهامة ، فاستنفروهم إلى ذلك ،
فتحزب الناس وساروا إلى المدينة ، واتصل الخبر برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فحفر الخندق حول ديار بالمدينة وحصنه ، وكان أمرا لم
تعهده العرب ، وإنما كان من أعمال فارس والروم ، وأشار به سلمان الفارسي رضي الله
عنه ، فورد الأحزاب من قريش وكنانة والأحابيش في نحو عشرة آلاف
عليهم أبو سفيان
بن حرب ، ووردت غطفان وأهل نجد عليهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ،
ووردت بنو عامر وغيرهم عليهم عامر ابن الطفيل ، إلى غير هؤلاء ، فحصروا المدينة ،
وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على ما قال بن إسحاق ، وقال مالك كانت سنة أربع ،
وكانت بنو قريظة قد عاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الهدنة وعاقدوه على أن لا يلحقه منهم ضرر ، فلما تمكن
هذا الحصار داخلهم بنو النضير ، فغدروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونقضوا عهوده ، وصاروا له حزبا مع الأحزاب ، فضاق الحال
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، ونجم النفاق وساءت الظنون ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يبشر ويعد النصر ، وألقى الله تعالى الرعب في قلوب
المشركين ويئسوا من الظفر بمنعة الخندق وبما رأوا من جلد المؤمنين ، وجاء رجل من
قريش اسمه نوفل بن الحارث ، وقيل غير هذا ، فاقتحم الخندق بفرسه فقتل فيه ، فكان
ذلك حاجزا بينهم ، ثم إن الله تعالى بعث الصبا لنصرة نبيه عليهالسلام على الكفار ، وهجمت بيوتهم ، وأطفأت نارهم ، وقطعت حبالهم
، وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها قرار ، وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح
وتفعل مثل فعلها ، وتلقي الرعب في قلوب الكفرة حتى أزمعوا الرحلة بعد بضع وعشرين
ليلة للحصر ، فانصرفوا خائبين فهذه الجنود التي لم تر. وقرأ الحسن «وجنودا» بفتح
الجيم ، وقرأ الجمهور «تعملون» بالتاء فكأن في الآية مقابلة لهم ، أي أنتم لم تروا
جنوده وهو بصير بأعمالكم يبين في هذا القدرة والسلطان ، وقرأ أبو عمرو وحده «يعملون»
بالياء على معنى الوعيد للكفرة ، وقرأ أبو عمرو أيضا بالتاء وهما حسنتان ، وروي عن
أبي عمرو «لم يروها» بالياء من تحت ، قال أبو حاتم قراءة العامة «لم تروها» بالتاء
من فوق ، «يعملون» بالياء من تحت ، وروي عن الحسن ونافع «تعلمون» بالتاء مكسورة.
قوله عزوجل :
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)
(١٢)
(إِذْ) هذه لا بد من الأولى في قوله : (إِذْ جاءَتْكُمْ) [الأحزاب : ٩] ،
وقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِكُمْ) يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يريد مكة وسائر تهامة ، قاله مجاهد وقيل «من فوق وأسفل»
هنا إنما يراد به ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة وطائفة
في أسفلها ، وهذه عبارة عن الحصر ، و (زاغَتِ) معناه مالت عن مواضعها ، وذلك فعل الواله الفزع المختبل ،
وأدغم الأعمش (إِذْ زاغَتِ) وبين الذال الجمهور وكل حسن ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعا ويجد
كأن حشوته وقلبه يصعد علوا لينفصل ، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة بل
يشير لذلك وتجيش فيستعار لها بلوغ الحناجر ، وروى أبو سعيد الخدري أن المؤمنين
قالوا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : «نعم
، قولوا : اللهم استر عوراتنا ،
وأمن روعاتنا» ،
فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم ، وقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي تكادون تضطربون وتقولون ما هذا الخلف للموعد ، وهذه
عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها وأما المنافقون فجلحوا ونطقوا ،
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة «الظنونا» بالألف في
الوصل والوقف ، وذلك اتباع لخط المصحف ، وعلته تعديل رؤوس الآي وطرد هذه العلة أن
يلازم الوقف ، وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل ، فكان لا يوافق خط المصحف
وقياس الفواصل ، وقرأ أبو عمرو أيضا وحمزة في الوصل والوقف «الظنون» بغير ألف وهذا
هو الأصل ، وقرأ ابن كثير والكسائي وعاصم وأبو عمرو بالألف في الوقف وبحذفها في
الوصل ، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي على نحو فعل العرب في القوافي من الزيادة
والنقص. وقوله تعالى : (هُنالِكَ) ظرف زمان ، والعامل فيه (ابْتُلِيَ) ، ومن قال إن العامل فيه (وَتَظُنُّونَ) فليس قوله بالقوي لأن البدأة ليست متمكنة ، و (ابْتُلِيَ) معناه اختبر وامتحن الصابر منهم من الجازع ، (وَزُلْزِلُوا) معناه حركوا بعنف ، وقرأ الجمهور «زلزالا» بكسر الزاي ،
وقرأها «زلزالا» بالفتح الجحدري ، وكذلك (زِلْزالَها) في (إِذا زُلْزِلَتِ) [الزلزلة : ١]
وهذا الفعل هو مضاعف زل أي زلزلة غيره ، ثم ذكر الله تعالى قول المنافقين والمرضى
القلوب ونبه عليهم على جهة الذم لهم ، وروي عن يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال
: يعدنا محمد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى
الغائط ما يعدنا (إِلَّا غُرُوراً) ، أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به ، وقال غيره
من المنافقين نحو هذا فنزلت الآية فيهم ، وقولهم (اللهُ وَرَسُولُهُ) إنما هو على جهة الهزء كأنهم يقولون على زعم هذا الذي يدعي
، أنه رسول يدل على هذا أن من المحال أن يكون اعتقادهم أن ذلك الوعد هو من الله
تعالى ومن رسوله ثم يصفونه بالغرور بل معناه على زعم هذا.
قوله عزوجل :
(وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ
دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما
تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً)
(١٥)
هذه المقالة روي
أن بني حارثة قالوها ، و (يَثْرِبَ) قطر محدود ، المدينة في طرف منه ، وقرأ أبو عبد الرحمن
السلمي وحفص عن عاصم ومحمد اليماني والأعرج «لا مقام لكم» بضم الميم ، والمعنى لا
موضع إقامة ، وقرأ الباقون «لا مقام» بفتح الميم بمعنى لا موضع قيام ، وهي قراءة
أبي جعفر وشيبة وأبي رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة ،
والمعنى في حومة القتال وموضع الممانعة. (فَارْجِعُوا) معناه إلى منازلكم وبيوتكم وكان هذا على جهة التخذيل عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والفريق المستأذن روي أن أوس بن قيظي استأذن في ذلك عن
اتفاق من عشيرته فقال (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ)
أي منكشفة للعدو ،
وقيل أراد خالية للسراق ، ويقال أعور المنزل إذا انكشف ومنه قول الشاعر :
له الشدة الأولى
إذا القرن أعورا
قال ابن عباس «الفريق»
بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار ، وقرأ ابن عباس وابن
يعمر وقتادة وأبو رجاء «عورة» بكسر الواو فيهما وهو اسم فاعل ، قال أبو الفتح صحة
الواو في هذه شاذة لأنها متحركة قبلها فتحة ، وقرأ الجمهور «عورة» ساكنة الواو على
أنه مصدر وصف به ، و «البيت المعمور» هو المنفرد المعرض لمن شاءه بسوء ، فأخبر
الله تعالى عن بيوتهم أنها ليست كما ذكروه وأن قصدهم الفرار ، وأن ما أظهروه من
أنهم يريدون حماية بيوتهم وخاصة نفوسهم ليس كذلك ، وأنهم إنما يكرهون نصر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ويريدون حربه وأن يغلب (وَلَوْ دُخِلَتْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) واشتد الخوف الحقيقي ، (ثُمَّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ) والحرب لمحمد وأصحابه لطاروا إليها وأتوها محبين فيها «ولم
يتلبثوا» في بيوتهم لحفظها (إِلَّا يَسِيراً) ، قيل قدر ما يأخذون سلاحهم ، وقرأ الحسن البصري ثم «سولوا
الفتنة» بغير همز وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سال العين فيها واو.
وحكى أبو زيد هما
يتساولان ، وروي عن الحسن «سيسلوا الفتنة» ، وقرأ مجاهد «سويلوا» بالمد ، وقرأ ابن
كثير ونافع وابن عامر «لاتوها» بمعنى فجاؤوها ، وقرأ عاصم وأبو عمرو «لآتوها»
بمعنى لأعطوها من أنفسهم وهي قراءة حمزة والكسائي فكأنها رد على السؤال ومشبهة له
، قال الشعبي : وقرأها النبي عليهالسلام بالمد ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد (كانُوا عاهَدُوا) على أن لا يفروا وروي عن يزيد بن رومان أن هذه الإشارة إلى
بني حارثة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهم مع بني سلمة كانتا الطائفتين اللتين همتا بالفشل يوم أحد ، ثم تابا
وعاهدا على أن لا يقع منهم فرار فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان وفي
قوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً) توعد ، والأقطار : النواحي ، أحدها قطر وقتر ، والضمير في (بِها) يحتمل المدينة ويحتمل (الْفِتْنَةَ).
قوله عزوجل :
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا
الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ
رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً)
(١٨)
أمر الله تعالى
نبيه في هذه الآية أن يخاطبهم بتوبيخ ، فأعلمهم بأن الفرار لا ينجيهم من القدر ،
وأعلمهم أنهم لا يمتعون في تلك الأوطان كثيرا ، بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة
، و «القليل» الذي استثناه هي مدة الآجال قاله الربيع بن خثيم ، ثم وقفهم على عاصم
من الله يسندون إليه ، ثم حكم بأنهم لا يجدون ذلك ولا ولي ولا نصير من الله عزوجل ، وقرأت فرقة «يمتعون» بالياء ، وقرأت فرقة «تمتعون»
بالتاء
على المخاطبة ، ثم
وبخهم بأن الله يعلم (الْمُعَوِّقِينَ) وهم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول ويمنعونهم بالأقوال
والأفعال من ذلك ، ويسعون على الدين ، وتقول عاقني أمر كذا وعوّقني إذا بالغت
وضعفت الفعل ، وأما «القائلون» فاختلف الناس في حالهم ، فقال ابن زيد وغيره أراد
من كان من المنافقين ، يقول لإخوانه في النسب وقرابته (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إلى المنازل والأكل والشرب وترك القتال ، وروي أن جماعة
منهم فعلت ذلك ، وروي أن رجلا من المؤمنين رجع إلى داره فوجد أخا له منافقا بين
يديه رغيف وشواء وتين ، فقال له : تجلس هكذا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في القتال ، فقال له أخوه : هلم إلى ما أنا فيه يا فلان
ودعنا من محمد فقد والله هلك وما له قبل بأعدائه ، فشتمه أخوه وقال : والله لأعرفن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذهب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فوجد الآية قد نزلت. وقالت فرقة بل أراد من كان من
المنافقين يداخل كفار قريش من العرب فإنه كان منهم من داخلهم وقال لهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إلى المدينة فإنكم تغلبون محمدا وتستأصلونه ، فالإخوان
على هذا هم في الكفر والمذهب السوء ، و (هَلُمَ) معناه : الدعاء إلى الشيء ، ومن العرب من يستعملها على حد
واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والجميع ، وهذا على أنها اسم فعل ، هذه لغة أهل
الحجاز ، ومنهم من يجريها مجرى الأفعال فيلحقها الضمائر المختلفة فيقول هلم وهلمي
وهلموا ، وأصل (هَلُمَ) هالمم نقلت حركة الميم إلى اللام فاستغني عن الألف وأدغمت
الميم في الميم لسكونها فجاء (هَلُمَ) ، وهذا مثل تعليل رد من أردد ، و (الْبَأْسَ) القتال ، و (إِلَّا قَلِيلاً) معناه إلا إتيانا قليلا ، وقلته يحتمل أن يكون لقصر مدته
وقلة أزمنته ، ويحتمل أن يكون لخساسته وقلة غنائه وأنه رياء وتلميع لا تحقيق.
قوله عزوجل :
(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)
(١٩)
(أَشِحَّةً) ، جمع شحيح ونصبه على الحال من (الْقائِلِينَ) [الأحزاب : ١٨] ،
أو من فعل مضمر دل عليه (الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب : ١٨] ،
أو من الضمير في (يَأْتُونَ) [الأحزاب : ١٨] أو
على الذم ، وقد منع بعض النحاة أن يعمل في هذه الحال (الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب : ١٨] و (الْقائِلِينَ) [الأحزاب : ١٨]
لمكان التفريق بين الصلة والموصول بقوله (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ) [الأحزاب : ١٨] وهو غير داخل في الصلة ، وهذا الشح قيل هو
بأنفسهم يشحون على المؤمنين بها ، وقيل هو بإخوانهم ، وقيل بأموالهم في النفقات في
سبيل الله ، وقيل بالغنيمة عند القسم. والصواب تعميم الشح أن يكون بكل ما فيه
للمؤمنين منفعة. وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ) قيل معناه فإذا قوي الخوف من العدو وتوقع أن يستأصل جميع
أهل المدينة لاذ هؤلاء المنافقون بك (يَنْظُرُونَ) نظر الهلع المختلط كنظر الذي (يُغْشى عَلَيْهِ
فَإِذا ذَهَبَ) ذلك (الْخَوْفُ) العظيم وتنفس المخنق سلقوا أي خاطبوا مخاطبة بليغة ، يقال
خطيب سلاق ومسلاق ومسلق ولسان أيضا
كذلك إذا كان
فصيحا مقتدرا ، وقرأ ابن أبي عبلة «صلقوكم» بالصاد ووصف الألسنة ب «الحدة» لقطعها
المعاني ونفوذها في الأقوال ، وقالت فرقة معنى قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) ، أي إذا كان المؤمنون في قوة وظهور وخشي هؤلاء المنافقون
سطوتك يا محمد بهم رأيتهم يصانعون وينظرون إليك نظر فازع منك خائف هلع ، فإذا ذهب
خوفك عنهم باشتغالك بعدو ونحوه كما كان مع الأحزاب (سَلَقُوكُمْ) حينئذ ، واختلف الناس في المعنى الذي فيه يسلقون ، فقال
يزيد بن رومان وغيره : ذلك في أذى المؤمنين وسبهم وتنقص الشرع ونحو هذا ، وقال
قتادة : ذلك في طلب العطاء من الغنيمة والإلحاح في المسألة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذان القولان يترتبان مع كل واحد من التأويلين المتقدمين في الخوف ، وقالت
فرقة السلق هو في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة
، وقوله تعالى : (أَشِحَّةً) حال من الضمير في (سَلَقُوكُمْ) ، وقوله (عَلَى الْخَيْرِ) يدل على عموم الشح في قوله أولا (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) ، وقيل في هذا معناه (أَشِحَّةً) على مال الغنائم ، وهذا مذهب من قال إن (الْخَيْرِ) في كتاب الله تعالى حيث وقع فهو بمعنى المال ، وقرأ ابن
أبي عبلة «أشحة» بالرفع ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم (لَمْ يُؤْمِنُوا) ولا كمل تصديقهم ، وجمهور المفسرين على أن هذه الإشارة إلى
منافقين لم يكن لهم قط إيمان ، ويكون قوله (فَأَحْبَطَ اللهُ) أي أنها لم تقبل قط ، فكانت كالمحبطة ، وحكى الطبري عن ابن
زيد عن أبيه أنه قال نزلت في رجل بدري نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني (فَأَحْبَطَ اللهُ) عمله في بدر وغيرها.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا فيه ضعف ، والإشارة ب (ذلِكَ) في قوله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً) يحتمل أن تكون إلى إحباط عمل هؤلاء المنافقين ، ويحتمل أن
تكون إلى جملة حالهم التي وصف من شحهم ونظرهم وغير ذلك من أعمالهم ، أي أن أمرهم
يسير لا يبالي به ولا له أثر في دفع خير ولا جلب شر.
قوله عزوجل :
(يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما
قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)
لَقَدْ
كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)
(٢١)
الضمير في (يَحْسَبُونَ) للمنافقين ، والمعنى أنهم من الجزع والفزع بحيث رحل (الْأَحْزابَ) وهزمهم الله تعالى وهؤلاء يظنون أنها من الخدع وأنهم (لَمْ يَذْهَبُوا) بل يريدون الكرة إلى غلب المدينة ، ثم أخبر تعالى عن معتقد
هؤلاء المنافقين أن ودهم لو أتى الأحزاب وحاصروا المدينة أن يكونوا هم قد خرجوا
إلى البادية في جملة (الْأَعْرابِ) وهم أهل العمود والرحيل من قطر إلى قطر ، ومن كان من العرب
مقيما بأرض مستوطنا فلا يسمون أعرابا وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من
القتال ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف «لو أنهم بدّى في الأعراب» شديدة الدال
منونة وهو جمع باد كغاز وغزى ، وروي عن ابن
عباس «لو أنهم
بدوا» ، وقرأ أهل مكة ونافع وابن كثير والحسن «يسألون» أي من ورد عليهم ، وقرأ أبو
عمرو وعاصم والأعمش «يسلون» خفيفة بغير همز على نحو قوله (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١]
وقرأ الجحدري وقتادة والحسن بخلاف عنه «يساءلون» أي يسأل بعضهم بعضا. قال الجحدري «يتساءلون»
، ثم سلى الله تعالى عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما «قاتلوا
إلا قتالا قليلا» لا نفع له ، قال الثعلبي هو قليل من حيث هو رياء من غير حسبة ولو
كان لله لكان كثيرا ، ثم أخبر تعالى على جهة الموعظة بأن كل مسلم ومدع في الإسلام
لقد كان يجب أن يقتدي بمحمد عليهالسلام حين قاتل وصبر وجاد بنفسه. وقرأ جمهور الناس «إسوة» بكسر
الهمزة ، وقرأ عاصم وحده «أسوة» بضم الهمزة وهما لغتان معناه قدوة ، وتأسى الرجل
إذا اقتدى ، ورجاء الله تعالى تابع للمعرفة به ، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل
الصالح ، (وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيراً) من خير الأعمال ، فنبه عليه ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يحسبون
الأحزاب قد ذهبوا فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا لو أنهم بادون في الأعراب».
قوله عزوجل :
(وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)
(٢٤)
وصف الله تعالى
المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى
على لسان نبيه ، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم ، فقالت فرقة :
أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم
بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك ، فلما رأوا الأحزاب (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره ، وقالت فرقة : أرادوا
بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤].
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية ، وفي قول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عند أمرهم بحفر الخندق ، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك ،
وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله ، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا
في ذاته لأن ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه ، ويحتمل أن يريد
إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في
نفس الإيمان ، وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بواو جمع ، و «التسليم» الانقياد
لأمر الله تعالى كيف جاء ، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عند اشتداد ذلك الخوف : يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل
من شيء نقوله؟ فقال :
«قولوا : اللهم
استر عوراتنا وأمن روعاتنا» ، فقالها المسلمون في تلك الضيقات. ثم أثنى الله على
رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم ، أي
نذرهم وعهدهم ، و «النحب» في كلام العرب النذر ، والشيء الذي يلتزمه الإنسان ،
ويعتقد الوفاء به ، ومنه قول الشاعر : «قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر» ، المعنى
أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير: [الطويل]
بطخفة جالدنا
الملوك وخيلنا
|
|
عشية بسطام جرين
على نحب
|
أي على أمر عظيم
التزم القيام ، كأنه خطر عظيم وشبهه ، وقد يسمى الموت نحبا ، وبه فسر ابن عباس هذه
الآية ، وقال الحسن (قَضى نَحْبَهُ) مات على عهد ، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى فيه
نحبه ، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه ، وهذا تجوز كأن الموت أمر لا بد للإنسان أن
يقع به فسمي نحبا ، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم
أنس بن مالك ، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال : لئن شهدت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم مشهدا ليرين الله ما أصنع ، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسنا
حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحا ، فقالت فرقة : إن هذه الإشارة هي إلى أنس
بن النضر ونظرائه ممن استشهد في ذات الله تعالى ، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين
(صَدَقُوا ما عاهَدُوا
اللهَ عَلَيْهِ) هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة ، وقالت فرقة :
الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام ، فالشهداء منهم ، والعشرة
الذين شهد لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالجنة منهم ، إلى من حصل في هذه المرتبة ممن لم ينص عليه
، ويصحح هذه المقالة ما روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان على المنبر فقال له أعرابي : يا رسول الله من الذي قضى
نحبه؟ فسكت النبي صلىاللهعليهوسلم ساعة ، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه
ثوبان أخضران فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين السائل؟ فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، قال : هذا
ممن قضى نحبه.
قال القاضي أبو
محمد : فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت ، وقال معاوية بن أبي سفيان
: إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «طلحة ممن قضى نحبه» ، وروت هذا المعنى عائشة عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ) يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح
وهو بسبيل ذلك (وَما بَدَّلُوا) وما غيروا ، ثم أكد بالمصدر ، وقرأ ابن عباس على منبر
البصرة «ومنهم من بدل تبديلا» ، رواه عنه أبو نصرة ، وروى عنه عمرو بن دينار «ومنهم
من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلا» ، واللام في قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ) لام الصيرورة والعاقبة ، ويحتمل أن تكون لام كي ، وتعذيب
المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة
وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه ، وعنهما
ثمرتان تعذيب ، أو رحمة ، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين ، وواحدة من
هاتين ، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله «ليعذب» ليديم على
النفاق قوله (إِنْ شاءَ) ومعادلته بالتوبة وبحرف (أَوْ) ولا يجوز أحد أن (إِنْ شاءَ) يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم الله على نفسه
بتعذيبه.
قوله عزوجل :
(وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً(٢٥)
وَأَنْزَلَ
الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
(٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)
(٢٧)
عدد الله تعالى في
هذه الآية نعمه على المؤمنين في هزم الأحزاب وأن الله تعالى ردهم (بِغَيْظِهِمْ) لم يشفوا منه شيئا ولا نالوا مرادا ، (وَكَفَى) كل من كان مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقاتل الأحزاب ، وروي أن المراد ب (الْمُؤْمِنِينَ) هنا علي بن أبي طالب وقوم معه عنوا للقتال وبرزوا ودعوا
إليه وقتل علي رجلا من المشركين اسمه عمرو بن عبد ود ، فكفاهم الله تعالى مداومة
ذلك وعودته بأن هزم الأحزاب بالريح والملائكة وصنع ذلك بقوته وعزته.
قال أبو سعيد
الخدري : حبسنا يوم الخندق فلم نصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء حتى كان
بعد هوى من الليل كفينا وأنزل الله تعالى ، (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ، وأمر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بلالا فأقام وصلى الظهر فأحسنها ثم كذلك حتى صلى كل صلاة
بإقامة. وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ) يريد بني قريظة بإجماع من المفسرين ، قال الرماني وقال
الحسن الذين أنزلوا (مِنْ صَياصِيهِمْ) بنو النضير ، وقال الناس : هم بنو قريظة ، وذلك أنهم لما
غدروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم وظاهروا الأحزاب عليه أراد الله تعالى النقمة منهم ، فلما
ذهب الأحزاب جاء جبريل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقت الظهر فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك بالخروج إلى
بني قريظة ، فنادى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الناس وقال لهم : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»
، فخرج الناس إليها ووصلها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر وقوفا مع
لفظ النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يخطئهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك ، وصلى قوم في الطريق ورأوا أن قول النبي صلىاللهعليهوسلم إنما خرج مخرج التأكيد فلم يخطئهم أيضا ، وحاصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بني قريظة خمسا وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد بن
معاذ الأوسي ، وكان بينهم وبين الأوس حلف فرجوا حنوه عليهم ، فحكم فيهم سعد بأن
تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار
للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن تكون لهم أموال
، كما لكم أموال فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة فأمر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم برجالهم فأخرجوا أرسالا وضرب أعناقهم وهم من الثمانمائة
إلى التسعمائة ، وسيق فيهم حيي بن أخطب النضري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما ذهب الأحزاب دخل عندهم وفاء لهم ، فأخذه الحصر حتى
نزل فيمن نزل على حكم سعد ، فلما نزل وعليه حلتان فقاحيتان ويداه مجموعة إلى عنقه
أبصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : والله يا محمد أما
والله ما لمت نفسي
في عداوتك ، ولقد اجتهدت ، ولكن من يخذل الله يخذل ، ثم قال : أيها الناس إنه لا
بأس بأمر الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم تقدم فضربت عنقه ، وفيه يقول
جبل بن حوال الثعلبي : [الطويل]
لعمرك ما لام
ابن أخطب نفسه
|
|
ولكنه من يخذل
الله يخذل
|
لأجهد حتى أبلغ
النفس عذرها
|
|
وقلقل يبغي العز
كل مقلقل
|
و (ظاهَرُوهُمْ) معناه عاونوهم ، وقرأ عبد الله بن مسعود «آزروهم» وهي
بمعنى (ظاهَرُوهُمْ) و «الصياصي» : الحصون
، واحدها صيصية وهي كل ما يمتنع به ، ومنه يقال لقرون البقر الصياصي ، والصياصي
أيضا : شوك الحاكة ، وتتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة : [الطويل]
كوقع الصياصي في
النسيج الممدّد
والفريق المقتول :
الرجال المقاتلة ، والفريق المأسور : العيال والذرية ، وقرأ الجمهور «وتأسرون»
بكسر السين ، وقرأ أبو حيوة «تأسرون» بضم السين ، وقوله (وَأَوْرَثَكُمْ) استعارة من حيث حصل ذلك لهم بعد موت الآخرين من قبلهم ،
وقوله (وَأَرْضاً لَمْ
تَطَؤُها) ، يريد بها البلاد التي فتحت على المسلمين بعد كالعراق
والشام ومكة فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة وأخبر أنه قد قضى بذلك
قاله عكرمة ، وذكر الطبري عن فرق أنهم خصصوا ذلك ، فقال الحسن بن أبي الحسن : أراد
الروم وفارس ، وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة ، وقال يزيد بن رومان ومقاتل وابن
زيد : هي خيبر ، وقالت فرقة اليمن.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ولا وجه لتخصيص شيء من ذلك دون شيء.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)
(٢٩)
اختلف الناس في
سبب هذه الآية ، فقالت فرقة سببها غيرة غارتها عائشة ، وقال ابن زيد وقع بين
أزواجه عليهالسلام تغاير ونحوه مما شقي هو به فنزلت الآية بسبب ذلك ، ويسر
الله له أن يصرف إرادته في أن يؤوي إليه من يشاء ، وقال ابن الزبير : نزل ذلك بسبب
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سأله أزواجه النفقة وتشططن في تكليفه منها فوق وسعه ،
وقالت فرقة بل سبب ذلك أنهن طلبن منه ثيابا وملابس وقالت واحدة : لو كنا عند غير
النبي لكان لنا حلي ومتاع. وقال بعض الناس : هذه الآية أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتلاوتها عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة وأمر الطلاق
مرجا فلو اخترن أنفسهن نظر هو كيف يسرحهن وليس فيها تخييرهن في الطلاق ، لأن
التخيير يتضمن ثلاث تطليقات وهو قد قال (وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً) وليس مع بت الطلاق سراح جميل ، وقالت فرقة : بل هي آية
تخيير فاخترنه ولم يعد ذلك
طلاقا وهو قول
عائشة أيضا. واختلف الناس في التخيير إذا اختارت المرأة نفسها ، فقال مالك : هي
طالق ثلاثا ولا مناكرة للزوج بخلاف التمليك ، وقال غيره هي طلقة بائنة ، وقال بعض
الصحابة إذا خير الرجل امرأته فاختارته فهي طلقة وهذا مخالف جدا ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ
الدُّنْيا) أي إن كانت عظم همتكن ومطلبكن الدنيا أي التعمق فيها
والنيل من نعيمها وزينة الدنيا المال والبنون. (فَتَعالَيْنَ) دعاء ، و (أُمَتِّعْكُنَ) معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله تعالى له في قوله (وَمَتِّعُوهُنَ) [البقرة : ٢٣٦] ،
وأكثر الناس على أنها من المندوب إليه ، وقالت فرقة هي واجبة ، والسراح الجميل
يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المتعقد وحسن العشرة
وجميل الثناء وإن كان الطلاق باتا و (أَعَدَّ) معناه يسر وهيأ و «المحسنات» الطائعات لله والرسول.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وأزواج النبي اللواتي نزلت فيهن تسع ، خمس من قريش ، عائشة بنت أبي بكر
الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ،
وأم سلمة بنت أبي أمية ، وأربع من غير قريش ، ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية
بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث
المصطلقية.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما خرج من إيلائه الشهر ونزلت عليه هذه الآية بدأ بعائشة
وقال : «يا عائشة إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» ثم
تلا عليها الآية ، فقالت له : وفي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله
والدار الآخرة ، قالت وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه ثم تتابع أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله رضي الله عنهن.
قوله عزوجل :
(يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً(٣١) يا نِساءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)
(٣٢)
قال أبو رافع كان
عمر كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح ، فكان إذا بلغ (يا نِساءَ النَّبِيِ) رفع بها صوته ، فقيل له فقال أذكرهن العهد. وقرأ الجمهور «من
يأت» بالياء وكذلك «من يقنت» حملا على لفظ (مَنْ) ، وقرأ عمرو بن فائد الجحدري ويعقوب «من تأت» و «من تقنت»
بالتاء من فوق حملا على المعنى ، وقال قوم : «الفاحشة» إذا وردت معرفة فهي الزنا
واللواط ، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي كل ما يستفحش ، وإذا وردت موصوفة
بالبيان فهي عقوق الزوج وفساد عشرته ، ولذلك يصفها بالبيان إذ لا يمكن سترها ،
والزنا وغيره هو مما يتستر به ولا يكون مبينا ، ولا محالة أن الوعيد واقع على ما
خفي منه وما ظهر.
وقالت فرقة بل قوله (بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) تعم جميع المعاصي ، وكذلك الفاحشة كيف وردت. ولما كان
أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله تعالى ونواهيه قوي
الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب ،
والإشارة بالفاحشة إلى الزنا وغيره ، وقرأ ابن كثير وشبل وعاصم «مبيّنة» بالفتح في
الياء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وقتادة «مبينة» بكسر الياء ، وقرأت فرقة «يضعف»
بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه خارجة «نضاعف»
بالنون المضمومة ونصب «العذاب» وهي قراءة ابن محيصن ، وهذه مفاعلة من واحد كطارقت
النعل وعاقبت اللص ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «يضاعف» بالياء وفتح العين ، «العذاب»
رفعا ، وقرأ أبو عمرو «يضعّف» على بناء المبالغة بالياء «العذاب» رفعا وهي قراءة
الحسن وابن كثير وعيسى ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعّف» بالنون وكسر العين
المشددة «العذاب» نصبا وهي قراءة الجحدري. وقوله (ضِعْفَيْنِ) معناه أن يكون العذاب عذابين ، أي يضاف إلى عذاب سائر
الناس عذاب آخر مثله ، وقال أبو عبيدة وأبو عمرو ، وفيما حكى الطبري عنهما ، بل
يضاعف إليه عذابان مثله فتكون ثلاثة أعذبة وضعفه الطبري ، وكذلك هو غير صحيح وإن
كان له باللفظ تعلق احتمال ويكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول لأن العذاب في
الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة ، والإشارة بذلك إلى تضعيف العذاب. و (يَقْنُتْ) معناه يطيع ويخضع بالعبودية قاله الشعبي وقتادة ، وقرأ ابن
كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يقنت» بالياء ، «وتعمل» بالتاء ، و «نؤتها»
بالنون ، وهي قراءة الجمهور ، قال أبو علي أسند «يقنت» إلى ضمير فلما تبين أنه
المؤنث حمل فيما يعمل على المعنى ، وقرأ حمزة والكسائي كل الثلاثة المواضع بالياء
حملا في الأولين على لفظ (مَنْ) وهي قراءة الأعمش وأبي عبد الرحمن وابن وثاب ، وقرأ الأعمش
«فسوف يؤتها الله أجرها» ، و «الاعتداد» التيسير والإعداد ، و «الرزق الكريم»
الجنة ، ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي ، أي أن رزقها في الدنيا على الله وهو
كريم من حيث ذلك هو حلال وقصد وبرضى من الله في نيله ، وقال بعض المفسرين (الْعَذابُ) الذي توعد به (ضِعْفَيْنِ) هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف ، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هي عليه حال
الناس بحكم حديث عبادة بن الصامت ، وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ولا حفظ تقرره. ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من
نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم
المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ،
وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من
مكالمة الرجال برخيم القول ، و «لا تخضعن» معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في
القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريبا ، والعرب تستعمل لفظة
الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت
قط من توبة شيئا تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوما شعرا
ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [الطويل]
وذي حاجة قلنا
له لا تبح بها
|
|
فليس إليها ما
حييت سبيل
|
الحكاية ، وقال
ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمع» بالنصب على
أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمع» بالجزم وكسر
للالتقاء وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في
النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن
عمر «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض» في هذه الآية قال قتادة هو النفاق
، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول
المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
قوله عزوجل :
(وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
(٣٣)
قرأ الجمهور «وقرن»
بكسر القاف ، وقرأ عاصم ونافع «وقرن» بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار
تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن ، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد
تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفا ،
كما قالوا في ظللت ظلت ونقلوا حركتها إلى القاف واستغني عن الألف ، وقال أبو علي :
بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون
الراء بعدها ، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قررت بكسر الراء أقر بفتح القاف
في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف ، وذكرها الزجاج وغيره ،
وأنكرها قوم ، منهم المازني وغيره ، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت
العين ، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء ، وقرأ عاصم «في بيوتكن» بكسر
الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف وصل وراءين الأولى مكسورة ، فأمر الله
تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل (الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا
قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها ، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا
تعمرين كما يفعل أخواتك ، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي
قال الراوي : فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها.
قال القاضي أبو
محمد : وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها
عمار : إن الله أمرك أن تقري في بيتك ، و «التبرج» ، إظهار الزينة والتصنع بها
ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون ، واختلف الناس في (الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة ،
وحكيت لهم سير ذميمة ، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم ، وقال ابن عباس ما
بين نوح وإدريس وذكر قصصا ، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى ، وقال عامر الشعبي ما
بين عيسى ومحمد ، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من
الدر غير مخيط الجانبين.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن
سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان
أمر النساء دون حجبة وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم
جاهلية أخرى ، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي
في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في (الْجاهِلِيَّةِ) يقول إلى غير هذا ، و (الرِّجْسَ) اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص ،
فأذهب الله جميع ذلك عن (أَهْلَ الْبَيْتِ) ، ونصب (أَهْلَ الْبَيْتِ) على المدح أو على النداء المضاف ، أو بإضمار أعني ، واختلف
الناس في (أَهْلَ الْبَيْتِ) من هم ، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا
رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبيصلىاللهعليهوسلم.
وقالت فرقة : هي
الجمهور (أَهْلَ الْبَيْتِ) علي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي هذا أحاديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن
والحسين» رضي الله عنهم ، ومن حجة الجمهور قوله (عَنْكُمُ) و (يُطَهِّرَكُمْ) بالميم ، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن.
قال القاضي أبو
محمد : والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة ، ف (أَهْلَ الْبَيْتِ) زوجاته وبنته وبنوها وزوجها ، وهذه الآية تقضي أن الزوجات
من (أَهْلَ الْبَيْتِ) لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، أما أن أم سلمة قالت نزلت
هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء
أهل بيتي» ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» ، قالت أم
سلمة فقلت : وأنا يا رسول الله ، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير» ، وقال
الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن (الْبَيْتِ) يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه
منهم وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ
لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ
وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ
وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ
اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً)
(٣٥)
اتصال هذه الألفاظ
التي هي (وَاذْكُرْنَ) تعطي أن (أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣]
نساؤه ، وعلى قول الجمهور هي ابتداء مخاطبة أمر الله تعالى أزواج النبي عليهالسلام على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن ،
ولفظ الذكر هنا يحتمل مقصدين كلاهما موعظة وتعديد نعمة : أحدهما أن يريد
(اذْكُرْنَ) أي تذكرنه واقدرنه قدره وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن
تحسن أفعاله. والآخر أن يريد (اذْكُرْنَ) بمعنى احفظن واقرأن والزمنه الألسنة ، فكأنه يقول واحفظوا
أوامر الله ونواهيه ، وذلك هو الذي (يُتْلى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) ، وذلك مؤد بكن إلى الاستقامة ، و (وَالْحِكْمَةِ) هي سنة الله على لسان نبيه دون أن يكون في قرآن متلو ،
ويحتمل أن يكون وصفا للآيات ، وفي قوله تعالى : (لَطِيفاً) تأنيس وتعديد لنعمه ، أي لطف بكن في هذه النعمة ، وقوله (خَبِيراً) تحذير ما ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) الآية روي عن أم سلمة أنها قالت : إن سبب هذه الآية أنها
قالت للنبي صلىاللهعليهوسلم : يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء
ولا يذكرنا ، فنزلت الآية في ذلك ، وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج
النبي صلىاللهعليهوسلم فقلن لهن : ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء
بشيء فنزلت الآية في ذلك ، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر
المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ، فنزلت الآية في ذلك ، وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي
يعم الإيمان وعمل الجوارح ، ثم ذكر الإيمان تخصيصا وتنبيها على أنه عظم الإسلام
ودعامته ، و «القانت» : العابد المطيع ، و «الصادق» معناه : فيما عوهد عليه أن يفي
به ويكمله ، و «الصابر» : عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط ، و «الخاشع»
: الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور ، و «المتصدق» : بالفرض والنفل ، وقيل هي
في الفرض خاصة ، والأول أمدح ، و «الصائم» كذلك : في الفرض والنفل ، و «حفظ الفرج»
هو : من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في
طريقه ، وفي قوله : (الْحافِظاتِ) حذف ضمير يدل عليه المتقدم تقديره والحافظاتها ، وفي (الذَّاكِراتِ) أيضا مثله ، و «المغفرة» هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها ،
و «الأجر العظيم» الجنة.
قوله عزوجل :
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)
(٣٧)
قوله تعالى : (وَما كانَ) لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا ، وهذه العبارة
«ما كان» و «ما ينبغي» ونحوها تجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون ، وربما كان
امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] ،
وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) [الشورى : ٥١] ،
وربما كان حظره بحكم شرعي كهذه الآية ، وربما كان في المندوبات كما تقول : ما كان
لك يا فلان أن تترك النوافل ونحو هذا ، وسبب هذه الآية فيما قال قتادة وابن عباس
ومجاهد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب زينب بنت جحش فظنت أن الخطبة لنفسه فلما
بين أنه إنما
يريدها لزيد بن حارثة كرهت وأبت فنزلت الآية فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته ، وقال ابن
زيد إنما نزلت بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهبت نفسها للنبي صلىاللهعليهوسلم. فزوجها من زيد بن حارثة ، فكرهت ذلك هي وأخوها ، وقالا
إنما أردنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فزوجنا غيره ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، فأجابا إلى تزويج
زيد ، و (الْخِيَرَةُ) مصدر بمعنى التخير ، وهذه الآية في ضمن قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦]
وهذه الآية تقوى في قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] أن
تكون (ما) نافية لا مفعولة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن
عامر وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى «أن تكون» بالتاء على لفظ (الْخِيَرَةُ) ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن «أن
يكون» على معنى (الْخِيَرَةُ) وأن تأنيثها غير حقيقي ، وقوله في الآية الأخرى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] دون
علامة تأنيث يقوي هذه القراءة التي بالياء ، ثم توعد عزوجل وأخبر أن (مَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَ) ، وهذا العصيان يعم الكفر فما دونه ، وكل عاص يأخذ من
الضلال بقدر معصيته ، ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : (وَإِذْ تَقُولُ) الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة
وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلىاللهعليهوسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن
يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة
قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظما بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي
في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا ، وقرأ
ابن أبي عبلة «ما الله مظهره» ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى
ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلىاللهعليهوسلم طلب زيدا في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال
سبحان الله مقلب القلوب.
قال القاضي أبو
محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ،
وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن
النبي صلىاللهعليهوسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها
بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلىاللهعليهوسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله» أي في أقوالك و «أمسك
عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره
بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه
وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر قد
أباحه الله تعالى له وإن قال (أَمْسِكْ) مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال
، وقوله : (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِ) يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش ،
وهي بنت أميمة بنت
عبد المطلب عمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها
لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنها ليست كحرمة النبوة ، وروي أن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال
فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلىاللهعليهوسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي ،
فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلىاللهعليهوسلم ودخل بها ، و «الوطر» : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى
الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلىاللهعليهوسلم «وطرا زوجتكها».
قال الفقيه الإمام
القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص : ٧] إلى
أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في
الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور
الزوجان غائبان فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ،
وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ،
وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور
أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي
سبقت صفتي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجنة في سرقة حرير ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله
من فوق سبع سماوات.
وقال الشعبي :
كانت زينب تقول لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك
واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل.
قوله عزوجل :
(ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ
وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩)
ما
كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ
يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)
(٤٤)
هذه مخاطبة من
الله تعالى لجميع الأمة ، أعلمهم أنه لا حرج على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويج زينب بعد زيد ، ثم
أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء من أن ينالوا ما أحل الله لهم ،
وحكى الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليهالسلام حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها ، و (سُنَّةَ) نصب على المصدر أو على إضمار فعل تقديره الزم أو
نحوه. أو على
الإغراء كأنه قال فعليه سنة الله ، و (الَّذِينَ خَلَوْا) هم الأنبياء بدليل وصفهم بعد بقوله (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) ، و (أَمْرُ اللهِ) في الآية أي مأمورات الله والكائنات عن أمره فهي مقدورة ،
وقوله (قَدَراً) فيه حذف مضاف ، أي ذا قدر ، وقرأ ابن مسعود «الذين بلغوا
رسالات الله ، وقوله (وَلا يَخْشَوْنَ
أَحَداً إِلَّا اللهَ) تعريض بالعتاب الأول في خشية النبي عليهالسلام الناس ، ثم رد الأمر كله إلى الله وأنه المحاسب على جميع
الأعمال والمعتقدات (وَكَفى) به لا إله إلا هو ، ويحتمل أن يكون (حَسِيباً) بمعنى محسب أي كافيا ، وقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ) إلى قوله تعالى : (كَرِيماً) أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين
وغيرهم من نقد تزويج رسول الله صلىاللهعليهوسلم زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج
زوجة ابنه ، فنفى القرآن تلك البنوة وأعلم أن محمدا لم يكن في حقيقة أمره أبا أحد
من رجال المعاصرين له ، ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكن له ولد فيحتاج إلى الاحتجاج بأمر بنيه بأنهم كانوا
ماتوا ، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين ومن احتج بذلك فإنه تأول نفي
البنوة عنه بهذه الآية على غير ما قصد بها ، وقرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس «ولكن
رسول الله» بالرفع على معنى هو رسول الله ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج
وعيسى «رسول الله» بالنصب على العطف على (أَبا) ، وهؤلاء قرؤوا «ولكن» بالتخفيف ، وقرأت فرقة «ولكنّ» بشد
النون ونصب «رسول» على أنه اسم «لكنّ» والخبر محذوف ، وقرأ عاصم وحده والحسن
والشعبي والأعرج بخلاف «وخاتم» بفتح التاء بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم
والطابع لهم ، وقرأ الباقون والجمهور «خاتم» بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم أي جاء
آخرهم ، وروت عائشة أنه عليهالسلام قال : «أنا خاتم الأنبياء» بفتح التاء ، وروي عنه عليهالسلام أنه قال : «أنا خاتم ألف نبي» ، وهذه الألفاظ عند جماعة
علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلىاللهعليهوسلم ، وما ذكره القاضي ابن الطيب في كتابه المسمى بالهداية من
تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ، وما ذكره الغزالي في هذه الآية وهذا
المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد إلحاد عندي وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة
المسلمين في ختم محمد صلىاللهعليهوسلم النبوءة ، فالحذر الحذر منه والله الهادي برحمته ، وقرأ
ابن مسعود «من رجالكم ولكن نبينا ختم النبيين» ، قال الرماني ختم به عليهالسلام الاستصلاح فمن لم يصلح به فميئوس من صلاحه ، وقوله تعالى :
(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) والمقصد به هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح بمحمد وبما قدره
في الأمر كله ، ثم أمر تعالى عباده بأن يذكروه (ذِكْراً كَثِيراً) ، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقدير لسهولته على العبد
ولعظم الأجر فيه ، قال ابن عباس لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله
، وقال الكثير أن لا تنساه أبدا ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أكثروا ذكر الله
حتى يقولوا مجنون» ، وقوله تعالى : (وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أراد في كل الأوقات مجدد الزمان بطرفي نهاره وليله ، وقال
قتادة والطبري وغيره الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذه الآية مدنية فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولا صلاتين
في طرفي النهار ، والرواية بذلك ضعيفة ، والأصيل من العصر إلى الليل ، ثم عدد
تعالى على عباده
نعمته في الصلاة
عليهم وصلاة الله تعالى على العبد هي رحمته له وبركته لديه ونشره عليه الثناء
الجميل ، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين ، وروت فرقة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قيل له : يا رسول الله كيف صلاة الله على عباده؟ قال «سبوح
قدوس رحمتي سبقت غضبي».
قال الفقيه الإمام
القاضي : واختلف في تأويل هذا القول ، فقيل إن هذا كله من كلام الله وهي صلاته على
عباده ، وقيل سبوح قدوس هو من كلام محمد تقدمت بين يدي نقطة باللفظ الذي هو صلاة
الله وهو رحمتي سبقت غضبي ، وقدم عليهالسلام هذا من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله تعالى على
عباده وجها لا يليق بالله عزوجل ، فقدم التنزيه لله والتعظيم بين يدي أخباره ، وقوله (لِيُخْرِجَكُمْ) أي صلاته وصلاة ملائكته لكي يهديكم وينقذكم من الكفر إلى
الإيمان ، ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم ، وقوله (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) قيل يوم القيامة المؤمن تحييه الملائكة ب «السلام» ومعناه
السلامة من كل مكروه ، وقال قتادة يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، أي
سلمنا وسلمت من كل مخوف ، وقيل تحييهم الملائكة يومئذ ، و «الأجر الكريم» ، جنة
الخلد في جواره تبارك وتعالى.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)
وَداعِياً
إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً(٤٦) وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)
وَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)
(٤٩)
هذه الآية فيها
تأنيس للنبي عليهالسلام وللمؤمنين وتكريم لجميعهم ، و (شاهِداً) ، معناه على أمتك بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم في تبليغ
أنبيائهم ونحو ذلك و (مُبَشِّراً) معناه للمؤمنين ، برحمة الله تعالى وبالجنة ، (وَنَذِيراً) معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد ، قال ابن
عباس : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا ومعاذا فبعثهما إلى اليمن وقال «اذهبا فبشرا ولا
تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل علي» وقرأ الآية. والدعاء إلى الله تعالى هو
تبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة.
و (بِإِذْنِهِ) معناه هنا بأمره إياك وتقديره ذلك في وقته وأوانه ، (وَسِراجاً مُنِيراً) استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه فكأن المهديين به والمؤمنين
يخرجون به من ظلمة الكفر ، وقوله (وَبَشِّرِ) الواو عاطفة جملة على جملة والمعنى منقطع من الذي قبله ،
أمره الله تعالى بأن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله.
قال القاضي أبو
محمد : قال لنا أبي رضي الله عنه : هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى لأن
الله تعالى أمر نبيه أن يبشر المؤمنين (بِأَنَّ لَهُمْ) عنده (فَضْلاً كَبِيراً) ، وقد بين تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ
الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) [الشورى : ٢٢] ،
فالآية التي في هذه السورة خبر والتي في (حم عسق) [الشورى : ١] تفسير لها ، وقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ
وَالْمُنافِقِينَ) نهي له عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب
وفي أشياء كانوا يدخلونها مدخل النصائح وهي غش إلى نحو هذا المعنى ، وقوله تعالى :
(وَدَعْ أَذاهُمْ) يحتمل معنيين : أحدهما أن يأمره بترك أن يؤذيهم هو
ويعاقبهم فكأن المعنى واصفح عن زللهم ولا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول
، ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين وناسخه آية السيف ، والمعنى
الثاني أن يكون قوله (وَدَعْ أَذاهُمْ) بمعنى أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك به ، فالمصدر على هذا
التأويل مضاف إلى الفاعل ، وهذا تأويل مجاهد. ثم أمره تعالى بالتوكل عليه ، وأنسه
بقوله (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) ، ففي قوة الكلام وعد بنصر وتقدم القول في (كَفى بِاللهِ) ، والوكيل الحافظ القائم على الأمر ، ثم خاطب تعالى
المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء ، واستدل بعض الناس بقوله (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) وبمهلة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح ، وأن من
طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه ، وقال هذا نيف على ثلاثين من
صاحب وتابع وإمام ، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين ، وقالت طائفة عظيمة من أهل
العلم : إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح ، فمنهم مالك
وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة ، وقرأ جمهور القراء «تمسوهن» ، وقرأ حمزة
والكسائي وطلحة وابن وثاب «تماسوهن» والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي
لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل ، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها ، وقرأ جمهور
الناس «تعتدّونها» بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد ، وروى ابن أبي بزة عن
أبي بكر «تعتدونها» بتخفيف ضمة الدال من العدوان ، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها
عدوانا وظلما لهن ، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر ، وتخفيف الدال وهم من ابن
أبي بزة ، ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء ، واختلف الناس في المتعة ،
فقالت فرقة هي واجبة ، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه ، وقالت فرقة
المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها ، وقال سعيد بن المسيب : بل
المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية ، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما
تضمنته هذه الآية من المتعة.
وهذه الآية خصصت
آيتين إحداهما ، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، فخصصت هذه الآية من لم
يدخل بها ، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر ، وهن من قعدن عن المحيض ، ومن لم
يحضن من صغر المطلقات قبل البناء ، و «السراح الجميل» هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة
وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ
يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
عَلِمْنا
ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا
يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(٥٠)
قرأ الجمهور «اللاتي»
بالتاء من فوق ، وقرأ الأعمش «اللايي» بياءين من تحت ، وذهب ابن زيد والضحاك في
تفسير قوله (إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) إلى أن المعنى أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة
يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم
والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه ، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفا وتنبيها منهن إذ
قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى : (أَزْواجَكَ اللَّاتِي
آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة
مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم ، لا سيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف
ابن مسعود «وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك» ، ثم قال بعد هذه (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) [الأحزاب : ٥١] أي
من هذه الأصناف كلها ، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) [الأحزاب : ٥٢]
فيجيء هذا الضمير مقطوعا من الأول عائدا على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك ،
وتأول غير ابن زيد قوله (أَحْلَلْنا لَكَ
أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر
، وأن ملك اليمين بعد حلال له ، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه
وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له ، فيجيء الأمر على هذا
التأويل أضيق على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه ، فلما نزلت
هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال
والخالات يسير ، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، لا سيما وقد قيد ذلك
شرط الهجرة معه والواهبة أيضا من النساء قليل ، فلذلك سر أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم بانحصار الأمر ، ثم يجيء قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) [الأحزاب : ٥١]
إشارة إلى من تقدم ذكره ، ثم يجيء قوله (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) [الأحزاب : ٥٢]
إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقا مطردا أكثر
من اطراده على التأويل الأول ، و «الأجور» المهور ، وقوله (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي رده إليك في الغنائم ، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه ، و
«ملك اليمين» أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل ممن سبي والشراء من الحربيين
كالسباء ، ومباح السباءة هو من الحربيين ، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه ،
ويسمى سبي الخبثة ، وقوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ) الآية ، يريد قرابته ، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها
قالت : خطبني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية فحرمني عليه لأني
لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء ، وقرأ جمهور الناس «إن وهبت» بكسر الألف وهذا
يقتضي استئناف الأمور ، إن وقع فهو حلال له ، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال
لم تكن عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين.
فأما بالهبة فلم
يكن عنده منهن أحد ، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي ، «أن وهبت»
بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه ، وفتح الألف يجري مع
التأويل الآخر ، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبيصلىاللهعليهوسلم على الجملة ، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت
الحارث ، وقال علي بن الحسين هي أم شريك ، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم
المساكين ، وقال أيضا عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت
نفسها للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وامرأة مؤمنة وهبت» دون «إن»
، وقوله تعالى : (خالِصَةً لَكَ) أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة
نفسها لرجل ، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز ، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم
عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا : إذا
وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة ، وإلا فالأفعال التي
اشترطها هي أفعال النكاح بعينه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله (خالِصَةً لَكَ) يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى
وثلاث ورباع ، وقوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله
قتادة ومجاهد ، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع ، وقوله تعالى (لِكَيْلا) أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء ، ثم أنس تعالى الجميع
من المؤمنين بغفرانه ورحمته.
قوله عزوجل :
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ
وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
لا
يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)
(٥٢)
(تُرْجِي) معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «ترجيء»
بالهمز ، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي» بغير همز وهما لغتان بمعنى
، (وَتُؤْوِي) معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول رجى
الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء ، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في
جهة النساء ، والضمير في (مِنْهُنَ) عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في
ذلك ، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني ، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت
في
القسمة لها من
نفسك ، وتؤخر عنك من شئت ، وتكثر لمن شئت ، وتقل لمن شئت ، لا حرج عليك في ذلك ،
فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين
وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايرا وقع بين زوجات النبيصلىاللهعليهوسلم عليه فشقي بذلك ، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات ، وقال
أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء ، قال
أبو زيد : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن
أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب
وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء ، وقالت
فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء.
قال القاضي أبو
محمد : وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والإباحة له ، قالت عائشة : لما قرأ عليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) الآية ناسخ لقوله (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الآية ، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ
إلا هذا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وكلامه يضعف من جهات ، وقوله عزوجل (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) يحتمل معاني : أحدها أن تكون (مَنْ) للتبعيض ، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا
جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته ، ووجه ثان وهو أن يكون مقويا
ومؤكدا لقوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
وَتُؤْوِي مَنْ تَشاءُ) فيقول بعد (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ) فذلك سواء (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في جمعه ، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك
شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم ،
ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات ، وبكل واحد قالت فرقة. وقرأ جمهور
الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينهن» برفع «الأعين» ، وقرأ ابن محيصن «أن تقر أعينهن»
بضم التاء ونصب «الأعين» ، وقوله (بِما آتَيْتَهُنَ) أي من نفسك ومالك ، وقرأ جمهور الناس «كلّهن» بالرفع على
التأكيد للضمير في (يَرْضَيْنَ) ولم يجوز الطبري غير هذا ، وقرأ جويرية بن عابد بالنصب على
التأكيد في (آتَيْتَهُنَ).
قال الفقيه الإمام
القاضي : والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا
يسلمن للنبي صلىاللهعليهوسلم أنفة ، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة ، وقوله تعالى :
(وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي قُلُوبِكُمْ) خبر عام ، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من محبة شخص دون شخص ، وكذلك يدخل في المعنى أيضا
المؤمنون. وقوله (حَلِيماً) صفة تقتضي صفحا وتأنيسا في هذا المعنى ، إذ هي خواطر وفكر
لا يملكها الإنسان في الأغلب ، واتفقت الروايات على أنه
عليهالسلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطا
لنفسه وأخذا بالفضل ، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمنا لمسرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي
كنّ عنده ، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها ، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم شهرا ، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله ،
جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن ، ونسخ بذلك
ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد الأصناف التي سميت ، ومن قال إن الإباحة كانت له
مطلقة قال هنا (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ) معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا تأويل فيه بعد ، وإن كان روي عن مجاهد ، وكذلك روي أن تبدل
اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات ، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير ، وقال أبيّ
بن كعب (مِنْ بَعْدُ) يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك ، وأمر مع ذلك
بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك ، وقيل
بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن
زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا
، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هذه عائشة ، فقال عيينة : يا رسول الله إن شئت نزلت لك
عن سيدة العرب جمالا ونسبا فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت
صبية فقال هذا القول ، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل» بالتاء على معنى جماعة النساء
، وقرأ الباقون «لا يحل» بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث
لفظ النساء ليس بحقيقي ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) ، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة (أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها ، وقد
أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «انظر إليها فإنه
أجدر أن يؤدم بينكما» وقال عليهالسلام لآخر : «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» ، قال
الحميدي يعني «صغرا» ، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت
الضحاك على أجار من أجاجير المدينة فقلت له أتفعل هذا؟ فقال نعم ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر
إليها» ، وقوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ ما) في موضع رفع بدل من (النِّساءُ) ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، وفي النصب
ضعف ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك ، وهو في
موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول ، و «الرقيب» فعيل بمعنى فاعل أي راقب.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى
طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ
وَلكِنْ
إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ
لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ
مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ
لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)
(٥٣)
هذه الآية تضمنت
قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس والثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى
فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا
، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد
فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ،
قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر
بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك ، وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي : إن
هذا السبب جرى في بيت أم سلمة والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس من
المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلىاللهعليهوسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون
، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي
عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب
فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر القعود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفا ،
وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية
الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم مرارا في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت
امرأة تفرع النساء طولا فناداها عمر قد عرفناك يا سودة حرصا على الحجاب.
وقالت له زينب بنت
جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر
يتابع حتى نزلت آية الحجاب ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث :
منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، وعسى ربه إن طلقكن الحديث ، وكانت سيرة القوم إذا
كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه
في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن
أمثال ذلك في بيت النبي صلىاللهعليهوسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله
تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام
، و (ناظِرِينَ) معناه منتظرين و (إِناهُ) مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آنا ، ومنه قول الشاعر :
[الوافر]
تمخضت المنون له
بيوم
|
|
أنى ولكل خاتمة
تمام
|
وقرأ الجمهور بفتح
النون من «إناه» وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون
عند الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ) عطف على قوله (غَيْرَ ناظِرِينَ) و (غَيْرَ) منصوبة على الحال من الكاف والميم في (لَكُمْ) أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بكسر
الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم» ، وقرأ الأعمش «آناءه» على جمع «أنى»
بمدة بعد النون ، وقرأت فرقة «فيستحيي» بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت
فرقة «فيستحيي» بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي) معناه لا يقع منه ترك قوله (الْحَقِ) ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله
تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : (وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع» عام في جميع ما يمكن أن
يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَ) يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء
في أمر الرجال ، وقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي
عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله.
قال الفقيه الإمام
القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن
رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد
يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم
الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت
الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد تزوجها ولم يبن بها فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق
منه فقال له عمر : مهلا يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا
أرخى عليها حجابا وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر ، وذهب عمر إلى
أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت
عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر
، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلىاللهعليهوسلم.
قوله عزوجل :
(إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
لا
جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا
أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً)
(٥٥)
قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ
فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) توبيخ ووعيد لمن تقدم به التعريض في الآية قبلها ممن أشير
إليه بقوله (ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ) [الأحزاب : ٥٣]
ومن أشير إليه في
قوله (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ) [الأحزاب : ٥٣]
فقيل لهم في هذه إن الله يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة
ويجازيكم عليها ، ثم ذكر تعالى الإباحة فيمن سمي من القرابة إذ لا تقضي أحوال
البشر إلا مداخلة من ذكر وكثرة ترداده وسلامة نفسه من أمر الغزل لما تتحاماه
النفوس من ذوات المحارم ، فمن ذلك الآباء والأولاد والإخوة وأبناؤهم وأبناء
الأخوات ، وقوله : (وَلا نِسائِهِنَ) دخل فيه الأخوات والأمهات وسائر القرابات ومن يتصل من
المتصرفات لهن ، هذا قول جماعة من أهل العلم ، ويؤيد قولهم هذه الإضافة المخصصة في
قوله (نِسائِهِنَ) وقال ابن زيد وغيره إنما أراد جميع النساء المؤمنات وتخصيص
الإضافة إنما هو في الإيمان ، وقوله تعالى : (وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) قالت طائفة من الإماء دون العبيد ، وقالت طائفة من العبيد
والإماء ، ثم اختلفت هذه الطائفة ، فقالت فرقة : ما ملكت من العبيد دون من ملك
سواهن ، وقالت فرقة : بل من جميع العبيد كان في ملكهن أو في ملك غيرهن ، والكاتب
إذا كان معه ما يؤدي فقد أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بضرب الحجاب دونه ، وفعلت ذلك أم سلمة مع مكاتبها نبهان ،
ذكره الزهراوي ، وقالت فرقة دخل الأعمام في الآباء ، وقال الشعبي وعكرمة لم يذكرهم
لإمكان أن يصفوا لأبنائهم ، وكذلك الخال وكرها أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو
خالها ، واختلف المتأولون في المعنى الذي رفع فيه الجناح بهذه الآية فقال قتادة هو
الحجاب ، أي أبيح لهذه الأصناف الدخول على النساء دون حجاب ورؤيتهن ، وقال مجاهد
ذلك في رفع الجلباب وإبداء الزينة ، ولما ذكر تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت
الإباحة عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة على جملة وهذا في نهاية البلاغة والإيجاز ،
كأنه قال اقتصرن على هذا (وَاتَّقِينَ اللهَ) تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره ، ثم توعد تعالى بقوله (وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧)
وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)
(٥٨)
هذه الآية شرف
الله بها رسوله عليهالسلام وذكر منزلته منه وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة
سوء في أمر أزواجه ونحو ذلك ، وقوله (يُصَلُّونَ) ، قالت فرقة الضمير فيه لله وللملائكة ، وهذا قول من الله
تعالى شرف به ملائكته فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب عند النبيصلىاللهعليهوسلم : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد ضل ، فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بئس الخطيب أنت»
قالوا لأنه ليس لأحد من البشر أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير واحد ولله
تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء ، وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره إن الله يصلي
على النبي وملائكته يصلون ، ودل الظاهر من القول على ما ترك ، وليس في الآية
اجتماع في ضمير ، وقالت فرقة : بل جمع الله
تعالى الملائكة مع
نفسه في ضمير وذلك جائز للبشر فعله ، ولم يقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بئس الخطيب أنت»
لهذا المعنى وإنما قاله لأن الخطيب وقف على «ومن يعصهما» وسكت سكتة ، ومما يؤيد
هذا أن في كلام النبي صلىاللهعليهوسلم في مصنف أبي داود «ومن يعصهما» فجمع ذكر الله تعالى مع
رسوله في ضمير ، ومما يؤيد القول الأول أن في كتاب مسلم «بئس الخطيب أنت قل ومن
يعص الله ورسوله».
قال القاضي أبو
محمد : وهذا يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له «بئس الخطيب أنت» (أصلح له
بعد ذلك جميع كلامه لأن فصل ضمير اسم الله تعالى من ضمير غيره أولى لا محالة فقال
له : «بئس الخطيب أنت» لموضع) خطأه في الوقف وحمله على الأولى في فصل الضميرين.
وإن كان جمعهما جائزا ، وقرأ الجمهور «وملائكته» بنصب التاء عطفا على المكتوبة ،
وقرأ ابن عباس «وملائكته» رفعا عطفا على الموضع قبل دخول (إِنَ) وفي هذا نظر ، وصلاة الله رحمة منه وبركة ، وصلاة الملائكة
دعاء ، وصلاة المؤمنين دعاء وتعظيم ، والصلاة على رسول الله في كل حين من الواجبات
وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه ، وقال عليهالسلام : «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود»
وصفتها ما ورد عنه عليهالسلام في كتاب الطبري من طريق ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية
قال له قوم من الصحابة : هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف نصلي عليك؟
قال : «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم
وارحم محمدا وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك
حميد مجيد» وفي بعض الروايات زيادة ونقص هذا معناه ، وقرأ الحسن «يا أيها الذين
آمنوا فصلوا عليه» وهذه الفاء تقوي معنى الشرط أي صلى الله فصلوا أنتم ، كما تقول
أعطيتك فخذ ، وفي حرف عبد الله «صلوا عليه كما صلىاللهعليهوسلموا تسليما» ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ) الآية ، قال الجمهور معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد
والشريك إليه ووصفه بما لا يليق به ، وفي الحديث قال الله شتمني عبدي فقال إن لي
ولدا وكذبني فقال إنه لن يبعث ، وقال عكرمة معناه بالتصوير والتعريض لفعل ما لا
يفعله إلا الله بنحت الصور وخلقها ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لعن الله المصورين» ، وقالت فرقة ذلك على حذف مضاف
تقديره يؤذون أولياء الله ، وإذاية الرسول هي بما يؤذيه من الأقوال في غير معنى
واحد من الأفعال أيضا ، قال ابن عباس نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت
حيي.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والطعن في تأمير أسامة إذاية له عليهالسلام ، ولعنوا معناه أبعدوا من كل خير ، وإذاية المؤمنين
والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة والبهتان والكذب الفاحش المختلف ،
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لأبيّ بن كعب : إني قرأت هذه الآية
البارحة ففزعت منها (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الآية والله إني لأضربهم وأنهرهم ، فقال له : اي يا أمير
المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوم ، وذكر أبو حاتم أن عمر بن الخطاب قرأ «إن
الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات» ثم قال يا أبي كيف تقرأ هذه الآية فقرأها كما قال
عمر.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(٥٩)
لما كانت عادة
العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية
إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليهالسلام بأمرهن بإدناء الجلابيب ، ليقع سترهن ويبين الفرق بين
الحرائر والإماء ، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلا أو شابا
وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن
، فنزلت الآية بسبب ذلك ، و «الجلباب» ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن
مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه ، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني
ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها ، وقال ابن عباس
أيضا وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها
لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، وقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ) أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء ، فإذا عرفن
لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى
يعلم من هي ، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر ،
وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى ، وفيها تأنيس
للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
قوله عزوجل :
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ
قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا
أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)
(٦٢)
اللام في قوله
تعالى : (لَئِنْ) هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في (لَنُغْرِيَنَّكَ) هي لام القسم ، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية
، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء ، فقالت فرقة : إن هذه الأصناف لم
تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد ، فهذه الآية دليل على بطلان القول
بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، وقالت فرقة : إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم
وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيدا بإزائه ، وهو مثل نهي النبي صلىاللهعليهوسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم
في سورة براءة وغير ذلك ، فهم لم يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد
كاملا. و (الْمُنافِقُونَ) صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه ، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة ، ومنه قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٣٢] و (الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم قوم من المنافقين كانوا
يتحدثون بغزو
العرب المدينة وبأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سيغلب ، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين ، فيحتمل أن
تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض ، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين ،
لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيها عليهم وتشريدا
بهم وغضا منهم ، و «نغرينك» معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك ، قال ابن عباس
المعنى لنسلطنك عليهم ، وقال قتادة لنحرشنك بهم ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل ، وقوله (إِلَّا قَلِيلاً) يحتمل أن يريد إلا جوارا قليلا أو وقتا قليلا ، ويحتمل أن
يريد إلا عددا قليلا ، كأنه قال إلا أقلاء ، وقوله تعالى : (مَلْعُونِينَ) يجوز أن ينتصب على الذم قاله الطبري ، ويجوز أن يكون بدلا
من أقلاء الذي قدرناه قبل في أحد التأويلات ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (يُجاوِرُونَكَ) كأنه قال ينتفون ملعونين ، فلما تقدر (لا يُجاوِرُونَكَ) تقدير ينتفون ، حسن هذا ، واللعنة الإبعاد ، و (ثُقِفُوا) معناه حصروا وقدر عليهم ، و (أُخِذُوا) معناه أسروا ، والأخيذ الأسير ومنه قول العرب أكذب من
الأخيذ الصيحان ، وقرأ جمهور الناس «وقتّلوا» بشد التاء ، ويؤيد هذا المصدر بعدها
، وقرأت فرقة بتخفيف التاء والمصدر على هذه القراءة على غير قياس ، قال الأعمش كل
ما في القرآن غير هذا الموضع فهو «قتلوا» بالتخفيف ، وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ) نصب على المصدر ، ويجوز فيه الإغراء على بعد ، و (الَّذِينَ خَلَوْا) هم منافقو الأمم وقوله (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي من مغالب يستقر تبديله فيخرج على هذا تبديل العصاة
والكفرة ، ويخرج عنه أيضا ما يبدله الله من سنة بسنّة بالنسخ.
قوله عزوجل :
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ
عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً(٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤)
خالِدِينَ
فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
يَوْمَ
تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا
إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا
آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)
(٦٨)
سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن وقت الساعة متى هي فلم يجب في ذلك بشيء ، ونزلت الآية
آمرة بأن يرد العلم فيها إلى الله تعالى إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله
تعالى بعلمها ، ثم توعد العالم بقربها في قوله (وَما يُدْرِيكَ) الآية ، أي فينبغي أن تحذر ، و (قَرِيباً) ظرف لفظه واحد جمعا ، وإفرادا ، ومذكرا ومؤنثا ، ولو كان
صفة للساعة لكان قريبة ، ثم توعد تعالى (الْكافِرِينَ) بعذاب لا ولي لهم منه ولا ناصر ، وقوله تعالى : (يَوْمَ) يجوز أن يكون متعلقا بما قبله والعامل (يَجِدُونَ) ، وهذا تقدير الطبري ، ويجوز أن يكون العامل فيه (يَقُولُونَ) ويكون ظرفا للقول.
وقرأ الجمهور «تقلّب
وجوههم» على المفعول الذي لم يسم فاعله بضم التاء وشد اللام المفتوحة ، وقرأ أبو
حيوة «تقلب» بفتح التاء بمعنى تتقلب ، وقرأ ابن أبي عبلة «تتقلب» بتاءين ، وقرأ
خارجة وأبو حيوة «نقلب» بالنون ، وقرأ عيسى بن عمر الكوفي «تقلب» بكسر اللام وضم
التاء أي تقلب السعير. وبنصب الوجوه في
هاتين القراءتين ،
فيتمنون يومئذ الإيمان وطاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم التمني ، ثم لاذوا بالتشكي
من كبرائهم في أنهم أضلوهم ، وقرأ جمهور الناس «سادتنا» وهو جمع سيد ، وقرأ الحسن
بن أبي الحسن وابن عامر وحده من السبعة وأبو عبد الرحمن وقتادة وأبو رجاء والعامة
في المسجد الجامع بالبصرة «ساداتنا» على جمع الجمع ، و (السَّبِيلَا) مفعول ثان لأن «أضل» معدى بالهمزة ، وضل يتعدى إلى مفعول
واحد فيما هو مقيم كالطريق والمسجد وهي سبيل الإيمان والهدى ، ثم دعوا بأن يضاعف
العذاب للكبراء المضلين أي عن أنفسهم وعمن أضلوا ، وقرأ عاصم وابن عامر وحذيفة بن
اليمان والأعرج بخلاف عنه «لعنا كبيرا بالباء من الكبر ، وقرأ الجمهور والباقون «لعنا
كثيرا» بالثاء ذات الثلاث والكثرة أشبه بمعنى اللعنة من الكبر أي العنهم مرات
كثيرة.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً(٦٩)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠)
يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(٧١)
الذين (آذَوْا مُوسى) هم قوم من بني إسرائيل ، واختلف الناس في الإذاية التي
كانت وبرأه الله منها ، فقالت فرقة هي قصة قارون ، وإدخاله المرأة البغي في أن
تدعي على موسى ثم تبرئتها له وإشهارها بداخلة قارون ، وقد تقدمت القصة في ذكر
قارون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه
إلى جبل مات هارون فيه ، فجاء موسى وحده ، فقال قوم هو قتله ، فبعث الله تعالى
ملائكة حملوا هارون حتى طافوا به في أسباط بني إسرائيل ورأوا آية عظيمة دلتهم على
صدق موسى ولم يكن فيه أثر ، وروي أنه حيي فأخبرهم بأمره وببراءة موسى ، وقال ابن
عباس وأبو هريرة وجماعة هي ما تضمنه حديث النبي صلىاللهعليهوسلم ، وذلك أنه كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليهالسلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هود آدر أو أبرص أو به
آفة فاغتسل موسى يوما وحده وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى يقول
ثوبي حجر ثوبي حجر ، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل ، فرواه سليمان مما ظن
به ، الحديث بطوله خرجه البخاري (فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا) و «الوجيه» المكرم
الوجه ، وقرأ الجمهور «وكان عند الله» ، وقرأ ابن مسعود «وكان عبد الله» ، ثم وصى عزوجل المؤمنين بالقول السداد ، وذلك يعم جميع الخيرات ، وقال
عكرمة : أراد لا إله إلّا الله ، و «السداد» يعم جميع هذا وإن كان ظاهر الآية يعطي
أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين ، ثم
وعد تعالى بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب ، وباقي
الآية بين.
قوله عزوجل :
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ
إِنَّهُ
كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(٧٣)
اختلف الناس في (الْأَمانَةَ) فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها ، وروي عنه
أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال ، وذهبت فرقة ، هي الجمهور ، إلى أنه كل شيء
يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة ، قال أبيّ بن
كعب من الأمانة ان ائتمنت المرأة على فرجها ، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة
، ومعنى الآية (إِنَّا عَرَضْنَا) على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي
الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، ويحتمل أن يكون هذا
بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ،
ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي
ولا أريد ثوابا» ، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم
لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه ، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير ، وقال الحسن (حَمَلَهَا) معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والعصاة على قدرهم ، وقال ابن عباس والضحاك وغيره (الْإِنْسانُ) آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي
أخرجته من الجنة ، وروي أن الله تعالى قال له : «يا آدم إني عرضت الأمانة على
السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها». قال
: وما فيها؟ قال : «إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت» ، قال نعم قد حملتها. قال ابن
عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه ، وقال ابن عباس وابن
مسعود (الْإِنْسانُ) ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه
أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره ،
وقال بعضهم (الْإِنْسانُ) النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة ، وقال الزجاج معنى
الآية (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ) في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن
فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا ، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه
من أوامرنا وشرعنا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : و (الْإِنْسانُ) على تأويله الكافر والعاصي ، وتستقيم هذه الآية مع قوله
تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] فعلى
التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] إجابة
لأمر أمرت به ، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيرت فيه ، وروي
أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت ، فلما عرضها الله تعالى على
آدم قال : أنا أحملها بين أذني وعاتقي ، فقال الله تعالى له : إني سأعينك قد جعلت
لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصارا لعدم صحتها ، وقال قوم : إن الآية
من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا
أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت
لأبتها وأشفقت
فعبر عن هذا المعنى بقوله (إِنَّا عَرَضْنَا) الآية ، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت
تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه ، وقوله (لِيُعَذِّبَ اللهُ) اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن
حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن وقرأ
الجمهور و «يتوب» بالنصب عطفا على قوله (لِيُعَذِّبَ) وقرأ الحسن بن أبي الحسن و «يتوب» بالرفع على القطع
والاستئناف ، وباقي الآية بين.
نجزت السورة
والحمد لله.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة سبأ
هذه السورة مكية
واختلف في قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) [سبأ : ٦] الآية ،
فقالت فرقة هي مكية ، والمراد المؤمنون بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل
الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه.
قوله عزوجل :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(١)
يَعْلَمُ
ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما
يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)
(٢)
الألف واللام في (الْحَمْدُ) لاستغراق الجنس ، أي (الْحَمْدُ) على تنوعه هو (لِلَّهِ) تعالى من جميع جهات الفكرة ، ثم جاء بالصفات التي تستوجب
المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض ، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته
بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في
علمه أن يغفر له من مؤمن ، وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ) يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضا وتكون الآية خبرا ،
أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من
صفاته ، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] أو
إلى قوله (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] و (يَلِجُ) معناه يدخل ، ومنه قول شاعر : [الطويل]
رأيت القوافي
يتلجن هوالجا
|
|
تضايق عنها أن
تولجها الابر
|
و (يَعْرُجُ) معناه يصعد ، وهذه الرتب حصرت كلما يصح علمه من شخص أو قول
أو معنى ، وقرأ أبو عبد الرحمن «وما ينزّل من السماء» بضم الياء وفتح النون وشد
الزاي.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ
الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي
الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)
(٥)
روي أن قائل هذه
المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا
حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل ردا وتكذيبا
وإيجابا لما نفاه وأجاز نافع الوقف على (بَلى) وقرأ الجمهور «لتأتينكم» بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم
قراءة «ليأتينكم» بالياء على المعنى في البعث.
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالم» بالخفض على البدل من (رَبِّي) ، وقرأ نافع وابن عامر «عالم» بالرفع على القطع ، أي هو
عالم ، ويصح أن يكون «عالم» رفع بالابتداء وخبره (لا يَعْزُبُ) وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء
إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي «علام»
على المبالغة وبالخفض على البدل و (يَعْزُبُ) معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور
القراء «لا يعزب» بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب» بكسرها وهما لغتان
، و (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني
بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغر ولا أكبر» عطفا على قوله (مِثْقالُ) وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغر وأكبر» بالنصب عطفا على (ذَرَّةٍ) ورويت عن أبي عمرو ، وفي قوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو
اللوح المحفوظ ، واللام من قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ) يصح أن تكون متعلّقة ، بقوله تعالى : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ويصح أن تكون متعلقة بقوله (لا يَعْزُبُ) ، ويصح أن تكون متعلقة بما في قوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) من معنى الفعل لأن المعنى إلا أثبته في كتاب مبين ، و «المغفرة»
تغمد الذنوب ، و «الرزق الكريم» الجنة (وَالَّذِينَ) معطوف على (الَّذِينَ) الأول أي وليجزي الذين سعوا ، و (مُعاجِزِينَ) معناه محاولين تعجيز قدرة الله فيهم ، وقرأ الجحدري وابن
كثير «معجزين» دون ألف أي معجزين قدرة الله تعالى بزعمهم ، وقال ابن الزبير :
معناه مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه وهذا هو سعيهم في
الآيات ، ثم بين تعالى جزاء الساعين كما بين قبل جزاء المؤمنين ، وقرأ عاصم في
رواية حفص «أليم» بالرفع على النعت للعذاب ، وقرأ الباقون «أليم» بالكسر على النعت
، ل (رِجْزٍ) ، و «الرجز» العذاب السيّء جدا ، وقرأ ابن محيصن «من رجز»
بضم الراء.
قوله عزوجل :
(وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)
أَفْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)
(٨)
قال الطبري
والثعلبي وغيرهما (وَيَرَى) معطوف على ما قبله من الأفعال والظاهر أنه فعل مستأنف وأن
الواو إنما عطفت
جملة على جملة وكأن المعنى الإخبار بأن أهل العلم يرون الوحي المنزل على محمد حقا
وأنه يهدي إلى صراط الله ، وقوله (الَّذِي أُنْزِلَ) مفعول ب (يَرَى) ، و (الْحَقَ) مفعول ثان وهو عماد ، و (الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) قيل هم من أسلم من أهل الكتاب.
وقال قتادة هم أمة
محمد المؤمنون به كان من كان ، (وَيَهْدِي) معناه يرشد ، و «الصراط» الطريق ، وأراد طريق الشرع والدين
، ثم حكي عن الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء ، أي قالها بعضهم
لبعض كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه : هل أدلك على أضحوكة ونادرة فلما كان
البعث عندهم من البعيد المحال جعلوا من يخبر به في حيز من يتعجب منه ، والعامل في (إِذا) فعل مضمر قبلها فيما قال بعض الناس تقديره «ينبئكم بأنكم
تبعثون إذا مزقتم» ، ويصح أن يكون العامل ما في قوله (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) من معنى الفعل لأن تقدير الكلام «ينبئكم إنكم لفي خلق جديد
إذا مزقتم» ، وقال الزجاج العامل في (إِذا) ، (مُزِّقْتُمْ) وهو خطأ وإفساد للمعنى المقصود ، ولا يجوز أن يكون العامل (يُنَبِّئُكُمْ) بوجه ، و (مُزِّقْتُمْ) معناه بالبلى وتقطع الأوصال في القبور وغيرها ، وكسر الألف
من (إِنَّكُمْ) لأن (يُنَبِّئُكُمْ) في معنى يقول لكم ولمكان اللام التي في الخبر ، و (جَدِيدٍ) معناه مجدد ، وقولهم (أَفْتَرى) هو من قول بعضهم لبعض ، وهي ألف الاستفهام دخلت على ألف
الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت مفتوحة غير ممدودة ، فكأن بعضهم استفهم بعضا عن محمد
أحال الفرية على الله هي حاله أم حال الجنون ، لأن هذا القول إنما يصدر عن أحد
هذين فأضرب القرآن عن قولهم وكذبه ، فكأنه قال ليس الأمر كما قالوا (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) والإشارة بذلك إليهم ، (فِي الْعَذابِ) يريد عذاب الآخرة لأنهم يصيرون إليه ، ويحتمل أن يريد (فِي الْعَذابِ) في الدنيا بمكابدة الشرع ومكابرته ومحاولة إطفاء نور الله
تعالى وهو يتم ، فهذا كله عذاب وفي (الضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي قربت الحيرة وتمكن التلف لأنه قد أتلف صاحبه عن الطريق
الذي ضل منه.
قوله عزوجل :
(أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ
نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
(٩)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ)
(١١)
الضمير في (يَرَوْا) لهؤلاء (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سبأ : ٨] وقفهم
الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم ، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم
سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم ولا عدم إحاطته بهم ، وقرأ
الجمهور «إن نشأ نخسف» و «نسقط» بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ
يخسف بهم أو يسقط» بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى
واختارها أبو عبيد ، و «خسف الأرض» هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها ، و «الكسف»
قيل هو
مفرد اسم القطعة ،
وقيل هو جمع كسفة جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر وأدغم
الكسائي الفاء في الباء في قوله (نَخْسِفْ بِهِمُ) قال أبو علي وذلك
لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في
الفاء كقوله اضرب فلانا ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله «اضرب محمدا» ولا
تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكرا ، لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغنة التي
في الميم ، والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له
على كل حال ، و «المنيب» الراجع التائب ، ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان
احتجاجا على ما منح محمدا ، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديما بكذا
وكذا ، فلما فرغ التمثيل لمحمدصلىاللهعليهوسلم رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو ،
والمعنى قلنا (يا جِبالُ) ، و (أَوِّبِي) معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يؤوب ، فقال ابن عباس
وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي ترده
بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة ، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان
الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يؤوبه ، فقيل له
التأويب ومنه قول الشاعر : [البسيط]
يومان يوم
مقامات وأندية
|
|
ويوم سير إلى
الأعداء تأويب
|
ومنه قول ابن أبي
مقبل : [الطويل]
لحقنا بحي أوبوا
السير بعد ما
|
|
دفعنا شعاع
الشمس والطرف مجنح
|
وقال مروح (أَوِّبِي) سبحي بلغة الحبشة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ضعيف غير معروف ، وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تسعدك
على ذلك ، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير
عليه من فوقه ، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال ، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي»
بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح ، وأمر الجبال كما
تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه
المثل «يا خيل الله اركبي» ومنه (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وهذا
كثير ، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة «والطير» بالرفع عطفا على
لفظ قوله (يا جِبالُ) ، وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر
«والطير» بالنصب فقيل ذلك عطف على (فَضْلاً) وهو مذهب الكسائي ، وقال سيبويه هو على موضع قوله (يا جِبالُ) لأن موضع المنادى المفرد نصب ، وقال أبو عمرو : نصبها
بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير ، و (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) معناه جعلناه لينا ، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له
كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار ، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد ، وروي أنه لقي
ملكا وداود يظنه إنسانا وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء ، فقال داود
لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك : نعم
العبد لو لا خلة فيه ، قال داود وما هي؟ قال : يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل
يديه لتمت فضائله ، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه
تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد ، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه
وليلته درعا تساوي
ألف درهم حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح
المسلمين ، وقوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ) قيل إن (أَنِ) مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل هي في موضع نصب
بإسقاط حرف الجر ، و «السابغات» الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليهالسلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله
تعالى : (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ
السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ : «كما تابعت سرد العنان
الخوارز» ، ومنه سرد الحديث ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق
ومنه قول الشاعر [القرطبي] : [الكامل]
وعليهما
مسرودتان قضاهما
|
|
دواد أو صنع
السوابغ تبع
|
ومنه قول دريد
بالفارسي المسرد ، فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا
تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من
خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها
، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل
، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضا رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله
صفائح فكانت ثقالا ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر
ما يأخذ من هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل
المنعة ، وقوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر
لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم.
قوله عزوجل :
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)
(١٢)
قال الحسن : عقر
سليمان الخيل أسفا على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيرا
منها وأسرع الريح تجري بأمره ، وقرأ جمهور القراء «الريح» بالنصب على معنى
ولسليمان سخرنا الريح ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج «الريح» بالرفع على
تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور ، وذلك على حذف مضاف تقديره
ولسليمان تسخير الريح ، وقرأ الحسن «ولسليمان تسخير الرياح» وكذلك جمع في كل
القرآن ، وقوله تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ) قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب
الزوال مسيرة شهر وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر ، فروي
عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره تدمر التي بنتها له الجن
بالصفاح والعمد فيقيل في إصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا ،
وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء ، وكان هذا البساط من خشب يحمل
فيما روي أربعة آلاف فارس وما
يشبهها من الرجال
والعدد ويتسع بهم ، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب
اختصاره.
وقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «خير الجيوش أربعة آلاف» وما كان سليمان ليعدو الخير ،
وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها شهر وروحتها شهر» وكان إذا أراد قوما لم يشعروا به حتى
يظلمهم في جو السماء ، وقوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) ، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين
جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب ، و (الْقِطْرِ) : النحاس ، وقالت فرقة (الْقِطْرِ) الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه ، كان يسيل له منه
عيون ، وقالت فرقة بل معنى (أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ) أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود ، قالوا
وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار ، و (عَيْنَ) على هذا التأويل بمعنى الذات ، وقالوا لم يلن النحاس ولا
ذاب لأحد قبله ، وقوله (مَنْ يَعْمَلُ) يحتمل أن (مِنَ) تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره
وسخرنا من الجن من يعمل ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في
المجرور ، و (يَزِغْ) معناه يمل أي ينحرف عاصيا ، وقال (عَنْ أَمْرِنا) يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة ،
ويقع ما يخالف الأمر ، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله «ومن يزغ عن أمرنا» بغير (مِنْهُمْ) ، وقوله تعالى : (مِنْ عَذابِ
السَّعِيرِ) قيل عذاب الآخرة ، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط
من نار السعير ، فمن عصى ضربه فأحرقه به.
قوله عزوجل :
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)
(١٣)
«المحاريب»
الأبنية العالية الشريفة ، قال قتادة القصور والمساجد ، وقال ابن زيد المساكن ،
والمحراب أشرف موضع في البيت ، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه ، وغلب عرف
الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد : [الخفيف]
كدمى العاج في
المحاريب أو كال
|
|
بيض في الروض
زهره مستنير
|
«والتماثيل» قيل كانت من زجاج ونحاس ،
تماثيل أشياء ليست بحيوان ، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان ، وكان هذا من الجائز
في ذلك الشرع.
قال القاضي أبو
محمد : ونسخ بشرع محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقال قوم : حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد ، وحكى مكي
في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ ، وما أحفظ من
أئمة العلم من يجوزه ، و «الجوابي» جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء
الذي يجمع قال الراجز : [الرجز]
فصحبت جابية
صهارجا
|
|
كأنه جلد السماء
خارجا
|
وقال مجاهد : «الجوابي»
جمع جوبة وهي الحفرة العظيمة في الأرض.
قال الفقيه الإمام
القاضي : ومنه قول الأعشى : [الطويل]
نفى الذم عن آل
المحلق جفنة
|
|
كجابية الشيخ
العراقيّ تفهق
|
وأنشده الطبري :
تروح على آل المحلق ، ويروى السيح بالسين غير نقط ، وبالحاء غير نقط أيضا ، وهو
الماء الجاري على وجه الأرض ، ويروى بالشين والخاء منقوطين ، فيقال أراد كسرى ويقال
أراد شيخا من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته ،
فهي تفهق أبدا فشبهت الجفنة بها لعظمها ، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد «الجوابي»
الحياض ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «كالجواب» بغير ياء في الوصل
والوقف ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير
بياء فيهما ، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز ، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز
والهاد ، وأيضا فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين
وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبدا عمل نقيضه ، و (راسِياتٍ) معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل. ولا يستطيع
على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس ، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا
بالطاعات ، وقوله تعالى : (شُكْراً) يحتمل أن يكون نصبه على الحال ، أي اعملوا بالطاعات في حال
شكر منكم لله على هذه النعم ، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول ، أي اعملوا
عملا هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده ،
وفي الحديث إن النبي صلىاللهعليهوسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال : «ثلاث من أوتيهن فقد
أوتي العمل شكرا العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر
والعلانية» ، وروي أن داود عليهالسلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك
نعمة لك ، فقال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي ، وقال ثابت : روي أن مصلى داود
لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا كانوا يتناوبونه دائما ، وكان سليمان عليهالسلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار ويطعم
المساكين الدرمك ، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال : أخاف أن أنسى الجياع
، وقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن تكون مخاطبة
لآل محمدصلىاللهعليهوسلم ، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض ، وسمع عمر بن الخطاب
رجلا يقول : اللهم اجعلني من القليل ، فقال له عمر : ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل :
أردت قوله عزوجل : (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) ، فقال عمر رحمهالله : كل الناس أعلم من عمر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وقد قال تعالى (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤] ، والقلة
أيضا بمعنى الخمول منحة من الله تعالى ، فلهذا الدعاء محاسن.
قوله عزوجل :
(فَلَمَّا قَضَيْنا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)
(١٤)
الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على سليمان ، و (قَضَيْنا) بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر
به متقدم في الأزل ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليهالسلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة
فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في
منافعها وتغرس لتتناسل ، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت؟ فقالت :
أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا ، فقال سليمان عليهالسلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي
فاستعد عليهالسلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته ، وجاءه بعد ذلك
ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة ، فروي أنه
أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها بابا ،
وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات ، ثم توفي صلىاللهعليهوسلم على تلك الحالة ، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة
وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة
كانت في أعاليها ، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها ، هذا في المدة التي
كان سليمانعليهالسلام حيا في القبة ، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن ، وروي
أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن
يترك على حاله تلك سنة ، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملا كان قد بدىء في
زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة ، فأحب الفراغ منه ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن
عصاه والعصا قد أكلته الأرض ، وهي الدودة التي تأكل العود ، فرأت الجن انحداره ،
فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق ، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى
دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتا ، فأخبر بموته ، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه
منذ سنة ، وقال بعض الناس : جعلت الأرضة فأكلت يوما وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في
العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة (دَابَّةُ الْأَرْضِ) على موته ، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته ،
وقال كثير من المفسرين (دَابَّةُ الْأَرْضِ) هي سوسة العود وهي الأرضة ، وقرأ ابن عباس والعباس بن
المفضل «الأرض» بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل ، وقالت فرقة (دَابَّةُ الْأَرْضِ) حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود ، وذلك موجود وليس
السوسة من دواب الأرض ، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي (الْأَرْضِ) هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة ، فكأنه
قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس ، وفي مصحف عبد الله «الأرض
أكلت منسأته» ، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر : [البسيط]
إذا دببت على
المنساة من هرم
|
|
فقد تباعد عنك
اللهو والغزل
|
وقرأ جماعة من
القراء «منساته» بغير همز منها أبو عمرو ونافع ، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقا
فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وإن
كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز ، وقال غيره أصلها
الهمز وهي «المنسأة» مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة
: [الطويل]
أمون كعيدان
الاران نسأتها
|
|
على لاحب كأنه
ظهر برجد
|
ويروى «وعنس»
كألواح وخففت همزتها جملة ، وكان القياس أن تخفف بين بين ، وقرأ باقي السبعة «منسأته»
على الأصل بالهمز ، وقرأ حمزة «منساته» بفتح الميم وبغير همز ، وقرأت فرقة «مسنأته»
بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ
القيس: [السريع]
فاليوم أشرب غير
مستحقب
|
|
إثما من الله
ولا واغل
|
وقرأت فرقة «من
ساته» بفصل «من» وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة ، فكأنه
قال «من ساته» ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس ، وقال
بعض الناس : إن سليمان عليهالسلام لم يمت إلا في سفر مضطجعا ولكنه كان في بيت مبني عليه
وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف وقرأ الجمهور «تبينت الجنّ» بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها
كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس ، هذا تأويل ، ويحتمل أن يكون قوله (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) بمعنى علمت الجن وتحققت ، ويريد (الْجِنُ) جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في (كانُوا) رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم
من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك ، قاله قتادة ، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء (لَوْ كانُوا) عالمين الغيب (ما لَبِثُوا) و (أَنْ) على التأويل الأول بدل من (الْجِنُ) وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة ، وقرأ يعقوب «تبينت الجن»
على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس ، و (أَنْ) على هذه القراءة بدل ، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط
حرف الجر أي «بأن» على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى.
قال الفقيه الإمام
القاضي : مذهب سيبويه أن (أَنْ) في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب
ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي
تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك : علمت أن لو قام زيد ما
قام عمرو ، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو ، فقوله (ما لَبِثُوا) على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب (لَوْ) وعلى الأقوال الأول جواب (لَوْ) وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ «تبينت الجن» أي تبينت
الإنس الجن ، و (الْعَذابِ الْمُهِينِ) هو العمل في تلك السخرة ، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم
الغيب لما خفي عليها موت سليمان ، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة
وهو ميت ، ف (الْمُهِينِ) المذل من الهوان ، قال الطبري وفي بعض القراءات «فلما خر
تبينت الإنس أن الجن لو كانوا» وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن
الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود.
قال القاضي أبو
محمد : وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن (وفي
معانيه بعد فاختصرته لذلك).
قوله عزوجل :
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
(١٥)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)
(١٧)
هذا مثل لقريش
بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا ، فانتقم الله منهم ، أي
فأنتم أيها القوم مثلهم و «سبأ» هنا أراد به القبيل ، واختلف لم سمي القبيل بذلك ،
فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أمّا للقبيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب
الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله
قيل هو ابن يشجب بن يعرب ، وروي في هذا القول أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سأله فروة بن مسيك عن «سبأ» فقال : هو اسم رجل منه تناسلت
قبائل اليمن.
وقرأ نافع وعاصم
وأبو جعفر وشيبة والأعرج «لسبإ» بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي ، وقرأ أبو عمرو
والحسن «لسبأ» بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة ، وقرأ جمهور القراء «في
مساكنهم» لأن كل أحد له مسكن ، وقرأ الكسائي وحده «في مسكنهم» بكسر الكاف أي في
موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة ، قال أبو علي والفتح حسن أيضا لكن هذا كما
قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود. قال هي لغة الناس
اليوم ، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقرأ حمزة وحفص «مسكنهم» بفتح
الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع ، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا
الإفراد هو كما قال الشاعر : [الوافر]
كلوا في بعض بطنكم
تعفوا
وكما قال الآخر : [البسيط]
قد عض أعناقهم جلد
الجواميس
و (آيَةٌ) معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته ، و (جَنَّتانِ) ابتداء وخبره في قوله عن (يَمِينٍ وَشِمالٍ) أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان ، وهي جملة بمعنى هذه حالهم
والبدل من (آيَةٌ) ضعيف ، وقد قاله مكي وغيره ، وقرأ ابن أبي عبلة «آية جنتين»
بالنصب ، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت
فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من
الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة ، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى
مرتفعا يسقي جنات جنتي الوادي ، قيل بنته بلقيس ، وقيل بناه حمير أبو القبائل
اليمينة كلها ، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم ، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة
متصلة من اليمن إلى الشام ، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان ، وقوله (كُلُوا) فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا ، و (طَيِّبَةٌ) معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة
من النعم سليمة من
الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين ، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن
عوف لا يدخله برغوث ولا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار ، وإذا
جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي ، وروي أن الماشي بمكتل فوق رأسه بين أشجاره
يمتلي مكتله دون أن يمد يدا ، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب
والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم ، وقرأ
رؤيس عن يعقوب «بلدة طيبة وربا غفورا» بالنصب في الكل ، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة
عشر نبيا فكفروا بهم وأعرضوا ، فبعث الله تعالى على ذلك السد جردا أعمى توالد فيه
وخرقه شيئا بعد شيء وأرسل سيلا في ذلك الوادي ، فيحتمل ذلك السد ، فيروى أنه كان
من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن
لم يمكنه الفرار ، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا
الوجه ، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولا فتعطل سقي الجنات ، واختلف
الناس في لفظة (الْعَرِمِ) فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : (الْعَرِمِ) في لغة اليمن : جمع عرمة ، وهو كل ما بني أو سنم ليمسك
الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : كأنها الجسور والسداد ونحوها ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذلك للمتأسي
أسوة ومآرب
|
|
عفا عليها العرم
|
رخام بناه لهم
حمير
|
|
إذا جاءه موارة
لم يرم
|
ومنه قول الآخر :
ومن سبأ
الحاضرين مأرب إذ
|
|
يبنون من دون
سيله العرما
|
وقال ابن عباس
وقتادة والضحاك (الْعَرِمِ) اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له ، وقال ابن
عباس أيضا إن سيل ذلك الوادي أبدا كان يصل إلى مكة وينتفع به ، وقال ابن عباس أيضا
(الْعَرِمِ) الشديد.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فكأنه صفة للسيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في
كلام العرب ، وقالت فرقة (الْعَرِمِ) اسم الجرذ.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف ، وقيل (الْعَرِمِ) اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل ، وقوله (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ) قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من «الخمط والأثل» لم
يكن جنات ، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك
ونحو هذا ، وقوله (ذَواتَيْ) تثنية ذات ، و «الخمط» شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره ،
وقيل «الخمط» كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه ، ومنه
تخمط اللبن إذا تغير طعمه ، و «الأثل» ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح ، وكذا قال
أبو حنيفة في كتاب النبات ، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر
، و «السدر» معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير ، وللخمط ثمر
غث هو البريد ، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكل»
بضم الهمزة وسكون
الكاف ، وقرأ
الباقون بضم الهمزة وضم الكاف ، وروي أيضا عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى
الجنى والثمر ، ومنه قوله تعالى (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥] أي
جناها ، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل» وصفته بخمط وما بعده ، قال أبو علي :
البدل هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالخمط نفسه والصفة أيضا كذلك
، لأن الخمط اسم لا صفة وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة
ومنها ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي : [الطويل]
عقار كماء الني
ليس بخمطة
|
|
ولا خلة يكوي
الشروب شبابها
|
وقرأ أبو عمرو
بإضافة «أكل» إلى «خمط» وبضم كاف «أكل خمط» ، ورجح أبو علي قراءة الإضافة ، وقوله (ذلِكَ) إشارة إلى ما أجراه عليهم ، وقوله (وَهَلْ نُجازِي) أي يناقش ويقارض بمثل فعل قدرا بقدر لأن جزاء المؤمنين
إنما هو بتفضيل وتضعيف ، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو (الْكَفُورَ) قاله الحسن بن أبي الحسن ، وقال طاوس هي المناقشة ، وكذلك
إن كان المؤمن ذا ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى ، والكافر يجازي ولا بد ، وقد قال عليهالسلام «من نوقش الحساب
عذب» ، وقرأ جمهور القراء «يجازى» بالياء وفتح الزاي ، وقرأ حمزة والكسائي «نجازي»
بالنون وكسر الزاي ، «الكفور» بالنصب ، وقرأ مسلم بن جندب «وهل يجزي» وحكى عنه أبو
عمرو الداني أنه قرأ «وهل يجزي» بضم الياء وكسر الزاي ، قال الزجاج يقال جزيت في
الخير وجازيت في الشر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : فترجح هذه قراءة الجمهور.
قوله عزوجل :
(وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا
باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ)
(١٩)
هذه الآية وما
بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل ، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين
والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها ،
وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام
يبيت في قرية ويقيل في قرية أخرى ، فلا يحتاج إلى حمل زاد و (الْقُرَى) المدن ، ويقال للمجتمع الصغير قرية أيضا ، وكلها من قريت
أي جمعت ، والقرى التي بورك فيها هي بلاد الشام بإجماع من المفسرين ، و «القرى
الظاهرة» هي التي بين الشام ومأرب وهي الصغار التي هي البوادي «قال ابن عباس : هي
قرى عربية بين المدينة والشام وقاله الضحاك» واختلف في معنى (ظاهِرَةً) فقالت فرقة : معناه مستعلية مرتفعة في الآكام والظراب وهي
أشرف القرى.
وقالت فرقة :
معناه يظهر بعضها من بعض فهي أبدا في قبضة المسافر لا يخلو من رؤية شيء منها فهي
ظاهرة بهذا الوجه.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والذي يظهر إليّ أن معنى (ظاهِرَةً) خارجة عن المدن ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر
المدن ، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن
، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم نزلنا بظاهر فلانة ،
أي خارجا عنها ، وقوله (ظاهِرَةً) نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية ، ومنه قول
الشاعر : [الطويل]
فلو شهدتني من
قريش عصابة
|
|
قريش البطاح لا
قريش الظواهر
|
يعني الخارجين عن
بطحاء مكة ، وفي حديث الاستسقاء وجاء أهل الضواحي يشكون الغرق ، وقوله تعالى : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل
في أخرى على أي طريق سلك لا يعوزه ذلك ، وقوله تعالى : (سِيرُوا) معناه قلنا لهم ، و (آمِنِينَ) معناه من الخوف من الناس المفسدين ، و (آمِنِينَ) من الجوع والعطش وآفات المسافر ، ثم حكى عنهم مقالة قالوها
على جهة البطر والأشر وهي طلب البعد بين الأسفار والإخبار بأنها بعيدة على
القراءات الأخر وذلك أن نافعا وعاصما وحمزة والكسائي قرؤوا «باعد بين أسفارنا»
بكسر العين على معني الطلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد «بعّد بين
أسفارنا» بشد العين وكسرها على معنى الطلب أيضا ، فهاتان قراءتان معناهما الأشر
بأنهم ملوا النعمة بالقرب وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وفي كتاب
الرماني أنهم قالوا لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأكثر قيمة ، وقرأ ابن
السميفع وسفيان بن حسين وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وابن الحنفية «ربّنا» بالنصب
«بعد بين أسفارنا» بفتح الباء وضم العين ونصب «بين» أيضا ، وقرأ سعيد بن أبي الحسن
من هذه الفرقة «بين» بالرفع وإضافته إلى الأسفار وقرأ ابن عباس وأبو رجاء والحسن
البصري وابن الحنفية أيضا «ربّنا» بالرفع «باعد» بفتح العين والدال ، وقرأ ابن
عباس وابن الحنفية أيضا وعمرو بن فائد ويحيى بن يعمر «ربّنا» بالرفع «بعّد» بفتح
العين وشدها وفتح الدال فهذه القراءة معناها الأشر بأنهم استبعدوا القريب ورأوا أن
ذلك غير مقنع لهم حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور وفي هذا تعسف وتسحب على أقدار
الله تعالى وإرادته وقلة شكر على نعمته بل هي مقابلة النعمة بالتشكي والاستضرار ،
وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم فغرقهم الله تعالى وخرب
بلادهم وجعلهم أحاديث ، ومنه المثل السائر «تفرقوا أيادي سبإ وأيدي سبإ» ويقال
المثل بالوجهين ، وهذا هو تمزيقهم (كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، وروي أن رسول الله قال : إن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء
السيل على مأرب وهو اسم نبدهم تيامن منها ستة قبائل أي إذ تبددت في بلاد اليمن
وتشاءمت منها أربعة فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار الذي منها بجيلة
وخثعم وطائفة قيل لها حمير بقي عليها اسم الأب الأول والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان
وخزاعة نزلت تهامة ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة وهم الأوس والخزرج ومنها عاملة
وغير ذلك ، ثم أخبر تعالى محمداصلىاللهعليهوسلم وأمته على جهة التنبيه بأن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل
مؤمن على الكمال ، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة
بوجه.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
وَما
كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ
مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)
(٢٢)
قرأ نافع وأبو
عمرو وابن عامر «ولقد صدق» بتخفيف الدال «إبليس» رفعا «ظنّه» بالنصب على المصدر ،
وقيل على الظرفية ، أي في ظنه ، وقيل على المفعول على معنى أنه لما ظن عمل عملا
يصدق به ذلك الظن ، فكأنه إنما أراد أن يصدق ظنه ، وهذا من قولك أخطأت ظني وأصبت
ظني ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «صدّق» بتشديد الدال ف «الظن» على هذا مفعول ب «صدّق»
وهي قراءة ابن عباس وقتادة وطلحة وعاصم والأعمش ، وقرأ الزهري وأبو الهجاج «ظنّه»
بالرفع ، وبلال بن أبي بردة «صدق» بتخفيف الدال «إبليس» بالنصب «ظنّه» بالرفع ،
وقرأت فرقة «صدق» بالتخفيف «إبليس» بالرفع على البدل وهو بدل الاشتمال ، ومعنى
الآية أن ما قال إبليس من أنه سيفتن بني آدم ويغويهم وما قال من أن الله لا يجد
أكثرهم شاكرين وغير ذلك كان ظنا منه فصدق فيهم ، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم «اتبعوه»
وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار ، وقوله (مِمَّنْ هُوَ مِنْها
فِي شَكٍ) يدل على ذلك و (مِنَ) في قوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لبيان الجنس لا للتبعيض ، لأن التبعيض يقتضي أن فريقا من
المؤمنين اتبعوا إبليس ، و «السلطان» الحجة ، وقد يكون الاستعلاء والاستقدار ، إذ
اللفظ من التسلط ، وقال الحسن بن أبي الحسن : والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنه
استمالهم فمالوا بتزيينه ، وقوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي لنعلمه موجودا ، لأن العلم به متقدم أزلا ، وقرأت فرقة «إلا
ليعلم» بالياء على ما لم يسم فاعله ، وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية ، آية تعجيز وإقامة حجة ، ويروى أن ذلك نزل عند
الجوع الذي أصاب قريشا ، والجمهور على «قل ادعوا» بضم اللام وروى عباس عن أبي عمرو
«قل ادعوا» بكسر اللام ، وقوله (الَّذِينَ) يريد الملائكة والأصنام وذلك أن قريشا والعرب كان منهم من
يعبد الملائكة ، ومنهم من يقول نعبدها لتشفع لنا ونحو هذا ، فنزلت هذه الآية معجزة
لكل منهم ، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة من أنهم (لا يَمْلِكُونَ) ملك الاختراع (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) في السماء (وَلا فِي الْأَرْضِ) وأنهم لا شرك لهم فيهما وهذان فيهما نوعا الملك إما
استبدادا وإما مشاركة ، فنفى عنهم جميع ذلك ، ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في
شيء من قدرته و «الظهير» المعين ، ثم تقرر في الآية بعد أن الذين يظنون أنهم
يشفعون لهم لا تصح منهم شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله تعالى في الشفاعة
في كافر.
قوله عزوجل :
(وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا
الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
(٢٣)
المعنى أن كل من
دعوتم إلها من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن ،
فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى
: (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) فقالت فرقة معناه (لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يشفع ، فيه ، وقالت فرقة معناه (لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يشفع هو.
قال القاضي أبو
محمد : واللفظ يعمهما ، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له
، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك ، وانظر أن اللام
الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله (لِمَنْ) تقول شفعت لفلان ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن» بضم
، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذن» بفتحها ، والضمير في (قُلُوبِهِمْ) عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة ، ففي الكلام حذف يدل
عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبدا حتى
إذا فزع عن قلوبهم.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن هذه الآية أعني قوله (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر
به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة ، وقيل خوف أن
تقوم الساعة فإذا فزع ذلك (فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ) أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) فيقول المسئولون قال (الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه
الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) [سبأ : ٢٢] لم
تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في
الكفار بعد حلول الموت (فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ) بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم
في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) فيقولون قال (الْحَقَ) يقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، وقالت فرقة الآية في جميع
العالم ، وقوله (حَتَّى إِذا) يريد في القيامة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ،
وهذان بعيدان ، وقرأ جمهور القراء «فزع» بضم الفاء ومعناه أطير الفزع عنهم ، وهذه
الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال ، لأن فعل أصلها الإدخال في الشيء كعلمت ونحوها
وقولك : فزعت زيدا معناه أزلت الفزع عنه ، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه ،
ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة ومنه مرضت فلانا أي أزلت عنه المرض.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوف ، وقرأ
ابن عامر «فزّع» بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي
المتوكل الناجي واليماني ، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فزع» بضم الفاء وكسر الزاي
وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع ، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة
فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر ، وقرأ أيوب عن الحسن أيضا
«فرّغ» بالفاء
المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ ، قال أبو حاتم
رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز.
وقرأ مطر الوراق عن
الحسن «فزع» على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضا «فرغ» بالراء غير
منقوطة مخففة من الفراغ ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه
إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيه ، قرأ عيسى بن عمر «حتى إذا افرنقع» وهي
قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف ، ومن قرأ شيئا من هذا
على بناء الفعل للمفعول فقوله عزوجل (عَنْ قُلُوبِهِمْ) في موضع رفع ، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله (عَنْ قُلُوبِهِمْ) في موضع نصب ، وافرنقع معناه تفرق ، وقوله (ما ذا) يجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ب (قالَ) ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال ، والنصب في
قوله (الْحَقَ) على نحوه في قوله (ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠]
لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل ، وحققوا هنا أن ثم ما قيل ، وقولهم (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) تمجيد وتحميد.
قوله عزوجل :
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ
لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ)
(٢٧)
أمر الله تعالى
نبيه على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على أن الرزاق لهم من السماوات والأرض من هو
ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي جواب السؤال إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال ،
وإذ لا جواب لهم ولا لمفطور إلا بأن يقول هو الله ، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه
في غاية الوضوح ، لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجة أخرى يوردها ، ونظائر
هذا في القرآن كثير وقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ) تلطف في الدعوة والمحاورة ، والمعنى كما تقول لمن خالفك في
مسألة أحدنا يخطىء ، أي تثبت وتنبه ، والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو المخطئ ،
وكذلك هذا معناه (لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فلينتبه ، والمقصد أن الضلال في حيز المخاطبين وحذف أحد
الخبرين لدلالة الباقي عليه ، وقال أبو عبيدة (أَوْ) في الآية بمعنى واو النسق ، والتقدير «وإنا وإياكم لعلى
هدى أو في ضلال مبين» وهما خبران غير مبتدأين.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا القول غير متجه واللفظ لا يساعده وإن كان المعنى على كل قول يقتضي
أن الهدى في حيز المؤمنين والضلال في حيز الكافرين ، وقوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) الآية مهادنة ومتاركة منسوخة بآية السيف ، وقوله عزوجل (قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا) الآية إخبار بالبعث من
القبور ، وقوله (يَفْتَحُ) معناه يحكم والفتاح القاضي وهي مشهورة في لغة اليمن ، وهذا
كله منسوخ بآية السيف ، وقوله تعالى (قُلْ أَرُونِيَ) يحتمل أن تكون رؤية قلب فيكون قوله (شُرَكاءَ) مفعولا ثالثا وهذا هو الصحيح أي أروني بالحجة والدليل كيف
وجه الشركة وقالت فرقة هي رؤية بصر و (شُرَكاءَ) حال من الضمير المفعول ب (أَلْحَقْتُمْ) العائد على (الَّذِينَ).
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ضعيف لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له ، وقوله (كَلَّا) رد لما تقرر من مذهبهم في الإشراك بالله تعالى ووصف نفسه عزوجل باللائق به من العزة والحكمة.
قوله عزوجل :
(وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ
يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)
(٣٠)
هذا إعلام من الله
تعالى بأنه بعث محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى جميع العالم ، و «الكافة» الجمع الأكمل من الناس ، و (كَافَّةً) نصب على الحال وقدمها للاهتمام ، وهذه إحدى الخصال التي خص
بها محمدصلىاللهعليهوسلم من بين الأنبياء التي حصرها في قوله «أعطيت خمسا لم يعطهن
أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع
الكلم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود
والأحمر» ، وفي هذه الخصال زيادة في كتاب مسلم ، وقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) يريد بها العموم في الكفرة ، والمؤمنون هم الأقل ، ثم حكى
عنهم مقالتهم في الهزء بأمر البعث واستعجالهم على معنى التكذيب بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) فأمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم عن (مِيعادُ) هو يوم القيامة لا يتأخر عنه أحد ولا يتقدمه ، قال أبو
عبيدة : «الوعد والوعيد والميعاد» بمعنى واحد ، وخولف في هذا ، والذي عليه الناس
أن «الوعد» في الخير ، و «الوعيد» في المكروه و «الميعاد» يقع لهذا ولهذا.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وأضاف الميعاد إلى اليوم تجوزا من حيث كان فيه وتحتمل الآية أن يكون
استعجال الكفرة لعذاب الدنيا ويكون الجواب عن ذلك أيضا ولم يجر للقيامة ذكر على
هذا التأويل.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ
لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى
بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)
(٣٢)
حكيت في هذه الآية
مقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بما بين يديه من التوراة
والإنجيل والزبور
فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في
التوراة من أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وقالت فرقة : «الذي بين يديه» هي الساعة والقيامة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان
وقد بيناه فيما تقدم ، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب
من حالهم ، وجواب (لَوْ) محذوف ، وقوله (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يرد ، أي يتحاورون ويتجادلون ، ثم فسر ذلك الجدل بأن
الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرؤوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد
اللائمة عليهم (لَوْ لا أَنْتُمْ) لآمنا نحن واهتدينا ، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر
، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب (أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي دخلتم في الكفر ببصائركم ، وأجرمتم بنظر منكم ، ودعوتنا
لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا كله يتضمنه اللفظ.
قوله عزوجل :
(وَقالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(٣٣)
هذه مراجعة من
الأتباع للرؤساء حين قالوا لهم : إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل
كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار «وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما»
ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام ، وهذه الإضافة كما قالوا «ليل نائم ونهار
صائم» ، وأنشد سيبويه «فنام ليلي وتجلى همي» ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ قتادة بن
دعامة «بل مكر الليل والنهار» بتنوين «مكر» ونصب «الليل والنهار» على الظرف ، وقرأ
سعيد بن جبير «بل مكر» بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى «الليل
والنهار» وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل
والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله ، و «الند» المثيل والشبيه ،
والضمير في قوله (أَسَرُّوا) عام جميع من تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين ، (أَسَرُّوا) معناه اعتقدوها في نفوسهم ، ومعتقدات النفس كلها سر لا
يعقل غير ذلك ، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة ، وقال بعض الناس (أَسَرُّوا) معناه أظهروا وهي من الأضداد.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة
، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد ، وقوله تعالى : (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ
أَمْوالاً
وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ)
(٣٧)
هذه تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم عن فعل قريش وقولها أي هذه يا محمد سيرة الأمم فلا يهمنك
أمر قومك ، و «القرية» المدينة ، و «المترف» المنع البطال الغني القليل تعب النفس
والجسم فعادتهم المبادرة بالتكذيب ، وقوله (وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) يحتمل أن يعود الضمير على المترفين ويكون ذلك من قولهم مع
تكذيبهم ، ثم لما كانت قريش مثلهم أمره الله تعالى بأن يقول (إِنَّ رَبِّي) الآية ، ويحتمل أن يعود الضمير في (قالُوا) لقريش ويكون كلام المترفين قد تم ، ثم تطرد الآية بعد ،
وقولهم (نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوالاً وَأَوْلاداً) معناه الاحتجاج أي أن الله لم يعطنا هذا وقدره لنا إلا
لرضاء عنا وعن طريقنا ونحن لا نعذب البتة إذ الله الذي تزعم أنت علمه بجميع
الأشياء وإحاطته قد قدر علينا النعم ، فهو إذن راض عنا ، وقال بعض المفسرين معنى
قولهم (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) أي بالفقر.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا ليس كالأول في القوة فأمر الله تعالى نبيه أن يقول : إن الأمر ليس
كما ظنوا بل بسط الرزق وقدره معلق بالمشيئة في كافر ومؤمن وليس شيء من ذلك دليلا
على رضى الله تعالى والقرب منه لأنه قد يعطي ذلك إملاء واستدراجا ، وكثير من الناس
لا يعلم ذلك كأنتم أيها الكفار ، وقرأت فرقة «ويقدر» ، وقرأت فرقة «ويقدّر» بضم
الباء وفتح القاف وشد الدال وهي راجعة إلى معنى التضييق الذي هو ضد البسط ، ثم
أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله (زُلْفى) ، والزلفى مصدر بمعنى القرب ، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريبا
، وقرأ الضحاك «زلفى» بفتح اللام وتنوين الفاء ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء منقطع ، و (مَنْ) في موضع نصب بالاستثناء ، وقال الزجاج (مَنْ) بدل من الضمير في (تُقَرِّبُكُمْ) ، وقال الفراء (مَنْ) في موضع رفع ، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن ،
وقرأ الجمهور «جزاء الضعف» بالإضافة ، وقرأ قتادة «جزاء الضعف» برفعها ، وحكى عنه
الداني «جزاء» بالنصب «الضعف» بنصب الفاء ، و (الضِّعْفِ) هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم
أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال. ومشيئة الله تعالى فيها ، وقرأ جمهور القراء «في
الغرفات» بالجمع ، وقرأ حمزة وحده «في الغرفة» على اسم الجنس يراد به الجمع ،
ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان ، قال أبو علي: وقد يجيء هذا الجمع بالألف
والتاء «الغرفات» ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت :
لنا الجفنات
الغر يلمعن بالضحى
|
|
وأسيافنا يقطرن
من نجدة دما
|
فلم يرد إلا كثرة
جفان.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت ، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في «الغرفات»
بسكون الراء.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
(٣٩)
لما ذكر تعالى
المؤمنين العاملين الصالحات وذكر ثوابهم عقب بذكر ضدهم وذكر جزائهم ليظهر تباين
المنازل ، وقرأت فرقة «معاجزين» (وقرأت فرقة معجزين) ، وقد تقدم تفسيرها في صدر
السورة ، و (مُحْضَرُونَ) من الإحضار والإعداد ، ثم كرر القول ببسط الرزق وقدره
تأكيدا وتبيينا وقصد به هاهنا رزق المؤمنين وليس سوقه على المعنى الأول الذي جلب
للكافرين ، بل هذا هنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في
الطاعات ، ثم وعد بالخلف في ذلك وهو بشرط الاقتصاد والنية في الطاعة ودفع المضرات
وعد منجز إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وروى أبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «قال الله لي أنفق أنفق عليك» وفي البخاري أن
ملكا ينادي كل يوم اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول ملك آخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ،
وقال مجاهد المعنى إن كان خلف فهو موليه وميسره ، وقد لا يكون الخلف ، وأما قوله (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فمن حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله ، والأمير جنده ،
لكن ذلك من مال يملك عليهم والله تعالى من خزائن لا تفنى ومن إخراج من عدم إلى
وجود ، وقرأ الأعمش «ويقدّر» بضم الياء وشد الدال.
قوله عزوجل :
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا
يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ
مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ)
(٤٣)
هذه آية وعيد
للكفار ، والمعنى واذكر يوم نحشرهم ، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم جميعا ثم نقول»
بالنون فيهما ، ورواها أبو بكر عن عاصم ، وقرأ حفص عن عاصم «ويوم يحشرهم جميعا ثم
يقول» بالياء فيهما ، وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو ، والقول للملائكة هو توقيف
تقوم منه الحجة على الكفار عبدتهم وهذا نحو قوله تعالى لعيسى عليهالسلام (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦]
وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عما فعل هؤلاء الكفرة ، ثم برؤوا أنفسهم
بقولهم (أَنْتَ وَلِيُّنا
مِنْ دُونِهِمْ) يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن
يعبدهم البشر ، ثم قرروا أن البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم
تنف الملائكة عبادة البشر
إياها وإنما قررت
أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة ، ثم ذنبت الجن ، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه
نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة ، وقد يجوز
إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في
سورة الأنعام وغيرها ، ثم قال تعالى : (فَالْيَوْمَ) وفي الكلام حذف تقديره فيقال لهم أي من عبد ومن عبد اليوم (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
نَفْعاً) ، وقوله (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا) ذكر الله تعالى في هذه الآية أقوال الكفرة وأنواع كلامهم
عند ما يقرأ عليهم القرآن ويسمعون حكمته وبراهينه البينة ، فقائل طعن على النبيصلىاللهعليهوسلم بأنه يقدح في الأوثان ودين الآباء ، وقائل طعن عليه بأن
هذا القرآن مفترى أي مصنوع من قبل محمد صلىاللهعليهوسلم ويدعي أنه من عند الله ، وقائل طعن عليه بأن ما عنده من
الرقة واستجلاب النفوس واستمالة الأسماع إنما هو سحر به يخلب ويستدعى ، تعالى الله
عن أقوالهم وتقدست شريعته عن طعنهم.
قوله عزوجل :
(وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ
(٤٤) وَكَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا
رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)
(٤٦)
معنى هذه الآية
أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله فيقول بعضهم سحر ، وبعضهم افتراء ، وذلك منهم
تسور لا يستندون فيه إلى إثارة علم ولا إلى خبر من يقبل خبره ، فإنا ما آتيناهم
كتبا يدرسونها ولا أرسلنا إليهم نذيرا فيمكنهم أن يدعوا أن أقوالهم تستند إلى أمره
، وقرأ جمهور الناس «يدرسونها» بسكون الدال ، وقرأ أبو حيوة «يدّرسونها» بفتح
الدال وشدها وكسر الراء ـ والمعنى وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ولا يباشر أهل
عصرهم ولا من قرب من آبائهم ، وإلا فقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب
وصالح وهود ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ، فإنما معنى هذه
الآية (مِنْ نَذِيرٍ) يختص بهؤلاء الذين بعثناك إليهم ، وقد كان عند العرب كثير
من نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول : إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيّا ولكن
لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمدصلىاللهعليهوسلم ، ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم ، وقوله (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يعود الضمير في (بَلَغُوا) على قريش ، وفي (آتَيْناهُمْ) على الأمم (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ، والمعنى من القوة والنعم والظهور في الدنيا ، قاله ابن
عباس وقتادة وابن زيد ، والثاني أن يعود الضمير في (بَلَغُوا) على الأمم المتقدمة وفي (آتَيْناهُمْ) على قريش ، والمعنى من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم
به ، والثالث أن يعود الضميران على الأمم المتقدمة ، والمعنى من شكر النعمة وجزاء
المنة و «المعشار» ، ولم يأت هذا البناء إلا في الشعرة والأربعة فقالوا : مرباع
ومعشار وقال قوم : المعشار عشر العشر.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا ليس بشيء ، والنكير مصدر كالإنكار في المعنى وكالعديد في الوزن
وسقطت الياء منه
تخفيفا لأنها آخر آية ، و «كيف» تعظيم للأمر وليست استفهاما مجردا ، وفي هذا تهديد
لقريش أي أنّهم معرضون لنكير مثله ، ثم أمر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يدعوهم إلى عبادة الله والنظر في حقيقة نبوته هو ويعظهم
بأمر مقرب للأفهام فقوله (بِواحِدَةٍ) معناه بقضية واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم ، وقوله (أَنْ) مفسرة ، ويجوز أن تكون بدلا من «واحدة» ، وقوله (تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة فتكون الواحدة
التي وعظ بها هذه ، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هل هو به جنة أو هو بريء من
ذلك والوقف عند أبي حاتم (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا).
قال الفقيه الإمام
القاضي : فيجيء (ما بِصاحِبِكُمْ) نفيا مستأنفا وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم لأن
تفكر من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله
والإيمان به ، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في محمد صلىاللهعليهوسلم فتكون الواحدة التي وعظ بها أن يقوموا لمعنى الفكرة ـ في
أمر صاحبهم ، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه ويتناظر الاثنان على جهة
طلب التحقيق ، هل بمحمد صلىاللهعليهوسلم جنة أم لا؟ وعلى هذا لا يوقف على (تَتَفَكَّرُوا) وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من
فكرة واحدة ، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة
وقد قال الشاعر : [الطويل]
إذا اجتمعوا
جاءوا بكل غريبة
|
|
فيزداد بعض
القوم من بعضهم علما
|
وقرأ يعقوب «ثم
تفكروا» بتاء واحدة ، وقال مجاهد بواحدة معناه بلا إله إلا الله وقيل غير هذا مما
لا تعطيه الآية ، وقوله (بَيْنَ يَدَيْ) مرتب على أن محمدا صلىاللهعليهوسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به.
قوله عزوجل :
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ
إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا
فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)
(٥١)
أمره الله تعالى
في هذه الآية بالتبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على الرسالة وتسليم كل دنيا إلى
أربابها والتوكل على الله في الأجر وجزاء الجد والإقرار بأنه شهيد على كل شيء من
أفعال البشر وأقوالهم وغير ذلك ، وقوله (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان
الكفار يرمون بآياته وحكمه ، وقرأ جمهور القراء «علّام» بالرفع أي هو علام ، وقرأ
عيسى بن عمرو ابن أبي إسحاق «علّام» بالنصب إما على البدل من اسم (إِنَ) وإما على المدح ، وقرأ الأعمش «بالحق وهو علام الغيوب» ،
وقرأ عاصم «الغيوب» بكسر الغين ، وقوله (قُلْ جاءَ الْحَقُ) يريد الشرع وأمر الله ونهيه ، وقال قوم
يعني السيف ،
وقوله (وَما يُبْدِئُ
الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) ، قالت فرقة : (الْباطِلُ) هو غير (الْحَقُ) من الكذب والكفر ونحوه استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما
عنه ، كأنه قال وما يصنع الباطل شيئا ، وقالت فرقة (الْباطِلُ) الشيطان ، والمعنى ما يفعل الشيطان شيئا مفيدا أي ليس يخلق
ولا يرزق ، وقالت فرقة (ما) استفهام كأنه قال وأي شيء يصنع الباطل؟ وقرأ جمهور الناس «ضللت»
بفتح اللام «فإنما أضل» بكسر الضاد ، وقرأ الحسن وابن وثاب «ضللت» بكسر اللام «أضل»
بفتح الضاد وهي لغة بني تميم ، وقوله (فَبِما) يحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، و
(قَرِيبٌ) معناه بإحاطته وإجابته وقدرته ، واختلف المتأولون في قوله
تعالى : (وَلَوْ تَرى) الآية ، فقال ابن عباس والضحاك : هذا في عذاب الدنيا ،
وروي أن ابن أبزى قال ذلك في جيش يغزو الكعبة فيخسف بهم في بيداء من الأرض ولا
ينجو إلا رجل من جهينة فيخبر الناس بما نال الجيش قالوا بسببه قيل «وعند جهينة
الخبر اليقين» ، وهذا قول سعيد ، وروي في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة وذكر
الطبري أنه ضعيف السند مكذوب فيه على داود بن الجراح ، وقال قتادة : ذلك في الكفار
عند الموت ، وقال ابن زيد : ذلك في الكفار في بدر ونحوها ، وقال الحسن بن أبي
الحسن : ذلك في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة.
قال الفقيه الإمام
القاضي : وهذا أرجح الأقوال عندي ، وأما معنى الآية فهو التعجيب من حالهم إذا
فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد ، وقوله (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) معناه أنهم للقدرة قريب حيث كانوا قبل من تحت الأقدام ،
وهذا يتوجه على بعض الأقوال والذي يعم جميعها أن يقال إن الأخذ يجيئهم من قرب في
طمأنينتهم ويعقبها بينا الكافر يؤمل ويظن ويترجى إذ غشيه الأخذ ، ومن غشيه أخذ من
قريب ، فلا حيلة له ولا روية ، وقرأ الجمهور «وأخذوا» ، وقرأ طلحة بن مصرف «فلا
فوت وأخذ» ، كأنه قال وجاء لهم أخذ من مكان قريب.
قوله عزوجل :
(وَقالُوا آمَنَّا
بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)
(٥٤)
الضمير في (بِهِ) عائد على الله تعالى ، وقيل على محمد صلىاللهعليهوسلم وشرعه والقرآن ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم
وعامة القراء «التناوش» بضم الواو دون همز ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم
أيضا «التناؤش» بالهمز ، والأولى معناها التناول من قولهم ناش ينوش إذا تناول «تناوش
القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا بالسلاح ، ومنه قول الراجز : [الرجز]
فهي تنوش الحوض
نوشا من علا
|
|
نوشا به تقطع
أجواز الفلا
|
فكأنه قال وأنى
لهم تناول مرادهم وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك ، وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن
يكون من التناؤش
الذي تقدم تفسيره وهمزت الواو لما كانت مضمونة وكانت ضمتها لازمة ، كما قالوا أقتت
وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون من الطلب ، تقول اتناشت الشيء إذا طلبته من بعد ، وقال
ابن عباس تناؤش الشيء رجوعه حكاه عنه ابن الأنباري وأنشد : [الوافر]
تمنى أن تؤوب
إليك ميّ
|
|
وليس إلى
تناوشها سبيل
|
فكأنه قال في
الآية : وأنى لهم طلب مرادهم وقد بعد ، قال مجاهد المعنى من الآخرة إلى الدنيا ،
وقرأ جمهور الناس «ويقذفون» بفتح الياء وكسر الذال على إسناد الفعل إليهم ، أي
يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسل وكتاب الله ، وذلك غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء
وغير ذلك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة قذفهم بالغيب هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار
، وقرأ مجاهد «ويقذفون» بضم الياء وفتح الذال على معنى ويرجمهم الوحي بما يكرهون
من السماء ، وقوله (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قال الحسن معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإتابة
والعمل الصالح ، وذلك أنهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة ، وقاله أيضا قتادة ،
وقال مجاهد معناه وحيل بينهم وبين نعيم الدنيا ولذاتها ، وقيل حيل بينهم وبين
الجنة ونعيمها ، وهذا يتمكن جدا على القول بأن الأخذ والفزع المذكورين هو في يوم
القيامة ، وقوله (كَما فُعِلَ
بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) الأشياع الفرق المتشابهة ، فأشياع هؤلاء هم الكفرة من كل
أمة ، وهو جمع شيعة ، وشيع ، وقوله (مِنْ قَبْلُ) يصلح على بعض الأقوال المتقدمة تعلقه بفعل ، ويصلح على قول
من قال إن الفزع هو في يوم القيامة تعلقه (بِأَشْياعِهِمْ) أي بمن اتصف بصفتهم من قبل في الزمن الأول ، لأن ما يفعل
بجميعهم إنما هو في وقت واحد. لا يقال فيه (مِنْ قَبْلُ) ، و «الشك المريب» أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فاطر
هذه السورة مكية.
قوله عزوجل :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
يا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ
اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)
(٥)
الألف واللام في (الْحَمْدُ) لاستغراق الجنس على أتم عموم ، لأن (الْحَمْدُ) بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر
مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله ، و (فاطِرِ) معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها
، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس : أنا فطرتها ، أراد بدأت
حفرها. قال ابن عباس ما كنت أفهم معنى (فاطِرِ) حتى سمعت قول الأعرابي ، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر» ،
وقرأ جمهور الناس «جاعل» بالخفض ، وقرأت فرقة «جاعل» بالرفع على قطع الصفة ، وقرأ
خليد بن نشيط «جعل» على صيغة الماضي «الملائكة» نصبا ، فأما على هذه القراءة
الأخيرة فنصب قوله (رُسُلاً) على المفعول الثاني ، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل
أراد ب «جاعل» الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفا وعمل عمل
المستقبل في (رُسُلاً) ، وقالت فرقة (جاعِلِ) بمعنى المضي و (رُسُلاً) نصب بإضمار فعل ، و (رُسُلاً) معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره ، فجبريل وميكائيل
وإسرافيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل ، والمسددون لحكام العدل رسل
وغير ذلك ، وقرأ الحسن «رسلا» بسكون السين ، و (أُولِي) جمع واحده ذو ، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي ، وروي عن
الحسن أنه قال في تفسير قول مريم (إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨] قال
علمت مريم أن التقي ذو نهية ، وقوله (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير
فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل للعدل والصفة ، وفائدة العدل
الدلالة على التكرار
لأن (مَثْنى) بمنزلة قولك اثنين اثنين ، وقال قتادة : إن أنواع الملائكة
هي هكذا منها ما له جناحان ، ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذ منها
ما له أكثر من ذلك ، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منها اثنان تبلغ من المشرق إلى
المغرب ، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين ، ولبعضهم ثلاثة في كل
جانب ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما
رأيناه نحن من الأجنحة ، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك ،
وقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ ما يَشاءُ) تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عند الخبر
بالملائكة أولي الأجنحة ، أي ليس هذا يبدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه
ما يشاء ، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن الصوت قال الهيثم
الفارسي : رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك
جزاك الله خيرا ، وقيل الزيادة الخط الحسن ، وقال النبي عليهالسلام : «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا» ، وقال قتادة الزيادة
ملاحة العينين.
قال القاضي أبو
محمد : وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن
المقصود هي فقط ، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيرا وباقي
الآية بين ، وقوله (ما يَفْتَحِ اللهُ ما) شرط ، و (يَفْتَحِ) جزم بالشرط ، وقوله (مِنْ رَحْمَةٍ) عام في كل خير يعطيه الله تعالى للعباد جماعتهم وأفذاذهم ،
وقوله (مِنْ بَعْدِهِ) فيه حذف مضاف أي من بعد إمساكه ، ومن هذه الآية سمت
الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك الفتوحات ، ومنها كان أبو هريرة
يقول مطرنا بنوء الفتح ، وقرأ الآية ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لقريش وهو متجه لكل كافر ، ولا سيما لعباد غير الله ،
وذكرهم تعالى بنعمة الله عليهم في خلقهم وإيجادهم ، ثم استفهمهم على جهة التقرير
والتوقيف بقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) أي فليس إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام ،
وقرأ حمزة والكسائي «غير» بالخفض نعتا على اللفظ وخبر الابتداء (يَرْزُقُكُمْ) وهي قراءة أبي جعفر وشقيق وابن وثاب ، وقرأ الباقون غير
نافع بالرفع ، وهي قراءة شيبة بن نصاح وعيسى والحسن بن أبي الحسن ، وذلك يحتمل
ثلاثة أوجه : أحدها النعت على الموضع والخبر مضمر تقديره في الوجود أو في العالم
وأن يكون «غير» خبر الابتداء الذي هو في المجرور والرفع على الاستثناء ، كأنه قال
هل خالق إلا الله ، فجرت «غير» مجرى الفاعل بعد (إِلَّا) ، وقوله (مِنَ السَّماءِ) يريد بالمطر ومن (الْأَرْضِ) يريد بالنبات ، وقوله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) معناه فلأي وجه تصرفون عن الحق ، ثم سلى نبيهصلىاللهعليهوسلم بما سلف من حال الرسل مع الأمم ، و (الْأُمُورُ) تعم جميع الموجودات المخلوقات إلى الله مصير جميع ذلك على
اختلاف أحوالها ، وفي هذا وعيد للكفار ووعد للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم وعظ عزوجل جميع العالم وحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها الشاغلة
عن المعاد الذي له يقول الإنسان : (يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] ولا
ينفعه ليت يومئذ ، وحذر غرور الشيطان ، وقوله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) عبارة عن جميع خبره عزوجل في خير وتنعم أو عذاب أو عقاب ، وقرأ جمهور الناس «الغرور»
بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس ، وقرأ سماك العبدي وأبو حيوة «الغرور» بضم
الغين وذلك يحتمل أن يكون جمع غار كجالس وجلوس ، ويحتمل أن يكون جمع غر وهو مصدر
غره يغره غرا ، ويحتمل أن يكون مصدرا وإن كان شاذا
في الأفعال
المتعدية أن يجيء مصدرها على فعول لكنه قد جاء لزمه لزوما ونهكه المرض نهوكا فهذا
مثله وكذلك هو مصدر في قوله (فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٢٢].
قوله عزوجل :
(إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
الَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما
يَصْنَعُونَ)
(٨)
قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ) الآية ، يقوي قراءة من قرأ «الغرور» بفتح الغين ، وقوله (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع ، و «الحزب»
الحاشية والصاغية ، واللام في قوله (لِيَكُونُوا) لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار
أمرهم عن دعائه إلى ذلك ، و (السَّعِيرِ) طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات ، وقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع رفع بالابتداء وهذا هو الحسن لعطف (الَّذِينَ آمَنُوا) عليه بعد ذلك فهي جملتان تعادلتا ، وجوز بعض الناس في (الَّذِينَ) أن يكون بدلا من الضمير في «يكونوا» وجوز غيره أن يكون (الَّذِينَ) في موضع نصب بدلا من (حِزْبَهُ) وجوز بعضهم أن يكون في موضع خفض بدلا من (أَصْحابِ) وهذا كله محتمل ، غير أن الابتداء أرجح. وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَناً) توقيف وجوابه محذوف تقديره عند الكسائي تذهب نفسك حسرات
عليهم ، ويمكن أن يتقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير ، وأحسنها ما دل اللفظ بعد
عليه ، وقرأ طلحة «أمن زين» بغير فاء ، وهذه الآية تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم عن كفر قومه ، ووجب التسليم لله تعالى في إضلال من شاء
وهداية من شاء ، وأمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عن أمرهم وأن لا يبخع نفسه أسفا عليهم ، وقرأ
جمهور الناس «فلا تذهب» بفتح التاء والهاء «نفسك» بالرفع ، وقرأ أبو جعفر وقتادة
وعيسى والأشهب «تذهب» بضم التاء وكسر الهاء نفسك بالنصب ، ورويت عن نافع ، و «الحسرة»
هم النفس على فوات أمر ، واستشهد ابن زيد لذلك بقوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] ثم
توعد تعالى الكفرة بقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما يَصْنَعُونَ).
قوله عزوجل :
(وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
مَنْ
كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)
(١٠)
هذه آية احتجاج
على الكفرة في إنكار البعث من القبور ، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه وهو
سواء مع إحياء
الموتى ، و «البلد الميت» هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط فإذا أصابه الماء
من السحاب اخضر وأنبت فتلك حياته ، و (النُّشُورُ) مصدر نشر الميت إذا حيي ، ومنه قول الأعشى :
يا عجبا للميت
الناشر
وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يريد (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بمغالبة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي ليست لغيره ولا تتم إلا له وهذا المغالب مغلوب ونحا
إليه مجاهد ، وقال (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ) بعبادة الأوثان.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا تمسك بقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١]
والمعنى الثاني (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ) وطريقها القويم ويحب نيلها على وجهها (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي به وعن أوامره لا تنال عزته إلا بطاعته ، ونحا إليه
قتادة. والمعنى الثالث وقاله الفراء (مَنْ كانَ يُرِيدُ) علم (الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ) أي هو المتصف بها ، و (جَمِيعاً) حال ، وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي التوحيد والتمجيد وذكر الله ونحوه ، وقرأ الضحاك «إليه
يصعد» بضم الياء ، وقرأ جمهور الناس «الكلم» وهو جمع كلمة ، وقرأ أبو عبد الرحمن «الكلام»
، و (الطَّيِّبُ) الذي يستحسن سماعه الاستحسان الشرعي ، وقال كعب الأحبار :
إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدويا حول العرش كدوي
النحل تذكر بصاحبها ، وقوله تعالى : (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) اختلف الناس في الضمير في (يَرْفَعُهُ) على من يعود ، فقالت فرقة يعود على (الْعَمَلُ) ، واختلفت هذه الفرقة فقال قوم الفاعل ب «يرفع» هو (الْكَلِمُ) أي والعمل يرفعه الكلم وهو قول لا إله إلا الله لأنه لا
يرتفع عمل إلا بتوحيد ، وقال بعضهم الفعل مسند إلى الله تعالى أي «والعمل الصالح
يرفعه هو».
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أرجح الأقوال ، وقال ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وقتادة الضمير في (يَرْفَعُهُ) عائد على (الْكَلِمُ) أي أن العمل الصالح هو يرفع الكلم.
قال القاضي أبو
محمد : واختلفت عبارات أهل هذه المقالة فقال بعضها وروي عن ابن عباس أن العبد إذا
ذكر الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ارتفع قوله مع عمله ، وإذا قال ولم يؤد
فرائضه رد قوله على عمله ، وقيل عمله أولى به.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول يرده معتقد أهل الحق والسنة ولا يصح عن ابن عباس ، والحق أن
العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله تعالى وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل
منه وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك ، وأيضا فإن
(الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) عمل صالح وإنما يستقيم قول من يقول إن العمل هو الرافع ل (الْكَلِمُ) بأن يتأول أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه ،
كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر لله
كانت الأعمال ، أشرف.
قال القاضي أبو
محمد : فيكون قوله (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال ، وذكر الثعلبي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا عمل إلا بنية» ،
ومعناه قولا
يتضمن أن قائله
عمل عملا أو يعمله في الأنف ، وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها كالتوحيد
والتسبيح فمقبولة على ما قدمناه ، وقرأت فرقة «والعمل» بالنصب «الصالح» على النعت
وعلى هذه القراءة ف (يَرْفَعُهُ) مستند إما إلى الله تعالى وإما إلى (الْكَلِمُ) ، والضمير في (يَرْفَعُهُ) عائد على (الْعَمَلُ) لا غير ، وقوله (يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ) إما أنه عدى (يَمْكُرُونَ) لما أحله محل يكسبون ، وإما أنه حذف المفعول وأقام صفته
مقامه تقديره يمكرون المكرات السيئات ، و (يَمْكُرُونَ) معناه يتخابثون ويخدعون وهم يظهرون أنهم لا يفعلون ، و (يَبُورُ) معناه يفسد ويبقى لا نفع فيه ، وقال بعض المفسرين يدخل في
الآية أهل الربا.
قال القاضي أبو
محمد : ونزول الآية أولا في المشركين.
قوله عزوجل :
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)
(١١)
هذه آية تذكير
بصفات الله تعالى على نحو ما تقدم ، وهذه المحاورة إنما هي في أمر الأصنام وفي بعث
الأجساد من القبور ، وقال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ) من حيث خلق آدم أبانا منه ، وقوله (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي بالتناسل من مني الرجال ، و (أَزْواجاً) قيل معناه أنواعا ، وقيل أراد تزويج الرجال النساء ، وقوله
تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) اختلف الناس في عود الضمير في قوله (مِنْ عُمُرِهِ) ، فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه أنه عائد على (مُعَمَّرٍ) الذي هو اسم جنس والمراد غير الذي يعمر ، أي أن القول
يتضمن شخصين يعمر أحدهما مائة سنة أو نحوها وينقص من عمر الآخر بأن يكون عاما
واحدا أو نحوه ، وهذا قول الضحاك وابن زيد لكنه أعاد ضميرا إيجازا واختصارا ،
والبيان التام أن تقول ولا ينقص من عمر معمر لأن لفظة (مُعَمَّرٍ) هي بمنزلة ذي عمر.
قال القاضي أبو
محمد : كأنه قال «ولا يعمر من ذي عمر ولا ينقص من عمر ذي عمر» ، وقال ابن عباس
أيضا وأبو مالك وابن جبير المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير أي ما يعمر إنسان ولا
ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مر حول كتب ذلك ، ثم حول ، ثم حول ، فهذا هو
النقص ، قال ابن جبير ما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذي يعمر ، وروي
عن كعب الأحبار أنه قال المعنى (وَلا يُنْقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ) أي لا يخرم بسبب قدرة الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب.
قال القاضي أبو
محمد : وروي أنه قال : حين طعن عمر لو دعا الله تعالى لزاد في أجله ، فأنكر عليه
المسلمون ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) [الأعراف : ٣٤ ،
النحل : ٦١] فاحتج بهذه الآية وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه
تمسكت المعتزلة ، وقرأ الحسن والأعرج وابن سيرين «ينقض» على بناء الفعل للفاعل أي
ينقص الله ، وقرأ «من عمره» بسكون الميم الحسن وداود ، و «الكتاب» المذكور في
الآية اللوح المحفوظ ، وقوله (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى تحصيل هذه الأعمال وإحصاء دقائقها وساعاتها.
قوله عزوجل :
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(١٢)
هذه آية أخرى
يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه ، و (الْبَحْرانِ) يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان ،
فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا ، و «الفرات» الشديد العذوبة ، و «الأجاج» الشديد
الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته ، قال الرماني هو من أججت النار كأنه
يحرق من حرارته ، وقرأ عيسى الثقفي «سيّغ شرابه» بغير ألف وبشد الياء ، وقرأ طلحة «ملح»
بفتح الميم وكسر اللام ، و «اللحم الطري» الحوت وهو موجود في البحرين ، وكذلك (الْفُلْكَ) تجري في البحرين ، وبقيت «الحلية» وهي اللؤلؤ والمرجان ،
فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما ، وهي إنما تخرج من الملح
وذلك تجوز كما قال في آية أخرى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ،
وكما قال (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٢٨] ، والرسل إنما هي من الإنس ، وقال بعض
الناس بل الحلية تخرج من البحرين ، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء
النيسان ، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه ، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه
، فيخرج جوهره بالعطش وغير ذلك من الحيل ، فهذا هو من الماء الفرات ، فنسب إليه
الإخراج لما كان من الحلية بسبب ، وأيضا فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما
يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضا فإن البحر الفرات كله
ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعا.
قال القاضي أبو
محمد : وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر : [الطويل]
فجاء بها ما شئت
من لطمية
|
|
وجهها ماء
الفرات يموج
|
وليس ذلك بخطإ على
ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة ، و (الْفُلْكَ) في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع ، و (مَواخِرَ) جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه ، وقيل الماخرة
التي تشق الريح ، وحينئذ يحدث الصوت ، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة
بالريح ، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة ، فقال بعضهم «المواخر»
التي تجيء وتذهب بريح واحدة ، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من
السفن إلا الفلك العظام.
قال القاضي أبو
محمد : هكذا وقع لفظه في البخاري ، والصواب أن تكون (الْفُلْكَ) هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا) يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي.
قوله عزوجل :
(يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ
مُسَمًّى
ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)
(١٤)
(يُولِجُ) معناه يدخل ، وهذه عبارة عن أن ما نقص من (اللَّيْلَ) زاد (فِي النَّهارِ) ، فكأنه دخل فيه ، وكذلك ما نقص من (النَّهارِ) يدخل (فِي اللَّيْلِ) والألف واللام في (الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) هي للعهد ، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف وهذا أصوب
، و «الأجل المسمى» هو قيام الساعة ، وقيل آماد الليل وآماد النهار ، ف «أجل» على
هذا اسم جنس ، وقرأ جمهور الناس «تدعون» بالتاء ، وقرأ الحسن ويعقوب «يدعون»
بالياء من تحت ، و «القطمير» القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس
الحجة ، وقال جوبير عن رجاله «القطمير» القمع الذي في رأس التمرة ، وقاله الضحاك
والأول أشهر وأصوب ، ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها :
أولها أنها لا تسمع إن دعيت ، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن
لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع ، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار ،
ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه ، فهو
مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقوله (يَكْفُرُونَ) يحتمل أن يكون بكلام ، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها
ويخلق لها إدراكا يقتضيها ، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند
حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة : [الطويل]
وقفت على ربع
لمية ناطق
|
|
يخاطبني آثاره
وأخاطبه
|
وأسقيه حتى كاد
مما أبثه
|
|
تكلمني أحجاره
وملاعبه
|
وهذا كثير ، وقوله
(وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) قال المفسرون قتادة وغيره «الخبير» هنا أراد به تعالى نفسه
فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه ، ويحتمل أن يكون قوله (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : ولا يخبرك مثل من يخبر
عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له ،
كأنه قال (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء.
قوله عزوجل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦)
وَما
ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ
(١٧) وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)
(١٨)
هذه آية موعظة
وتذكير ، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها لا يستغني عنه
طرفة
عين ، وهو به
مستغن عن كل واحد ، والله تعالى غني عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته غني على
الإطلاق ، و (الْحَمِيدُ) المحمود بالإطلاق ، وقوله تعالى (بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ، و (تَزِرُ) معناه تحمل ، والوزر الثقل ، وهذه الآية في الذنوب والآثام
والجرائم ، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد ، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم
من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد
، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك
لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو
قد أخذ من الجرم بنصيب ، وهذا هو المعنى في قوله تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ
وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣]
لأنهم أغووهم ، وهو معنى قوله صلىاللهعليهوسلم «من سن سنة حسنة
فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها
ووزر من عمل بها بعده» ، وأنثت (وازِرَةٌ) لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت (مُثْقَلَةٌ) ، و «الحمل» ما كان على الظهر في الأجرام ، ويستعار
للمعاني كالذنوب ونحوها ، فيجعل كل محمول متصلا بالظهر ، كما يجعل كل اكتساب
منسوبا إلى اليد ، واسم (كانَ) مضمر تقديره ولو كان الداعي ، ثم أخبر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذين يمنحون العلم ، أي
إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه ، وقوله (بِالْغَيْبِ) أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة ، ثم خصص من الأعمال
إقامة الصلاة تنبيها عليها وتشريفا لها ، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية
الترجية ، وقرأ طلحة «ومن أزكى فإنما يزكي» ، ثم توعد بعد ذلك بقوله (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).
قال القاضي أبو
محمد : وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية ، وكذلك كتاب الله كله ، ولكن
يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا.
قوله عزوجل :
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ
وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا
الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ
وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ
فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ
نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)
(٢٦)
مضمن هذه الآية
طعن على الكفرة وتمثيل لهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بآرائهم بالبصراء
والأنوار ، وقوله (وَلَا النُّورُ) ودخول (لَا) فيها وفيما بعدها إنما هو على نية التكرار كأنه قال (وَلَا الظُّلُماتُ) والنور ، (وَلَا النُّورُ) ولا الظلمات ، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور
الآية على متروكه ، و (الْحَرُورُ) شدة حر الشمس ، وقال رؤبة بن العجاج (الْحَرُورُ) بالليل والسموم بالنهار ، وليس
كما قال وإنما
الأمر كما حكى الفراء وغيره أن السموم يختص بالنهار و (الْحَرُورُ) يقال في حر الليل وفي حر النهار ، وتأول قوم (الظِّلُ) في هذه الآية الجنة ، و (الْحَرُورُ) جهنم ، وشبه المؤمنين ب (الْأَحْياءُ) والكفرة ب (الْأَمْواتُ) من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه ، ثم رد الأمر إلى
مشيئة الله تعالى بقوله (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشاءُ) ، وقوله (وَما أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في
القبر لا يسمع ، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح
المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك ، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز
في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت
أرواحهم ، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين.
قال القاضي أبو
محمد : فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في
القليب ليوبخهم ، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم» ، وأما عائشة فمذهبها أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة ، وجعلت
هذه الآية أصلا واحتجت بها ، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي
في القبور ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بمسمع من» على الإضافة ، ثم سلاه بقوله (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ليس عليك غير ذلك ، والهداية والإضلال إلى الله تعالى ،
و (بَشِيراً) معناه بالنعيم الدائم لمن آمن ، (وَنَذِيراً) معناه بالعذاب الأليم لمن كفر ، وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) معناه أن دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق ، وإن كان
فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع
النذارة إلى وقت محمد صلىاللهعليهوسلم ، والآيات التي تتضمن أن قريشا لم يأتهم نذير ، معناه نذير
مباشر ، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه
توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله ، ثم سلى نبيه بما سلف من الأمم
لأنبيائهم ، و «البينات والزبر والكتاب المنير» شيء واحد ، لكنه أكد أوصافه بعضها
ببعض وذكره بجهاته و «الزبر» من زبرت الكتاب إذا كتبته ، ثم توعد قريشا بذكره أخذ
الأمم الكافرة.
قوله عزوجل :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها
وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ
مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)
(٢٨)
الرؤية في قوله (أَلَمْ تَرَ) رؤية القلب ، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب
، لأن الحجة بها تقوم ، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة ، فأحيانا
تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره ، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه ، و (أَنَ) سادت مسد المفعولين الذين للرؤية ، هذا مذهب سيبويه لأن (أَنَ) جملة مع ما دخلت عليه ، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت
ذلك ، لأن قولك ذلك
ليس بجملة كما هي (أَنَ) ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) حقا ، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة
لأنها أهيب في العبارة ، وقوله (أَلْوانُها) يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك ،
ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد ، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع ،
والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عددا ، و (جُدَدٌ) جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة
العظيمة المتصلة طولا ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]
كأنّ سراته
وحدّة متنه
|
|
كنائن يحوي
فوقهن دليص
|
وحكى أبو عبيدة في
بعض كتبه أنه يقال (جُدَدٌ) في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية ، وقرأ
الزهري «جدد» بفتح الجيم ، وقوله (وَغَرابِيبُ سُودٌ) لفظان لمعنى واحد ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» ، يعني الذي يخضب بالسواد
، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب
الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو ، وقوله (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره (وَالْأَنْعامِ) خلق (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) ، (وَالدَّوَابِ) يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيها منهما ، وقوله (كَذلِكَ) يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنا ،
وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب
كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله ، (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها.
قال القاضي أبو
محمد : وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم ، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد
، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية ، وسببها والذي ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة» ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «رأس الحكمة مخافة الله» ، فهذا هو الكلام المنير ، وقال
ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علما ، وقال مسروق وكفى بالمرء علما أن
يخشى الله ، وقال تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى) [الأعلى : ١] وقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «أعلمكم بالله أشدكم له خشية» ، وقال الربيع بن أنس : من
لم يخش الله فليس بعالم ، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله. وقال ابن
مسعود : كفى بخشية الله علما وبالاغترار ، به جهلا ، وقال مجاهد والشعبي : إنما
العالم من يخشى الله ، وإنما في هذه الآية تخصيص (الْعُلَماءُ) لا للحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضا دونه ، وإنما
يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه ، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة ، وإذا قلت إنما
الله إله واحد ، بان لك الفرق فتأمله ، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية
والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ
سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)
(٣١)
قال مطرف بن عبد
الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن (يَتْلُونَ) بمعنى يقرؤون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية ،
وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية ، و (كِتابَ اللهِ) هو القرآن ، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها ، والنفقة
هي في الصدقات ووجوه البر ، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض ، و (يَرْجُونَ) جملة في موضع خبر (إِنَ) ، و (تَبُورَ) معناه تكسد ويتعذر ربحها ، ويقال تعوذوا بالله من بوار
الأيم ، واللام في قوله (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا
تبور ، أو فعلوا ذلك كله ، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات ، وقوله (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قالت فرقة : هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة ،
وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة ، وقالت فرقة : إن التضعيف داخل في
توفية الأجور ، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى ، وإما أن يجعلهم
شافعين في غيرهم ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] و (غَفُورٌ) معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها ، و (شَكُورٌ) معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده ، ثم ثبت
تعالى أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) الآية ، و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة ، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل ،
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ، وعيد.
قوله عزوجل :
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ
فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)
(٣٤)
(أَوْرَثْنَا) معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق ، والميراث حقيقة أو مجازا
إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر ، و (الْكِتابَ) هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، فكأن
الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلىاللهعليهوسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة ، قبله ، فكأنه
ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها ، و (الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا) يريد بهم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم قاله ابن عباس وغيره ، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع
المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، والأول لم يورثوه ، و (اصْطَفَيْنا) معناه اخترنا وفضلنا ، و «العباد» عام في جميع العالم ،
مؤمنهم وكافرهم ، واختلف الناس في عود الضمير من قوله (فَمِنْهُمْ) فقال
ابن عباس وابن
مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على (الَّذِينَ) والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ف «الظالم لنفسه» العاصي المسرف ، و «المقتصد» متقي
الكبائر والجمهور من الأمة ، و «السابق» المتقي على الإطلاق ، وقالت هذه الفرقة
والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري ، والضمير في (يَدْخُلُونَها) عائد على الأصناف الثلاثة ، قالت عائشة : دخلوا الجنة كلهم
، وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم ، وفي رواية تحاكت
مناكبهم ، وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج ، وقال
عبد الله بن مسعود : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ،
وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله
ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة : هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عزوجل : أدخلوهم في سعة رحمتي ، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي :
«السابق» من أسلم قبل الهجرة ، و «المقتصد» من أسلم بعدها ، و «الظالم» نحن ، وقال
الحسن : «السابق» من رجحت حسناته ، و «المقتصد» من استوت سيئاته ، و «الظالم» من
خفت موازينه ، وقال سهل بن عبد الله : «السابق» العالم ، و «المقتصد» ، المتعلم ، و
«الظالم» الجاهل ، وقال ذو النون المصري : «الظالم» الذاكر لله بلسانه فقط و «المقتصد»
الذاكر بقلبه و «السابق» الذي لا ينساه ، وقال الأنطاكي : «الظالم» صاحب الأقوال ،
و «المقتصد» صاحب الأفعال ، و «السابق» صاحب الأحوال ، وروى أسامة بن زيد أن النبي
صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية وقال : كلهم في الجنة ، وقرأ عمر بن الخطاب
هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» ، وقال صلىاللهعليهوسلم : أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال
سابق الحبشة».
قال القاضي أبو
محمد : أراد صلىاللهعليهوسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين ، وقال عثمان بن عفان : سابقنا أهل
جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جماعة ولا جمعة ، وقال
عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في (مِنْهُمْ) عائد على العباد و «الظالم لنفسه» الكافر والمنافق و «المقتصد»
المؤمن العاصي و «السابق» التقي على الإطلاق ، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى
في سورة الواقعة (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٢]
والضمير في قوله (يَدْخُلُونَها) على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق والفرقة
الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول ،
وروي هذا القول عن ابن عباس ، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على
رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط ،
وقال صلىاللهعليهوسلم : «خير الأمور أوساطها» ، وقالت فرقة لا معنى لقولها إن
قوله تعالى : (الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا) هم الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول مردود من غير ما وجه ، وقرأ جمهور الناس «سابق بالخيرات» ، وقرأ
أبو عمرو الجوني «سباق بالخيرات» ، و (بِإِذْنِ اللهِ) معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده ، وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة ، وقال الطبري
:
السبق بالخيرات هو
(الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث ،
والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب ، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان ، وقرأ
جمهور الناس «جنات» بالرفع على البدل من (الْفَضْلُ) وقرأ الجحدري «جنات» بالنصب بفعل مضمر يفسره (يَدْخُلُونَها) وقرأ زر بن حبيش «جنة عدن» على الإفراد ، وقرأ أبو عمرو
وحده «يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء ، ورويت عن ابن كثير ، وقرأ الباقون «يدخلونها»
بفتح الياء وضم الخاء ، و (أَساوِرَ) جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال سوار بضم السين ، وفي
حرف أبي أساوير ، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي ، ومشهور أسوار أنه الجيد
الرمي من جند الفرس ، ويحلون معناه رجالا ونساء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر
ونافع «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على (أَساوِرَ) ، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و «لولؤا» بسكون الواو
الأولى دون همز ، وبهمز الثانية ، وروي عنه ضد هذا همز الأولى ، ولا يهمز الثانية
، وقرأ الباقون «لؤلؤ» بالهمز وبالخفض عطفا على (أَساوِرَ) ، و (الْحَزَنَ) في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان ، وخصص المفسرون
في هذا الموضع فقال أبو الدرداء : حزن أهوال القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من
الغم والحزن ، وقال ابن عباس : حزن جهنم ، وقال عطية : حزن الموت ، وقال شهر : حزن
معيشة الدنيا الخبز ونحوه ، وقال قتادة : حزن الدنيا في الخوف أن تتقبل أعمالهم ،
وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن.
قال القاضي أبو
محمد : ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان ، لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم ، وقولهم
(لَغَفُورٌ شَكُورٌ) وصفوه تعالى بأنه يغفر الذنوب ويجازي على القليل من
الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب ، وهذا هو شكره لا رب سواه.
قوله عزوجل :
(الَّذِي أَحَلَّنا
دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها
لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ
جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ
(٣٦)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)
(٣٧)
(الْمُقامَةِ) الإقامة ، وهو من أقام ، و «المقامة» بفتح الميم القيام
وهو من قام ، و (دارَ الْمُقامَةِ) الجنة ، و «النصب» تعب البدن ، و «اللغوب» تعب النفس
اللازم عن تعب البدن ، وقال قتادة «اللغوب» الوجع ، وقرأ الجمهور «لغوب» بضم اللام
، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي «لغوب» بفتح اللام أي شيء يعيينا ، ويحتمل أن يكون
مصدرا كالولوع والوضوء ، ثم أخبر عن حال (الَّذِينَ كَفَرُوا) معادلا بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى ، وهذا يؤيد تأويل
من قال إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء هاهنا ،
وقوله (لا يُقْضى) معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا ،
وقرأ الحسن البصري والثقفي «فيموتون» ووجهها العطف على (يُقْضى) وهي قراءة ضعيفة ، وقوله (لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ
مِنْ عَذابِها) لا يعارضه قوله (كُلَّما خَبَتْ
زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧]
لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو
ذلك ، وقرأ جمهور القراء ، «نجزي» بنصب «كلّ» وبالنون في «نجزي» ، وقرأ أبو عمرو
ونافع «يجزى» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول «كلّ كفور» برفع «كلّ» ، و (يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب
مخرج الطاء من الصاد ، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون (رَبَّنا) وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال
لهم (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ) على جهة التوقيف والتوبيخ ، و (ما) في قوله (ما يَتَذَكَّرُ) ظرفية ، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير ، فقال
الحسن بن أبي الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقال قتادة : ثمان عشرة
سنة ، وقالت فرقة : عشرون سنة ، وحكى الزجاج : سبع عشرة سنة ، وقال ابن عباس :
أربعون سنة ، وهذا قول حسن ، ورويت فيه آثار ، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة
ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح ، وقال مسروق بن الأجدع : من
بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر : [الطويل]
إذا المرء وفّى
الأربعين ولم يكن
|
|
له دون ما يأتي
حياء ولا ستر
|
فدعه ولا تنفس
عليه الذي ارتأى
|
|
وإن جر أسباب
الحياة له العمر
|
وقد قال قوم :
الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر : [الوافر]
أخو الخمسين
مجتمع أشدي
|
|
ونجدني مداومة
الشؤون
|
وقال الآخر : [الطويل]
وإن أمرأ قد سار
خمسين حجة
|
|
إلى منهل من
ورده لقريب
|
وقال ابن عباس
أيضا وغيره : الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار ، وهذا أيضا قول حسن متجه ، وروي أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين» وهو العمر
الذي قال الله فيه ما يتذكر فيه من تذكر ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» ، وقرأ
جمهور الناس «ما يتذكر فيه من تذكر» ، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من أذكر» ، و (النَّذِيرُ) في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره ،
ومحمد صلىاللهعليهوسلم نذير العالم في غابر الزمان ، وقال الطبري وقيل (النَّذِيرُ) الشيب وهذا قول حسن ، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة
الشرعية وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللهَ عالِمُ
غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا
مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ
غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)
(٤١)
هذا ابتداء تذكير
بالله تعالى ودلالة على وحدانيته وصفاته التي لا تنبغي الألوهية إلا معها ، و «الغيب»
، ما غاب عن البشر و «ذات الصدور» ما فيها من المعتقدات والمعاني ومنه قول أبي بكر
: ذو بطن بنت خارجة ، ومنه قول العرب : الذيب مغبوط بذي بطنه ، أي بالنفخ الذي فيه
فمن يراه يظنه شابعا قريب عهد بأكل ، و (خَلائِفَ) جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن ، وقوله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) فيه حذف مضاف تقديره «فعليه وبال كفره وضرر كفره» ، و «المقت»
احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفا منك فلا يسمى
ذلك مقتا ، و «الخسار» مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى
النار والعذاب ، وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ) الآية احتجاج على الكفار في بطلان أمر أصنامهم ، وقفهم
النبي صلىاللهعليهوسلم بأمر ربه على أصنامهم وطلب منهم أن يعرضوا عليه الشيء الذي
خلقته آلهتهم لتقوم حجتهم التي يزعمونها ، ثم وقفهم مع اتضاح عجزهم عن خلق شيء على
السماوات هل لهم فيها شرك وظاهر أيضا ، بعد هذا ثم وقفهم هل عندهم كتاب من الله
تعالى ليبين لهم فيه ما قالوه ، أي ليس ذلك كله عندهم ، ثم أضرب بعد هذا الجحد
المقدر فقال : بل إنما يعدون أنفسهم غرورا ، و (أَرَأَيْتُمْ) يتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني ، ولذلك لا تحتاج إلى
مفعولين ، وأضاف الشركاء إليهم من حيث جعلوهم شركاء الله ، أي ليس للأصنام شركة
بوجه إلا بقولكم فالواجب إضافتها إليكم ، و (تَدْعُونَ) معناه تعبدون ، والرؤية في قوله (أَرُونِي) رؤية بصر ، و «الشرك» الشركة مصدر أيضا ، وقرأ نافع وابن
عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم «بينات» بالجمع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة
والأعمش وابن وثاب ونافع بخلاف عنه «بينة» بالإفراد والمراد به الجمع ، ويحتمل أن
يراد به الإفراد كما تقول : أنا من هذا الأمر على واضحة أو على جلية ، و «الغرور»
الذي كانوا يتعاطونه قولهم إن الأصنام تقرب من الله زلفى ونحوه مما يغبطهم ، ولما
ذكر تعالى ما يبين فساد أمر الأصنام وقف على الحجة على بطلانها عقب ذلك بذكر عظمته
وقدرته ليبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله تعالى ، فأخبر عن
إمساكه السماوات والأرض بالقدرة ، وقوله (أَنْ تَزُولا) معناه كراهة (أَنْ تَزُولا) ، ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها ،
وقال بعض المفسرين معناه (أَنْ تَزُولا) عن الدوران ، ويظهر من قول عبد الله بن مسعود أن السماء لا
تدور وإنما تجري فيها الكواكب وذلك أن الطبري أسند أن جندبا الجبلي رحل إلى كعب
الأحباري ثم رجع فقال له عبد الله بن مسعود : حدثنا ما حدثك ، فقال : حدثني أن
السماء في قطب كقطب الرحا ، والقطب عمود على منكب ملك ، فقال له عبد الله بن مسعود
: لوددت أنك افتديت رحلته بمثل راحلتك ورحلك ، ثم قال : ما تمكنت اليهودية في قلب عبد
فكادت أن تفارقه ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) وكفى بها زوالا أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت ، وقوله
(وَلَئِنْ زالَتا) قيل أراد يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فكأنه
قال ولئن جاء وقت زوالهما ، وقيل بل ذلك على جهة التوهم والفرض ، ولئن فرضنا
زوالهما فكأنه قال ولو زالتا ، وقال بعضهم (لَئِنْ) في هذا الموضع بمعنى لو.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قريب من الذي قبله ، وقرأ ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقوله (مِنْ بَعْدِهِ) فيه حذف مضاف تقديره من بعد تركه الإمساك ، وقالت فرقة :
اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول
والأرض كذلك لإشراك الكفرة فيمسكهما الله حلما منه عن المشركين وتربصا ليغفر لمن
آمن منهم ، كما قال في آية أخرى (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ) [مريم: ٩٠] [الشورى
: ٥].
قوله عزوجل :
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى
الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)
(٤٣)
الضمير في قوله (أَقْسَمُوا) لكفار قريش ، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام
تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضا وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى
من هؤلاء وهؤلاء ، و (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) منصوب على المصدر ، أي بغاية اجتهادهم ، و (إِحْدَى الْأُمَمِ) يريد اليهود والنصارى ، و «النفور» البعد عن الشيء والفزع
منه والاستبشاع له ، و (اسْتِكْباراً) قيل فيه بدل من النفور ، وقيل مفعول من أجله ، أي نفروا من
أجل الاستكبار ، وأضاف «المكر» إلى (السَّيِّئِ) وهو صفة كما قيل دار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وجانب الغربي
، وقرأ الجمهور بكسر الهمزة من «السّيّئ» وقرأ حمزة وحده «السّيّئ» بسكون الهمزة
وهو في الثانية برفع الهمزة كالجماعة ، ولحن هذه القراءة الزجاج ووجهها أبو علي
الفارسي بوجوه منها أن يكون أسكن لتوالي الحركات كما قال: «قلت صاحب قوم» على أن
المبرد روى هذا قلت صاح ، وكما امرؤ القيس : [السريع]
اليوم أشرب غير
مستحقب
|
|
إثما من الله
ولا واغل
|
على أن المبرد قد
رواه فاشرب وكما قال جرير : [البسيط]
سيروا بني العم
فالأهواز منزلكم
|
|
ونهر تيرى ولن
تعرفكم العرب
|
وقرأ ابن مسعود «ومكرا
سيئا» ، قال أبو الفتح : يعضده تنكير ما قبله من قوله (اسْتِكْباراً) ، و (يَحِيقُ) معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه ، وقوله (إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، أي أنه لا بد أن يحيق بهم إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة
فعاقبته الفاسدة لهم ، وإن حاق في الدنيا بغيرهم أحيانا فعاقبة ذلك على أهله ،
وقال كعب لابن عباس : إن في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» ، فقال ابن عباس
: أنا أوجدك هذا في
كتاب الله تعالى :
(وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، و (يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون ، و «السنة» الطريقة والعادة ، وقوله (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ
تَبْدِيلاً) أي لتعذيبه الكفرة المكذبين ، وفي هذا توعد بين.
قوله عزوجل :
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ
النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً)
(٤٥)
لما توعدهم تعالى
في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة ، وقفهم في هذه
الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها ، و «يعجزه»
معناه يفوته ويفلته ، و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) زائدة مؤكدة ، و «عليم قدير» صفتان لائقتان بهذا الموضع ،
لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء ، ثم بين تعالى الوجه في إمهاله من أمهل من
عباده أن ذلك إنما هو لأن الآخرة من وراء الجميع وفيها يستوفى جزاء كل أحد ، ولو
جازى عزوجل في الدنيا على الذنوب لأهلك الجميع ، وقوله تعالى : (مِنْ دَابَّةٍ) مبالغة ، والمراد بنو آدم لأنهم المجازون ، وقيل المراد
الجن والإنس ، وقيل كل ما دب على الأرض من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم
وبسببه ، والضمير في (ظَهْرِها) عائد على (الْأَرْضِ) المتقدم ذكرها ، ولو لم يتقدم لها ذكر لأمكن في هذا الموضع
لبيان الأمر ولكانت ك (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ونحوها ،
و «الأجل المسمى» القيامة ، وقوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً) توعد وفيه للمتقين وعد.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة يس
هذه السورة مكية
بإجماع إلا أن فرقة قالت إن قوله ، (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] نزلت في
بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم فقال لهم : «دياركم تكتب آثاركم» ، وكره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يعروا المدينة ، وعلى هذا فالآية مدنية وليس الأمر كذلك
، وإنما نزلت الآية بمكة ولكنه احتج بها عليهم في المدينة ووافقها قول النبيصلىاللهعليهوسلم في المعنى ، فمن هنا قال من قال إنها نزلت في بني سلمة ،
وروى أنس بن مالك أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس» ، وروت عائشة
رضي الله عنها أنه عليهالسلام قال : «إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها وهي
يس» ، وقال يحيى بن أبي كثير : من قرأ سورة يس ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح ويصدق
ذلك التجربة.
قوله عزوجل :
(يس (١)
وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ)
(٥)
أمال حمزة
والكسائي الياء في (يس) غير مفرطين والجمهور يفتحونها ونافع وسط في ذلك ، وقوله
تعالى : (يس) يدخل فيه من الأقوال ما تقدم في الحروف المقطعة في أوائل
السور ، ويختص هذا بأقوال ، منها أن سعيد بن جبير قال : إنه اسم من أسماء محمد صلىاللهعليهوسلم دليله (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) وقال السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي
بالنصح جاهدة
|
|
على المودة إلا
آل ياسينا
|
وقال ابن عباس :
معناه يا إنسان بلسان الحبشة ، وقال أيضا ابن عباس في كتاب الثعلبي : هو بلغة
طيّىء وذلك أنهم يقولون يا إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه ،
وقالت فرقة : «يا» حرف نداء ، والسين مقامة مقام الإنسان انتزع منه حرف فأقيم
مقامه ، ومن قال إنه اسم من أسماء السورة أو من أسماء القرآن فذلك من الأقوال
المشتركة في أوائل جميع السور ، وقرأ جمهور القراء (يس) و «نون» [القلم :
١] بسكون النون وإظهارها وإن كانت النون ساكنة تخفى مع الحروف فإنما هذا مع
الانفصال ، وإن حق هذه الحروف المقطعة في الأوائل أن تظهر ، وقرأ عاصم وابن عامر
بخلاف عنهما (يس وَالْقُرْآنِ)
بإدغام النون في
الواو على عرف الاتصال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف بنصب النون ، وهي قراءة عيسى بن
عمرو رواها عن الغنوي ، وقال قتادة : (يس) قسم ، قال أبو حاتم : قياس هذا القول نصب النون كما تقول
الله لأفعلن كذا ، وقرأ الكلبي بضمها وقال هي بلغة طيىء «يا إنسان» ، وقرأ أبو
السمال وابن أبي إسحاق بخلاف بكسرها وهذه الوجوه الثلاثة هي للالتقاء ، وقال أبو الفتح
ويحتمل الرفع أن يكون اجتزاء بالسين من «يا إنسان» ، وقال الزجاج النصب كأنه قال
اتل يس وهو مذهب سيبويه على أنه اسم للسورة ، و (يس) مشبهة الجملة من الكلام فلذلك عدت آية بخلاف (طس) [النحل : ١٤] ولم ينصرف (يس) للعجمة والتعريف ، و (الْحَكِيمِ) المحكم ، فيكون فعيل بمعنى مفعل أي أحكم في مواعظه وأوامره
ونواهيه ، ويحتمل أن يكون (الْحَكِيمِ) بناء فاعل أي ذو الحكمة ، وقوله (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يجوز أن تكون جملة في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر ،
ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها في موضع حال من (الْمُرْسَلِينَ) ، و «الصراط» الطريق ، والمعنى على طريق وهدى ومهيع رشاد ،
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تنزيل» بالرفع على خبر الابتداء وهي قراءة أبي
جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تنزيل» بالنصب
على المصدر ، واختلف عن عاصم ، وهي قراءة طلحة والأشهب وعيسى بن عمر والأعمش بخلاف
عنهما.
قوله عزوجل :
(لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
لَقَدْ
حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
وَجَعَلْنا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ)
(٩)
اختلف المفسرون في
قوله (ما أُنْذِرَ) ، فقال عكرمة (ما) بمعنى الذي ، والتقدير الشيء الذي أنذره الآباء من النار
والعذاب ، ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية على هذا القول من أن الآباء أنذروا.
قال القاضي أبو
محمد : ف «الآباء» على هذا كله هم الأقدمون على مر الدهور ، وقوله تعالى: (فَهُمْ) ، مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من
الجملة ، وقال قتادة (ما) نافية أي أن آباءهم لم ينذروا ، فالآباء على هذا هم
القريبون منهم ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٤٤] ، وهذه
النذارة المنفية هي نذارة المباشرة والأمر والنهي ، وإلا فدعوة الله تعالى من
الأرض لم تنقطع قط ، وقوله (فَهُمْ) على هذا ، الفاء منه واصلة بين الجملتين ورابطة للثانية
بالأولى ، و (حَقَّ الْقَوْلُ) معناه وجب العذاب وسبق القضاء به هذا فيمن لم يؤمن من قريش
كمن قتل ببدر وغيرهم ، وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) الآية قال مكي : قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا
النار.
قال القاضي أبو
محمد : وقوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يضعف هذا القول لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد
يرى قبح حاله ، وقال الضحاك : معناه متعناهم من النفقة في سبيل الله ، كما
قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى
عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٣] ،
وقال ابن عباس وابن إسحاق : الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا محمدا صلىاللهعليهوسلم بسوء ، فجعل الله تعالى هذا مثالا لهم في كفه إياهم عن
محمد صلىاللهعليهوسلم ومنعهم من إذايته حين بيتوه ، قال عكرمة : نزلت هذه الآية
حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم فمنعه الله تعالى منه ، الحديث ، وفي غير ذلك
من المواطن وقالت فرقة : الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من
الإيمان وحوله بينهم وبينه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم (لا يُؤْمِنُونَ) بما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة
الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين ، والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف
والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى التغليل ،
وقوله تعالى : (فَهِيَ) يحتمل أن يعود على «الأغلال» أي هي عريضة تبلغ بحرفها (الْأَذْقانِ) ، والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو
السماء وذلك هو «الإقماح» وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان
والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه ، ويحتمل وهو
قول الطبري أن تعود «هي» على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى
، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبيّ «إنا
جعلنا في أيمانهم» ، وفي بعضها «في أيديهم» ، وقد ذكرنا معنى «الإقماح» ، وقال قتادة
: المقمح الرافع رأسه ، وقال قتادة : (مُقْمَحُونَ) مضللون عن كل خير ، وأرى الناس علي بن أبي طالب رضي الله
عنه الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقها ورفع رأسه ، وقرأ الجمهور «سدّا» بضم
السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب
وعكرمة والنخعي وابن كثير «سدا» بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى
واحد أي حائلا يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما
كان خلقة فهو بالفتح.
قال القاضي أبو
محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار
الطفل ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد
دونهم ، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم» بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ،
وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأغشيناهم»
بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم والمعنى (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) رشدا ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم» بتاء دون ألف
وبالغين منقوطة.
قوله عزوجل :
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)
إِنَّما
تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)
(١٢)
هذه مخاطبة لمحمد صلىاللهعليهوسلم مضمنها تسلية عنهم أي أنهم قد حتم عليهم بالكفر فسواء
إنذارك وتركه ،
والألف في قوله في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ألف التسوية لأنها ليست باستفهام بل المستفهم والمستفهم
مستويان في علم ذلك ، وقرأ الجمهور «آنذرتهم» بالمد ، وقرأ ابن محيصن والزهري «أنذرتهم»
بهمزة واحدة على الخبر ، (وَسَواءٌ) رفع بالابتداء ، وقوله (أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) جملة من فعلين متعادلين تقدر تقدير فعل واحد هو خبر
الابتداء ، كأنه قال وسواء عليهم جميع فعلك ففسر هذا الجميع ب (أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، ومثله قولهم : سواء عندي أقمت أم قعدت ، هكذا ذكر أبو
علي في تحقيق الخبر في مثل هذا إذ من الأصول أن الابتداء هو الخبر والخبر هو
الابتداء ، وقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) ليس على جهة الحصر ب (إِنَّما) بل على تجهة تخصيص من ينفعه الإنذار ، و «اتباع الذكر» هو
العمل بما في كتاب الله تعالى والاقتداء به ، قال قتادة : (الذِّكْرَ) القرآن وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) أي بالخلوات عند مغيب الإنسان عن عيون البشر ، ثم قال
تعالى (فَبَشِّرْهُ) فوحد الضمير مراعاة للفظ من ، و «الأجر الكريم» هو كل ما
يأخذه الأجير مقترنا بحمد على الأحسن وتكرمة ، وكذلك هي للمؤمنين الجنة ، ثم أخبر
تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة ، ثم توعدهم بذكره كتب الآثار ، وإحصاء كل
شيء وكل ما يصنعه الإنسان ، فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه تعالى ذكر الأمر
من الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى ويذكر ما قدم الإنسان من خير أو شر ، وإلا
فذلك كله داخل فيما قدم ابن آدم ، وقال قتادة (ما قَدَّمُوا) معناه من عمل ، وقاله ابن زيد ومجاهد وقد يبقى للمرء ما
يستن به بعده فيؤجر به أو يأثم ، ونظير هذه الآية (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ،
وقوله (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] ،
وقرأت فرقة «وآثارهم» بالنصب ، وقرأ مسروق «وآثارهم» بالرفع ، وقال ابن عباس وجابر
بن عبد الله وأبو سعيد الخدري إن هذه الآية نزلت في بني سلمة حين أرادوا النقلة
إلى جانب المسجد ، وقد بينا ذلك في أول السورة ، وقال ثابت البناني : مشيت مع أنس
بن مالك إلى الصلاة فأسرعت فحبسني فلما انقضت الصلاة قال لي : مشيت مع زيد بن ثابت
إلى الصلاة ، فأسرعت في مشيي فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى الصلاة فأسرعت في مشيي فحبسني ، فلما انقضت الصلاة قال
لي : يا زيد أما علمت أن الآثار تكتب.
قال القاضي أبو
محمد : فهذا احتجاج بالآية ، وقال مجاهد وقتادة والحسن : والآثار في هذه الآية
الخطا ، وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة ، وقيل الآثار
ما يبقى من ذكر العمل فيقتدى به فيكون للعامل أجر من عمل بسنته من بعده ، وكذلك
الوزر في سنن الشر ، وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ) نصب بفعل مضمر يدل عليه (أَحْصَيْناهُ) كأنه قال وأحصينا كل شيء أحصيناه ، و «الإمام» الكتاب
المقتدى به الذي هو حجة ، قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ ، وقالت
فرقة : أراد صحف الأعمال.
قوله عزوجل :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
إِذْ
أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا
إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ
إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ
إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا
يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)
وَما
عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧)
الضرب للمثل مأخوذ
من الضريب الذي هو الشبه في النوع ، كما تقول هذا ضرب هذا ، واختلف هل يتعدى فعل
ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد ، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية
(مَثَلاً) و (أَصْحابَ) مفعولين لقوله (اضْرِبْ) ، ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله (مَثَلاً) وجعل (أَصْحابَ) بدلا منه ، ويجوز أن يكون المفعول (أَصْحابَ) ويكون قوله (مَثَلاً) نصب على الحال ، أي في حال تمثيل منك ، و (الْقَرْيَةِ) على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية ، واختلف
المفسرون في «المرسلين» فقال قتادة وغيره : كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليهالسلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه ، فافترق الحواريون في
الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى انطاكية ، وقالت فرقة : هؤلاء
أنبياء من قبل الله تعالى.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا يرجحه قول الكفرة (ما أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى
والآخر محتمل ، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئا يطول والصحة فيه غير متيقنة
فاختصرته ، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى
عبادة الله تعالى وحده ، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما
بثالث وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في
آخر أمره ، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا ، وقرأ جمهور القراء «فعزّزنا»
بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا ، وبهذا فسر مجاهد وغيره ، وقرأ عاصم في
رواية المفضل عن أبي بكر «فعززنا» بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم ، وفي
حرف ابن مسعود «فعززنا بالثالث» بألف ولام ، وهذه الأمة أنكرت النبوءة بقولها : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ، وراجعتهم الرسل بأن يردوا العلم إلى الله تعالى وقنعوا
بعلمه وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا
وعيد لهم.
قوله عزوجل :
(قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)
اتَّبِعُوا
مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
(٢١)
قال بعض المتأولين
: إن أهل هذه القرية أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم المرسلين فلذلك (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) ، وقال مقاتل : احتبس عنهم المطر فلذلك قالوه ، ومعناه
تشاءمنا بكم ، مأخوذ من الحكم بالطير ، وهو معنى متداول في الأمم وقلما يستعمل
تطيرت إلا في الشؤم ، وأما حكم الطير عند مستعمليه ففي التيمن وفي الشؤم ، والأظهر
أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا
على نحو تطير قريش بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى ، وقال
قتادة : قالوا إن
أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، و (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) معناه بالحجارة ، قاله قتادة ، وقولهم عليهمالسلام ، (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ، معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم ، أي من
أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم ، وبهذا فسر
الناس ، وسمي الحظ والنصيب طائرا استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر ،
وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية : فطار لنا ، حين اقتسم
المهاجرون ، عثمان بن مظعون ، ويقول الفقهاء : طار لفلان في المحاصة كذا وكذا ،
وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد «طيركم معكم» ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن
عامر «أإن ذكرتم» بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون ، وقرأ نافع
وأبو عمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء «أين ذكرتم» ، وقرأ
الماجشون «أن ذكرتم» بفتح الألف ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن ذكرتم» بكسر الألف
، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش «أأن ذكرتم» بهمزتين مفتوحتين
وشاهده قول الشاعر : [الطويل]
أأن كنت داود بن
أحوى مرجلا
|
|
فلست براع لابن
عمك محرما
|
وقرأ أبو جعفر بن
القعقاع والأعمش «أين ذكرتم» بسكون الياء وتخفيف الكاف.
قال القاضي أبو
محمد : فهي «أين» المقولة في الظرف ، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة
والحسن في تخفيف الكاف فقط ، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي ، وأخبر تعالى ذكره عن حال
رجل (جاءَ مِنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ) سمع من المرسلين وفهم عن الله تعالى فجاء يسعى على قدميه
وسمع قولهم فلما فهمه روي أنه تعقب أمرهم وسبرهم بأن قال لهم : أتطلبون على دعوتكم
هذه أجرا؟ قالوا : لا ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم و «الإيمان بهم» إذ هو الحق
ثم احتج عليهم بقوله (اتَّبِعُوا مَنْ لا
يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) وهم على هدى من الله.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه الآية حاكمة بنقص من يأخذ على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة
كالصلاة ونحوها ، فإنها كالتبليغ لمن بعث بخلاف ما لا يلزمه كالإمارة والقضاء ،
وقد ارتزق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروي عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس
أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجارا وكان فيما قال وهب بن منبه قد تجذم ، فقيل : كان
في غار يعبد ربه ، وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة علي
بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون ، وذكر الناس من أسماء الرسل صادق وصدوق
وشلوم وغير هذا والصحة معدومة فاختصرته.
قوله عزوجل :
(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ
الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ
شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي
رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)
(٢٧)
قرأ الجمهور «ومالي»
بفتح الياء ، وقرأ الأعمش وحمزة بسكون الياء ، وقد تقدم مثل هذا ، وقوله تعالى : (وَما لِيَ) تقرير لهم على جهة التوبيخ في هذا الأمر الذي يشهد العقل
بصحته أن من فطر واخترع وأخرج من العدم إلى الوجود فهو الذي يستحق أن يعبد ، ثم
أخبرهم بأنهم يحشرون إليه يوم القيامة ، ثم وقفهم أيضا على جهة التوبيخ على اتخاذ
الآلهة من دون الله تعالى ، وهي لا ترد عن الإنسان المقادير التي يريدها الله
تعالى به لا بقوة منها ولا بشفاعة ، وقرأ طلحة السمان وعيسى الهمداني «أن يردني»
بياء مفتوحة ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو ، ثم صدع رضي الله تعالى عنه بإيمانه
وأعلن فقال (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) واختلف المفسرون في قوله (فَاسْمَعُونِ) فقال ابن عباس وكعب ووهب : خاطب بها قومه.
قال القاضي أبو
محمد : على جهة المبالغة والتنبيه ، وقيل خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم
والاستحفاظ عندهم ، وقرأ الجمهور «فاسمعون» بكسر النون على نية الياء بعد ها وروى
أبو بكر عن عاصم «فاسمعون» بفتح النون قال أبو حاتم : هذا خطأ لأنه أمر ، فإما حذف
النون وإما كسرها على نية الياء.
قال القاضي أبو
محمد : وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات ، وهو أنهم قتلوه ،. واختلف كيف ،
فقال قتادة وغيره : رجموه بالحجارة ، وقال عبد الله بن مسعود : مشوا عليه بأقدامهم
حتى خرج قصبه من دبره ، فقيل له عند موته (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من
ساكنيها برؤيته ما أقر عينه ، فلما تحصل له ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك ، وقيل
أراد بذلك الإشفاق والتنصح لهم ، أي لو علموا بذلك لآمنوا بالله تعالى ، وقيل أراد
أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويحزنهم ذلك ، وهذا موجود في جبلة البشر إذا
نال خيرا في بلد غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ولا سيما في
الكرامات ، ونحو من ذلك قول الشاعر :
والعز مطلوب
وملتمس
|
|
وأحبه ما نيل في
الوطن
|
قال القاضي أبو
محمد : والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح ، وفي ذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم «نصح قومه حيا
وميتا» ، وقال قتادة بن دعامة : نصحهم على حالة الغضب والرضى ، وكذلك لا تجد
المؤمن إلا ناصحا للناس ، و «ما» في قوله تعالى : (بِما) يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي ، ويجوز أن تكون
بمعنى الذي ، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي : ويجوز أن يكون استفهاما ، ثم
ضعفه.
قوله عزوجل :
(وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
إِنْ
كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ
(٣٠)
أَلَمْ
يَرَوْا
كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١)
وَإِنْ
كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)
(٣٢)
هذه مخاطبة لمحمد صلىاللهعليهوسلم فيها توعد لقريش إذ هذا هو المروع لهم من المثال ، أي ينزل
بهم من عذاب الله ما نزل بقوم حبيب النجار ، فنفى عزوجل ، أي أنه ما أنزل على قوم هذا الرجل (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) ، فقال مجاهد : أراد أنه لم يرسل رسولا ولا استعتبهم ، قال
ابن مسعود : أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق
والريح وغير ذلك بل كانت صيحة واحدة لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك ، قال قتادة :
والله ما عاتب الله تعالى قومه بعد قتله حتى أهلكهم ، واختلف المتأولون في قوله (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) ، فقالت فرقة (ما كُنَّا
مُنْزِلِينَ) ، (ما) نافية وهذا يجري مع التأويل الثاني في قوله ، (ما أَنْزَلْنا مِنْ جُنْدٍ) ، وقالت فرقة (وَما) عطف على (جُنْدٍ) أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك ،
وقرأ الجمهور «إلا صيحة» بالنصب على خبر «كان» ، أي ما كان عذابهم إلا صيحة واحدة
، وقرأ أبو جعفر ومعاذ بن الحارث «إلا صيحة» بالرفع ، وضعفها أبو حاتم ، والوجه
فيها أنها ليست «كان» التي تطلب الاسم والخبر ، وإنما التقدير ما وقعت أو حدثت إلا
صيحة واحدة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود إلا زقية «وهي الصيحة» من
الديك ونحوه من الطير ، و (خامِدُونَ) ساكنون موتى لاطئون بالأرض شبهوا بالرماد الذي خمدت ناره
وطفئت ، وقوله (يا حَسْرَةً) نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء
مثل هذا عند سيبويه ، وهو معنى قويم في نفسه ، وهو نداء منكور على هذا القراءة ،
قال الطبري : المعنى «يا حسرة العباد على أنفسهم» ، وذكر أنها في بعض القراءات
كذلك ، وقال ابن عباس : «يا ويلا العباد» ، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين
ومجاهد وأبي بن كعب «يا حسرة العباد» ، بإضافتها ، وقول ابن عباس حسن مع قراءته ،
وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفا
على العباد ، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على
الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العباد ، وقال أبو العالية :
المراد ب (الْعِبادِ) الرسل الثلاثة ، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا
عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم ، وقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ) الآية ، يدافع هذا التأويل ، والحسرة التلهفات التي تترك
صاحبها حسيرا ، وقرأ الأعرج بن جندب وأبو الزناد «يا حسرة» بالوقف على الهاء وذلك
للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس ، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في
التشفيق وهز النفس كقولهم : أوه ونحوه ، وقوله (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ) الآية ، تمثيل لفعل قريش ثم عناهم بقوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ
مِنَ الْقُرُونِ) ، و (كَمْ) هنا خبرية ، و (أَنَّهُمْ) بدل منها ، والرؤية رؤية البصر ، وفي قراءة ابن مسعود «أو
لم يروا من أهلكنا» ، وقرأ جمهور القراء «أنهم» بفتح الألف ، وقرأ الحسن بن أبي
الحسن «إنهم» بكسرها ، وقرأ جمهور الناس «لما جميع» بتخفيف الميم وذلك على زيادة «ما»
للتأكيد ، والمعنى لجميع ، وقرأ الحسن وابن جبير وعاصم «لمّا» بشد الميم ، قالوا
هي منزلة منزلة «إلا» ، وقيل المراد «لمما» حذفت الميم الواحدة وفيها ضعف ، وفي
حرف أبيّ و «إن منهم إلا جميع» ، و (مُحْضَرُونَ) قال قتادة : محشرون يوم القيامة.
قوله عزوجل :
(وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ
(٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(٣٥)
سُبْحانَ
الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)
(٣٦)
(وَآيَةٌ) معناه علامة على الحشر وبعث الأجساد ، والضمير في (لَهُمُ) يراد به كفار قريش ، وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر ، «الميّتة»
بكسر الياء وشدها ، وقرأ أبو عمرو وعاصم «الميتة» بسكون الياء ، وإحياؤها بالمطر ،
وقرأ جمهور الناس «من ثمره» بفتح الثاء والميم ، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة
والكسائي «من ثمرة» بضمهما ، وقرأ الأعمش «من ثمره» بضم الثاء وسكون الميم ،
والضمير في (ثَمَرِهِ) قالت فرقة هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) لأن التقدير ماء ، وقالت فرقة هو عائد على جميع ما تقدم
مجملا ، كأنه قال : من ثمر ما ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : هو من باب أن يذكر الإنسان
شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه ، كما قال الشاعر ، وهو الأزرق
بن طرفة بن العمرد القارضي الباهلي : [الطويل]
رماني بذنب كنت
منه ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطويّ رماني
|
قال القاضي أبو
محمد : وهذا وجه في الآية ضعيف ، و (ما) في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) قال الطبري : هي
اسم معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة
ونحوه ، وقالت فرقة : هي مصدرية وقيل هي نافية ، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهي
شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم ، وقرأ جمهور الناس «عملته» بالهاء
الضمير ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى «عملت» بغير ضمير
، ثم نزه نفسه تعالى تنزيها مطلقا في كل ما يلحد به ملحد أو يشرك مشرك ، و (الْأَزْواجَ) الأنواع من جميع الأشياء ، وقوله تعالى : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) نظير قوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النمل : ٨].
قوله عزوجل :
(وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)
وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
لا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ
النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)
(٤٠)
هذه الآيات جعلها
الله عزوجل أدلة على القدرة ووجوب الألوهية له ، و (نَسْلَخُ) معناه نكشط
ونقشر ، فهي
استعارة ، و (مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام ، واستدل قوم من هذه الآية على أن الليل
أصل والنهار فرع طار عليه ، وفي ذلك نظر ، و «مستقر الشمس» على ما روي في الحديث
عن النبيصلىاللهعليهوسلم من طريق أبي ذؤيب «بين يدي العرش تمجد فيه كل ليلة بعد
غروبها» ، وفي حديث آخر «أنها تغرب في عين حمئة ولها ثم وجبة عظيمة» ، وقالت فرقة
: مستقرها هو في يوم القيامة حين تكون فهي تجري لذلك المستقر ، وقالت فرقة :
مستقرها كناية عن غيوبها لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، وقيل :
مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين لأنهما نهاية مطالعها فإذا استقر وصولها كرت
راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين ، ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، وقالت
فرقة : مستقرها وقوفها عند الزوال في كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ظلال الأشياء
حينئذ ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح وأبو جعفر ومحمد بن
علي وجعفر بن محمد ، «والشمس تجري لا مستقر لها» ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو
والحسن والأعرج «والقمر» بالرفع عطفا على قوله (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ) عطف جملة على جملة ويصح وجه آخر وهو أن يكون قوله (وَآيَةٌ) ابتداء وخبره محذوف ، كأنه قال : في الوجود وفي المشاهدة ،
ثم فسر ذلك بجملتين من ابتداء وخبر وابتداء وخبر ، الأولى منهما (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ، والثانية (وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ، وقرأ الباقون «والقمر قدرناه» بنصب «القمر» على إضمار
فعل يفسره (قَدَّرْناهُ) ، وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه ، و (مَنازِلَ) نصب على الظرف ، وهذه المنازل المعروفة عند العرب وهي
ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة أقل من واحدة فيما يزعمون ، وعودته
هي استهلاله رقيقا ، وحينئذ يشبه «العرجون» وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ
التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن بن أبي الحسن ،
والوجود تشهد به ، وقرأ سليمان التيمي «كالعرجون» بكسر العين ، و (الْقَدِيمِ) معناه العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل ، و (يَنْبَغِي) هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا قدرة لها على غير
ذلك ، وقرأ الجمهور «سابق النهار» بالإضافة ، وقرأ عبادة «سابق النهار» دون تنوين
في القاف ، وبنصب «النهار» ذكره الزهراوي وقال : حذف التنوين تخفيفا ، و «الفلك»
فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل من الكواكب ، و (يَسْبَحُونَ) معناه يجرون ويعومون ، قال مكي : لما أسند إليها فعل من
يعقل جمعت بالواو والنون.
قوله عزوجل :
(وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)
وَخَلَقْنا
لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)
(٤٦)
(آيَةٌ) معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله (لَهُمْ) ، و (أَنَّا) بدل من (آيَةٌ) وفيه
نظر ، ويجوز أن
تكون «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلا ، وذكر
الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم»
بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم» بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير
المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه
في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة
، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات
المحمولين» أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله (مِنْ مِثْلِهِ) السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها
أراد الله تعالى بقوله (وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ) ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس
أيضا هو أن يريد بقوله (أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ) الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى
الأقطار فقط ، ويعود قوله (وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ) على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل
الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل (مِنْ مِثْلِهِ) في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) فتأمله ، و (الْفُلْكِ) جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ مِثْلِهِ) ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى
التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر ، و «الصريخ»
هنا بناء الفاعل بمعنى المصرخ ، وذلك أنك تقول صارخ بمعنى مستغيث ، ومصرخ بمعنى
مغيث ، ويجيء (صَرِيخَ) مرة بمعنى هذا ومرة بمعنى هذا لأن فعيلا من أبنية اسم
الفاعل ، فمرة يجيء من أصرخ ومرة يجيء من صرخ إذا استغاث ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً) قال الكسائي نصب (رَحْمَةً) على الاستثناء كأنه قال إلا أن يرحمهم رحمة ، وقال الزجاج
: نصب (رَحْمَةً) على المفعول من أجله كأنه قال : إلا لأجل رحمتنا إياهم ، و
(مَتاعاً) عطف على (رَحْمَةً) ، وقوله (إِلى حِينٍ) ، يريد إلى آجالهم المضروبة لهم.
قال القاضي أبو
محمد : والكلام تام في قوله (وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) استئناف إخبار عن السائرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين
فهم بهذه لا نجاة لهم إلا برحمة الله وليس قوله (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) مربوطا بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله ،
ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) الآية ، وما بين أيديهم قال مقاتل وقتادة : هو عذاب الأمم
الذي قد سبقهم في الزمن وما خلفهم هو عذاب الآخرة الذي يأتي من بعدهم في الزمن
وهذا هو النظر ، وقال الحسن : خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها.
قال القاضي أبو
محمد : فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء ، ولم يعتبر وجود الأشياء في
الزمن ، وهذا النظر يكسره عليه قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٤٦] ،
وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن فتأمله ، وجواب (إِذا) في هذه الآية محذوف تقديره أعرضوا يفسره قوله بعد ذلك (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ، و «الآيات» العلامات والدلائل.
قوله عزوجل :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
ما
يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)
(٥٠)
الضمير في قوله (لَهُمْ) لقريش ، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي
وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم وكان الأمر بمكة أولا فيه
بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى
أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله ، فقالوا عند ذلك (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ
أَطْعَمَهُ) قال الرماني : ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين ،
وقالت فرقة : بل سبب الآية أن قريشا شحت بسبب أزمة على المساكين جميعا ، مؤمن وغير
مؤمن وندبهم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول ، وقولهم يحتمل
معنيين من التأويل : أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب ، فقد روي أن أعرابيا
كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك
فقال : أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله ، فيخرج قول قريش على هذا المعنى
كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه ، ومن أمثالهم «كن مع الله كالمدبر» ،
والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلىاللهعليهوسلم إن ثم إلها هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي
تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا كما يدعي إنسان أنه غني ثم يحتاج إلى معونتك في مال فتقول له على جهة
الاحتجاج والهزء به أتطلب معونتي وأنت غني أي على قولك ، وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين ، أي في أمركم لنا
في نفقة أموالنا وفي غير ذلك من دينكم ، ويحتمل أن يكون من قول الله عزوجل للكفرة استئناف وزجرهم بهذا ، ثم حكى عنهم على جهة التقرير
عليهم قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي متى يوم القيامة الذي تزعم ، وقيل أرادوا متى هذا
العذاب الذي تهددنا به وسموا ذلك وعدا من حيث قيدته قرائن الكلام أنه في شر والوعد
متى ورد مطلقا فهو في خير وإذا قيدته بقرينة الشر استعمل فيه ، والوعيد دائما إنما
هو في الشر ، و (يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون ، و (ما) نافية ، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في
الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر
وهي التي تدوم ، فما لها من فواق ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن
القسطنطين المكي «يخصّمون» بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة ، وأصلها يختصمون
نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد ، وقرأ نافع وأبو عمرو
أيضا «يخصّمون» بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع
بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي ، وأصلها يختصمون حذفت
حركة التاء دون
نقل ثم أدغمت في الصاد ، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضا والحسن وأبو
عمرو بخلاف عنه «يخصّمون» بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون
عللت كالتي قبلها ، ثم كسرت للالتقاء ، وقرأت فرقة «يخصّمون» بكسر الياء والخاء
وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء ، وفي مصحف
أبي بن كعب «يختصمون» ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال
بينهم ويتدافعون في شؤونهم ، وقرأ حمزة «يختصمون» وهذه تحتمل معنيين أحدهما
المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضا في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق
في زعمهم وظنهم ، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا وغللوا
لأنك تقول خاصمت فلانا فخصمته إذا غلبته ، وقوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) عبارة عن إعجال الحال ، والتوصية مصدر من وصى ، وقوله
تعالى : (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) يحتمل ثلاث تأويلات : أحدها ولا يرجع أحد إلى منزله وأهله
لإعجال الأمر بل تفيض نفسه حيثما أخذته الصيحة ، والثاني معناه (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) قولا وهذا أبلغ في الاستعجال وخص الأهل بالذكر لأن القول
معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر ، والثالث
تقديره (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) أبدا ، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر
انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم ، وقرأ الجمهور «يرجعون» بفتح الياء وكسر الجيم ،
وقرأ ابن محيصن بضم الياء وفتح الجيم.
قوله عزوجل :
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
فَالْيَوْمَ
لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(٥٤)
هذه نفخة البعث ، و
(الصُّورِ) القرن في قول جماعة المفسرين وبذلك تواترت الأحاديث ، وذهب
أبو عبيدة إلى أن (الصُّورِ) جمع صورة خرج مخرج بسر وبسرة وكذلك قال سورة البناء جمعها
سور ، والمعنى عنده وعند من قال بقوله نفخ في صور بني آدم فعادوا أحياء ، و (الْأَجْداثِ) القبور ، وقرأ الأعرج «في الصّور» بفتح الواو جمع صورة ، و
(يَنْسِلُونَ) معناه يمشون بسرعة ، والنسلان مشية الذئب ، ومنه قول
الشاعر :
عسلان الذيب
أمسى قاربا
|
|
برد الليل عليه
فنسل
|
وقال ابن عباس : (يَنْسِلُونَ) يخرجون ، وقرأ جمهور الناس «ينسلون» بكسر السين ، وقرأ ابن
أبي إسحاق وأبو عمرو أيضا «ينسلون» بضمها ، ونداؤهم الويل بمعنى هذا وقتك وأوان
حضورك وهو منادى مضاف ، ويحتمل أن يكون نصب الويل على المصدر والمنادى محذوف ،
كأنهم قالوا يا قومنا ويلنا ، وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا» بتاء التأنيث ، وقرأ
الجمهور «من بعثنا» بفتح الميم على معنى الاستفهام ، وروي
عن علي بن أبي
طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ «من بعثنا» بكسر الميم على أنها لابتداء
الغاية ، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر ، وفي قراءة ابن مسعود ، «من أهبنا من
مرقدنا» أي من نبهنا ، وفي قراءة أبي بن كعب «من هبنا» ، قال أبو الفتح ولم أر لها
في اللغة أصلا ولا مر بنا مهبوب ، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه ،
وقولهم (مِنْ مَرْقَدِنا) يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة ، ويروى عن أبي بن
كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في قولهم (مِنْ مَرْقَدِنا) أنها استعارة وتشبيه ، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم
القيامة ، وفي كتاب الثعلبي : أنهم قالوا (مِنْ مَرْقَدِنا) لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب
جهنم ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد ، ثم استأنف بقوله ، (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) ويضمر الخبر حق أو نحوه ، وقال الجمهور : ابتداء الكلام (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) ، واختلف في هذه المقالة من قالها ، فقال ابن زيد : هي من
قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) وقالت فرقة : ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ
والتوقيف ، وقال الفراء : هو من قول الملائكة ، وقال قتادة ومجاهد : هو من قول
المؤمنين للكفرة على جهة التقريع ، ثم أخبر تعالى أن أمر القيامة والبعث من القبور
ما هو (إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) فإذا الجميع حاضر محشور ، وقرأت فرقة «إلا صيحة» بالنصب ،
وقرأت فرقة «إلا صيحة» بالرفع ، وقد تقدم إعراب نظيرها ، وقوله (فَالْيَوْمَ) نصب على الظرف ، ويريد يوم القيامة ، والحشر المذكور وهذه
مخاطبة يحتمل أن تكون لجميع العالم.
قوله عزوجل :
(إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ
فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها
فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
سَلامٌ
قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ)
(٦١)
هذا إخبار من الله
عزوجل عن حال أهل الجنة بعقب ذكر أهوال يوم القيامة وحالة الكفار
، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وطلحة وخالد
بن إلياس «في شغل» بضم الشين وسكون الغين ، وقرأ الباقون «في شغل» بالضم فيهما وهي
قراءة أهل المدينة والكوفة ، وقرأ مجاهد وأبو عمرو أيضا بالفتح فيهما ، وقرأ ابن
هبيرة على المنبر «في شغل» بفتح الشين وسكون الغين وهي كلها بمعنى واحد ، واختلف
الناس في تعيين هذا الشغل ، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب : في افتضاض
الأبكار ، وحكى النقاش عن ابن عباس سماع الأوتار ، وقال مجاهد معناه نعيم قد
شغلهم.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له ، ولما كان
النعيم نوعا واحدا
من حيث هو نعيم وحده فقال (فِي شُغُلٍ) ولو اختلف لقال في أشغال ، وحكى الثعلبي عن طاوس أنه قال :
لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به ، قال الثعلبي : وسئل بعض الحكماء
عن قوله عليهالسلام «أكثر أهل الجنة
البله» فقال : لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم ، وقرأ جمهور الناس «فاكهون» معناه
أصحاب فاكهة كما تقول لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وقرأ أبو رجاء ومجاهد ونافع أيضا
وأبو جعفر «فكهون» ومعناه طربون وفرحون مأخوذ من الفكاهة أي لا همّ لهم ، وقرأ
طلحة والأعمش وفرقة «فاكهين» جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله (فِي شُغُلٍ) ونصب «فاكهين» على الحال ، وقوله تعالى : (هُمْ) ابتداء و (أَزْواجُهُمْ) و (فِي ظِلالٍ) خبره ويحتمل أن يكون (هُمْ) بدلا من قوله (فاكِهُونَ) ويكون قوله (فِي ظِلالٍ) في موضع الحال كأنه قال مستظلين ، وقرأ جمهور القراء «في
ظلال» وهو جمع ظل إذ الجنة لا شمس فيها وإنما هواؤها سجسج كوقت الأسفار قبل طلوع
الشمس ، ويحتمل قوله (فِي ظِلالٍ) أن يكون جمع ظلة قال أبو علي كبرمة وبرام وغير ذلك ، وقال
منذر بن سعيد : (ظِلالٍ) جمع ظلة بكسر الظاء.
قال القاضي أبو محمد
: وهي لغة في ظلة ، وقرأ حمزة والكسائي «في ظلل» وهي جمع ظلة وهي قراءة طلحة وعبد
الله وأبي عبد الرحمن ، وهذه عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها
من الأشياء التي تظل ، وهي زينة ، و (الْأَرائِكِ) السرر المفروشة ، قال بعض الناس : من شروطها أن تكون عليها
حجلة وإلا فليست بأريكة ، وبذلك قيدها ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة ، وقال بعضهم
: الأريكة السرير كان عليه حجلة أو لم يكن ، وقوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) بمنزلة ما يتمنون قال أبو عبيدة : العرب تقول : ادع علي ما
شئت بمعنى تمن علي ، وتقول : فلان فيما ادعى أي فيما دعى به لأنه افتعل من دعا
يدعو وأصل هذا يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين وحذفت الياء لاجتماعها مع الواو
الساكنة فصار يدتعون قلبت التاء دالا فأدغمت الدال فيها وخصت الدال بالبقاء دون
التاء لأنها حرف جلد ، والتاء حرف همس. قال الرماني : المعنى أن من ادعى شيئا فهو
له لأنهم قد هذبت طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم ، وقوله تعالى : (سَلامٌ) قيل : هي صفة لما أي مسلم لهم وخالص ، وقيل : هو ابتداء ،
وقيل ؛ هو خبر ابتداء ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعيسى الثقفي والغنوي «سلاما»
بالنصب على المصدر ، وقرأ محمد بن كعب القرطبي «سلم» وهو بمعنى سلام ، و (قَوْلاً) نصب على المصدر وقوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) الآية فيه حذف تقديره ونقول للكفرة وهذه معادلة لقوله
لأصحاب الجنة (سَلامٌ) ، (وَامْتازُوا) معناه انفصلوا وانحازوا لأن العالم في الموقف إنما هم
مختلطون ، ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توقيفا لهم وتوبيخا على عهده إليهم
ومخالفتهم عهده ، وقرأ جمهور الناس «أعهد» بفتح الهاء ، وقرأ الهذيل وابن وثاب ، «ألم
اعهد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء ،
وروي عن ابن وثاب «ألم أعهد» بكسر الهاء ، يقال عهد وعهد ، وعبادة الشيطان هي
طاعته والانقياد لإغوائه ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي «أن اعبدون»
بضم النون من أن أتبعوا بها ضمة الدال واو الجماعة أيضا ، وقرأ عاصم وأبو عمرو
وحمزة «وأن اعبدون» بكسر النون على أصل الكسر للالتقاء ، وقوله تعالى (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى الشرائع ، فمعنى هذا أن الله تعالى عهد إلى بني
آدم وقت إخراج
نسلهم من ظهره أن
لا يعبدوا الشيطان وأن يعبدوا الله تعالى وقيل لهم هذه الشرائع موجودة وبعث تعالى
آدم إلى ذريته ولم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والصراط الطريق ، ويقال إنها دخيلة في كلام العرب
وعربتها.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(٦٣)
اصْلَوْهَا
الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ
نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)
(٦٥)
هذه أيضا مخاطبة
للكفار على جهة التقريع ، و «الجبلّ» : الأمة العظيمة ، قال النقاش عن الضحاك : أقلها
عشرة آلاف ، ولا حد لأكثرها ، وقرأ نافع وعاصم «جبلّا» بفتح الباء والجيم والشد
وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وأهل المدينة وعاصم وأبي رجاء والحسن بخلاف عنه ، وقرأ
الأشهب ، العقيلي «جبلا» بكسر الجيم وسكون الباء والتخفيف ، وقرأ الزهري والحسن
والأعرج «جبلّا» بضم الجيم والباء والشد ، وهي قراءة أبي إسحاق وعيسى وابن وثاب
وقرأ أبو عمرو وابن عامر والهذيل بن شرحبيل «جبلّا» بضم الجيم وسكون الباء
والتخفيف ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «جبلا» بضم الجيم والباء والتخفيف ، وذكر
أبو حاتم عن بعض الخراسانيين «جيلا» بكسر الجيم وبياء بنقطتين ساكنة ، وقرأ
الجمهور «أفلم تكونوا تعقلون» بالتاء ، وقرأ طلحة وعيسى «أفلم يكونوا يعقلون»
بالياء ، ثم وقفهم على جهنم التي كانوا يوعدون ويكذبون بها ، و (جَهَنَّمُ) أول طبقة من النار ، و (اصْلَوْهَا) معناه باشروا نارها ثم أخبر تعالى محمدا إخبارا تشاركه فيه
أمته في قوله (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ) أي في ذلك اليوم يكون ذلك ، وروي في هذا المعنى أن الله
تعالى يجعل الكفرة يخاصمون فإذا لم يأتوا بشيء تقوم به الحجة رجعوا إلى الإنكار
فناكروا الملائكة في الأعمال فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم فلا ينطقون
بحرف ، ويأمر تعالى جوارحهم بالشهادة فتشهد ، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أن أول ما يتكلم
من الكافر فخذه اليسرى» ، وقال أبو سعيد اليمني : ثم سائر جوارحه ، وروي أن بعض
الكفرة يقول يومئذ لجوارحه : تبا لك وسحقا فعنك كنت أما حل ونحو هذا من المعنى ،
وقد اختلفت فيه ألفاظ الرواة ، وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده
أنه قرأ «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم» بزيادة لام كي والنصب ، وهي مخالفة لخط
المصحف.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ
أَفَلا
يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ
كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)
(٧٠)
الضمير في (أَعْيُنِهِمْ) مراد به كفار قريش ، ومعنى الآية تبيين أنهم في قبضة
القدرة وبمدرج العذاب إن شاء الله تعالى لهم ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة :
أراد الأعين حقيقة ، والمعنى لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ، ويؤيد هذا مجانسة
المسخ للعمى الحقيقي ، وقال ابن عباس : أراد أعين البصائر ، والمعنى لو شئنا
لختمنا عليهم بالكفر فلم يهتد منهم أحد أبدا ، و «الطمس» إذهاب الشيء ، من الآثار
والهيئات ، حتى كأنه لم يكن ، أي جعلنا جلود وجوههم متصلة حتى كأنه لم تكن فيها
عين قط ، وقوله تعالى : (فَاسْتَبَقُوا) معناه على الفرض والتقدير ، كأنه قال : ولو شئنا لأعميناهم
فاحسب أو قدر أنهم يستبقون الصراط وهو الطريق (فَأَنَّى) لهم بالإبصار وقد أعميناهم ، و «أنى» لفظة استفهام فيه
مبالغة وقدره سيبويه ، كيف ومن أين ، و «مسخناهم» ظاهره تبديل خلقتهم بالقردة
والخنازير ونحوه مما تقدم في بني إسرائيل وغيرهم ، وقال الحسن وقتادة وجماعة من
المفسرين : معناه لجعلناهم مقعدين مبطلين ، لا يستطيعون تصرفا ، وقال ابن سلام هذا
التوعد كله يوم القيامة ، وقرأ الجمهور القراء «على مكانتهم» بإفراد ، وهو بمعنى
المكان كما يقال دار ودارة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «على مكاناتهم» بالجمع ،
وفي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ، وقرأ جمهور القراء «مضيا» بضم الميم ، وقرأ أبو
حيوة «مضيا» بفتحها ، ثم بين تعالى دليلا في تنكيسه المعمرين وأن ذلك مما لا يفعله
إلا الله تعالى ، وقرأ جمهور الناس «ننكسه» بفتح النون الأولى وسكون الثانية ، وضم
الكاف ، وقرأ حمزة وعاصم بخلاف عنه «ننكّسه» بضم النون الأولى وفتح الثانية وشد
الكاف المكسورة على المبالغة ، وأنكرها أبو عمرو على الأعمش ، ومعنى الآية نحول
خلقه من القوة إلى الضعف ومن الفهم إلى البله ، ونحو هذا ، وقرأ نافع وأبو عمرو في
رواية عياش «تعقلون» بالتاء على معنى قل لهم ، وقرأ الباقون «يعقلون» بالياء على
ذكر الغائب ، ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ورد قول من قال من الكفرة إنه شاعر ، وإن القرآن شعر بقوله
تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) وكذلك كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يقول الشعر ، ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم
متمثلا كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعنى فقط وأنشد يوما قول طرفة : [الطويل]
ستبدي لك الأيام
ما كنت جاهلا
|
|
ويأتيك من لم
تزوده بالأخبار
|
وأنشد يوما وقد
قيل له من أشعر الناس؟ فقال الذي يقول : [الطويل]
ألم ترياني كلما
جئت طارقا
|
|
وجدت بها وإن لم
تطيب طيبا
|
وأنشد يوما :
أتجعل نهبي ونهب
العبي
|
|
د بين الأقرع
وعيينة
|
وقد كان صلىاللهعليهوسلم ربما أنشد البيت المستقيم في النادر وروي أنه أنشد بيت ابن
رواحة : [الطويل]
يبيت يجافي جنبه
عن فراشه
|
|
إذا استثقلت
بالمشركين المضاجع
|
وقال الحسن بن أبي
الحسن : أنشد النبي صلىاللهعليهوسلم «كفى بالإسلام
والشيب للمرء ناهيا» ، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : نشهد أنك رسول الله
إنما قال الشاعر : «كفى الشيب والإسلام إلخ ...» حكاه الثعلبي.
قال القاضي أبو
محمد : وإصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك قد يأتي أحيانا في
نثر كلامه ما يدخل في وزن كقوله يوم حنين ، «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»
كذلك يأتي في آيات القرآن وفي كل كلام وليس كله بشعر ولا هو في معناه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد ، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي
الله عنها : كان الشعر أبغض الحديث إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان يتمثل بشعر
أخي قيس طرفة فيعكسه ، فقال له أبو بكر : ليس هكذا ، فقال : «ما أنا بشاعر وما
ينبغي لي» ، وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه ، قالوا وإنما منعه الله من
التحلي بهذه الحلية الرفيعة ليجيء القرآن من قبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر
لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى.
قال القاضي أبو
محمد : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان النبي صلىاللهعليهوسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا ، ولكن
كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام ،
وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعا له عما في قول الشعراء من التخييل ، وتزويق
القول ، وأما القرآن فهو ذكر لحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهكذا كان أسلوب
كلامه عليهالسلام لأنه لا ينطق عن الهوى ، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله ،
والضمير في (عَلَّمْناهُ) عائد على محمد صلىاللهعليهوسلم قولا واحدا ، والضمير في (لَهُ) يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن ، وإن
كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه ، وبين ذلك قوله تعالى : (إِنْ هُوَ) وقرأ نافع وابن كثير ، «لتنذر» بالتاء على مخاطبة محمد صلىاللهعليهوسلم وقرأ الباقون «لينذر» بالياء أي لينذر القرآن أو لينذر
محمد ، واللام في «لينذر» متعلقة ب (مُبِينٌ) ، وقرأ محمد اليماني «لينذر» بضم الياء وفتح الذال قال أبو
حاتم : ولو قرىء «لينذر» بفتح الياء والذال أي لتحفظ ويأخذ بحظه لكان جائزا ،
وحكاها أبو عمرو قراءة عن محمد اليماني ، وقوله تعالى : (مَنْ كانَ حَيًّا) أي حي القلب والبصيرة ، ولم يكن ميتا لكفره ، وهذه استعارة
قال الضحاك (مَنْ كانَ حَيًّا) معناه عاقلا ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) معناه يحتم العذاب ويجب الخلود ، وهذا كقوله تعالى : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [يونس : ٣٣].
قوله عزوجل :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها
لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها
مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً
لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
فَلا
يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)
(٧٦)
هذه مخاطبة في أمر
قريش وإعراضهم عن الشرع وعبادتهم الأصنام فنبههم تعالى على الألوهية ، بما لا يحصى
من الأدلة كثرة وبيانا ، فنبه بهذه الآية على إنعامه عليهم ببهيمة الأنعام ، وقوله
تعالى (أَيْدِينا) عبارة عن القدرة عبر عنها بيد وبيدين وبأيد ، وذلك من حيث
كان البشر إنما يقيمون القدرة والبطش باليد ، فعبر لهم عن القدرة بالجهة التي قربت
في أفهامهم ، والله تعالى منزه عن الجارحة والتشبيه كله ، وقوله (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) تنبيه على أن النعمة في أن هذه الأنعام ليست بعاتية ولا
متبورة ، بل تقتنى وتقرب منافعها ، (وَذَلَّلْناها) معناه سخرناها ذليلة ، والركوب المركوب ، وهذا فعول بمعنى
مفعول وليس إلا في ألفاظ محصورة كالركوب والحلوب والقروع ، وقرأ الجمهور «ركوبهم»
بفتح الراء ، وقرأ الحسن والأعمش «ركوبهم» بضم الراء ، وقرأ أبي بن كعب وعائشة «ركوبتهم»
، و «المنافع» إشارة إلى الأصواف والأوبار وغير ذلك ، و «المشارب» الألباب ، ثم
عنفهم في اتخاذ آلهة طلب الاستنصار بها والتعاضد ، ثم أخبر أنهم (لا يَسْتَطِيعُونَ) نصرا ويحتمل أن يكون الضمير في (يَسْتَطِيعُونَ) للكفار في نصرهم الأصنام ، ويحتمل الأمر عكس ذلك لأن
الوجهين صحيحان في المعنى ، كذلك قوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ) يحتمل أن يكون الضمير الأول للكفار والثاني للأصنام على
معنى وهؤلاء الكفار ، متجندون متحزبون لهذه الأصنام في الدنيا لكنهم لا يستطيعون
التناصر مع ذلك ، ويحتمل أن يكون الضمير الأول للأصنام والثاني للكفار أي يحضرون
لهم في الآخرة عند الحساب على معنى التوبيخ والنقمة ، وسماهم جندا في هذا التأويل
إذ هم عدة للنقمة منهم وتوبيخهم ، وجرت ضمائر الأصنام في هذه الآية مجرى من يعقل
إذ نزلت في عبادتها منزل ذي عقل فعملت في العبارة بذلك ، ثم أنس تعالى نبيه ،
بقوله (فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) وتوعد الكفار بقوله (إِنَّا نَعْلَمُ ما
يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).
قوله عزوجل :
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
وَضَرَبَ
لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(٧٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)
(٨٠)
هذه الآية قال
فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا؟ وقال مجاهد
وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال
ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال القاضي أبو
محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد
الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن
الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف
أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلىاللهعليهوسلم وحياله ، وقال من يحيي هذا يا محمد؟ ولأبي مع النبيصلىاللهعليهوسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في
عنقه ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأبي حين فت العظم «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك
جهنم» ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيما
مبينا هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله (وَنَسِيَ) يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و
«الرميم» البالي المتفتت ، وهو الرفات ثم دلهم تعالى على الاعتبار بالنشأة الأولى
، ثم عقب ذلك تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء ، وهذا
هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد
، وكذلك هو المرخ والعفار ، وأعاد الضمير على الشجر مذكرا من حيث راعى اللفظ فجاء
كالتمر والحصا وغيره.
قوله عزوجل :
(أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ(٨١)
إِنَّما
أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
فَسُبْحانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(٨٣)
هذا تقرير وتوقيف
على أمر تدل صحته على صحة بعث الأجساد من القبور وإعادة الموتى وجمع الضمير جمع من
يعقل في قوله (مِثْلَهُمْ) من حيث كانتا متضمنتين من يعقل من الملائكة والثقلين ، هذا
تأويل جماعة من المفسرين ، وقال الرماني وغيره : الضمير في مثلهم عائد على الناس.
قال القاضي أبو
محمد : فهم مثال للبعث ، وتكون الآية نظير قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقرأ
سلام أبو المنذر وابن أبي إسحاق ويعقوب والأعرج «والأرض يقدر» على يفعل مستقبلا ،
وقرأ جمهور «بقادر» ، وقرأ جمهور الناس «الخلاق» ، وقرأ الحسن «الخالق» ورفع «يكون»
على معنى فهو يكون ، وهي قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب ،
قال أبو علي : لا ينصب الكسائي إذا لم تتقدم «أن» وينصب ابن عامر وإن لم تتقدم «أن»
، والنصب هاهنا قراءة ابن محيصن وقوله تعالى : (كُنْ) أمر للشيء المخترع عند تعلق القدرة به لا قبل ذلك ولا بعده
، وإنما يؤمر تأكيدا للقدرة وإشارة بها ، وهذا أمر دون حروف ولا أصوات بل من كلامه
القائم بذاته لا رب سواه ، ثم نزه تعالى نفسه تنزيها عاما مطلقا ، وقرأ جمهور
الناس «ملكوت» ، وقرأ طلحة التيمي والأعمش «ملكه» بفتح اللام ومعناه ضبط كل شيء
والقدرة عليه ، وباقي الآية بين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الصّافات
هذه السورة مكية
وعدها في المدني والشامي والكوفي مائة آية واثنان وثمانون آية.
قوله عزوجل :
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)
(٧)
أقسم تعالى في هذه
الآية بأشياء من مخلوقاته واختلف الناس في معناها ، فقال ابن مسعود ومسروق وقتادة
: هي الملائكة التي تصف في السماء في عبادة الله وذكره صفوفا وقالت فرقة : أراد كل
من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله ، أو في صلاة وطاعة ، والتقدير والجماعات
الصافات.
قال القاضي أبو
محمد : واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها ، ومما أقسم به عزوجل «الزاجرات» واختلف الناس في معناها أيضا فقال مجاهد والسدي
: هي الملائكة التي تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى ، وقال قتادة : «الزاجرات»
هي آيات القرآن المتضمنة النواهي الشرعية ، وقوله (فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً) معناه القارئات ، وقال مجاهد والسدي : أراد الملائكة التي
تتلو ذكره ، وقال قتادة : أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره
ونحو ذلك ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال ، وهي قراءة ابن مسعود
ومسروق والأعمش ، وقرأ الباقون وجمهور الناس بالإظهار ، وكذلك في كلها ، قال أبو
حاتم : والبيان اختيارنا وأما الحاملات وقرا والجاريات يسرا ، فلا يجوز فيها
الإدغام لبعد التاء من الحرفين ، ثم بين تعالى المقسم عليه أنه توحيده وأنه واحد
أي متحد في جميع الجهات التي ينظر فيها المفكر ، ثم وصف تعالى نفسه بربوبيته جميع
المخلوقات ، وذكر (الْمَشارِقِ) لأنها مطالع الأنوار والعيون بها أكلف ، وفي ذكرها غنية عن
ذكر المغارب إذ معادلتها لها مفهومة عند كل ذي لب ، وأراد تعالى مشارق الشمس وهي
مائة وثمانون في السنة فيما يزعمون من أطول أيام السنة إلى أقصرها ، ثم أخبر تعالى
عن قدرته من تزيين السماء بالكواكب وانتظم في ذلك التزيين أن جعلها (حِفْظاً) وحرزا من الشياطين المردة وهم مسترقو السمع ، وقرأ جمهور
القراء «بزينة الكواكب» بإضافة الزينة إلى «الكواكب» ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «بزينة
الكواكب» بتنوين «زينة» وخفض «الكواكب» على البدل من الزينة وهي
قراءة ابن مسعود
ومسروق بخلاف عنه وأبي زرعة بن عمر وابن جرير وابن وثاب وطلحة ، وقرأ أبو بكر عن
عاصم «بزينة» بالتنوين «الكواكب» بالنصب وهي قراءة ابن وثاب وأبي عمرو والأعمش
ومسروق ، وهذا في الإعراب نحو قوله عزوجل : (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٤].
وحكى الزهراوي
قراءة «بزينة» بالتنوين «الكواكب» بالرفع ، و «المارد» المتجرد للشر ومنه شجرة
مرداء لا ورق عليها ، ومنه الأمرد وخص تعالى السماء الدنيا بالذكر لأنها التي
تباشر بأبصارنا وأيضا فالحفظ من الشيطان إنما هو فيه وحدها ، (وَحِفْظاً) نصب على المصدر وقيل مفعول من أجله والواو زائدة.
قوله تعالى :
(لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨)
دُحُوراً
وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)
(١٠)
(الْمَلَإِ الْأَعْلى) أهل السماء الدنيا فما فوقها ، ويسمى الكل منهم أعلى
بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل ، والضمير في (يَسَّمَّعُونَ) للشياطين ، وقرأ جمهور القراء والناس «يسمعون» بسكون السين
وتخفيف الميم ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد
الله بن مسلم وطلحة والأعمش «لا يسّمّعون» بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون
فينتفي على القراءة الأولى سمعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح ، ويعضده
قوله تعالى (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢]
وينتفي على القراءة الآخرة أن يقع منهم استماع أو سماع ، وظاهر الأحاديث أنهم
يستمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون وإن سمع منهم أحد شيئا لم يفلت الشهاب قبل أن
يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته ، لأن من وقت محمد صلىاللهعليهوسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا ، وكان الرجم في الجاهلية
أخف ، وروي في هذا المعنى أحاديث صحاح مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء
فتقعد للسمع واحدا فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى
الأمر في الأمور في الأرض ، فيتحدث به أهل السماء ، فيسمعه منهم ذلك الشيطان
الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته ، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام ، وربما لم
يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، فتصدق تلك
الكلمة ، فيصدق الجاهلون الجميع ، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة
فلم يفلت شيطان سمع بتة ، ويروى أنها لا تسمع شيئا الآن ، والكواكب الراجمة هي
التي يراها الناس تنقض منقضية ، قال النقاش ومكي : وليست بالكواكب الجارية في
السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا.
قال القاضي أبو
محمد : وفي هذا نظر ، (وَيُقْذَفُونَ) معناه ويرجمون ، و «الدحور» الإصغار والإهانة لأن الدحر
الدفع بعنف ، وقال مجاهد مطرودين ، وقرأ الجمهور «دحورا» ، بضم الدال ، وقرأ أبو
عبد الرحمن السلمي ، «دحورا» بفتح الدال ، و «الواصب» الدائم ، قاله مجاهد وقتادة
وعكرمة ، وقال السدي وأبو صالح :
«الواصب» الموجع ،
ومنه الوصب ، والمعنى هذه الحال الغالبة على جميع الشياطين ، إلا من شذ فخطف خبرا
ونبأ (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) فأحرقه ، وقرأ جمهور القراء «خطف» بفتح الخاء وكسر الطاء
وتخفيفها ، وقرأ الحسن وقتادة «خطّف» بكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء ، قال أبو
حاتم : يقال إنها لغة بكر بن وائل وتميم بن مر ، وروي عن ابن عباس «خطف» بكسر
الخاء والطاء مخففة ، و «الثاقب» النافذ بضوئه وشعاعه المنير ، قاله قتادة والسدي
وابن زيد ، وحسب ثاقب إذا كان سنيا منيرا.
قوله عزوجل :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
بَلْ
عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ)
(١٨)
الاستفتاء نوع من
أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة ، وكذلك هي أقوالهم في هذا
الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات
والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد من هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير في (خَلَقْنا) يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف
ابن مسعود «أم من عددنا» يريد من (الصَّافَّاتِ) وغيرها و (السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) [الصافات : ٥] ،
وكذلك قرأ الأعمش «أمن» مخففة الميم دون (أَمْ) ، ثم أخبر تعالى إخبارا جزما عن خلقه لآدم الذي هو أبو
البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه ، وقال الطبري :
خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا ، واللازب أي
يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال كالفخار ، وعبر ابن عباس وعكرمة عن «اللازب»
بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه ، يقال ضربة لازم وضربة لازب بمعنى
واحد ، وقرأ جمهور القراء «بل عجبت» بفتح التاء ، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن
الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله ، وقرأ حمزة
والكسائي «بل عجبت» بضم التاء ، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب
والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ، ومعنى ذلك من
الله أنه صفة فعل ، ونحوه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «يعجب الله تعالى
إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل» ، وقوله عليهالسلام «يعجب الله من
الشاب ليست له صبوة» ، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من
التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه ، فمعنى هذه الآية بل عجبت من
ضلالتهم وسوء نحلتهم ، وجعلتها للناظرين ، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجبا
، وروي عن شريح أنه أنكر هذه القراءة وقال إن الله تعالى لا يعجب ، وقال الأعمش :
فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال إن شريحا كان معجبا بعلمه وإن عبد الله أعلم منه ، وقال
مكي وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي : هو إخبار عن النبي صلىاللهعليهوسلم عن نفسه كأن المعنى قل بل عجبت ، وقوله (يَسْخَرُونَ) أي وهم يسخرون من نبوءتك والحق الذي
عندك ، وقوله
تعالى (وَإِذا رَأَوْا آيَةً
يَسْتَسْخِرُونَ) ، يريد بالآية العلامة والدلالة ، وروي أنها نزلت في ركانة
وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في جبل خال وهو يرعى غنما له وهو أقوى أهل زمانه ، فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا ركانة أرأيت
إن صرعتك أتؤمن بي؟» قال : نعم ، فصرعه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثا ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك
مما اختلف فيه العلماء وألفاظ الحديث ، فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن وجاء إلى مكة
فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه ،
وقوله (يَسْتَسْخِرُونَ) معناه يطلبون أن يكونوا ممن يسخر ، ويجوز أن يكون بمعنى
يسخرون كقوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦]
فيكون فعل واستفعل بمعنى ، وب «يسخرون» فسره مجاهد وقتادة ، وفي بعض القراءات
القديمة «يستسحرون» بالحاء غير منقوطة ، وهذه عبارة عما قال ركانة لأنه استسحر
النبي صلىاللهعليهوسلم وقرأ «متنا» بضم الميم أبو جعفر وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو
عمرو والعامة ، وقرأ بكسر الميم الحسن والأعرج وشيبة ونافع ، وقرأ أبو جعفر ونافع
وشيبة أيضا «أو آباؤنا» بسكون الواو وهي «أو» التي هي للقسمة والتخيير ، وقرأ
الجمهور «أو آباؤنا» بفتح الواو وهي واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام ، ثم أمره
تعالى أن يجيب تقريرهم ب (نَعَمْ) وأن يزيدهم في الجواب أنهم مع البعث في صغار وذلة واستكانة
، وقرأ ابن وثاب «نعم» بكسر العين ، و «الداخر» الصاغر الذليل وقد تقدم غير مرة
ذكر القراءات في قوله (أَإِذا) على الخبر والاستفهام وما يلحقها من مد وتركه وإظهار همز
وتسهيله.
قوله عزوجل :
(فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا
وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)
مِنْ
دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ)
(٢٦)
هذا استئناف إخبار
جره ما قبله ، فأخبر تعالى أن بعثهم من قبورهم إنما هو (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) ، وهي نفخة البعث في الصور ، وقوله (يَنْظُرُونَ) ، يحتمل أن يريد بالأبصار أي ينظرون ما هم فيه وصدق ما
كانوا يكذبون به ، ويحتمل أن يكون بمعنى ينتظرون ، أي ما يفعل بهم ويؤمرون به ، ثم
أخبر عنهم أنهم في تلك الحال يقولون (يا وَيْلَنا) ينادون الويل بمعنى هذا وقت حضورك وأوان حلولك ، وروى أبو
حاتم الوقف هاهنا وجعل قوله (هذا يَوْمُ الدِّينِ) من قول الله تعالى لهم أو الملائكة ، ورأى غيره أن قوله
تعالى : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) هو من قول الكفرة الذين قالوا (يا وَيْلَنا) ، و (الدِّينِ) الجزاء والمقارضة كما يقولون كما تدين تدان ، وأجمعوا أن
قوله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) إلى آخر الآية ليس من قول الكفرة وإنما المعنى يقال لهم ،
وقوله تعالى : (وَأَزْواجَهُمْ) معناه وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وابن عباس وقتادة ومنه قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] ،
وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] أي
نوعت ، وروي أنه يضم عند هذا الأمر كل شكل وصاحبه
من الكفرة إلى
شكله وصاحبه ومعهم (ما كانُوا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن توبيخا لهم وإظهارا لسوء
حالهم ، وقال الحسن : المعنى وأزواجهم المشركات من النساء وروي ذلك عن ابن عباس
ورجحه الرماني ، وقوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ). معناه قوموهم واجعلوهم على طريق الجحيم ، و (الْجَحِيمِ) طبقة من طبقات جهنم يقال إنها الرابعة ، ثم يأمر تعالى
بوقفهم ، و «وقف» يتعدى بنفسه تقول وقفت ووقفت زيدا ، وأمره بذلك على جهة التوبيخ
لهم والسؤال واختلف الناس في الشيء الذي يسألون عنه فروي عن عبد الله بن مسعود أنه
قال : يسألون هل يحبون شرب الماء البارد ، وهذا على طريق الهزء بهم ، وقال ابن
عباس : يسألون عن لا إله إلا الله ، وقال جمهور المفسرين : يسألون عن أعمالهم
ويوقفون على قبحها.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول متجه عام في الهزء وغيره وروى أنس بن مالك عن النبي عليهالسلام أنه قال «أيما رجل دعا رجلا إلى شيء كان لازما له» ، وقرأ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، وروى ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «لا تزول قدما عبد من بين يدي الله تعالى حتى
يسأله عن خمس ، عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله فيما أنفقه
، وكيف كسبه ، وعما عمل فيما علم» ، ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره
بقوله (ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ) أي أنكم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على جهة
التوبيخ في هذا الفصل خاصة أعني الامتناع من التناصر ، وقرأ «تناصرون» بتاء واحدة
خفيفة ، شيبة ونافع ، وقرأ خلق «لا تتناصرون» ، وكذلك في حرف عبد الله ، وقرأ أبو
جعفر بن القعقاع «لا تناصرون» بإدغام التاء من قراءة عبد الله بن مسعود وقال
الثعلبي قوله : (ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ) جواب أبي جهل حين قال في بدر نحن جميع منتصر ، ثم أخبر
تعالى عن أنهم في ذلك اليوم في حالة الاستسلام والإلقاء باليد.
قوله تعالى :
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)
قالُوا
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠)
فَحَقَّ
عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)
(٣٤)
هذه الجماعة التي
يقبل بعضها على بعض هي إنس وجن ، قاله قتادة ، وتساؤلهم هو على معنى التقريع
واللوم والتسخط ، والقائلون (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن
زيد ، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب المتأولون في
معنى قولهم (عَنِ الْيَمِينِ) وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنة والخير ونحو هذا من
العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضا نحا في تفسير الآية
إلى ما يخصها ، والذي يتحصل من ذلك معان ، منها أن يريد ب (الْيَمِينِ) القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم
وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب (الْيَمِينِ) كما قالت العرب «بيدين ما
أورد» ، وكما
قالوا «اليد» في غير موضع عن القوة ، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب
وهو قوله : [الوافر]
إذا ما راية
رفعت لمجد
|
|
تلقاها عرابة
باليمين
|
فقالوا معناه بقوة
وعزمة ، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه ، لو كانت الجارحة ، وأيضا فإنما استعار
الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن
يريدوا (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا) من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها
جهة الرشد والصواب ، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها.
قال القاضي أبو
محمد : فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن
التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به ، ومن المعاني التي
تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن
معبر عنها ب (الْيَمِينِ) ، إذ اليمين هي الجهة التي يتيمن بكل ما كان منها وفيها ،
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم
النظر ، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها ، وجهة شماله
فيها قلبه وهي أخف ، وهذا معنى قول الشاعر : «تركنا لهم شق الشمال» ، أي زلنا لهم
عن طريق الهروب ، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه ، وإذ قلب
الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل.
قال القاضي أبو
محمد : وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم ،
وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه.
قال القاضي أبو
محمد : فاليمين على هذا القسم ، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في
قوله (مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧]
إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه ، وما خلفه
هو ما يسارق فيه الخفاء ، وعن يمينه هو جانب شهواته ، وعن شماله هو موضع نظره
بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه ، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة
بيديه ، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا ، ثم أخبر
تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء (بَلْ لَمْ تَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) أي ليس الأمر كما ذكرتم بل كان لكم اكتساب الكفر به
والبصيرة فيه وإنما نحن حملنا عليه أنفسنا وما كان لنا عليكم حجة ولا قوة إلا
طغيانكم وإرادتكم الكفر فقد حق القول على جميعنا وتعين العذاب لنا وإنا جميعا (لَذائِقُونَ) ، والذوق هنا مستعار وبنحو هذا فسر قتادة وغيره أنه قول
الجن إلى (غاوِينَ) ، ثم أخبر تعالى عن أنهم اشتركوا جميعا في العذاب وحصل
كلهم فيه وأن هذا فعله بأهل الجرم واحتقاب الإثم والكفر.
قوله عزوجل :
(إِنَّهُمْ كانُوا
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
وَيَقُولُونَ
أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ
مَجْنُونٍ
(٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ
لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨)
وَما
تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)
(٤٠)
هؤلاء أهل الجرم
الذين جهلوا الله تعالى ، وعظموا أصناما وأوثانا ف (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) وهي كلمة الحق والعروة الوثقى أصابهم كبر وعظم عليهم أن
يتركوا أصنامهم وأصنام آبائهم ، ونحو هذا كان فعل أبي طالب حين قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أي عم قل لا إله
إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ،
فقال آخر ما قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ويعرض قول (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) جرت السنة في تلقين الموتى المحتضرين ليخالفوا الكفرة
ويخضعوا لها ، وأما الطائفة التي قالت (أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) فهي من قريش ، وإشارتهم بالشاعر المجنون هي إلى محمد صلىاللهعليهوسلم فرد الله تعالى عليهم أي ليس الأمر كما قالوا من أنه شاعر (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) من عند الله وصدق الرسل المتقدمة له كموسى وعيسى وإبراهيم
وغيرهم عليهم الصلاة والسلام ، ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم ويجوز أن يكون التأويل قل
لهم يا محمد (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ) وقرأ قوم «لذائقو العذاب» نصبا ووجهها أنه أراد لذائقون
فحذف النون تخفيفا وهي قراءة قد لحنت ، وقرأ أبو السمال «لذائق» بالتنوين «العذاب»
نصبا ، و (الْأَلِيمِ) المؤلم ، ثم أعلمهم أن ذلك جزاء لهم بأعمالهم واكتسابهم ،
ثم استثنى عباد الله استثناء منقطعا وهم المؤمنون الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه ،
وقرأ الجمهور «المخلصين» بفتح اللام ، وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء وأبو عمرو بكسر
اللام ، وقد رويت هذه التي في الصافات عن الحسن بفتح اللام.
قوله عزوجل :
(أُولئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ
وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ)
(٤٩)
(أُولئِكَ) إشارة إلى العباد المخلصين ، وقوله تعالى : (مَعْلُومٌ) ، معناه عندهم فقد قرت عيونهم بعلم ما يستدر عليهم من
الرزق وبأن شهواتهم تأتيهم لحينها ، وإلا فلو كان ذلك معلوما عند الله تعالى فقط
لما تخصص أهل المدينة بشيء وقوله (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) تتميم بليغ للنعيم لأنه رب مرزوق غير مكرم ، وذلك أعظم
التنكيد ، و «السرر» جمع سرير ، وقرأ أبو السمال «على سرر» بفتح الراء الأولى ،
وفي هذا التقابل حديث مروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في أحيان «وترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض»
ولا محالة أن بعض أحيانهم فيها متخيرون في قصورهم ، و (يُطافُ) معناه يطوف الوالدان حسبما فسرته آية أخرى ، و «الكأس» قال
الزجاج والطبري وغيرهما : هو الإناء الذي فيه خمر أو ما يجري مجراه من الأنبذة
ونحوها ، ولا تسمى كأسا إلا وفيها هذا المشروب المذكور ، وقال الضحاك : كل كأس في
القرآن
فهو خمر ، وذهب
بعض الناس إلى أن الكأس آنية مخصوصة في الأواني وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له
مقبض ، ولا يراعى في ذلك كونه بخمر أم لا ، وقوله تعالى : (مِنْ مَعِينٍ) يريد من جار مطرد ، فالميم في (مَعِينٍ) أصلية لأنه من الماء المعين ، ويحتمل أن يكون من العين
فتكون الميم زائدة أي مما يعين بالعين مستور ولا في خزن ، وخمر الدنيا إنما هي
معصورة مختزنة ، وخمر الآخرة جارية أنهارا ، وقوله (بَيْضاءَ) يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو
الأظهر ، وقال الحسن بن أبي الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ، وفي قراءة عبد
الله بن مسعود «صفراء» فهذا موصوف به الخمر وحدها ، وقوله تعالى (لَذَّةٍ) أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعا ، وقد استعمل هذا حتى
قيل لذ بمعنى لذيذ ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]
بحديثك اللذ
الذي لو كلّمت
|
|
أسد الفلاة به
أتين سراعا
|
وقوله و (لا فِيها غَوْلٌ) ، لم تعمل (لا) لأن الظرف حال بينها وبين ما شأن التبرية أن تعمل فيه ، و
«الغول» اسم عام في الأذى ، يقال غاله كذا إذا أضره في خفاء ، ومنه الغيلة في
القتل وقال النبي صلىاللهعليهوسلم في الرضاع «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة» ومن اللفظة قول
الشاعر : [الطويل]
مضى أولونا
ناعمين بعيشهم
|
|
جميعا وغالتني
بمكة غول
|
أي عاقتني عوائق ،
فهذا معنى من معاني الغول ، ومنه قول العرب ، في مثل من الأمثال ، «ماله غيل» ما
أغاله يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه ، أو الرجل يدعى له بأن
يؤذي ما آذاه ، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد في الآية «الغول» وجع في البطن ،
وقال ابن عباس أيضا وقتادة: هو صداع في الرأس.
قال القاضي أبو
محمد : والاسم أعم من هذا كله فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى إذ هي موجودة في
خمر الدنيا ، نحا إلى هذا العموم سعيد بن جبير ، ومنه قول الشاعر : [المتقارب]
وما زالت الخمر
تغتالنا
|
|
وتذهب بالأول
الأول
|
أي تؤذينا بذهاب
العقل ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينزفون» بفتح الزاي وكذلك في
سورة الواقعة من قوله «نزف الرجل إذا سكر ونزفته الخمر» ، والنزيف السكران ومنه
قول الشاعر [جميل بن معمر] : [الكامل]
فلثمت فاها آخذا
بقرونها
|
|
شرب النزيف لبرد
ماء الحشرج
|
وبذهاب العقل فسر
ابن عباس وقتادة (يُنْزَفُونَ) ، وقرأ حمزة والكسائي «ينزفون» بكسر الزاي وكذلك في
الواقعة من أنزف ينزف ويقال أنزف بمعنيين أحدهما سكر ومنه قول الأبيرد الرياحي.
[الطويل]
لعمري لئن
أنزفتم أو صحوتم
|
|
لبيس الندامى
أنتم آل أبجرا
|
والثاني نزف شرابه
يقال أنزف الرجل إذا تمّ شرابه فهذا كله منفي عن أهل الجنة ، وقرأ عاصم هنا بفتح
الزاي وفي الواقعة بكسر الزاي ، وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر
الزاي ، و (قاصِراتُ
الطَّرْفِ) قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة معناه على أزواجهن أي
لا ينظرن إلى غيرهم ولا يمتد طرف إحداهن إلى أجنبي ، فهذا هو قصر الطرف ، و (عِينٌ) جمع عيناء وهي الكبيرة العينين في جمال ، وأما قوله (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) فاختلف الناس في الشيء المشبه به ما هو ، فقال السدي وابن
جبير : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وزهو بياض قد خالطته صفرة حسنة ،
قالوا : و «البيض» نفسه في الأغلب هو المكنون بالريش ومتى شدت به حال فلم يكن
مكنونا خرج عن أن يشبه به ، وهذا قول الحسن وابن زيد ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]
كبكر مقاناة
البياض بصفرة
|
|
غذاها نمير
المال غير محلل
|
وهذه المعنى كثير
في أشعار العرب ، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري ، «البيض المكنون» أراد به الجوهر
المصون.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا لا يصح عندي عن ابن عباس لأنه يرده اللفظ من الآية ، وقالت فرقة إنما
شبههن تعالى ب «البيض المكنون» تشبيها عاما جملة المرأة بجملة البيضة وأراد بذلك
تناسب أجزاء المرأة وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من
أجزائه إلى نوعه فنسبة شعرها إلى عينها مستوية إذ هما غاية في نوعهما ، والبيضة
أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنك من حيث جئتها فالنظر فيها واحد.
قوله عزوجل :
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)
قالَ
قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)
(٥٣)
هذا التساؤل الذي
بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال
الطاعة والإيمان فيها ، ثم أخبر الله تعالى عن قول (قائِلٌ مِنْهُمْ) في قصته فهو مثال لكل من له (قَرِينٌ) سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء ، واستشعار
معصيتهم وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمرا متيقنا حاصلا لا محالة ،
وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر ، وقالت فرقة : هما اللذان ذكر
الله تعالى في قوله (يا وَيْلَتى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٨] وقال مجاهد كان إنسيا وجنيا من الشياطين
الكفرة.
قال القاضي أبو
محمد : والأول أصوب ، وقرأ جمهور الناس «من المصدقين» بتخفيف الصاد من التصديق ،
وقرأت فرقة «من المصّدقين» بشد الصاد من التصدق ، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في
قصص هذين إنهما كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما يعبد الله ويقصد من
التجارة والنظر وكان الآخر كافرا مقبلا على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده
لتقصير المؤمن ثم إنه جعل كلما اشترى شيئا من دار وجارية وبستان ونحوه عرضه على
ذلك المؤمن وفخر عليه به فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك الثمن ليشتري به من
الله في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية ، قال الطبري : وهذا
الحديث يؤيد قراءة
من قرأ «من المصّدّقين» بتشديد الصاد ، و «مدينون» معناه مجازون محاسبون قاله ابن
عباس وقتادة والسدي ، والدين الجزاء وقد تقدم.
قوله تعالى :
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أَفَما
نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا
الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ
هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠)
لِمِثْلِ
هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)
(٦١)
في الكلام حذف
تقديره فقال لهذا الرجل حاضرون من الملائكة إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند
ذلك (هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ) ، ويحتمل أن يخاطب ب (أَنْتُمْ) الملائكة ، ويحتمل أن يخاطب رفقاءه في الجنة ، ويحتمل أن
يخاطب خدمته وكل هذا ، حكى المهدوي وقرأ جمهور القراء «مطّلعون» بفتح الطاء وشدها
، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين «مطلعون» بسكون الطاء وفتح النون ، وقرأ أبو
البرهسم بسكون الطاء وكسر النون علي أنها ضمير المتكلم ورد هذه القراءة أبو حاتم
وغيره ولحنوها ، وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم ، والوجه أن يقال «مطلعي»
، ووجه القراءة أبو الفتح بن جني وقال : أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع ، وأنشد
الطبري : [الوافر]
وما أدري وظن كل
ظن
|
|
أمسلمني إلى
قومي شراحي
|
وقال الفراء :
يريد شراحيل ، وقرأ الجمهور «فاطّلع» بصلة الألف وشد الطاء المفتوحة ، وقرأ أبو
عمرو في رواية حسين «فاطلع» بضم الألف وسكون الطاء وكسر اللام ، وهي قراءة أبي
البرهسم ، قال الزجاج هي قراءة من قرأ «مطلعون» بكسر اللام ، وروي أن لأهل الجنة
كوى وطاقات يشرفون منها على أهل النار إذا شاؤوا على جهة النقمة والعبرة لأنهم لهم
في عذاب أهل النار وتوبيخهم سرور وراحة ، حكاه الرماني عن أبي علي ، و (سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه قال ابن عباس والحسن : والناس ، وسمي (سَواءِ) لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، و (الْجَحِيمِ) متراكم جمر النار ، وروي عن مطرف بن عبد الله وخليد العصري
أنه رآه قد تغير خبره وسيره أي تبدلت حاله ولو لا ما عرفه الله إياه لم يميزه ،
فقال له المؤمن عند ذلك (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ) أي لتهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى : [المتقارب].
أفي الطوف خفت
علي الردى
|
|
وكم من رد أهله
لم يرم
|
وفي مصحف عبد الله
بن مسعود «إن كدت لتغوين» بالواو من الغي ، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من
الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة ، ورفع (نِعْمَةُ رَبِّي) بالابتداء وهو إعراب ما كان بعد (لَوْ لا) عند سيبويه والخبر محذوف تقديره تداركته ونحوه ، و (الْمُحْضَرِينَ) معناه في العذاب ، وقول المؤمن (أَفَما نَحْنُ) إلى قوله (بِمُعَذَّبِينَ) يحتمل أن يكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل
بقرينه ، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة
التوقيف على النعمة (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ)
ولا معذبين ،
ويجيء على هذا التأويل قوله (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إلى قوله (الْعامِلُونَ) ، متصلا بكلامه خطابا لرفقائه ، ويحتمل قوله (أَفَما نَحْنُ) إلى قوله (بِمُعَذَّبِينَ) أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ ، كأنه يقول أين
الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب ، ويكون قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ) إلى (الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ، وإليه ذهب قتادة ،
ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم وأمته ويقوى هذا لأن قول المؤمن لمثل هذا فليعمل ، والآخرة
ليست بدار عمل يقلق إلا على تجوز كأنه يقول لمثل هذا كان ينبغي أن يعمل (الْعامِلُونَ).
قوله عزوجل :
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)
إِنَّا
جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)
إِنَّها
شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)
ثُمَّ
إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)
إِنَّهُمْ
أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى
آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ)
(٧٠)
الألف من قوله (أَذلِكَ) للتقرير ، والمراد تقرير قريش والكفار ، وجاء بلفظة
التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما من حيث كان الكلام تقريرا ، والاحتجاج يقتضي
أن يوقف المتكلم خصمه على قسمين : أحدهما فاسد ويحمله بالتقرير على اختبار أحدهما
ولو كان الكلام خبرا لم يجز ولا أفاد أن يقال الجنة خير من (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) وأما قوله تعالى (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤]
فهذا على اعتقادهم في أن لهم مستقرا جيدا وقد تقدم إيعاب هذا المعنى.
قال القاضي أبو
محمد : وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن إن مس جسم
أحد تورم ، ومات منه في أغلب الأمر تسمى شجرة الزقوم ، والتزقم في كلام العرب
البلع على شدة وجهد ، وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناها
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال قتادة والسدي ومجاهد : يريد أبا جهل ونظراءه وذلك أنه
لما نزلت (أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) ، قال الكفار ، وكيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار
وهي تأكلها وتذهبها ففتنوا بذلك أنفسهم وجهلة من أتباعهم ، وقال أبو جهل : إنما
الزقوم التمر بالزبد ونحن نتزقمه ، وقوله (فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) معناه ملاصق نهاياتها التي لها كالجدرات ، وفي قراءة ابن
مسعود «إنها شجرة ثابتة في أصل الجحيم» ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) اختلف الناس في معناه ، فقالت فرقة : شبه بثمر شجرة معروفة
يقال لها (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) وهي بناحية اليمن يقال لها الأستق ، وهو الذي ذكر النابغة
في قوله : «تحيد من أستق سودا أسافله». ويقال إنه الشجر الذي يقال له الصوم وهو
الذي يعني ساعدة بن جوبة في قوله :
موكل بشدوق
الصوم يرقبها
|
|
من المغارب
مخطوف الحشا زرم
|
وقالت فرقة : شبه
ب (رُؤُسُ) صنف من الحيات يقال لها الشياطين وهي ذوات أعراف ومنه قول
الشاعر : [الرجز]
عجيز تحلف حين
أحلف
|
|
كمثل شيطان
الحماط اعرف
|
وقالت فرقة : شبه
بما استقر في النفوس من كراهة (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) وقبحها ، وإن كانت لم تر ، وهذا كما تقول لكل شعث المنتفش
الشعر الكريه المنظر هذا شيطان ونحو هذا قول امرئ القيس : [الطويل]
أيقتلني
والمشرفي مضاجعي
|
|
ومسنونة زرق
كأنياب أغوال
|
فإنما شبه بما
استقر في النفوس من هيبتها ، و «الشوب» المزاج والخلط ، قاله ابن عباس وقتادة ،
وقرأ شيبان النحوي «لشوبا» ، بضم الشين ، قال الزجاج : فتح الشين المصدر ، وضمه
الاسم ، و «الحميم» السخن جدا من الماء ونحوه ، فيريد به هاهنا شرابهم الذي هو
طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) يحتمل أن يكون لهم انتقال أجساد في وقت الأكل والشرب ، ثم
يرجعون إلى معظم الجحيم وكثرته ، ذكره الرماني وشبه بقوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ) [الرحمن : ٤٤] ،
ويحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حال ذلك الأكل المعذب إلى حال الاحتراق دون أكل
، وبكل احتمال قيل ، وفي مصحف ابن مسعود «وأن منقلهم لإلى الجحيم» ، وفي كتاب أبي
حاتم عنه «مقيلهم» ، من القائلة وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ) إلى آخر الآية تمثيل لقريش و (يُهْرَعُونَ) قال قتادة والسدي وابن زيد : معناه يسرعون كأنهم يساقون
بعجلة وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه ، والإهراع سير شديد قال مجاهد : كهيئة
الهرولة.
قال القاضي أبو
محمد : فيه شبه رعدة وكأنه أيضا شبه سير الفازع.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
إِلاَّ
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ)
(٧٩)
مثل تعالى لقريش
في هذه الآية بالأمم التي ضلت قديما وجاءها الإنذار وأهلكها الله بعذابه ، وقوله
تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) ، يقتضي الإخبار بأنه عذبهم ، ولذلك حسن الاستثناء في قوله
(إِلَّا عِبادَ اللهِ) ، ونداء نوح عليهالسلام قد تضمن أشياء منها الدعاء على قومه ، ومنها سؤال النجاة
ومنها طلب النصرة ، وفي جميع ذلك وقعت الإجابة ، وقوله تعالى : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) يقتضي الخبر بأن الإجابة كانت على أكمل ما أراد نوح عليهالسلام ، و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) قال السدي : هو الغرق.
قال القاضي أبو
محمد : ومن (الْكَرْبِ) تكذيب الكفرة وركوب الماء وهوله قال الرماني : (الْكَرْبِ) : الحر الثقيل على القلب ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْباقِينَ) قال ابن عباس وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، قال
الطبري : والعرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك والصقلب وغيرهم من
أولاد يافث ، وروي عن سمرة بن جندب أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) فقال : «سام وحام ويافث» ، وقالت فرقة : إن الله تعالى
أبقى ذرية نوح ومد نسله وبارك في ضئضئه وليس الأمر بأن أهل الأرض انحصروا إلى نسله
بل في الأمم من لا يرجع إليه ، والأول أشهر عند علماء الأمة وقالوا (نُوحٌ) هو آدم الأصغر ، وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) معناه ثناء حسنا جميلا آخر الدهر ، قاله ابن عباس ومجاهد
وقتادة والسدي ، وقوله (سَلامٌ) على هذا التأويل رفع بالابتداء مستأنف سلم الله به عليه
ليقتدي بذلك البشر ، قال الطبري : هذه أمانة منه لنوح في العالمين أن يذكره أحد
بسوء.
قال القاضي أبو
محمد : هذا جزاء ما صبر طويلا على أقوال الكفرة الفجرة ، وقال الفراء وغيره من
الكوفيين : قوله (سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ) جملة في موضع نصب ب (تَرَكْنا) وهذا هو المتروك عليه ، فكأنه قال وتركنا على نوح تسليما
يسلم به عليه إلى يوم القيامة ، وفي قراءة عبد الله «سلاما على نوح» على النصب ب (تَرَكْنا) صلى الله على نوح وعلى أهله وسلم تسليما وشرف وكرم وعلى
جميع أنبيائه و (فِي الْآخِرِينَ) معناه في الباقين غابر الدهر ، والقراءة بكسر الخاء وما
كان من إهلاك فهو بفتحها.
قوله تعالى :
(إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)
إِنَّهُ
مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
وَإِنَّ
مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)
(٩٠)
قوله تعالى : (كَذلِكَ) إشارة إلى إنعامه على نوح بالإجابة كما اقترح ، وأثنى
تعالى على نوح بالإحسان ، لصبره على أذى قومه ومطاولته لهم وغير ذلك من عبادته
وأفعاله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ) يقتضي أنه أغرق قوم نوح وأمته ومكذبيه ، وليس في ذلك نص
على أن الغرق عم جميع أهل الأرض ، ولكن قد قالت جماعة من العلماء وأسندت أحاديث
بأن الغرق عم جميع الناس إلا من كان معه في السفينة ، وعلى هذا ترتب القول بأن
الناس اليوم من ذريته ، وقالوا لم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة لأن عهد آدم كان
قريبا ، وكانت دعوة نوح ونبوءته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم فكان
الجميع كفرة عبدة أوثان لم يثنهم الحق إلى نفسه فلذلك أغرق جميعهم ، وقوله تعالى :
(مِنْ شِيعَتِهِ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : الضمير عائد على نوح
، والمعنى في الدين والتوحيد ، وقال الطبري وغيره عن الفراء : الضمير عائد على
محمد صلىاللهعليهوسلم والإشارة إليه.
قال القاضي أبو
محمد : وذلك كله محتمل لأن «الشيعة» معناها الصنف الشائع الذي يشبه بعضه بعضا
والشيع الفرق وإن كان الأعرف أن المتأخر في الزمن هو شيعة للمتقدم ولكن قد يجيء من
الكلام عكس ذلك قال الشاعر [الكميت] :
وما لي إلا آل
أحمد شيعة
|
|
وما لي إلا مشعب
الحق مشعب
|
فجعلهم شيعة لنفسه
، وقوله تعالى : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال المفسرون : يريد من الشرك والشك وجميع النقائص التي
تلحق قلوب بني آدم كالغل والحسد والكبر ونحوه قال عروة بن الزبير : لم يلعن شيئا
قط ، وقوله (أَإِفْكاً) استفهام بمعنى التقرير أي أكذبا ومحالا (آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) ، ونصب (آلِهَةً) على البدل من قوله (أَإِفْكاً) وسهلت الهمزة الأصلية من الإفك وقوله تعالى : (فَما ظَنُّكُمْ) توبيخ وتحذير وتوعد ، ثم أخبر تعالى عن نظرة إبراهيم عليهالسلام في النجوم ، وروي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا
إبراهيم عليهالسلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم وأراد البقاء
خلافهم إلى الأصنام ، وقال ابن زيد عن أبي أرسل إليه ملكهم أن غدا عيد فاحضر معنا
فنظر إلى نجم طالع فقال إن هذا يطلع مع سقمي ، فقالت فرقة معنى «نظر في النجوم» أي
فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم ، وقال الجمهور نظر نجوم السماء ، وروي أن
علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا فأوهمهم هو من تلك الجهة ، وذلك أنهم
كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم ،
واختلف أيضا في قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه
أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : أشار لهم إلى مرض وسقم
يعدي كالطاعون ولذلك تولوا (مُدْبِرِينَ) أي فارين منه ، وقال بعضهم بل تولوا (مُدْبِرِينَ) لكفرهم واحتقارهم لأمره.
قال القاضي أبو
محمد : وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات
: قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقوله (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣]
وقوله في سارة هي أختي ، وقالت فرقة : ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من
المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة ، وقيل
أراد على هذا (إِنِّي سَقِيمٌ) النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد
سقما بالجسد حاضرا وهكذا هي المعاريض.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على
الاتساع بحسب اعتقاد المخبر ، والكذب الذي هو قصد قول الباطل ، والإخبار بضد ما في
النفس بغير منفعة شرعية ، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله عزوجل :
(فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١)
ما
لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ
فِي
الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)
(٩٨)
«راغ» معناه مال ،
ومنه قول عدي بن زيد : [الخفيف]
حيث لا ينفع
الرياغ ولا
|
|
ينفع إلا المصلق
النحرير
|
وقوله تعالى : (أَلا تَأْكُلُونَ) هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام ، وروي أن عادة
أولئك كانت أنهم يتركون في بيوت الأصنام طعاما ، ويعتقدون أنها تصيب منه شميما
ونحو هذا من المعتقدات الباطلة ، ثم كان خدم البيت يأكلونه ، فلما دخل إبراهيم وقف
على الأكل ، والنطق والمخاطبة للأصنام والقصد الاستهزاء بعابدها ، ثم مال عند ذلك
إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذا واختلف في معنى قوله (بِالْيَمِينِ) فقال ابن عباس : أراد يمنى يديه ، وقيل : أراد بقوته لأنه
كان يجمع يديه معا بالفأس ، وقيل أراد يمين القسم في قوله (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] و
(ضَرْباً) نصب على المصدر بفعل مضمر من لفظه ، وفي مصحف عبد الله
عليهم «صفعا باليمين» ، والضمير في «أقبلوا» لكفار قومه ، وقرأ جمهور الناس «يزفون»
بفتح الياء من زف إذا أسرع وزفت الإبل إذا أسرعت ، ومنه قول الفرزدق : [الطويل]
فجاء قريع الشول
قبل افالها
|
|
يزف وجاءت خلفه
وهي زفف
|
ومنه قول الهذلي :
وزفت الشول من
برد العشيّ كما
|
|
زفت النعام إلى
حفانه الروح
|
وقرأ حمزة وحده «يزفزن»
بضم الياء من أزف إذا دخل في الزفيف وليست بهمزة تعدية هذا قول ، وقال أبو علي :
معناه يحملون غيرهم على الزفيف ، وحكاه عن الأصمعي وهي قراءة مجاهد وابن وثاب
والأعمش ، وقرأ مجاهد وعبد الله بن زيد «يزفزن» بفتح الياء وتخفيف الفاء من وزف
وهي لغة منكرة ، قال الكسائي والفراء : لا نعرفها بمعنى زف ، وقال مجاهد : الزفيف
النسلان ، وذهبت فرقة إلى أن (يَزِفُّونَ) معناه يتمهلون في مشيهم كزفاف العروس ، والمعنى أنهم كانوا
على طمأنينة من أن ينال أحد آلهتهم بسوء لعزتهم فكانوا لذلك متمهلين.
قال القاضي أبو
محمد : وزف بمعنى أسرع هو المعروف ، ثم إن إبراهيم عليهالسلام قال لهم في جملة محاورة طويلة قد تضمنتها الآية (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي تجعلون إلها معظما شيئا صنعتموه من عود أو حجر وعملتموه
بأيديكم أخبرهم بخبر لا يمكنهم إنكاره وهو قوله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) واختلف المتأولون في قوله (وَما تَعْمَلُونَ) ، فمذهب جماعة من المفسرين أن (ما) مصدرية والمعنى أن الله خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم
قاعدة في خلق أفعال العباد وذلك موافق لمذهب أهل السنة في ذلك ، وقالت (ما) بمعنى الذي ، وقالت فرقة (ما) استفهام ، وقالت فرقة هي نفي بمعنى وأنتم لا تعملون شيئا
في وقت خلقكم ولا قبله ، ولا تقدرون على شيء.
قال القاضي أبو
محمد : والمعتزلة مضطرة إلى الزوال عن أن تجعل (ما) مصدرية ، و «البنيان» قيل
كان في موضع إيقاد
النار ، وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه وقد تقدم قصص نار إبراهيم وجعلهم الله (الْأَسْفَلِينَ) ، بأن غلبوا وذلوا ونالتهم العقوبات
قوله عزوجل
:
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
(١٠٢)
قالت فرقة : إن
قول إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ) كان بعد خروجه من النار ، وإنه أشار بذهابه إلى هجرته من
أرض بابل حيث كانت مملكة نمرود فخرج إلى الشام ويروى إلى بلاد مصر ، وقالت فرقة :
قوله (إِنِّي ذاهِبٌ) ليس مراده به الهجرة كما في آية أخرى وإنما مراده لقاء
الله بعد الاحتراق ولأنه ظن أن النار سيموت فيها ، فقال هذه المقالة قبل أن يطرح
في النار ، فكأنه قال إني سائر بهذا العمل إلى ربي ، وهو سيهديني إلى الجنة ، نحا
إلى هذا المعنى قتادة ، وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء وهو محمل
حسن في (إِنِّي ذاهِبٌ) وحده ، والأول أظهر من نمط الآية بما بعده ، لأن الهداية
معه تترتب ، والدعاء في الولد كذلك ، ولا يصح مع ذهاب الفناء ، وقوله (مِنَ الصَّالِحِينَ مِنَ) للتبعيض أي ولدا يكون في عداد الصالحين ، وقوله (فَبَشَّرْناهُ) قال كثير من العلماء منهم العباس بن عبد المطلب وقد رفعه
وعلي وابن عباس وابن مسعود وكعب وعبيد بن عمرو هي البشارة المعروفة بإسحاق وهو
الذبيح وكان أمر ذبحه بالشام ، وقال عطاء ومقاتل ببيت المقدس ، وقال بعضهم بل
بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق وقال ابن عباس والبشارة التي بعد هذه في هذه
الآية هي بشارة بنبوته كما قال تعالى في موسى (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] وهو
قد كان وهبه له قبل ذلك ، فإنما أراد النبوءة ، فكذلك هذه ، وقالت هذه الفرقة في
قول الأعرابي : يا بن الذبيحين أراد إسحاق والعم أب ، وقيل إنه أمر بذبحه بعد ما
ولد له يعقوب ، فلم يتعارض الأمر بالذبح مع البشارة بولده وولد ولده ، وقالت فرقة
: هذه البشارة هي بإسماعيل وهو الذبيح وأمر ذبحه كان بالحجاز بمنى ثم رمى إبراهيم
الشيطان بالجمرات وقبض الكبش حين أفلت له وسن السنن.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا قول ابن عباس أيضا وابن عمرو وروي عن الشعبي والحسن ومجاهد ومعاوية بن
أبي سفيان ورفعه معاوية إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ومحمد بن كعب وبه كان أبي رضي الله عنه يقول ، ويستدل بقول
الأعرابي للنبي صلىاللهعليهوسلم : يا بن الذبيحين ، وبقوله صلىاللهعليهوسلم «أنا ابن الذبيحين»
يعني إسماعيل وعبد الله أباه ، ويستدل بأن البشارة اقترنت بأن من ورائه يعقوب ،
فلو قيل له في صباه اذبحه لناقض ذلك البشارة بيعقوب ، ويستدل بظاهر هذه الآية أنه
بشر بإسماعيل ، وانقضى أمر ذبحه ثم بشر بإسحاق بعد ذلك ، وسمعته رضي الله عنه يقول
كان إبراهيم صلىاللهعليهوسلم يجيء من الشام إلى مكة على البراق زائرا ويعود من يومه وقد
ذكر ذلك الثعلبي عن سعيد بن جبير ولم يذكر
أن ذلك على البراق
وذكر القصة عن ابن إسحاق ، وفيها ذكر البراق كما سمعت أبي يحكي وذكر الطبري أن ابن
عباس قال : الذبيح إسماعيل ، وتزعم اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وذكر أيضا أن
عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه فقال : الذبيح إسماعيل ،
وإن اليهود تعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكون هذه الآية والفضل والله
في أبيكم. و (السَّعْيَ) في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة ، هذا قول ابن عباس
ومجاهد وابن زيد ، وقال قتادة (السَّعْيَ) على القدم يريد سعيا متمكنا وهذا في المعنى نحو الأول ،
وقرأ الضحاك «معه السعي وأسر في نفسه حزنا» قال وهكذا في حرف ابن مسعود وهي قراءة
الأعمش ، قوله (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي ، وعين له
وقت الامتثال ، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك أي «إني رأيت في
المنام» ما يوجب أن (أَذْبَحُكَ) ، وقرأ جمهور الناس «ماذا ترى» بفتح والراء ، وقرأ حمزة
والكسائي «تري» بضم التاء وكسر الراء ، على معنى ما يظهر منك من جلد أو جزع ، وهي
قراءة ابن مسعود والأسود بن يزيد وابن وثاب وطلحة والأعمش ومجاهد ، وقرأ الأعمش
والضحاك «ترى» بضم التاء وفتح الراء على بناء الفعل للمفعول ، فأما الأولى فهي من
رؤية الرأي ، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد ، وهو في هذه الآية إما (ما ذا) ، بجملتها على أن تجعل «ما» و «ذا» بمنزلة اسم واحد ، وإما
«ذا» على أن تجعله بمعنى الذي ، وتكون «ما» استفهاما وتكون الهاء محذوفة من الصلة
، وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه ، غير أن الفعل فيها
منقول من رأى زيد الشيء وأريته إياه ، إلا أنه من باب أعطيت فيجوز أن يقتصر على
أحد المفعولين ، وأما القراءة الثانية فقد ضعفها أبو علي وتتجه على تحامل ، وفي
مصحف عبد الله بن مسعود «افعل ما أمرت به».
قوله عزوجل :
(فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا
إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)
(١١١)
قرأ جمهور الناس «أسلما»
أي أنفسهما واستسلما لله تعالى ، وقرأ علي وعبد الله وابن عباس ومجاهد والثوري «سلما»
والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره وانحملا على أمره ، فأسلم إبراهيم ابنه وأسلم
الابن نفسه واختلف النحاة في جواب «لما» ، فقال الكوفيون الجواب (نادَيْناهُ) ، والواو زائدة ، وقالت فرقة الجواب (وَتَلَّهُ) والواو زائدة كزيادتها في قوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) [النبأ : ١٩] وقال
البصريون : الجواب محذوف تقديره «فلما أسلم وتله» ، وهذا قول الخليل وسيبويه ، وهو
عندهم كقول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة
الحي وانتحى
|
|
بنا بطن حقف ذي
ركام عقنقل
|
التقدير فلما
أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى ، وقال بعض البصريين : الجواب محذوف وتقديره (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) أجزل أجرهما أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى ، (وَتَلَّهُ) وضعه بقوة ومنه الحديث في
القدح ، فتله رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في يده أي وضعه بقوة ، والتل من الأرض مأخوذ من هذه كأنه
تل في ذلك الموضع ، و (لِلْجَبِينِ) معناه لتلك الجهة وعليها كما يقولون في المثل لليدين والفم
وكما تقول سقط لشقه الأيسر ، وقال ساعدة بن جوبة «وظل تليلا للجبين والجبينان ما
اكتنف الجبهة من هنا وهنا» ، وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه اشدد
رباطي بالحبل لئلا أضطرب واصرف بصرك عني ، لئلا ترحمني ورد وجهي نحو الأرض ، قال
قتادة كبه لفيه وأخذ الشفرة ، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض بل هي
هيئة من ذبح للقبلة على جنبه ، وقوله (أَنْ يا إِبْراهِيمُ) ، (أَنْ) مفسرة لا موضع لها من الإعراب وقوله ، (قَدْ صَدَّقْتَ) يحتمل أن يريد بقلبك على معنى كانت عندك رؤياك صادقة وحقا
من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها ، ويحتمل أن يريد صدقت بعملك ما
حصل عن الرؤيا في نفسك كأنه قال قد وفيتها حقها من العمل ، و (الرُّؤْيا) اسم لما يرى من قبل الله تعالى ، والمنام والحلم اسم لما
يرى من قبل الشيطان ، ومنه الحديث الصحيح «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» ،
وقوله (إِنَّا كَذلِكَ) إشارة إلى ما عمل إبراهيم ، كأنه يقول إنا بهذا النوع من
الإخلاص والطاعة (نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) ، وقوله تعالى (إِنَّ هذا لَهُوَ) يشير إلى ما في القصة من امتحان واختبار وسير معتقد ،
فيكون (الْبَلاءُ) على هذا المعنى الاختبار بالشدة ، ويحتمل أن يشير إلى ما
في القصة من سرور بالفدية وإنقاذ من تلك الشدة في إنفاذ الذبح ، فيكون (الْبَلاءُ) بمعنى النعمة.
قال القاضي أبو
محمد : وإلى كل احتمال قد أشارت فرقة من المفسرين ، وفي الحديث أن الله تعالى أوحى
إلى إسحاق أني قد أعطيتك فيها ما سألت فسلني فقال يا رب أيما عبد لقيك من الأولين
والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة ، والضمير في (فَدَيْناهُ) عائد على الذبح ، و «الذبح» اسم لما يذبح ووصفه بالعظم
لأنه متقبل يقينا قاله مجاهد ، وقال عمر بن عبيد : «الذبح» الكبش و «العظيم» لجري
السنة ، وكونه دينا باقيا آخر الدهر ، وقال الحسن بن الفضل : عظم لأنه كان من عند
الله ، وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين ، وروي عن ابن
عباس وعن سعيد بن جبير : أن كونه عظيما هو أنه من كباش الجنة ، رعى فيها أربعين
خريفا ، وقال ابن عباس : هو الكبش الذي قرب ولد آدم ، وقال ابن عباس والحسن : كان
وعلا اهبط عليه من ثبير ، وقال الجمهور : إنه كبش أبيض أقرن أعين وجده وراءه
مربوطا بسمرة.
قال القاضي أبو
محمد : وروي أنه انفلت لإبراهيم فاتبعه ورماه بحصيات في مواضع الجمرات فبذلك مضت
السنة ، وقال ابن عباس رجم الشيطان عند جمرة العقبة وغيرها وقد قدم هذا.
قال القاضي أبو
محمد : وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل ، والمعتزلة التي
تقول إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع الفعل افترقت في هذه الآية على فرقتين ، فقالت فرقة
وقع الذبح والتأم بعد ذلك.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا كذب صراح ، وقالت فرقة منهم : بل كان إبراهيم لم ير في منامه إلا
أمارة الشفرة فقط ، فظن أنه ذبح فجهز ، فنفذ لذلك فلما وقع الذي رآه وقع النسخ.
قال القاضي أبو
محمد : والاختلاف أن إبراهيم عليهالسلام أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع ، وروي أن صفيحة نحاس
اعترضته فحز فيها والله أعلم كيف كان ، فقد كثر الناس في قصص هذه الآية بما صحته
معدومة ، فاختصرته ، وقد تقدم تفسير مثل قوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) وقوله (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) معناه أي هذا الفعل وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو
محمد : وما يستغرب في هذه الآية أن عبيد بن عمير قال : ذبح في المقام ، وذكر
الطبري عن جماعة لم يسمها أنها قالت : كان الأمر وإذاعة الذبح والقصة كلها بالشام
، وقال الجمهور : ذبح بمنى ، وقال الشعبي : رأيت قرني كبش إبراهيم معلقة في
الكعبة.
قوله عزوجل :
(وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا
عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ
(١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦)
وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ)
(١١٧)
من قال إن الذبيح
هو إسماعيل جعل هذه البشارة بولادة إسحاق وهي البشارة المترددة في غير ما سورة ،
ومن جعل الذبيح إسحاق جعل هذه البشارة بنفس النبوءة فقط ، وقوله تعالى (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) توعد لمن كفر من اليهود بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والمنة ، على موسى وهارون هي في النبوءة وسائر ما جرى
معها من مكانتها عند الله تعالى و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو تعبد القبط لهم ، ثم جيش فرعون لما قالت بنو إسرائيل (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١] ثم
البحر بعد ذلك ، والضمير في (نَصَرْناهُمْ) عائد على الجماعة المتقدم ذكرها وهم «موسى وهارون وقومهما»
، وقال قوم : أراد موسى وهارون ولكن أخرج ضميرهما مخرج الجمع تفخيما ، وهذا مما
تفعله العرب تكني عمن تعظم بكناية الجمع ، و (الْكِتابَ
الْمُسْتَبِينَ) هو التوراة.
قوله عزوجل :
(وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩)
سَلامٌ
عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ)
(١٢٥)
(الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) يريد به في هذه الآية طريق الشرع والنبوءة المؤدي إلى الله
تعالى وقد تقدم القول في مثل قوله (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما) ، و (إِلْياسَ) نبي من أنبياء الله تعالى ، قال قتادة وابن مسعود : هو
إدريس عليهالسلام ، وقالت فرقة : هو من ولد هارون عليهالسلام ، قال الطبري هو إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن
هارون ، وقرأ الجمهور من القراء «وإن إلياس» بهمزة مكسورة ، وهو اسم ، وقرأ
ابن عامر وابن
محيصن وعكرمة والحسن والأعرج «وإن الياس» بغير همز بصلة الألف ، وذلك يتجه على أحد
وجهين : إما أن يكون حذف الهمزة كما حذفها ابن كثير من قوله تعالى (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) [المدثر : ٣٥] أراد «لإحدى» فنزل المنفصل منزلة المتصل ،
كما قد ينزل في كثير من الأمور ، والآخر أن يجعلها الألف التي تصحب اللام للتعريف
كاليسع ، وفي مصحف أبي بن كعب «وإن إيليس» بألف مكسورة الهمزة وياء ساكنة قبل
اللام المكسورة وياء ساكنة بعدها وسين مفتوحة ، وكذلك في قوله «سلام على إيليس» ،
وقرأ نافع وابن عامر على «آل ياسين» وقرأ الباقون «سلام على إلياسين» بألف مكسورة
ولام ساكنة ، قرأ الحسن وأبو رجاء «على الياسين» موصولة فوجه الأولى أنها فيما
يزعمون مفصولة في المصحف فدل ذلك على أنها بمعنى أهل و «ياسين» اسم أيضا ل (إِلْياسَ) وقيل هو اسم لمحمد صلىاللهعليهوسلم ووجه الثانية أنه جمع إلياسي كما قالوا أعجمي أعجميون ،
قال أبو علي : والتقدير إلياسين فحذف كما حذف من أعجميين ، ونحوه من الأشعريين
والنمريين والمهلبين ، وحكى أبو عمرو أن مناديا نادى يوم الكلاب ، هلك اليزيديون ،
ويروى قول الشاعر : «قدني من نصر الخبيبين قدي» بكسر الباء الثانية نسبة إلى أبي
خبيب ، ويقال سمي كل واحد من آل ياسين إلياس كما قالوا شابت مفارقة فسمي كل جزء من
المفرق مفرقا ، ومنه قولهم «جمل ذو عثانين» ، وعلى هذا أنشد ابن جني : [الرجز]
مرت بنا أول من
أموس
|
|
تميس فينا مشية
العروس
|
فسمى كل جزء من
الأمس أمس ثم جمع ، وقال أبو عبيدة لم يسلم على آل أحد من الأنبياء المذكورين قبل
فلذلك ترجح قراءة من قرأ «إلياسين» إذ هو اسم واحد له ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «وإن
إدريس لمن المرسلين» و «سلام على إدريس» وروى هذه القراءة قطرب وغيره وإن إدراسين
وإدراس لغة في إدريس كإبراهيم وإبراهام ، وقوله (أَتَدْعُونَ) معناه أتعبدون ، والبعل الرب بلغة اليمن قاله عكرمة وقتادة
، وسمع ابن عباس رجلا ينشد ضالة فقال له رجل آخر : أنا بعلها ، فقال ابن عباس الله
أكبر أتدعون بعلا ، وقال الضحاك وابن زيد والحسن (بَعْلاً) اسم صنم كان لهم وله يقال بعلبك وإليه نسب الناس ، وذكر
ابن إسحاق عن فرقة أن (بَعْلاً) اسم امرأة كانت أتتهم بضلالة ، وقوله (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) من حيث قيل للإنسان على التجوز إنه يخلق وجب أن يكون تعالى
(أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ) إذ خلقه اختراع وإيجاد من عدم وخلق الإنسان مجاز كما قال
الشاعر : [الكامل أقذ].
ولأنت تفري ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفري
|
قوله عزوجل :
(اللهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦)
فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١)
إِنَّهُ
مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
وَإِنَّ
لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣)
إِذْ
نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ
عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥)
ثُمَّ
دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ)
(١٣٨)
قرأ حمزة والكسائي
وعاصم «الله» بالنصب «ربّكم وربّ آبائكم» كل ذلك بالنصب على البدل من قوله (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) [المؤمنين : ١٤ ،
الصافات : ١٢٥] ، وقرأ الباقون وعاصم أيضا «الله ربّكم وربّ آبائكم» كل ذلك بالرفع
على القطع والاستئناف ، والضمير في «كذبوه» عائد على قوم إلياس ، و «محضرون» معناه
مجمعون لعذاب الله وقد تقدم تفسير مثل ما بقي من الآية وتقدم القول أيضا في قوله (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) ، و «لوط» عليهالسلام هو ابن أخي إبراهيم عليهالسلام وقيل ابن أخته وقد تقدم تفسير قصته بكاملها ، وامرأته هي
العجوز المهلكة ، وكانت كافرة فإما كانت متسترة منه عليهالسلام ، وإما كانت معلنة وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن
جائزا ، و «الغابرون» الباقون ، غبر بمعنى بقي ومعناه هنا بقيت في الهلاك ، ثم
خاطب تعالى قريشا أو هو على معنى قل لهم يا محمد (وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) في الصباح وفي الليل فواجب أن يقع اعتباركم ونظركم ثم
وبخهم تعالى بقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ)
قوله عزوجل :
(وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)
فَساهَمَ
فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ
فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)
(١٤٦)
هذا (يُونُسَ) بن متى صلىاللهعليهوسلم ، وهو من بني إسرائيل ، وروي أنه نبىء ابن ثمانية وعشرين
سنة فتفسخ تحت أعباء النبوءة كما يتفسخ الربع تحت الحمل ، وقد تقدم شرح قصته ولكن
نذكر منها ما تفهم به هذه الألفاظ ، فروي أن الله بعثه إلى قومه فدعاهم مرة
فخالفوه فوعدهم بالعذاب ، وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم ، ثم إن قومه
لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب
عنهم ، وكان في هذا تجربة ليونس فلحقت يونس غضبة ، ويروى أنه كان في سيرتهم أن
يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة ، فخافهم يونس وغضب مع ذلك ف (أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ) أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق ، من
حيث هو عبد الله فر عن غير إذن مولاه ، فهذه حقيقة الإباق ، و (الْفُلْكِ) في هذا الموضع واحد ، و (الْمَشْحُونِ) الموقر ، وهنا قصص محذوف إيجازا واختصارا ، وروي عن عبد
الله بن مسعود أنه لما حصل في السفينة وأبعدت في البحر ركدت ولم تجر ، والسفن تجري
يمينا وشمالا فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنقترع ،
فأخذوا لكل أحد سهما وقالوا اللهم ليطف سهم المذنب ، ولتغرق سهام الغير فطفا سهم
يونس ، ففعلوا نحو هذا ثلاث مرات في كل مرة تقع القرعة عليه ، فأزمعوا معه على أن
يطرحوه في البحر فجاء إلى ركن من أركان السفينة ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر
ترقبه وترصد له فرجع إلى الركن الآخر فوجدها كذلك حتى استدار أركان السفينة ليقع
منه بالمركب وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك عند الله فترامى إليها فالتقمته ، وروي
أنما
التقمته بعد أن
وقع في الماء ، وروي أن الله أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقا وإنما جعلت
بطنك له حرزا وسجنا فهذا معنى (فَساهَمَ) أي قارع وكذلك فسر ابن عباس والسدي ، و «المدحض» الزاهق
المغلوب في محاضة أو مساهمة أو مسابقة ومنه الحجة الداحضة ، و «المليم» الذي أتى
ما يلام عليه ، ألام الرجل دخل في اللوم ، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول
الشاعر : [الطويل]
وكم من مليم لم
يصب بملامة
|
|
ومتبع بالذنب
ليس له ذنب
|
ومنه قول لبيد بن
ربيعة : [الكامل]
سفها عذلت ولمت
غير مليم
|
|
وهداك قبل اليوم
غير حكيم
|
ثم استنقذه الله
من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها ، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار ، وقالت
فرقة بعد سبع ساعات ، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام ، وقال عطاء بن أبي رباح
بعد سبعة أيام ، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يوما ، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين
يوما ، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه
، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله ، وقالت
فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع ، واختلفت هذه الفرقة ، فقال قتادة وابن عباس وأبو
العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة ، وقال هذا جماعة من العلماء ،
وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان
عبدا لله ذاكرا فلما أصابته الشدة نفعه ذلك ، قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وإن فرعون كان طاغيا باغيا فلما أدركه الغرق قال آمنت
فلم ينفعه ذلك ، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة. وقال قتادة في الحكمة :
إن العمل يرفع صاحبه إذ عثر فإذا صرع وجد متكئا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : كانت
سبحته صلاة في بطن الحوت ، وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول يا رب لأبنين
لك مسجدا حيث لم يبنه أحد قبلي ويصلي ، وروى أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن يونس حين نادى في الظلمات ، ارتفع نداؤه إلى العرش
فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف من موضع غربة ، فقال الله هو عبدي يونس فأجاب
الله دعوته.
قال القاضي أبو
محمد : وذكر الحديث وقال ابن جبير الإشارة بقوله (مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) إلى قوله (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧].
قال القاضي أبو
محمد : وكثر الناس في هذا القصص بما اختصرناه لعدم الصحة ، وروي أن الحوت مشى به
في البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل فنبذه الله في عراء من الأرض ،
و «العراء» الفيفاء التي لا شجر فيها ولا معلم ومنه قول الشاعر :
رفعت رجلا لا
أخاف عثارها
|
|
ونبذت بالبلد
العراء ثيابي
|
وقال السدي وابن
عباس في تفسير قوله (وَهُوَ سَقِيمٌ) ، إنه كان كالطفل المنفوش بضعة لحم ، وقال بعضهم كان
كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل «اليقطينة» بلبن
أروية كانت
تغاديه وتراوحه ،
وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة ، ويجد منها ألوان الطعام ، وأنواع شهواته واختلف
الناس في «اليقطينة» فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة وهي لفظة
مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان ، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل
اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل ، والبطيخ ونحوه مما
يموت من عامه ، وروي نحوه عن مجاهد ، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون «اليقطين»
القرع خاصة.
قال القاضي أبو
محمد : وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله (شَجَرَةً) تجوزا وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقا للعادة ، لأن
الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود ، وحكى بعض الناس أنها
كانت قرعة وهي تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها ،
وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب ، ومشهور اللغة أن «اليقطين»
القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس : [الطويل]
فأنبت يقطينا
عليه برحمة
|
|
من الله لو لا
الله ألفي ضاحيا
|
فنبت يونس عليهالسلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس
صلىاللهعليهوسلم ، وروي أنه كان يوما نائما فأيبس الله تلك اليقطينة ، وقيل
بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له ،
فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو
يزيدون تابوا فتيب عليهم.
قوله عزوجل :
(وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ
أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ
سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
(١٥٧)
قال الجمهور إن
هذه الرسالة (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) في رسالته الأولى التي أبق بعدها ، ذكرها الله في آخر
القصص تنبيها على رسالته ، ويدل على ذلك قوله (فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس حتى أبق ، وقال
قتادة وابن عباس أيضا هذه الرسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من
ناحية الموصل ، وقرأ جعفر بن محمد ، «ويزيدون» بالواو ، وقرأ الجمهور «أو يزيدون»
، فقال ابن عباس «أو» بمعنى «بل» ، وكانوا مائة ألف وثلاثين ألفا ، وقال أبي بن
كعب عن النبي صلىاللهعليهوسلم «كانوا مائة
وعشرين ألفا» ، وقال ابن جبير : كانوا مائة وسبعين ألفا ، وروي عن ابن عباس أنه
قرأ «إلى مائة ألف بل يزيدون» ، وقالت فرقة (أَوْ) هنا بمعنى الواو ، وقالت فرقة هي للإبهام على المخاطب ،
كما تقول ما عليك أنت أنا أعطي فلانا دينارا أو ألف دينار ، ونحو هذا قوله تعالى :
(لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ
شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) [آل عمران : ١٢٨].
قال القاضي أبو
محمد : وهذا المعنى قليل التمكن في قوله (أَوْ يَزِيدُونَ) ، وقال المبرد وكثير من البصريين : المعنى على نظر البشر
وحزرهم ، أي من رآهم قال : هم مائة ألف أو يزيدون ، وروي في قوله تعالى : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ) فمتعهم (إِلى حِينٍ) أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم وفرقوا بينها وبين
الأمهات وناحوا وضجوا وأخلصوا فرفع الله عنهم ، والتمتيع هنا هو بالحياة و «الحين»
آجالهم السابقة في الأزل ، قاله قتادة والسدي ، وقرأ ابن أبي عبلة «حتى حين» ، وفي
قوله تعالى : (فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) مثال لقريش أي أن آمنوا كما جرى لهؤلاء ، ومن هنا حسن
انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله ، (فَاسْتَفْتِهِمْ) فإنما يعود ضميرهم على ما في المعنى من ذكرهم ، والاستفتاء
السؤال ، وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ ، على قولهم على الله البهتان وجعلهم
البنات لله تعالى عن ذلك وأمره بتوقيفهم على جهة التوبيخ أيضا هل شاهدوا أن
الملائكة إناث فيصح لهم القول به ، ثم أخبر تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك
والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن وهذه فرقة من بني
مدلج فيما روي ، وقرأ جمهور الناس «اصطفى» بالهمز وهو ألف الاستفهام وهذا على جهة
التقرير والتوبيخ على نسبتهم إليه اختيار الأدنى عندهم ، وقرأ نافع في رواية
إسماعيل عنه «اصطفى» بصلة الألف على الخبر كأنه يحكي شنيع قولهم ، ورواها إسماعيل
عن أبي جعفر وشيبة ، ثم قرر ووبخ وعرض للتذكر والنظر واستفهم عن البرهان والحجة
على جهة التقرير وضمهم الاستظهار بكتاب أو أمر يظهر صدقهم ، وقرأ الجمهور «أفلا
تذكّرون» مشددة الذال والكاف ، وقرأ طلحة بن مصرف «تذكرون» بسكون الذال وضم الكاف
خفيفة.
قوله عزوجل :
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ(١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)
(١٦٩)
الضمير في قوله (وَجَعَلُوا) لفرقة من كفار قريش والعرب ، قال ابن عباس في كتاب الطبري
إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان ، وقال مجاهد : قال قوم لأبي بكر الصديق
: إن الله تعالى نكح في سروات الجن ، وقال بعضهم إن الملائكة بناته ، ف (الْجِنَّةِ) على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها
مستجنة أي مستترة ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في (عَلِمَتِ) لها ، والضمير في (إِنَّهُمْ) عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم
ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه ، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير
في (إِنَّهُمْ) للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة
سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان ، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه
الناس ولا يليق به ، ومن هذا استثنى العباد
المخلصين لأنهم
يصفونه بصفاته العلى ، وقالت فرقة استثناهم من قوله (إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ).
قال القاضي أبو
محمد : وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة ، وقوله تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وأصنامكم ما أنتم بمضلين أحدا
بسببها ، وعليها الأمر سبق عليه القضاء وضمه القدر ، بأنه يصلى الجحيم في الآخرة ،
وليس عليكم إضلال من هدى الله تعالى ، وقالت فرقة (عَلَيْهِ) ، بمعنى به ، و «الفاتن» المضل في هذا الموضع وكذلك فسر
ابن عباس والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن الزبير على المنبر : إن الله هو الهادي والفاتن
، و (مَنْ) في موضع نصب (بِفاتِنِينَ) ، وقرأ الجمهور «صال الجحيم» بكسر اللام ، من صال حذفت
الياء للإضافة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «صال الجحيم» بضم اللام وللنحاة في معناه
اضطراب ، أقواه أنه صالون حذفت النون للإضافة ، ثم حذفت الواو للالتقاء وخرج لفظ
الجميع بعد لفظ الإفراد ، فهو كما قال (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ) [يونس : ٤٢] لما
كانت «من» و «هو» من الأسماء التي فيها إبهام ويكنى بها عن أفراد وجمع ثم حكى قول
الملائكة ، (وَما مِنَّا) وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة كأنه قال ولقد علمت
كذا أو أن قولها لكذا ، وتقدير الكلام ما منا ملك ، وروت عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم «إن السماء ما
فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي» ، وقال ابن مسعود «موضع شبر إلا
وعليه جبهة ملك أو قدماه» ، وقرأ ابن مسعود «وإن كلنا لما له مقام معلوم» ، و (الصَّافُّونَ) معناه الواقفون صفوفا ، و (الْمُسَبِّحُونَ) يحتمل أن يريد به الصلاة ، ويحتمل أن يريد به قول سبحان
الله ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى
الناس فيقول لهم : عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي
الملائكة ، فإنها تقول (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) ، ثم يرى تقويم الصفوف ، وعند ذلك ينصرف ويكبر ، قال
الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من أهل
الملل غير المسلمين ، ثم ذكر عزوجل مقالة بعض الكفار ، وقال قتادة والسدي والضحاك فإنهم قبل
نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا من أتقى عباد
الله وأشدهم إخلاصا فلما جاءهم محمد كفروا فاستوجبوا أليم العقاب.
قوله عزوجل :
(فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ)
(١٨٢)
قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، وعيد محض لأنهم تمنوا أمرا فلما جاءهم الله تعالى به
كفروا واستهواهم الحسد ، ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق ، والكلمة
قد حقت في الأزل بأن رسل
الله تعالى إلى
أرضه هم (الْمَنْصُورُونَ) على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في
الدارين ، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بألف على الجمع ، وجند الله هم الغزاة لتكون
كلمات الله هي العليا ، وقال علي بن أبي طالب : جند الله في السماء الملائكة ، وفي
الأرض الغزاة وقوله تعالى ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ) وعد للنبي صلىاللهعليهوسلم وأمر بالموادعة ، وهذا مما نسخته آية السيف ، واختلف الناس
في المراد ب «الحين» ، هنا ، فقال السدي : الحين المقصود يوم بدر ورجحه الطبري ،
وقال قتادة : الحين موتهم ، وقال ابن زيد : الحين المقصود يوم القيامة ، وقوله
تعالى : (وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) وعد للنبيصلىاللهعليهوسلم ووعيد لهم أي سوف يرون عقبى طريقتهم ، ثم قرر تعالى نبيه
على جهة التوبيخ لهم على استعجالهم عذاب الله ، وقرأ جمهور الناس «فإذا نزل
بساحتهم» على بناء الفعل للفاعل أي نزل العذاب ، وقرأ ابن مسعود «نزل بساحتهم» على
بنائه للمفعول ، والساحة الفناء ، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان
من خير أو شر ، وسوء الصباح أيضا مستعمل في ورود الغارات والرزايا ، ونحو ذلك ومنه
قول الصارخ : يا صباحاه! كأنه يقول قد ساء لي الصباح فأغيثوني ، وقرأ ابن مسعود «فبئس
صباح» ، ثم أعاد عزوجل أمر نبيه بالتولي تحقيقا لتأنيسه وتهمما به ، وأعاد توعدهم
أيضا لذلك ، ثم نزه نفسه تنزيها مطلقا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات ، و
(الْعِزَّةِ) في قوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) هي العزة المخلوقة الكائنة ، للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال
الفقهاء من أجل أنها مربوبة ، وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله فإن
كان أراد صفته الذاتية فهي يمين ، وإن كان أراد عزته التي خلقها بين عباده وهي
التي في قوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) فليست بيمين ، وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين ، فإنما أنا
أحدهم» ، وباقي الآية بين ، وذكر أبو حاتم عن صالح بن ميناء قال : قرأت على عاصم
بن أبي النجود فلما ختمت هذه السورة سكت فقال لي : إيه اقرأ ، قلت قد ختمت ، فقال
كذلك فعلت على أبي عبد الرحمن وقال لي كما قلت لك ، وقال لي كذلك قال لي علي بن
أبي طالب وقال : «وقل آذنتكم باذانة المرسلين لتسألن عن النبإ العظيم» ، وفي مصحف
عبد الله «عن هذا النبإ العظيم».
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة ص
هذه السورة مكية
بإجماع من المفسرين.
قوله عزوجل :
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ
(٣)
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ
كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ)
(٥)
قرأ الحسن وأبي بن
كعب وابن أبي إسحاق : «صاد» بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل
، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح ، والمعنى : ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك ،
وهكذا فسر الحسن ، أي انظر أين عملك منه ، وقال جمهور الناس : إنه حرف المعجم
المعروف ، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال ، ويختص هذا الموضع بأن قال
بعض الناس : معناه صدق محمد. وقال الضحاك معناه : صدق الله ، وقال محمد بن كعب
القرظي : هو مفتاح أسماء الله : صمد صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، وقرأها الجمهور
: «صاد» بسكون الدال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صاد» بكسر الدال وتنوينها
على القسم ، كما تقول : الله لأفعلن. وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق : «صاد»
بدون تنوين ، وألحقه بقول العرب : خاث باث ، وخار وباز. وقرأ فرقة منها عيسى بن
عمر : «صاد» بفتح الدال ، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف ، يقول : قاف ، ونون ،
ويجعلها كأين وليت. قال الثعلبي ، وقيل معناه : صاد محمد القلوب ، بأن استمالها
للإيمان.
وقوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) قسم. وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير ، معناه ذي الشرف
الباقي المخلد. وقال قتادة والضحاك : ذي التذكرة للناس والهداية لهم. وقالت فرقة
معناه : ذي الذكر للأمم والقصص والغيوب. وأما جواب القسم فاختلف فيه ، فقالت فرقة
: الجواب في قوله : (ص) إذ هو بمعنى صدق محمد ، أو صدق الله. وقال الكوفيون
والزجاج ، الجواب قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤]. وقال
بعض البصريين ومنهم الأخفش ، الجواب في قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا
كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ص : ١٤].
قال القاضي أبو
محمد : وهذان القولان بعيدان.
وقال قتادة
والطبري : الجواب مقدر قبل بل ، وهذا هو الصحيح ، تقديره : والقرآن ما الأمر كما
يزعمون ، ونحو هذا من التقدير فتدبره. وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) وهذا متكلف جدا. والعزة هنا : المعازة والمغالبة. والشقاق
: نحوه أي هم في شق ، والحق في شق. و : (كَمْ) للتكثير ، وهي خبر فيه مثال ووعيد ، وهي في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا). والقرن الأمة من الناس يجمعها زمن أحد ، وقد تقدم تحريره
مرارا.
وقوله : (فَنادَوْا) معناه : مستغيثين ، والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة
فلم ينفع ذلك ، ولم يكن في وقت نفع. (وَلاتَ) بمعنى : ليس ، واسمها مقدر عند سيبويه ، تقديره ولات الحين
حين مناص ، وهي : لا (لحقتها : تاء ، كما تقول) ربت وثمت. قال الزجاج : وهي كتاء
جلست وقامت ، تاء الحروف كتاء الأفعال دخلت على ما لا يعرب في الوجهين ، ولا
تستعمل «لا» مع التاء إلا في الحين والزمان والوقت ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر [محمد
بن عيسى بن طلحة] : [الكامل]
لات ساعة مندم
وقال الآخر : [الوافر]
تذكر حب ليلى
لات حينا
|
|
وأضحى الشيب قد
قطع القرينا
|
وأنشد بعضهم في
هذا المعنى : [الخفيف]
طلبوا صلحنا
ولات أوان
|
|
فأجبنا أن ليس
حين بقاء
|
وأنشد الزجاج بكسر
التاء ، وهذا كثير ، قراءة الجمهور : فتح التاء من : «لات» والنون من : «حين» وروي
عن عيسى كسر التاء من : «لات» ونصب النون. وروي عنه أيضا : «حين» بكسر النون ،
واختلفوا في الوقف على : (لاتَ) فذكر الزجاج أن الوقف بالتاء ، ووقف الكسائي بالهاء ، ووقف
قوم واختاره أبو عبيد على «لا» ، وجعلوا التاء موصولة ب (حِينَ) ، فقالوا «لا تحين». وذكر أبو عبيد أنها كذلك في مصحف
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ويحتج لهذا بقول أبي وجزة : [الكامل]
العاطفون تحين
ما من عاطف
|
|
والمطعمون زمان
ما من مطعم
|
يمدح آل الزبير.
وقرأ بعض الناس : «لات حين» برفع النون من : (حِينَ) على إضمار الخبر. والمناص : المفر ، ناص ينوص ، إذا فات
وفر ، قال ابن عباس : المعنى ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم. والضمير في : (عَجِبُوا) لكفار قريش ، واستغربوا أن نبىء بشر منهم فأنذرهم ، وأن
وحد إلها ، وقالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمرهم؟ و : (عُجابٌ) بناء مبالغة ، كما قالوا سريع وسراع ، وهذا كثير.
وقرأ أبو عبد
الرحمن السلمي وعيسى بن عمر : «عجّاب» بشد الجيم ، ونحوه قول الراجز : [الرجز]
جاؤوا بصيد عجب
من العجب
|
|
أزيد والعينين
طوال الذنب
|
وقد قالوا : رجل
كرام ، أي كريم.
قوله عزوجل :
(وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
أَأُنْزِلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ)
(٩)
روي في قصص هذه
الآية أن أشراف قريش وجماعتهم اجتمعوا عند مرض أبي طالب عم النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونؤذي محمدا
بعده ، فتقول العرب : تركوه مدة عمه ، فلما مات آذوه ، ولكن لنذهب إلى أبي طالب
فلينصفنا منه ، وليربط بيننا وبينه ربطا ، فنهضوا إليه ، فقالوا يا أبا طالب إن
محمدا يسب ويسفه آراءنا وآراء آبائنا ونحن لا نقاره على ذلك ، ولكن افصل بيننا
وبينه في حياتك ، بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي يزعم ، ويدع آلهتنا ، ولا يعرض
لأحد منا بشيء من هذا ، فبعث أبو طالب في محمد صلىاللهعليهوسلم ، فقال يا محمد ، إن قومك قد دعوك إلى النصفة ، وهي أن
تدعهم وتعبد ربك وحدك ، فقال : أو غير ذلك يا عم؟ قال وما هو؟ قال : يعطوني كلمة
تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم قالوا وما هي؟ فإنا نبادر إليها
، قال : لا إله إلا الله ، فنفروا عند ذلك ، وقالوا ما يرضيك منا غير هذا؟ قال :
والله لو أعطيتموني الأرض ذهبا ومالا. وفي رواية : لو جعلتم الشمس في يميني والقمر
في شمالي ما أرضاني منكم غيرها ، فقاموا عند ذلك ، وبعضهم يقول : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ،
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] ويرددون
هذا المعنى ، وعقبة بن أبي معيط يقول : (امْشُوا وَاصْبِرُوا
عَلى آلِهَتِكُمْ).
وجلبت هذا الخبر
تام المعنى ، وفي بعض رواياته زيادة ونقصان ، والغرض متقارب ، ولما ذهبوا قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : يا عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ،
فقال : والله لو لا أن تكون سبة في بني بعدي لأقررت بها عينك ، ومات وهو يقول :
على ملة عبد المطلب ، فنزلت في ذلك : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦]
وانطلق.
فقوله تعالى في
هذه الآية : (وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ) عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع ، هذا
قول جماعة من المفسرين. وقالت فرقة : هي عبارة عن إذاعتهم لهذه الأقاويل ، فكأنه
كما يقول الناس : انطلق الناس بالدعاء للأمير ونحوه ، أي استفاض كلامهم بذلك ، و (الْمَلَأُ) الأشراف والرؤوس الذين يسدون مسد الجميع في الآراء ونحوه.
وقوله : (أَنِ امْشُوا أَنِ) مفسرة لا موضع لها في الإعراب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب
بإسقاط حرف الجر ، أي بأن ، فهي بتقدير المصدر ، كأنه قال : وانطلق الملأ منهم
بقولهم : امشوا ومعنى الآية أنه قال بعضهم لبعض امشوا واصبروا على كل أمر آلهتكم ،
وذهب بعض الناس إلى أن قولهم :
(امْشُوا) ، هو دعاء بكسب الماشية ، وفي هذا ضعف ، لأنه كان يلزم أن
تكون الألف مقطعوعة ، لأنه إنما يقال : أمشى الرجل إذا صار صاحب ماشية ، وأيضا
فهذا المعنى غير متمكن في الآية ، وإنما المعنى : سيروا على طريقتكم ودوموا على
سيركم ، أو يكون المعنى : أمر من نقل الأقدام ، قالوه عند انطلاقهم ، وهو في مصحف
عبد الله بن مسعود : «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا».
وقولهم : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) يريدون ظهور محمد وعلوه بالنبوة ، أي يراد منا : الانقياد
إليه: وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) يريدون بمثل هذه المقالة أن الإله واحد.
واختلف المتأولون
في قولهم : (فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ) فقال مجاهد : أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها ،
ويقال لكل ما تتبعه أمة ما ملة. وقال ابن عباس والسدي : أراد ملة النصارى ، وذلك
متجه ، لأنها ملة شهير فيها التثليث ، وأن الإله ليس بواحد. وقالت فرقة معنى قولهم
: (ما سَمِعْنا) أنه يكون مثل هذا ، ولا أنه يقال في الملة الآخرة التي كنا
نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين ، ويدل على
صحة هذا ما روي من قول الأحبار ذوي الصوامع ، وما روي عن شق وسطيح ، وما كانت بنو
إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم.
وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلىاللهعليهوسلم عن الله تعالى ، ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض ،
ومضمن ذلك الإنكار : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) بمعنى نحن الأشراف الأعلام ، فلم خص هذا؟ وكيف يصح هذا؟
فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل ، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على
شهواتهم ، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْ ذِكْرِي) أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق ، ثم توعدهم بقوله : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي هم لجهالتهم
لا يبين لهم النظر ، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب.
وقرأ ابن مسعود : «أم
أنزل» بميم بين الهمزتين ، ثم وقفهم احتجاجا عليهم ، أعندهم رحمة ربك وخزائنها
التي فيها الهدى والنبوءة وكل فضل ، فيكون لهم تحكم في الرسالة وغيرها من نعم
الله. و (أَمْ): هنا ، لم تعادلها ألف ، فهي المقطوعة التي معناها إضراب
عن الكلام الأول واستفهام ، وقدرها سيبويه ب «بل» والألف كقول العرب : إنها لإبل
أم شاء. والخزائن للرحمة مستعارة ، كأنها موضع جمعها وحفظها من حيث كانت ذخائر
البشر تحتاج إلى ذلك خوطبوا في الرحمة بما ينحوا إلى ذلك. وقال الطبري : يعني ب «الخزائن»
المفاتيح ، والأول أبين ، والله أعلم.
قوله عزوجل :
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)
وَثَمُودُ
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣)
إِنْ
كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ)
(١٤)
(أَمْ) في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في (أَمْ) [ص : ٩] الأولى ،
وكأنه تعالى يقول في هذه
الآية : أم لهم
هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان
الأمر كذلك ، أي إلى السماء ، قاله ابن عباس. و (الْأَسْبابِ) : كل ما يتوصل به إلى الأشياء ، وهي هنا بمعنى الحبال
والسلاليم. وقال قتادة : أراد أبواب السماء.
وقوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ) اختلف المتأولون في الإشارة ب (هُنالِكَ) إلى ما هي؟ فقالت فرقة : أشار إل الارتقاء في الأسباب ، أي
هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم ، وهذا قوي. وقالت فرقة : الإشارة ب (هُنالِكَ) إلى حماية الأصنام وعضدها ، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في
هذه السبيل. وقال مجاهد : الإشارة ب (هُنالِكَ) ، إلى يوم بدر ، وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله ،
أي جند المشركين يهزمون ، فخرج في بدر. وقالت فرقة : الإشارة إلى حصر عام الخندق
بالمدينة.
وقوله : (مِنَ الْأَحْزابِ) أي من جملة أحزاب الأمم الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا
الرسل فأخذهم الله تعالى. و (ما) ، في قوله : (جُنْدٌ ما) زائدة مؤكدة وفيها تخصيص.
واختلف المتأولون
في قوله : (ذِي الْأَوْتادِ) ، فقال ابن عباس وقتادة سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب
يلعب له بها وعليها. وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، يسمرهم في الأرض بها.
وقال الضحاك : أراد المباني العظام الثابتة ، وهذا أظهر الأقوال ، كما يقال للجبال
أوتاد لثبوتها ، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره ،
ونحو من هذا قولهم : أهل العمود.
وقرأت فرقة : «ليكة».
وقرأت فرقة : «الأيكة» ، وقد تقدم القول في شرح ذلك في سورة الشعراء ، ثم أخبر
تعالى أن هؤلاء المذكورين هم الأحزاب ، وضرب بهم المثل لقريش في أنهم كذبوا ، ثم
أخبر أن عقابه حق على جميعهم ، أي فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بمحمد وفي قراءة
ابن مسعود : «إن كل لما». وحكى أبو عمرو الداني إن فيها : «إن كلهم إلا كذب».
قوله عزوجل :
(وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ
(١٥) وَقالُوا
رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وَشَدَدْنا
مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)
(٢٠)
(يَنْظُرُ) بمعنى ينتظر ، وهذا إخبار من الله لرسوله صدقه الوجود ، ف «الصيحة»
على هذا عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة ، وهذا كما تقول : صاح فيهم
الدهر. وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور. قال الثعلبي : روي هذا
التفسير مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم. وقالت طائفة : توعدهم بصيحة يهلكون بها في الدنيا ، وعلى
هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة
وتحت أمر خطير ،
ما ينتظرون فيه إلا الهلكة ، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره محمد فيه
كالتأويل الأول.
وقرأ جمهور القراء
: «فواق» بفتح الفاء. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن : «فواق»
بضم الفاء. قال ابن عباس وغيره : هما بمعنى واحد ، أي ما لها من انقطاع وعودة ، بل
هي متصلة حتى تهلكهم ، ومنه فواق الحلب : المهلة التي بين الشخبين : وجعلوه مثل
قصاص الشعر وقصاصه وغير ذلك ، ومنه الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار». وقال ابن
زيد وأبو عبيدة ومؤرج والفراء : المعنى مختلف : الضم كما تقدم من معنى فواق الناقة
، والفتح بمعنى الإفاقة ، أي ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة ، ف «فواق»
: مثل جواب ، من أجاب.
ثم ذكر عزوجل عنهم أنهم قالوا : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا
قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) والقط : الحظ والنصيب ، والقط أيضا : الصك والكتاب من
السلطان بصلة ونحوه ، ومنه قول الأعشى : [الطويل]
ولا الملك
النعمان يوم لقيته
|
|
بغبطته يعطي
القطوط ويافق
|
وهو من قططت ، أي
قطعت.
واختلف الناس في «القط»
هنا ما أرادوا به ، فقال سعيد بن جبير : أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير
والنعيم في دنيانا. وقال أبو العالية والكلبي : أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا ،
وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل ، قالوا
ذلك. وقال ابن عباس وغيره : أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه ، فهذا نظير قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ
السَّماءِ) [الأنفال : ٤٢]
وقال السدي ، المعنى : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل تأويل ،
فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء ، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر ،
ولفظ الآية يعطي إقرارا بيوم الحساب.
وقوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ولا يلتفت
إليها : واذكر داود ذا الأيد في الدين والشرع والصدع به ، فتأس به وتأيد كما تأيد.
و : (الْأَيْدِ) القوة ، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة. و
«الأواب» الرجاع إلى طاعة الله ، وقاله مجاهد وابن زيد ، وفسره السدي بالمسبح ،
وذكر الثعلبي أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الزرقة يمن. وكان داود أزرق.
وأخبر تعالى عما
وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال تسبح معه ، وظاهر الآية عموم الجبال. وقالت
فرقة : بل هي الجبال التي كان فيها وعندها ، وتسبيح الجبال هنا حقيقة. (وَالْإِشْراقِ) وقت ضياء الشمس وارتفاعها ، ومنه قولهم : أشرق ثبير ، أي
ادخل في الشروق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل. وقال ابن عباس : صلاة
الضحى عندنا هي صلاة الإشراق ، وهي في هذه الآية.
وقوله تعالى : (وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) ، أي وسخرنا الطير ، و (مَحْشُورَةً) نصب على الحال ، ومعناه : مجموعة.
وقرأ ابن أبي عبلة
: «والطير محشورة» بالرفع فيهما. والضمير في : (لَهُ) قالت فرقة : هو عائد على داود ، ف (كُلٌ) للجبال والطير.
وقوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة ،
وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء ، فقال السدي : بالجنود. وقال آخرون
: بهيبة جعلها الله تعالى له.
وقرأ الجمهور : «وشددنا»
بتخفيف الدال الأولى. وروي عن الحسن : «شدّدنا» بشدها على المبالغة.
و (الْحِكْمَةَ) : الفهم في الدين وجودة النظر ، هذا قول فرقة. وقالت فرقة
: أراد ب (الْحِكْمَةَ) النبوءة. وقال أبو العالية : (الْحِكْمَةَ) العلم الذي لا ترده العقول.
قال القاضي أبو
محمد : هي عقائد البرهان واختلف الناس في (فَصْلَ الْخِطابِ) ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل القضاء بين الناس
بالحق وإصابته وفهمه. وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي : (فَصْلَ الْخِطابِ) إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي. وقال
الشعبي أيضا وزياد : أراد قول أما بعد ، فإنه أول من قالها ، والذي يعطيه لفظ
الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه ، لا
يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف ، وهذه صفة قليل من يدركها ، فكان كلامه عليهالسلام فصلا ، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق: ١٣]
ويزيد محمد صلىاللهعليهوسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة
في اللفظ اليسير ، وهذا هو الذي تخصص عليهالسلام في قوله : «وأعطيت جوامع الكلم» فإنها في الخلال التي لم
يؤتها أحد قبله ، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم.
قوله عزوجل :
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى
داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)
إِنَّ
هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ
أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)
(٢٤)
هذه مخاطبة للنبي صلىاللهعليهوسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها ، لأن
المعنى : هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة ، فكأن هذا الاستفهام إنما هو
تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. و (الْخَصْمِ) جار مجرى عدل وزور ، يوصف به الواحد والاثنان والجميع ،
ومنه قول لبيد : [الطويل]
وخصم يعدو
الذحول كأنهم
|
|
قروم غيارى كل
أزهر مصعب
|
وتحتمل هذه الآية
أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط ، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين ، فتجيء
الضمائر في : (تَسَوَّرُوا) و : (دَخَلُوا) و : (قالُوا) على جهة التجوز ، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع ، ويحتمل
أنه جاء مع كل فرقة ، كالعاضدة والمؤنسة ، فيقع على جميعهم خصم ، وتجيء الضمائر
حقيقة. و : (تَسَوَّرُوا) معناه : علوا سوره وهو جمع سورة ، وهي القطعة من البناء ،
وهذا كما تقول : تسنمت الحائط أو البعير ، إذا علوت على سنامه. و (الْمِحْرابَ) : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد ، وهو موضع التعبد ،
والعامل في : (إِذْ) الأولى (نَبَأُ) وقيل : (أَتاكَ). والعامل في : (إِذْ) الثانية (تَسَوَّرُوا) ، وقيل هي بدل من (إِذْ) الأولى وقوله تعالى : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه ، وإنما
فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان ، وقيل إن ذلك كان ليلا ، ذكره
الثعلبي ، ويحتمل أن يكون فزعه من أن يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم
الاستئذان ، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم : (لا تَخَفْ) أنهم فهموا منه عليهالسلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس
فيها ، واختلفت الروايات به ، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به ،
ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليهالسلام ، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها ، فأفتى
بفتيا هي واقفة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد ، خر وأناب واستغفر ، وأما
نازلته التي وقع فيها ، فروي أنه عليهالسلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله ، وظهر منه ما
يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة ، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع
الملكين الحافظين عليه فقال لهما : جرباني يوما ، فإني وإن غبتما عني لا أواقع
مكروها. وقال السدي : كان داود قد قسم دهره : يوما يقضي فيه بين الناس ، ويوما
لعبادته ، ويوما لشأن نفسه ، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا ، وقيل في السبب غير هذا مما
لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه : أنه أخذ داود يوما في عبادته وانفرد في
محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة ، فوقع بين يديه ، فروي أنه كان طائرا
حسن الهيئة : حمامة ، فمد داود يده ليأخذه فزال مطمعا له فما زال يتبعه حتى صعد
الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه ، فتنحى له الطائر ، فتطلع داود عليهالسلام ، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة ، فرأى منظرا جميلا فتنه ،
ثم إنها شعرت به ، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به ، فزاده ولوعا بها ، ثم إنه
انصرف وسأل عنها ، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له : أوريا وإنه في بعث كذا
وكذا ، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانا يقاتل عند التابوت ، وهو
موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد ، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك. ويروى أن
داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال ، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة
من الحرب ، حتى قتل في الثالثة من نهضاته ، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة
، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه ، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع ، فلما
سمي الرجل قال : كتب الموت على كل نفس ، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها ، فكانت أم
سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه
الخصم ليفتي بأن
هذا ظلم. وقالت فرقة : إن هذا كله هم به داود ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على
همه بذلك. وقال آخرون : إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ،
إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو
محمد : والرواة على الأول أكثر ، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق ،
وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدث
بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليهالسلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله : (خَصْمانِ) تقديره : نحن
خصمان ، وهذا كقول الشاعر : [الطويل]
وقولا إذا
جاوزتما أرض عامر
|
|
وجاوزتما الحيين
نهدا وخثعما
|
نزيعان من جرم
ابن زبان إنهم
|
|
أبوا أن يميروا
في الهزاهز محجما
|
ونحوه قال العرب
في مثل : محسنة فهيلي ، التقدير : أنت محسنة ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «آئبون تائبون». و : (بَغى) معناه : اعتدى واستطال ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]
ولكن الفتى حمل
بن بدر
|
|
بغى والبغي
مرتعه وخيم
|
وقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا
تُشْطِطْ) إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله ، وليس هذا بارتياب منه ،
ومنه قول الرجل للنبي عليهالسلام : فاحكم بيننا بكتاب الله.
وقرأ جمهور الناس
: «ولا تشطط» بضم التاء وكسر الطاء الأولى ، معناه : ولا تتعد في حكمك. وقرأ أبو
رجاء وقتادة : «تشطط» بفتح التاء وضم الطاء ، وهي قراءة الحسن والجحدري ، ومعناه :
ولا تبعد ، يقال : شط إذا بعد ، وأشط إذا أبعد غيره. وقرأ زر بن حبيش : «تشاطط»
بضم التاء وبالألف. و : (سَواءِ الصِّراطِ) معناه : وسط الطريق ولا حبه.
وقوله : (إِنَّ هذا أَخِي) إعراب أخي عطف بيان ، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة
كالخلق والخلق وسائر الأوصاف ، فإنه نعت محض ، والعامل فيه هو العامل في الموصوف ،
وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل ، والعامل فيه مكرر ، وتقول : جاءني
أخوك زيد ، فالتقدير : جاءني أخوك جاءني زيد ، فاقتصر على حذف العامل في البدل
والمبدل منه في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس : ٣١] وما كان
منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان ، وهو
بين في قول الشاعر : [الرجز]
يا نصر نصرا نصرا
فإن الرواية في
الثاني بالتنوين ، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه ، فليس ببدل ، وصح فيه
عطف البيان ، وهذه الأخوة مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما
بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان ، والله أعلم. و «النعجة» في هذه الآية ،
عبر بها عن المرأة. والنعجة في كلام العرب تقع
على أنثى بقر
الوحش ، وعلى أنثى الضأن ، وتعبر العرب بها عن المرأة ، وكذلك بالشاة ، قال الأعشى
: [الكامل]
فرميت غفلة عينه
عن شاته
|
|
فأصبت حبة قلبها
وطحالها
|
أراد عن امرأته ،
وفي قراءة ابن مسعود : «وتسعون نعجة أنثى». وقرأ حفص عن عاصم : «ولي» بفتح الياء.
وقرأ الباقون بسكونها ، وهما حسنان. وقرأ الحسن والأعرج : «نعجة» بكسر النون ،
والجمهور على فتحها. وقرأ الحسن : «تسع وتسعون» بفتح التاء فيهما وهي لغة.
وقوله : (أَكْفِلْنِيها) أي ردها في كفالتي ، وقال ابن كيسان ، المعنى : اجعلها
كفلي ، أي نصيبي. (وَعَزَّنِي) : معناه غلبني ، ومنه قول العرب : من عزبز ، أي من غلب سلب
وقرأ أبو حيوة : «وعزني» بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح : أراد عززني ، فحذف الزاي
الواحدة تخفيفا كما قال أبو زيد :
أحسن به فهن إليه
شوس
قال أبو حاتم :
ورويت «عزني» بتخفيف الزاي عن عاصم. وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير : «وعازني»
، أي غالبني.
ومعنى قوله : (فِي الْخِطابِ) كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي
، وقوته أعظم من قوتي ، فيروى أن داود عليهالسلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر : ما تقول؟ فأقر وألد ، فقال
له داود : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني : لقد ظلمك ،
فتبسما عند ذلك ، وذهبا ولم يرهما لحينه ، فشعر حينئذ للأمر. وروي أنهما ذهبا نحو
السماء بمرأى منه. وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها ، وقالا له : إنما نحن
مثال لك. وقال بعض الناس : إن داود قال : لقد ظلمك ، قبل أن يسمع حجة الآخر ، وهذه
كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو
محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه : وهذا ضعيف من جهات ، لأنه خالف متظاهر
الروايات ، وأيضا فقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف ، وهذا من بلاغة
الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق ، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال الثعلبي
: كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصارا ، ومن أجله قال داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ).
وقوله عليهالسلام : «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» أضاف الضمير إلى المفعول ، و (الْخُلَطاءِ) الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور ، وهذا القول من
داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق. وما في قوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) زائدة مؤكدة.
وقوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ) معناه : شعر للأمر وعلمه. وقالت فرقة : (ظَنَ) هنا بمعنى أيقن.
قال القاضي أبو محمد
: والظن أبدا في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر ،
وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام ، ولكن يخلط
الناس في
هذا ويقولون ظن
بمعنى : أيقن ، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهدا
يتضمن أن يقال : رأى زيد كذا وكذا فظنه. وانظر إلى قوله تبارك وتعالى في كتابه : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) [الكهف : ٥٣] وإلى
قول دريد بن الصمة : [الطويل]
فقلت لهم ظنوا
بألفي مدجج
|
|
سراتهم بالفارسي
المسرد
|
وإلى هذه الآية : (وَظَنَّ داوُدُ) فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة ، ولو فرضنا أهل النار قد
دخلوها وباشروا ، لم يقل «ظن» ولا استقام ذلك ، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة
لم يعبر عنها ب «ظن» ، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به ،
لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس : «فتنّاه» بفتح التاء وشد النون ، أي
ابتليناه وامتحناه. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن : بخلاف عنه ، «فتّنّاه»
بشد التاء والنون على معنى المبالغة. وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر : «فتناه»
بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين ، أي امتحناه عن أمرنا ، وهي قراءة
قتادة. وقرأ الضحاك : «افتتناه».
وقوله : (وَخَرَّ) أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامنا متواضعا ، والركوع
والسجود : الانخفاض والترامي نحو الأرض ، وخصصتها الشرائع على هيئات معلومة. وقال
قوم يقال : «خر» ، لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض. وقال الحسن بن الفضل ،
المعنى : خر من ركوعه ، أي سجد بعد أن كان راكعا. وقال أبو سعيد الخدري : رأيتني
في النوم وأنا أكتب سورة : «ص» فلما بلغت هذه الآية سجد القلم ، ورأيتني في منام
آخر وشجرة تقرأ : «ص» فلما بلغت هذا سجدت ، وقالت : اللهم اكتب لي بها أجرا ، وحط
عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود. فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : وسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت لا ، قال : أنت كنت أحق
بالسجدة من الشجرة ، ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الآيات حتى بلغ : (وَأَنابَ) ، فسجد ، وقال كما قالت الشجرة. (وَأَنابَ) معناه : رجع وتاب ، ويروى عن مجاهد أن داود عليهالسلام بقي في ركعته تلك لاصقا بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحا
حتى نبت العشب من دمعه ، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته. وروي أنه لما غفر الله له
أمر المرأة ، قال : يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة ، فأوحى
الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود ، وأجعله أن يهبه راضيا بذلك ، فحينئذ سر داود
عليهالسلام واستقرت نفسه ، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليهالسلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائما ويعرضها على الناس في
كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعا لله عزوجل وإقرارا ، وكان يسيح في الأرض ويصيح : إلهي إذا ذكرت
خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، سبحانك ، إلهي
أتيت أطباء الدين يداووا علتي ، فكلهم عليك دلني. وكان يدخل في صدر خطبته
الاستغفار للخاطئين ، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلىاللهعليهوسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين.
قوله عزوجل :
(فَغَفَرْنا لَهُ
ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ
بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا
الْأَلْبابِ)
(٢٩)
«غفرنا» : معناه
سترنا ، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم. و : «الزلفى» : القربة والمكانة الرفيعة. و
«المآب» : المرجع في الآخرة ، ومن آب يؤوب إذا رجع ، وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر
الكلام ، تقديره : وقلنا له (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) ، واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى
خليفة من الله تعالى.
قال القاضي أبو
محمد عبد الحق : وليس هذا بلازم من الآية ، بل لزومه من الشرع والإجماع ، ولا يقال
خليفة الله إلا لرسوله ، وأما الخلفاء : فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وما يجيء
في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله ، فذلك تجوز وغلو كما قال ابن قيس الرقيات : [المنسرح]
خليفة الله في
بريته
|
|
جفت بذاك
الأقلام والكتب
|
ألا ترى أن
الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبهذا كان يدعى مدته ، فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة
خليفة رسول الله ، فطال الأمر ، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر ، فدعوه أمير
المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء.
وقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). إلى قوله : (وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان ، هو خطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم وعظة لأمته ، ووعيد للكفرة به.
وقرأ أبو حيوة : «يضلون»
بضم الياء ، و (نَسُوا) في هذه الآية معناه : تركوا وأخبر تعالى أن الذين كفروا
يظنون أن خلق السماء وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له ، وأن الأمر ليس يؤول إلى
ثواب ولا إلى عقاب.
وأخبر تعالى عن
كذب ظنهم وتوعدهم بالنار ، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين
بالصالحات ، وبين المفسدين بالكفرة ، وبين المتقين والفجار ، وفي هذا التوقيف حض
على الإيمان وترغيب فيه ، ووعيد للكفرة. ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه
العزيز بقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) المعنى : هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا
، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن
أجمعها فيه ، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار ، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا
ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.
وقرأ جمهور الناس
: «ليدبّروا» بشد الدال والباء ، والضمير للعالم. وقرأ حفص عن عاصم : «لتدبروا»
على المخاطبة. وقرأ أبو بكر عنه : «لتدبروا» بتخفيف الدال ، أصله : تتدبروا ،
وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن ، فالترتيل إذا أفضل من
الهذ ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
إِذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ)
(٣٥)
الهبة والعطية
بمعنى واحد ، فوهب الله سليمان لداود ولدا ، وأثنى تعالى عليه بأوصاف من المدح
تضمنها قوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ). و (أَوَّابٌ) ، معناه : رجاع ، ولفظة : (أَوَّابٌ) هو العامل في (إِذْ) ، لأن أمر الخيل مقتض أوبة عظيمة.
واختلف الناس في
قصص هذه الخيل المعروضة ، فقال الجمهور : إن سليمان عليهالسلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له ، وقيل : ألف واحد
فأجريت بين يديه عشاء ، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها حتى فاته وقت صلاة العشاء.
قال قتادة : صلاة العصر ونحوه عن علي بن أبي طالب ، فأسف لذلك ، وقال : ردوا علي
الخيل. قال الحسن : فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف عقرا لما كانت سبب فوت
الصلاة ، فأبدله الله أسرع منها : الريح. وقال قوم منهم الثعلبي : كانت بالناس
مجاعة ولحوم الخيل لهم حلال ، فإنما عقرها لتؤكل على وجه القربة لها ونحو الهدي
عندنا ، ونحو هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي
في الصلاة فشغله.
و «الصافن» :
الفرس الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة
الفراهية ، وأنشد الزجاج : [الكامل]
ألف الصفون فلا
يزال كأنه
|
|
مما يقوم على
الثلاث كسيرا
|
وقال أبو عبيدة : «الصافن
الذي يجمع يديه ويسويها ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المخيم. وفي مصحف ابن
مسعود : «الصوافن الجياد». و (الْجِيادُ) جمع جود ، كثوب وثياب ، وسمي به لأنه يجود بجريه. وقال بعض
الناس : (الْخَيْرِ) هنا أراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير ، وكذلك قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لزيد الخيل : أنت زيد الخير. و (حُبَ) منصوب على المفعول به عند فرقة ، كأن (أَحْبَبْتُ) بمعنى آثرت. وقالت فرقة : المفعول ب (أَحْبَبْتُ) محذوف ، و (حُبَ)
نصب على المصدر ،
أي أحببت هذه الخيل حب الخير ، وتكون (الْخَيْرِ) على هذا التأويل غير الخيل ، وفي مصحف ابن مسعود : «حب
الحيل» ، باللام. وقالت فرقة : (أَحْبَبْتُ) معناه : سقطت إلى الأرض لذنبي ، مأخوذ من أحب البعير إذا
أعيا وسقط هزالا. و (حُبَ) على هذا مفعول من أجله. والضمير في (تَوارَتْ) للشمس ، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح ، لأن المعنى يقتضيها
، وأيضا فذكر العشي يقتضي لها ذكرا ويتضمنها ، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) يريد الخيل ، أي دخلت اصطبلاتها. وقال ابن عيسى والزهري :
إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف ، بل بيده تكريما لها ومحبة ، ورجحه
الطبري. وقال بعضهم : بل غسلا بالماء ، وقد يقال للغسل مسح ، لأن الغسل بالأيدي
يقترن به ، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية. وروي
عن بعض الناس ، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر
الخيل أوبة ولا رجوعا ، فالعامل في : (إِذْ عُرِضَ) فعل مضمر تقديره : اذكر إذ عرض ، وقالوا عرض على سليمان
الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم ، أي في الصلاة ، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في
الاصطبلات ، فقال هو لما فرغ من صلاته : (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ) أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول :
فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها (رُدُّوها عَلَيَ) فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها ، وذكر الثعلبي أن هذا
المسح إنما كان وسما في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. وجمهور الناس على
أنها كانت خيلا موروثة. قال بعضهم : قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس ، فمن
نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل ، وهذا بعيد. وقالت فرقة : كانت خيلا
أخرجتها الشياطين له من البحر وكانت ذوات أجنحة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه أنها كانت عشرين فرسا. وطفق معناه : دام يقتل ، كما تقول : جعل يفعل.
وقرأ جمهور الناس
: «بالسوق» بسكون الواو وهو جمع ساق. وقرأ ابن كثير وحده : «السؤق» بالهمز. قال
أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها
عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة ، وهذا نظير إمالتهم ألف «مقلات» من حيث
وليت الكسرة القاف ، قدروا أن القاف هي المكسورة ، ووجه همزة السوق من السماع أن
إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد :
لحب الموقدين إليّ
موسى
وقرأ ابن محيصن : «بالسؤوق»
بهمزة بعدها الواو.
وقوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فإن (عَنْ) على كل تأويل هنا للمجاورة من شيء إلى شيء ، وتدبره فإنه
مطرد.
ثم أخبر الله
تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه ، وروي في ذلك أن سليمان عليهالسلام قالت له حظية من حظاياه إن أخي له خصومة ، فأرغب أن تقضي
له بكذا وكذا بشيء غير الحق ، فقال سليمان عليهالسلام : أفعل ، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنيا ، وذلك
أن سليمان عليهالسلام
كان لا يدخل
الخلاء بخاتم الملك ، توقيرا لاسم الله تعالى ، فكان يضعه عند امرأة من نسائه ،
ففعل ذلك يوما ، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس. وقيل غير
هذا مما اختصرناه لعدم الصحة ، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك
سليمان ، وبقي فيه أربعين يوما ، وطرح خاتم سليمان في البحر ، وجعل يعبث في بني
إسرائيل ، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله ، ومكنه الله تعالى من جميع الملك. قال
مجاهد : إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن ، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فارا
على وجهه منكرا ، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه ، وأدركه جوع وفاقة فمر يوما بامرأة
تغسل حوتا فسألها منه لجوعه ، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين ، فجعل يفتح أجوافها ،
وإذا خاتمه في جوف أحدهما ، فعاد إليه ملكه ، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم
بدعوته ، وفر صخر الجني ، فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة ، وسجنه في
البحر إلى يوم القيامة ، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليهالسلام وامتحن بها.
واختلف الناس في
الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فقال الجمهور : هو الجني المذكور ، سماه (جَسَداً) لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى.
وقالت فرقة : بل
ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت. وقالت فرقة : بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم
ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه. وقال قوم : مرض سليمان مرضا كالإغماء حتى صار
على كرسيه كأنه بلا روح ، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية و (أَنابَ) معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه ، ومعنى هذا من تلك
الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها ، ثم إن سليمان عليهالسلام استغفر ربه واستوهبه ملكا.
واختلف المتأولون
في معنى قوله : (لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فقال جمهور الناس : أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له
وكرامة ، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلىاللهعليهوسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه
بسرية من سواري المسجد ، قال : «ثم ذكرت قول أخي سليمان : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فأرسلته». وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح : إنما أراد
سليمان : (لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) مدة حياتي ، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني.
وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال : لقد كان حسودا ، وهذا
من فسق الحجاج. وسليمان عليهالسلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصدا برا جائزا ، لأن للإنسان أن
يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة ، وانظر أن
قوله عليهالسلام : (يَنْبَغِي) إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو
ذلك الملك لأحد ، ومحمدصلىاللهعليهوسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصا لما أوتيه سليمان ، لكن لما
كان فيه بعض الشبه تركه جريا منه عليهالسلام على اختياره أبدا أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع.
قوله عزوجل :
(فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦)
وَالشَّياطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)
(٤٠)
قرأ الحسن وأبو
رجاء : «الرياح» ، والجمهور على الإفراد.
وسخر الله تعالى
الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس ، ويقال أكثر ، وفيه
الشياطين وتظله الطير ، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في
الهواء ثم يتولاه الرخاء ، وهي اللينة القوية المتشابهة لا تأتي فيها دفع مفرطة
فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر ، و (حَيْثُ أَصابَ) حيث أراد ، قاله وهب وغيره ، وأنشد الثعلبي : [المتقارب]
أصاب الكلام فلم
يستطع
|
|
فأخطى الجواب
لدى المفصل
|
ويشبه أن (أَصابَ) معدى : صاب يصوب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب
السحاب والمطر. قال الزجاج معناه : قصد ، وكذلك قولك للمتكلم أصبت : معناه قصدت
الحق وقوله : (كُلَّ بَنَّاءٍ) بدل من (الشَّياطِينَ) ، والمعنى : كل من بنى مصانعه للحروب. و (مُقَرَّنِينَ) معناه : موثقين قد قرن بعضهم ببعض. و (الْأَصْفادِ) القيود والأغلال.
واختلف الناس في
المشار إليه بقوله : (هذا عَطاؤُنا) فقال قتادة : أشار إلى ما فعله بالجن (فَامْنُنْ) على من شئت منهم وأطلقه من وثاقه وسرحه من خدمته (أَوْ أَمْسِكْ) أمره كما تريد وقال ابن عباس : أشار إلى ما وهبه من النساء
وأقدره عليه من جماعهن. وقال الحسن بن أبي الحسن : أشار إلى جميع ما أعطاه من
الملك وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء ، فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم
أباح له التصرف فيه بمشيئته ، وهو تعالى قد علم منه أن مشيئته عليهالسلام إنما تتصرف بحكم طاعة الله ، وهذا أصح الأقوال (وأجمعها
لتفسير الآية) ، وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)
وَوَهَبْنا
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ)
(٤٤)
(أَيُّوبَ) هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليهالسلام ، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله ، وسلم دينه ومعتقده
، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه ، فأصابه في ماله ، وقال
له : إن أطعتني رجع مالك ، فلم يطعه ، فأصابه في أهله وولده ، فهلكوا من عند آخرهم
، وقال له : لو
أطعتني رجعوا ،
فلم يطعه ، فأصابه في جسده ، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر ، قاله
قتادة. وروى أنس عن النبي عليهالسلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله
العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته. وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله
هو : أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره. وروي أن السبب : كان أنه ذبح
شاة وطبخها وأكلت عنده ، وجار له جائع لم يعطه منها شيئا. وروي أن أيوب لما تناهى
بلاؤه وصبره ، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه ، وقالا له : لقد
أذنبت ذنبا ما أذنب أحد مثله ، وفهم منهما شماتا به ، فعند ذلك دعا ونادى ربه.
وقوله عليهالسلام : (مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ) يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا ،
ويحتمل أن يريد : مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله
كانت المحنة ، إما ترك التغيير عند الملك ، وإما ترك مواساة الجار. وقيل أشار إلى
مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله ، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل ،
وكان أشد عليه من مرضه.
وقرأ الجمهور : «أني»
بفتح الهمزة. وقرأ عيسى بن عمر : «إني» بكسرها.
وقوله : (أَنِّي) في موضع نصب بإسقاط حرف الجر.
وقرأ جمهور الناس
: «بنصب» بضم النون وسكون الصاد. وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم : «بنصب» بفتح النون
والصاد ، وهي قراءة الجحدري ويعقوب ، ورويت عن الحسن وأبي جعفر. وقرأ أبو عمارة عن
حفص عن عاصم : «بنصب» بضم النون والصاد ، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن
بخلاف عنه ، وروى أيضا هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد ، وذلك كله
بمعنى واحد ، معناه المشقة ، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء ، وفرق بعض
الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى ، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني
إذا شق علي ، فمن ذلك قول الشاعر [الطويل]
تبغاك نصب من
أميمة منصب
ومثله قول النابغة
: [الطويل]
كليني لهمّ يا
أميمة ناصب
قال القاضي أبو
محمد : وقد قيل في هذا البيت إن ناصبا بمعنى منصب ، وأنه على النسب ، أي ذا نصب ،
وهنا في الآية محذوف كثير ، تقديره : فاستجاب له.
وقال (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) والركض : الضرب بالرجل ، والمعنى : اركض الأرض. وروي عن
قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام. وروي أن أيوب أمر بركض الأرض
فركض فيها ، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها ، فذهب كل مرض في داخل جسده ،
ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه. وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان : شرب من
إحداهما ، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش : «بعذاب اركض» ، بضم
نون التنوين. وقرأ عامة قراء البصرة : «بعذاب اركض» ، بنون مكسورة و : (مُغْتَسَلٌ) معناه : موضع غسل ، وماء غسل ، كما تقول : هذا الأمر معتبر
، وهذا الماء مغتسل مثله.
وروي أن الله
تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا ، ورد من مات منهم ، وما هلك من ماشيته وحاله
ثم بارك في جميع ذلك ، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال. وروي أن هذا كله وعد في
الآخرة ، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة ، والأول أكثر في قول المفسرين. و (رَحْمَةً) نصب على المصدر.
وقوله : (وَذِكْرى) معناه : موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره
في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال. وروي أن أيوب عليهالسلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه ، فيلقاها الشيطان في صورة
طبيب ، ومرة في هيئة ناصح وعلى غير ذلك ، فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم
الفلاني لبرىء ، لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرىء ويعرض عليها وجوها من الكفر ،
فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما
أغضبته بهذا ونحوه ، حلف لها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط ، فلما برىء أمره
الله أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب. و «الضغث» القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من
الشجر الرطب ، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه ، ومنه
قولهم : ضغث على إبالة. والإبالة : الحزم من الحطب. و «الضغث» : القبضة عليها من
الحطب أيضا ، ومنه قول الشاعر [عوف بن الخرع] : [الطويل]
وأسفل مني نهدة
قد ربطتها
|
|
وألقيت ضغثا من
خلى متطبب
|
ويروى متطيب. هذا
حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثله في حد زنا لرجل زمن ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها ، فضرب به ضربة ، ذكر
الحديث أبو داود ، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة ، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع
أصحابه ، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به ، وأن الحدود والبر في الأيمان لا
يقع إلا بإتمام عدد الضربات.
قوله عزوجل :
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ
إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
هذا
ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها
يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)
وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هذا
ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
إِنَّ
هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)
(٥٤)
قرأ ابن كثير : «واذكر
عبدنا» على الإفراد ، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة. وقرأ الباقون : «واذكر عبادنا»
على الجمع ، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية ، وأما على
قراءة من قرأ «عبدنا» ، فقال مكي وغيره : دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية
إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر.
وتأول قوم من
المتأولين من هذه الآية أن الذبيح (إِسْحاقَ) من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء
امتحنهم بمحن كما
امتحن أيوب ، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن ، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور: «أولي
الأيدي».
وقرأ الحسن
والثقفي والأعمش وابن مسعود : «أولي الأيد» ، بحذف الياء ، فأما أولو فهو جمع ذو ،
وأما القراءة الأولى ف «الأيدي» فيها عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس
ومجاهد ، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس ومجاهد ،
وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق ،
فهي كالأيادي. وقالت فرقة : بل معناه : أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم
من النبوءة والمكانة. وقال قوم المعنى : أيدي الجوارح ، والمراد الأيدي المتصرفة
في الخير والأبصار الثاقبة فيه ، لا كالتي هي منهملة في جل الناس ، وأما من قرأ «الأيد»
دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفا ، ومن حيث كانت
الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين. وقالت فرقة :
معنى «الأيدي» ، القوة ، والمراد طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى : (وَالْأَبْصارِ) عبارة عن البصائر ، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله
تعالى ، وبنحو هذا فسر الجميع.
وقرأ نافع وحده : «إنا
أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار» على إضافة «خالصة» إلى (ذِكْرَى) ، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة. وقرأ الباقون والناس
: «بخالصة ذكر الدار» على تنوين «خالصة» ، وقرأ الأعمش : «بخالصتهم ذكر الدار» ،
وهي قراءة طلحة.
وقوله : (بِخالِصَةٍ) يحتمل أن يكون خالصة اسم فاعل كأنه عبر بها عن مزية أو
رتبة ، فأما من أضافها إلى «ذكرى» ، ف (ذِكْرَى) مخفوض بالإضافة ، ومن نون «خالصة» ، ف (ذِكْرَى) بدل من «خالصة» ، ويحتمل قوله : (بِخالِصَةٍ) أن يكون «خالصة» مصدرا كالعاقبة وخائنة الأعين وغير ذلك ،
ف (ذِكْرَى) على هذا ما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار ، ويكون «خالصة» مصدرا من أخلص
على حذف الزوائد ، وإما أن يكون (ذِكْرَى) في موضع رفع بالمصدر على تقدير (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، وتكون «خالصة» من خلص. و (الدَّارِ) في كل وجه في موضع نصب ب (ذِكْرَى) ، و (ذِكْرَى) مصدر ، وتحتمل الآية أن يريد ب (الدَّارِ) دار الآخرة على معنى (أَخْلَصْناهُمْ) ، بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها
وحضهم عليها ، وهذا قول قتادة ، وعلى معنى خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها
والعمل بحسب قول مجاهد. وقال ابن زيد : المعنى إنا وهبناهم أفضل ما في الدار
الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم إياه ، ويحتمل أن يريد ب (الدَّارِ) دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس والحمد
الباقي الذي هو الخلد المجازي ، فتجيء الآية في معنى قوله : (لِسانَ صِدْقٍ) [مريم : ٥٠ ،
الشعراء : ٨٤] وفي معنى قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) [الصافات : ٧٨ ، ١٠٨ ، ١١٩ ، ١٢٩]. و (الْمُصْطَفَيْنَ) أصله : المصطفيين ، تحركت الياء وما قبلها مفتوح فانقلبت
ألفا ، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع ، فحذفت الألف. و (الْأَخْيارِ) جمع خير ، وخير : مخفف من خير كميت وميت.
وقرأ حمزة
والكسائي : «والليسع» ، كأنه أدخل لام التعريف على (الْيَسَعَ) ، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه ، وهي قراءة علي بن أبي طالب
والكوفيين. وقرأ الباقون : «واليسع» ، قال أبو علي : الألف واللام فيه زائدتان غير
معرفتين كما هي في قول الشاعر : [الكامل]
ولقد جنيتك
أكمؤا وعساقلا
|
|
ولقد نهيتك عن
بنات الأوبر
|
وبنات الأوبر :
ضرب من الكمأة. واختلف في نبوة «ذي الكفل» ، وقد تقدم تفسير أمره وقوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) يحتمل معنيين : أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء
الشرف له ، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفا : إن (الدَّارِ) يراد بها الدار الدنيا. والثاني : أن يشير بهذا إلى القرآن
، إذ هو ذكر للعالم. و «المآب» : المرجع حيث يؤوبون. و (جَنَّاتِ) بدل من «حسن» و (مُفَتَّحَةً) نعت للجنات. و (الْأَبْوابُ) مفعول لم يسم فاعله ، والتقدير عند الكوفيين : مفتحة لهم
أبوابها ، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة ، والتقدير عندهم : الأبواب منها ، وإنما
دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائدا على الموصوف. و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) قال قتادة معناه : على أزواجهن. و (أَتْرابٌ) معناه أمثال ، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة ،
أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد.
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو : «يوعدون» بالياء من تحت ، واختلفا في سورة : (ق) ، فقرأها أبو عمرو
بالتاء من فوق. وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق. والنفاذ : الفناء
والانقضاء.
قوله عزوجل :
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ
قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)
(٦١)
التقدير : الأمر
هذا ، ويحتمل أن يكون التقدير : هذا واقع ونحوه. والطاغي : المفرط في الشر ، مأخوذ
من طغا يطغى ، والطغيان هنا في الكفر. و «المآب» : المرجع ، و (جَهَنَّمَ) بدل من قولهم :
(لَشَرَّ). و (يَصْلَوْنَها) معناه : يباشرون حرها. و (الْمِهادُ) ما يفترشه الإنسان ويتصرف فيه.
وقوله : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) يحتمل أن يكون (هذا) ابتداء ، والخبر (حَمِيمٌ) ويحتمل أن يكون التقدير : الأمر هذا فليذوقوه ، ويحتمل أن
يكون في موضع نصب بفعل يدل عليه (فَلْيَذُوقُوهُ) و (حَمِيمٌ) على هذا خبر ابتداء مضمر. قال ابن زيد : الحميم ، دموعهم
تجتمع في حياض فيسقونها وقرأ جمهور الناس : «وغساق» بتخفيف السين ، وهو اسم بمعنى
السائل ، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار. ويروى عن السدي أنه ما
يسيل من عيونهم. ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار ، وهي يقال
مجتمعة عندهم. وقال الضحاك : هو أشد الأشياء بردا. وقال عبد الله بن
بريدة : هو أنتن
الأشياء ، ورواه أبو سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : «وغسّاق» بتشديد السين
، بمعنى سيال وهي قراءة قتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وطلحة ، والمعنى فيه على
ما قدمناه من الاختلاف غير أنها قراءة تضعف ، لأن غساقا إما أن يكون صفة فيجيء في
الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وذلك غير مستحسن هنا ، وأما أن يكون اسما
، فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالفياد ونحوه وقرأ جمهور الناس : «وآخر»
بالإفراد ، وهو رفع بالابتداء ، واختلف في تقدير خبره ، فقالت طائفة تقديره : ولهم
عذاب آخر. وقالت طائفة : خبره : (أَزْواجٌ) لأن قوله : (أَزْواجٌ) ابتداء و (مِنْ شَكْلِهِ) خبره ، والجملة خبر «آخر». وقالت طائفة : خبره (أَزْواجٌ) ، و (مِنْ شَكْلِهِ) في موضع الصفة. ومعنى (مِنْ شَكْلِهِ) : من مثله وضربه ، وجاز على هذا القول أن يخبر الجمع الذي
هو أزواج عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب وقوى وأقل منه. وأيضا
فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل ، قالوا : عرفات لعرفة :
وشابت مفارقه فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقا ، وكما قالوا : جمل ذو عثانين ونحو
هذا ، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا إن هذا الآخر هو الزمهرير ، فكأنهم
جعلوا كل جزء منه زمهريرا.
وقرأ أبو عمرو
وحده : «وأخر» على الجمع ، وهي قراءة الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى ، وهو
رفع بالابتداء وخبره (أَزْواجٌ) ، و (مِنْ شَكْلِهِ) في موضع الصفة ، ورجح أبو عبيد هذه القراءة وأبو حاتم بكون
الصفة جمعا ، ولم ينصرف «أخر» لأنه معدول عن الألف واللام صفة ، وذلك أن حق أفعل
وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام ، فلما استعملت «أخر» دون الألف واللام كان
ذلك عدلا لها ، وجاز في «أخر» أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤ ـ ١٨٥]
بخلاف جمع ما عدل عن الألف واللام ، كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة
، لأن هذا العدل في «أخر» اعتد به في منع الصرف ولم يعتد به في الامتناع من صفة
النكرة كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم ، نحو اللام في قولهم : «لا أبا لك ، لأن
اللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة ، ولذلك جاز دخول لا ، ولم يعتد بها
في أن أعرب أبا بالحروف وشأنه إذا انفصل ولم يكن مضافا أن يعرب بالحركات فجاءت
اللام ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحرف ، كأنه مضاف وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت
دخول لا.
وقرأ مجاهد : «من
شكله» بكسر الشين. و (أَزْواجٌ) معناه : أنواع ، والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب
ما ذكره ونحوه أنواع كثيرة.
وقوله تعالى : (هذا فَوْجٌ) هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم لأن
رؤساءهم يدخلون النار أولا ، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب ، وهو الذي
حكاه الثعلبي وغيره ، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض ، فيقول البعض الآخر :
(لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه. والفوج : الفريق من الناس.
وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) معناه بإغوائكم ، أسلفتم لنا ما أوجب هذا ، فكأنكم فعلتم
بنا هذا.
وقوله : (قالُوا رَبَّنا) حكاية لقول الأتباع أيضا دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم
مضاعفا.
قوله عزوجل :
(وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)
(٦٦)
الضمير في : (قالُوا) لأشراف الكفار ورؤسائهم ، أخبر الله عنهم أنهم يتذكرون إذا
دخلوا النار لقوم من مستضعفي المؤمنين فيقولون هذه المقالة ، وهذا مطرد في كل أمة
جاءها رسول. وروي أن القائلين من كفار عصر النبي عليهالسلام هم أبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأهل القليب ومن جرى
مجراهم ، قاله مجاهد وغيره ، والمعنى : كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خلاق لهم ،
وأمال الراء (مِنَ الْأَشْرارِ) : أبو عمرو وابن عامر والكسائي ، وفتحها ابن كثير وعاصم ،
وأشم نافع وحمزة.
وقرأ أبو عمرو
وحمزة والكسائي : (أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا) بألف الاستفهام ، ومعناها : تقرير أنفسهم على هذا على جهة
التوبيخ لها والأسف ، أي أتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك ، واستبعد معنى هذه
القراءة أبو علي. وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «سخريا» بضم السين ، وهي قراءة
الأعرج وشيبة وأبي جعفر وابن مسعود وأصحابه ومجاهد والضحاك ، ومعناها : من السخرة
والاستخدام. وقرأ الباقون : «سخريا» بكسر السين وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وعيسى
وابن محيصن ومعناه المشهور من السخر الذي هو الهزء ، ومنه قول الشاعر [عامر بن
الحارث] : [البسيط]
إني أتاني لسان
لا أسر بها
|
|
من علو لا كذب
فيها ولا سخر
|
وقالت فرقة يكون
كسر السين من التسخير.
و : (أَمْ) في قولهم : (أَمْ زاغَتْ) معادلة ل (ما) في قولهم : (ما لَنا لا نَرى) وذلك أنها قد تعادل (ما) ، وتعادل من ، وأنكر بعض النحويين هذا ، وقال : إنها لا
تعادل إلا الألف فقط. والتقدير في هذه الآية : أمفقودون هم أم زاغت؟ ومعنى هذا
الكلام : أليسوا معنا أم هم معنا؟ ولكن أبصارنا تميل عنهم فلا تراهم ، والزيغ :
الميل.
ثم أخبر الله
تعالى نبيه بقوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) و : (تَخاصُمُ) بدل من قوله : (لَحَقٌ).
وقرأ ابن أبي عبلة
: «تخاصم» بفتح الميم. وقرأ ابن محيصن : «تخاصم» بالتنوين «أهل النار» برفع اللام.
ثم أمر نبيه أن
يتجرد للكفار من جميع الأغراض ، إلا أنه منذر لهم ، وهذا توعد بليغ محرك للنفوس ،
وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)
ما
كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ
إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)
(٧٤)
الإشارة بقوله
تعالى : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ) إلى التوحيد والمعاد ، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن ،
وعظمه أن التصديق به نجاة ، والتكذيب به هلكة. وحكى الطبري : أن شريحا اختصم إليه
أعرابي فشهد عليه ، فأراد شريح أن ينفذ الحكم ، فقال له الأعرابي : أتحكم بالنبإ؟
فقال شريح : نعم ، إن الله يقول : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ) ، وقرأ الآية وحكم عليه.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا الجواب من شريح إنما هو بحسب لفظ الأعرابي ولم يحرر معه الكلام ،
وإنما قصد إلى ما يقطعه به ، لأن الأعرابي لم يفرق بين الشهادة والنبأ.
والنبأ في كلام
العرب بمعنى : الخبر ، ووبخهم بقوله : (أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ) ، ثم قال : (ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) وهذا احتجاج لصحة أمر محمد صلىاللهعليهوسلم كأنه يقول : هذا أمر خطر وأنتم تعرضون عنه مع صحته ، ودليل
صحته أني أخبركم فيه بغيوب لم تأت إلا من عند الله ، فإني لم يكن لي علم بالملأ
الأعلى ، أراد به الملائكة. والضمير في : (يَخْتَصِمُونَ) عند جمهور المفسرين هو للملائكة.
واختلف الناس في
الشيء الذي هو اختصامهم فيه ، فقالت : فرقة اختصامهم في أمر آدم وذريته في جعلهم
في الأرض ، ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات ، فقول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] هو
الاختصام. وقالت فرقة : بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه ، فإن العبد
إذا فعل حسنة اختلف الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء ، وورد في
هذا حديث فسره ابن فورك ، لأنه يتضمن أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال له ربه عزوجل في نومه : فيم يختصمون؟ فقلت لا أدري ، فقال في الكفارات ،
وهي إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الخطى إلى الجماعات الحديث بطوله قال : فوضع
الله يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي.
قال القاضي أبو محمد
: فتفسير هذا الحديث أن اليد هي نعمة العلم.
وقوله : بردها ،
أي السرور بها والثلج ، كما تقول العرب في الأمر السار : يا برده على الكبد ونحو
هذا ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الصلاة بالليل هي الغنيمة الباردة». أي السهلة التي يسر
بها الإنسان. وقالت فرقة : المراد بقوله : (بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى) الملائكة.
وقوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) مقطوع منه معناه : إذ تختصم العرب الكافرة في الملإ فيقول
بعضها هي بنات الله ، ويقول بعضها : هي آلهة تعبد ، وغير ذلك من أقوالهم. وقالت
فرقة : أراد ب «الملأ الأعلى» قريشا. وهذا قول ضعيف لا يتقوى من جهة.
وقرأ جمهور الناس
: «ألا أنما» بفتح الألف ، كأنه يقول : ألا إنذار. وقرأ أبو جعفر «إلا أنما أنا»
على الحكاية ، كأنه قيل له : أنت نذير مبين ، فحكى هذا المعنى ، وهذا كما يقول
إنسان : أنا عالم ، فيقال له : قلت إنك عالم ، فيحكي المعنى.
و : (إِذْ) في قوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) بدل من قوله : (إِذْ) الأولى على تأويل من رأى الخصومة في شأن من يستخلف في
الأرض ، وعلى الأقوال الأخر يكون العامل في (إِذْ) الثانية فعل مضمر تقديره : واذكر إذ قال. والبشر المخلوق
من الطين : هو آدم عليهالسلام. و : (سَوَّيْتُهُ) يريد به شخصه. (وَنَفَخْتُ) هي عبارة عن إجراء الروح فيه ، وهي عبارة على نحو ما يفهم
من إجراء الأشياء بالنفخ.
وقوله : (مِنْ رُوحِي) هي إضافة ملك إلى مالك ، لأن الأرواح كلها هي ملك لله
تعالى ، وأضاف إلى نفسه تشريفا.
وقوله : (ساجِدِينَ) اختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : على السجود المتعارف.
وقالت فرقة معناه : خاضعين على أصل السجود في اللغة. ثم أخبر تعالى أن الملائكة
بأمره سجدوا (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه (اسْتَكْبَرَ) عن السجود.
وقوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) يحتمل أن يريد به : وكان من أول أمره من الكافرين في علم
الله تعالى ، قاله ابن عباس ، ويحتمل أن يريد : ووجد عند هذه الفعلة من الكافرين ،
وعلى القولين فقد حكم الله على إبليس بالكفر ، وأخبر أنه كان عقد قلبه في وقت
الامتناع.
قوله عزوجل :
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
قالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)
قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(٨٠) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)
(٨١)
القائل لإبليس هو
الله عزوجل ، وقوله (ما مَنَعَكَ) تقرير وتوبيخ.
وقرأ عاصم
والجحدري : «لمّا خلقت» بفتح اللام من : «لمّا» وشد الميم.
وقرأ جمهور الناس
: «بيدي» بالتثنية. وقرأت فرقة : «بيديّ» بفتح الياء ، وقد جاء في كتاب الله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] بالجمع.
وهذه كلها عبارة
عن القدرة والقوة ، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريبا على السامعين ، إذ
المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد ، وقد كانت جهالة
العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة ، ونحو هذا من
المعاني المعقولة ، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد
والعين والوجه
صفات ذات زائدة على القدرة والعلم وغير ذلك من متقرر صفاته تعالى ، وذلك قول مرغوب
عنه ويسميها الصفات الخبرية. وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء
بيده وهي : العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله : «كن».
قال القاضي أبو
محمد : وهذا إن صح فإنما ذكر على جهة التشريف للأربعة والتنبيه منها ، وإلا فإذا
حقق النظر فكل مخلوق فهو بالقدرة التي بها يقع الإيجاد بعد العدم.
وقرأت فرقة : «استكبرت»
بصلة الألف على الخبر عن إبليس ، وتكون (أَمْ) بينة الانقطاع لا معادلة لها. وقرأت فرقة : «أستكبرت» بقطع
الألف على الاستفهام ، ف (أَمْ) على هذا معادلة للألف ، وذهب كثير من النحويين إلى أن «أم»
لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا أدخلتا على فعل
واحد ، كقولك : أزيد قام أو عمرو؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو؟ قالوا : وإذا اختلف
الفعلان كهذه الآية فليست أم معادلة ، ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن أن
كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك ، وهذا على جهة التوبيخ.
وقول إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) قياس أخطأ فيه ، وذلك أنه لما توهم أن النار أفضل من الطين
، قاس أن ما يخلق من الأفضل فهو أفضل من الذي يخلق من المفضول ، ولم يدر أن
الفضائل تخصيصات من الله تعالى يسم بها من شاء ، وفي قوله رد على حكمة الله تعالى
وتجوير. وذلك بين في قوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] ثم
قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، وعند هذه المقالة اقترن كفر إبليس به إما عنادا على قول
من يجيزه ، وإما بأن سلب المعرفة ، وظاهر أمره أنه كفر عنادا ، لأن الله تعالى قد
حكم عليه بأنه كافر ، ونحن نجده خلال القصة يقول : يا رب بعزتك وإلى يوم يبعثون ،
فهذا كله يقتضي المعرفة ، وإن كان للتأويل فيه مزاحم فتأمله ، ثم أمر الله تعالى
إبليس بالخروج على جهة الادخار له ، فقالت فرقة : أمره بالخروج من الجنة. وقالت
فرقة : من السماء. وحكى الثعلبي عن الحسن وأبي العالية أن قوله : (مِنْها) يريد به من الخلقة التي أنت فيها ومن صفات الكرامة التي
كانت له ، قال الحسين بن الفضل : ورجعت له أضدادها ، وعلى القول الأول فإنما أمره
أمرا يقتضي بعده عن السماء ، ولا خلاف أنه أهبط إلى الأرض. و «الرجيم» : المرجوم
بالقول السيّء. و «اللعنة» : الإبعاد. و : (يَوْمِ الدِّينِ) يوم القيامة. و (الدِّينِ) : الجزاء ، وإنما حد له اللعنة ب (يَوْمِ الدِّينِ) ، ولعنته إنما هي مخلدة ليحصر له أمد التوبة ، لأن امتناع
توبته بعد يوم القيامة ، إذ ليست الآخرة دار عمل. ثم إن إبليس سأل النظرة وتأخير
الأجل إلى يوم بعث الأجساد من القبور ، فأعطاه الله تعالى الإبقاء (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
واختلف الناس في
تأويل ذلك ، فقال الجمهور : أسعفه الله في طلبته وأخره إلى يوم القيامة ، فهو الآن
حي مغو مضل ، وهذا هو الأصح من القولين. وقالت فرقة : لم يسعف بطلبته ، وإنما أسعف
إلى الوقت الذي سبق من الله تعالى أن يموت إبليس فيه. وقال بعض هذه الفرقة : مات
إبليس يوم بدر.
قوله عزوجل :
(قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(٨٢)
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)
(٨٨)
القائل هو إبليس ،
أقسم بعزة الله تعالى ، قال قتادة : علم عدو الله أنه ليست له عزة فأقسم بعزة الله
أنه يغوي ذرية آدم أجمع إلا من أخلص الله للإيمان به.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا استثناء الأقل عن الأكثر على باب الاستثناء لأن المؤمنين أقل من
الكفرة بكثير ، بدليل حديث بعث النار وغيره. وجوز قوم أن يستثنى الكثير من الجملة
ويترك الأقل على الحكم الأول ، واحتجوا بقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] وقال
من ناقضهم : العباد هنا : يعم البشر والملائكة ، فبقي الاستثناء على بابه في أن
الأقل هو المستثنى.
وفتح اللام من (الْمُخْلَصِينَ) وكسرها ، قد تقدم ذكره. والقائل : (فَالْحَقُ) هو الله تعالى قال مجاهد : المعنى فالحق أنا.
وقرأ جمهور القراء
: «فالحقّ والحقّ» بنصب الاثنين ، فأما الثاني فمنصوب ب (أَقُولُ) ، وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء ، ويحتمل أن
ينتصب على القسم على إسقاط حرف القسم ، كأنه قال : فو الحق ، ثم حذف الحرف كما
تقول : الله لأفعلن ، تريد : والله ، ويقوي ذلك قوله : (لَأَمْلَأَنَ) ، وقد قال سيبويه : قلت للخليل ما معنى لأفعلن إذا جاءت
مبتدأة : قال هي بتقدير قسم منوي. وقالت فرقة : «الحق» الأول منصوب بفعل مضمر.
وقال ابن عباس ومجاهد : «فالحقّ والحقّ» برفع الاثنين ، فأما الأول فرفع بالابتداء
وخبره في قوله : (لَأَمْلَأَنَ) ، لأن المعنى : أن أملأ ، وأما الثاني فيرتفع على ابتداء
أيضا. وقرأ عاصم وحمزة : «فالحقّ» بالرفع «والحقّ» بالنصب ، وهي قراءة مجاهد
والأعمش وأبان بن تغلب وإعراب هذه بين. وقرأ الحسن : «فالحقّ والحقّ» بخفض القاف
فيهما على القسم ، وذكرها أبو عمرو الداني.
ثم أمر تعالى نبيه
أن يخبرهم بأنه ليس بسائل أجر ولا مال ، وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يجعل إليه ولا
يتحلى بغير ما هو فيه. وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية ناسخة لقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]
وقال الزبير بن العوام : نادى منادي النبيصلىاللهعليهوسلم ، اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون ، ألا إني بريء
من التكلف ، وصالحو أمتي ، وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ) يريد به القرآن. و : (ذِكْرٌ) بمعنى : تذكرة ، ثم توعدهم بقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) وهذا على حذف تقديره : لتعلمن صدق نبإه بعد حين في توعدكم
واختلف الناس في معنى قوله : (بَعْدَ حِينٍ) إلى أي وقت أشار ، لأن الحين في اللغة يقع على القليل
والكثير من الوقت ، فقال ابن زيد : أشار إلى يوم القيامة. وقال قتادة والحسن في
اللغة أشار إلى الآجال التي لهم ، لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته. وقال
السدي : أشار إلى يوم بدر ، لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّمر
وهذه السورة مكية
بإجماع ، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب ، وهي : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣]
الآيات. وقالت فرقة : بل إلى آخر السورة هو مدني وقيل فيها : مدني سبع آيات.
قوله عزوجل :
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
(تَنْزِيلُ) رفع بالابتداء ، والخبر قوله : (مِنَ اللهِ). وقالت فرقة : (تَنْزِيلُ) خبر ابتداء تقديره : هذا تنزيل ، والإشارة إلى القرآن.
وقرأ ابن أبي عبلة
: «تنزيل» بنصب اللام.
و : (الْكِتابِ) في قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قال المفسرون : هو القرآن ، ويظهر إلى أنه اسم عام لجميع
ما تنزل من عند الله من الكتب ، فإنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة
إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ).
و : (الْعَزِيزِ) في قدرته. (الْحَكِيمِ) في ابتداعه. و : (الْكِتابَ) الثاني : هو القرآن لا يحتمل غير ذلك.
وقوله : (بِالْحَقِ) يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون معناه متضمنا الحق ، أي
بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره. والثاني : أن يكون (بِالْحَقِ) بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم
ودعوتهم إلى الله.
وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ) يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة ،
ويحتمل أن يكون كالجواب ، لأن قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) جملة كأنه ابتداء وخبر ، كما لو
قال : الكتاب منزل
، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء ، فجاءت الفاء كالجواب ،
كما تقول : زيد قائم فأكرمه ، ونحو هذا :
وقائلة خولان
فانكح فتاتهم
التقدير : هذه
خولان. و : (مُخْلِصاً) حال. و : (الدِّينَ) نصب به. ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل ، و
(الدِّينَ) هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح.
وقوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا ، وهذا كقوله : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) [الجاثية : ٣٦] ،
أي واجبا ومستحقا. قال قتادة : (الدِّينُ الْخالِصُ) ، لا إله إلا الله.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) رفع بالابتداء ، وخبره في المحذوف المقدر ، تقديره :
يقولون ما نعبدهم ، وفي مصحف ابن مسعود : «قالوا ما نعبدهم» ، وهي قراءة ابن عباس
ومجاهد وابن جبير. و : (أَوْلِياءَ) يريد بذلك معبودين ، وهذه مقالة شائعة في العرب ، يقول
كثير منهم في الجاهلية : الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا ، وطائفة منهم
قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم. وقال مجاهد : قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير ،
وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم. وفي مصحف أبي بن كعب : «ما نعبدكم» بالكاف «إلا
لتقربونا» بالتاء. و (زُلْفى) بمعنى قربى وتوصلة ، كأنه قال : لتقربونا إلى الله تقريبا
، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله ، فكانت ترى أن
تتصل بمخلوقاته. و (زُلْفى) عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كأنه ينزل منزلة متزلفين
، والعامل فيه (لِيُقَرِّبُونا) هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف ، وباقي الآية وعيد في الدنيا
والآخرة
قوله عزوجل :
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا
لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ
مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٥)
هذه الآية إما أن
يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره ، وإما أن يكون
لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن
أبدا ، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيرا.
وقرأ أنس بن مالك
والجحدري : «كذب كفار» بالمبالغة فيهما ، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر ،
وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر ، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم
عليه.
قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ). معناه : اتخاذ التشريف والتبني ، وعلى هذا يستقيم. قوله
تعالى : (لَاصْطَفى مِمَّا
يَخْلُقُ).
وأما الاتخاذ المعهود
في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى ، ولا يستقيم عليه معنى قوله : (لَاصْطَفى) وقوله : (وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢] لفظ
يعم اتخاذ النسل واتخاذ الأصفياء ، فأما الأول فمعقول ، وأما الثاني فمعروف لخبر
الشرع ، ومما يدل على أن معنى قوله : أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) أي من موجوداته ومحدثاته. ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا
عن جميع ما لا يكون مدحة ، واتصافه تعالى ب (الْقَهَّارُ) اتصاف على الإطلاق ، لأن أحدا من البشر إن اتصف بالقهر
فمقيد في أشياء قليلة ، وهي في حين قهره لغيره مقهور لله تعالى عن أشياء كثيرة.
وقوله : (بِالْحَقِ) معناه بالواجب الواقع موقعه الجامع للمصالح.
وقوله : (يُكَوِّرُ) معناه يعيد من هذا على هذا ، ومنه كور العمامة التي يلتوي
بعضها على بعض ، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره
، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه ، فيجيء (يُكَوِّرُ) على هذا معادلا لقوله : (يُولِجُ*) [الحج : ٦١ ،
لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] ضدا له. وقال أبو عبيدة : هما بمعنى ، وهذا
من قوله تقرير لا تحرير ، و «تسخير الشمس» دوامها على الجري واتساق أمرها على ما
شاء الله تعالى ، و «الأجل المسمى» يحتمل أن يكون يوم القيامة حين تنفسد البنية
ويزول جري هذه الكواكب ، ويحتمل أن يريد وقت مغيبها كل يوم وليلة ، ويحتمل أن يريد
أوقات رجوعها إلى قوانينها كل شهر في القمر وسنة في الشمس.
قوله عزوجل :
(خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)
(٦)
«النفس الواحدة»
المرادة في الآية هي نفس آدم عليهالسلام ، قاله قتادة وغيره. ويحتمل أن يكون اسم الجنس.
وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ) ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق
الخلق منها ، وليس الأمر كذلك.
واختلف الناس في
تأويل هذا الظاهر ، فقالت فرقة قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء ،
وقالت فرقة : إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني. كأنه قال : ثم كان من
أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [أبو النواس]
: [الخفيف]
قل لمن ساد ثم
ساد أبوه
|
|
ثم قد ساد قبل
ذلك جدّه
|
وقالت فرقة قوله :
(خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى ، فلما كان
ذلك أمرا حتما
واقعا ولا بد ، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة ، ثم عطف عليها حالة جعل
الزوجة منها ، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما
يجيء بعد ذلك ، وزوج آدم حواء عليهماالسلام ، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي ، ويؤيد هذا الحديث الذي
فيه أن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمه كسرته. وقالت فرقة : خلقت حواء من
بقية طين آدم والأول أصح ، وقد تقدم شرح ذلك. وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) قيل معناه : أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في
السماء وأهبط إلى الأرض ، وقالت فرقة : بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله
، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء
عبر عن هذه ب (أَنْزَلَ) ، وقالت فرقة : لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب
والنبات عن المطر ، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها ، قال في هذه (أَنْزَلَ) فهو على التدريج كما قال الراجز :
أسنمة الآبال في
ربابه.
وكما قال الشاعر [عمرو
بن حبان] : [الطويل]
تعالى الندى في
متنه وتحدرا
وجعلها (ثَمانِيَةَ) ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه ، وهي الضأن والمعز
والبقر والإبل.
وقوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ
خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) قال ابن زيد ، معناه : يخلقكم في البطون خلقا من بعد خلق
آخر في ظهر آدم وظهور الآباء. وقال مجاهد وعكرمة والسدي : يخلقكم في البطون رتبا
خلقا من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك.
وقرأ عيسى بن عمر
وطلحة بن مصرف : (يَخْلُقُكُمْ) بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن. وقرأ الجمهور : (أُمَّهاتِكُمْ) بضم الهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب : بكسرها وهي لغتان.
وقوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) قالت فرقة : الأولى هي ظهر الأب ، ثم رحم الأم ، ثم
المشيمة في البطن. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هي المشيمة والرحم والبطن ، وهذه
الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره ،
وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها. ثم قال تعالى لهم : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب؟
قوله عزوجل :
(إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
(٧)
قال ابن عباس :
هذه الآية مخاطبة للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. و «عباده» : هم
المؤمنون.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس ، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم
فقراء إليه ، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا).
واختلف المتأولون
من أهل السنة في تأويل قوله : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فقالت فرقة : الرضى بمعنى الإرادة والكلام ظاهره العموم
ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له ، و «عباده» على هذا ملائكته
ومؤمنو البشر والجن ، وهذا يتركب على قول ابن عباس. وقالت فرقة : الكلام عموم صحيح
، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه دينا لهم ، فهذا
يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفا. ومعنى : لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به
خيرا ، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه. وتأمل الإرادة فإنها حقيقة
، إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضى ، فإنما حقيقة فيما قد وقع ، واعتبر هذا في
آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) عموم ، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان.
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو والكسائي : «يرضه» بضمة على الهاء مشبعة. وقرأ ابن عامر وعاصم «يرضه»
بضمة على الهاء غير مشبعة ، واختلف عن نافع وأبي عمرو. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر
: «يرضه» بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز ، قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، وأنث «الوازرة» و «الأخرى» لأنه
أراد الأنفس. والوزر الثقل ، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره
وما ينوبه في ذاته.
ثم أخبرهم تعالى
بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيوقف كل أحد على أعماله
، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة. و «ذات الصدور» : ما فيه من خبيئة ،
ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه.
قوله عزوجل :
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ
ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ
نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ)
(٨)
(الْإِنْسانَ) في هذه الآية يراد به الكافر بدلالة ما وصفه به آخرا من
اتخاذ الأنداد لله تعالى ، وقوله : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ
قَلِيلاً) وهذه آية بين تعالى بها على الكفار أنهم على كل حال يلجؤون
في حال الضرورات إليه وإن كان ذلك عن غير يقين منهم ولا إيمان فلذلك ليس بمعتد به.
و (مُنِيباً) معناه مقاربا مراجعا بصيرته.
وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً) يحتمل أن يريد النعمة في كشف الضر المذكور ، ويحتمل أن
يريد نعمة أي نعمة كانت ، واللفظ يعم الوجهين. و (خَوَّلَهُ) معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء لا مجازاة ، ولا يقال في
الجزاء خول ، ومنه الخول ، ومنه قول زهير :
هنالك أن يستخولوا
المال يخولو
هذه الرواية
الواحدة ، ويروى يستخبلوا.
وقوله تعالى : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ
قَبْلُ) قالت فرقة : (ما) مصدرية ، والمعنى نسي دعاءه إليه في حال الضرر ورجع إلى
كفره. وقالت فرقة : بمعنى الذي ، والمراد بها الله تعالى ، وهذا كنحو قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣ ـ ٥]
وقد تقع «ما» مكان «من» فيما لا يحصى كثرة من كلامهم ، ويحتمل أن تكون (ما) نافية ، ويكون قوله : (نَسِيَ) كلاما تاما ، ثم نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله
ومقصودا به من قبل النعمة ، أي في حال الضرر ، ويحتمل أن تكون (ما) نافية ويكون قوله : (مِنْ قَبْلُ) يريد به : من قبل الضرر ، فكأنه يقول : ولم يكن هذا الكافر
يدعو في سائر زمنه قبل الضرر ، بل ألجأه ضرره إلى الدعاء. والأنداد : الأضداد التي
تضاد وتزاحم وتعارض بعضها بعضا. قال مجاهد : المراد من الرجال يطيعونهم في معصية
الله تعالى. وقال غيره : المراد الأوثان.
وقرأ الجمهور : «ليضل»
بضم الياء ، وقرأها الباقون : أبو عمرو وعيسى وابن كثير وشبل (بفتحها) ثم أمر
تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة التهديد قولا يخاطب به واحدا منهم : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أي تلذذ به واصنع ما شئت ، والقليل : هو عمر هذا المخاطب ،
ثم أخبره أنه (مِنْ أَصْحابِ
النَّارِ) ، أي من سكانها والمخلدين فيها.
قوله عزوجل :
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠)
وقرأ ابن كثير
ونافع وحمزة : «أمن» بتخفيف الميم ، وهي قراءة أهل مكة والأعمش وعيسى وشيبة بن
نصاح ، ورويت عن الحسن ، وضعفها الأخفش وأبو حاتم. وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر
والكسائي والحسن والأعرج وقتادة وأبو جعفر : «أمن» بتشديد الميم ، فأما القراءة
الأولى فلها وجهان ، أحدهما : وهو الأظهر أن الألف تقرير واستفهام ، وكأنه يقول : أهذا
القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا وهو من أصحاب النار؟ وفي الكلام
حذف يدل عليه سياق الآيات مع قوله آخرا : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، ونظيره قول الشاعر [امرئ القيس] : [الطويل]
فأقسم لو شيء
أتانا رسوله
|
|
سواك ولكن لم
نجد لك مدفعا
|
ويوقف على هذا
التأويل على قوله : (رَحْمَةَ رَبِّهِ). والوجه الثاني : أن يكون الألف نداء ، والخطاب لأهل هذه
الأوصاف ، كأنه يقول : أصاحب هذه الصفات (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي) فهذا السؤال ب (هَلْ) هو
للقانت ، ولا يوقف
على التأويل على قوله : (رَحْمَةَ رَبِّهِ) ، وهذا معنى صحيح ، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله
وبعده ، وضعفه أبو علي الفارسي. وقال مكي : إنه لا يجوز عند سيبويه ، لأن حرف
النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي ، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا
يسقط مع الميم ، فنعم ، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك ، وأما أن هذا الموضع سقط
فيه حرف النداء فلا ، والألف ثابتة فيه ظاهرة ، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها :
«أم» دخلت على : «من» والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين ،
فيحتمل أن يكون ما يعادل «أم» متقدما في التقدير ، كأنه يقول : أهذا الكافر خير أم
من ، ويحتمل أن تكون «أم» قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر
الكلام ، والأول أبين.
والقانت : المطيع
، وبهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه ، والقنوت في كلام العرب : يقع على القراءة
وعلى طول القيام في الصلاة ، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن ابن عباس
أنه قال : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في سواد
الليل ساجدا أو قائما ، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة. وروى أبو سعيد
الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن القنوت : الطاعة. وقال جابر بن عبد الله : سئل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال : «طول القنوت». والآناء : الساعات ،
واحدها : أني كمعى ومنه قولهم : لن يعدو شيء أناه ، ومنه قوله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣]
على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضا : أنى على وزن قفى ، ويقال فيه
أيضا : إني بكسر الهمزة وسكون النون ، ومنه قول الهذلي : [البسيط]
حلو ومر كعطف
القدح مرته
|
|
في كل إني حداه
الليل ينتعل
|
وقرأ الضحاك : «ساجد
وقائم» بالرفع فيهما.
وقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) معناه يحذر حالها وهولها. وقرأ سعيد بن جبير : «يحذر عذاب
الآخرة» و (أُولُوا) معناه أصحاب الألباب ، واحدهم : ذو.
وقرأ جمهور القراء
: «قل يا عبادي» بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : «يا عبادي» بياء
ساكنة. وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعمش وابن كثير : «يا عباد» بغير ياء في
الوصل.
ويروى أن هذه
الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى
أرض الحبشة. ووعد تعالى بقوله : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) ويحتمل أن يكون قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) ، متعلقا ب (أَحْسَنُوا) ، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في
الآخرة وهي الجنة والنعيم ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن يريد : أن الذين يحسنون لهم
حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية الله تعالى ، قاله السدي. وكان قياس
قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخرا ويجوز تقديمه ، والأول أرجح أن الحسنة هي في
الآخرة. (وَأَرْضُ اللهِ) يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في
الكلام فيها ، وهذا حض على الهجرة ، ولذلك وصف الله الأرض بالسعة. وقال قوم : أراد
ب «الأرض» هنا الجنة ، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه.
ثم وعد تعالى على
الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات : بأن
الأجر يوفى (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن الصابر يوفى أجره ثم لا
يحاسب عن نعيم ولا يتابع بذنوب ، فيقع (الصَّابِرُونَ) في هذه الآية على الجماعة التي ذكرها النبي عليهالسلام أنها تدخل الجنة دون حساب في قوله : «يدخل الجنة من أمتي
سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم
يتوكلون وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» الحديث على اختلاف ترتيباته. والمعنى
الثاني : أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا عد ، بل جزافا ، وهذه استعارة للكثرة
التي لا تحصى ، ومنه قول الشاعر [طويس المغني] : [الكامل]
ما تمنعي يقضى
فقد تعطينه
|
|
في النوم غير
مسرد محسوب
|
وإلى هذا التأويل
ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة : ليس ثم والله مكيال ولا ميزان ، وفي بعض
الحديث أنه لما نزلت : (وَاللهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١]
قال النبي عليهالسلام : اللهم زد أمتي فنزلت بعد ذلك : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة: ٢٤٥] ، فقال : اللهم زد أمتي حتى أنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فقال : رضيت يا رب.
قوله عزوجل :
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)
وَأُمِرْتُ
لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)
قُلْ
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)
(١٥)
أمر الله تعالى
نبيه في هذه الآية بأن يصدع للكفار فيما أمر به من عبادة ربه.
وقوله : (أُمِرْتُ) لأن معناه : وأمرت بهذا الذي ذكرت لكي أكون أول من أسلم من
أهل عصري وزمني ، فهذه نعمة من الله عليه وتنبيه منه.
وقوله : (أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ) فعل معلق بشرط وهو العصيان ، وقد علم أنه عليهالسلام معصوم منه ، ولكنه خطاب للأمة يعمهم حكمه ويحفهم وعيده.
وقوله تعالى (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) تأكيد للمعنى الأول وإعلام بامتثاله كله للأمر ، وهذا كله
نزل قبل القتال لأنها موادعات.
وقوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) صيغة أمر على جهة التهديد كنحو قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وقوله
: (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) [الزمر : ٨] ،
وهذا كثير. و (الَّذِينَ) في قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) في موضع رفع خبر ، لأن قوله : (وَأَهْلِيهِمْ) قيل معناه أنهم خسروا الأهل الذي كان يكون لهم لو كانوا من
أهل الجنة ، فهذا كما لو قال : خسروا أنفسهم ونعيمهم ، أي الذي كان يكون بهم ، وقيل
أراد الأنفس والأهلين الذين كانوا في الدنيا ، لأنهم صاروا في عذاب النار ، ليس
لهم نفوس مستقرة ولا بدل من
أهل الدنيا ، ومن
له في الجنة قد صار له إما أهله وإما غيرهم على الاختلاف فيما يؤثر في ذلك فهو على
كل حال لا خسران معه بتة.
قوله عزوجل :
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ
عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ(١٦) وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ
الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧)
الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)
(١٨)
هذه صفة حال أهل
جهنم. والظلة : ما غشي وغم كالسحابة وسقف البيت ونحوه ، فأما ما فوقهم فكونه ظلة
بين ، وأما ما تحتهم فقالت فرقة : سمي ظلة لأنه يتلهب ، ويصعد مما تحتهم شيء كثير
ولهب حتى يكون ظلة ، فإن لم يكن فوقهم شيء لكفى فرع الذي تحتهم في أن يكون ظلة ،
وقالت فرقة : جعل ما تحتهم ظلة ، لأنه فوق آخرين ، وهكذا هي حالهم إلا الطبقة
الأخيرة التي في القعر.
وقوله : (عِبادَهُ) يريد جميع العالم خوفهم الله النار وحذرهم منها ، فمن هدي
وآمن نجا ، ومن كفر حصل فيما خوف منه. واختلفت القراءة في قوله : «عباد» وقد تقدم
نظيره.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) الآية ، قال ابن زيد : إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل
وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، والإشارة إليهم. وقال ابن إسحاق : الإشارة بها
إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير ، وذلك أنه لما أسلم
أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه ، فقالوا أسلمت؟ قال نعم ، وذكرهم بالله فآمنوا بأجمعهم
فنزلت فيهم هذه الآية ، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم
حكمها. و (الطَّاغُوتَ) : كل ما يعبد من دون الله. و (الطَّاغُوتَ) أيضا : الشيطان ، وبه فسر هنا مجاهد والسدي وابن زيد ،
وأوقعه هنا على جماعة الشياطين ، ولذلك أنث الضمير بعد.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) كلام عام في جميع الأقوال ، وإنما القصد الثناء على هؤلاء
ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولا ميزوه واتبعوا أحسنه.
واختلف المفسرون
في العبارة عن هذا ، فقالت فرقة : أحسن القول كتاب الله ، أي إذا سمعوا الأقاويل
وسمعوا القرآن اتبعوا القرآن. وقالت فرقة : القول هو القرآن و (أَحْسَنَهُ) ما فيه من عفو وصفح واحتمال على صبر ونحو ذلك. وقال قتادة
: أحسن القول طاعة الله ، وهذه أمثلة وما قلناه أولا يعمها.
قوله عزوجل :
(أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها
غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ
الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)
(٢١)
أسقط العلامة التي
في الفعل المسند إلى الكلمة لوجهين : أحدهما الحائل الذي بين الفعل والفاعل ، ولو
كان متصلا به لم يحسن ذلك ، والثاني أن الكلمة غير مؤنث حقيقي ، وهذا أخف وأجوز من
قولهم : حضر القاضي يوما امرأة ، لأن التأنيث هنا حقيقي. وقالت فرقة : في هذا
الكلام محذوف أختصره لدلالة الظاهر عليه تقديرا : (أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) تتأسف أنت عليه أو نحو هذا من التقدير ، ثم استأنف توقيف
النبي صلىاللهعليهوسلم على أنه يريد أن ينقذ من في النار ، أي ليس هذا إليك.
وقالت فرقة : الألف في قوله : (أَفَأَنْتَ) إنما هي مؤكدة زادها لطول ، وإنما معنى الآية : «أفمن حق
عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟» لكنه زاد الألف الثانية توكيدا للأمر ، وأظهر
الضمير العائد تشهيرا لهؤلاء القوم وإظهارا لخسة منازلهم ، وهذا كقول الشاعر [عدي
بن زيد العبادي] : [الخفيف]
لا أرى الموت يسبق
الموت شيء
فإنما أظهر الضمير
تنبيها على عظم الموت ، وهذا كثير ، ثم استفتح إخبارا آخر ب (لكِنِ) وهذه معادلة وتخصيص على التقوى لمن فكر وازدجر.
وقوله تعالى : (مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت الغرف ، وعادلت (غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها
غُرَفٌ) ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم. والغرف : ما كان من
المساكن مرتفعا عن الأرض ، في الحديث : «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما
يتراءون الكوكب الذي في الأفق». و : (وَعْدَ اللهِ) نصب على المصدر ، ونصبه إما بفعل مضمر من لفظه ، وإما بما
تضمن الكلام قبل من معنى الوعد على الاختلاف الذي للنحاة في ذلك. ثم وقف نبيه صلىاللهعليهوسلم على معتبر من مخلوقاته ، والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وكل بشر داخل معه في معناه. وقال الطبري وغيره : أشار
إلى ماء المطر ، وقالوا : العيون منه ، ودليل ذلك أنها تنماع عند وجوده وتيبس عند
فقده. وقال الحسن بن مسلم بن يناق ، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر ،
ولكن ماؤها نازل من السماء. قال الشعبي : وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل.
قال القاضي أبو
محمد : والقولان متقاربان : و : «سلكه» معناه : أجراه وأدخله ، ومنه قول الشاعر [البسيط]
حتى سلكن الشوى
منهن في مسك
|
|
من نسل جوابة
الآفاق مهداج
|
ومنه قول امرئ
القيس : [السريع]
وواحد الينابيع
وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع. والزرع هنا واقع على كل ما يزرع. وقالت
فرقة : (أَلْوانُهُ) أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك. وقالت فرقة : (أَلْوانُهُ) أنواعه من القمح والأرز والذرة وغير ذلك. و : (يَهِيجُ) ييبس ، هاج النبات والزرع إذا يبس ، ومنه قول علي رضي الله
عنه في الحديث الذي في غريب ابن قتيبة : ذمتي رهينة وأنا به زعيم. أي لا يهيج عن
التقوى زرع قوم ، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل ، والحديث. والحطام : اليابس
المتفتت. ومعنى قوله : (لَذِكْرى) أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال
المذكور.
قوله عزوجل :
(أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ)
(٢٣)
روي أن هذه الآية
: (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) آية نزلت في علي وحمزة ، وأبي لهب وابنه هما اللذان كانا
من القاسية قلوبهم ، وفي الكلام محذوف يدل الظاهر عليه ، تقديره : أفمن شرح الله
صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله. وشرح الصدر : استعارة لتحصيله للنظر الجيد
والإيمان بالله. و «النور» هداية الله تعالى ، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود
: قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال : «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح»
، قالوا وما علامة ذلك؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ،
والتأهب للموت قبل الموت». و «القسوة» : شدة القلب ، وهي مأخوذة من قسوة الحجر ،
شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ. وقال مالك بن دينار : ما ضرب
العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، ويدل قوله : (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ) على المحذوف المقدر.
وقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن
قوما من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار
الدهر ، فنزلت الآية في ذلك.
وقوله : (مُتَشابِهاً) معناه : مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه
بعضا في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في
الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه.
وقوله : (مَثانِيَ) معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا
تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد. قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر
مرارا. ولا ينصرف (مَثانِيَ) لأنه جمع لا نظير له في الواحد.
وقوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يداخله خوف ولين قلب عند
سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي
الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلىاللهعليهوسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة. وقال العباس بن
عبد المطلب : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ
عن الشجرة اليابسة ورقها». وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن
أقواما اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطا عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما
نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين
يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن كله ،
فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله
، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل (تَقْشَعِرُّ) في موضع الصفة لم يقف على (مَثانِيَ) ، ومن جعله مستأنفا وإخبارا منقطعا وقف على (مَثانِيَ) وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
(٢٨)
هذا تقرير بمعنى
التعجيب ، والمعنى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) كالمنعمين في الجنة.
واختلف المتأولون
في قوله : (يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) فقال مجاهد : يخر على وجهه في النار. وقالت فرقة : ذلك لما
روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه
، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه. وقالت فرقة : المعنى صفة كثرة ما ينالهم من
العذاب ، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارجه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي
هو أشرف جوارجه وفيه حواسه ، فإذا بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز
بعدها.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر : [الكامل]
يلقى السيوف
بوجهه وبنحره
|
|
ويقيم هامته
مقام المغفر
|
لأنه إنما أراد
عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره.
وقوله تعالى : (ذُوقُوا) عبارة عن باشروا ، وهنا محذوف تقديره : جزاء (ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة ، ثم أخبر بما نال تلك
الأمم من كونها في الدنيا أحاديث ملعنة ، ولا خزي أعظم من هذا مع ما نال نفوسهم من
الألم والذل والكرب ، ثم أخبر أن ما أعد لهم من عذاب الآخرة أكبر من هذا كله الذي
كان في الدنيا.
وقوله : (قُرْآناً) قالت فرقة : هو نصب على الحال ، وقالت فرقة : هو نصب على
المصدر. و : (عَرَبِيًّا) حال ، وقالت فرقة : نصب على التوطئة للحال ، والحال قوله :
(عَرَبِيًّا) ونفى عنه العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز
بوجه.
واختلفت عبارة
المفسرين ، فقال عثمان بن عفان : المعنى غير متضاد ، قال ابن عباس : غير مختلف. وقرأ
مجاهد : غير ذي لبس. وقال السدي : غير مخلوق. وقال بكر المزني : غير ذي لحن.
والعوج بكسر العين في الأمر والمعنى وبفتحها في الأشخاص.
قوله عزوجل :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)
(٣٢)
لما ذكر عزوجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملا جاء بعد ذلك
بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطرا وهو التوحيد ، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان
والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذبون ذلك
العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل ، فهو أبدا ناصب ،
فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله
منها ، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبدا
تعب في ضلال ، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ، ومثل تعالى المؤمن
بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه ،
فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله.
وقوله : (ضَرَبَ) مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه ، ومنه قولهم : هذا ضرب
هذا ، أي شبهه. و : (مَثَلاً) مفعول ب (ضَرَبَ) ، و : (رَجُلاً) نصب على البدل. قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض ،
أي مثلا لرجل أو في رجل ، وفي هذا نظر ، و : (مُتَشاكِسُونَ) معناه : لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة ،
ومنه قول الشاعر : [الرجز]
خلقت شكسا
للأعادي مشكسا
|
|
أكوي السريين
وأحسم النسا
|
من شاء من حر
الجحيم استقبسا
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو : «سالما» ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه. قال أبو عمرو
معناه : خالصا ، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة
والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه. وقرأ الباقون : «سلما» بفتح السين واللام ،
وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف. وقرأ سعيد بن
جبير : «سلما» ، بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة
وأمر قد سلم له.
ثم وقف الكفار
بقوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً) ونصب (مَثَلاً) على التمييز ، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا
يستويان ، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم. ثم قال تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى ، تقديره : الحمد لله
على ظهور الحجة ، وأن الأمر ليس كما يقولون (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ). و «أكثر» في هذه الآية على بابها ، لأنا وجدنا الأقل علم
أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس. ثم ابتدأ القول معهم غرضا آخر
من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على الله المكذبين
بالصدق ، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف
التوعد ، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن
تقول : كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت ، أو كل من عليها فان ، ونحو هذا مما
توقن به نفس الذي تحاور ، ثم بعد هذا تورد قولك ، فأخبر تعالى أن الجميع «ميت».
وهذه قراءة الجمهور ، وقرأها «مائت» و «مايتون» بألف ابن الزبير وابن محيصن وابن
أبي إسحاق واليماني وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة. والضمير في (إِنَّهُمْ) لجميع العالم ، دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه ،
وبين يدي صلة طعام فقال صلة للرجل : ادن فكل ، فإن أخي قد نعي إليّ منذ زمان ، قال
الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) والضمير في (إِنَّكُمْ) قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما
كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه ، ومن هذا قول علي بن أبي طالب :
أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن ، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن
الحارث مع عتبة وشيبة والوليد ، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم ،
قاله أبو العالية وغيره. وقال الزبير بن العوام للنبي عليهالسلام : أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال
نعم ، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه. وقد قال عبد الله بن عمر لما نزلت هذه الآية :
كيف نختصم ونحن أخوان؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، قلنا هذا
الخصام الذي وعدنا ربنا. ويختصم أيضا على ما روي : الروح مع الجسد ، في أن يذنب كل
واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه ، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك.
قال القاضي أبو
محمد : ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى
ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم.
ثم وقفهم توقيفا
معناه نفي الموقف عليه بقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، والإشارة بهذا الكذب
بقولهم : إن لله صاحبة وولدا وقولهم : إن كذا حرام ، وإن كذا حلال افتراء على الله
، وكذبوا أيضا بالصدق ، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليهالسلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزا أو غير معجز. ثم توعدهم
تعالى تواعدا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف : (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) ، والمثوى موضع الإقامة.
قوله عزوجل :
(وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)
(٣٧)
قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) معادل لقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ) [الزمر : ٣٢] (فَمَنْ) [الزمر : ٣٢]
هنالك للجميع والعموم ، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضا ، كأنه قال : والفريق الذي جاء
بعضه بالصدق وصدق بعضه ، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب. وفي قراءة ابن
مسعود : والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به. و «الصدق» هنا : القرآن وأنباؤه والشرع
بجملته. وقالت فرقة : (الَّذِي) يراد به الذين ، وحذفت النون لطول الكلام ، وهذا غير جيد ،
وتركيب جاء عليه يرد ذلك ، وليس هذا كقول الفرزدق :
إن عميّ اللذا
قتلا الملوك
ونظير الآية قول
الشاعر [أشهب بن رميلة] : [الطويل]
وإن الذي حانت
بفلج دماؤهم
|
|
هم القوم كل
القوم يا أم خالد
|
وقال ابن عباس : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو محمد صلىاللهعليهوسلم وهو الذي صدق به ، وقالت فرقة من المفسرين : «الذي جاء» هو
جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة : «الذي
جاء» هو محمد عليهالسلام ، والذي صدق هو أبو بكر. وقال أبو الأسود وجماعة منهم
مجاهد : الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد : «الذي جاء» هو محمد عليهالسلام ، والذي صدق به هم المؤمنون. قال مجاهد هم أهل القرآن.
وقالت فرقة : بالعموم الذي ذكرناه أولا ، وهو أصوب الأقوال.
وقرأ أبو صالح
ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان : «وصدق به» بتخفيف الدال ، بمعنى استحق به اسم
الصدق ، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليهالسلام ، وكأن أمته في
ضمن القول ، وهو
الذي يحسن (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قال ابن عباس : اتقوا الشرك.
واللام في قوله : (لِيُكَفِّرَ) يحتمل أن تتعلق بقوله : (الْمُحْسِنِينَ) ، أي الذين أحسنوا لكي يكفر ، وقاله ابن زيد. ويحتمل أن
تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله ، كأنك قلت : يسرهم الله لذلك ليكفر ، لأن التكفير
لا يكون إلا بعد التيسير للخير ، واستدلوا على أن (عَمِلُوا) هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام.
وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) تقوية لنفس النبي عليهالسلام ، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام ، وقالوا يا محمد
أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة ، فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ حمزة
والكسائي : «عباده» يريد الأنبياء المختصين به ، وأنت أحدهم ، فيدخل في ذلك
المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله ، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب
وطلحة والأعمش. وقرأ الباقون : «عبده» وهو اسم جنس ، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل
المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليهالسلام قوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ).
وقوله : (مِنْ دُونِهِ) يريد بالذين يعبدون من دونه ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى ، فقال سادنها : يا خالد
، إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء ، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها
وانصرف. ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع ، وأن ما أراد من
ذلك لا راد له. ثم توعدهم بعزته وانتقامه ، فكان ذلك ، وانتقم منهم يوم بدر وما
بعده.
قوله عزوجل :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
قُلْ
يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤٠)
هذا ابتداء احتجاج
عليهم بحجة أخرى ، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع ، فإذا قالوا إنه الله لم
يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر ، فلما تقعد من قولهم إن
الله هو الخالق ، قيل لهم (أَفَرَأَيْتُمْ) هؤلاء إذا أراد الله أمرا بهم قدرتم على نقضه؟ وحذف الجواب
عن هذا ، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من
ذلك.
وقرأ : «إن أرادني»
بياء مفتوحة جمهور القراء والناس. وقرأ الأعمش : (أَرادَنِيَ اللهُ) بحذف الياء في الوصل ، وروى خارجة «إن أراد» بغير ياء.
وقرأ جمهور القراء
والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب : «كاشفات ضرّه» بالإضافة.
وقرأ أبو عمرو
وأبو بكر عن عاصم : «كاشفات ضرّه» بالتنوين والنصب في الراء ، وهي قراءة شيبة
والحسن وعيسي بخلاف عنه وعمرو بن عبيد ، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد ، وكذلك
الخلاف في : (مُمْسِكاتُ
رَحْمَتِهِ).
ثم أمره تعالى بأن
يصدع بالاتكال على الله ، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر ، ثم أمره بتوعدهم في
قوله : (اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) ما رأيتموه متمكنا لكم وعلى حالتكم التي استقر رأيكم
عليها.
وقرأ الجمهور : «مكانتكم»
بالإفراد. وقرأ «مكاناتكم» بالجمع : الحسن وعاصم.
وقوله : (اعْمَلُوا) لفظ بمعنى الوعيد. و «العذاب المخزي» : هو عذاب الدنيا يوم
بدر وغيره. و «العذاب المقيم» : هو عذاب الآخرة ، أعاذنا الله تعالى منه برحمته.
قوله عزوجل :
(إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
(٤٢)
هذا إعلام بعلو
مكانة محمد عليهالسلام واصطفاء ربه له. و (الْكِتابَ) القرآن.
وقوله : (بِالْحَقِ) يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يريد مضمنا الحق في أخباره
وأحكامه ، والآخر : أن يريد أنه أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك لما فيه
من مصلحة العالم وهداية الناس ، وكأن هذا الذي فعل الله تعالى من إنزال كتاب إلى
عبيده هو إقامة حجة عليهم ، وبقي تكسبهم بعد إليهم ، (فَمَنِ اهْتَدى
فَلِنَفْسِهِ) عمل وسعى ، (وَمَنْ ضَلَ) «فعليها» جنى ،
والهدى والضلال إنما لله تعالى فيهما خلق واختراع ، وللعبد تكسب ، عليه يقع الثواب
أو العقاب. وأخبر نبيه أنه ليس بوكيل عليهم ولا مسيطر ، والوكيل : القائم على
الأمر حتى يكمله ، ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية
وأن ذلك لا شرك فيه لصنم وهي حالة التوفي ، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على
الكمال فهو الذي يموت ، وما توفاه متوفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم ، قال
ابن زيد : النوم وفاة ، والموت وفاة. وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى. ففرقت
بين النفس والروح ، وفرق قوم أيضا بين نفس التمييز ونفس التخيل ، إلى غير ذلك من
الأقوال التي هي غلبة ظن. وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن
عباده في قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]
ويكفيك أن في هذه الآية (يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ) ، وفي الحديث الصحيح : «إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها
علينا حين شاء» في حديث بلال في الوادي ، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في
النوم وقد قال الله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي)
[الإسراء : ٨٥]
فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة
، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال : في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز ،
وفيه روح به النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والأجل
المسمى في هذه الآية : هو عمر كل إنسان.
وقرأ جمهور القراء
: «قضى عليها» بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي «قضي» بضم
القاف على بنائه للمفعول ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى. ثم أحال أهل
الفكرة على النظر في هذا ونحوه فإنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا
الواحد الصمد ، لا رب غيره.
قوله عزوجل :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
(٤٥)
(أَمِ) هنا مقطوعة مما قبلها ، وهي مقدرة بالألف وبل ، وهذا تقرير
وتوبيخ ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على الأمر وعلى أنهم يرضون بهذا مع كون
الأصنام بصورة كذا وكذا من عدم الملك والعقل. والواو في قوله : (أَوَلَوْ) واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام ، ومتى دخلت ألف
الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير.
ثم أمره بأن يخبر
بأن جميع الشفاعة إنما هو لله تعالى. و : (جَمِيعاً) نصب على الحال ، والمعنى أن الله تعالى يشفع ثم لا يشفع
أحد قبل شفاعته إلا بإذنه ، فمن حيث شفاعة غيره موقوفة على إذنه بالشفاعة كلها له
ومن عنده.
وقوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) الآية ، قال مجاهد وغيره : نزلت في قراءة النبي عليهالسلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار ، وعند ذلك ألقى
الشيطان في أمنيته ، فقال : «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن
الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى» [النجم : ١٩] فاستبشر الكفار بذلك وسروا ،
فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان ، أنفوا واستكبروا و (اشْمَأَزَّتْ) نفوسهم ، ومعناه تقبضت كبرا أو أنفة وكراهية ونفورا ، ومنه
قول عمرو بن كلثوم : [الوافر]
إذا عض الثقاف
بها اشمأزت
|
|
وولته عشوزنة
زبونا
|
و : (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يريد الذين يعبدون من دونه ، وجاءت العبارة في هذه الآيات
عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل ، ونسب إليها الضر
والنفع والألوهية ، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل. و : (وَحْدَهُ) منصوب عند سيبويه على المصدر ، وعند الفراء على الحال.
قوله عزوجل :
(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)
وَبَدا
لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)
(٤٨)
أمر الله تعالى
نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله ، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة ، و (اللهُمَ) عند سيبويه منادى ، وكذلك عند الكوفيين ، إلا أنه خالفهم
في هذه الميم المشددة ، فقال سيبويه : هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازا ، وهي
دلالة على أن ثم ما حذف. وقال الكوفيون : بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو : أم ، ثم
حذفت الهمزة تخفيفا ، فكأن معنى (اللهُمَ) : بالله أم بفضلك ورحمتك.
و : (فاطِرَ) منادى مضاف ، أي (فاطِرَ السَّماواتِ). و (الْغَيْبِ) : ما غاب عن البشر. و (الشَّهادَةِ) : ما شاهدوه. ثم أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة
، وأن ما ينزل بهم لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها لفعلوا.
وقوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة متنوعة حسب ضلالتهم
وتخيلاتهم فيما يعتقدونه ، فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة وقصرت به حالاتهم ظهر
لكل واحد ما كان يظن. وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء من هذه الآية. وقال
عكرمة بن عمار جزع ابن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). (وَحاقَ) معناه : نزل وثبت ولزم.
وقوله : (ما كانُوا) هو على حذف مضاف تقديره : (وَحاقَ بِهِمْ) جزاء (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ).
قوله عزوجل :
(فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)
فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ
ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ(٥١)
أَوَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(٥٢)
هذه حجة تلزم عباد
الأوثان التناقض في أعمالهم ، وذلك أنهم يعبدون الأوثان ويعتقدون تعظيمها ، فإذا
أزفت آزفة ونالت شدة نبذوها ونسوها ودعوا الخالق المخترع رب السماوات والأرض. و : (الْإِنْسانَ)
في هذه الآية
للجنس. و : (خَوَّلْناهُ) معناه : ملكناه. قال الزجاج وغيره : التخويل : العطاء عن
غير مجازاة. والنعمة هنا : عامة في جميع ما يسديه الله إلى العبد ، فمن ذلك إزالة
الضر المذكور ، ومن ذلك الصحة والأمن والمال ، وتقوى الإشارة إليه في الآية بقوله
: (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ) وبقوله آخرا (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، وبذكر الكسب ، وكذلك الضمير في : (أُوتِيتُهُ) وذلك يحتمل وجوها ، منها : أن يريد بالنعمة المال كما
قدمناه ، ومنها أن يعيد الضمير على المذكور ، إذ اسم النعمة يعم ما هو مذكر وما هو
مؤنث ، ومنها : أن يكون «ما» في قوله : (إِنَّما) بمعنى الذي ، وعلى الوجهين الأولين كافة.
وقوله : (عَلى عِلْمٍ) في موضع نصب على الحال مع أن تكون «ما» كافة ، وأما إذا
كانت بمعنى الذي ، ف (عَلى عِلْمٍ) في موضع خبر «إن» ودال على الخبر المحذوف ، كأنه قال : هو
على علم ، يحتمل أن يريد على علم مني بوجه المكاسب والتجارات وغير ذلك ، قاله
قتادة. ففي هذا التأويل إعجاب بالنفس وتعاط مفرط ونحو هذا ، ويحتمل أن يريد على
علم من الله في ، وشيء سبق لي ، واستحقاق حزته عند الله لا يضرني معه شيء ، ففي
هذا التأويل اغترار بالله تعالى وعجز وتمن على الله. ثم قال تعالى : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي ليس الأمر كما قال ، بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء.
ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قالوا هذه المقالة كقارون وغيره ، وأنهم ما
أغنى عنهم كسبهم واحتجانهم للأموال ، فكذلك لا يغني عن هؤلاء.
ثم ذكر تعالى على
جهة التوعد لهؤلاء في نفس المثال أن أولئك أصابهم (سَيِّئاتُ ما
كَسَبُوا) وأن الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين لك (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (وأن الذين ظلموا
بالكفر ما أصاب المتقدمين) وهذا خبر من الله تعالى أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره.
و : «معجزين» معناه مفلتين وناجين بأنفسهم. ثم قرر على الحقيقة في أمر الكسب وسعة
النعم فقال : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ) هو الذي (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) لقوم ويضيقه على قوم بمشيئته وسابق علمه ، وليس ذلك لكيس
أحد ولا لعجزه. (وَيَقْدِرُ) معناه : يضيق كما قال : (وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧].
قوله عزوجل :
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)
(٥٥)
هذه الآية عامة في
جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن ، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه ، وتوبة
العاصي تمحو ذنبه. واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد؟ فقالت فرقة
من أهل السنة : هو مغفور له ولا بد ، وهذا مقتضى ظواهر القرآن. وقالت فرقة :
التائب في المشيئة ، لكن يغلب
الرجاء في ناحيته
، والعاصي في المشيئة ، لكن يغلب الخوف في ناحيته.
واختلف المفسرون
في سبب نزول هذه الآية ، فقال عطاء بن يسار : نزلت في وحشي قاتل حمزة.
وقال قتادة والسدي
وابن أبي إسحاق : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا ، ثم
ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم ، منهم الوليد بن الوليد ، وهشام
بن العاصي ، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث.
وقالت فرقة : نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية ، قالوا : وما ينفعنا الإسلام ونحن
قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم. وقال علي بن أبي طالب
وابن مسعود وابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن. وروى ثوبان عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه قال : ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية ، (يا عِبادِيَ) و : (أَسْرَفُوا) معناه : أفرطوا وتعدوا الطور. والقنط : أعظم اليأس.
وقرأ نافع وجمهور
الناس : «تقنطوا» بفتح النون. قال أبو حاتم : يلزمهم أن يقرؤوا : (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨]
بالكسر ، ولم يقرأ به أحد. وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون. وقرأ أبو عمرو وابن
وثاب بكسرها ، وهي لغات.
وقوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً) عموم بمعنى الخصوص ، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعا
، وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة. و (جَمِيعاً) نصب هلى الحال. وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ : «إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي». وقرأ ابن
مسعود : «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء». (وَأَنِيبُوا) معناه : ارجعوا وميلوا بنفوسكم ، والإنابة : الرجوع بالنفس
إلى الشيء.
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ) توعد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ) معناه : أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي
منجية وعدات على الطاعات والبر وحدودا على المعاصي ووعيدا على بعضها ، فالأحسن أن
يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل ، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو
ذلك ، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد ، فهذا
المعنى هو المقصود ب (أَحْسَنَ) ، وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن ،
وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها. قال السدي :
الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه. و : (بَغْتَةً) معناه : فجأة وعلى غير موعد. و : (تَشْعُرُونَ) مشتق من الشعار.
قوله عزوجل :
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(٥٨)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ
(٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْمُتَكَبِّرِينَ)
(٦٠)
(أَنْ) في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن
تقول.
وقرأ جمهور الناس
: «يا حسرتي» والأصل «يا حسرتي» ، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفا فيقول : يا
غلاما ويا جارا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «يا حسرتاي» بفتح الياء ، ورويت عنه
بسكون الياء ، قال أبو الفتح : جمع بين العوض والمعوض منه. وروى ابن جماز عن أبي
جعفر : «يا حسرتي» بكسر التاء وسكون الياء. قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل
، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري. و : (فَرَّطْتُ) معناه : قصرت في اللازم.
وقوله تعالى : (فِي جَنْبِ اللهِ) معناه : في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته ، أي في تضييع
شريعته والإيمان به. والجنب : يعبر به عن هذا ونحوه. ومنه قول الشاعر : [الطويل]
أفي جنب بكر
قطعتني ملامة
|
|
لعمري لقد طالت
ملامتها بيا
|
ومنه قول الآخر :
الناس جنب والأمير
جنب
وقال مجاهد : (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في أمر الله. وقول الكافر : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى. والسخر : الاستهزاء.
وقوله : (أَوْ تَقُولَ) في الموضعين عطف على قوله : (أَنْ تَقُولَ) الأول. و : (كَرَّةً) مصدر من كر يكر. وقوله : (فَأَكُونَ) نصب بأن مضمرة مقدرة ، وهو عطف على قول : (كَرَّةً) والمراد : لو أن لي كرة فكونا ، فلذلك احتيج إلى : ليكون
مع الفعل بتأويل المصدر ، ونحوه قول الشاعر أنشده الفراء : [الطويل]
فما لك منها غير
ذكرى وحسبة
|
|
وتسأل عن
ركبانها أين يمموا
|
وقد قرر بعض الناس
الكلام : أنه لي أن أكر فأكون ، ذكره الطبري ، وهذا الكون في هذه الآية داخل في
التمني.
وقوله : (بَلى) جواب لنفي مقدر في قوله : هذه النفس كأنها قالت : فعمري في
الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا ،
وحق (بَلى) أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقرأ جمهور الناس «جاءتك»
بفتح الكاف ، وبفتح التاء من قوله : «فكذبت» و «استكبرت وكنت» على مخاطبة الكافر
ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري بكسر الكاف والتاء في الثلاثة على خطاب النفس
المذكورة. قال أبو حاتم : روتها أم سلمة عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقرأ الأعمش : «بلى قد جاءته» بالهاء.
ثم خاطب تعالى
نبيه بخبر يراه يوم القيامة من حالة الكفار ، في ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه.
وقوله : (تَرَى) هو من رؤية العين ، وكذبهم على الله : هو في أن جعلوا لله
البنات والصاحبة ، وشرعوا ما لم يأذن به إلى غير ذلك.
وقوله : (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) جملة في موضع الحال ، وظاهر الآية : أن لون وجوههم يتغير
ويسود حقيقة ، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن أن يراد به
وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم. والمثوى : موضع الثواء والإقامة. والمتكبر : رافع
نفسه إلى فوق حقه ، وقال النبي عليهالسلام : الكبر سفه وغمط الناس أي احتقارهم.
قوله عزوجل :
(وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)
لَهُ
مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)
(٦٥)
ذكر الله تعالى
المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة ، وفي ذلك ترغيب في حالة
المتقين ، لأن الأشياء تتبين بأضدادها.
وقرأ جمهور القراء
: «بمفازتهم» وذلك على اسم الجنس ، وهو مصدر من الفوز. وقرأ حمزة والكسائي وأبو
بكر عن عاصم : «بمفازاتهم» على الجمع من حيث النجاة أنواع ، الأسباب مختلفة وهي
قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره :
وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم. قال السدي : (بِمَفازَتِهِمْ) بفضائلهم. وقال ابن زيد بأعمالهم.
وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) كلام مستأنف دال على الوحدانية ، وهو عموم معناه الخصوص. والوكيل
: القائم على الأمر ، الزعيم بإكماله وتتميمه. والمقاليد : المفاتيح ، وقاله ابن
عباس ، واحدها مقلاد ، مثل مفتاح ، وفي كتاب الزهراوي : واحد المقاليد : إقليد ،
وهذه استعارة كما تقول بيدك يا فلان مفتاح هذا الأمر ، إذا كان قديرا على السعي
فيه. وقال السدي : المقاليد الخزائن ، وهذه عبارة غير جيدة ، ويشبه أن يقول قائل :
المقاليد إشارة إلى الخزائن أو دالة عليها فيسوغ هذا القول ، كما أن الخزائن أيضا
في جهة الله إنما تجيء استعارة ، بمعنى اتساع قدرته ، وأنه يبتدع ويخترع ، ويشبه
أن يقال فيما قد أوجد من المخلوقات كالريح والماء وغير ذلك إنها في خزائنه ، وهذا
كله بتجوز على جهة التقريب والتفهيم للسامعين ، وقد ورد القرآن بذكر الخزائن ،
ووقعت في الحديث الصحيح في قوله عليهالسلام :» وما فتح
الليلة من الخزائن»
والحقيقة في هذا غير بعيدة ، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة كما هو اختزان
البشر. وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن (مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : «لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد
لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيي ويميت
وهو على كل شيء قدير».
وقوله : (أَفَغَيْرَ) منصوب ب (أَعْبُدُ) ، كأنه قال : أفغير الله أعبد فيما تأمروني؟ ويجوز أن يكون
نصبه ب (تَأْمُرُونِّي) على إسقاط أن ، تقديره أفغير الله تأمروني أن أعبد.
وقرأت فرقة : «تأمرونني»
بنونين ، وهذا هو الأصل. وقرأ ابن كثير : «تأمرونّي» بنون مشددة مكسورة وياء مفتوحة.
وقرأ ابن عامر : «تأمروني» بياء ساكنة ونون مكسورة خفيفة ، وهذا على حذف النون
الواحدة وهي الموطئة لياء المتكلم ، ولا يجوز حذف النون الأولى وهو لحن لأنها
علامة رفع الفعل ، وفتح نافع الياء على الحذف فقرأ : «تأمروني» وقرأ الباقون بشد
النون وبسكون الياء.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) الآية ، قالت فرقة : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال :
«لقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك» ، وقالت فرقة : الآية
على وجهها ، المعنى : «ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك». وحبط : معناه
: بطل وسقط ، وبهذه الآية بطلت أعمال المرتد من صلاته وحجه وغير ذلك.
قوله عزوجل :
(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)
(٦٨)
المكتوبة : نصب
بقوله : (فَاعْبُدْ). وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) معناه : وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته ، ولا
نفوا عنه ما لا يليق به.
واختلف الناس في
المعنى بالضمير في قوله : (قَدَرُوا) قال ابن عباس : نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه
الآيات كلها محاورة لهم وردا عليهم. وقالت فرقة : نزلت الآية في قوم من اليهود
تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله ، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط ، فنزلت الآية
فيهم ، وفي الحديث الصحيح : أنه جاء حبر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجلس إليه ، فقال له النبي عليهالسلام حدثنا ، فقال : إن الله عزوجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على
أصبع والجبال على أصبع ، والماء والشجر على أصبع ، وجميع الخلائق على أصبع ، ثم
يهزهن فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه تصديقا له ، ثم قرأ هذه الآية.
قال القاضي أبو
محمد : فرسول الله صلىاللهعليهوسلم تمثل بالآية ، وقد كانت نزلت. وقوله في الحديث : تصديقا له
، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود ، ولكن النبي صلىاللهعليهوسلم أنكر المعنى ، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون
باعتقاده ، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة ، أو من أنها
أصبع خلق يخلق لذلك ، ويعضدها تنكير الأصبع.
وروى سعيد بن
المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا يا محمد ، هذا الله خلق الأشياء ، فمن خلق الله؟
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وساورهم ، ونزلت الآية في ذلك.
وقرأ جمهور الناس
: «قدره» بسكون الدال. وقرأ الأعمش : بفتح الدال. وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن
عمر وأبو نوفل : «وما قدّروا» بشد الدال «حق قدره» بفتح الدال.
وقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) معناه : في قبضته. وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في
قبضة اليد الواحدة ، (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ) باليمين الأخرى ، لأنه كلتا يديه يمين ، ورواه عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن عباس : الأرض جميعا قبضته ، والسماوات وكل ذلك
بيمينه.
وقرأ عيسى بن عمر
: «مطويات» بكسر التاء المنونة ، والناس على رفعها.
وعلى كل وجه ، ف «اليمين»
هنا و «القبضة» وكل ما ورد : عبارة عن القدرة والقوة ، وما اختلج في الصدور من غير
ذلك باطل ، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف ،
وبحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم.
قال عزوجل : (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ). أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. ثم ذكر تعالى
النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء ، وفي بعض الأحاديث من طريق
أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية. و : «صعق»
في هذه الآية معناه : خر ميتا. و : (الصُّورِ) القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا ، ومن يقول (الصُّورِ) جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث.
وقرأ قتادة : «في
الصور» بفتح الواو ، وهي جمع صورة.
وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال السدي : استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ،
ثم أماتهم بعد هذه الحال ، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : استثنى الأنبياء : وقال ابن جبير : استثنى الشهداء.
وقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) هي نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين ، لا يدري أبو
هريرة سنة أو يوما أو شهرا أو ساعة. وباقي الآية بين.
قوله عزوجل :
(وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ
عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى
وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
قِيلَ
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)
(٧٢)
(أَشْرَقَتِ) معناه : أضاءت وعظم نورها ، يقال شرقت الشمس إذا طلعت ،
وأشرقت إذا أضاءت.
وقرأ ابن عباس
وعبيد بن عمير : «أشرقت» بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول ، وهذا
إنما يترتب من فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت ، وأشرقه السراج ، فيكون
الفعل متجاوزا أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته ، ومن المتعدي من
ذلك يقال أشرقت الأرض : و : (الْأَرْضُ) في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله : (بِنُورِ رَبِّها) إضافة خلق إلى خالق ، أي بنور الله تعالى ، و : (الْكِتابُ) كتاب حساب الخلائق ، ووحده على اسم الجنس ، لأن كل أحد له
كتاب على حدة. وقالت فرقة : وضع اللوح المحفوظ ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد
وهو مقصد الآية.
وقوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) أي ليشهدوا على أممهم.
وقوله : (وَالشُّهَداءِ) قيل هو جمع شاهد ، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله
شهداء على الناس. وقال السدي : (الشُّهَداءِ) جمع شهيد في سبيل الله ، وهذا أيضا يزول عنه معنى التوعد ،
ويحتمل أن يريد بقوله : (وَالشُّهَداءِ) الأنبياء أنفسهم ، عطف الصفة على الصفة بالواو ، كما تقول:
جاء زيد الكريم والعاقل. وقال زيد بن أسلم : (الشُّهَداءِ) : الحفظة. والضمير في قوله : (بَيْنَهُمْ) عائد على العالم بأجمعه ، إذ الآية تدل عليهم. و : (لا يُظْلَمُونَ) معناه : لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه. (وَوُفِّيَتْ) معناه : جوزيت كملا ، وفي هذا وعيد صرح عنه قوله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).
وقرأ الجمهور : (وَسِيقَ) وجيء بكسر أوله. وقرأها ونظائرها بإشمام الضم : الحسن وابن
وثاب وعاصم والأعمش. و : (زُمَراً) معناه : جماعات متفرقة ، واحدها زمرة.
وقوله : (فُتِحَتْ) جواب (إِذا) ، والكلام هنا يقضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم ، وفي
وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب بخلاف
قوله : في أهل الجنة : (وَفُتِحَتْ) [الزمر : ٧٣]
بالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح.
وقرأ الجمهور : «فتّحت»
بشد التاء في الموضعين ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها ، وهي قراءة طلحة
والأعمش. ثم ذكر تعالى توقيف الخزنة لهم على مجيء الرسل.
وقرأ الجمهور : «يأتكم»
بالياء من تحت. وقرأ الأعرج : «تأتكم» بتاء من فوق.
وقوله : (مِنْكُمْ) أعظم في الحجة ، أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مراميهم
ولا فهم أقوالهم. وقولهم : (بَلى) جواب على التقرير على نفي أمر ، ولا يجوز هنا الجواب بنعم
، لأنهم كانوا يقولون : نعم لم يأتنا ، وهكذا كان يترتب المعنى ، ثم لا يجدوا حجة
إلا أن كلمة العذاب حقت عليهم ، أي الكلمة المقتضية من الله تعالى تخليدهم في
النار ، وهي عبارة عن قضائه السابق لهم بذلك ، وهي التي في قوله تعالى لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥]. والمثوى
: موضع الإقامة.
قوله عزوجل :
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
(٧٥)
قوله : (الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك ،
لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذين سبق لهم أن يغفر الله لهم
من أهل المشيئة ، وأيضا فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمرا إلى
الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية ، والواو في قوله : (وَفُتِحَتْ) مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها ، وقد قالت فرقة :
هي زائدة. وجواب (إِذا) ، (فُتِحَتْ) ، وقال الزجاج عن المبرد : جواب (إِذا) محذوف ، تقديره بعد قوله : (خالِدِينَ) فيها سعدوا. وقال الخليل : الجواب محذوف تقديره : حتى
جاؤوها وفتحت أبوابها ، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى : (فَلَمَّا
أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣]
وكما قدر أيضا قول امرئ القيس : [الطويل]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي أجزنا وانتحى.
وقال قوم : أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم : هذه واو الثمانية مستوعبا في
سورة الكهف ، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى. و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية. ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة
لكم. و : (طِبْتُمْ) معناه : أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء.
وقوله تعالى حكاية
عنهم : (وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ) يريد أرض الجنة ، قاله قتادة وابن زيد والسدي والوراثة هنا
مستعارة ، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان ، وهؤلاء
إنما ورثوا مواضع أهل النار أن لو كانوا مؤمنين. و : (نَتَبَوَّأُ) معناه : نتخذ أمكنة ومساكن.
ثم وصف حالة
الملائكة من العرش وحفوفهم به ، وقال قوم : واحد (حَافِّينَ) حاف. وقالت فرقة :
لا واحد لقوله : (حَافِّينَ) لأن الواحد لا يكون حافا ، إذ الحفوف الإحداق بالشيء ،
وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر [ابن هرمة] : [الطويل]
له لحظات عن
حفافي سريره
|
|
إذا كرها فيها
عقاب ونائل
|
أي عن جانبيه.
وقالت فرقة : (مِنْ) في قوله : (مِنْ حَوْلِ) زائدة ، والصواب أنها لابتداء الغاية.
وقوله : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قالت فرقة : معناه : أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله.
وقالت فرقة : تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره. قال الثعلبي : متلذذين لا
متعبدين ولا مكلفين.
وقوله : (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ختم للأمر ، وقول جزم عند فصل القضاء ، أي إن هذا الحاكم
العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم. وقال قتادة : فتح الله
أول الخلق بالحمد ، فقال:(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١]
وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال القاضي أبو
محمد : وجعل الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١]
فاتحة كتابه ، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم ، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون
من المؤمن كما قال الشاعر : [الطويل]
وآخر شيء أنت في
كل ضجعة
|
|
وأول شيء أنت
عند هبوبي
|
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة غافر
هذه السورة مكية
بإجماع ، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية ، وهذا ضعيف ، والأول أصح. وهذه
الحواميم التي روى أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنها ديباج القرآن ووقفه الزجاج على ابن مسعود ، ومعنى هذه
العبارة أنها خلت من الأحكام ، وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا (وأيضا
فهي قصار) لا يلحق فيها قارئها سآمة. وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليهالسلام قال : «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ
الحواميم» ، وهذا نحو الكلام الأول في المعنى. وقال عليهالسلام : «مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات
في الثياب».
قوله عزوجل :
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ
وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ
لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)
(٥)
تقدم القول في
الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله : (حم) ويختص هذا الموضع بقول آخر ، قاله الضحاك. والكسائي : إن (حم) هجاء «حمّ» بضم الحاء وشد الميم المفتوحة ، كأنه يقول :
حمّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله. وقال ابن عباس : (الر) [يونس : ١ ، هود : ١ ، إبراهيم : ١ ، يوسف : ١ ، الحجر : ١]
و : (حم) [غافر : ١ ، فصلت:
١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] و : (ن) [القلم: ١] هي
حروف الرحمن مقطعة في سور. وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه. وسأل أعرابي النبيصلىاللهعليهوسلم عن : (حم) ما هو؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور.
وقرأ ابن كثير :
بفتح الحاء ، وروي عن أبي عمرو : كسر الحاء على الإمالة ، وروي عن نافع : الفتح ،
وروي عنه : الوسط بينهما ، وكذلك اختلف عن عاصم ، وروي عن عيسى كسر الحاء على
الإمالة ، وقرأ جمهور الناس : «حم» بفتح الحاء وسكون الميم ، وقرأ عيسى بن عمر
أيضا (حم) بفتح الحاء وفتح
الميم الأخيرة في
النطق ، ولذلك وجهان : أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة ، والآخر : حركة
إعراب ، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره : «اقرأ حم» ، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء ،
والحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي : [الطويل]
يذكرني حم
والرمح شاجر
|
|
فهلا تلا حم قبل
التقدم
|
وقول الكميت : [الطويل]
وجدنا لكم في آل
حم آية
|
|
تأولها منا تقيّ
ومعرب
|
وقرأ أبو السمال :
(حم) بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة ، وذلك لالتقاء الساكنين.
و : (حم) آية : و : (تَنْزِيلُ) رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : (مِنَ اللهِ) وعلى القول بأن (حم) إشارة إلى حروف المعجم يكون قوله : (حم) خبر ابتداء. و : (الْكِتابِ) القرآن.
وقوله : (غافِرِ) بدل من المكتوبة ، وإن أردت ب (غافِرِ) المضي ، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على
المذنبين ، فيجوز أن يكون (غافِرِ) صفة ، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة ، وهذا مترجح جدا
، وإذا أردت ب (غافِرِ) الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة ، و : (غافِرِ) نكرة فلا يكون نعتا ، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة ، وفي
هذا نظر. وقال الزجاج : (غافِرِ وَقابِلِ) صفتان. و : (شَدِيدِ الْعِقابِ) بدل ، و : (الذَّنْبِ) اسم الجنس. وأما (التَّوْبِ) فيحتمل أن يكون مصدرا كالعوم والنوم فيكون اسم جنس ،
ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر ، وساعة وساع. وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى ، وقبول
التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة ، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن
رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة؟ فقال نعم ، اعمل
ولا تيأس ، ثم قرأ هذه الآيات إلى (قابِلِ التَّوْبِ). و (شَدِيدِ الْعِقابِ) : صفة ، وقيل بدل. ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله : (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه ، فترتب في
الآية وعيد بين وعدين ، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه.
قال القاضي أبو
محمد : سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه ، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه :
لن يغلب عسر يسريين يريد في قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦].
و : (الطَّوْلِ) الإنعام ، ومنه : حليت بطائل. وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة
أنه تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ) فضلا ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) وعدا ، و (شَدِيدِ الْعِقابِ) عدلا. وقال ابن عباس : (الطَّوْلِ) : السعة والغنى ، ثم صدع بالتوحيد في قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وبالبعث والحشر في قوله : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
وقوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) يريد جدالا باطلا ، لأن الجدال فيها يقع من المؤمنين لكن
في إثباتها وشرحها.
وقوله : (فَلا يَغْرُرْكَ) أنزله منزلة : «فلا يحزنك ولا يهمنك» ، لتدل الآية على
أنهم ينبغي أن لا
يغتروا بإملاء
الله تعالى لهم ، فالخطاب له والإشارة إلى من يقع منه الاغترار ، ويحتمل أن يكون (يَغْرُرْكَ) بمعنى تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم فتقول عسى أن
لا يعذبوا وحل الفعل من الإدغام لسكون الحرف الثاني ، وحيث هما متحركان لا يجوز
الحل ، لا تقول زيد يغررك. و : (تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ) عبارة عن تمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار وغير ذلك. ثم
مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم ، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء. (وَالْأَحْزابُ) : يريد بهم عادا وثمود أو أهل مدين وغيرهم ، وفي مصحف عبد
الله بن مسعود : «برسولها» ، ردا على الأمة ، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا
على لفظها.
وقوله : (لِيَأْخُذُوهُ) معناه ليهلكوه كما قال تعالى : (فَأَخَذْتُهُمْ) والعرب تقول للقتيل : أخيذ ، وللأسير كذلك ، ومنه قولهم :
أكذب من الأخيذ الصبحان. وقال قتادة : (لِيَأْخُذُوهُ) معناه : ليقتلوه. و (لِيُدْحِضُوا) معناه : ليزلقوا وليذهبوا ، والمدحضة المزلة والمزلقة.
وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
قوله عزوجل :
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ
(٦)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧)
رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(٩)
وفي مصحف عبد الله
بن مسعود : «كذلك سبقت كلمة». والمعنى : كما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك
حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أهل النار وسكانها.
وقرأ نافع وابن
عامر : «كلمات» على الجمع ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وابن نصاح وقرأ الباقون : «كلمة»
على الإفراد وهي للجنس ، وهي قراءة أبي رجاء وقتادة ، وهذه كلها عبارة عن ختم
القضاء عليهم.
وقوله : (أَنَّهُمْ) بدل من (كَلِمَةُ).
ثم أخبر تعالى
بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم ، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش
والذين حول العرش ، وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسألون الله لهم
الرحمة والجنة ، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ١٦] أي
سألته الملائكة ، وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى في غير هذه الآية (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)
[الشورى : ٥] لأنه
معلوم أن الملائكة لا تستغفر لكافر ، وقد يجوز أن يقال معنى ذلك أنهم يستغفرون
للكفار ، بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك ، وعلى هذا النحو هو استغفار
إبراهيم لأبيه واستغفار رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمنافقين. وبلغني أن رجلا قال لبعض الصالحين ادع لي
واستغفر لي ، فقال له : تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هو خير مني ، وتلا هذه
الآية. وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد
للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش بين شحمة أذنه
وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة» وقرأت فرقة : «العرش» بضم العين ، والجمهور على فتحها.
وقوله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) نصب الرحمة على التمييز وفيه حذف تقديره : يقولون ، ومعناه :
وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، وهذا نحو قولهم : تفقأت شحما وتصببت عرقا وطبت نفسا.
وسبيل الله المتبعة : هي الشرائع.
وقرأ جمهور الناس
: «جنات عدن» على جمع الجنات. وقرأ الأعمش في رواية المفضل : «جنة عدن» على
الإفراد ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. والعدن : الإقامة.
وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ
وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) روي عن سعيد بن جبير في تفسير ذلك : أن الرجل يدخل الجنة
قبل قرابته فيقول : أين أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيهه
عليهم وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة : وقرأ عيسى بن عمر : «وذريتهم» بالإفراد.
وقوله : (وَقِهِمُ) أصله أوقهم ، حذفت الواو اتباعا لحذفها في المستقبل ،
واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف ، ومعناه : اجعل لهم وقاية تقيهم (السَّيِّئاتِ) ، واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من (السَّيِّئاتِ) ، فيكون في اللفظ على هذا حذف مضاف ، كأنه قال : وقهم جزاء
السيئات.
قوله عزوجل :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)
(١٢)
ثم أخبر تعالى
بحال الكفار وجعل ذلك عقب حال المؤمنين ليبين الفرق ، وروي أن هذه الحال تكون
للكفار عند دخولهم النار ، فإنهم إذا أدخلوا فيها مقتوا أنفسهم ، أي مقت بعضهم
بعضا. ويحتمل أن يمقت كل واحد نفسه ، فإن العبارة تحتمل المعنيين ، والمقت هو
احتقار وبغض عن ذنب وريبة. هذا حده ، وإذا
مقت الكفار أنفسهم
نادتهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ ، فيقولون لهم : مقت الله إياكم في الدنيا
إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون (أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) اليوم ، هذا هو معنى الآية ، وبه فسر مجاهد وقتادة وابن
زيد. وأضاف المصدر إلى الفاعل في قوله : (لَمَقْتُ اللهِ) والمفعول محذوف لأن القول يقتضيه. واللام في قوله : (لَمَقْتُ) يحتمل أن تكون لام ابتداء ، ويحتمل أن تكون لام القسم ،
وهذا أصوب. و : (أَكْبَرُ) خبر الابتداء ، والعامل في : (إِذْ) فعل مضمر تقديره : مقتكم إذ ، وقدره قوم اذكروا ، وذلك
ضعيف يحل ربط الكلام ، اللهم إلا أن يقدر أن مقت الله لهم هو في الآخرة ، وأنه
أكبر من مقتهم أنفسهم ، فيصح أن يقدر المضمر اذكروا ، ولا يجوز أن يعمل فيه قوله :
(لَمَقْتُ) لأن خبر الابتداء قد حال بين المقت و (إِذْ) ، وهي في صلته ، ولا يجوز ذلك.
واختلف المفسرون
في معنى قولهم : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك : أرادوا موته
كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة
، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨].
وقال ابن زيد : أرادوا أنه أحياهم نسما عند أخذ العهد عليهم وقت أخذهم من صلب آدم
ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم ، وهذا قول ضعيف ، لأن
الإحياء فيه ثلاث مرات .. وقال السدي : أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم تم
أحياهم في القبر وقت سؤال منكر ونكير ، ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر ، وهذا
أيضا يدخله الاعتراض الذي في القول قبله ، والأول أثبت الأقوال. وقال محمد بن كعب
القرظي : أرادوا أن الكافر في الدنيا هو حي الجسد ميت القلب فكأن حالهم في الدنيا
جمعت إحياء وإماتة ، ثم أماتهم حقيقة ثم أحياهم بالبعث.
والخلاف في هذه
الآية مقول كله في آية سورة البقرة ، وهذه الآية يظهر منها أن معناها منقطع من
معنى قوله تعالى : (إِذْ تُدْعَوْنَ
إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) وليس الأمر كذلك ، بل الآيتان متصلتا المعنى ، وذلك أن
كفرهم في الدنيا كان أيضا بإنكارهم البعث واعتقادهم أنه لا حشر ولا عذاب ، ومقتهم
أنفسهم إنما عظمه ، لأن هذا المعتقد كذبهم ، فلما تقرر مقتهم لأنفسهم ورأوا خزيا
طويلا عريضا رجعوا إلى المعنى الذي كان كفرهم به وهو البعث وخرج الوجود مقترنا
بعذابهم فأقروا به على أتم وجوهه ، أي قد كنا كفرنا بإنكارنا البعث ونحن اليوم نقر
أنك أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين ، كأنهم قصدوا تعظيم قدرته تعالى واسترضاءه بذلك
، ثم قالوا عقب هذا الإقرار طمعا منهم ، فها نحن معترفون بذنوبنا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)؟ وهذا كما تكلف إنسانا أن يقر لك بحق وهو ينكرك ، فإذا رأى
الغلبة وضرع أقر بذلك الأمر متمما أوفى مما كنت تطلب به أولا ، وفيما بعد قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره : لا إسعاف
لطلبتكم أو نحو هذا من الرد والزجر.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، ويحتمل أن
يكون إشارة إلى مقت الله إياهم ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقتهم أنفسهم ، ويحتمل
أن تكون إشارة إلى المنع والزجر والإهانة التي قلنا إنها مقدرة محذوفة الذكر
لدلالة ظاهر القول عليها ، ويحتمل أن تكون المخاطبة ب (ذلِكُمْ) لمعاصري محمد صلىاللهعليهوسلم فى الدنيا ، ويحتمل أن تكون في الآخرة للكفار عامة.
وقوله : (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) معناه : بحالة توحيد ونفي لما سواه من الآلهة والأنداد.
وقوله : (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي إذا ذكرت اللات والعزى وغيرهما صدقتم واستقرت نفوسكم ،
فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار ، لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في
الألوهية. و : (الْعَلِيِّ
الْكَبِيرِ) صفتا مدح لا في المكان ومضادة السفل والصغر.
قوله عزوجل :
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ
إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ
(١٤)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)
(١٧)
هذه ابتداء مخاطبة
في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك ، وآيات الله : تعم آيات قدرته وآيات
قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله. وتنزيل الرزق : هو في تنزيل المطر وفي
تنزيل القضاء والحكم ، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس : «وينزل»
بالتخفيف. وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة : «وينزّل» بفتح النون وشد الزاي.
وقوله تعالى : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) معناه : وما يتذكر تذكرا يعتد به وينفع صاحبه ، لأنا نجد
من لا ينيب يتذكر ، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن.
وقوله : (فَادْعُوا اللهَ) مخاطبة للمؤمنين أصحاب محمد عليهالسلام. «وادعوا» : معناه : اعبدوا.
وقوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) صفاته العلى ، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين ، ويحتمل أن
يريد ب (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في
جنة. و : (الْعَرْشِ) هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه
كالدنانير في الفلاة من الأرض.
وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ) قال الضحاك : (الرُّوحَ) هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل. وقال قتادة والسدي
: (الرُّوحَ) النبوءة ومكانتها كما قال تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ويسمى هذا روحا لأنه يحيي به الأمم والأزمان
كما يحيي الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاما لكل ما ينعم الله به على
عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة. والمنذر على هذا التأويل :
هو الله تعالى. قال الزجاج : (الرُّوحَ) : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال كالميت.
وقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) إن جعلته جنسا للأمور ف (مِنْ) للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلنا الأمر من
معنى الكلام ، ف (مِنْ) إما لابتداء الغاية ، وإما بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض
بتة وقرأ أبي بن كعب : وجماعة : «لينذر» بالياء وكسر الذال ، وفي الفعل ضمير يحتمل
أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على (الرُّوحَ) ، ويحتمل أن يعود
على (مِنْ) في قوله : (مَنْ يَشاءُ). وقرأ محمد بن السميفع اليماني : «لينذر»
بالياء وفتح الذال ، وضم الميم من «يوم» وجعل اليوم منذرا على الاتساع. وقرأ جمهور
الناس : «لتنذر» بالتاء على مخاطبة محمد عليهالسلام ، ويوم» بالنصب.
وقرأ أبو عمرو ونافع
وجماعة : «التلاق» دون ياء. وقرأ أبو عمرو أيضا وعيسى ويعقوب : «التلاقي» بالياء ،
والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في (التَّنادِ) [غافر : ٣٢] ،
ومعناه : تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض ، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم ، وقال
السدي : معناه : تلاقي أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم
، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفا ، وقيل يلتقي المرء وعمله.
وقوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ،
ونصب (يَوْمَ) على البدل من الأول فهو نصب المفعول ، ويحتمل أن ينصب على
الظرف ويكون العامل فيه قوله : (لا يَخْفى) وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا
أضيف إلى غير متمكن كيومئذ ، وكقول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الطويل]
على حين عاتبت
المشيب على الصبا
|
|
وقلت ألمّا أصح
والشيب وارع
|
وكقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) [المائدة : ١١٩]
وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول : جئت يوم زيد فلا يجوز البناء ،
وتأمل.
وقوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ) أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم ، وفي مصحف أبي بن
كعب : «لا يخفى عليه منهم شيء» بضمير بدل المكتوبة.
وقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) روي أن الله تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة
وجزعا ، فيجيب هو نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب. وقال ابن مسعود :
أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك ، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس.
قال القاضي أبو
محمد : وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله ، فالزمان كله وأيام
الدهر أجمع إنما الملك فيها (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) ، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة ، وإذا
تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عزوجل.
ثم يعلم تعالى أهل
الموقف بأنه يوم المجازاة بالأعمال صالحها وسيئها ، وهذه الآية نص في أن الثواب
والعقاب معلق باكتساب العبيد ، وأنه يوم لا يوضع فيه أمر غير موضعه ، وذلك قوله : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ). ثم أخبرهم عن نفسه بسرعة الحساب ، وتلك عبارة عن إحاطته
بالأشياء علما ، فهو يحاسب الخلائق في ساعة واحدة كما يرزقهم ، لأنه لا يحتاج إلى
عد وفكرة ، لا رب غيره. وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة
والكافرون في النار.
قوله عزوجل :
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)
يَعْلَمُ
خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)
(٢١)
أمر الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوسلم بالإنذار للعالم والتحذير من يوم القيامة وأهواله ، وهو
الذي أراد ب (يَوْمَ الْآزِفَةِ) ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد : ومعنى (الْآزِفَةِ) : القريبة ، من أزف الشيء إذا قرب ، و (الْآزِفَةِ) في الآية صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله ، فعبر
عنه بالقرب تخويفا ، والتقدير: يوم الساعة الآزفة أو الطامة الآزفة ونحو هذا فكما لو قال :
وأنذرهم الساعة لعلم هولها بما استقر في النفوس من أمرها ، فكذلك علم هنا إذا جاء
بصفتها التي تقتضي حلولها واقترابها.
وقوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) معناه : عند الحناجر ، أي قد صعدت من شدة الهول والجزع ،
وهذا أمر يحتمل أن يكون حقيقة يوم القيامة من انتقال قلوب البشر إلى حناجرهم وتبقى
حياتهم ، بخلاف الدنيا التي لا تبقى فيها لأحد مع تنقل قلبه حياة ، ويحتمل أن يكون
تجوزا عبر عما يجده الإنسان من الجزع وصعود نفسه وتضايق حنجرته بصعود القلب ، وهذا
كما تقول العرب : كادت نفسي أن تخرج ، وهذا المعنى يجده المفرط الجزع كالذي يقرب
للقتل ونحو.
وقوله : (كاظِمِينَ) حال مما أبدل منه قوله : (إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَناجِرِ) أو مما تنضاف إليه القلوب ، لأن المراد إذ قلوب الناس لدى
حناجرهم ، وهذا كقوله تعالى : (تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] أراد
تشخص فيه أبصارهم ، والكاظم : الذي يرد غيظه وجزعه في صدره ، فمعنى الآية أنهم
يطمعون برد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم. ثم أخبرهم تعالى أن الظالمين ظلم
الكفر في تلك الحال ليس لهم حميم ، أي قريب يحتم لهم ويتعصب ، ولا لهم شفيع يطاع
فيهم ، وإن هم بعضهم بالشفاعة لبعض فهي شفاعة لا تقبل ، وقد روي أن بعض الكفرة
يقولون لإبليس يوم القيامة : اشفع لنا ، فيقوم ليشفع ، فتبدو منه أنتن ريح يؤذي
بها أهل المحشر ، ثم ينحصر ويكع ويخزى. و : (يُطاعُ) في موضع الصفة ل (شَفِيعٍ) ، لأن التقدير : ولا شفيع يطاع ، وموضع (يُطاعُ) يحتمل أن يكون خفضا حملا على اللفظ ، ويحتمل أن يكون رفعا
عطفا على الموضع قبل دخول (مِنْ).
قال القاضي أبو
محمد : وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ.
وقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) متصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] لأن
سرعة حسابه تعالى
للخلق إنما هي
بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكرة ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. وقالت فرقة
: (يَعْلَمُ) متصل بقوله : (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦] ،
وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية وكثرة الحائل. والخائنة :
مصدر كالخيانة ، ويحتمل في الآية أن يكون (خائِنَةَ) اسم فاعل ، كما تقول : ناظرة الأعين إذا خانت في نظرها.
وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات ، فمن ذلك كسر الجفون والغمز
بالعين أو النظرة التي تفهم معنى ، أو يريد بها صاحبها معنى ، ومن هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم حين جاءه عبد الله بن أبي سرح ليسلم بعد ردته بشفاعة عثمان
، فتلكأ عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم بايعه ، ثم قال عليهالسلام لأصحابه : «هلا قام إليه رجل حين تلكأت عليه فضرب عنقه؟» ،
فقالوا يا رسول الله : ألا أومأت إلينا؟ فقال عليهالسلام : «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين». وفي بعض الكتب
المنزلة من قول الله عزوجل : أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون.
وقال مجاهد : (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز. ثم قوى تعالى هذه الأخبار
بأنه يعلم ما تخفي الصدور مما لم يظهر على عين ولا غيرها ، ومثل المفسرون في هذه
الآية بنظر رجل إلى امرأة هي حرمة لغيره ، فقالوا (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : هي النظرة الثانية. (وَما تُخْفِي
الصُّدُورُ) : أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن المرء دفعها ، وهذا
المثال جزء من (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ).
ثم قدح في جهة
الأصنام ، فأعلم أنه لا رب غيره (يَقْضِي بِالْحَقِ) ، أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثل ، وينصف المظلوم من
الظالم إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل ، والأصنام لا تقضي بشيء ولا تنفذ أمرا. و
: (يَدْعُونَ) معناه : يعبدون.
وقرأ جمهور القراء
: «يدعون» بالياء على ذكر الغائب. وقرأ نافع بخلاف عنه. وأبو جعفر وشيبة: «تدعون»
بالتاء على معنى قل لهم يا محمد : والذين تدعون أنتم.
ثم ذكر تعالى
لنفسه صفتين بين عرو الأوثان عنهما وهي في جهة الله تعالى عبارة عن الإدراك على
إطلاقه ، ثم أحال كفار قريش وهم أصحاب الضمير في (يَسِيرُوا) على الاعتبار بالأمم القديمة التي كذبت أنبياءها فأهلكها
الله تعالى.
وقوله : (فَيَنْظُرُوا) يحتمل أن يجعل في موضع نصب جواب الاستفهام ، ويحتمل أن
يكون مجزوما عطفا على (يَسِيرُوا). و : (كَيْفَ) في قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) خبر (كانَ) مقدم ، وفي (كَيْفَ) ضمير ، وهذا مع أن تكون (كانَ) الناقصة. وأما إن جعلت تامة بمعنى حدث ووقع ، ف (كَيْفَ) ظرف ملغى لا ضمير فيه.
وقرأ ابن عامر
وحده : «أشد منكم» بالكاف ، وكذلك هي في مصاحف الشام ، وذلك على الخروج من غيبة
إلى الخطاب. وقرأ الباقون : «أشد منهم» وكذلك هي في سائر المصاحف ، وذلك أوفق
لتناسب ذكر الغيب.
والآثار في ذلك :
هي المباني والمآثر والصيت الدنياوي ، وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء. والواقي :
الساتر المانع ،
مأخوذ من الوقاية.
قوله عزوجل :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ(٢٢)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)
(٢٥)
قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى أخذه إياهم بذنوبهم وإن لم يكن لهم منه واق. ثم
ذكر تعالى أن السبب في إهلاكهم هو ما قريش عليه من أن جاءهم رسول من الله بينات من
المعجزات والبراهين فكفروا به ، وذكر أن الله تعالى أخذهم ، ووصف نفسه تعالى
بالقوة وشدة العقاب ، وهذا كله بيان في وعيد قريش.
ثم ابتدأ تعالى
قصة موسى عليهالسلام مع فرعون وملإه ، وهي قصة فيها للنبي صلىاللهعليهوسلم تسلية وأسوة ، وفيها لقريش والكفار به وعيد ومثال يخافون
منه أن يحل بهم ما حل بأولئك من النقمة ، وفيها للمؤمنين وعد ورجاء في النصر
والظفر وحمد عاقبة الصبر ، وآيات موسى عليهالسلام كثيرة عظمها ، والذي عرضه على جهة التحدي بالعصا واليد ،
ووقعت المعارضة في العصا وحدها ثم انفصلت القضية عن إيمان السحرة وغلبة الكافرين.
والسلطان : البرهان.
وقرأ عيسى بن عمر
: «سلطان» بضم اللام ، والناس على سكونها.
وخص تعالى (هامانَ وَقارُونَ) بالذكر تنبيها على مكانهما من الكفر ، ولكونهما أشهر رجال
فرعون ، وقيل إن قارون هذا ليس بقارون بني إسرائيل ، وقيل هو ذلك ، ولكنه كان
منقطعا إلى فرعون خادما مستعينا معه.
وقوله : (ساحِرٌ) أي في أمر العصا. و : (كَذَّابٌ) في قوله : إني رسول من الله.
ثم أخبر تعالى
عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من عند الله ، قال هؤلاء الثلاثة وأجمع
رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم ، وأن يستحي
النساء للخدمة والاسترقاق ، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل
ميلاد موسى ، ولكن هذا الأخير لم تتم فيه عزمة ، ولا أعانهم الله تعالى على شيء
منه. قال قتادة : هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود ، وسموا من ذكرنا من بني
إسرائيل أبناء ، كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها : هؤلاء
أبناء فلانة.
وقوله تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ) عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله
تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيه سعاية ، بل أضل الله سعيهم
وكيدهم.
قوله عزوجل :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)
(٢٨)
الظاهر من أمر
فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليهالسلام انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من
يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما ، في هذه الآية على
ذلك دليلان ، أحدهما قوله : (ذَرُونِي) فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم.
والدليل الثاني : مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته ،
وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره. وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة
والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي إني لا أبالي عن رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم
النصيحة والحماية لهم فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ). والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :
لئن حللت بجوّ
من بني أسد
|
|
في دين عمرو
وحالت بيننا فدك
|
وقرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «وأن». وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : «أو أن» ، ورجحها
أبو عبيد بزيادة الحرف ، فعلى الأولى خاف أمرين ، وعلى الثانية : خاف أحد أمرين.
وقرأ نافع وأبو
عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك
بن أنس : «يظهر» بضم الياء وكسر الهاء. «الفساد» نصيبا. وقرأ ابن كثير وابن عامر :
«يظهر» بفتح الياء والهاء «الفساد» بالرفع على إسناد الفعل إليه ، وهي قراءة حمزة
والكسائي وأبي بكر عن عاصم والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب. وروي عن الأعمش أنه
قرأ : «ويظهر في الأرض الفساد» برفع الراء. وفي مصحف ابن مسعود : «ويظهر» بفتح
الراء.
ولما سمع موسى عليهالسلام مقالة فرعون ـ لأنه كان معه في مجلس واحد ـ دعا وقال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر ببيان الذال. وقرأ
أبو عمرو وحمزة والكسائي : (عُذْتُ) بالإدغام ، واختلف عن نافع ، وفي مصحف أبي بن كعب : «عت» ،
على الإدغام في الخط ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر ، وخلد ثناءه
في الأمم ، سمعت أبي رضي الله عنه يقول : سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد
سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وأنشد [عدي بن
زيد] : [الطويل]
عن المرء لا
تسأل وسل عن قرينه
|
|
فكل قرين
بالمقارن مقتد
|
ماذا تريدون من
قوم قرنهم الله بنبيه صلىاللهعليهوسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل
مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في
المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله
عنه جرد سيفه بمكة وقال : والله لا عبد الله سرا بعد اليوم.
وقرأت فرقة : «رجل»
بسكون الجيم ، كعضد وعضد ، وسبع وسبع ، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في
هذا الرجل ، فقال السدي وغيره : كان من آل فرعون وأهله ، وكان يكتم إيمانه ، ف (يَكْتُمُ) على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير. وقال مقاتل : كان
ابن عم فرعون. وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون. (وقالت فرقة : لم يكن من أهل
فرعون). بل من بني إسرائيل ، وإنما المعنى : وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون ،
ففي الكلام تقديم وتأخير ، والأول أصح ، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم
بمثل هذا عند فرعون ، ويحتمل أن يكون من غير القبط ، ويقال فيه من آل فرعون ، إذ
كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه ، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى
برسول الله صلىاللهعليهوسلم : [الطويل]
فلا تبك ميتا
بعد ميت أجنه
|
|
علي وعباس وآل
أبي بكر
|
يعني المسلمين إذ
كانوا في طاعة أبي بكر الصديق.
وقوله : (أَنْ يَقُولَ) مفعول من أجله ، أي لأجل أن يقول : وجلح معهم هذا المؤمن
في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب ، وأراهم أنها
نصيحة ، وحذفت النون من : (يَكُ) تخفيفا على ما قال سيبويه وتشبيها بالنون في تفعلون
وتفعلان على مذهب المبرد ، وتشبيها بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي
الفارسي وقال : كأن الجازم دخل على «يكن» وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من
يقضي والواو من يدعو ، لأن خفتها على اللسان سواء.
واختلف المتأولون
في قوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ) فقال أبو عبيدة وغيره : (بَعْضُ) بمعنى كل ، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم : [البسيط]
قد يدرك المتأني
بعض حاجته
|
|
وقد يكون مع
المستعجل الزلل
|
وقال الزجاج : هو
إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر ، وليس فيه نفي إضافة الكل. وقالت فرقة ، أراد : يصبكم
بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كاف في هلاككم ، ويظهر إلي أن المعنى : يصبكم القسم
الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض ما يعد ، لأنه عليهالسلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقا
فالعذاب بعض ما وعد به. وقالت فرقة : أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض
عذاب الآخرة ، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك ، ثم
وعظهم هذا المؤمن بقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) قال السدي : معناه : مسرف بالقتل. وقال قتادة : مسرف
بالكفر.
قوله عزوجل :
(يا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ
إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ
سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي
آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ
قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ(٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ)
(٣٣)
قول هذا المؤمن : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال
ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم.
وقوله : (فِي الْأَرْضِ) يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم. ثم قررهم على من
هو الناصر لهم من بأس الله ، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون ، ولذلك استكان
هو ورجع يقول : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا
ما أَرى) كما تقول لمن لا تحكم له.
وقوله : (أُرِيكُمْ) من رأى قد عدي بالهمزة ، فللفعل مفعولان أحدهما الضمير في (أُرِيكُمْ) والآخر ما في قوله : (إِلَّا ما) وكأن الكلام أراكم ما أرى ، ثم أدخل في صدر الكلام (ما) النافية وقلب معناها ب (إِلَّا) الموجبة تخصيصا وتأكيدا للأمر ، وهذا كما تقول : قام زيد ،
فإذا قلت : ما قام إلا زيد أفدت تخصيصه وتأكيد أمره. و (أَرى) متعدية إلى مفعول واحد وهو الضمير الذي فيه العائد على (ما) ، تقديره : إلا ما أراه ، وحذف هذا المفعول من الصفة حسن
لطول الصلة.
وقرأ الجمهور : (الرَّشادِ) مصدر رشد ، وفي قراءة معاذ بن جبل : «سبيل الرشّاد» بشد
الشين. قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد
فهو كعباد من عبد. وقال النحاس : هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود. قال
أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله. ويبعد عندي هذا على معاذ رضي الله
عنه ، وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل.
واختلف الناس من
المراد بقوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) فقال جمهور المفسرين : هو المؤمن المذكور أولا ، قص الله
تعالى أقاويله إلى آخر الآيات. وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قديم ، وإنما أراد
تعالى ب (الَّذِي آمَنَ) موسى عليهالسلام ، واحتجت هذه الفرقة بقوة كلامه ، وأنه جلح معهم بالإيمان
وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ، ولم يكن كلام الأول إلا بملاينة لهم.
وقوله : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) مثل يوم من أيامهم ، لأن عذابهم لم يكن في يوم واحد ولا
عصر
واحد. و (الْأَحْزابِ) : المتحزبون على أنبياء الله تعالى ، و (مِثْلَ) الثاني بدل من الأول. والدأب : العادة.
وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي من نفسه أن يظلمهم هو عزوجل ، فالإرادة هنا على بابها ، لأن الظلم منه لا يقع البتة ،
وليس معنى الآية أن الله لا يريد ظلم بعض العباد لبعض ، والبرهان وقوعه ، ومحال أن
يقع ما لا يريده الله تعالى.
وقوله : (يَوْمَ التَّنادِ) معناه ينادي قوم قوما ويناديهم الآخرون. واختلف المتأولون
في (التَّنادِ) المشار إليه ، فقال قتادة : هو نداء أهل الجنة أهل النار (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] ،
ونداء أهل النار لهم : (أَفِيضُوا عَلَيْنا
مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠].
وقالت فرقة : بل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١].
وقال ابن عباس وغيره : هو التنادي الذي يكون بالناس عند النفخ في الصور نفخة الفزع
في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا ، وروي هذا
التأويل عن أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوسلم.
قال القاضي أبو
محمد : ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار
والعصاة ، ولها أجوبة بنداء وهي كثيرة منها ما ذكرناه ، ومنها «يا أهل النار خلود
لا موت» ، ومنها «يا أهل الجنة خلود لا موت» ، ومنها نداء أهل الغدرات والنداء (لَمَقْتُ اللهِ) [غافر : ١٠] ،
والنداء (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] إلى
غير ذلك.
وقرأت فرقة : «التناد»
بسكون الدال في الوصل ، وهذا على إجرائهم الوصل مجرى الوقف في غير ما موضع ، وقرأ
نافع وابن كثير : «التنادي» بالياء في الوصل والوقف وهذا على الأصل. وقرأ الباقون «التناد»
بغير ياء فيهما ، وروي ذلك عن نافع وابن كثير ، وحذفت الياء مع الألف واللام حملا
على حذفها مع معاقبها وهو التنوين. وقال سيبويه : حذفت الياء تخفيفا. وقرأ ابن
عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي : «التنادّ» بشد الدال ، وهذا معنى آخر ليس من
النداء ، بل هو من ند البعير إذا هرب ، وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه
الآية ، وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثا أن الله تعالى إذا طوى السماوات نزلت
ملائكة كل سماء فكانت صفا بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب ، فإذا
رأى العالم هول القيامة وأخرجت جهنم عنقها إلى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين إلى
كل جهة فتردهم الملائكة إلى المحشر خاسئين لا عاصم لهم ، قالت هذه الفرقة ، ومصداق
هذا الحديث في كتاب الله تعالى قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧]
وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]
وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [الرحمن : ٣٣].
وقوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) معناه : على بعض الأقاويل في التنادي تفرون هروبا من
المفزع وعلى بعضها تفرون مدبرين إلى النار. والعاصم : المنجي.
قوله عزوجل :
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ
حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ
يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ
وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ
جَبَّارٍ)
(٣٥)
قد قدمنا ذكر
الخلاف في هذه الأقوال كلها ، هل هي من قول مؤمني آل فرعون أو من قول موسى عليهالسلام. وقالت فرقة من المتأولين منهم الطبري : (يُوسُفُ) المذكور هو يوسف بن يعقوب صلى الله عليه. وقالت فرقة : بل
هو حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. و «البينات» التي جاء بها يوسف لم
تعين لنا حتى نقف على معجزاته. وروي عن وهب بن منبه أن فرعون موسى لقي يوسف ، وأن
هذا التقريع له كان. وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة
وأربعين سنة. وقالت فرقة : بل هو فرعون آخر.
وقوله : (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولاً) حكاية لرتبة قولهم لأنهم إنما أرادوا أن يجيء بعد هذا من
يدعي مثل ما ادعى ولم يقر أولئك قط برسالة الأول ولا الآخر ، ولا بأن الله يبعث الرسل
فحكى رتبة قولهم ، وجاءت عبارتهم مشنعة عليهم ، ولذلك قال بإثر هذا : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي كما صيركم من الكفر والضلالة في هذا الحد فنحو ذلك هو
إضلاله لصنعكم أهل السرف في الأمور وتعدي الطور والارتياب بالحقائق. وفي مصحف أبي
بن كعب وابن مسعود : «قلتم لن يبعث الله» ، ثم أنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في
قوم فرعون ، فكأنه أرادهم فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلابا ، فقال (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي بالإبطال لها والرد بغير برهان ولا حجة أتتهم من عند
الله كبر مقت جدالهم عند الله ، فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه ، ورد
الفاعل ب (كَبُرَ) نصيبا على التمييز كقولك : تفقأت شحما وتصببت عرقا. و : (يَطْبَعُ) معناه : يختم بالضلال ويحجب عن الهدى.
وقرأ أبو عمرو
وحده والأعرج بخلاف عنه «على كلّ قلب» بالتنوين «متكبرا» على الصفة. وقرأ الباقون
: «على كلّ قلب» بغير تنوين وبإضافته إلى «متكبر». قال أبو علي : المعنى يطبع الله
على القلوب إذ كانت قلبا قلبا من كل متكبر ، ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن
مسعود : «على قلب كل متكبر جبار».
قال القاضي أبو
محمد : ويتجه أن يكون المراد عموم قلب المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من
إيمان ولا مقاربة فهي عبارة عن شدة إظلامه.
قوله عزوجل :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ
مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ
وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ
(٣٧) وَقالَ
الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨)
يا
قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ
الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها
بِغَيْرِ حِسابٍ)
(٤٠)
ذكر الله عزوجل مقالة فرعون حين أعيته الحيل في مقاومة موسى عليهالسلام بحجة ، وظهر لجميع المشاهدين أن ما يدعو إليه موسى من
عبادة إله السماء حق ، فنادى فرعون هامان وهو وزيره والناظر في أموره ، فأمره أن
يبني له بناء عاليا نحو السماء. و «الصرح» كل بناء عظيم شنيع القدر ، مأخوذ من
الظهور والصراحة ، ومنه قولهم : صريح النسب ، وصرح بقوله ، فيروى أن هامان طبخ
الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله ، وبناه ارتفاع مائة ذراع فبعث الله جبريل فمسحه
بجناحه فكسره ثلاث كسر ، تفرقت اثنتان ووقعت ثالثة في البحر. وروي أن هامان لم يكن
من القبط ، وقيل : كان منهم. و : (الْأَسْبابَ) الطرق ، قاله السدي. وقال قتادة : أراد الأبواب وقيل : عنى
لعله يجد مع قربه من السماء سببا يتعلق به.
وقرأ الجمهور : «فأطلع»
بالرفع عطفا على «أبلغ» ، وقرأ حفص عن عاصم والأعرج : «فأطلع» بالنصب بالفاء في
جواب التمني.
ولما قال فرعون
بمحضر من ملإه (فَأَطَّلِعَ إِلى
إِلهِ مُوسى) اقتضى كلامه الإقرار ب (إِلهِ مُوسى) ، فاستدرك ذلك استدراكا قلقا بقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) ، ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ) أي إنه كما تخرق فرعون في بناء الصرح والأخذ في هذه الفنون
المقصرة كذلك جرى جميع أمره. و : (زُيِّنَ) أي زين الشيطان سوء عمله في كل أفعاله.
وقرأ الجمهور : «وصد
عن السبيل» بفتح الصاد بإسناد الفعل إلى فرعون. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وجماعة :
«وصدّ» بضم الصاد وفتح الدال المشددة عطفا على (زُيِّنَ) وحملا عليه ، وقرأ يحيى بن وثاب : «وصد» بكسر الصاد على معنى
صد ، أصله : صدد ، فنقلت الحركة ثم أدغمت الدال في الدال. وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد
الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد ورفع الدال المشددة وتنوينها عطفا على قوله : (سُوءُ عَمَلِهِ).
و : (السَّبِيلِ) سبيل الشرع والإيمان و «التباب» : الخسران ، ومنه : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] وبه
فسر مجاهد وقتادة. وتب فرعون ظاهر ، لأنه خسر ماله في الصرح وغيره ، وخسر ملكه
وخسر نفسه وخلد في جهنم ، ثم وعظ الذي آمن فدعا إلى اتباع أمر الله.
وقوله : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ) يقوي أن المتكلم موسى ، وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك ،
أي
اتبعوني في اتباعي
موسى ، ثم زهد في الدنيا وأخبر أنه شيء يتمتع به قليلا ، ورغب في الآخرة إذ هي دار
الاستقرار.
وقرأ نافع وابن
عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو رجاء وشيبة والأعمش : «يدخلون» بفتح الياء
وضم الخاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر
وعيسى : «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء.
قوله عزوجل :
(وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)
تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ
إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
(٤٢) لا
جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا
فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما
أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ)
(٤٥)
قد تقدم ذكر
الخلاف هل هذه المقالة لموسى أو لمؤمن آل فرعون. والدعاء إلى طاعة الله وعبادته
وتوحيده هو الدعاء إلى سبب النجاة فجعله دعاء إلى النجاة اختصارا واقتضابا ، وكذلك
دعاؤهم إياه إلى الكفر واتباع دينهم : هو دعاء إلى سبب دخول النار ، فجعله دعاء
إلى النار اختصارا ، ثم بين عليهم ما بين الدعوتين من البون في أن الواحدة شرك
وكفر ، والأخرى دعوة إلى الإسناد إلى عزة الله وغفرانه.
وقوله : (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ليس معناه أني جاهل به ، بل معناه العلم بأن الأوثان
وفرعون وغيره ليس لهم مدخل في الألوهية ، وليس لأحد من البشر علم بوجه من وجوه
النظر بأن لهم في الألوهية مدخلا ، بل العلم اليقين بغير ذلك من حدوثهم متحصل ، و
: (لا جَرَمَ) مذهب سيبويه والخليل أنها (لا) النافية دخلت على (جَرَمَ) ، ومعنى : (جَرَمَ) ثبت ووجب ، ومن ذلك جرم بمعنى كسب ، ومنه قول الشاعر [أبو
اسماء بن الضريبة] : [الكامل]
ولقد طعنت أبا
عيينة طعنة
|
|
جرمت فزارة
بعدها من أن يغضبوا
|
أي أوجبت لهم ذلك
وثبتته لهم ، فكأن الكلام نفي للكلام المردود عليه ب (لا) ، وإثبات للمستأنف ب (جَرَمَ) و «أن» على هذا
النظر في موضع رفع ب (جَرَمَ) ، وكذلك (أَنَ) الثانية والثالثة ، ومذهب جماعة من أهل اللسان أن (لا جَرَمَ) بمعنى لا بد ولا محالة ، ف (أَنَ) على هذا النظر في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، أي لا محالة
بأن ما. و «ما» بمعنى الذي واقعة على الأصنام وما عبدوه من دون الله.
وقوله : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) أي قدر وحق يجب أن يدعى أحد إليه ، فكأنه تدعونني إلى ما
لا غناء له وبين أيدينا خطب جليل من الرد إلى الله. وأهل الإسراف والشرك : هم
أصحاب النار بالخلود فيها
والملازمة ، أي
فكيف أطيعكم مع هذه الأمور الحقائق ، في طاعتكم رفض العمل بحسبها والخوف. قال ابن
مسعود ومجاهد : المسرفون : سفاكو الدماء بغير حلها. وقال قتادة : هم المشركون. ثم
توعدهم بأنهم سيذكرون قوله عند حلول العذاب بهم ، وسوف بالسين ، إذ الأمر محتمل أن
يخرج الوعيد في الدنيا أو في الآخرة ، وهذا تأويل ابن زيد. وروى اليزيدي وغيره عن
أبي عمرو فتح الياء من : «أمري» ، والضمير في: (فَوَقاهُ) يحتمل أن يعود على موسى ، ويحتمل أن يعود على مؤمن آل
فرعون ، وقال قائلو ذلك : إن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليهالسلام في البحر ، وفر في جملة من فر معه من المتبعين.
وقرأ عاصم : (فَوَقاهُ اللهُ) بالإمالة.
(وَحاقَ) معناه : نزل ، وهي مستعملة في المكروه. و : (سُوءُ الْعَذابِ) الغرق وما بعده من النار وعذابها.
قوله عزوجل :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ(٤٦)
وَإِذْ
يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ
(٤٧)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ
الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ
تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)
(٥٠)
قوله : (النَّارُ) رفع على البدل من قوله : (سُوءُ) [غافر : ٤٥].
وقالت فرقة : (النَّارُ) رفع بالابتداء وخبره : (يُعْرَضُونَ). وقالت فرقة : هذا الغدو والعشي هو في الدنيا ، أي في كل
غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار. وروي في ذلك عن الهزيل بن
شرحبيل والسدي : أن أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم وتغدو إلى النار ، وقاله
الأوزاعي حين قال له رجل : إني رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سودا
مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها
وتسود بالعرض على النار. وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : أراد أنهم يعرضون في
الآخرة على النار على تقدير ما بين الغدو والعشي ، إذ لا غدو ولا عشي في الآخرة ،
وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) يحتمل أن يكون (يَوْمَ) عطفا على (عَشِيًّا) ، والعامل فيه (يُعْرَضُونَ) ، ويحتمل أن يكون كلاما مقطوعا والعامل في : (يَوْمَ أَدْخِلُوا) ، والتقدير : على كل قول يقال ادخلوا.
وقرأ نافع وحمزة
والكسائي وحفص عن عاصم والأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة : «أدخلوا»
بقطع الألف. وقرأ علي بن أبي طالب وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم والحسن
وقتادة : «ادخلوا» بصلة الألف على الأمر ل (آلَ فِرْعَوْنَ) على هذه القراءة منادى مضاف. و : (أَشَدَّ) نصب على ظرفية.
والضمير في قوله :
(يَتَحاجُّونَ) لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون ،
والعامل في (إِذْ) ، فعل مضمر تقديره : واذكر. قال الطبري : (وَإِذْ) هذه عطف على قوله : (إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَناجِرِ) [غافر : ١٨] وهذا
بعيد.
قال القاضي أبو
محمد : والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة.
و : (الضُّعَفاءُ) يريد في القدر والمنزلة في الدنيا. و : (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) هم أشراف الكفار وكبراؤهم ، ولم يصفهم بالكبر إلا من حيث
استكبروا ، لأنهم من أنفسهم كبراء ، ولو كانوا كذلك في أنفسهم لكانت صفتهم الكبر
أو نحوه مما يوجب الصفة لهم. و «تبع» : قيل هو جمع واحده تابع ، كغائب وغيب ، وقيل
هو مفرد يوصف به الجمع ، كعدل وزور وغيره.
وقوله : (مُغْنُونَ عَنَّا) أي يحملون عنا كله ومشقته ، فأخبرهم المستكبرون أن الأمر
قد انجزم بحصول الكل منهم فيها وأن حكم الله تعالى قد استمر بذلك.
وقوله : (كُلٌّ فِيها) ابتداء وخبر ، والجملة موضع خبر «إن».
وقرأ ابن السميفع
: «إنا كلّا» ، بالنصب على التأكيد.
ثم قال جميع من في
النار لخزنتها وزبانيتها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) عسى أن يخفف عنا مقدار يوم من أيام الدنيا من العذاب ،
فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ لهم. والتقرير : (أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) فأقر الكفار عند ذلك وقالوا (بَلى) ، أي قد كان ذلك ، فقال لهم الخزنة عند ذلك : فادعوا أنتم
إذا ، وعلى هذا معنى الهزء بهم ، فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائهم.
وقالت فرقة : (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) هو من قول الخزنة. وقالت فرقة : هو من قول الله تعالى
إخبارا منه لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وجاءت هذه الأفعال على صيغة المضي ، قال الناس الذين
استكبروا وقال للذين في النار ، لأنها وصف حال متيقنة الوقوع فحسن ذلك فيها.
قوله عزوجل :
(إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ
فِي
آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما
هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
(٥٦)
أخبر الله تعالى
أنه ينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، قال بعض المفسرين : وهذا
خاص فيمن أظهره الله على أمته كنوح وموسى ومحمد وليس بعام ، لأنا نجد من الأنبياء
من قتله قومه كيحيى ولم ينصر عليهم ، وقال السدي : الخبر عام على وجهه ، وذلك أن
نصرة الرسل واقعة ولا بد ، إما في حياة الرسول المنصور كنوح وموسى ، وإما فيما
يأتي من الزمان بعد موته ، ألا ترى إلى ما صنع الله ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى
من تسليط بختنصر عليهم حتى انتصر ليحيى ، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل ، وأيضا
فقد جعل الله للمؤمنين الفضلاء ودا ووهبهم نصرا إذ ظلموا وحضت الشريعة على نصرهم ،
ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «من رد عن أخيه المسلم في عرضه ، كان حقا على الله أن
يرد عنه نار جهنم» ، وقوله عليهالسلام : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله ملكا يحميه
يوم القيامة».
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) يريد يوم القيامة.
وقرأ الأعرج وأبو
عمرو بخلاف «تقوم» بالتاء. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة : «يقوم» بالياء. و (الْأَشْهادُ) : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب. وقالت فرقة : أشهاد : جمع شهيد
، كشريف وأشراف.
و : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من الأول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وعيسى وأهل
مكة «لا تنفع» بالتاء من فوق. وقرأ الباقون : «لا ينفع» بالياء ، وهي قراءة جعفر
وطلحة وعاصم وأبي رجاء ، وهذا لأن تأنيث المعذرة غير حقيقي ، وأن الحائل قد وقع ،
والمعذرة : مصدر يقع كالعذر. و : (اللَّعْنَةُ): الإبعاد. و : (سُوءُ الدَّارِ) فيه حذف مضاف تقديره : سوء عاقبة الدار.
ثم أخبر تعالى
بقصة موسى وما أتاه من النبوة تأنيسا لمحمد عليهالسلام ، وضرب أسوة وتذكيرا لما كانت العرب تعرفه من أمر موسى ،
فيبين ذلك أن محمدا ليس ببدع من الرسل. و : (الْهُدى) النبوة والحكمة ، والتوراة تعم جميع ذلك.
وقوله : (وَأَوْرَثْنا) عبر عن ذلك بالوراثة إذ كانت طائفة بني إسرائيل قرنا بعد
قرن تصير فيهم التوراة إماما ، فكان بعضهم يرثها عن بعض وتجيء التوراة في حق الصدر
الأول منهم على تجوز. و : (الْكِتابَ) التوراة. ثم أمر نبيه عليهالسلام بالصبر وانتظار إنجاز الوعد أي فستكون عاقبة أمرك كعاقبة
أمره. وقال الكلبي : نسخت آية القتال الصبر حيث وقع.
وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) يحتمل أن يكون ذلك قبل إعلام الله إياه إنه قد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر ، لأن آية هذه السورة مكية ، وآية سورة الفتح مدنية متأخرة
، ويحتمل أن يكون الخطاب في هذه الآية له والمراد أمته ، أي إنه إذا أمر هو بهذا
فغيره أحرى بامتثاله. (وَالْإِبْكارِ) والبكر: بمعنى واحد. وقال الطبري : (الْإِبْكارِ) من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وحكي عن قوم أنه من
طلوع الشمس
إلى ارتفاع الضحى.
وقال الحسن : (بِالْعَشِيِ) ، يريد صلاة العصر (وَالْإِبْكارِ) : يريد به صلاة الصبح.
ثم أخبر تعالى عن
أولئك الكفار الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان وهم يريدون بذلك
طمسها والرد في وجهها أنهم ليسوا على شيء ، بل في صدورهم وضمائرهم كبر وأنفة عليك
حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله ، ثم نفى أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك
الكبر فقال : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) وهنا حذف مضاف تقديره : ببالغي إرادتهم فيه ، وفي هذا
النفي الذي تضمن أنهم لا يبلغون أملا تأنيس لمحمد عليهالسلام. ثم أمره تعالى الاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ
منه ، لأن الله يسمع أقواله وأقوال مخالفيه ، وهو بصير بمقاصدهم ونياتهم ، ويجازي
كلّا بما يستوجبه ، (والمقصد بأن يستعاذ منه عند قوم الكبر المذكور) ، كأنه قال :
هؤلاء لهم كبر لا يبغون منه أملا ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من حالهم. وذكر الثعلبي : أن هذه الاستعاذة هي من الدجال
وفتنته ، والأظهر ما قدمناه من العموم في كل مستعاذ منه.
قوله عزوجل :
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا
الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ
(٥٨) إِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)
(٦٠)
قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ
مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) توبيخ لهؤلاء الكفرة المتكبرين ، كأنه قال : مخلوقات الله
أكبر وأجل قدرا من خلق البشر ، فما لأحد منهم يتكبر على خالقه ، ويحتمل أن يكون
الكلام في معنى البعث والإعادة ، فأعلم أن الذي خلق السماوات والأرض قوي قادر على
خلق الناس تارة أخرى. والخلق على هذا التأويل مصدر مضاف إلى المفعول. وقال النقاش
: المعنى مما يخلق الناس ، إذ هم في الحقيقة لا يخلقون شيئا ، فالخلق في قوله : (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) مضاف إلى الفاعل على هذا التأويل.
وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يقتضي أن الأقل منهم يعلم ذلك ، ولذلك مثل الأكثر الجاهل: ب
(الْأَعْمى) ، والأقل العالم : ب (الْبَصِيرُ) ، وجعل : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعادلهم قوله : (وَلَا الْمُسِيءُ) وهو اسم جنس يعم المسيئين ، وأخبر تعالى أن هؤلاء لا
يستوون ، فكذلك الأكثر الجهلاء من الناس لا يستوون مع الأقل الذين يعلمون.
وقرأ أكثر القراء
والأعرج وأبو جعفر وشيبة والحسن : «يتذكرون» بالياء على الكناية عن الغائب. وقرأ
عاصم وحمزة والكسائي وقتادة وطلحة وعيسى وأبو عبد الرحمن : «تتذكرون» بالتاء من
فوق على المخاطبة.
والمعنى : قل لهم
يا محمد. ثم جزم الإخبار بأن الساعة آتية ، وهي القيامة المتضمنة للبعث من القبور
والحساب بين يدي الله تعالى ، واقتران الجمع إلى الجنة وإلى النار.
وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيها) ، أي في نفسها وذاتها ، وإن وجد من العالم من يرتاب فيها
فليست فيها في نفسها ريبة.
وقوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم بالإجابة عند الدعاء ، وهذا الوعد مقيد بشرط المشيئة لمن
شاء تعالى ، لا أن الاستجابة عليه حتم لكل داع ، لا سيما لمن تعدى في دعائه ، فقد
عاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعاء الذي قال : اللهم أعطني القصر الأبيض الذي عن يمين
الجنة. وقالت فرقة : معنى : (ادْعُونِي) و (أَسْتَجِبْ) ، معناه : بالثواب والنصر ، ويدل على هذا التأويل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِي) ويحتج له لحديث النعمان بن بشير أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الدعاء هو العبادة» وقرأ هذه الآية. وقال ابن عباس
: المعنى : وحدوني أغفر لكم. وقيل للثوري : ادع الله ، فقال : إن ترك الذنوب هو
الدعاء.
وقرأ ابن كثير
وأبو جعفر : «سيدخلون» بضم الياء وفتح الخاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر
والحسن وشيبة : بفتح الياء وضم الخاء ، واختلف عن أبي عمرو وعن عاصم. والداخر : هو
الصاغر الذليل.
قوله عزوجل :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ
اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)
(٦٤)
هذا تنبيه من الله
تعالى على آيات وعبر ، متى تأملها العاقل أدته إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته.
وقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مجازه يبصر فيه ، كما تقول : نهار صائم ، وليل قائم.
وقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوق ، وما يستحيل أن يكون مخلوقا كالقرآن والصفات فليس
يدخل في هذا العموم ، وهذا كما قال تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ) [الأحقاف : ٢٥]
معناه كل شيء مبعوث لتدميره.
وقرأت فرقة : «تؤفكون»
بالتاء ، وقرأت فرقة : «يؤفكون» بالياء ، والمعنى في القراءة الأولى قل لهم.
و : (تُؤْفَكُونَ) معناه : تصرفون على طريق النظر والهدى ، وهذا تقرير بمعنى
التوبيخ والتقريع ، ثم قال لنبيه : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار
الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة على طريق الهدى ، ثم بين تعالى نعمته في أن
جعل (الْأَرْضَ قَراراً) ومهادا للعباد ، (وَالسَّماءَ بِناءً) وسقفا.
وقرأ الناس : «صوركم»
بضم الصاد. وقرأ أبو رزين : «صوركم» بكسر الصاد. وقرأت فرقة : «صوركم» بكسر الواو
على نحو بسرة وبسر.
وقوله تعالى : (مِنَ الطَّيِّباتِ) يريد من المستلذات طعما ولباسا ومكاسب وغير ذلك ، ومتى جاء
ذكر (الطَّيِّباتِ) بقرينة (رَزَقَكُمْ) ونحو فهو المستلذ ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما
قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢]
وكما قال : (وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ) [الأعراف : ١٥٧]
والطيبات في مثل هذا : الحلال ، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمهالله في الطيبات والخبائث ، وقول الشافعي رحمهالله : إن الطيبات هي المستلذات ، والخبائث ، هي المستقذرات
ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها ، وأما حيث وقعت
الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر ، لا سيما هذه الآية
التي هي مخاطبة لكفار ، فإنما عددت عليهم النعمة التي يعتقدونها نعمة ، وباقي
الآية بين.
قوله عزوجل :
(هُوَ الْحَيُّ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(٦٧)
لما سددت الآيات
صفات الله تعالى التي تبين فساد حال الأصنام كان من أبينها أن الأصنام موات جماد ،
وأنه عزوجل الحي القيوم ، وصدور الأمور من لدنه ، وإيجاد الأشياء
وتدبير الأمر دليل قاطع على أنه حي لا إله إلا هو.
وقوله : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ،
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كلام متصل مقتضاه : ادعوه مخلصين بالجهد ، وبهذه الألفاظ
قال ابن عباس : من قال لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وقال نحو هذا سعيد بن جبير ثم قرأ هذه الآية.
ثم أمر الله تعالى
نبيه عليهالسلام أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من
دون
الله ، ووقع النهي
لما جاءه الوحي والهدي من ربه تعالى. وأمر بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.
وقوله: (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن استسلم لرب العالمين واخضع له بالطاعة.
ثم بين تعالى أمر
الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه ، فأوله خلق آدم عليهالسلام من تراب من طين لازب ، فجعل البشر من التراب كما كان منسلا
من المخلوق من التراب. وقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى التناسل
من آدم فمن بعده. والنطفة : الماء الذي خلق المرء منه. والعلقة : الدم الذي يصير
من النطفة. والطفل هنا : اسم جنس. وبلوغ الأشد : اختلف فيه : فقيل ثلاثون ، وقيل
ستة وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل ستة وأربعون ، وقيل عشرون ، وقيل ثمانية عشر ،
وقيل خمسة عشر ، وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد.
وقوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها ، فمن الناس من يموت
قبل أن يخرج طفلا ، وآخرون قبل الأشد ، وآخرون قبل الشيخوخة.
وقوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلا
مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ولتكون معتبرا. (وَلَعَلَّكُمْ) أيها البشر (تَعْقِلُونَ) الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى.
قوله عزوجل :
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ
(٦٩)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ
فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ
قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ
يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)
(٧٤)
قوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً) عبارة عن إنقاذ الإيجاد ، وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد
الموجودات هو بالقدرة ، واقتران الأمر بذلك : هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات
وإظهار للقدرة بإيجاده ، والأمر للموجد إنما يكون في حين تلبس القدرة بإيجاده لا
قبل ذلك ، لأنه حينئذ لا يخاطب في معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك ، لأن ما هو
كائن لا يقال له (كُنْ).
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) ظاهر الآية أنها في الكفار المجادلين في رسالة محمد
والكتاب الذي جاء به بدليل قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتابِ). وهذا قول ابن زيد والجمهور من المفسرين. وقال محمد بن
سيرين وغيره ، قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة ، وروت هذه الفرقة في
نحو هذا حديثا وقالوا
هي في أهل القدر
ومن جرى مجراهم ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعلوا قوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا) كلاما مقطوعا مستأنفا في الكفار. (الَّذِينَ) ابتداء وخبره : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، ويحتمل أن يكون خبر الابتداء محذوفا والفاء متعلقة به.
وقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ) يعني يوم القيامة ، والعامل في الظرف (يَعْلَمُونَ) وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال إلا في الماضي ، وذلك
لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده بالإخراج في صيغة المضي ، وهذا كثير في القرآن كما
قال تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦]
قال الحسن بن أبي الحسن : لم تجعل السلاسل في أعناق أهل النار ، لأنهم أعجزوا الرب
، لكن لترسبهم إذا أطفاهم اللهب.
وقرأ جمهور الناس
: «والسلاسل» عطفا على (الْأَغْلالُ). وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «والسلاسل» بالنصب «يسحبون»
بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم وإيقاع الفعل على «السلاسل». وقرأت فرقة «والسلاسل»
بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فعطف على المراد من الكلام لا
على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في
رأسي. وفي مصحف أبي بن كعب : «وفي السلاسل يسحبون». و : (يُسْحَبُونَ) معناه يجرون ، والسحب الجر. و (الْحَمِيمِ) : الذائب الشديد الحر من النار ، ومنه يقال للماء السخن :
حميم. و : (يُسْجَرُونَ) قال مجاهد معناه : توقد النار بهم ، والعرب تقول : سجرت
التنور إذا ملأتها. وقال السدي : (يُسْجَرُونَ) يحرقون.
ثم أخبر تعالى
أنهم يوقفون يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع ، فيقال لهم أين الأصنام التي
كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون : (ضَلُّوا عَنَّا) أي تلفوا لنا وغابوا واضمحلوا ، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون
إلى الكذب فيقولون : (بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد في الدهر والنظر فقال
الله تعالى لنبيه : (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ الْكافِرِينَ) أي كهذه الصفة المذكورة وبهذا الترتيب.
قوله عزوجل :
(ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ
(٧٧)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ
وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)
(٧٨)
المعنى يقال
للكفار المعذبين (ذلِكُمْ) العذاب الذي أنتم فيه (بِما كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ) في الدنيا
بالمعاصي والكفر. و
: (تَمْرَحُونَ) قال مجاهد معناه : الأشر والبطر. وقال ابن عباس : الفخر
والخيلاء.
وقوله تعالى : (ادْخُلُوا) معناه : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر (ادْخُلُوا) ، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم وفي الوقت الذي فيه
الأغلال في أعناقهم. و : (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة. والمثوى :
موضع الإقامة.
ثم أنس تعالى نبيه
ووعده بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي في نصرك وإظهار أمرك ، فإن ذلك أمر إما أن ترى بعضه في
حياتك فتقر عينك به ، وإما أن تموت قبل ذلك فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون.
وقرأ الجمهور : «يرجعون»
بضم الياء. وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب «يرجعون» بفتح الياء. وقرأ طلحة بن مصرف
ويعقوب في رواية الوليد بن حسان : بفتح التاء منقوطة من فوق.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ) الآية رد على العرب الذين قالوا : إن الله لا يبعث بشرا
رسولا واستبعدوا ذلك.
وقوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا) قال النقاش : هم أربعة وعشرون.
وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) روي من طريق أنس بن مالك عن النبي عليهالسلام أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول. وروي عن سلمان عن
النبي عليهالسلام قال : بعث الله أربعة آلاف نبي. وروي عن ابن عباس وعلي بن
أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال : بعث الله رسولا من الحبشة أسود ، وهو الذي يقص
على محمد.
قال القاضي أبو
محمد : وهذا إنما ساقه على أن هذا الحبشي مثال لمن لم يقص ، لا أنه هو المقصود
وحده ، فإن هذا بعيد.
وقوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) رد على قريش في إنكارهم أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى. والإذن يتضمن علما
وتمكينا. فإذا اقترن به أمر قوي كما هو في إرسال النبي ، ثم قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى ذلك وأنفذه بالحق
، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته ، وتحتمل الآية معنى آخر ، وهو أن يريد ب (أَمْرُ اللهِ) القيامة ، فتكون الآية توعدا لهم بالآخرة.
قوله عزوجل :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَأَيَّ
آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
(٨٢)
هذه آيات عبر
وتعديد نعم. و : (الْأَنْعامَ) الأزواج الثمانية. ع و : (مِنْها) الأولى للتبعيض ، لأن المركوب ليس كل الأنعام ، بل الإبل
خاصة. (وَمِنْها) الثانية لبيان
الجنس ، لأن الجميع منها يؤكل. وقال الطبري في هذه الآية : إن (الْأَنْعامَ) تعم الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وغير ذلك
مما ينتفع به في البهائم ، ف (مِنْها) في الموضعين للتبعيض على هذا ، لكنه قول ضعيف ، وإنما
الأنعام : الأزواج الثمانية التي ذكر الله فقط. ثم ذكر تعالى المنافع ذكرا مجملا ،
لأنها أكثر من أن تحصى.
وقوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي
صُدُورِكُمْ) يريد قطع المهامة الطويلة والمشاق البعيدة.
و : (الْفُلْكِ) السفن ، وهو هنا جمع. و : (تُحْمَلُونَ) يريد : برا وبحرا. وكرر الحمل عليها ، وقد تقدم ذكر ركوبها
لأن المعنى مختلف وفي الأمرين تغاير ، وذلك أن الركوب هو المتعارف فيما قرب
واستعمل في القرى والمواطن نظير الأكل منها وسائر المنافع بها ، ثم خصص بعد ذلك
السفر الأطول وحوائج الصدور مع البعد والنوى ، وهذا هو الحمل الذي قرنه بشبيهه من
أمر السفن. ثم ذكر تعالى آياته عامة جامعة لكل عبرة وموضع نظر ، وهذا غير منحصر
لاتساعه ، ولأن في كل شيء له آية تدل على وحدانيته ، ثم قررهم على جهة التوبيخ
بقوله : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ
تُنْكِرُونَ). ثم احتج تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من
نقمات الله في الكفرة الذين (كانُوا أَكْثَرَ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) أبدان وممالك ، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش
والعرب ، فلم يغن عنهم كسبهم ولا حالهم شيئا حين جاءهم عذاب الله وأخذه. و «ما» في
قوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) نافية. قال الطبري : وقيل هي تقرير وتوقيف.
قوله عزوجل :
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)
(٨٥)
الضمير في : (جاءَتْهُمْ) عائد على الأمم المذكورين الذين جعلوا مثلا وعبرة. واختلف
المفسرون في الضمير في : (فَرِحُوا) على من يعود ، فقال مجاهد وغيره : هو عائد على الأمم
المذكورين ، أي بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا
يحاسبون. قال ابن زيد : واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعايش ، وظنوا أنه لا آخرة
ففرحوا ، وهذا كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم : ٧] وقالت
فرقة : الضمير في (فَرِحُوا) عائد على الرسل ، وفي هذا الرسل حذف ، وتقديره : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) كذبوهم ، ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به ،
وبأنه
سينصرهم. (وَحاقَ) معناه : نزل وثبت ، وهي مستعملة في الشر. و (ما) في قوله : (ما كانُوا) هو العذاب الذي كانوا يكذبون به ويستهزئون بأمره ، والضمير
في (بِهِمْ) عائد على الكفار بلا خلاف. ثم حكى حالة بعضهم ممن آمن بعد
تلبس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك ، وفي ذكر هذا حض للعرب على المبادرة وتخويف من
التأني لئلا يدركهم عذاب لا تنفعهم توبة بعد تلبسه بهم. وأما قصة قوم يونس فرأوا
العذاب ولم يكن تلبس بهم ، وقد مر تفسيرها مستقصى في سورة يونس عليهالسلام. و : (سُنَّتَ اللهِ) نصب على المصدر. و : (خَلَتْ) معناه : مضت واستمرت وصارت عادة.
وقوله : (هُنالِكَ) إشارة إلى أوقات العذاب ، أي ظهر خسرانهم وحضر جزاء كفرهم.
فهرس
الجزء الرابع
من المحرر الوجيز
فهرس
المحتويات
تفسير سورة مريم
|
|
الآيات : ٩ ـ ١٤
|
٣٨
|
الآيات : ١ ـ ٦
|
٣
|
الآيات : ١٥ ـ ١٨
|
٣٩
|
الآيات : ٧ ـ ١١
|
٦
|
الآيات : ١٩ ـ ٣٥
|
٤١
|
الآيات : ١٢ ـ ١٥
|
٧
|
الآيات : ٣٦ ـ ٣٩
|
٤٣
|
الآيات : ١٦ ـ ٢٠
|
٨
|
الآيات : ٤٠ ـ ٤٦
|
٤٥
|
الآيات : ٢١ ـ ٢٣
|
٩
|
الآيات : ٤٧ ـ ٤٩
|
٤٦
|
الآيات : ٢٤ ـ ٢٦
|
١١
|
الآيات : ٥٠ ـ ٥٢
|
٤٧
|
الآيتان : ٢٧ ،
٢٨
|
١٣
|
الآيات : ٥٣ ـ ٥٩
|
٤٨
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٣
|
١٤
|
الآيات : ٦٠ ـ ٦٤
|
٤٩
|
الآيات : ٣٤ ـ ٣٦
|
١٥
|
الآيات : ٦٥ ـ ٦٩
|
٥١
|
الآيات : ٣٧ ـ ٤٠
|
١٦
|
الآيتان : ٧٠ ،
٧١
|
٥٢
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٦
|
١٧
|
الآيات : ٧٢ ـ ٧٦
|
٥٣
|
الآيات : ٤٧ ـ ٥٠
|
١٩
|
الآيات : ٧٧ ـ ٧٩
|
٥٤
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٥
|
٢٠
|
الآيات : ٨٠ ـ ٨٢
|
٥٥
|
الآيات : ٥٦ ـ ٥٨
|
٢١
|
الآيات : ٨٣ ـ ٨٥
|
٥٧
|
الآيات : ٥٩ ـ ٦٣
|
٢٢
|
الآيتان : ٨٦ ،
٨٧
|
٥٨
|
الآيتان : ٦٤ ،
٦٥
|
٢٣
|
الآيات : ٨٨ ـ ٩١
|
٥٩
|
الآيات : ٦٦ ـ ٦٩
|
٢٥
|
الآيات : ٩٢ ـ ٩٤
|
٦٠
|
الآيات : ٧٠ ـ ٧٢
|
٢٦
|
الآيات : ٩٥ ـ ٩٧
|
٦١
|
الآيتان : ٧٣ ،
٧٤
|
٢٨
|
الآيات : ٩٨ ـ ١٠٢
|
٦٣
|
الآيات : ٧٥ ـ ٨٠
|
٢٩
|
الآيات : ١٠٣ ـ ١١١
|
٦٤
|
الآيات : ٨١ ـ ٨٧
|
٣١
|
الآيات : ١١٢ ـ ١١٤
|
٦٥
|
الآيات : ٨٨ ـ ٩٦
|
٣٣
|
الآيات : ١١٥ ـ ١١٧
|
٦٦
|
الآيتان : ٩٧ ،
٩٨
|
٣٤
|
الآيات : ١١٨ ـ ١٢١
|
٦٧
|
تفسير سورة طه
|
|
الآيات : ١٢٢ ـ ١٢٦
|
٦٨
|
الآيات : ١ ـ ٨
|
٣٦
|
الآيات : ١٢٧ ـ ١٣٠
|
٦٩
|
|
|
الآيات : ١٣١ ـ ١٣٣
|
٧٠
|
الآيتان : ١٣٤ ،
١٣٥
|
٧١
|
الآيات : ١٨ ـ ٢٢
|
١١٣
|
تفسير سورة الأنبياء
|
|
الآيات : ٢٣ ـ ٢٥
|
١١٤
|
الآيات : ١ ـ ٤
|
٧٣
|
الآيات : ٢٦ ـ ٢٨
|
١١٧
|
الآيات : ٥ ـ ٨
|
٧٤
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣١
|
١١٩
|
الآيات : ٩ ـ ١٢
|
٧٥
|
الآيات : ٣٢ ـ ٣٥
|
١٢١
|
الآيات : ١٣ ـ ١٦
|
٧٦
|
الآيتان : ٣٦ ،
٣٧
|
١٢٢
|
الآيات : ١٧ ـ ٢٠
|
٧٧
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤٠
|
١٢٣
|
الآيات : ٢١ ـ ٢٤
|
٧٨
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٨
|
١٢٦
|
الآيات : ٢٥ ـ ٣٠
|
٧٩
|
الآيات : ٤٩ ـ ٥٤
|
١٢٨
|
الآيات : ٣١ ـ ٣٣
|
٨٠
|
الآيات : ٥٥ ـ ٦٢
|
١٣٠
|
الآيات : ٣٤ ـ ٣٨
|
٨١
|
الآيات : ٦٣ ـ ٦٥
|
١٣١
|
الآيات : ٣٩ ـ ٤٤
|
٨٣
|
الآيات : ٦٦ ـ ٧٢
|
١٣٢
|
الآيتان : ٤٥ ،
٤٦
|
٨٤
|
الآيتان : ٧٣ ،
٧٤
|
١٣٣
|
الآيات : ٤٧ ـ ٥٠
|
٨٥
|
الآيات : ٧٥ ـ ٧٧
|
١٣٤
|
الآيات : ٥١ ـ ٦٣
|
٨٦
|
الآية : ٧٨
|
١٣٥
|
الآيات : ٦٤ ـ ٧٠
|
٨٧
|
تفسير سورة المؤمنون
|
|
الآيات : ٧١ ـ ٧٣
|
٨٩
|
الآيات : ١ ـ ٧
|
١٣٦
|
الآيات : ٧٤ ـ ٧٩
|
٩٠
|
الآيات : ٨ ـ ١٤
|
١٣٧
|
الآيتان : ٨٠ ،
٨١
|
٩٣
|
الآيات : ١٥ ـ ٢٠
|
١٣٩
|
الآيات : ٨٢ ـ ٨٤
|
٩٤
|
الآيتان : ٢١ ،
٢٢
|
١٤٠
|
الآيتان : ٨٥ ،
٨٦
|
٩٥
|
الآيات : ٢٣ ـ ٣٠
|
١٤١
|
الآيتان : ٨٧ ،
٨٨
|
٩٦
|
الآيات : ٣١ ـ ٣٤
|
١٤٢
|
الآيات : ٨٩ ـ ٩٥
|
٩٨
|
الآيات : ٣٥ ـ ٣٩
|
١٤٣
|
الآيتان : ٩٦ ،
٩٧
|
٩٩
|
الآيات : ٤٠ ـ ٤٨
|
١٤٤
|
الآيات : ٩٨ ـ ١٠٣
|
١٠١
|
الآيات : ٤٩ ـ ٥١
|
١٤٥
|
الآيتان : ١٠٤ ،
١٠٥
|
١٠٢
|
الآيات : ٥٢ ـ ٥٦
|
١٤٦
|
الآيات : ١٠٦ ـ ١١٢
|
١٠٣
|
الآيات : ٥٧ ـ ٦١
|
١٤٧
|
تفسير سورة الحج
|
|
الآيات : ٦٢ ـ ٦٤
|
١٤٨
|
الآيتان : ١ ، ٢
|
١٠٥
|
الآيات : ٦٥ ـ ٦٨
|
١٤٩
|
الآيات : ٣ ـ ٥
|
١٠٧
|
الآيات : ٦٩ ـ ٧٥
|
١٥١
|
الآيات : ٥ ـ ١٠
|
١٠٨
|
الآيتان : ٧٦ ،
٧٧
|
١٥٢
|
الآيات : ١١ ـ ١٣
|
١١٠
|
الآيات : ٧٨ ـ ٨٣
|
١٥٢
|
الآيات : ١٤ ـ ١٧
|
١١١
|
الآيات : ٨٤ ـ ٨٩
|
١٥٣
|
الآيات : ٩٠ ـ ٩٨
|
١٥٤
|
الآية : ٦٢
|
١٩٧
|
الآيات : ٩٩ ـ ١٠٢
|
١٥٥
|
الآيتان : ٦٣ ،
٦٤
|
١٩٨
|
الآيات : ١٠٣ ـ ١٠٨
|
١٥٦
|
تفسير سورة الفرقان
|
|
الآيات : ١٠٩ ـ ١١١
|
١٥٧
|
الآيات : ١ ـ ٣
|
١٩٩
|
الآيات : ١١٢ ـ ١١٥
|
١٥٨
|
الآيات : ٤ ـ ١٠
|
٢٠٠
|
الآيات : ١١٦ ـ ١١٨
|
١٥٩
|
الآيات : ١١ ـ ١٤
|
٢٠٢
|
تفسير سورة النور
|
|
الآيات : ١٥ ـ ١٩
|
٢٠٣
|
الآيتان : ١ ، ٢
|
١٦٠
|
الآيتان : ٢٠ ،
٢١
|
٢٠٥
|
الآية : ٣
|
١٦٢
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٦
|
٢٠٦
|
الآيتان : ٤ ، ٥
|
١٦٤
|
الآيات : ٢٧ ـ ٣١
|
٢٠٨
|
الآيات : ٦ ـ ١٠
|
١٦٥
|
الآيات : ٣٢ ـ ٣٤
|
٢٠٩
|
الآية : ١١
|
١٦٨
|
الآيات : ٣٥ ـ ٣٩
|
٢١٠
|
الآيات : ١٢ ـ ١٨
|
١٧٠
|
الآيات : ٤٠ ـ ٤٤
|
٢١١
|
الآيتان : ١٩ ،
٢٠
|
١٧١
|
الآيات : ٤٥ ـ ٤٧
|
٢١٢
|
الآيتان : ٢١ ،
٢٢
|
١٧٢
|
الآيات : ٤٨ ـ ٥٢
|
٢١٣
|
الآيات : ٢٣ ـ ٢٥
|
١٧٣
|
الآيات : ٥٣ ـ ٥٧
|
٢١٤
|
الآية : ٢٦
|
١٧٤
|
الآيات : ٥٨ ـ ٦٠
|
٢١٦
|
الآيتان : ٢٧ ،
٢٨
|
١٧٥
|
الآيات : ٦١ ـ ٦٣
|
٢١٧
|
الآيتان : ٢٩ ،
٣٠
|
١٧٧
|
الآيات : ٦٤ ـ ٧٠
|
٢١٩
|
الآية : ٣١
|
١٧٨، ١٧٩
|
الآيات : ٧١ ـ ٧٤
|
٢٢١
|
الآية : ٣٢
|
١٨٠
|
الآيات : ٧٥ ـ ٧٧
|
٢٢٣
|
الآية : ٣٣
|
١٨١
|
تفسير سورة الشعراء
|
|
الآيات : ٣٣ ـ ٣٥
|
١٨٢
|
الآيات : ١ ـ ٩
|
٢٢٤
|
الآيتان : ٣٦ ،
٣٧
|
١٨٥
|
الآيات : ١٠ ـ ١٩
|
٢٢٦
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤٠
|
١٨٧
|
الآيات : ٢٠ ـ ٢٨
|
٢٢٨
|
الآيتان : ٤١ ،
٤٢
|
١٨٨
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٧
|
٢٢٩
|
الآيتان : ٤٣ ،
٤٤
|
١٨٩
|
الآيات : ٣٨ ـ ٥١
|
٢٣٠
|
الآيات : ٤٥ ـ ٥٠
|
١٩٠
|
الآيات : ٥٢ ـ ٦٢
|
٢٣١
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٤
|
١٩١
|
الآيات : ٦٣ ـ ٦٨
|
٢٣٣
|
الآيات : ٥٥ ـ ٥٧
|
١٩٢
|
الآيات : ٦٩ ـ ٨٧
|
٢٣٤
|
الآية : ٥٨
|
١٩٣
|
الآيات : ٨٨ ـ ٩٥
|
٢٣٥
|
الآيتان : ٥٩ ،
٦٠
|
١٩٤
|
الآيات : ٩٦ ـ ١٠٤
|
٢٣٦
|
الآية : ٦١
|
١٩٥
|
الآيات : ١٠٥ ـ ١٢٢
|
٢٣٧
|
الآيات : ١٢٣ ـ ١٤٠
|
٢٣٨
|
الآيات : ١٦ ـ ١٨
|
٢٨٠
|
الآيات : ١٤١ ـ ١٥٩
|
٢٣٩
|
الآيات : ١٩ –
٢١
|
٢٨١
|
الآيات : ١٦٠ ـ ١٧٥
|
٢٤٠
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٤
|
٢٨٢
|
الآيات : ١٧٦ ـ ١٩١
|
٢٤١
|
الآيات : ٢٥ ـ ٢٧
|
٢٨٤
|
الآيات : ١٩٢ ـ ١٩٩
|
٢٤٢
|
الآيات : ٢٨ ـ ٣٢
|
٢٨٥
|
الآيات : ٢٠٠ ـ ٢١٦
|
٢٤٤
|
الآيات : ٣٣ ـ ٣٩
|
٢٨٨
|
الآيات : ٢١٧ ـ ٢٢٦
|
٢٤٥
|
الآيات : ٤٠ ـ ٤٦
|
٢٨٩
|
الآية : ٢٢٧
|
٢٤٧
|
الآيات : ٤٧ ـ ٥٠
|
٢٩٠
|
تفسير سورة النمل
|
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٥
|
٢٩١
|
الآيات : ١ ـ ٥
|
٢٤٨
|
الآيات : ٥٦ ـ ٥٨
|
٢٩٢
|
الآيات : ٦ ـ ٩
|
٢٤٩
|
الآيات : ٥٩ ـ ٦١
|
٢٩٣
|
الآيات : ١٠ ـ ١٢
|
٢٥٠
|
الآيات : ٦٢ ـ ٦٤
|
٢٩٤
|
الآيتان : ١٣ ،
١٤
|
٢٥٢
|
الآيات : ٦٥ ـ ٦٨
|
٢٩٥
|
الآيات : ١٥ ـ ١٧
|
٢٥٣
|
الآيات : ٦٩ ـ ٧٣
|
٢٩٦
|
الآيتان : ١٨ ،
١٩
|
٢٥٤
|
الآيتان : ٧٤ ـ ٧٥
|
٢٩٧
|
الآيات : ٢٠ ـ ٢٣
|
٢٥٥
|
الآيتان : ٧٦ ـ ٧٧
|
٢٩٨
|
الآيات : ٢٤ ـ ٢٨
|
٢٥٦
|
الآيتان : ٧٨ ـ ٧٩
|
٣٠٠
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٤
|
٢٥٨
|
الآيات : ٨٠ ـ ٨٢
|
٣٠١
|
الآيات : ٣٥ ـ ٤٠
|
٢٥٩
|
الآيات : ٨٣ ـ ٨٥
|
٣٠٢
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٤
|
٢٦١
|
الآيات : ٨٦ ـ ٨٨
|
٣٠٣
|
الآيات : ٤٥ ـ ٥١
|
٢٦٣
|
تفسير سورة العنكبوت
|
|
الآيات : ٥٢ ـ ٥٨
|
٢٦٤
|
الآيات : ١ ـ ٣
|
٣٠٥
|
الآيات : ٥٩ ـ ٦١
|
٢٦٥
|
الآيات : ٤ ـ ٧
|
٣٠٦
|
الآيات : ٦٢ ـ ٦٦
|
٢٦٧
|
الآيات : ٨ ـ ١١
|
٣٠٧
|
الآيات : ٦٧ ـ ٧٤
|
٢٦٨
|
الآيات : ١٢ ـ ١٥
|
٣٠٩
|
الآيات : ٧٥ ـ ٨٢
|
٢٦٩
|
الآيتان : ١٦ ،
١٧
|
٣١٠
|
الآيات : ٨٣ ـ ٨٧
|
٢٧١
|
الآيات : ١٨ ـ ٢٠
|
٣١١
|
الآيات : ٨٨ ـ ٩٣
|
٢٧٣
|
الآيات : ٢١ ـ ٢٥
|
٣١٢
|
تفسير سورة القصص
|
|
الآيات : ٢٦ ـ ٣١
|
٣١٤
|
الآيات : ١ ـ ٤
|
٢٧٥
|
الآيات : ٣٢ ـ ٣٥
|
٣١٥
|
الآيات : ٥ ـ ٧
|
٢٧٦
|
الآيات : ٣٦ ـ ٣٨
|
٣١٦
|
الآيات : ٨ ـ ١١
|
٢٧٧
|
الآيات : ٣٩ ،
٤٠
|
٣١٧
|
الآيات : ١٢ ـ ١٥
|
٢٧٩
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٣
|
٣١٨
|
الآيتان : ٤٤ ،
٤٥
|
٣١٩
|
الآيتان : ٢٩ ،
٣٠
|
٣٥٤
|
الآية : ٤٦
|
٣٢٠
|
الآيتان : ٣١ ،
٣٢
|
٣٥٥
|
الآيات : ٤٧ ـ ٤٩
|
٣٢١
|
الآيتان : ٣٣ ،
٣٤
|
٣٥٦
|
الآيات : ٥٠ ـ ٥٢
|
٣٢٢
|
تفسير سورة السجدة
|
|
الآيات : ٥٣ ـ ٥٥
|
٣٢٣
|
الآيات : ١ ـ ٤
|
٣٥٧
|
الآيات : ٥٦ ـ ٦٣
|
٣٢٤
|
الآية : ٥
|
٣٥٨
|
الآيات : ٦٤ ـ ٦٧
|
٣٢٥
|
الآيات : ٦ ـ ١١
|
٣٥٩
|
الآيتان : ٦٨ ،
٦٩
|
٣٢٦
|
الآيات : ١٢ ـ ١٥
|
٣٦١
|
تفسير سورة الروم
|
|
الآيات : ١٦ ـ ٢٠
|
٣٦٢
|
الآيات : ١ ـ ٦
|
٣٢٧
|
الآيتان : ٢١ ،
٢٢
|
٣٦٣
|
الآيتان : ٧ ، ٨
|
٣٢٩
|
الآيات : ٢٣ ـ ٢٥
|
٣٦٤
|
الآيات : ٩ ـ ١٣
|
٣٣٠
|
الآيات : ٢٦ ـ ٣٠
|
٣٦٥
|
الآيات : ١٤ ـ ١٨
|
٣٣١
|
تفسير سورة الأحزاب
|
|
الآيات : ١٩ ـ ٢٢
|
٣٣٢
|
الآيات : ١ ـ ٤
|
٣٦٧
|
الآيات : ٢٣ ـ ٢٥
|
٣٣٣
|
الآيتان : ٥ ، ٦
|
٣٦٩
|
الآيات : ٢٦ ـ ٢٨
|
٣٣٤
|
الآيات : ٧ ـ ٩
|
٣٧١
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٢
|
٣٣٦
|
الآيات : ١٠ ـ ١٢
|
٣٧٢
|
الآيات : ٣٣ ـ ٣٥
|
٣٣٧
|
الآيات : ١٣ ـ ١٥
|
٣٧٣
|
الآيات : ٣٦ ـ ٣٨
|
٣٣٨
|
الآيات : ١٦ ـ ١٨
|
٣٧٤
|
الآيات : ٣٩ ـ ٤١
|
٣٣٩
|
الآية : ١٩
|
٣٧٥
|
الآيات : ٤٢ ـ ٤٤
|
٣٤٠
|
الآيتان : ٢٠ ،
٢١
|
٣٧٦
|
الآيات : ٤٥ ـ ٥٠
|
٣٤١
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٤
|
٣٧٧
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٣
|
٣٤٢
|
الآيات : ٢٥ ـ ٢٧
|
٣٧٩
|
الآيات : ٥٤ ـ ٥٦
|
٣٤٣
|
الآيتان : ٢٨ ـ ٢٩
|
٣٨٠
|
الآيات : ٥٧ ـ ٦٠
|
٣٤٤
|
الآيات : ٣٠ ـ ٣٢
|
٣٨١
|
تفسير سورة لقمان
|
|
الآية : ٣٣
|
٣٨٣
|
الآيات : ١ ـ ٦
|
٣٤٥
|
الآيتان : ٣٤ ،
٣٥
|
٣٨٤
|
الآيات : ٧ ـ ١١
|
٣٤٦
|
الآيتان : ٣٦ ،
٣٧
|
٣٨٥
|
الآيتان : ١٢ ،
١٣
|
٣٤٧
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤٤
|
٣٨٧
|
الآيتان : ١٤ ،
١٥
|
٣٤٨
|
الآيات : ٤٥ ـ ٤٩
|
٣٨٩
|
الآيات : ١٦ ـ ١٩
|
٣٥٠
|
الآية : ٥٠
|
٣٩٠
|
الآيتان : ٢٠ ،
٢١
|
٣٥٢
|
الآيتان : ٥١ ،
٥٢
|
٣٩٢
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٨
|
٣٥٣
|
الآية : ٥٣
|
٣٩٥
|
الآيتان : ٥٤ ،
٥٥
|
٣٩٦
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٤
|
٤٣٨
|
الآيات : ٥٦ ـ ٥٨
|
٣٩٧
|
الآيات : ٣٥ ـ ٣٧
|
٤٤٠
|
الآيات : ٥٩ ـ ٦٢
|
٣٩٩
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤١
|
٤٤٢
|
الآيات : ٦٣ ـ ٦٨
|
٤٠٠
|
الآيتان : ٤٢ ،
٤٣
|
٤٤٣
|
الآيات : ٦٩ ـ ٧١
|
٤٠١
|
الآيتان : ٤٤ ،
٤٥
|
٤٤٤
|
الآيتان : ٧٢ ،
٧٣
|
٤٠٢
|
تفسير سورة يس
|
|
تفسير سورة سبأ
|
|
الآيات : ١ ـ ٥
|
٤٤٥
|
الآيتان : ١ ، ٢
|
٤٠٤
|
الآيات : ٦ ـ ٩
|
٤٤٦
|
الآيات : ٣ ـ ٨
|
٤٠٥
|
الآيات : ١٠ ـ ١٢
|
٤٤٧
|
الآيات : ٩ ـ ١١
|
٤٠٦
|
الآيات : ١٣ ـ ٢١
|
٤٤٩
|
الآية : ١٢
|
٤٠٨
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٧
|
٤٥٠
|
الآية : ١٣
|
٤٠٩
|
الآيات : ٢٨ ـ ٣٢
|
٤٥٢
|
الآية : ١٤
|
٤١١
|
الآيات : ٣٣ ـ ٤٠
|
٤٥٣
|
الآيات : ١٥ ـ ١٧
|
٤١٣
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٦
|
٤٥٤
|
الآيتان : ١٨ ،
١٩
|
٤١٥
|
الآيات : ٤٧ ـ ٥٠
|
٤٥٦
|
الآيات : ٢٠ ـ ٢٢
|
٤١٧
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٤
|
٤٥٧
|
الآية : ٢٣
|
٤١٨
|
الآيات : ٥٥ ـ ٦١
|
٤٥٨
|
الآيات : ٢٤ ـ ٢٧
|
٤١٩
|
الآيات : ٦٢ ـ ٦٥
|
٤٦٠
|
الآيات : ٢٨ ـ ٣٢
|
٤٢٠
|
الآيات : ٦٦ ـ ٧٠
|
٤٦١
|
الآية : ٣٣
|
٤٢١
|
الآيات : ٧١ ـ ٨٠
|
٤٥٣
|
الآيات : ٣٤ ـ ٣٧
|
٤٢٢
|
الآيات : ٨١ ـ ٨٣
|
٤٦٤
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤٣
|
٤٢٣
|
تفسير سورة الصافات
|
|
الآيات : ٤٤ ـ ٤٦
|
٤٢٤
|
الآيات : ١ ـ ٧
|
٤٦٥
|
الآيات : ٤٧ ـ ٥١
|
٤٢٥
|
الآيات : ٨ ـ ١٠
|
٤٦٦
|
الآيات : ٥٢ ـ ٥٤
|
٤٢٦
|
الآيات : ١١ ـ ١٨
|
٤٦٧
|
تفسير سورة فاطر
|
|
الآيات : ١٩ ـ ٢٦
|
٤٦٨
|
الآيات : ١ ـ ٥
|
٤٢٨
|
الآيات : ٢٧ ـ ٣٤
|
٤٦٩
|
الآيات : ٦ ـ ١٠
|
٤٣٠
|
الآيات : ٣٥ ـ ٤٩
|
٤٧١
|
الآية : ١١
|
٤٣٢
|
الآيات : ٥٠ ـ ٥٣
|
٤٧٣
|
الآية : ١٢
|
٤٣٣
|
الآيات : ٥٤ ـ ٦١
|
٤٧٤
|
الآيات : ١٣ ـ ١٨
|
٤٣٤
|
الآيات : ٦٢ ـ ٧٠
|
٤٧٥
|
الآيات : ١٩ ـ ٢٦
|
٤٣٥
|
الآيات : ٧١ ـ ٧٩
|
٤٧٦
|
الآيتان : ٢٧ ،
٢٨
|
٤٣٦
|
الآيات : ٨٠ ـ ٩٠
|
٤٧٧
|
الآيات : ٩١ ـ ٩٨
|
٤٧٨
|
الآيات : ٢٤ ـ ٢٨
|
٥٢٨
|
الآيات : ٩٩ ـ ١٠٢
|
٤٨٠
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٢
|
٥٢٩
|
الآيات : ١٠٣ ـ ١١١
|
٤٨١
|
الآيات : ٣٣ ـ ٣٧
|
٥٣١
|
الآيات : ١١٢ ـ ١٢٥
|
٤٨٣
|
الآيات : ٣٨ ـ ٤٠
|
٥٣٢
|
الآيات : ١٢٦ ـ ١٤٦
|
٤٨٥
|
الآيتان : ٤١ ،
٤٢
|
٥٣٣
|
الآيات : ١٤٧ ـ ١٥٧
|
٤٨٧
|
الآيات : ٤٣ ـ ٤٥
|
٥٣٤
|
الآيات : ١٥٨ ـ ١٦٩
|
٤٨٨
|
الآيات : ٤٦ ـ ٥٢
|
٥٣٥
|
الآيات : ١٧٠ ـ ١٨٢
|
٤٨٩
|
الآيات : ٥٣ ـ ٥٥
|
٥٣٦
|
تفسير سورة ص
|
|
الآيات : ٥٦ ـ ٦٠
|
٥٣٨
|
الآيات : ١ ـ ٥
|
٤٩١
|
الآيات : ٦١ ـ ٦٥
|
٥٣٩
|
الآيات : ٦ ـ ٩
|
٤٩٣
|
الآيات : ٦٦ ـ ٦٨
|
٥٤٠
|
الآيات : ١٠ ـ ١٤
|
٤٩٤
|
الآيات : ٦٩ ـ ٧٢
|
٥٤٢
|
الآيات : ١٥ ـ ٢٠
|
٤٩٥
|
الآيات : ٧٣ ـ ٧٥
|
٥٤٣
|
الآيات : ٢١ ـ ٢٤
|
٤٩٧
|
تفسير سورة غافر
|
|
الآيات : ٢٥ ـ ٢٩
|
٥٠٢
|
الآيات : ١ ـ ٥
|
٥٤٥
|
الآيات : ٣٠ ـ ٣٥
|
٥٠٣
|
الآيات : ٦ ـ ٩
|
٥٤٧
|
الآيات : ٣٦ ـ ٤٤
|
٥٠٦
|
الآيات : ١٠ ـ ١٢
|
٥٤٨
|
الآيات : ٤٥ ـ ٥٤
|
٥٠٨
|
الآيات : ١٣ ـ ١٧
|
٥٥٠
|
الآيات : ٥٥ ـ ٦١
|
٥١٠
|
الآيات : ١٨ ـ ٢١
|
٥٥٢
|
الآيات : ٦٢ ـ ٦٦
|
٥١٢
|
الآيات : ٢٢ ـ ٢٥
|
٥٥٤
|
الآيات : ٦٧ ـ ٧٤
|
٥١٣
|
الآيات : ٢٦ ـ ٢٨
|
٥٥٥
|
الآيات : ٧٥ ـ ٨١
|
٥١٤
|
الآيات : ٢٩ ـ ٣٣
|
٥٥٧
|
الآيات : ٨٢ ـ ٨٨
|
٥١٦
|
الآيتان : ٣٤ ،
٣٥
|
٥٥٩
|
تفسير سورة الزمر
|
|
الآيات : ٣٦ ـ ٤٠
|
٥٦٠
|
الآيات : ١ ـ ٣
|
٥١٧
|
الآيات : ٤١ ـ ٤٥
|
٥٦١
|
الآيات : ٣ ـ ٥
|
٥١٨
|
الآيات : ٤٦ ـ ٥٠
|
٥٦٢
|
الآية : ٦
|
٥١٩
|
الآيات : ٥١ ـ ٥٦
|
٥٦٣
|
الآية : ٧
|
٥٢٠
|
الآيات : ٥٧ ـ ٦٠
|
٥٦٥
|
الآية : ٨
|
٥٢١
|
الآيات : ٦١ ـ ٦٤
|
٥٦٦
|
الآيتان : ٩ ،
١٠
|
٥٢٢
|
الآيات : ٦٥ ـ ٦٧
|
٥٦٧
|
الآيات : ١١ ـ ١٥
|
٥٢٤
|
الآيات : ٦٨ ـ ٧٤
|
٥٦٨
|
الآيات : ١٦ ـ ١٨
|
٥٢٥
|
الآيات : ٧٥ ـ ٧٨
|
٥٦٩
|
الآيات : ١٩ ـ ٢١
|
٥٢٦
|
الآيات : ٧٩ ـ ٨٥
|
٥٧١
|
الآيتان : ٢٢ ،
٢٣
|
٥٢٧
|
|
|
|